فتساءلت فيما يشبه الكدر: أتعني أنك لا تستطيع الذهاب معي؟!
فقلت وأنا أشعر بأن قدمي تنزلق إلى هاوية ما لها من قرار: اعتذري عني للست خالتك!
55
بلغت جسر العباسية قبل الميعاد بدقائق .. كان الجو لطيفا والظلام شاملا، فاخترت موقفا تحت مصباح غازي .. ذهبت إلى الموعد بحال من القلق والتوتر ذكرتني بحالي يوم حملتني العربة إلى حانة شارع الألفي لأول مرة .. كل هذا من أجل امرأة لا جمال لها ولا رشاقة، يخجلني والله أن أظهر معها أمام الناس! ولما اقترب الميعاد ركبني الخوف الذي تناوبني كثيرا في فترة الانتظار منذ العصر، ماذا يحدث لو تكرر وقوع المأساة؟ .. آ .. لا يزال أمامي متسع للهرب. ولكني لم أبد حراكا. إن هذه المرأة هي فرصتي الوحيدة لاسترداد الثقة الضائعة. وملكتني روح مغامرة لا عهد لي بها قالت لي: جرب، لن تخسر شيئا، وعلى أسوأ الفروض فلن تخسر شيئا جديدا .. واستيقظت من أفكاري على سيارة متوسطة الحجم تقف أمامي بحذاء الطوار، ثم انخفض زجاج نافذتها الجانبية وبرز منه وجه المرأة الغريبة وهي تجلس أمام عجلة القيادة. ابتسمت إلي، ودعتني إلى الالتفاف حول السيارة لأجلس إلى جانبها من الباب الآخر، فأطعت في اضطراب، وفي أقل من ثانية كنت إلى جانبها، فجذبت الباب والتصقت به وأنا لا أكاد أشعر بما حولي من فرط الحياء. وأحسست بعينيها على خدي اليسرى، فلازمت النظر إلى الأمام، حتى ضحكت ملء فيها بصوت يعد إلى غلظة وجهها وجسمها رقيقا وقالت بلهجة تنم عن التحريض: لم يعد من داع للحياء!
وانطلقت بالسيارة في مهارة ويسر وهي تقول: لنذهب إلى طريق الأهرام!
اندفعت بسرعة فائقة فولى قلبي خوفا، وجعلت كلما اعتاقها عن الاندفاع زحام أو إشارة المرور أتنفس الصعداء .. والأعجب من هذا أنها خففت من سرعتها الجنونية حين تركت وراءها الطريق المزحومة. واسترددت أنفاسي، واسترقت إليها النظر، فرأيت جانبا من وجهها الغليظ عن كثب، وذاك الصدر المكتنز، وتمثل لعيني صورة ساقها البرونزية المرتوية، وذكرت أن قيراطا واحدا يفصلها عن ساقي، فاضطرب دمي. وأدهشني هدوءها وطمأنينتها فكأنها تصاحب زوجها أو أخاها، لا رجلا غريبا لا يتمالك نفسه من الحياء والارتباك. سألتني دون أن تحول عينيها عن الطريق: ماذا أدعوك؟
فقلت في اقتضاب: كامل رؤبة ...
واكتفيت بذلك عن ذكر اللقب الذي كثيرا ما يثير الضحك، فتمتمت قائلة: «عاشت الأسماء»، وشعرت بأنه ينبغي أن أسألها كذلك عن اسمها، وتخيرت عبارة مناسبة، واستجمعت قواي للفظها، ولكنها لم تنتظر، وقالت ببساطة: ادعني عنايات إذا شئت.
وغمغمت في خجل: «عاشت الأسماء»، ولكنها لم تسمع إلا همسا، والتفتت نحوي فجأة وقالت مبتسمة: يا له من حياء غريب! ألم تعلم بأن الحياء موضة قديمة؟ وإن العذارى أنفسهن نبذنه بلا أسف؟ ففيم تستمسك به أنت؟
فندت عني ضحكة مرتبكة ولم أنبس بكلمة، فاستطردت قائلة: ولكن دعنا من هذا الآن فالدواء الناجع لا ينفع إلا في حينه، وخبرني بالله عليك ما الذي دعاك إلى مخالطة النوبيين في تلك القهوة القذرة؟!
অজানা পৃষ্ঠা