إهداء الكتاب
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
الفصل السادس والعشرون
الفصل السابع والعشرون
الفصل الثامن والعشرون
الفصل التاسع والعشرون
الفصل الثلاثون
الفصل الحادي والثلاثون
الفصل الثاني والثلاثون
الفصل الثالث والثلاثون
الفصل الرابع والثلاثون
الفصل الخامس والثلاثون
الفصل السادس والثلاثون
الفصل السابع والثلاثون
الفصل الثامن والثلاثون
الفصل التاسع والثلاثون
الفصل الأربعون
إهداء الكتاب
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
الفصل السادس والعشرون
الفصل السابع والعشرون
الفصل الثامن والعشرون
الفصل التاسع والعشرون
الفصل الثلاثون
الفصل الحادي والثلاثون
الفصل الثاني والثلاثون
الفصل الثالث والثلاثون
الفصل الرابع والثلاثون
الفصل الخامس والثلاثون
الفصل السادس والثلاثون
الفصل السابع والثلاثون
الفصل الثامن والثلاثون
الفصل التاسع والثلاثون
الفصل الأربعون
سانين
سانين
تأليف
ميخائيل أرتزيباشيف
ترجمة
إبراهيم عبد القادر المازني
إهداء الكتاب
إلى ذكرى من لا تزال ذكراها المحبوبة تجدد في قلبي حسرة الوجد وزفرة الجوى، إلى من كانت مصدر إلهامي، وشريكة مجهوداتي في صفوة ما سطره يراعي، إلى الصديقة الوفية، والزوجة المخلصة التي كنت أجد من راسخ إيمانها بالحق ورفيع تقديرها للصدق أحث مشجع ومهيب، كما كنت أجد في جميل استحسانها، وكريم إعجابها، خير مكافئ ومثيب، أهدي كتابي هذا - شأن كل ما لبثت أكتب منذ سنين عدة - ليمت إليها بمثل ما يمت إلي، وإن كان لم يحظ من نفيس تنقيحها بأقصى الكفاية، ولم يستوف من ثمين تهذيبها أبعد غاية، إذ بقيت طائفة من أجل أجزائه كانت قد أعدت كيما تعيد فيها نظرة متثبت مستمهل، ولكن أبى القدر إلا أن يحرم الكتاب تلك النظرة، ولو أني أوتيت سحر البيان مما أعبر به للناس عن نصف ما ضمنت حفيرتها من رائع الخواطر وشريف العواطف، لأسديت إليهم أضعاف أضعاف ما يستفيدون من كل ما أنا كاتبه، غير مستحث بهمتها الماضية، ولا مؤيد بحكمتها العالية.
المؤلف
الفصل الأول
لم يقض فلاديمير سانين أهم أدوار حياته في بيته بين أبويه، وهو الدور الذي يتكون فيه خلق المرء بالاتصال بالعالم والامتزاج بالناس. ولم يكن له من يتعهده أو يهديه، فتفتحت روحه كما ينمو الغراس في أتم حرية وأكمل استقلال.
غاب عن بيته سنين، فلما آب كادت تنكره أمه وأخته «ليدا» ولم تكن معارف وجهه وصوته وشمائله قد تغيرت إلا قليلا. ولكن شيئا غريبا جديدا ناضجا حدث على شخصيته فأجال في محياه ضوءا وأكسبه معنى لم يسبق بهما العهد. وكانت أوبته مساء فدخل الغرفة دخول من زايلها منذ خمس دقائق. وكان يعييك أن تلمح في وجهه الساكن - أو أن تستكنه من ركني فمه الناطق ببعض السخر - شيئا من أمارات الإعياء أو دلائل تحرك النفس وهو واقف في الغرفة مديد القامة وسيم الطلعة عريض الكتفين، فقرت ضجة التحية التي استقبلته بها أمه وأخته من تلقاء نفسها.
وجلس يأكل ويترشف الشاي وأخته قبالته تحدجه بنظرها وكانت مشغوفة به شأن مثيلاتها - أو جلهن - من الفتيات الجامحات الخيال في الولولع بإخوانهن النائين عنهن. وكانت أبدا تتمثله شخصا غريبا بالغا من غرابة الأمر مبلغ من تقرأ عنهم في الكتب، وتتصور حياته في دائرة الأرجاء بشتى الفواجع والمآسي. وتحسب أن حظه من العيش الشجي والوحدة ككل روح ضخمة مستعجمة.
فقال لها سانين وهو يبتسم: «لماذا ترميني بهذه النظرة؟»
وكانت هذه الابتسامة الهادئة والنظرة الفاحصة مألوف ما يطالعك من وجهه، ولكن العجيب أنهما لم يقعا من «ليدا» موقع الارتياح، وكأنما خيل إليها أن فيهما معنى الرضى عن النفس، وأنهما لا ينمان عن شيء من الصراع والألم الباطن، فصرفت وجهها عنه ولم تنبس، ثم جعلت غير عامدة تقلب صفحات كتاب.
ولما قضوا من الطعام والشراب حاجتهم مسحت أمه شعر رأسه في حدب وحنو وقالت: «والآن حدثنا عن حياتك وما صنعت هناك.»
فقال سانين وهو يضحك: «ما صنعت؟ لقد أكلت وشربت ونمت وكنت حينا أعمل، وحينا آخر لا أعمل شيئا!»
فجرى في وهمهما بادئ الرأي أنه لا يريد أن يحدثهما عن نفسه، ولكن أمه لما شرعت تسأله عن هذا الأمر بعينه أو ذاك ألفته يرتاح إلى قص تجاريبه. غير أن المرء لم يكن يسعه إلا أن يحس - لأمر ما - أنه لا يعبأ شيئا بما يكون لقصصه من الوقع والأثر في نفوس سامعيها. ولم يكن في شمائله - على دماثتها ورقة حواشيها - ما ينم على تلك الألفة التي لا تكون إلا بين أهل الأسرة الواحدة. وكأنما كان لطفه ودماثته من عفو الطبيعة كالمصباح يريق ضوءه على كل شيء بلا تمييز.
وبرزوا إلى شرفة الحديقة وجلسوا على درجها وجلست «ليدا» دونه تصغي إلى حديثه في صمت، وأحست في قلبها برد الجليد، وقالت لها غريزتها النسوية الذكية إن أخاها غير ما خالت. واستشعرت الخجل والارتباك في حضرته كأنه أجنبي منها. وانتشرت على الأرض غيابات العشي وزحفت حولهم الظلال. وأشعل سانين سيجارة فاختلط شذى الطباق (التبغ) بأرج الحديقة وقص عليهما سيرته، وكيف رمت به حياته المرامي وكيف طوى كثيرا وتشرد، وكيف خاض لجج الجهاد السياسي وكيف أنه لما أدركه الونى والفتور أقلع عنها ونكص.
وكانت «ليدا» مائلة إليه بسمعها دون حراك وعليها من رقة الحسن والحلاوة ما تفيضه أصائل الصيف على كل فاتنة عذراء.
وكانت كلما أوغل في الحديث تزداد اقتناعا بأن حياته، التي وشاها خيالها بأبهج الألوان وأشدها لألاء، لم تكن في واقع الأمر إلا عادية كأبسط ما تكون، ولكن فيها على هذا شيئا عجيبا. وما ذاك؟ هذا ما لم تستطع اكتناهه. على أنه مهما يكن من الأمر فإن حياته على ما جاء في روايته لم تعد أن تكون بسيطة مملة فاترة، يظهر أنه عاش حيثما اتفق ولم يعتمد شيئا يفعله على التعيين، فيوما يشتغل ويوما يتبطل. ومن الجلي كذلك أنه كلف بالشراب وأن له خبرة بالنساء. وأحر بمثل هذه الحياة أن تخلو من الحلوكة أو الشر، وهي لا تشبه في دقيق أو جليل ما توهمته من سيرته، لا فكرة يحيا لها، ولا هو يكره مخلوقا ولا تعذب في سبيل كائن ما. ولقد كربها حقا بعض ما صارحها به وبخاصة لما قال إنه بلغ من خصاصته ورقة حاله مرة أن رقع سراويله الممزقة بيده.
فلم تملك إلا أن تسأله: «أو تعرف إذن كيف تحوك؟» وفي صوتها نبرات الدهشة والزراية. إذ كانت تعد ذلك هوانا وضعة، وترى فيه ما ينافي الرجولة في الواقع.
فقال سانين باسما وقد فطن إلى ما دار في خاطر أخته: «لم تكن لي بذلك دراية في أول الأمر ولكني ما لبثت أن تعلمت بكرهي.»
فهزت الفتاة كتفيها بلا احتفال ولزمت الصمت ورمت الحديقة بعينيها وخيل إليها كأنها كانت تحلم بالشمس الضاحية، فلما فتحت عينيها لم تجد غير سماء عائمة مقرورة.
واكتأبت أمه كذلك وحز في نفسها أن ابنها لم يشغل المركز الذي هو أهل له بحكم منزلته في المجتمع، وشرعت تقول له إن الأمور لا يمكن أن تظل جارية على هذا النحو، وإنه ينبغي له أن يكون فيما يستقبل من أيامه أرشد وأحزم، وكانت تكلمه في بادئ الأمر على حذر ثم بدا لها أنه لا يكاد يجعل باله إلى ما تقول، فأخذها الغضب شيئا فشيئا وألحت عليه بالكلام ذاهبة إلى العناد والمشادة شأن العجائز السخيفات من نظائرها لتوهمها أن ابنها يتعمد أن يكايدها. ولكن سانين لم يعجب ولم يضجر وكأنه لم يفهم ما قالت، فظل صامتا غير مكترث.
بيد أنه لما سألته: «كيف تنوي أن تعيش؟» قال مبتسما: «على نحو ما.» وكان صوته الهادئ المتزن ونظرته السريعة يوقعان في الروع أن لهذه الكلمات - التي لم تفهم منها أمه لا قليلا ولا كثيرا - دلالة عميقة محدودة عنده.
فتنهدت ماريا إيفانوفنا وقالت بعد فترة بشيء من القلق: «هذا شأنك على كل حال فقد شببت عن الطوق ولم تعد طفلا. ينبغي أن تطوف الحديقة فإن مجلاها يروق النظر الآن.»
فقال سانين لأخته: «نعم تعالي لتريني الحديقة فقد نسيت شكلها.»
فانتبهت «ليدا» من خواطرها وتنهدت ونهضت ومشيا جنبا إلى جنب في الطريق المفضي إلى قلب الحديقة الجهمة.
وكان البيت على الطريق الأكبر في البلدة، ولما كانت هذه صغيرة فقد امتدت أرض الحديقة إلى النهر ومن ورائه الحقول. والبيت قصر عتيق في عمده على الجانبين رخاوة وله شرفة رحيبة، وكانت الحديقة على سعتها مهملة هائجة حتى ليحسبها رائيها سحابة خضراء باهتة قد نزلت إلى الأرض. وهي بالليل كمثوى الأشباح وكأنما يغشاها طيف حزين يسري بين أغراسها المتوشجة أو يروح ويغدو في قلق على البلاط الترب بذلك البناء القديم. وفي الدور الأرضي جملة الحجر الفارغة تكسوها الأبسطة الحائلة والستائر الحالكة ثوبا مظلما، ولم يكن يتخلل الحديقة إلا طريق واحد ضيق أو ممر، مبعثرة في نواحيه الأغصان المصوحة والضفادع المسحوقة. وكل ما في الحديقة من دلائل الحياة الهادئة المطمئنة محشود في ركن واحد منها. وثم على كثب من البيت يلتمع الرمل الأصفر والحصى وهناك - إلى جانب حوض أنيق من الزهر يومض في نوره الطل - يرى المرء مائدة خضراء يجلسون إليها للطعام أو الشاي في الصيف. فكانت هذه الزاوية الصغيرة التي نفخت فيها الحياة السلسة الساذجة من روحها على نقيض ذلك القصر الضخم المهجور، المقضي عليه بالتداعي المحتوم.
ولما خفي البيت عن أعينهما وأحاطت بهما الأشجار الصامتة الساكنة كأنها الشهود تنظر وتروي. دفع سانين ذراعه فجأة حول خصر ليدا وقال بلهجة جامعة بين الرقة والعنف: «لقد صرت آية! وسيسعد بك أول من تحبين من الرجال.»
فأرسلت لمسة ذراعه وعضلاته الحديدية هزة نار في عود ليدا اللين الغض. وصبغ وجهها الخجل. واضطربت فتنحت عنه كأنما قاربها وحش غير مرئي.
وكانا قد بلغا حافة النهر فصعدت إليهما رائحة بليلة رطبة من الأعشاب المطرقة المترنحة في الماء، وبدت مما يلي النهر الحقول في رداء من غبش الغسق تحت سماء مترامية تومض فيها طلائع النجوم.
ومال سانين وتناول عودا جافا ذاويا ووقصه وألقى بكسره في تيار الماء، فانداحت في لجته الدوائر وزالت بأسرع مما ظهرت، وحنت الأعشاب النابتة رءوسها كأنما أرادت أن تحيي في سانين ندها ورفيقها.
الفصل الثاني
كانت الساعة السادسة والشمس ما زالت وضاءة، ولكن الحديقة ارتمت فيها الظلال الرقيقة، وكان الجو كله ضوءا وحرارة وسجوا، وكانت ماريا إيفانوفنا تصنع مربى، فانبعثت تحت شجرة الزيزفون الخضراء رائحة قوية من السكر المغلي والتوت البري. وكان سانين يكدح نهاره في أحواض الزهر معالجا أن ينفث الحياة في بعض أعوادها التي أضر بها التراب والحر.
فقالت له أمه مقترحة: «أولى لك أن تقتلع الحشائش أولا. قل لجرونكا تصنع ذلك لك.»
وكانت ترقبة وتنتحيه بعينيها من حين إلى حين من خلال اللهيب الأزرق المرتعش.
فرفع سانين رأسه وهو متقد وقال باسما: «ولماذا؟» ورد شعره المتهدل على جبينه «لتنم كما شاءت فإني أحب كل أخضر.» - «أما إنك لفتى مضحك!»
وهزت كتفيها باشة، وقد سرها جوابه لأمر ما.
فقال سانين بلهجة الجازم المقتنع: «إنكم أنتم المضحكون.» ثم انصرف إلى البيت ليغسل يديه، ولما عاد تمطى على كرسي ذي ذراعين مصنوع من عيدان الصفصاف وشاع في جواب نفسه الاغتباط وفي صدره ووجهه الانشراح، وأشعرته خضرة الروضة ونور الشمس وزرقة السماء لذة الحياة أيما إشعار. وكان نفورا من المدن الكبرى يمقت ضجتها. أما هنا فليس إلا الشمس والحرية. ولم يكترث للمستقبل ولا أحس من أجله دبيب القلق، إذ كان غير متبطر - يتقبل من الحياة ما شاءت أن تهديه إليه - وأغمض جفنيه كل الإغماض ومط جسمه واهتز مسرورا لتوتر عضلاته القوية الصحيحة.
وهب النسيم عليلا وعادت الحديقة كلها وكأنها تزفر، وجعلت العصافير هنا وههنا تصخب متناغية عن حيواتها المهمة وإن لم تكن بالمفهومة، وكان كلبهم «ميل» مستلقيا على الحشائش الطويلة منصتا وأذناه مرهفتان ولسانه الأحمر متدل من فمه. وأوراق الشجر تتهامس وظلالها المستديرة ترتعش على الحصى الأملس.
وهاج ماريا إيفانوفنا أن طائر ابنها ساكن، وكان حبها له جما كحبها لأبنائها جميعا، فنازعتها نفسها لهذا أن تستثيره وأن تجرح احترامه لنفسه لتكرهه على الالتفات إلى كلامها ولتحمله على مشاطرتها نظرها إلى الحياة. وكانت كالنملة قد قضت كل برهة من عمرها المديد في إقامة ذلك البناء الواهي لسعادتها المنزلية. وما كان أطوله وأعراه وأخلاه من بواعث السلوى النافية للملال! بل ما أشبهه بالثكنة أو المستشفى! شيد بما يخطئه الحصر من دقائق اللبنات. وتالله ما أعجزها من مهندسة تحسب هذه مباهج الحياة، وإن لم تكن سوى متاعب ضئيلة غادرتها في حالة دائمة من الاضطراب والقلق.
قالت: «أتحسب أن الأمور ستظل سائرة على هذا المنوال فيما بعد؟»
وتضاغطت شفتاها وتظاهرت بأن المربى تستغرق عنايتها، فسألها سانين: «وماذا تعنين بقولك فيما بعد؟» ثم عطس فظنت ماريا إيفانوفنا أنه عطس عامدا ليهيجها وقطبت وجهها على الرغم مما في هذا الخاطر من وضوح السخافة.
