لأنه إذا اعتبُر في حق المخدوم كان سببًا في اتخاذه الأداة. وأن أعتبر في حق الخادم وغيره ممن سد مسده كان موجبًا للحسد. وهو من أعظم المؤثرات تسخينًا وإحماء. ومع كونه أي الثلج يرى ساقطًا على كل موضع في المدينة دون أي تمييز دار عن دار فإن لفظه في الحقيقة لا يصيب إلا رؤوس بعض الناس. وكان الأولى أن يطرد حكمه فيعمّ لا مثل أحكام اللفظ الأرضي فإنها تجري على قوم دون قوم. والفرق بين اللفظتين هو أن الثلج لما كان سقوطه أو لفظه من علو إلى سفل كان المظنون به أنه يتصوب على جميع الرؤوس بشدة. فيشمل الكبير منها والصغير والمسفط منها والمسمراط. فأما الأحكام والقوانين الأرضية فمن حيث كان لفظها من سفل إلى أي من رؤوس ناس مسودين إلى رؤوس ناس سائدين. لم يكن من المحتمل أن يكون تبعثها قويًا حتى يبلغ ذوي الرفعة والعلاء الذين يمر السحاب من تحت قذُلهم. ثم أن الثلج مع ما يتبعه في الواقع من الضنك والمشقة لمن ألفه فقد يروق لعين من لم يكن رآه.
فقد بلغنا أن بعض الصعاليك كان مرة ضيفًا عند أناس لم يكرموه ولم يحتفلوا به إذ كان دونهم في المعارف والنباهة. وكان بلدهم لا يسقط فيه الثلج البتة. فلما فصل من عندهم إلى بلاد أخرى رأى فيها الرزق وعاين بها الثلج كبر لرؤيته وهلل وأعجب به غاية الإعجاب. حتى زعم أنه منة من الله خصّ بها ذلك الصقع تمزية له على غيره. كما أنه تعالى حرم منها بلد مضيفه الأول.
وكذلك كلامي هاهنا. فإنه مع ما فيه من الاستطراد والحشر والألفاظ المضغوطة بين المعاني ومن المغازي المعقودة بالتلميح والتلويح. والتحويل والتمليح. فقد يروق لخاطر من لم يكن قد ألف هذا التخليط بل ربما يجعله الإعجاب به على تحديه ومحاكاته. ولكن هيهات فإن الباب قد أغلق في وجوه المتحدين. على إني لست أزعم إني أول كاتب في الدنيا نهج هذه الطريقة وأسعطها المتناعسين. إلا إني رأيت جميع المؤلفين في سهوة كتبي قد قيدوا أنفسهم بسلسلة نفس من التأليف واحدة. لكنني لا أعلم الآن هل غيروا أسلوبهم أولا. إذ قد مضى عليّ بعد فراقهم أكثر من خمس سنين. فكأن العارف بحلقة واحدة من تلك السلسلة قد عرف سائر الحَلَق حتى أن كل واحد منهم يصدق عليه أمن يسمى حلقيًا. بناء على إنه مشى وراء القوم وحذا حذوهم. فإذ قد قرر ذلك فاعلم إني قد خرجت من السلسة فما أنا بحلقي ولا بُسَتْيهّي ولا أكون أمام القوم فإن الثانية أنحس من الأولى. وإنما أنا مستقبل لما استحسنت. آخذ بناصية ما استظرفت. رافض مكلف العادة.
النحس
لقد أرحت سن القلم من كدم اسم الفارياق قليلًا بعد أن تركته مع القسيس الربيط وتلهيت بالكلام على الثلج لما داخلني من فرط الحدة عليهما معًا. أما على القسيس فلكونه خان صديقه الذي أواه إلى منزله في حرمته. وكان ينبغي له أن يذهب إلى مواجرة أو يفعل كسائر القسيسين من أهل حرفته. إذ لو كان الله تعالى رزق ذلك التاجر ولدًا على نيته أي فتح له رحم امرأته كما تقول التوراة لكان أربعة أرباع هذا الولد من القسيس والباقي وهو اسمه من التاجر. فيكون قد أقام نفسه مقام من يربي النغول. مع أن أول ذكر فاتح رحم كما تقول التوراة مبارك ومعظم عند جميع الأمم. ولهذا كان حق الوراثة عند الإنكليز للبكر أي لفاتح الرحم. فكيف يحاول القسيس هنا جمع اللعنة والبركة على رأس مخلوق واحد. إن ذلك إلا محال. وأما على الفارياق فلأنه هو الذي كان السبب في إفشاء هذا السر بما أبداه من العناد والتصلُّف في حفظ أبياته التي لا أشك في أنه أرتكب فيها المين والغلو والمبالغة والمردودة لغير نفع. وهو مع ذك يحسب أنه يحسن صنعًا. فأما مشابهة الولد أباه في الخلق هل دلالة قطيعة على كونه ابنه فغير متفق عليها. فذهب بعض إلى إنها ليست علامة كافية. لأن الأم قد يحتمل في حاله كونها مسافحة أن تكون مفكرة في زوجها ومتصورة له فيأتي توزيع الجنين بحسب هذا التصور. وذهب بعض الأولاد إلى أن الأم وحدها لا فاعلية لها في التوزيع فقد يأتي بعض الأولاد مشابهًا لعمه أو خاله أو لآخر ممن لم تكن أمه قد رأته قط.
1 / 53