وطرت إلى عنايات. وكانت تتلفن لي كل صباح بالوزارة، فبينت لها الأسباب التي حالت دون لقائنا. وعدنا كما كنا نلتقي في مهدنا فنسكر ونحب. كانت حياة غريبة، وأخوف ما أخافه أن تكون الذاكرة قد خانتني ولو في القليل من تفاصيلها. أكنت سعيدا حقا؟ كان قلبي موزعا بين أمي وزوجي وعنايات، وبين الذكريات العميقة والهيام السامي والحب العارم. وحسبتني قد آويت من زوابع الحياة إلى مرفأ هادئ، ولكن القلق القديم عاد يطرق بابي في حذر وتردد كأنما يمنعه الخجل من اقتحامه بلا سبب ظاهر. أجل كنت أمضي في طريقي، ثم أتوقف حينا بعد حين في تردد كأنني أتساءل عن شيء أنسيته، هل أجد في السير، أم يحسن بي أن ألقي نظرة إلى ما حولي؟ ثم يتبين لي أنه ليس ثمة ما يستوجب التردد فأمضي على وجهي.
ويوما وجدت رباب على غير ما عهدتها من المرح والنشاط، فسألتها عما بها؟ فقالت لي: إنها قضت نهارا متعبا بالمدرسة، وأنها ترجح أن تكون مصابة بإنفلونزا، وعدلت ذلك المساء عن الخروج. وفي صباح اليوم التالي، وعقب استيقاظها بقليل تقيأت بغتة، واستلقت في إعياء ووهن، فاقترحت عليها أن أستدعي لها الطبيب، ولكنها لم توافق قائلة: إنه برد خفيف وستعالجه بغير معونة الطبيب. وجاءت أمها تزورها فلبثت النهار كله بحجرتها. على أن رباب أصرت في صباح اليوم الثالث على استئناف عملها وقالت لي إنها تشعر بأنها استردت صحتها تماما. ومضت بالفعل إلى الروضة على رغم نصحي لها بالبقاء في البيت يوما أو يومين آخرين. وعادت من الروضة في ميعادها فوجدتها أسوأ مما كانت في الصباح، ولكنها أصرت على أنها متمتعة بكامل صحتها، ولم تقنع بهذا فارتدت ملابسها وغادرت البيت يوما أو يومين آخرين. وعادت من الروضة في ميعادها وكنت في بيت الخياطة، ولما عدت إلى البيت في منتصف الحادية عشرة لم أجد رباب في حجرتنا. وكأن صباح كانت تنتظر عودتي فجاءتني على عجل وقالت لي: ستبيت ست رباب عند والدتها، وقد أرسلوا الخادم لتخبرنا بذلك.
ووقع الخبر من نفسي موقع الدهشة والانزعاج، فسألت صباح قائلا: وما الذي دعاها إلى ذلك؟
فقالت الجارية بلهجة تنم عن الإشفاق: إنها بخير يا سيدي، ولقد زرتها ورأيتها بنفسي، إلا أن حرارتها مرتفعة قليلا، فلم توافق الست الكبيرة على تعريضها للهواء، وأصرت على أن تبيت عندها حتى تنخفض الحرارة.
وغادرت الحجرة بلا تردد وأنا أقول في حنق: لقد حذرتها من هذا ورجوتها مرارا ألا تبرح البيت.
وقابلتني في الصالة نفيسة (خادم أمي) وأخبرتني بأن أمي ترجو أن أذهب إليها، فمضيت إلى حجرتها فأفصحت لي عن أسفها وكلفتني بأن أحمل دعاءها إلى «رباب» فشكرت لها، وغادرت البيت حانقا قلقا.
59
كان البيت نائما تشمله ظلمة إلا نورا ينبعث من حجرة الأم، فقصدتها لا ألوي على شيء، ووجدت «رباب» مضطجعة في الفراش، والأم جالسة في فراش يقابله بالناحية الأخرى من الحجرة، فقابلتني بابتسامة، وانزلقت الأم من فراشها وأقبلت علي وهي تقول: هذا ما قدرناه! قلنا سينزعج ويجيء من توه، والأمر لا يعدو أن يكون إنفلونزا.
واتجهت صوب فراش «رباب»، وتناولت يدها، وقلت لها معاتبا: ألم أنصحك بعدم مبارحة البيت؟ ماذا بك؟ لماذا لم تعودي إلى بيتك؟
فابتسمت إلي وقالت وهي تشير بأصبعها إلى أمها: أردت أن أعود ولكن «ماما» لم توافق.
অজানা পৃষ্ঠা