ثم قال سانين وكأنه يحلم: «ما أجمل أن يكون المرء هنا معك!» فأجابته بلهجة جافية: «نعم فإن المقام هنا ليس بالذميم جدا.» وسرها من ابنها إطراؤه البيت والحديقة، وكانا عندها كأنهما من ذوي قرباها الملازميها.
ونظر سانين إليها ثم قال وعلى وجهه هيئة التفكير: «لو أمسكت عن مضايقتي بكل أنواع الحماقات لعاد المقام خيرا وأحمد.»
ونطق هذه الكلمات بصوت لين المكاسر فخالفت رقة اللهجة جفوة المعنى،
فحارت ماريا إيفانوفنا ولم تدر أترتاح إلى ما سمعت أم تمتعض وتغضب وقالت وهي مكتئبة: «إني لأنظر إليك وأذكر أنك في طفولتك كنت دائما غريب الحال والآن ...»
فقاطعها سانين جدلا: «والآن؟» كأنما توقع أن يسمع شيئا ليس أمتع منه ولا أبعث على السرور.
فقالت بحدة وهزت ملعقتها: «والآن أراك أشد جنونا منك في أي عهد!»
فضحك سانين وقال «هذا خير!» ثم بعد هنيهة «هذا نوفيكوف.»
وأقبل رجل طويل وسيم الصورة ينسجم على قوامه المعتدل قميص من الحرير أحمر يتوهج في ضوء الشمس وفي عينيه الزرقاوين نظرة فاترة واشية بسذاجته وخلوص سريرته. وقال بصوت الودود: «هذا أنتم! - أبدا في خصام! وبالله عليكم فيم تختصمون؟» - «حقيقة الأمر هي أن أمي ترى أن الأنف الإغريقي أليق بي وأنسب، ولكني راض أتم الرضى عن أنفي الذي في وجهي.»
ونظر سانين إلى أنفه وضحك ثم مد يده إلى يمنى صاحبة الكبيرة الغضة.
فقالت ماريا إيفانوفنا: «كذلك أحسبني أقول!»
وضحك نوفيكوف، وارتد إليهم من جانب الحديقة صدى رقيق كأنما هناك من يشاطرهم جذبهم ومرحهم. «أظني أحزر ما أنتما فيه، إنكما من مستقبلك في لجاجة.»
فصاح به سانين ذاهبا إلى المداعبة ومتكلفا الفزع: «وأنت أيضا؟» - «إنك تستحق هذا عدلا!» - «إذا اتفقتما علي فخير لي أن أنصرف عنكما.»
فصاحت به ماريا إيفانوفنا وقد هاجت بغتة وغاظها أنها هاجت: «كلا! أنا التي أزايلكما.» واحتملت قدر المربي وأسرعت إلى البيت ولم تتلفت. ووثب الكلب ونصب أذنيه وهو يراقبها ثم حك أنفه بيمينه ورمى البيت بنظرة المستفسر ثم عدا إلى الحديقة.
فقال سانين وقد سره خروج أمه: «أمعك سجائر؟»
فأخرج نوفيكوف علبة وهو يتريث في حركته وقال بصوت رقيق نبرات العتب: «لا يجمل بك أن تكايدها هكذا. إنها سيدة عجوز.» - «كيف كايدتها؟» - «إنك ترى ...» - «ماذا تعني بقولك «إنك ترى»؟ إنها هي التي لا تزال ورائي. وما أعرفني سألت إنسانا شيئا فكان ينبغي للناس أن يدعوني وشأني.»
وصمت كلاهما برهة ثم سأل سانين صاحبه: «وكيف الحال يا دكتور؟» وتأثر بلحظة الدخان المتصاعد من سيجارته وهو يتأوى فوق رأسه. - «الحال سيئ.» - «كيف؟» - «من كل وجه. كل شيء ممل وهذه البلدة الصغيرة تأخذ بمخنقي وليس ما يعمله المرء فيها.» - «ليس ما تعمل؟ إنك أنت الذي شكوت من أن الوقت لا يتسع للتنفس؟» - «ليس هذا ما أعني. إن المرء لا يستطيع أن يظل عمره يعود المرضى، ولا أحد غير المرضى، هناك حياة أخرى غير هذه.» - «وما يمنعك أن تحيا هذه الحياة الأخرى؟» - «هذه مسألة فيها بعض التعقيد والإشكال.» - «وما وجه الإشكال فيها؟ إنك شاب جميل معافى البدن، فماذا تبغي فوق هذا؟»
فقال نوفيكوف بتهكم خفيف: «هذا لا يكفي في رأيي.»
فضحك سانين وقال: «لا يكفي؟ إني أراه حظا عظيما.» - «ولكنه لا يكفيني» قالها ضاحكا بدوره.
وكان من الجلي أنه ارتاح إلى ما قاله سانين عن صحته وقسامته على أنه استحيا كالفتاة.
فقال سانين وكأنه يفكر: «ينقصك أمر واحد.» - «وما هذا؟» - «صحة الإدراك للحياة. إن الملل يجثم على صدرك. ولو أن ناصحا أشار عليك مع ذلك أن تنفض نعلك من هذا المكان وأن تخرج إلى الدنيا الرحيبة لأشفقت أن تفعل.» - «وكيف أخرج؟ كمتسول؟» - «نعم حتى كمتسول! إني كلما نظرت إليك قلت لنفسي: هذا رجل يستهين في سبيل إيتاء الدولة الروسية دستورا بأن يسجن في قلعة شلوسلبرج
1
بقيمة عمره وبأن يعقد كل حقوقه وحريته كذلك. ومع ذلك فما هو والدستور؟ وماذا يجنيه منه؟ أما إذا كانت المسألة مسألة تحول عن أسلوب ممل من الحياة وذهاب إلى جهات أخرى طلبا لمصالح ومتع أخرى راح يسأل نفسه: كيف أرتزق؟ ألست على كل صحتي وقوتي عرضة للأذى إذا لم يكن لي مرتب معين وإذا لم أوفق لذلك إلى الزبدة إلى جانب الشاي وإلى قمصان الحرير والياقات الصلبة وسائر ما هو من هذا بسبيل؟ لعمري إن الأمر مضحك!» - «لست أرى في الأمر شيئا مضحكا على الإطلاق، فإن المسألة في الحالة الأولى مسألة قضية، فكرة، أما في الثانية ...» - «ماذا؟» - «لا أدري كيف أعبر عما أريد» وعالج نوفيكوف أصابعه.
فقال سانين مقاطعا: «تأمل الآن! هذه طريقتكم أبدا في الفرار من الموضوع. ولن أصدق أبدا أن الشوق إلى الدستور أشد لحاجة في نفسك من الشوق إلى الانتفاع بحياتك على أتم وجه.» - «هذه مسألة متنازعة. وقد يكون الأمر كما ذكرت.»
فلوح سانين بيده تلويح الضجر وقال: «لا تقل لي! لو أن رجلا قطع أصبعك لآلمك الأمر أكثر مما يؤلمك لو أنه كان أصبع روسي آخر. هذه حقيقة. أليس كذلك؟» - «أو أنانية» يريد نوفيكوف أن يتهكم فيخرف. - «ربما. ولكنها الحقيقة على كل حال. ومع أنه ليس في روسيا ولا في كثير غيرها دستور ما، بل ليس فيها أضأل دليل على وشك ميلاد الدستور- فإن حياتك المملة هي التي تقيمك وتقعدك لا عدم وجود الدستور. وأقول لك أكثر من ذلك» وهنا لمع في عينه بريق السرور «إنك مكروب - لا من جراء حياتك بل لأن ليدا لم تمل إليك بالحب بعد، والآن أليس الأمر كما أقول؟» «أي هذيان هذا؟» وصار وجه نوفيكوف كقميصه حمرة وبلغ من ارتباكه أن الدموع وثبت إلى عينيه الفاترتين الرقيقتين. - «كيف ترى قولي هذيانا وأنت لا ترى غير ليدا في الدنيا؟ إن الرغبة فيها مسطورة بأحرف جليلة على جبينك.»
فاضطرب نوفيكوف اضطرابا محسوسا وأخذ يسرع في خطواته جيئة وذهوبا، ولو أن امرءا غير أخيها كلمه على هذه الصورة لتألم أبلغ الألم، ولكن هذه الكلمات من فم سانين أذهلته. والواقع أنه لم يكد يفهم ما يقول في أول الأمر.
فتمتم قائلا: «اسمع إما أنك تتكلف أو ...» - «أو ماذا؟» وابتسم.
فلوى نوفيكوف وجهه وهز كتفيه وصمت. وكان الذي جرى في ذهنه غير التكلف هو أن يعد سانين رجلا مستهترا خبيثا، غير أنه لم يستطع أن يصارحه بهذا الخاطر إذ كان منذ أيام الدراسة في الكلية يخلص له الحب ويصدقه إياه، ومحال أن يكون نوفيكوف قد اختار لصداقته امرء سوء. وكان وقع هذا الكلام كريها مذهلا، وأوجعته الإشارة إلى ليدا، ولكنها كانت معبوده فلا يسعه أن يحس الغضب لأن سانين ساق ذكرها وسره هذا، ولكنه آلمه كأن يدا متقدة أمسكت بقلبه وضغطت.
وصمت سانين قليلا وهو مبتسم منشرح ثم قال: «أتمم كلامك. فلست أتعجلك!»
فظل نوفيكوف يجيء ويروح كما كان مجروح النفس لا شك في ذلك. ودخل في هذه اللحظة الكلب يعدو وحك جسمه بركبتي سانين كأنما يريد أن يرى الناس مبلغ سروره هو الآخر فلاطفه سانين وهو يقول: «يا لك من كلب طيب!»
وحاول نوفيكوف أن يجتنب اتصال الحديث وأشفق أن يعود إليه سانين وإن كان أحب موضوع إليه وألذه وأنداه، وكل ما لا شأن له ب«ليدا» عبث عنده لا يطاق.
ثم راح يسأل سانين عفوا «وأين ليدا بتروفنا؟» وإن كان مع ذلك يكره أن يلقي السؤال البارز في ذهنه. - «ليدا؟ وأين يمكن أن تكون؟ تتنزه مع الضباط حيث كل الفتيات في هذه الساعة من النهار.»
فسودت الغيرة وجه نوفيكوف وهو يقول: «كيف تنفق فتاة مثلها براعة وتهذيبا وقتها مع هؤلاء الحمقى الفارغي الرءوس؟»
فقال سانين باسما: «يا أخي، إن ليدا فتاة جميلة موفورة الصحة مثلك بل هي فوق ذلك. إذ كانت قد أوتيت ما ينقصك - أعني الرغبة الحادة في كل شيء وهي تريد أن تعلم كل ما يعلم وأن تجرب كل أمر - هذه هي آتية وما عليك إلا أن تنظر إليها لتفهم هذا. أليست بالله جميلة؟»
وكانت ليدا أقصر من أخيها وأجمل، وعليها من العذوبة ولين القوة فتنة تميزها، وفي عينيها السوداوين نظرة شامخة، ولصوتها الذي تباهي به رنة موسيقية ملأى. فأقبلت على مهل تخطر برشاقة وإحدى يديها ممسكة بثوبها السابغ، وأقبل من بعدها ضابطان شابان. - «من الجميل؟ أهو أنا؟»
وأشاعت في الحديقة سحر صوتها وجمالها وصباها.
ومدت إلى نوفيكوف يدها، وعينيها إلى أخيها وكانت أبدا في حيرة من أمره لا تدري أجاد هو أم هازل.
وقبض نوفيكوف على يدها واضطرم وجهه، ولكن ليدا لم تلمح انفعاله وكانت قد ألفت منه نظرة الاحترام والحياء التي لم تضايقها.
وقال أجمل الضابطين وهو ناصب قامته كالجواد المتفحل: «عم مساء فلاديمير بتروفتش (سانين).»
وكان سانين يعلم أنه سارودين وأنه كابتن في فرقة الفوارس وأنه ألح عشاق ليدا.
وكان صاحبه «الملازم» تاناروف يعد سارودين مثال الجندي ويحكيه في كل شيء ويضرب على قالبه في كل أمر، وكان صموتا ليس له رشاقة سارودين ولا قسامته.
فقال سانين مجيبا أخته في رزانة: «نعم أنت!» - «إني لجميلة لا شك! ولقد كان ينبغي لك أن تقول إن جمالي لا سبيل إلى وصفه.»
وضحكت جذلة وهوت إلى كرسي وهي ترشق أخاها سانين بعينيها. ورفعت ذراعيها وبدت بذلك معالم صدرها الجميل، وأخذت تخلع قبعتها فسقط دبوس طويل على الحصى فهدل شعرها ونقابها، فصاحت بالملازم الصموت بصوت أجش: «أندريه بافلوفتش! أعني.»
وتمتم سانين كمن يفكر بصوت عال وعينه مصوبة إلى أخته: «نعم إنها جميلة.»
فمالت إليه ليدا بطرفها في حياء وقالت: «إننا كلنا حسان.»
فضحك سارودين عن ثناياه الناصعة البراقة وقال: «ما هذا؟ حسان!! ها ها! لسنا نعدو أن نكون كالإطار يظهر وضاءة جمالك الباهر.»
فقال سانين دهشا: «أقول يا لها من فصاحة!»
وكانت في صوته نبرة خفيفة من التهكم.
فنطق تاناروف الصموت وقال: «إن ليدا بتروفنا تحيل الغبي فصيحا.» وكان يساعدها على نزع قبعتها فهدل شعرها فادعت الغيظ وهي ماضية في ضحكها.
وقال سانين «ماذا؟ وأنت أيضا فصيح؟»
فهمس نوفيكوف في خبث ونفسه مرتاحة: «دعهم يتفصحون!»
وقطبت ليدا جبينها لأخيها وكأنما كانت عيناها السوداوان تقولان له بأصرح عبارة «لا تحسب أني عاجزة عن استبطان هؤلاء النفر، إنما أبغي أن أمتع نفسي، وما أنا بالورهاء الحمقاء وإني لأدري ما أنا فيه.»
فابتسم لها سانين.
وتم أخيرا نزع القبعة. ووضعها تاناروف في تؤدة ووقار على المنضدة، ولكن ليدا صاحت به مداعبة مظهرة الحنق: «أندريه بافلوفتش! انظر! انظر ماذا صنعت بي! لقد أفسدت شعري فاختلط وسأضطر أن أدخل البيت لأصلحه.»
فقال تاناروف مضطربا متلعثما: «إني آسف جدا.»
وهمت ليدا وجمعت ذلاذل ثوبها وعدت ضاحكة وعيون الرجال تتعقبها، وأحسوا لما خفيت عن أنظارهم كأنما خلصت أنفاسهم واستراحوا من ذلك الشعور العصبي بالتقيد الذي يعانيه الرجال عادة في حضرة فتاة جميلة.
وأشعل سارودين سيجارة وجعل يدخنها بالتذاذ واضح، وكان المرء يحس إذا سمعه يتكلم كأنما عادته أن يحدو الحديث، وإن ما يجري بذهنه يخالف ما يجري به لسانه وقال: «لقد كنت أحاول أن أقنع ليدا بتروفنا أن تدرس الغناء درسا جديا فإن مستقبلها مضمون ما دام لها هذا الصوت.»
فقال نوفيكوف مشمئزا: «تالله ما أبدعها من مهنة!» وأشاح بوجهه.
فسأل سارودين مستغربا ونحى السيجارة عن فمه: «أي ضير في ذلك؟»
فرد عليه نوفيكوف وقد حمي فجأة: «ما هي الممثلة؟ إنها ليست إلا مومسا!»
ومزقت قلبه الغيرة وقطع نياطه ما تصوره من منظر هذه الفتاة التي يشتهي جثمانها إذ تبدو أمام سواه من الرجال في ثوب فتان يكشف عن مفاتنها ويهيج عواطفهم،
فقال سارودين رافعا حاجبيه: «لا شك أنك تذهب إلى أبعد مما يجب.»
وكانت نظرة نوفيكوف كلها حقدا وبغضا وكان يرى في سارودين لصا ينوي أن يخطف عشيقته وأمضه - فضلا عن هذا - حسن وجهه فقال: «كلا ليس في قولي تجاوز للحد. وتصور بروز المرأة على الملعب كاسية إلا أنها عارية - حاسرة في بعض الأدوار الشيقة عن مفاتنها الشخصية لأولئك النظارة الذين لا يلبثون أن يزايلوا المكان بعد ساعة أو نحوها كما ينهضون عن مومس بعد أن ينقدوها أجرها المعتاد! الحق إنها مهنة فاتنة!»
فقال سانين: «يا أخي، إن كل امرأة تحب أن يعجب الناس بمحاسنها الخاصة.»
فهز نوفيكوف كتفيه متململا وقال: «ما أخشن هذا القول وأسخفه!»
