وترددت لحظة ثم استطردت متسائلة: ولكن ... لماذا تلقي علي هذا السؤال؟
وحولت عنها بصري كأنني خفت أن تقرأ ما في ضميري، وقلت بعدم اكتراث: سؤال لا أكثر .. أحب دائما أن أعرف ما يجول بخاطرك.
فتهدج صوتها وهي تقول: ليس بخاطري إلا فوق ما تحب لنفسك من السعادة والهناء .. ولكن ليس الزواج لهوا ولعبا، وإليك مأساة أمك، فهي أكبر دليل على ما أقول. واذكر دائما أن اختيار الزوجة مهمة شاقة، وهي من شأن الأم قبل أي إنسان آخر؛ لأن هذا ميدان تجاربها، وهي تعرف ابنها أكثر مما يعرف نفسه، وتستهدف سعادته قبل سعادتها هي، كذلك السن أمر عظيم الخطورة، وأنت بعد في حكم الأطفال .. لماذا تلقي علي هذا السؤال (وهنا ازداد صوتها تهدجا) .. إليك مأساة أمك فهي لا ينبغي أن تغيب عن وعيك .. كم تعذبت، وكم تألمت، وكم كابدت الإهانة تلو الإهانة! كم بكيت حنينا إلى أطفالي الذين عاشوا غرباء عني ونحن في مدينة واحدة! وحتى أنت كان شبح فراقك يطاردني ويقض مضجعي، ولو أخذوك مني لقضيت غما وكمدا. وكم تمنيت الموت صادقة لأرتاح من وساوس حياتي المقلقة، (خيل إلي أنها تعني حياتها الراهنة بقولها الأخير.) ولذلك كرست حياتي لرعايتك، وضحيت بسعادتي في سبيلك، و... (ترددت لحظة ولعلها همت بتذكيري بالرجل الذي رفضته من أجلي ثم عدلت.) ولا تحسب أني أمن عليك، فالأمومة تستنكر المن .. ليته كان للبنوة بعض ما للأمومة من عطف! لشد ما تنسى .. رباه لا تؤاخذني، أنا لا أدري ماذا أقول، ولكن لا تظن بأمك الظنون .. إننا نعطي كل شيء عن طيب خاطر، حتى إذا شب المولود عن الطوق لم يفكر إلا في أن يولينا ظهره ويجد لنفسه مهربا. أقول مرة أخرى: لا تؤاخذني. لست أحسن ضبط نفسي وا أسفاه، ولكن لقد عشنا معا طوال هذا العمر، وليس لي أمل في هذه الدنيا سواك، فإذا نبذتني لم أجد لي مأوى. أنتم حياتنا في صغرنا وكبرنا على السواء، أما نحن فتحبوننا صغارا وتكرهوننا كبارا، أو أنكم تحبوننا حين لا تجدون من تحبونه غيرنا، ماذا قلت؟.. أستغفر الله! سامحني يا كامل، إني مضطربة، لست أحسن الحديث على الإطلاق!
وعجبت كيف انحدر بها الحديث ذاك المنحدر الصعب. بدأ الكلام مقبولا ثم تشنج، وحاولت أن أحول دون استرسالها فلم تجد محاولتي؛ فاضطررت أن أتجرعه على ما أثار من ألم وحزن، وتبادلنا نظرة طويلة، دلت على العتاب من ناحيتي، وعلى الذهول من ناحيتها. لم تكن في كامل وعيها وا أسفاه! وقلت بأسى: أهذا جزاء من يسأل سؤالا بريئا؟!
فاغرورقت عيناها، وقالت وهي خافضة العينين: أنا لا أحسن الحديث أحيانا، ويحسن بي أن أمسك. لا تخش جانبي، وإذا راق لك يوما أن أغيب عن وجهك فما عليك إلا أن تومئ إلي ولن تجد لي أثرا!
ووضعت يدي على فمها وصحت بها: سامحك الله، حسبنا كلاما! لقد أخطأت بسؤالي البريء خطأ كبيرا!
