وتوقعت لحظات قاسية أن تنقض الصاعقة على رأسي .. أن تزجرني أو تنهرني فتستثير غضب الحاضرين .. ثم علي السلام! ما بي قوة لاحتمال مثل هذا الموقف، ولئن وقع لأموتن حيث أنا! ووقف الترام ويدي قابضة على الباب، ثم تحرك ثانية وهي بمكانها مقطبة مستاءة، ولكن دون أن تبدي اعتراضا جديا أو ثورة علنية! وسرت في جسدي رعدة السرور والظفر والجنون، وخيل إلي أني أتحول إلى عملاق جبار يخر له الموت نفسه صريعا بضربة واحدة. وانتظرت حتى ابتعد الترام محطتين، ثم فتحت الباب وأنا أهمس: «تفضلي»، فدارت على عقبيها بحركة عصبية وسارت تشق لها طريقا وسط الزحام وأنا أتبعها، واعترض نشوتي خاطر ألا يكون استسلامها حياء وارتباكا وتفاديا من الفضيحة؟! ألا يحتمل أن تكون قد كظمت غضبها حتى تصبه علي في الطريق بعيدا عن أعين النظارة؟ وأوشكت قواي أن تخذلني، وغادرت الترام وراءها وأنا قلق مضطرب. كانت الظلمة غاشية والطريق كالمقفر إلا من سيارات تذهب وتجيء، وابتعدت عني بسرعة وهمت بعبور الطريق إلى الطوار، فحزني الإشفاق من إفلات الفرصة إلى الدنو منها، متشجعا بالظلام، ثم قلت بصوت متهدج: معذرة .. لا تؤاخذيني على تهجمي! - ماذا تريد؟ .. وما هذا الذي فعلته أمام الناس؟
واشتد بي الارتباك، وكنت أسمع صوتها لأول مرة فهزتني به غنة لطيفة على حدته وغضبه، وقلت: أسألك المغفرة .. إني أود أن أقول لك كلمة من زمن طويل ولم تتهيأ لي الفرصة إلا اليوم!
وشعرت بصعوبة شديدة في التعبير والكلام، وبأن إحساساتي الحارة يخونها الإفصاح، ووجدت قهرا وضيقا. وزاد من ضيقي أنها ولتني ظهرها بغير اكتراث وعبرت الطريق إلى الطوار عجلة، فتبعتها بسرعة مندفعا، وقلت: أرجوك .. لحظة واحدة، أصغي إلي، كلمة واحدة ثم يذهب كلانا إلى حال سبيله!
فقالت دون أن تنظر إلي أو تكف عن السير: بأي حق تكلمني يا هذا؟
فهتفت بدون وعي مني: إني أعرفك منذ أكثر من عامين!
فقالت بلهجة تنم عن الانزعاج: ما هذا الافتراء؟!
أيمكن ألا تكون عرفتني؟! يا لي من غبي! .. ألم تذعن لإرادتي حتى نزلنا في هذه المحطة؟! يدل هذا على أنها ترغب في سماع كلمتي! .. إن الفرصة سانحة ولكني أفسدها بالعي والحصر والارتباك. واستجمعت قواي وقلت بصوتي المتهدج المضطرب النبرات: إني أتلهف على قول كلمة منذ أشهر وأشهر .. ماذا يضيرك لو أصغيت إلي؟!
لماذا لم أتكلم بدل أن أسوق هذه المقدمات؟ اللهم إني أستعينك على حل عقدة لساني! وبدا لي أن حبيبتي فطنت لخجلي المميت. لم أدرك البواعث التي حملتها على التوقف، ولكني رأيتها تتحول نحوي وترمقني بعينيها الجميلتين اللتين أحبهما أكثر من نور البصر، ثم تسألني بحدة: ماذا تريد؟
ماذا أريد؟! لم يتيسر لي القول بعد؟! ها هي تنتظر الكلمة التي أتعبتها في استئذان قولها، ألم أكن أعددتها؟ وجدت رأسي فراغا وكأنني فقدت النطق. ماذا ينبغي أن يقال؟ وازدردت ريقي الجاف في شبه قنوط، ثم بدا منها ما يدل على نفاد الصبر، والتحفز للسير، فخرجت عن صمتي هاتفا: صبرا، أرجوك .. أنا أريد أن أقول .. إني راغب في .. (وقفت عبارة «طلب يدك» في زوري) .. إنك تفهمين بلا شك، أليس كذلك؟! فهل يمكن هذا؟!
فتأففت وقالت: لا بد أن أعود إلى البيت فلا تتبعني من فضلك!
অজানা পৃষ্ঠা