فقال سانين: «ليكن خشنا أو غير خشن. إنه الحق على كل حال وأحر «بليدا» أن يكون لظهورها على الملعب أعمق وقع. وإنى لأشتاق أن أراها ثم ...»
وأحسوا كلهم بالقلق وإن كان هذا الكلام قد أثار في نفوسهم رغبة غريزية في الاستطلاع.
ولما كان سارودين يعد نفسه أذكى من زملائه وأحزم فقد بدا له أن يبدد جو الارتباك الغامض الذي اكتنفهم فقال: «وماذا تظنون الفتاة حقيقة أن تصنع؟ أتتزوج؟ أم تأخذ في نهج دراسي أم تدع مواهبها تأسن؟ إن هذا يكون جريمة ضد الطبيعة التي جادت.»
فقال سانين ولم يخف تهكمه: «آه إن فكرة هذه الجريمة لم تخطر لي قبل هذه الساعة.»
وضحك نوفيكوف ضحكة خبيثة، ورد على سارودين متوخيا الأدب: «لماذا تعدها جريمة؟ لأن تكون المرأة أما صالحة أو طبيبة خير ألف مرة من أن تكون ممثلة.»
فقال تاناروف محنقا: «كلا.»
فسألهم سانين: «ألا ترون هذا النوع من الحديث مملا؟»
ولكن سؤاله ضاع في نوبة سعال، وكان الواقع أنهم جميعا يعدون هذه المناقشة مدعاة للضجر وهي بعد لا ضرورة إليها، على أنهم مع هذا ساءهم قول سانين فلزموا صمتا بغيضا.
ثم ظهرت ليدا وأمها ماريا إيفانوفنا على الشرفة. وكانت ليدا قد سمعت آخر ما نطق به أخوها وإن لم تدر ما يشير إليه، فقالت وهي تضحك: «أرى الملال اعتوركم بسرعة فلنمض إلى النهر فإنه الساعة رائق.»
ومشت أمام الرجال وقوامها الأنيق يخطر قليلا وفي عينها نظرة مبهمة يخيل إليك أنها قائلة بها شيئا أو واعدة بشيء.
وقالت أمها: «تمشوا إلى وقت العشاء.» فصاح سارودين: «يسرني ذلك.» وعرض على ليدا ذراعه.
وقال نوفيكوف متهكما: «أرجو أن تسمحوا لي بمرافقتكم.»
ولكن وجهه كانت عليه سمات من يهم بالبكاء.
فقالت ليدا: «ومن ذا يمنعك؟.»
وأرسلت إليه نظرة باسمة عن كتفها.
وقال سانين: «نعم اذهب أنت الآخر. وقد كنت أحب أن أرافقكم لولا أنها مقتنعة بأني أخوها.»
فاضطربت ليدا وأسرعت ناظرة إليه وأرسلت ضحكة قصيرة عصبية.
وبدا على ماريا إيفانوفنا الامتعاض وقالت: «لماذا تتكلم على هذا النحو السخيف؟ أظنك تحسبه أسلوبا مبتكرا؟»
فقال سانين: «الحقيقة أني لم أفكر في هذا على الإطلاق.»
ونظرت إليه أمه وهي مذهولة. وكانت لا تفهم ابنها ولا تعرف أذاهب هو إلى الجد أم يقصد إلى الدعابة. ولا تدري فيم يفكر وماذا يحس على حين ترى الناس المفهومين غيره يفكرون ويحسون مثلها. وعندها أن الرجل يجب أن يفكر ويحس ويعمل كما يفكر ويحس ويعمل غيره من أنداده المماثلين له من حيث المنزلة الاجتماعية والعقلية. ومن رأيها كذلك أن الناس ليسوا رجالا متمايزى الشخصيات والخصائص وإنما ينبغي أن يصبوا جميعا في قالب واحد عام، وشجعتها البيئة على اعتناق هذه العقيدة وقررتها في نفسها، فذهبت إلى أن التربية من شأنها أن تجعل الناس فريقين لا ثالث لهما: أصحاب العقول والجهلاء. وللفريق الثاني أن يحتفظ بشخصيته إذا شاء، ولكن هذا مجلبة لامتهان الآخرين. وأول الفريقين ينقسم إلى طوائف ولكن آراءهم لا تطابق صفاتهم الشخصية بل مراكزهم الاجتماعية، ومن هنا كان كل طالب ثوريا، وكل موظف مدنيا، وكل فني ملحدا، وكل ضابط طالب رتبة، فإذا حدث مصادفة أن طالبا مال إلى مبادئ المحافظين، أو أن ضابطا صار فوضويا، فلا بد أن يعد هذا أمرا شاذا باعثا على أشد العجب بل مستنكرا. وإذا ذهبنا نعتبر سانين وأصله وتربيته رأينا أنه كان ينبغي أن يكون على خلاف ما هو، ولذلك أحست ماريا إيفانوفنا - مثل ليدا ونوفيكوف وسائر من اتصل به - أنه خيب الأمل فيه. ولم يفت غريزة الأم ما يقع في نفوس الناس من ابنها فتألمت.
ولم يكن سانين يجهل ذلك وكان يود لو طمأنها، غير أنه لم يدر كيف يعالج ذلك مبتدئا. وخطر له أولا أن يرائي ويدعي المكذوب من العواطف ليهدأ روعها ولكنه لم يفعل شيئا سوى أن ضحك.
ثم قام وخرج وظل برهة في سريره مستلقيا يفكر وخيل إليه كأنما يريد الناس أن يحيلوا الدنيا ثكنة عسكرية خاضعة لقائمة من القواعد والأصول المجهولة للقضاء على الشخصية أو يجعلوها طوع قوة ما غامضة عتيقة.
وأخب به التفكير وأوضع حتى تناول المسيحية ومصيرها ولكنه مل هذا الشأن حتى أخذه النوم ولم يستيقظ إلا بعد أن حال المساء ليلا حالكا.
ولاحظته أمه وهو يخرج وزفرت هي أيضا واستغرقها الفكر وحدثت نفسها أن سارودين يتحبب إلى ليدا خاطبا ودها، وتمنت أن يكون الأمر جدا وقالت لنفسها: «قد بلغت ليدا العشرين، وسارودين رجل حسن على ما يظهر، وقد سمعت أنه سيعطي قيادة في هذا العام - نعم إنه غارق في الدين - ولكن ... لماذا رأيت ذلك الحلم الشنيع؟ وإني لأدري أنه خاطر سخيف غير أني لا أستطيع أن أخلي منه رأسي!»
وكان الحلم الذي رأته قد بدا لها في نفس اليوم الذي دخل فيه سارودين البيت لأول مرة، فخيل إليها أنها رأت ليدا في ثياب بيضاء تسير في مروج خضراء متألقة الأزاهير.
وجلست ماريا إيفانوفنا على كرسي وثير وأسندت رأسها إلى كفها كما تفعل العجائز، وأتأرت نظرها إلى السماء المظلمة وساورتها الخواطر السوداء وعذبتها ولم تدع لها راحة وأحست شيئا مبهما أثار مخاوفها وأزعجها.
هوامش
الفصل الثالث
كان الظلام قد خيم لما انقلب القوم عائدين من الحديقة. وكانت أصواتهم الصافية الجذلة تدوي في الغسق اللين الذي اكتنف الحديقة، فجرت ليدا إلى أمها ضاحكة متألقة الوجه وحملت معها طيب النهر مشوبا بأرج جمالها وريا شبابها الغض تضوعه رفقة المعجبين ومصاحبة المفتونين.
وصاحت بأمها مداعبة لها وجرتها معها: «العشاء يا أماه! هات لنا العشاء! وفي خلال ذلك يغنينا فيكتور سرجيفتش.»
فخرجت ماريا إيفانوفنا لتهيئ العشاء ونفسها تحدثها أن القدر لا يسعه على التحقيق أن يدخر غير السعادة لفتاة جميلة ساحرة مثل ابنتها ليدا.
ومضى سارودين وتاناروف إلى البيانو في حجرة الاستقبال. واطرحت ليدا في فتور وكسل على كرسي هزاز على الشرفة.
وجعل نوفيكوف يروح ويجيء صامتا على أرض الشرفة ويخالس النظر إلى وجه ليدا وصدرها الناضج المكتنز وقدميها الصغيرتين في حذائهما الأصفر وساقيها الرشيقتين، وهي في غمرة من سحر الحب الأول وسطوته لا تكترث إليه ولا تلتفت إلى لحظاته، فأغمضت جفنيها وابتسمت لما يطوف برأسها من الخواطر.
وكان الصراع القديم دائرا في صدر نوفيكوف: يحب ليدا ولا يدري ما شعورها نحوه، ويخطر له أحيانا أنها تحبه ويهجس بقلبه أحيانا أخرى أنها لا تعبأ به وإذ خال الجواب «نعم تحبك» قال لنفسه: ما أحلى وأسهل أن يؤاتيه هذا الجسم النقي اللين. وإذا كان «لا» فيا له من خاطر بغيض بشع! وراح تغضبه شهوته وذهب يعد نفسه نذلا غير أهل لليدا.
ولما أنضته هواجسه آلى أن يستهدي الحظ. «إذا دست بقدمي اليمنى على آخر مربع خطبتها لنفسي وإذا دست بقدمي اليسرى ف ...» وجبن عن التفكير فيما يحدث في هذه الحالة.
وداس المربع الأخير بقدمه اليسرى! فتصبب العرق البارد ولكنه لم يلبث أن طمأن نفسه وهون الخطب عليها. «يا لها من سخافة! لقد أشبهت العجائز! والآن - واحد، اثنان، ثلاثة - في الثالثة أذهب إليها وأكلمها، نعم ولكن ماذا أقول؟ هذا لا يهم فلأمض! واحد. اثنان. ثلاثة! كلا! بل ينبغي أن يكون العد ثلاث مرات! واحد، اثنان، ثلاثة! واحد، اثنان ...»
والتهب ذهنه وعصب ريقه وبلغ من عنف دقات قلبه أن ركبتيه تخاذلتا وارتعشتا.
وصاحت به ليدا وفتحت عينيها: «لا تخبط الأرض كذلك! إني لا أسمع شيئا!»
في هذه اللحظة فقط أدرك نوفيكوف أن سارودين يغني. وكان الضابط الفتى قد اختار أغنية قديمة مطلعها:
أحببتك مرة!
وهل يسعك أن تنسي؟
وما زال الحب يلعج قلبي
ولم يكن غناؤه قبيحا ولكنه كان كأحداث الفن يعالج الأداء بالمبالغة في تخريج الأنغام.
ولم يلف نوفيكوف ما يلذه في هذا العمل فسألها بمرارة غير مألوفة: «ما هذا؟ أأغنية من تأليفه؟»
فقالت بحدة: «كلا! لا تقلقنا من فضلك. اجلس. وإذا كنت لا تحب الموسيقى فاذهب وانظر إلى القمر!»
وكان القمر في هذه اللحظة يصعد من وراء قمم الأشجار السوداء - كبيرا مستديرا متوهجا - ولمست أشعته اللينة الدرج الحجري وامتدت إلى ثوب ليدا واستراحت إلى وجهها الباسم المفكر وكانت الظلال في الحديقة قد تكاثفت وصارت لها جهامة ظلال الغاب وعمقها.
فتمم نوفيكوف: «أنت عندي خير من القمر.» ثم لنفسه: «إنها لكلمة سخيفة!»
فاستضحكت ليدا وقالت: «يا له من إطراء خشن!.»
فقال باكتئاب: «لست أحسن الإطراء.» - «حسن. إذن فاجلس واستمع.» وهزت كتفيها متضايقة.
ومضى سارودين يغني:
ولكنك لا تعبأين بي فلماذا أحزنك بهمومي
وكانت أنغام البيانو تدوي فضية الرنة في جوانب الحديقة الخضراء الرطبة وأخذ ضوء القمر يزداد تألقا والظلال سوادا.
ومضى سانين إلى شجرة الزيزفون وجلس في ظلها وهم أن يشعل سيجارة، ولكنه وقف فجأة وجمد كأنما سحره سجو الليل الذي زاد في سكونه البيانو وذلك الصوت الطري الفتي ولم يزعجه.
وقال نوفيكوف مسرعا كأنما ينبغي أن لا تفلت هذه اللحظة: «ليدا بتروفنا!»
فقالت وهي تلحظ الحديقة والقمر والأغصان الحالكة بادية تحت قرصه الفضي: «ماذا؟» - «لقد طال انتظاري - أعني أريد أن أقول لك شيئا.»
فأمال سانين رأسه مصغيا.
وسألت ليدا وهي غائبة الذهن: «أي شيء؟»
وكان سارودين قد فرغ من أغنيته ثم عاد يغني بعد فترة وكان يعتقد أن له صوتا باهر الجمال وكان يحب أن يسمعه.
وأحس نوفيكوف أن وجهه يحمر ثم يمتقع كأنما يوشك أن يغشى عليه ثم قال: «إني - اسمعي يا ليدا بتروفنا - هل تقبلين أن تصبحي لي زوجة؟»
وكان وهو يتمتم هذه الكلمات يحس أنه كان ينبغي أن يقول شيئا يخالفها وأن عواطفه كان يجب أن تكون غير ذلك أيضا، وما كاد ينطق بها حتى أيقن أن الجواب سيكون «لا» ووقع في نفسه أن أمرا بالغا غاية السخافة سيحدث.
فسألته ليدا: «زوجة من؟»
ثم ما عتمت أن صبغ وجهها الخجل فنهضت نهوض من يهم بالكلام ولكنها لم تقل شيئا. وانصرفت عنه بوجهها وهي مرتبكة فاستقبلها القمر بنوره وقال نوفيكوف: «إني أحبك!»
ولم يعد القمر يضيء في عينه وأخذ بمخنقه النسيم وشعر كأن الأرض ستنشق تحت قدميه ثم قال: «لست أحسن إلقاء الخطب - ولكن - هذا لا يهم - إني أحبك جدا.»
ثم حدث نفسه: «أأقول جدا؟ لكأني أحدثها عن القشدة المثلجة!»
وأخذت ليدا تعبث وهي مضطربة بورقة صغيرة هوت من الشجرة إلى يديها وحيرها ما سمعت إذ كان غير متوقع ولا طائل تحته. هذا إلى أنه أشعرها إحساسا جديدا من الكلفة البغيضة بينها وبين نوفيكوف الذي كانت تنزله منذ صباها منزلة القريب وتحبه على هذا الاعتبار فقالت: «لا أدري ماذا أقول؟ إني ما فكرت في هذا قط!»
فأحس نوفيكوف ألما وفتورا يعتوران قلبه كأنما سيكف عن الخفقان ونهض مصفرا وتناول قبعته.
وقال وهو لا يكاد يسمع صوته وتلوت شفتاه المرتجفتان عن ابتسامة لا معنى لها: «عمي مساء.» - «أذاهب أنت؟ عم مساء.»
وضحكت ضحكة عصبية ومدت يدها فصافحها نوفيكوف مسرعا وسار دون أن يغطي رأسه إلى الحديقة، ولما بلغ الظل وقف جامدا وأمسك رأسه بكلتا يديه وخاطب نفسه: «رب! لقد قضيت لي مثل هذا الحظ! أأقتل نفسي؟ كلا! هذه سخافة أأقتل نفسي؟»
ودار بذهنه كل خاطر ضال غامض بمثل خطف البرق، وأحس أنه أشقى الناس وأذلهم وأسخفهم.
وأراد سانين أن يناديه ولكنه رد نفسه واقتصر على الابتسام مرتئيا أن من الخرف أن يمزق نوفيكوف شعره وأن يبكي لأن امرأة يشتهي جسمها لم تشأ أن تبذله له، وسره في الوقت نفسه أن أخته الجميلة لا تحفل بنوفيكوف.
وظلت ليدا لحظة وهي جامدة في مكانها. وكان خيالها الأبيض في ضوء القمر قيد لحظ سانين.
ثم خرج سارودين من الحجرة المضاءة إلى الشرفة.
وكان سانين يسمع صوت مهمازه بوضوح.
وظل تاناروف في الغرفة يوقع لحنا شجيا عتيقا جعلت أنغامه المملة تسبح في الجو.
ودنا سارودين من ليدا ولف ذراعه بلطف وحذق حول خصرها.
ورآهما سانين يلتصقان حتى صارا شخصا واحدا يترنح في الضوء الغائم. وهمس سارودين في أذنها: «ما بالك تفكرين؟»
والتمعت عيناه لما لامست شفتاه أذنها اللطيفة الجميلة.
