أطرق الدكتور صامتا وبدا كشخص يعترف مستسلما، واستطرد المحقق قائلا: كنت تجري عملية حقا ولكن في موضع آخر من الجسم، ثم حدث ثقب خطأ في هذا الموضع الآخر، فظننت لقلة خبرتك بالجراحة أنه سيقضي على المريضة حتما فما عسى أن تفعل؟ لو عرف سبب الوفاة الحقيقي لكشف الغطاء عن العملية الجراحية وهي غير مشروعة، وهنا هداك عقلك المضطرب إلى حيلة جنونية، وهي أن تثقب البروتون فيظن أنه سبب الوفاة، ثم تدعي كذبا بأنك كنت تجري عملية في البروتون، بذلك تحكم الستار على جريمة العملية غير المشروعة، أما قتلك مريضا خطأ فلا يقع تحت طائلة القانون، ولكنك أخطأت، فالمريضة لم تمت من الثقب الأول ولكنك قتلتها وأنت تثقب البروتون!
انتفض الدكتور انتفاضة عصبية عنيفة، وهتف بالمحقق وكأنه فقد وعيه: كلا .. كلا .. لقد توفيت تماما قبل أن أثقب البروتون!
وجرت على شفتي المحقق ابتسامة خفيفة .. ألقى على الدكتور نظرة ظافرة، على حين أطبق الآخر شفتيه في صمت وذهول، ورفع عينيه مرتين إلى وجه المحقق في حنق وقنوط .. بدا لي وكأنه قد صرع تحت وقع ضربة قاضية فغلب على أمره. بيد أنني لم ألق بالا إليه؛ كان عقلي ينتفض حرارة حركة وهياجا، عملية غير مشروعة! عملية البروتون ما هي إلا خدعة زائفة للتستر على جريمة ! إما أن أكون مجنونا أو يكون الرجلان مجنونين! .. توفيت تماما قبل أن يثقب البروتون .. رباه! أكاد أخرج عن طوري فينفلت لساني هاذيا رغم وجود هذا المحقق المخيف. على أن المحقق خرق الصمت الثقيل قائلا في هدوء: اتفقنا، وأظن أنه آن أن تعترف بأنه وقع الاختيار عليك بالذات دون أطباء مصر جميعا لإجراء عملية إجهاض!
لم يتوقف عند هذا الحد، ولكنه واصل حديثه، ولعله ذكر فيما قال البنج وأثره أو شيئا من هذا القبيل، ولعل الآخر نطق ببضع كلمات كذلك، ولكني لم أعد أعي شيئا مما يقال. تعلق ذهني بقوله: «عملية إجهاض.» وامتنع عن السير. لقد وقعت علي هذه العبارة فشطرتني شطرين، ثم مزقتني إربا، ودوت في رأسي حتى ذهلت بها عن كل شيء، غاب الرجال الثلاثة عن ناظري، وغابت الحجرة، ورأيت فراغا مخيفا تمتزج فيه الحمرة بالسواد، وتتراقص فيه أشباح مرعبة من الذكريات والخواطر .. عملية إجهاض .. كانت رباب حبلى! الخطاب .. هذا الطبيب الشاب .. يستطيع الشيطان ولا شك أن يؤلف من هذه الحقائق المتناثرة جريمة مروعة، ساخرا من شكي الذي دفعني إلى التجسس حينا، هازئا بالطمأنينة التي آويت إليها سادرا حينا آخر .. إن المحقق يسعى جاهدا وراء جريمة طبية، وسيعثر في طريقه الشائك بجريمة أدهى وأمر. ألم يحدس قلبي الكارثة من بادئ الأمر؟! أيكون الطبيب هو صاحب الخطاب؟ أم أنهم استشفعوا بقرابته على التستر والكتمان؟ ولكن لا شك أن الأم كانت تعلم كل شيء .. كل شيء عن حياتي الزوجية، وزلة ابنتها، ولعلها أرادت أن تطمس آثار الفضيحة بالعملية لولا أن هتك الموت تدبيرها. آه يا رباب! إن كل عذاب نصاب به في هذه الدنيا حق وعدل؛ لأننا نتفانى في حبها، على حين أنها لا تستحق إلا المقت.
واستيقظت على صوت المحقق وهو يهتف بي: «هو .. اصح!»، فرفعت إليه عيني مرتجفا وعدت رويدا رويدا إلى الشعور بما حولي. قال الرجل: إني أسألك ألم تصارحك زوجك بكراهيتها للحبل؟ ألم تفض إليك برغبتها في إجهاض نفسها؟
واسترقت من الدكتور أمين نظرة سريعة، وقلت لنفسي : إنه يعلم السر كله من بادئ الأمر، ولعله يعلم أضعاف ما أعلم، فعز علي أن أكذب وأن أعرض نفسي لإهانة جديدة، وتمتمت قائلا: كلا! - أكنت تراها مسرورة بحبلها؟
فقلت في غير مبالاة وقنوط: لم أعلم أنها كانت حبلى إلا هذه الساعة!
فارتفع حاجبا المحقق فوق عويناته، وثبته على عينيه وهو يقدح فكره، ثم سألني: كيف تعلل إخفاءها الأمر عنك؟
لشد ما زلزلني هذا السؤال! إنها كلمة واحدة ثم يصبح سري نادرة المتندرين. إن مشاعر الحقد والانتقام تستفزني جميعا إلى نشر هذا السر الدفين كي أهتك سر الآثمة وأنزل انتقامي بالمجرم. أريد أن أقول: إنه لم يكن في حياتنا ما يدعو إلى الحبل؛ ليضع المحقق يده القاسية على الفاسق. ولشد ما نازعتني نفسي إلى ذلك، وأوشكت الكلمات أن تثب إلى طرف لساني، بيد أنني لم أنبس بكلمة، وحل بي شلل عام لا أدري ما كنهه؟ هل يمكن أن يكون للخجل أثر حتى في مثل هذا الحال؟ .. هل يمكن أن تفوق رغبتي في التستر على عجزي تحرقي إلى الانتقام؟ لم أستطع التفوهه بالكلمة الفاصلة، وكلما مرت ثانية ازددت عجزا ونكوصا، ثم تمتمت قائلا وأنا ألهث: لا أدري!
وما أدري إلا والدكتور ينتفض واقفا ثم يتراجع خطوتين، شابكا ذراعيه على صدره في تحد وكبرياء وغطرسة! ويقول للمحقق بثبات وعجرفة: تسأله عما لا يدري، إنها لم تكن زوجة إلا رسميا فحسب، وإني أنا المسئول عن كل شيء من البداية إلى النهاية!
অজানা পৃষ্ঠা