ثم تظاهرت بعدم الاكتراث، بل ضحكت طويلا، وكأن ما كان لم يكن، وراح قلبي وحده يجتر آلامه. أثر كلامها حتى هزني هزا عنيفا فحزنت حزنا لم أشعر بمثله من قبل، وعجبت كيف يغلبها الانفعال على نفسها فتلقي في وجهي بتلك الاتهامات الجارحة. ولم أخل من سخط عليها لا لأنها اتهمتني بالباطل - فذاك نثار غضب وقتي لا قيمة له - ولكن لأنها قابلت رغباتي الكامنة بثورة تجاوزت حدود الحكمة! وتماديت في سخطي فقلت إنها ذكرت نفسها أكثر مما ينبغي ونسيتني أكثر مما ينبغي .. واستسلمت كالعهد بي لداعي أنانيتي فرميتها بالأنانية.
وعقب حديثنا الغريب بيومين أصابتها وعكة مرض ألزمتها الفراش، فلم أفارقها أثناء مرضها إلا في أوقات العمل. ومع أن الحالة كانت خفيفة إلا أن وجهها بدا شديد الذبول والهزال لنحولها الطبيعي، فتوجع قلبي توجعا أليما، ولم أطق أن أراها محرومة من جمالها وصحتها، فأحزنني منظرها وساءني إهمالها نفسها. وكانت تعصب رأسها بمنديل، فبرزت تحت طرفه خصلات من شعرها وخطها المشيب وشعثها الإهمال، فضقت صدرا وتجهم لي وجه الدنيا. ويوما - وكنت جالسا إلى جانبها - جرت في تيار شعوري خواطر غريبة لعل باعثها الخوف والإشفاق، فطرحت على نفسي هذا السؤال الخطير: كيف تكون الحياة لو خلت من هذه الأم الحنون؟ واقشعر بدني، بيد أن خيالي لم يمسك عن هذيانه، فتتابعت المناظر أمام عيني واستسلمت لمشاهدها في حزن صامت ثقيل. رأيت بيتا مقفرا، ورأيتني تائها حائرا كمن ضل سبيله في مفازة، وهذا جدي متبرما ساخطا يصب جام غضبه على الخادم العجوز والطاهي. ولمست عجزي عن مواصلة هذه الحياة الموحشة، فاقترحت على جدي أن أتزوج لنجد من يكلؤنا برعايته. ثم رأيت حبيبتي بقامتها الرشيقة ووقارها المحبوب تتعهد البيت وآله بعطف سابغ وحب شامل، ثم رأيتنا جميعا - أنا وزوجي وجدي - واقفين على قبر عزيز نرويه بدموعنا. وانتبهت إلى نفسي في فزع فأحسست بالدمع حائرا بين جفني، وعض الندم قلبي، وامتلأت نفسي امتعاضا وثورة، وغمغمت لنفسي «اللهم غفرانك، اللهم اكتب لها طول العمر!» ثم هويت على وجهها فقبلته بحنان، وقد طاردتني ذكرى تلك الخيالات كثيرا حتى تركت في آثارا عميقة من الألم والحنق، ولازمني هم مقيم حتى بعد أن برئت وعاودها نشاطها وجمالها. وكدت أعود إلى ذلك التفكير السقيم في الحياة الذي يقف عند طرفيها - الميلاد والموت - ويرى ما عدا ذلك هباء في هباء، وهو ذلك التفكير الذي تأدى بي فيما مضى إلى محاولة الانتحار لولا أن الله سلم.
22
جاء الصيف، ومعناه - بمقياس القلب - أن حبيبتي ستنقطع عن الذهاب إلى المعهد؛ فلا تتاح لي رؤيتها إلا في الشرفة أو النافذة. إنها تعرفني الآن حق المعرفة كما يعرفني البيت جميعا ... ذلك الفتى الذي يتطلع إليها دواما، ويرنو صوبها بعينين يتجلى فيهما الإعجاب والحب، ويثابر على ذلك في صبر عجيب زهاء عام دون أن يبدي حراكا. والأعجب من هذا كله أنني كنت أضبط عينيها في لفتات عارضة وهما ترنوان إلي فأجن جنونا. وإني أكاد أسمعها تتساءل عما أريد، بل أسمعهم جميعا يتساءلون، وهذا يسعدني ويشقيني معا، والحق أني أحبك يا حبيبتي، أحبك بكل قوة نفسي، فإذا سألت بعد لماذا لا أبدي حراكا؟ أجبتك بأنني لم أدر كيف أبدي حراكا في حياتي، وورائي أم، وحظ محدود؟ فكيف يمكن تذليل هذه الصعاب؟ .. خبريني يا حبيبتي أطر إليك بغير جناحين!
অজানা পৃষ্ঠা