وشاع في نفس ليدا الطرب والخوف معا ودبت في عودها هزة كانت تحسها كلما عانقها سارودين. وكانت لا يخفى عنها أنه دونها ذكاء وتهذيبا وأنه لا قبل له بالاستبداد بها والغلبة عليها، غير أنها في الوقت نفسه سرها وأفزعها أن تدع هذا الشاب الوسيم القوي يلامسها. وكأنها تنظر إلى هاوية سحيقة ملتاثة الأمر وحدثتها نفسها أنها تستطيع أن تلقي بنفسها فيها إذا شاءت فقالت بصوت لا يكاد يسمع: «سيروننا.»
ولم تشجعه على احتضانها ولكنها على هذا لم تنفر منه فهاجه منها هذا الإمكان السلبي.
فقال: - «كلمة واحدة - لا أكثر» - وشدها إلى صدره وعروقه تنبض بها الرغبة: «هل توافينني؟»
فارتجفت ليدا ولم تكن هذه أول مرة سألها ذلك، وكانت كل مرة تحس رجفات غريبة تسلبها إرادتها.
فسألته بصوت خافت وهي تحلم إذ تنظر إلى القمر: «لماذا؟» - «لماذا؟ لتكوني قريبة مني ولأراك وأحدثك. آه إنه لعذاب؟ نعم يا ليدا إنك تعذبينني. والآن هل توافينني؟»
قال ذلك وجذبها إليه بقوة الرغبة الجامحة به وكأنما لامسها منه حديد ملتهب سرت في أعضائها وقدته، وكأنما لفها ضباب كثيف حالم ضاغط، فتوتر جسمها اللين المرن ثم مالت إليه والسرور والخوف يرعشان منه. وعاد كل ما حولها وقد تغيرت وجوهه فجأة تغييرا عجيبا. ولم يعد القمر قمرا بل دنا فحاذى مظلة الشرفة وصار كأنما هو معلق فوق بساط الروضة. وحالت الحديقة عما عهدته وتبدلت أخرى غامضة مستبهمة زحفت إليها والتفت بها. وهاج ذهنها وتراجعت وتخلصت بفتور عجيب من عناق سارودين وتمتمت بصعوبة وقد جفت شفتاها وابيضتا: «نعم.»
وانقلبت إلى البيت بخطى غير ثابتة وأحست أن شيئا مرعبا إلا أنه مغر يجرها إلى حرف الهاوية. وقالت لنفسها وهي تفكر: «هذا كلام فارغ؟ وليس الأمر كذلك. إنما أمزح. ويلذ لي هذا ويسليني أيضا لا أكثر ولا أقل.»
وهكذا حدثت نفسها لتقنعها وهي تواجه المرآة المظلمة في غرفتها. ولم تر في صقالها إلا ظلها الأسود قبالة الباب الزجاجي لغرفة الطعام المضيئة. ورفعت ذراعيها في بطء فوق رأسها وتمطت في كسل وفتور وجعلت وهي تفعل ذلك تتأمل حركات عودها اللين وتحس لذتها.
أما سارودين فإنه لما صار وحده اعتدل ونفض عن أعضائه فتورها، وكانت عيناه مفتوحتين كمغمضتين وابتسم فالتمعت ثناياه تحت شاربه اللطيف.
وكان الحظ قد عوده أن يؤاتيه وتوقع في هذه المرة أن ينال من المتع واللذات ما هو أعظم في المستقبل القريب.
وتمثلت لعينه ليدا وجمالها المثير ساعة تبذل له منه وعصفت به هذه الصورة فأحس لها ألما جثمانيا.
وكانت ليدا في مبدأ الأمر - إذ هو لا يزال يتودد إليها وحتى بعد ذلك لما أذنت له أن يعانقها ويقبلها - لا تنفك تشعره شيئا من الخوف. وكان يطالعه من عينيها السوداوين - وهو يمسح بيده شعرها - شيء عجيب لا يفهمه كأنما تحتقره في سريرتها.
وكانت أبدا تبدو له أبرع من غيرها من النساء اللواتي لم يشعر في حضرتهن إلا بأنه أسمى منهن وأرقى. وهي من الاختلاف عنهن ومن الشموخ بحيث كان يتوقع إذا قبلها أن تلكمه بجمع يدها على أذنه.
فكادت فكرة احتيازها تبيت مزعجة ومرت به أحيان اعتقد فيها أنها إنما تعبث به، فكان موقفه في نظره غاية السخافة والحمق.
أما اليوم بعد هذا الوعد الذي قطعته له مترددة متلعثمة كغيرها من النساء فقد صار على يقين من قوته ومن وشك الظفر، ولم يبق عنده من ريب في أن الأمور ستجري على ما يحب. واختلط عنده الاحساس الناشئ عن انتظار مواقعة اللذات بشيء من الكيد. هذه الفتاة الطاهرة المهذبة المزهوة ينبغي أن تبذل له نفسها كما فعل سواها وسيستمتع بها وفق هواه كما استمتع بغيرها.
ومثلت لعينه مناظر مما صورت الشهوة والانحطاط: وصارت ليدا في خياله - عارية متهدلة الشعر حول عينين ما من سبيل إلى سبر غورهما - الصورة البارزة فيما حرك أشباحه قصف الشهوة والقسوة المضطرب. ثم بدت له فجأة على أوضح صورة منطرحة على الأرض وسك مسمعه هزم السوط وأخذت عينه خطا داميا على جسمها العريان اللين الخاضع، فنبض رأسه لهذه الصورة وتطرح متراجعا ورقصت لعينيه شرارات نار، وعادت وطأة الفكرة أثقل مما يطاق وارتعشت يده وهو يشعل سيجارة وتلوت أعضاؤه القوية تلوي التشنج ثم دخل الغرفة.
وكان سانين لم يسمع شيئا إلا أنه رأى وفهم كل شيء فتبعه وفي نفسه مثل الغيرة وقال لنفسه: «أمثال هذا الوحش يمالئهم الحظ دائما. ماذا ترى معنى هذا كله؟ ماذا يهمان به هو وليدا؟»
ولما جلسوا إلى العشاء كانت ماريا إيفانوفنا غير مرتاحة على ما يظهر ولم يقل تاناروف شيئا - كعادته - ولكنه كان يتمنى أن يكون سارودين وأن تكون له عشيقة مثل ليدا تحبه. إذن لأحبها ولكن على طريقة أخرى فإن سارودين - في رأيه - لا يحسن تقدير حسن حظه.
وكانت ليدا ممتقعة صامتة لا تنظر إلى أحد.
أما سارودين فكان جذلا طروبا متحفزا كالوحش استروح فريسته.
وجلس سانين يتثاءب على عادته، وأكل وشرب كثيرا من النبيذ، وكأنما كان يريد أن ينام، ولكن العشاء لم يكد ينتهي حتى أعلن عزمه على مرافقة سارودين إلى مسكنه.
وكان الليل قد أوشك أن ينتصف والقمر يصب ضوءه على رأسيهما، وهما سائران في صمت إلى ثكنة الضابط.
وكان سانين لا يفتأ من حين إلى حين يختلس النظر إلى سارودين ويفكر فيما ينبغي له أيلطمه على وجهه أم لا يلطمه. ثم قال فجأة لما قاربا البيت: «نعم؟ إن في هذه الدنيا كل أنواع الأنذال؟»
فسأله سارودين ورفع حاجبيه: «ماذا تعني بهذا؟» - «إن الأمر كذلك - على العموم - والأنذال أعظم الناس فتنة وأخذا.»
فقال سارودين باسما: «أوتعني ما تقول؟» - «نعم هم كذلك، وليس أبعث على كرب النفس وضيق الصدر ممن يسمونهم الأعفة والفضلاء. ما هو الرجل الفاضل؟ إن كل امرئ يعرف برنامج العفة والفضيلة. وعلى هذا فليس فيه من جديد: ومثل هذه الفضلات العتيقة تسلب المرء كل شخصيته فيقضي حياته في حدود الفضيلة الضيقة المملة. لا تسرق، لا تكذب، ولا تغش، كلا ولا تزن، والمضحك في هذا الأمر أن كل من يولدون سواء! فكل امرئ يسرق ويكذب ويغش ويزني على قدر ما يستطيع.»
فقال سارودين محتجا نازعا إلى التعالي: «ليس كل أحد.» - «نعم. نعم كل إنسان! وما عليك إلا أن تفحص حياة المرء لتعرف ذنوبه. خذ الغدر مثلا. فبعد أن نؤدي ما لقيصر لقيصر ونئوي في سكون إلى فراشنا أو نجلس إلى المائدة نرتكب كل أصناف الغدر.»
فصاح سارودين وبه بعض الغضب: «ما هذا الذي تقول؟» - «إننا نفعل هذا على التحقيق. نؤدي الضرائب ونقضي مدة الخدمة في الجيش. نعم ولكن معنى هذا أننا نؤذي ملايين من الخلق بالحرب وبالظلم اللذين نمقتهما. ونذهب في سكون إلى الفراش، على حين ينبغي لنا أن نبادر إلى إنقاذ من يقضون نحبهم في هذه اللحظة لأجلنا وفي سبيل آرائنا. ونصيب من الطعام أكثر مما بنا حاجة إليه وندع غيرنا يموتون جوعا وكان واجبنا - ونحن رجال فضل وخير - أن نقف حياتنا كلها على خيرهم. وهكذا تجري الأمور والمسألة واضحة. أما النذل - النذل الحقيقي الصميم - فخلق آخر. فهو أولا مخلوق مخلص طبيعي الأحوال.» - «طبيعي؟» - «بلا شك! إنه لا يفعل سوى ما يفعله الرجل بطبيعته - يرى شيئا ليس له، شيئا تميل إليه نفسه، فيأخذه. ويرى امرأة حسناء لا تريد أن تبذل له نفسها فيعالجها بالقوة أو بالحيلة وهذا طبيعي جدا، إذ كانت الرغبة والغريزة التي تتطلب إرضاء النفس من المميزات القليلة بين الإنسان والحيوان. وكلما كان الحيوان أكثر حيوانية كان أقل فهما للذة وأضأل إدراكا لها وأعجز عن نيلها إذ كان لا يعنيه إلا سد حاجاته. ونحن متفقون على أن الإنسان لم يخلق ليتعذب وإن العذاب ليس قبلة المساعي الإنسانية.»
فقال سارودين: «بلا شك.» - «حسن جدا إن اللذة هي غاية الحياة الإنسانية. والفردوس كلمة مرادفة للتمتع المطلق. وكلنا يحلم بفردوس أرضي وليست أسطورة الفردوس بسخافة، وإنما هي رمز أو حلم.»
ومضى سانين في كلامه فقال بعد فترة: «نعم إن الطبيعة، ما أرادت قط أن يكون الإنسان زاهدا. وأعظم الناس إخلاصا وصدق سريرة هم أولئك الذين لا يكتمون رغباتهم، أي أولئك الذين يعدهم المجتمع أنذالا - أناسا مثل - مثلك مثلا.»
ففزع سارودين متراجعا مذهولا ومضى سانين في حديثة متظاهرا بأنه لم يلحظ ما بدر من صاحبه وقال: «نعم مثلك. أنت خير رجل في هذا العالم. أو على الأقل أنت تحسب أنك كذلك. قل لي هل صادفت قط من هو خير منك؟»
فقال سارودين مترددا: «نعم كثيرين.» ولم يكن في ذهنه أضأل فكرة عما يعني سانين ولا كان يعلم هل ينبغي له أن يتظاهر بالسرور أم بالسخط.
فقال سانين: «حسن. سمهم أسماءهم. تفضل.»
فهز سارودين كتفيه كمن هو في شك فقال سانين متهللا: «هاذا أنت قد عجزت! إنك أنت خير الأخيار وكذلك أنا. ومع ذلك فإنا نحن الاثنين لا نرى ما يمنعنا أن نسرق أو ننسج الأكاذيب أو أن نزني - وعلى الخصوص أن نزني.»
فتمتم سارودين وهو يهز كتفيه للمرة الثانية: «يا له من رأي مبتكر.»
فسأله سانين وعلى نبرة صوته ظل خفيف من عدم الارتياح: «أتظن ذلك؟ إني لا أظنه! نعم. الأنذال كما قلت هم أشد من يتصورهم العقل إخلاصا لأنهم لا يرون حدود الدناءة الإنسانية، ويسرني دائما على الخصوص أن أصافح نذلا.»
ولم يكد يقولها حتى وضع يده في يد سارودين وهزها هزا عنيفا وعينه محملقة في وجهه ثم قطب وقال بإيجاز فيه من سوء الأدب ما فيه: «عم مساء.» وانصرف عنه.
وظل سارودين برهة وهو جامد يرقبه ولا يدري على أي محمل يحمل مثل هذا الكلام من سانين، فحار وقلق ثم فكر في ليدا وابتسم: إن سانين أخوها وما قاله صحيح في الواقع. وأخذ يحس نوعا من العلاقة الأخوية به، وقال لنفسه وقد استشعر الرضى عنها: «إنه لرجل ممتع!» كأنما سانين بعض ما يملك. ثم فتح البوابة واجتاز الفضاء المقمر إلى غرفته.
أما سانين فإنه لما بلغ البيت خلع ثيابه واستلقى على فراشه وحاول أن يقرأ «هكذا قال زردشت»
1
وهو كتاب وجده في مكتبة ليدا، ولكن الصفحات الأولى كانت كافية لتزهيده فيه، وهو رجل لا يحرك نفسه مثل هذا الأسلوب المنتفح فبصق ورمى بالكتاب جانبا وما عتم أنه أخذه النوم.
هوامش
الفصل الرابع
كان الكولونيل «نيقولا بجوروفنش سفاروجتش» المقيم بهذه البلدة الصغيرة ينتظر وصول ابنه الطالب بمدرسة الصناعات في «موسكو»، وكان ابنه هذا تحت مراقبة البوليس فطردوه من موسكو لاشتباههم فيه ولظنهم أن بينه وبين الثوريين تواطؤا.
وكان «يوري سفاروجتش» قد كتب إلى أبويه من قبل يبلغهما خبر القبض عليه وسجنه ستة شهور وطرده من العاصمة فتهيأ لأوبته.
ومع أن أباه نيقولا عد الأمر من أوله إلى آخره حماقة صبيانية إلا أنه تألم إذ كان مشغوفا بابنه، فاستقبله فاتحا له ذراعيه واجتنب أن يشير إلى هذا الموضوع المؤلم وكان «يوري» قد قضى يومين كاملين مسافرا في الدرجة الثالثة، ولم تغتمض عيناه لحظة لفساد الهواء، ولما آذاه من كريه الروائح وصياح الأطفال فخارت قواه ولم يكد يحيي أباه وأخته لودميلا «ويسمونها في العادة لياليا» حتى استلقى على فراشه ونام.
ولم يستيقظ إلا مساء والشمس دانية من الأفق. نفذت أشعتها المائلة من زجاج النافذة ورسمت على جدران الغرفة مربعات وردية. وسمع يوري في الغرفة المجاورة صوت الملاعق والأكواب وصافحت أذنه ضحكة لياليا الجذلة وصوت رجل كذلك - لذيذ مصقول لا يعرفه.
وقام في نفسه ساعة استيقظ أنه ما زال في مركبة القطار وسمع ضوضاءه وصوت زجاج نوافذه والركاب في الجانب الثاني، غير أنه لم يلبث أن عرف أين هو الآن فاعتدل في فراشه وهو يتثاءب: «نعم هذا أنا هنا.»
ثم عبس وهو يزج أصابعه في شعره الكثيف الأسود القوي.
ثم خطر له أنه لم يكن ينبغي أن يعود إلى بيته ولقد تركوا له أن يختار مكانا يقيم فيه فلماذا عاد إلى أبويه؟
لم يستطع أن يعلل ذلك.
واعتقد، أو شاء أن يعتقد أنه اختار المكان الذي خطر له. ولكن هذا لم يكن الواقع فإن يوري لم يضطر قط أن يكدح ليعيش، وكان أبوه لا يزال يمده بالمال وقد استهول أن يعيش وحده وبلا مورد بين قوم أغراب. وأخجله هذا الإحساس واستكره أن يعترف به لنفسه.
والآن خطر له أنه أخطأ. ويمكن أن يفهم أبواه حكايته كلها أو أن يكونا رأيا ما في قصته - هذا شيء واضح - وهناك إلى جانب هذا - المسألة المادية والأعوام العديدة الضائعة التي كلفت أباه. ومن شأن هذا أن يجعل من المستحيل حصول التفاهم الودي المتبادل. يضاف إلى ذلك أن الحياة خليقة أن تكون ثقيلة الإملال في هذه البلدة التي لم يرها منذ عامين. وكان يوري يعد أهل البلاد الريفية الصغيرة ضيقي العقول، عاجزين عن أن يدركوا أو يكترثوا لتلك المسائل الفلسفية والسياسية التي يراها الشيء المهم الوحيد في الحياة.
