ولم نحضر زفافه؛ لأني مرضت قبيل موعده ولزمت الفراش أسبوعين، فنسيت أمي الزفاف بأفراحه وآلامه. وهكذا تزوج مدحت دون أن يحضر زفافه لا أبوه ولا أمه، حتى قال جدي متهكما كعادته: هذه الأسرة خلقها الله أعجوبة للبشر، كل أسرة وحدة إلاها، فهي أشتات لا تجتمع .. اللهم عفوك ورضاك. •••
واستدار الصيف واقترب ميعاد افتتاح الدراسة، فألحقني جدي بالسعيدية. وقد ذهبنا معا، وقال لي في الطريق: لو كنت رجلا حقا لما أحوجتني إلى الذهاب معك، ولكنك لا تعرف الطريق إلى الجيزة وأنت ابن سبعة عشر، وعلى أية حال احفظ الطريق جيدا. لقد كنت ضابطا في مثل سنك!
وكان يتظاهر بالتذمر والسخط، ولكني شعرت بقلبي أنه مبتهج مسرور، وأحسست بعطفه يشملني، فأخجلني ما يتحمله في سبيلي من المشقة وهو الشيخ السبعيني. وحين عودتنا ضربني بعصاه برقة وقال: إنك الآن طالب بالسعيدية، فاجتهد ترفع رأسنا .. أريد أن أراك ضابطا قبل أن أرحل.
ودعوت له بطول العمر من أعماق قلبي. وسكت مليا ثم قال بغير مناسبة ظاهرة: على أيامنا كانت الابتدائية شهادة عظيمة تعادل بحق أكبر الشهادات في هذه الأيام!
وهز رأسه ثم استدرك قائلا: كانت أياما، وكنا رجالا!
14
انتهت العطلة الصيفية فألم بي الحزن والكآبة. كانت المدرسة المنغص الأول لحياتي، فكرهتها كرها عميقا صادقا. حقا كنت بصدد مدرسة جديدة اقترنت في ذهني بالرجولة والفخار، ولكنها مدرسة على أية حال لا تخلو من مواعيد وفصول وتلاميذ ومدرسين وعقوبات، ودروس تفوق صعوبتها بلا شك سابقاتها في المدرسة الابتدائية.
وفي صباح السبت الأول من أكتوبر استيقظت مبكرا بعد انقطاع هذه العادة الثقيلة أربعة أشهر، وارتديت البدلة، وتأنقت كعادتي، وانتقيت رباط رقبة فاخرا من صوان جدي! وألقت أمي علي نظرة طويلة ثم قالت بسرور: كالقمر وحق كتاب الله! .. وجه أمك على بشرة بيضاء ليس لي مثلها .. محروس بعناية الرحمن.
ومضت توصيني بالحيطة في المشي والركوب والنزول وعبور الطريق، ودعت لي طويلا .. ولما غادرت البيت وقفت بالشرفة تراقب سيري حتى غيبني عنها منعطف الطريق. وواصلت السير مغتما محزونا حتى بلغت محطة الترام بشارع قصر العيني. ووقفت أنتظر الترام وحدي لأول مرة في حياتي، فداخلني إحساس بالحرية لم يداخلني من قبل. وسري عني قليلا فوجدت شيئا من الارتياح، ثم لاطفني أمل في بدء حياة جديدة؛ حياة لا تكدرها التعاسة التي لازمتني في مدرسة العقادين. إني ماض إلى مدرسة جديدة، وسألقى أناسا جددا، فلماذا لا أبدأ صفحة جديدة؟ اللهم إني إذا اجتهدت تحاميت قسوة المدرسين؟ وإذا أحسنت التودد إلى التلاميذ اكتسبت مودتهم ودفعت زرايتهم، وهذا شيء يقدر عليه الكثيرون، فلماذا أعجز عنه وحدي؟! ورقص بين ضلوعي حماس بهيج، وقلت لنفسي: إذا نجحت فيما أخفقت فيه في ماضي حياتي هيأت لنفسي حياة طيبة وحببت إلى قلبي الحياة المدرسية المقضي علي بها أردت أم لم أرد. وذهبت إلى السعيدية متفيئا ظل الأمل الجديد الذي انبثق في نفسي بغتة على محطة الترام! •••
ولكني وجدت الحياة أشق مما هيأ لي الأمل، فحال خجلي الشديد ونفوري من الناس دون اكتساب صديق، وضيع شرود ذهني علي اجتهادي هباء! لشد ما عانيت من شرود ذهني! لقد سلبني عقلي وأفقدني كل قدرة على الانتباه وتركيز الفكر، وجعلني صيدا سهلا للمدرسين. وقد استيقظت مرة من شرودي - في الأسبوع الثاني من حياتي المدرسية الجديدة - على مسطرة المدرس وهي تصدم جبيني، وصوته وهو يسألني بلهجة الوعيد: قلت تحد شمالا بماذا؟
অজানা পৃষ্ঠা