أوصلت رباب إلى باب العمارة ثم عدت أدراجي إلى المحطة معتذرا ببعض أعمال خيالية! استقللت الترام إلى العتبة، ثم مضيت إلى شارع الألفي بك. كان قلبي يخفق في خوف ورهبة كما خفق أول مرة. حملتني قدماي إلى هذا الشارع، وتراءى لعيني خيال الكأس مفترة الثغر عن إغراء عنيف .. كنت نسيتها فلم تخطر لي على بال منذ بلغ قلبي مناه، حتى رأيتها اليوم في فنجان القهوة، فحرك أعماق الفؤاد. أمي + زوجي + الدكتور أمين رضا = الخمر، هذه هي المعادلة التي استقرت في نفسي. على أنني ترددت حين أصبحت من حانتي القديمة على قيد خطوة، وتساءلت في حزن وقلق: ألا يعد إقدامي هذا خيانة لزوجي؟ ولكني أنكرت على نفسي هذا المنطق الغريب وشققت طريقي إلى الداخل. وتراءى لي فجأة خيال أبي، وانثالت على ذهني صور من ذكرياته، فاستعرضتها في هدوء، وفي غير ما شماتة أو كراهية، ثم جلست إلى المائدة وأنا أغمغم: «رحمه الله وغفر له!»
وجاء النادل مسرعا فحياني وهو يقول لي: أين كنت من زمان؟
فأجبته مبتسما وقد سررت لتحيته: الدنيا.
ثم أريته خاتم الزواج فقال: مبارك .. مبارك .. وهل أنجبت طفلا؟
وشعرت بامتعاض وألم، وهززت رأسي سلبا، ثم طلبت كأسا من الكونياك وشربت في اعتدال، حتى شعرت بدبيب النشوة في القلب والرأس، وارتسمت على فمي ابتسامة سخرت من جميع آلامي، فقلت لنفسي: أهلا وسهلا ومرحبا، وحرصت على ألا أجاوز الحد، ثم غادرت الحانة زهاء السابعة، ولم أكد أنتهي إلى شارع عماد الدين حتى تذكرت حانة سوق الخضر! وكان رأسي بحالة تستهين بالعقبات فتساءلت في شبه تأنيب: أأنسى في رغدي الحانة التي آوتني في فقري؟ وأوقفت تاكسي وركبته وانطلق بي إلى حانة الموظفين المفلسين والحوذية. ووجدتها في حالة غناء وعربدة كما توقعت. وكان الموظف العجوز يغني «ياما بكرة نعرف»، فيردد الجميع «وبعده نشوف»، ولما لمحني قادما توقف عن الغناء وصاح: هس يا أولاد الحلال.
وعرفني الرفاق القدماء فتصافحنا في حرارة، وما كدت أطمئن إلى مقعدي حتى سألني العجوز متغنيا: كنت فين يا حلو غايب؟
فقهقهت ضاحكا وقلت: الدنيا!
فقال أحد الصحاب: فلنلعن الدنيا التي ترغم الحبيب على نسيان أحبابه .. فلعنتها معهم عن طيب خاطر. وحدث أن رأى أحدهم خاتم الزواج في إصبعي فهتف: دخلت دنيا يا بط ...
وكان لإعلان الخبر أثر شامل فسألني الموظف الفنان: كيف وجدت هذه الدنيا؟
وأفزعني تحول الحديث إلى هذا الموضوع الخطير، ولكني لم أجد بدا من أن أقول: حلوة! .. ألست متزوجا يا سيدي؟
অজানা পৃষ্ঠা