نهض يوري وفتح النافذة وأطل، وكان على طول جدار البيت حديقة زهر صغيرة يانعة من بين أحمر وأصفر وأزرق وقرمزي وأبيض، فكأنها الكليد سكوب
1
ومن ورائها الحديقة الكبيرة الجهمة الممتدة إلى النهر كغيرها من حدائق هذه البلدة وهو يلتمع كالزجاج الخابي باديا من خلال الأشجار.
وكان المساء ساكنا صافيا وخالج يوري اكتئاب غامض، وكان قد طال مكثه وإلفه للمدن الكبيرة المشيدة بالأحجار، ومع أنه يحب أن يتوهم أنه يعشق الطبيعة فإنها لم تجد عليه بشيء: لا السلوى ولا سكون النفس ولا الانشراح، ولم تثر في صدره إلا حنينا مبهما حالما مدنفا.
ودخلت (لياليا) الغرفة وقالت: «آها. لقد قمت أخيرا! وجاء قيامك في حينه.»
وكاد يوري - لثقل إحساسه بقلق مركزه وبشجى النهار - يقضي نحبه. ويضايقه مراح أخته وصوتها الطروب فسألها على غير انتظار: «بأي شيء سرورك هذا؟» - «إنى لا أضجر!»
وفتحت عينيها وضحكت مرة أخرى كأنما أذكرها سؤال أخيها أمرا ممتعا وقالت: «وتصور سؤالك إياي ماذا يسرني؟ أنا لا أعرف السآمة. كلا، وليس عندي متسع من الوقت لهذا.»
ثم قالت بصوت وطيد وقد زهاها ما قالت: «إننا نعيش في أيام فيها من المتعة ما يجعل السآمة ذنبا. وعندي العمال أعلمهم ثم المكتبة تستنفذ شطرا عظيما من وقتي، فقد أنشأنا في غيابك مكتبة عامة وهي سائرة على منوال حسن.»
ولو أن هذا قيل له في أي وقت آخر لبعثه على الاهتمام ولكنه لم يكترث الآن لسبب ما.
وظلت لياليا جادة تنتظر انتظار الطفل ثناء أخيها.
فتمكن أخيرا من أن يقول: «حقيقة؟» فقالت بصوت الراضي المطمئن: «إذا كان هذا كله أمامك فهل يسعك أن تمل!»
فلم يملك يوري أن يقول: «على كل حال أرى كل شيء يضجرني.»
فتظاهرت أخته بالاستياء وقالت: «ما ألطف هذا منك؟ إنه لم تمض عليك ساعتان في المنزل قضيتهما نائما ومع ذلك فقد ضجرت!»
فأجابها بلهجة فيها بعض الشموخ: «إن هذا ليس خطئي ولكنه سوء حظي.»
وظن أن من دلائل الذكاء السامي أن يضجر لا أن يسر.
فقالت متهكمة: «سوء حظك حقيقة! ها ها.»
وداعبته بكفها على خده: «ها ها.»
ولم يفطن يوري إلى أن مزاجه اعتدل وأن صوت لياليا الطروب ومراحها قد أماطا عن نفسه الكآبة التي كان يحسها حقيقة عميقة، ولم تكن لياليا تؤمن بكآبته هذه، ومن أجل هذا لم يقلقها ما قال.
ورفع يوري طرفه إليها وقال وعلى وجهه ابتسامة: «إني لا أعرف الجذل أبدا.»
فضحكت منه «لياليا» كأنما كان قال ما يغري بالاستغراق في الضحك وقالت: «حسن جدا أيها «الفارس ذو الوجه العبوس» إذا لم تكن بالمنشرح فلست به. دعك من هذا وتعال معي لأعرفك بشاب فاتن تعال.»
وهزت يد أخيها وجرته معها وهي تضحك: «قفي. من هذا الشاب الفاتن؟» - «خطيبي.»
قالت ذلك وهي فرحة مضطربة واستدارت بسرعة فانتفخ ثوبها.
وكان يوري يعلم من رسائل أبيه وأخته أن طبيبا شابا نزل بالبلدة وأنه يخطب ودها ولكنه لم يكن يعلم أن خطبتهما صارت أمرا واقعا.
فقال وبه دهشة: «هل تعنين هذا حقا؟»
وخيل إليه أن من بواعث العجب أن يكون لأخته لياليا الصغيرة الحسناء النضرة عاشق وهي تكاد تكون طفلة، وأن توشك أن تصبح عروسا وزوجة. وخالجه العطف على أخته والمرثية لها. فلف ذراعه حول خصرها ومضى معها إلى غرفة المائدة حيث كانت تلتمع آنية الشاي الصقيلة في ضوء المصباح، فألفى بجانب أبيه شابا وثيق التركيب، قوي معارف الوجه مليحها، حاد العينين براقهما إلا أنه ليس بالروسي في سحنته. وكانا جالسين إلى المائدة فوقف الشاب لما أقبل يوري بهيئة المتودد وقال: «قدميني إليه.»
فقالت لياليا متصنعة الوقار المضحك في إيمائها: «أناتول بافلوفتش ريازانتزيف؟»
فأضاف أناتول إلى قولها مازحا بدوره: «وهو ينشد صداقتك وتسامحك.»
فتصافق الرجلان وهما صادقا الرغبة في التآخي، وكان من يراهما يقول إنهما يهمان بأن يتعانقا، ولكنهما كبحا نفسيهما واجتزآ بأن يتبادلا نظرات الود الصريحة.
قال ريازانتزيف لنفسه مندهشا: «وهذا إذن أخوها؟»
فقد كان يتصور أن أخا لياليا القصيرة الجميلة الضحوك لا بد أن يكون قصيرا جميلا ضحوكا مثلها. ولكن يوري كان على عكسها طويلا نحيفا أسمر وإن كان على هذا وسيما حسن الوجه.
ودار في نفس يوري وهو ينظر إلى ريازانتزيف هذا الحديث: «وهذا إذن الرجل الذي يحب المرأة في شخص أختي الصغيرة لياليا النضيرة الجميلة كالفجر في الربيع، يحبها كما أحببت أنا النساء.»
وآلمه لسبب ما، أن ينظر إلى لياليا وريازانتزيف، كأنما أشفق أن يقرأ خواطره.
وأحس الرجلان أن في نفس كل منهما كلاما مهما يجب أن يقوله لصاحبه.
وود يوري لو استطاع أن يسأله: «أتحب لياليا؟ حبا صادقا حقيقيا؟ إن الأمر يكون محزنا بل عارا إذا أنت خنتها فهي نقية الذيل بريئة العهد.»
وإذن لود ريازانتزيف لو يجيبه هكذا: «نعم أحب أختك حبا عميقا. ومن ذا الذي يستطيع ألا يحبها؟ انظر كيف نقاؤها وحلاوتها وفتنتها! وتأمل كيف تحبني! ما أحلى خدها!»
ولكن يوري لم يسأله شيئا وسأله ريازانتزيف: «هل طردت إلى أمد طويل؟»
فكان جواب يوري: «لخمس سنوات.»
وكان أبوه نيقولا يقطع الغرفة جيئة وذهوبا، فلما سمع منه هذا وقف برهة ثم تنبه وعاد إلى سيره بخطى الجندي المتزنة المنتظمة، وكان يجهل تفاصيل نفي ابنه فصدمه هذا النبأ الذي لم يكن يتوقعه، وقال لنفسه: «ترى ما معنى هذا كله؟»
ولم يفت لياليا مدلول هذه الحركة من أبيها وكانت تخشى أن تقع المشادة بينه وبين أخيها فحاولت أن تغير الحديث وقالت لنفسها: «كيف بلغ من حمقي أن أنسى أن أنبه أناتول؟»
ولكن ريازانتزيف لم يكن يدري حقيقة الأمر ولما دعته لياليا أن يتناول بعض الشاي أجابها إلى ذلك ثم عاد إلى مساءلة يوري: «وماذا تنوي أن تصنع الآن؟»
فقطب نيقولا وجهه ولم يزد.
وأدرك يوري معنى صمت أبيه، وقال متحديا له قبل أن يفكر في عواقب جوابه: «لا شيء في الوقت الحاضر.»
فسأله نيقولا ووقف: «ماذا تعني بلا شيء.» ولم يرفع صوته ولكن لهجته كانت تحمل في ثناياها تأنيبا مستورا مؤداه: «كيف تقول مثل هذا الكلام؟ أمكره أنا دائما أن أتركك معلقا بعنقي؟ كيف تنسى أني شيخ هرم، وأنه آن أن يكون لك مرتزق؟ لست أقول شيئا. عش كما بدا لك، ولكن ألا تستطيع أن تفهم؟»
وعلى قدر إحساس يوري بأن أباه على حق فيما يجري بخاطره كان استياؤه فقال وهو محنق: «نعم لا شيء. ماذا تنتظر أن أصنع؟»
وهم نيقولا أن يكر عليه بجواب مؤلم ولكنه لم ينبس ولم يزد على أن هز كتفيه وعاود خطاه المنتظمة من ركن إلى ركن، وكان أحسن أدبا من أن ينازع ابنه في يوم أوبته.
وراقبه يوري بعينين متقدتين وهو لا يكاد يضبط نفسه، فلو سنحت له أضأل فرصة لنازل أباه.
وكادت لياليا تبكي وجعلت تنقل لحظها بين أخيها وأبيها مستعطفة راجية.
وفطن ريازانتزيف أخيرا إلى الأمر، وأدركه العطف على لياليا فحول الحديث إلى مجرى آخر تحويلا ليس فيه حذق ولا خفة.
وزحف الليل بطيئا ثقيلا.
وكان يوري لا يريد أن يعترف بأنه ملوم، إذ كان لا يشايع أباه على أنه لم يكن من شأنه أن يشتغل بالسياسة.
وذهب يعد أباه عاجزا عن فهم أبسط الأشياء لأنه هرم غبي وأخذ يلومه من حيث لا يشعر على شيخوخته وآرائه العتيقة وراح تهيجه منه وتستفزه هذه الآراء.
ولم يلتذ ما طرقه ريازانتزيف من الأحاديث، بل لم يكد يلقي إليه سمعه وجعل يرصد أباه بعين لامعة مظلمة.
ولما جاء وقت العشاء دخل نوفيكوف وإيفانوف وسمينوف.
وكان سمينوف طالبا مصدورا يعيش منذ شهور في البلدة حيث يدرس وهو نحيف دميم ضعيف، وعلى وجهه الذي أدركه الهرم قبل الأوان ظل الموت الزاحف. أما إيفانوف فمدرس، وهو رجل مجتوي طويل الشعر، عريض الكتفين لا تروقك شمائله.
وكانوا يتمشون في الشارع فسمعوا أن يوري عاد فوفدوا لتحيته، وصار المجلس بهم أنيسا وكثر الضحك والمزاح، ودارت على الأكل الكئوس والأقداح وبذهم إيفانوف في هذا الباب.
أما نوفيكوف فإنه في الأيام التالية لخطبته المنحوسة لليدا هدأت نفسه قليلا وخطر له أن تأبي ليدا قد يكون عارضا، وهو على كل حال خطأ تلزمه تبعته، فقد كان ينبغي أن يعدها لمثل هذه المكاشفة، ولما كان يؤلمه مع ذلك أنه يزور أسرة سانين فقد جعل يتوخى أن يلاقي ليدا خارج بيتها - في الطريق أو في منزل صديق له ولها - وجعلت هي ترثي له وتنحي باللائمة على نفسها واندفعت لذلك تبالغ في ملاطفته، فتجدد الأمل في نفس نوفيكوف.
ولما هموا بالانصراف قال نوفيكوف: «ما قولكم في هذا؟ أقترح أن نخرج إلى الدير.»
وهذا الدير قائم على تل غير بعيد من البلدة، وإليه يذهب الناس كثيرا طلبا للنزهة وهو قريب من النهر والطريق إليه حسن.
فارتاحت لياليا إلى الفكرة وحمست لها، وكانت ولوعة بكل أنواع الملاهي من استحمام وتجديف وسير في الغابات وقالت: «نعم لنذهب. نعم بلا شك ولكن متى يكون هذا؟»
فقال نوفيكوف: «لماذا لا نذهب غدا؟»
وسأل ريازنتزيف: «ومن ندعو غيرنا؟»
وسره أن يخرج إلى الهواء الطلق ليهيأ له من بين الأشجار أن يضم لياليا بين ذراعيه وأن يقبلها، وأن يحس أن الجسم الحلو الذي يشتهيه أدنى شيء إليه: «دعونا نفكر. نحن ستة. ما قولكم في شافروف؟»
فسأل يوري: «من يكون هذا؟» - «طالب شاب.» - «حسن جدا. وعلى «لود مللا نيقولايفنا» أن تدعو كارسافينا وأولغا إيفانوفنا.»
فسأل يوري مرة أخرى: «من هذان؟»
فضحكت لياليا وقالت: «سنرى» ولثمت أطراف أصابعها ونظرت إليه كأنما في الأمر سر.
فقال يوري مبتسما: «آها! حسن. سنرى ما سنرى.»
وبعد تردد قال نوفيكوف بغير اكتراث: «ولا بأس من أن ندعو أسرة سانين أيضا.»
فصاحت لياليا: «آه لا بد لنا من ليدا.» ولم يكن ذلك منها عن إيثار خاص لليدا، بل لأنها تعلم حب نوفيكوف لها وتريد أن تدخل السرور على قلبه، وهي سعيدة بحبها تود أن يسعد من حولها مثلها.
فلاحظ إيفانوف بخبث: «إذن يتحتم أن ندعو الضباط كذلك.» - «ماذا يهم؟ لندعهم. فكلما كثر العدد زاد السرور.»
ووقفوا جميعا أمام الباب في ضوء القمر وقالت لياليا: «ما أجمل الليل!»
ودنت من حبيبها وهي لا تشعر وكانت لا تريد أن يفارقها الآن.
فضغط ريازانتزيف ذراعها الدافئ المفتول. وقال: «نعم إنها ليلة بديعة.»
وكان لهذه الألفاظ البسيطة معنى لا يدركه غيرهما.
فقال إيفانوف بصوته الضخم العميق: «ويحكم أنتم وليلتكم. إن النوم يغالبني فعموا مساء يا سادتي.»
ومضى مخترقا للشارع وجعل يطوح بذراعين كذراعي الطاحون.
وتلاه نوفيكوف وسمينوف، وظل ريازانتزيف لحظة طويلة يودع لياليا متخذا من الكلام على النزهة حجة له وعذرا.
ثم قالت لياليا لأخيها بعد أن ودعها حبيبها: «والآن يجب أن نذهب نحن أيضا.»
وأصعدت زفرة أسف على الانكفاء عن الليل المقمر والنسيم المترقرق في حواشي الظلام وكل ما يطلبه جمالها وشبابها.
وذكر يوري أن أباه لم يذهب إلى مخدعه بعد. وخاف إذا هو لقيه ألا يلقيا بدا من الكلام الجارح الذي لا خير فيه.
فقال وعيناه قيد الضباب الأزرق الخفيف حوالي النهر: «كلا لا أريد النوم. وسأتمشى قليلا.»
فقالت له لياليا بصوتها الرقيق الحلو: «كما تحب.»
ومطت أعضاءها وثنت جفونها قليلا كالقطة، ومنحت القمر ابتسامة ودخلت.
ولبث يوري دقائق في مكانه يرصد الظلال الكثيفة التي ترميها المنازل والأشجار، ثم مضى على سمث سمينوف.
ولم يكن سمينوف قد أبعد فقد كان مشيه بطيئا وكان ينحني كلما سعل. وفي أثره ظله يطارده على الطريق المقمر، فأدركه يوري ولم تلبث عينه أن أخذت ما طرأ عليه من التغيير، فقد كان سيمينوف أثناء العشاء يضحك ويمزح، كما لم يضحك سواه، ولكنه الآن يمشي مكتئبا غارقا في نفسه وفي سعلته الجوفاء شيء من اليأس والوعيد، كالداء الذي يخامره فقال بصوت رأى فيه يوري نفورا: «أهذا أنت؟» - «لم أطلب النوم إذا سمحت رافقتك.»
فقال سمينوف بدون احتفال: «نعم. افعل.»
وسأله يوري: «ألا تحس البرد؟» وإنما سأله لأن هذا السعال المزعج نبه أعصابه.
فأجابه متضايقا: «إني دائما بردان.»
وتألم يوري كأنه كان تعمد أن يلمس جرحا داميا. وقال: «هل تركت الجامعة منذ زمن طويل؟»
فلم يجب سمينوف مباشرة وقال بعد برهة: «زمن طويل.»
فشرع يوري يحدثه عن إحساس الطلبة، وما يعدونه جوهريا مهما وكان يتكلم في أول الأمر بهدوء وسكون، ولكنه أرسل نفسه على سجيتها وحمس تدريجيا وأجاد الإعراب عن خواطره.
