إنه لما شاعت براعته في النسخ أرسل إليه من اسمه على وزان بعير بيعر يستدعيه لنسخ دفاتر كان يودعها كل ما كان يحدث في زمانه. وليس الغرض من ذلك إفادة أحد من العالمين. وإنما كان إمساكًا للحوادث من أن تتفلت من مدار الأيام. أو تنفك من سلسلة الأحوال. فأن كثيرًا من الناس يرون أن إحضار الماضي وجعله حالًا منظورًا من الأمور العظيمة. ولذلك كانت الإفرنج حراصًا على تقييد كلما يقع عندهم. فخرج عجوز من بيتها صباحًا وعودها إليه في الساعة العاشرة وهي تقود كلبًا لها. والريح عاصفة والمطر واكف لا يفوت أقلامهم ولا يعدو خواطرهم. ففي مقدمة ديوان Lamartine أعظم شعراء الفرنساوية الموجودين في عصرنا وهو ديوان الذي سماه التأمل الشعري ما ترجمته. وكانت العرب يدخنون التبغ في قصبات لهم طويلة وهم ساكتون وينظرون إلى الدخان متصاعدًا كأعمدة زرقاء لطيفة إلى أن يضمحل في الهواء اضمحلالًا يشوق الرائي. والهواء إذ ذاك شفاف لطيف إلى أن قال: ثم أن صحي من العرب جعلوا الشعير في مخال من شعر المعزي ووضعوها في أعناق الخيل وهي حول خيمتي. وأرجلها مربوطة في حلق من حديد وهي غير متحركة. ورؤوسها مخفوضة إلى الأرض مظللة بنواصيها الشعثة. وشعرها أشهب براق يخرج منه دخان تحت أشعة الشمس الحامية وكانت الرجال قد اجتمعت تحت ظل زيتونة من أعظم ما يكون. وفرشوا تحتهم على الأرض حصيرًا شاميًا وأخذوا في الحديث والحكايات عن البادية وهم يدخنون التبغ وينشدون أشعار عنتر وهو من شعراء العرب الذين اشتهروا بالحماسة والرعاية أي رعاية البهائم والبلاغة وقد بلغت أشعاره منهم مبلغ التنباك في الأركيلة. وحين كان يرد عليهم من الأبيات ما يؤثر في حسهم أكثر كانوا يرفعون أيديهم إلى آذانهم ويطرقون برؤوسهم ويصرخون تارة بعد تارة الله الله الله. إلى أن قال في وصف امرأة رآها تبكي عند قبر زوجها وكان شعرها مسدلًا من عند رأسها ملتفًا عليها ومماسًا للأرض. وكان صدرها مكشوفًا كله على ما جرت بع العادة عند نساء تلك البلاد من بلاد العرب. وحين كانت تتطأطأ للثم صورة العمامة على رجال القبر أو تصغي أذنها إليه كان ثدياها البارزان يمسان الأرض ويرسمان في التراب شكلهما كالقالب. أهـ صفحة ٢٤ وسائر هذه المقدمة على هذا النمط مع انه سماها مقدور الشعر أي ما قدره الله تعالى على الشعر والشعراء.
وفي رحلة شاتوبريان إلى أمريكا وهو أيضًا من أعظم شعراء عصره ما صورته. وكان منزل رئيس الدول المتحدة عبارة عن دار صغيرة مبنية على أسلوب إنكليزي في البناء من دون خفرة عندها من العسكر ولا حشم داخلها. فلما قرعت الباب فتحت جارية صغيرة فسألتها هل الجنرال في البيت فأجابت نعم. فقلت أن عندي رسالة أريد أن أبلغه إياها. فسألتني عن اسمي وصعب عليها حفظه فقالت لي بصوت منخفض أدخل يا سيدي وأورد هذه العبارة باللغة الإنكليزية Walk in sir تنبيهًا على معرفته لها ثم مشت أمامي في ممشى طويل كالدهليز. ثم دخلت بي إلى مقصورة وأشارت إليّ أن أجلس فيها منتظرًا الخ صفحة ٢٥. وفي موضع آخر أنه رأى بقرة عجفاء لامرأة من هند أمريكا فقال لها وهو راث لحالها: ما بال هذه البقرة عجفاء؟ فقالت له إنها تأكل قليلًا وأورد هذه العبارة أيضًا باللغة الإنكليزية وهي She eats very little. وفي موضع آخر ذكر أنه كان يرى كسف السحاب بعضها في شكل حيوان وبعضها في شكل جبل أو شجرة وما أشبه ذلك.
فإذ قد عرفت هذا فأعلم إن اعتراضك عليّ في إيراد ما هو غير مفيد لك لكنه مفيد لي لا يكون إلا تعنتًا فإن هذين الشاعرين كتبا ما كتباه ولم يخشيا لومة لائم، ولم يعترض عليها أحد من جنسيهما. وقد اشتهر فضلهما وصيتهما حتى أن مولانا السلطان أدام الله دولته أقطع لا مرتين في أرض أزمير إقطاعات عظيمة. ولم يسمع عن ملك من ملوك الإفرنج إنه أقطع شاعرًا عربيًا أو فارسيًا أو تركيًا مقدار جريب واحد في أرض عامرة. ولا غامرة. فأما كون وازن بعير بيعر قد حاكى الإفرنج في تاريخه وهو عربي وأبواه أيضًا عربيان وعمه وعمته كذلك عربيّان. فما لم أتيقنه إلى الآن. ولعلي أعلمه بعد إنجاز هذا الكتاب فأخبر به القارئ إن شاء الله. وإنما أرجو أي القارئ ألا يقطع قراءته لجهله سبب هذه المحاكاة وإن يكن العلم به مهمًا.
1 / 17