55

والرجل الذي لا تختلف له صورة من صورة ولا تمثال من تمثال هو جماد يختلس عنوان الحياة.

والوجه الذي يصوره مائة مصور فيخرجون جميعا بطابع واحد لا يتبدل هو جدار في هيئة إنسان، ولكنه جدار لا تختلف عليه الظلال والألوان.

لنابليون بونابرت مئات من الصور الشمسية والزيتية، ولا نذكر إلا صورة واحدة لنا حين نبصرها لأول وهلة، هذا وجه إيطالي لا مراء ...! فلولا أننا نعلم أن نابليون إيطالي من شعبة إيطالية لقلنا إن الصورة كاذبة، أو أن فراستنا هي التي كذبتنا ما رأيناه، ولكننا نعلم أنه إيطالي من شعبة إيطالية؛ فالصورة إذن أصدق من جميع الصور التي خفيت فيها ملامحه الإيطالية ولم تبرز لنا البروز.

وجمال الدين الأفغاني يختلف المترجمون فيه؛ هل هو من الفرس أو من الأفغان؟ ولكن صورة من صوره التي ترتسم فيها عيناه القلقتان الوامضتان وصدغاه الناتئان وشفتاه العصبيتان تفض الجدال وتقول فيه أصدق مقال؛ إن هذا الوجه لأفغاني ولو ولد في البلاد الفارسية، وإنه لأفغاني ولو نماه إليهم قوم من الفرس، ونفاه عنهم قوم من الأفغان.

وليس منا إلا من يعرف صاحبا يحاول أن يخفي بعض مثالبه أو بعض سيئاته ثم يلتقطه المصور التقاطا فإذا هو حاسر الطبيعة بغير نقاب، على كره منه وعلى كره من المصور، ولعله هو نفسه يرى الصورة فلا يفطن لما كشفت من أمره؛ لأنه يفهم إفشاء الكلام ولا يفهم إفشاء السمات والقسمات.

وليس من اللازم اللازب أن يطول الزمن بين الصورتين المختلفتين للوجه الواحد، فإني لأذكر أني رأيت صورا ثلاثا لطفل واحد في السنة الأولى من عمره أخذت في ساعة واحدة في مكان واحد تذكارا ليوم ميلاده، ترى إحداها فلا تملك أن تقول: ما أشبه هذا الطفل بأبيه، وترى الثانية فلا تملك أن تقول: ما أشبه هذا الطفل بأمه، وترى الثالثة فتستطيع أن تقول إنه ليشبه أمه كما تستطيع أن تقول إنه ليشبه أباه.

ويصدق هذا على كبار السن كما يصدق على صغارها، فلا يندر أن يلتفت الإنسان التفاتة خاطفة على غير قصد منه أمام المرآة فيلوح له شبه من عمومته أو شبه من خئولته لم يكن قبل ذلك يلمحه في صفحة وجهه، وقد تنصرم السنون ولا يلمحه مرة أخرى إلا في مثل تلك اللفتة الخاطفة.

وأعرف أبا مشهورا له خمسة من الأبناء الذكور يجلس كل منهم إلى جانبه فلا تخفى المشابهة بينهما أقل خفاء، ولا يحتاج الناظر إلى فراسة ثاقبة ليعلم من فوره أنهما ابن وأبوه، ثم يجتمع الإخوة الخمسة فلا يبدو بينهم هذا التشابه إلا بفراسة المتأمل، لتقارب الأصل وفروعه وتباعد الفروع متفرقات.

ومما لا ريب فيه أن سمات الأخلاق والأفهام شيء يستكن في النفس قبل أن يبدو على أسارير الوجوه، وأنها شيء لا يزول من النفس وإن زال أثره الظاهر في بعض الأحيان، وأنه على قدر معاني النفس يكون تعدد الملامح وتعدد الوجوه، وعلى قدر تعدد الوجوه يكون الأنس بالمنظر المتجدد والمحضر المتعدد، ويقل السأم ويعظم الشوق والنشاط إلى اللقاء.

وسارة كانت من ذوات الملامح والوجوه اللواتي لا يطالعنك بمنظر واحد في محضرين متواليين، تراها مرة فأنت مع طفلة لاهية تفتح عينيها البريئتين في دهشة الطفولة وسذاجة الفطرة بغير كلفة ولا رياء، وتراها بعد حين - وقد تراها في يومها - فأنت مع عجوز ماكرة أفنت حياتها في مراس كيد النساء ودهاء الرجال، وتضحك ضحكة فتعرض لك وجها لا يصلح لغير الشهوات، وضحكة أخرى - وقد تكون على إثر الأولى - فذاك عقل يضحك ولب يسخر، كما تسخر عقول الفلاسفة وألباب الشيوخ المحنكين.

অজানা পৃষ্ঠা