ولم يقل سمينوف شيئا وإنما أصغى.
ثم أخذ يوري يندب عدم وجود الروح الثورية بين الجماهير، وكان من الواضح الجلي أنه يتألم من ذلك أعمق الألم.
ثم سأله صاحبه: «هل قرأت آخر خطبة ألقاها بيل؟» - «نعم قرأتها.» - «ما قولك فيها؟»
فلوح سمينوف بعصاه تلويح المتضايق، وكان لها رأس ملتو وحاكاه خياله فرفع ذراعا طويلة سوداء ثم وضعها فمثلت لذهن يوري صورة أجنحة سوداء يخفق بها طير جارح ثائر.
ولوح بعصاه وحاكاه ظله.
ورأى سمينوف ذلك في هذه المرة فقال: «انظر! ها هنا ورائي يقف الموت يرصد مني كل حركة! ما أنا وبيل؟ إن هو إلا ثرثارة يهذي في هذا. وسيجيء مائق غيره يهذر عن ذلك. وسواء على هذا وذلك؟ وإذا لم أمت اليوم فسأموت غدا.»
فلم يجب يوري واضطرب وتألم.
ومضى سمينوف في كلامه: «وأنت مثلا تحسب هذا الذي يجرى في الجامعة وما يقوله بيل مهما، ولكن الذي أراه هو أنك إذا أيقنت - كما أنا موقن - أنك ستموت، فلن تكترث لما يقوله بيل أو نيتشة أو تولستوي أو غير هؤلاء.»
وصمت سمينوف وكان القمر لا يزال بريق ضوئه خلف الرفيقين الخيال الأسود يتعقبهما.
ثم قال سمينوف فجأة بصوت آخر هزيل شاك: «إني مقضي علي ... ولو كنت تدري كيف فزعي من الموت ... لا سيما في ليلة قمراء رقيقة الحواشي كهذه.»
ولفت إلى يوري وجهه الدميم الغائر العينين اللامعهما: «كل شيء يحيا. أما أنا فلا بد أن أموت. وإني على يقين من أن هذا الكلام لا يقع من نفسك إلا موقع القول المبتذل - لا بد أن أموت - ولكني لم أقتبسه من رواية ولا أخذته من كتاب يطالعك أسلوبه بصدق الفن وبراعة التصوير، إني حقيقة سأموت، وهذه الألفاظ في مسمعي غير مبتذلة. وستكف يوما عن حسبانها كذلك. إني أموت ... أموت وسيقضى الأمر.»
وسعل سمينوف مرة أخرى وقال: «وكثيرا ما يخطر لي أن الظلام سيشتمل علي بعد قليل وإني سأدفن في الأرض الباردة، وأن أنفي سيغور في وجهي وتتعفن يداي، على حين يبقى كل شيء في الدنيا كما هو الآن، إذ أمشي على طهرها حيا، وستكون حيا وتستنشق النسيم وتسبح في ضوء القمر وتمر بالقبر الذي يضم عظامي النخرة الشنيعة البلى. ماذا تظنني أعبأ ببيل أو تولستوي أو بمليون آخر من هذه القرود الهاذرة.»
وكان يوري أشد اكتئابا من أن يسعه أن يرد.
ثم قال سمينوف بصوت ضعيف خافت: «عم مساء فسأدخل البيت.»
فهز يوري يده وأدركه العطف الشديد على هذا الرجل الخاوي الصدر، المستدير الكتفين، ذي العصا العوجاء المتدلية من عروة معطفه، وكان بوده لو استطاع أن يعزيه وأن يبعث فيه الأمل. ولكنه أحس أن هذا مستحيل فلم يزد على: «عم مساء.» وتنهد.
ورفع سمينوف قبعته وفتح الباب وتضاءل وقع قدمه، وخفت صوت سعاله ثم عاد كل شيء ساكنا.
ورجع يوري يستقبل من طريقه ما استدبر وقد ماتت الدنيا في عينه - مات كل ما كان منذ نصف ساعة فقط، وضيئا جميلا ساكنا - ضوء القمر ونجوم السماء والأشجار الفضية الروعة والظلال الغريبة - وطالعه من كل هاتيك برد القبر وفظاعته وهوله.
ولما بلغ البيت قصد إلى غرفته وفتح النافذة المطلة على الحديقة، فجرى بذهنه لأول مرة في حياته: أن كل ما استغرق حواسه ومدراكه وأظهر في سبيله من الحماسة والإيثار ما أظهر، ليس في الواقع بالمهم ولا بالصواب. وإذا رفف الموت فوقه يوما مثل سمينوف فلن يقطع قلبه الأسف على أن جهوده لم تزد الناس سعادة ولن يحزنه أن مثله العليا لم تتحقق. وإنما يكون حزنه لأنه سيموت ويحرم النظر والاحساس والسمع قبل أن يتاح له أن يذوق كل مسرات الحياة ولذاتها.
ولكن هذا الخاطر أخجله فنحاه عن فكره وأخذ ينشد تعليل ذلك.
الحياة جهاد «نعم ولكن جهاد في سبيل من، إن لم يكن في سبيل الذات، ومكان المرء تحت الشمس؟»
هكذا قال له صوت من داخل نفسه.
فتظاهر يوري بأنه لم يسمعه وحاول أن يفكر في أمر آخر، ولكن ذهنه كان يكر راجعا إلى هذه الفكرة بلا انقطاع. فعذبه هذا حتى لقد أبكاه بكاء مرا.
هوامش
الفصل الخامس
لما تلقت ليدا بتروفنا دعوة لياليا أطلعت أخاها عليها وكانت تتوقع منه أن يرفضها. بل كانت ترجو ذلك لأنها تعلم أنها هناك على النهر ستكون قريبة من سارودين فيعاودها ذلك الإحساس الجامع بين اللذة والقلق، وأخجلها في الوقت نفسه أن يعلم أخوها أنها تحب - دون خلق الله - سارودين الذي يحتقره سانين من أعماق قلبه.
ولكن سانين قبل الدعوة مسرورا.
وكان اليوم بديعا وضيئا، لا تضمر شمسه السحب، فلم يسع ليدا إلا أن تقول: «لا شك أنه سيكون هناك بضع فتيات حسان قد يعنيك أن تعرفهن؟» - «آه. هذا حسن. والجو كذلك رائق. فلنذهب.»
ولما جاء موعد الذهاب حضر سارودين وتاناروف في مركبة كبيرة من مركبات فرقتهما، يجرها جوادان ضخمان من جيادها.
وكان سارودين في ثياب بيضاء معطرة فقال: «ليدا بتروفنا، إننا في انتظارك.»
وكانت ليدا في ثوب رقيق شفاف من المخمل الوردي، مشدود على خاصرتها فانحدرت إليهما ومدت إلى سارودين كلتا يديها فأمسك بهما لحظة وعينه جائلة في جسمها مفتونة به.
فنالت منها هذه النظرة التي تعرف معناها واضطربت لها فصاحت: «فلنذهب. فلنذهب.»
وسرعان ما عدت بهم المركبة في الطريق المهجور بين السهوب، وكانت أغيصان التبت تنثني تحت العجلات ويهب النسيم على رءوس أخواتها فتموج وتترنح. ولما جاوزوا البلدة أدركوا مركبة أخرى تقل لياليا ويوري وريازانتزيف ونوفيكوف وإيفانوف وسمينوف متكدسين متزاحمين وإن كانوا على هذا جذلين مبتهجين، إلا يوري، فقد حيره سلوك سمينوف بعد حديث البارحة ولم يستطع أن يفهم كيف يتهيأ له أن يضحك ويمرح كغيره واستغرب منه هذا المرح بعد الذي سمعه وجعل يسأل نفسه: «هل كل هذا تصنع؟» ويسارقه النظر إلا أنه أحجم عن هذا التفسير لما يبدو له من حال سمينوف.
وتبادلت المركبتان الفكاهة والدعابة، ووثب نوفيكوف عن مقعده إلى الأرض وراح يسابق ليدا على الحشائش وكأنهما آليا أن يتظاهرا بأنهما خير الأصدقاء فقد جعلا يتداعبان طول الوقت.
وقاربوا التل القائم على ذروته الدير بقبابه اللامعة وجدرانه البيضاء، وعلى التل غابات تخال أطراف بلوطها من الصوف، وإلى سفحه جزائر يتدفق حولها، النهر وفيها أشجار البلوط قائمة.
ومالت الخيل عن الطريق إلى الأرض اللينة وجعلت العجلات تحفر فيها أخاديد عميقة وسطع الأنوف من الأرض والأوراق الخضراء عرف ذكي.
وكان ينتظرهم في الموعد المضروب على المرج طالب وفتاتان في ثياب «الروسيا الفتاة» وكانوا جالسين على بساط الروض، وإذا كانوا أسبق من سواهم فقد اشتغلوا بإعداد الشاي والمرطبات الخفيفة.
ووقفت المركبة وجعلت الخيل تنفخ وتذود الذباب بذيولها ووثب كل من فيها عنها، وقد أنعشهم الركوب وهواء الريف النقي، وطفقت لياليا تقبل الفتاتين اللتين تعدان الشاي قبلات رنانة، وقدمتهما إلى أخيها وإلى سانين فجعلتا تتأملانه في خجل.
وأدركت ليدا أن الرجلين لا يعرف أحدهما الآخر، فقالت ليوري: «اسمح لي أن أقدم إليك أخي سانين فلاديمير.»
فابتسم سانين وصافحه.
ولكن يوري لم يكد يلتفت إليه.
وكان سانين امرأ يلذه كل إنسان فهو لهذا مرتاح إلى معرفة الناس.
ولكن يوري كان يذهب إلى أن الناس قل أن يكون فيهم من يطيب مخبره. ومن أجل ذلك كان يزهد في لقاء الغرباء وكان إيفانوف يعرف سانين قليلا وقد راقه ما سمعه عنه فذهب إليه قبل سواه، وأخذ يحادثه وصافحه سمينوف محتفلا.
وقالت لياليا: «الآن نستطيع أن نتمتع جميعا بعد هذه الرسميات المتعبة.»
ولكن الكلفة ألقت ظلها على الجميع في أول الأمر، إذ كان كثيرون منهم لم يسبق لبعضهم ببعض عهد، فلما شرعوا يأكلون وأصاب الرجال من الأشربة والنساء من النبيذ لم تلبث الكلفة أن أخلت الميدان للمرح، فشربوا كثيرا وكثر الضحك والمزاح وتسابق البعض وصعد الآخرون على التل، وكان كل ما حولهم من السكون والوضاءة والغابات الخضراء من الجمال بحيث لا يتأتى للكآبة أن تبسط ظلها على نفوسهم.
وقال ريازانتزيف وهو يلهث ووجهه متقد: «لو أن كل امرئ وثب وجرى على هذا النحو لاختفت تسعة أعشار الأمراض من العالم ...»
فزادت لياليا: «والرذائل أيضا.»
وقال إيفانوف: «أما من حيث الرذائل فسيبقى منها الكفاية دائما.»
ومع أنه لم ير أحد أن في هذا القول فكاهة أو سدادا فقد ضحكوا جميعا.
ومالت الشمس للمغيب وهم يشربون الشاي وتوهج النهر ونفذت أشعة النور الدافئة الحمراء من خلل الأشجار.
وصاحت بهم ليدا: «والآن إلى الزورق.»
وأمسكت بثوبها وانحدرت إلى الشاطئ وقالت: «من يكون أول واصل إليه؟»
فعدا بعضهم وراءها وتبعهم الباقون على مهل وبلغوا جميعا الزروق الكبير المنقوش ضاحكين.
فقالت ليدا بصوت الآمر الطروب: «اخرجوا به.»
فاندفع الزورق عن الشاطئ وخلف وراءه على سطح الماء خطين عريضين لم يلبثا أن تكسرا على حافة النهر.
وسألت ليدا يوري: «ما لك صامتا.»
فابتسم وقال: «ليس عندي شيء أقوله.» - «مستحيل!»
ومطت أرق شفتين ورمت رأسها إلى ظهرها فعل من يعلم أن الرجال لا يدرون لسحرها من رقية.
فقال سمينوف: «إن يوري لا يحب أن يهذر. وهو يطلب.»
فقاطعته ليدا: «موضوعا جديا؟ أهذا ما يريد؟»
وقال سارودين وأشار إلى الشاطئ انظروا: «هذا موضوع جدي.»
وكان على صخور الشاطئ بين جذوع شجرة بلوط عتيقة معقدة مدخل ضيق تغطيه إلا قلة من الحشائش والأكلاء.
فسأل شافروف وكان لا يعرف هذه الناحية: «ما هذا؟»
فأجاب إيفانوف: «غار.» «أي نوع من الغيران هذا؟» - «علم هذا عند الشيطان! على أنهم يقولون إنه كان في وقت من الأوقات مثوى نفر من مزيفي النقود قبض عليهم جميعا كما هي العادة. أعمال خطرة أليس كذلك؟»
فقال نوفيكوف: «أظنك تود أن تضرب على هذا القالب وأن تزيف قطعا من فئة العشرين كوبيك؟»
فقال إيفانوف: «كوبيك؟ كلا! الروبلات يا صديقي الروبلات!»
فهمهم سارودين وهز كتفيه وكان لا يحب إيفانوف ولا يفهم نكاته.
وعاد إيفانوف إلى قصته فقال: «نعم قبضوا عليهم جميعا وامتلأ الغار ثم تداعى على الأيام وليس يغشاه الآن أحد. بيد أنه مكان لذيذ.»
فصاحت ليدا: «لذيذ؟ أحسبه كذلك.»
وقال يوري: «فكتور سرجفتش. هلم إليه إنك أحد الشجعان المغاوير.»
فسأله سارودين وقد ارتبك: «لماذا؟»
فقال يوري وقد أخجله أن يظنوا به المباهاة الكاذبة: سأفعل وشجعه إيفانوف فقال: «إنه لمكان عجيب.»
فسأله نوفيكوف: «أذاهب أنت أيضا؟» - «كلا إني أفضل البقاء هنا.»
فضحكوا منه جميعا.
ودنا الزوق من الشاطئ.
وهبت على رءوسهم من الغار موجة هواء باردة.
وحاولت لياليا أن تحمل أخاها على العدول فقالت: «ناشدتك الله لا تفعل! إن هذا خرق حقيقة.»
فقال يوري مبتسما: «خرق نعم بلا شك! ناولني يا سمينوف هذه الشمعة.» - «أين هي؟» - «خلفك. في السلة.»
فأخرج سمينوف الشمعة متريثا.
وسألته فتاة طويلة بديعة القوام رائعة التناسب: «أذاهب أنت حقيقة؟»
وكانت لياليا تسميها «سينا» ولقبها كرسافينا. - «بلا شك. لماذا لا أذهب؟»
وتظاهر بعدم الاكتراث. وذكر أنه فعل مثل هذا مرة في بعض مخاطراته السياسية ولم تقع هذه الذكرى موقعا حسنا من نفسه لأمر ما.
وكان مدخل الغار رطبا مظلما ونظر فيه سانين وانفرجت شفتاه عن «برررر» واستسخف من يوري أن يرتاد مكانا خطرا يكرب النفس لا لسبب سوى أن الناس يشهدونه وهو يفعل ذلك.
وكان يوري شديد الإحساس بنفسه فأوقد الشمعة وهو يقول لنفسه: «إني أعالج ما يضحك مني الناس أليس كذلك؟»
ولكن الواقع أنه بدل أن يثير سخرهم فاز بالإعجاب ولا سيما من النساء اللواتي راقهن منه ذلك وأعجبهن إلى حد الإزعاج.
وتمهل يوري إلى أن أضاءت الشمعة ثم ضحك تفاديا من التضاحك وغاب في ظلام الغار وكأنما اختفى النور معه فقلقوا عليه وودوا لو يعرفون ماذا عسى أن يقع له.
وصاح به ريازانتزيف: «احذر الذئاب.»
فتهدى إليه من جوف الغار صوت ضعيف غريب يقول: «لا خوف فإن معي مسدسا.»
تقدم يوري في بطء وحذر وكانت جوانب الغار قصيرة وعرة رطبة والأرض من الوعوثة وعدم الاستواء بحيث كادت تزل به قدمه مرتين في جحر وخطر له أن الأحجى أن يعود وأن يبقى مكانه برهة ليؤاتيه أن يدعي أنه توغل.
وفجأة وقع أقدام وراءه تخطو على الطين البليل ونفس مسرع فرفع يده بالشمعة وصاح مذهولا: «سينا كرسافينا.» - «هي بعينها» وأمسكت بثوبها وتخطت الجحر بخفة.
وسر يوري أن تكون هذه الفتاة الجميلة هي التي جاءت فحياها بعينين ضاحكتين.
وقالت سينا وهي خجلة: «دعنا نتقدم.»
فأطاع يوري ولم يعد تزعجه فكرة الخطر الآن.
وأخذ يعنى بإثارة الطريق لرفيقته ولمح مخارج عديدة كلها قد سدت ورأى في ركن بضع ألواح من الخشب يحسبها الرائي آثار نعش قديم.
فقال يوري وخفض صوته وهو لا يدري: «ليس بالممتع جدا ...»
وأخذ نفسه الضيق في جوف هذه الكتلة الأرضية.
فهمست سينا: «بلى إنها لممتعة.»
والتفتت حولها فالتمعت عيناها في ضوء الشمعة. وكانت مضطربة فتوخت أن تكون قريبة منه ليحميها، ولاحظ هو ذلك وأدركه العطف على رفيقته الجميلة الضعيفة.
وعادت إلى الكلام: «لكأن المرء هنا مدفون حيا. وإذا صرخنا لم يسمعنا أحد.»
فقال ضاحكا: «لا شك.»
وطاف برأسه فجأة خاطر دار له ذهنه؛ أن هذه الفتاة الجميلة النضيرة المشتهاة في قبضة يده وتحت رحمته، وليس من يراهما أو يسمعهما، ولكن هذا الخاطر من الدناءة بحيث لا سبيل إلى وصفه فأسرع فنفاه وقال: «ولنفرض أننا جربنا؟»
وارتعش صوته. أتراها أدركت ما دار بذهنه؟
فقالت: «نجرب ماذا؟»
قال: «إني أطلقت مسدسي؟» وأخرجه.
قالت: «هل تسقط الأرض علينا؟»
قال: «لا أدري.»
وإن كان على يقين من أنه لن يحدث شيء من هذا ثم قال: «أخائفة؟»
قالت: «لا لا! أطلق!»
وتراجعت خطوة أو بعض خطوة، ومد ذراعه بالمسدس وأطلقه فأبرق المكان ولفتهما سحابة من الدخان وتجاوبت الأصداء ثم فنيت تدريجيا.
فقال يوري: هذا كل ما حدث.
قالت: «دعنا نرجع.»
فعادا أدراجهما وسارت أمامه فأثار منظر ردفيها المكتنزين المستديرين في ذهنة خواطر جنسية كان من الصعب عليه أن يغض عنها، فقال بصوت مضطرب: «اسمعي يا سينا. إني أريد أن أسألك سؤالا سيكولوجيا لطيفا: كيف لم تخافي أن تأتي إلى هنا معي؟ لقد قلت إننا لو صرخنا لما سمعنا أحد. وأنت لا تعرفين عني شيئا على الإطلاق!»
فخجلت في الظلام وصمتت ثم قالت أخيرا بصوت خافت: «لأني رأيت أنك يمكن الثقة بك.»
قال: «وافرضي أنك كنت مخطئة؟»
فقالت بصوت لا يكاد يسمع: «إذا كنت ... أغرق نفسي.»
فملأته هذه الألفاظ عطفا وسكنت نزعاته واطمأنت نفسه.
وقال لنفسه: «ما أطيبها من فتاة.»
ووقعت منه أعظم وقع عفتها البسيطة الصريحة.
وزهاها ردها عليه وأرضتها موافقته الصامتة عنه، فابتسمت له لما عاد إلى مدخل الغار. على أنها كانت تعجب لماذا لم تر في سؤاله ما يسوء أو يفضح ولماذا ارتاحت إليه على العكس من ذلك؟
الفصل السادس
بعد أن انتظر الباقون برهة عند مدخل الغار وركبوا سينا ويوري بالنكات أخذوا يتمشون على شاطئ النهر وأشعل الرجال السجائر وألقوا بعيدان الكبريت في الماء وجعلوا يرقبون اندياح الدوائر على سطح التيار.
وراحت ليدا تخطر ويداها إلى جانبي خصرها مما يلي ردفيها وتغني وهي سائرة وقدماها الصغيرتان الرشيقتان في حذاءيهما الأصفرين يرتجلان الرقص من حين إلى حين.
أما لياليا فكانت تقطف الأزاهر وترمي بها ريازانتزيف وتداعبه بعينيها.
وقال إيفانوف لسانين: «ما قولك في الشراب؟» - «فكرة بديعة.»
فانقلبا إلى الزورق وفتحا عدة زجاجات من الجعة وشرعا يشربان.
فصاحت بهما لياليا: «ويحكما من سكيرين فظيعين!» وراحت ترميهما بخصل من الحشائش.
فقال إيفانوف ومص شفتيه: «إنها من الطراز الأول.»
فضحك سانين وقال مازحا: «كثيرا ما أعجب للناس ماذا ينحون على الكحول. وفي اعتقادي أن السكير هو الذي يعيش كما ينبغي له.»
فأجابه نوفيكوف من الشاطئ: «أي كالبهيم!»
فقال سانين: «ربما! على أنه مهما يكن من ذلك فالسكران إنما يفعل ما يريد. فإذا خطر له أن يغني غنى. وإذا طلبت نفسه الرقص رقص ولم يستحي أن يطرب ويمرح.»
فقال ريازانتزيف: «وقد يضارب أيضا.»
فأجاب سانين: «نعم يفعل، أعني إذا لم يعرف المرء كيف يشرب.»
فسأله نوفيكوف: «وهل تحب المضاربة وأنت ثمل؟»
فأجاب سانين: «كلا، بل أفضل أن أضارب وأنا صاح. فإذا سكرت عدت أطيب الناس قلبا لأني أنسى كل ما هو حقير وضيع.»
فقال ريازانتزيف: «ليس كل الناس هكذا.»
فأجاب سانين: «إني آسف لهم. على أن غيري لا يعنيني على الإطلاق.»
فقال نوفيكوف: «لا يسع المرء أن يقول هذا؟»
فأجاب سانين: «لماذا لا يقوله إذا كان حقا؟»
فقالت لياليا وهزت رأسها: «إنه لحق بديع!»
فرد إيفانوف عن سانين: «هو أبدع ما أعرف على كل حال.»
وكانت ليدا تغني بصوت عال فسكتت فجأة وبدا على وجهها الضيق وقالت: «إنهما لا يستعجلان على ما يظهر.»
فأجابها يوري: «ولماذا يستعجلان. إن من الخطأ العظيم أن يستعجل المرء في أي أمر.»
فقالت ساخرة: «وسينا فيما أظن هي البطلة المنزهة عن الخوف المبرأة من العيب.»
ولم يستطع تاناروف أن يكتم خواطره في هذه اللحظة فانفجر يضحك ثم استحيا. وكانت ليدا واقفة ويداها على ردفيها وهي تميد يمنة ويسرة برشاقة فالتفتت إليه وقالت وهزت كتفيها: «أحسبهما قد ظفرا بأمر ممتع.»
وقال ريازانتزيف وقد تأدى إليهم صوت طلق: «اسمعوا.»
فقال شافروف: «هذه طلقة مسدس.»
وتعلقت لياليا وهي مضطربة بذراع حبيبها وقالت: «ما معنى هذه الطلقة؟»
قال: «لا تنزعجي إن كان ذئبا فالذئاب أليفة في هذا الوقت من العام وهي على كل حال لا تهم باثنين.»
وحاول ريازانتزيف أن يطمئنها وإن كان القلق قد ساوره من هذه النزوة الصبيانية التي نزت برأس يوري.
وقال شافروف وبه مثل ما بهم من الغيظ: «حمق.»
ثم صاحت ليدا بلهجة المستخف: «إنهما آتيان، آتيان فلا تقلقوا!»
وكان وقع أقدامهما مسموعا الآن ولم يلبثا أن خرجا من الظلام فأطفأ يوري الشمعة وابتسم وهو مضطرب إذ كان لا يدري كيف يستقبله القوم. وقد جلله الطين الأصفر. وكان منه آثار على كتف سينا فقد احتكت بجانب الغار.
وسألهما سمينوف بفتور: «ما عندكما؟»
فقال يوري وكأنه يعتذر: «إن المكان رائق جدا لولا أن الممر لا يفضي إلى بعيد وهو مسدود وقد رأينا ألواح خشب متعفنة ملقاة هنا وهاهنا.»
وقالت سينا والتمعت عيناها: «هل سمعتم طلقة المسدس؟» فقاطعها إيفانوف صائحا: «أيها الإخوان لقد شربنا كل الجعة وانتعشت نفوسنا جدا فلنعد.»
ولما توسطوا النهر بالقارب كان القمر قد طلع. وكان الليل ساكنا صافيا والنجوم الذهبية تلتمع فوقهم وحولهم وفي قبة السماء وفي صفحة الماء، فكأن الزورق معلق بين كونين لا يقاس لهما غور. وبدت الغابة المظلمة على شاطئ النهر مستبهمة معجمة السر، وغرد عندليب فأصاحوا في سكون. ووقع في نفوسهم منه أنه ليس بطائر بل حالم طروب يرسل الصوت في جوف الظلام.
وخلعت سينا كرسافينا قبعتها وانطلقت تغني أنشودة روسية عذبة شجية ككل الأناشيد الروسية. وكان صوتها العالي الرنان هافيا ينال من القلب وإن لم يكن بالقوي.
فتمتم إيفانوف: «هذا عذب.» وقال سانين: «فتان.»
ولما فرغت من الغناء صفقوا لها جميعا وارتد إليهم الصدى من الغابات المظلمة على جانبي النهر.
وقالت لياليا: «غنينا لحنا آخر يا سينا - أو افعلي ما هو خير - أنشدينا قصيدة لك.»
فقال إيفانوف: «وشاعرة أيضا؟ ما أكثر الهبات التي يجود بها الله الكريم على مخلوقاته!»
فسألته سينا وهي مرتبكة: «أو هذا شيء قبيح؟»
فأجاب سانين: «كلا. بل حسن جدا.»
وعاد إيفانوف فقال: «إذا أوتيت الفتاة الصبا والحسن فما حاجتها إلى الشعر؟ وددت لو أدري!»
وجاش صدر لياليا لها بالحب والرقة فقالت: «دعينا من هذا وغنينا لحنا باسينوتشكا!»
فافتر ثغر سينا وانصرفت بوجهها معجبة بنفسها قبل أن تغني الأبيات التالية بصوتها الخالص الموسيقي:
يا حبيب النفس يا خير حبيب!
لن أناجيك بسري أبدا
لا ولن أكشف عن حر اللهيب!
وإذا ما حنت العين إليك
وصبت، أرخيت جفني جلدا
فانطوى سر الهوى عن ناظريك
ليس بيديه سوى طول الحنين
ليس يدري حبي المنقدا
غير ساجي الليل لو كان بين
كل نجم - كل روض بهواي
حالم في الليل أما ابتردا
هامس - لو كنت تصغي - بجواي
هذه تدريه لكن لا تقول!
هي خرساء كتوم أبدا
فمن المبلغك السر المهول؟
فشاعت في نفوسهم حماسة الطرب مرة أخرى وضجوا بالتصفيق لسينا لا لأن قصيدتها الصغيرة جيدة، بل لأنها جاءت ناطقة بحالهم معبرة عن مزاجهم ولأنهم جميعا كانوا يحنون إلى الحب وشجاه اللذيذ.
وصرخ فيهم إيفانوف وقد أخذته نشوة الطرب بصوت عميق أفزعهم جميعا: «يا ليل! يا ليل؟ يا عيني سينا البراقتين ناشدتكما ألا ما قلتما لي أني أنا ذلك الحبيب السعيد!»
فقال سمينوف: «إني أستطيع أن أؤكد لك أنك لست به.»
فتوجع إيفانوف نادبا: «آه، يا ويحي!» فلم يبق أحد لم يضحك.
وسألت سينا يوري: «أشعري رديء؟»
ولم يكن يرى أن فيه ابتكارا يذكر ولقد أذكرته قصيدتها مئات من أمثالها، ولكن سينا بارعة الحسن وقد توسلت إليه عيناها فلم يسعه إلا أن يقول بوقار: «أراها على جانب عظيم من الفتنة والحلاوة.»
فابتسمت وأدهشها أن يسرها مثل هذا المدح كل هذا السرور.
وقالت لياليا: «إنك لم تعرف سينا بعد! هي كل شيء جميل وحلو.»
فقال إيفانوف: «أتعنين هذا حقا؟»
فأصرت لياليا: «نعم أعنيه، إن صوتها مرن رخيم وكذلك شعرها وهي نفسها جميلة - حتى اسمها جميل عذب.»
فصاح إيفانوف: «لعمري ماذا تستطيعين أن تزيدي على هذا؟ على أني أطابقك على رأيك.»
فاحمر وجه سينا خجلا وارتباكا من هذه المدائح.
وقالت ليدا فجأة: «قد آن أن نعود.» واستكرهت أن تسمع مدح سينا إذ كانت تعد نفسها أجمل وأبرع وأمتع.
وسألها سانين: «ألا تغنينا؟»
فقالت: «كلا! إن صوتي لا يؤاتيني الآن.»
وقال ريازانتزيف: «لقد آن أن نعود حقيقة.» وذكر أن عليه في الصباح أن يكون في مشرحة المستشفى. وود الآخرون لو يتلكئون قليلا ولازموا الصمت وهم عائدون وأحسوا بالتعب والرضى. وداست العجلات مرة أخرى أغيصان الحشيش وإن لم ير ذلك أحد. ولم يلبث التراب أن استقر على أرض الطريق مرة ثانية وبدت الحقول الحرة العارية هائلة لا حد لها في ضوء القمر الوافي.
الفصل السابع
مضت ثلاثة أيام وفي مساء الرابع عادت ليدا إلى بيتها حزينة متعبة مثقلة القلب. ولما بلغت غرفتها وقفت ويداها متشابكتان وعيناها إلى الأرض وأدركت فجأة أنها في علاقاتها مع سارودين قد جاوزت الحد فاستهولت ذلك؛ وتبينت لأول مرة منذ تلك اللحظة - لحظة الضعف الذي لا يعالج - أي سلطان يذل صار لهذا الضابط الفارغ العقل عليها وإن يكن دونها في كل شيء. - لا بد لها الآن أن تلبيه إذا دعا وأن تذعن لقبلاته أو تتأبى ضاحكة، ولكنه لم يعد يسعها أن تعبث به كما تشاء، ولم يبق لها إلا أن تحتمل وتطيع كالرقيق.
كيف حدث هذا؟ ذلك ما لم تستطع له فهما. لقد كانت أبدا وعليه سلطانها وكانت تطيق التفاتاته وغزله وكان كل شيء رضيا لذيذا مثيرا كالعادة. ثم جاءت لحظة اتقد فيها كيانها كله وغشي ذهنها مثل الضباب ولم تبق إلا الرغبة المجنونة في الاندفاع إلى الهاوية، كأنما انشقت الأرض تحت قدميها ولم تعد تحكم أعضاءها أو تشعر إلا بعينين جاذبتين تحملقان في عينيها، وهزت العاطفة جثمانها وعصفت به وراحت ضحية الشهوة الغالبة. على أنها مع ذلك شاقها أن تتكرر هذه التجارب العاصفة. ولما مثل لخاطرها كل ذلك ارتجفت فرفعت كتفيها وخبأت وجهها في راحتيها ومضت إلى غرفتها متعثرة وفتحت النافذة ولبثت لحظة طويلة ترمق القمر وكان طالعا فوق الحديقة - وثم بين الأشجار النائية بلبل يغني.
وجثم على صدرها الحزن ونال منها الإحساس بالندامه وبانجراح الكبرياء للقضاء على حياتها من أجل رجل فارغ سخيف، ولأن زلتها كانت حمقاء حقيرة عرضية. وبدا لها المستقبل منذرا بالشر ولكنها عالجت أن تنفي عن نفسها المخاوف بالمكابرة.
وقالت لنفسها وهي عابسة محاولة أن تجد شيئا من الارتياح في هذه العبارة المبتذلة: «لقد فعلتها وقضي الأمر! ما أسخف هذا كله! لقد أردت ذلك فكان ما أردت. وأحسست بسعادة يا لها من سعادة! وكان من الحمق أن لا استمتع وقد سنحت لي الفرصة. إلا أنه لا ينبغي لي أن أفكر في الأمر. فما من حيلة فيه الآن.»
وابتعدت في تثاقل عن النافذة وشرعت تخلع ثيابها تاركة إياها تنزل عن جسمها إلى الأرض وقالت وقد أرعشها برد الليل لما أصاب كتفيها وذراعيها العارية: «إن الإنسان على كل حال لا يحيا إلا مرة. وماذا كان ينفعني أن أنتظر حتى أتزوج زواجا شرعيا؟ ماذا كان يفيدني هذا؟ سيان هذا وذاك، فماذا هناك مما يزعج؟»
وخيل إليها فجأة أنها بهذه المخاطرة اعتصرت كل لذاذة ومتعة وخير، وأنها قد صارت الآن حرة كالطير وأنها مقبلة على حياة حافلة بالحوادث مليئة من السعادة واللذة.
سأحب إذا شئت. وإذا لم أشأ لم أعشق!
هكذا غنت نفسها بصوت خافت وفي ذهنها أن صوتها خير من صوت سينا كرسافينا وأحلى. «كل هذا كلام فارغ! وإن لي إذا شئت أن ألقي بنفسي في أحضان الشيطان نفسه!»
وكذلك كانت ترد على ما يخالجها من الخواطر وذراعاها العاريتان فوق رأسها وثدياها يهتزان.
وحمل النسيم إليها صوت سانين يقول لها من وراء النافذة: «ألم تنامي يا ليدا؟»
فتراجعت ليدا فزعة ثم سترت كتفيها بوشاح وهي تدنو من النافذة باسمة وقالت: «لقد أفزعتني والله!»
فدنا منها سانين واتكأ بذراعيه على حافة النافذة وكانت عيناه تلمعان وثغرة يفتر وقال مداعبا لها: «لم تكن ثم من حاجة إلى هذا.»
فتلفتت ليدا حولها وعاود الكلام بصوت منخفض مؤثر فقال: «لقد كنت بغير هذا الوشاح أجمل.»
فحملقت ليدا فيه مذهولة وشدت الوشاح على جسمها فضحك سانين ومالت هي الأخرى على حافة النافذة وهي مرتبكة، وصارت منه بحيث كانت تحس أنفاسه على خدها. فقال: «واها لك من جميلة!»
فأرسلت إليه نظرة عجلى وأخذها الخوف مما خيل إليها أنها تقرؤه في وجهه وأحست كل جارحة في جسمها أن عيني أخيها ترشقانها فلوت وجهها مستفظعة. وبلغ من استهوالها خواطرها وتقززها منها أن كاد قلبها يجمد. إن كل رجل ينظر إليها هذه النظرة وهي ترتاح إلى ذلك. فأما أن يفعل أخوها هذا فمستحيل لا يحتمل التصديق. على أنها ما لبثت أن ثابت إليها نفسها فقالت مجيبة: «نعم أعلم ذلك.»
وراقبها سانين في سكون وكان الوشاح والقميص قد زالا عن كتفيها لما انحنت على النافذة وبدا صدرها الرقيق ملتمعا في ضوء القمر، فقال سانين بصوت خافت مرتعش: «إن الناس لا يزالون أبدا يقيمون سورا من أسوار الصين بينهم وبين سعادتهم.»
فبهتت ليدا وسألته وعيناها إلى الحديقة مخافة أن يلتقي طرفها وطرفه: «وماذا تعني؟»
وخيل إليها أن سيحدث شيء لا تجرؤ على التفكير فيه، وعلى أنها لم يخالجها شك في ماهيته، شيء رهيب فظيع إلا أنه لذيذ فالتهب ذهنها وعادت وما تكاد تبصر، وظلت واقفة مستيشعة مستغربة وهي تحس النفس الحار على خدها يعبث بشعرها ويرسل الرعدة في جسمها.
فقال سانين وصوته يرتجف: «ماذا أعني؟ هكذا!»
فكأنما أصابت ليدا هزة كهرباء ففزعت إلى الوراء ومالت على المنضدة وهي لا تدرك ما تصنع ونفخت الشمعة فانطفأت وأغلقت النافذة وقالت: «لقد آن أن أنام.»
ولما انطفأ النور خفت الظلمة خارج الغرفة وظهر شخص سانين في الحديقة واضحا بارزا وأكسب ضوء القمر قسمات وجهه شيئا من الزرقة، وهو واقف بين الحشائش الطويلة المطلولة يبتسم.
وانصرفت ليدا عن النافذة، وجلست على السرير وهي ترجف من فرعها إلى قدمها وعجزت عن جمع خواطرها وتنظيمها، وسمعت وقع قدمي سانين على الحشائش فزاد خفقان قلبها وجعلت تسأل نفسها وهي مكروبة: «أتراني جننت؟ ما أفظع هذا؟ كلمة كهذه لعلها قيلت عرضا تحرك في ذهني مثل هذه الخواطر؟ أترى هذا جنون؟ الشهوة؟ هل وصلت إلى هذا الدرك من السفالة والانحطاط؟ لقد هويت حقا إذا كان يجري ببالي مثل هذا الخاطر!»
ودفنت وجهها في الوسادة وبكت بكاء مرا.
ثم سألت نفسها مستغربة علة البكاء شاعرة بالذلة والمهانة والشقاوة: «لماذا أبكي؟»
بكت لأنها بذلت نفسها لسارودين - لأنها لم تعد تلك العذراء النقية الذيل المزهوة الشامخة الأنف - وبكت من جراء تلك النظرة الفظيعة المهينة التي رماها بها أخوها. ولم يكن عهدها به فيما مضى أن ينظر إليها هكذا. وإنما فعل هذا - في رأيها - لأن قدمها زلت فسقطت.
ولكن أوجع ما مر بها من الخواطر وأمرها جميعا هو أنها أصبحت الآن امرأة! وأنها لا يسعها الآن - ما دام لها صباها وقوتها وحسنها - إلا أن تجعل خير ما منحت تحت أقدام الرجال ووقف على إرضائهم، وأنها على قدر المتعة التي تبذلها لهم يكون مبلغ احتقارهم لها.
فسألت نفسها محملقة في ظلام الغرفة: «لماذا يحتقرونني؟ من خولهم هذا الحق؟ أليس لي من الحرية مثل ما لهم سواء بسواء؟ هل قضي علي أن لا أعرف حياة غير هذه وخيرا منها؟»
فقال لها جسمها بلسان الصبا والقوة إن لها الحق أن تقطف من الحياة كل ما هو ممتع وسار ولازم لها، وإن لها أن تصنع ما تشاء بجسمها الجميل القوي الذي هو ملكها وحدها دون سواها.
ولكن هذه الفكرة ضاعت في تيه من الخواطر المختلطة المتضاربة.
الفصل الثامن
ظل «يوري سفاروجتش» مدة يشتغل بالتصوير وكان كلفا يصرف فيه كل أوقات فراغه. ولقد كان يحلم فيما مضى من عمره أن يكون مصورا ولكن الحاجة إلى المال - أولا - ومشاغله السياسية - ثانيا - حالت دون ذلك فصار يعالج التصوير من حين إلى حين على سبيل اللهو وبلا غاية يرمي إليها.
ولهذا السبب - ولأنه ينقصه التدريب - لم يجد في التصوير مسلاة ترضي نفسه. بل صار على عكس ذلك مصدر حسرة ومبعث خيبة. وكان كلما أخفق فيه اكتأب وهاج وإذا وفق فيما يعالجه منه سبح في بحر من التفكير الساهم وتجسم له عبث مساعيه التي لا تنيله لا السعادة ولا النجاح.
وكان يوري قد كلف «بسينا كارسافينا» وكان يؤثر من النساء الطويلة المنسجمة الجميلة الصوت التي تمور عينها بسحر الخيال. وكان يتوهم أنه ما جذبه إليها سوى جمالها وطهر روحها، وإن كان لم يدفعه إلى تعلقها شيء سوى أنها جميلة مرغوبة. على أنه حاول أن يقنع نفسه بأن سحرها الذي يحسه روحي لا جثماني، إذ كان يظن أن هذا أنبل وأرفع، وإن كانت هذه الطهارة العذرية بعينها هي التي ألهبت دمه وأثارت رغبته. وما زال مذ لقيها مساء لأول مرة يحس بحنين قوي وشوق ملح غامض إلى تلويث طهارتها، والواقع أن هذا كان إحساسه كلما رأى امرأة حسناء.
والآن وقد تعلقت خواطره فتاة جميلة مرحة مليئة بلذة الحياة فقد بدا له أن يصور «الحياة.» وتحمس لهذه الفكرة كما هي عادته كلما عن له رأي جديد. وراح يعتقد أنه في هذه المرة سيوفق إلى النجاح.
وبعد أن أعد لوحا كبيرا مضى في العمل بسرعة المحموم كأنما يخشى أن يعطله معطل. وما كاد يلمس اللوح ببعض الألوان ويخرج من تواليفها أثرا سارا متجاوبا حتى اهتز سرورا وتمثلت لخياله الصورة المزمعة بكل تفاصيلها، ولكنه لما توغل في العمل نشأت المصاعب الفنية وتعددت وأحس يوري أن لا قبل له بتذليلها، وعاد كل ما هو براق جميل قوي في مخيلته هزيلا ضعيفا على اللوح، ولم تعد تفتنه التفاصيل بل راح يلاقي منها البرح والضيق والكرب. والواقع أنه أغفلها وأنشأ يتوخى في الرسم الإجمال والإهمال والسرعة. وبدل أن تخرج يده صورة قوية واضحة للحياة ارتسمت على اللوح أنثى فاترة مثقلة بالألوان لا ينسجم عليها هندام. ولم يكن ثم شيء فاتن أو مبتكر في مثل هذه الصورة الفاترة المكررة. إن هو إلا رسم تافه في فكرته وفي آدائه. فاكتأب يوري كالعادة.
ولولا أنه استحيا لأمر ما أن يبكي لبكى ولأخفى وجهه في الوسادة وراح يعول. ولقد أحس الحاجة إلى أن يبث بعض الناس شكواه ولكن ليس من عجزه وقصور باعه. على أنه لم يفعل، بل جعل يرمق الصورة متحسرا ذاهبا إلى أن الحياة على العموم ضنى وشجى وضعف، وأنها خالية مما يلذه. وراعه أن يفكر في أنه سيكون عليه أن يقضي سنين عدة في هذه البلدة الصغيرة.
وابترد جبينه كالثلج وهو يقول لنفسه: «إن هذا هو الموت بعينه!»
ثم اشتاق أن يصور «الموت» وأمسك سكينا وشرع وهو محنق يكشط صورة «الحياة» وغاظه أن ما صنعه بمثل تلك الحماسة يزول بمثل هذه الصعوبة. ولم يسهل عليه أن ينزع الألوان. ولقد أفلتت السكين ومزقت اللوحة في موضعين، ثم وجد أن الطباشير لا يخلف أثرا على ألوان الزيت فملأه هذا ضيقا.
ثم إنه شرع يعمل بالفرشة ويخطط موضوعه وجعل بعد ذلك يرسم في بطء وقلة احتفال وبلا روح. غير أن عمله لم يخسر بذلك شيئا بل أفاده التثاقل والإهمال والأخذ بالألوان الثقيلة الرازحة. واختفت فكرته الأولى وذهب يصور «الشيخوخة» فجعلها عجوزا هزيلة متطرحة في طريق وعر، وقد غابت الشمس واحلولكت السماء وارتمت ظلال الصلبان وانحني كتفا المرأة المحروقتان تحت ثقل نعش أسود، وارتسمت على وجهها الكآبة واليأس وإحدى قدميها على حافة قبر مفتوح، صورة مرعبة للشقاء والجهامة.
وأرسلوا إليه يدعونه إلى الطعام ولكنه لم يذهب وظل يشتغل.
ثم جاءه نوفيكوف ليبلغه أمرا، غير أنه لم يصغ إليه ولا رد عليه. فتنهد نوفيكوف وجلس.
وكان نوفيكوف يحب السكون وإجالة الفكر فيما مر به وما جاء به إلى يوري إلا أن الوحدة في بيته ترمضه.
وكان رفض ليدا أن تتزوجه لا يزال يحزنه ولم يكن يدري أحزن ما به من ألم المذلة. وكان رجلا مستقيما متبطلا ولم يتصل به ما يتحدث به الناس عن ليدا وسارودين، ولم يكن يحس الغيرة بل الأسف على حلم لم يكد يليح له بالسعادة حتى انتسخ.
وخطر لنوفيكوف أنه أخفق في حياته ولكنه لم يفكر في اختصارها وإن كان البقاء عبثا. بل على نقيض ذلك رأى من واجبه الآن وقد صارت حياته عذابا له أن يقفها على الناس، وأن ينحي سعادته ويطرحها جانبا. ونازعته نفسه لسبب لا يدريه أن ينفض يده من كل شيء في هذه البلدة وأن يمضي إلى بطرسبرج حيث يستطيع أن يجدد علاقته «بالحزن» وأن يهجم على الموت. وقام في نفسه أن هذه فكرة سامية نبيلة ولطف من حزنه علمه أن هذه فكرته بل لقد شرحت صدره، فضخم شأنه وعظم مقامه. في نظر نفسه، وكأنما صار على مفرقة تاج من الذهب الوهاج. وكان موقف العتب الذي اتخذه حيال ليدا يدفعه إلى البكاء.
ثم أحس الملال فجأة يدب في نفسه وكان «يوري» ماضيا في التصوير لا يلقي إليه التفاتة.
فنهض نوفيكوف متثاقلا ودنا من الصورة ولم تكن قد تمت، ولهذا كان لها وقع الصورة القوية.
وكان يوري قد بلغ حد طاقته فاعتدها نوفيكوف آية وهو ينظر إليها وفمه مفتوح معجبا بالمصور إعجاب الطفل.
وتراجع يوري وقال: «ما رأيك؟»
وكان رأيه أنها أمتع صورة رآها وإن كان لا شك في أن فيها عيوبا جلية كبيرة. ولم يكن يدري لماذا كان هذا رأيه. ولو أن نوفيكوف استسخفها لجرحه ذلك وآلمه.
على أن نوفيكوف قال هامسا فرحا: «بديعة جدا.»
وأحس يوري كأنه عبقري يستخف بعمله فتنهد ورمى الفرشة فلوثت طرف المخدع وانصرف عن اللوح دون أن ينظر إليه وقال مبتدئا: «آه يا صديقي!»
وهم بأن يعترف لنفسه ولنوفيكوف بالشك الذي ينغص كل سرور بالنجاح إذ كان يحس أنه لن يستطيع أن يتم هذه البداية الحسنة، غير أنه بعد التفكير لم يزد على أن قال: «كل هذا لا طائل تحته.»
فظن نوفيكوف أن صاحبه يتكلف، وذكر ما لقيه هو من الخيبة المرة فحدث نفسه أن هذا صحيح.
ثم سأل بعد برهة: «ماذا تعني بقولك إن هذا لا طائل تحته؟»
ولم يستطع يوري أن يجيب عن هذا جوابا دقيقا فبقي صامتا.
وعاد نوفيكوف إلى الصورة يفحصها وجلس مرة ثانية ثم قال: «قرأت مقالك المنشور في جريدة «كراي» وأراه حار!»
فأجاب يوري مغضبا لغير سبب يعلمه وذكر كلام سمينوف: «إلى الشيطان بها! أي خير فيها؟ إنها لن تمنع الإعدام ولا السرقات ولا العنف. وستظل هذه كما كانت. إن المقالات لا تجدي. ما خيرها بالله؟ أن يقرأها اثنان أو ثلاثة من البلهاء؟ خير عظيم حقا! ومع ذلك فما شأني أنا بهذا؟ لماذا أنطح الجدار برأسي؟»
ونسرت الذكرى لعيني يوري مساعيه السياسية في صدر أيامه ومثلت له الاجتماعات السرية والدعوة التي كان يعمل على إذاعتها وبثها، والأخطار والإخفاق وحرارة حماسته وبلادة من كانت الرغبة تجمع به إلى إنقاذهم، فجعل يروح ويجيء في الغرفة مشيرا بيديه.
فقال نوفيكوف: «لا. إذن ليس ثم ما يستحق من المرء أن يفعل شيئا في سبيله.» وذكر سانين، فأضاف إلى ذلك: «أنانيون! هذا أنتم جميعا!»
فأجابه يوري بحدة وقد تأثر بذكريات ماضيه وبالغسق الذي أحال لون كل شيء في الغرفة: «كلا ليس هذا كذلك، إذا ذكرنا الإنسانية فأي خير في كل جهودنا المبذولة في سبيل الدساتير أو الثورات، إذا كان المرء يعجز عن تقدير ما تحتاج إليه الإنسانية حتى على وجه التقريب؟ وما يدرينا؟ لعل في هذه الحرية التي نحلم بها جرثومة الانحطاط في المستقبل، ولعل الإنسان بعد أن يتحقق مثله الأعلى يكر راجعا القهقرى ويمشي على أربع. وهكذا يكون علينا أن نبدأ كل شيء من جديد. وهبني لا أكترث إلا لنفسي فماذا إذن؟ ماذا أستفيد بذلك؟ إن أقصى ما يبلغني إياه طوقي هو أن أنال الشهرة بمواهبي وأعمالي، وأن يسكرني احترام من هم دوني أي احترام من لا أحترمهم، ومن ينبغي أن يكون احترامهم لا قيمة له عندي. ثم ماذا؟ أظل عائشا - عائشا إلى أبلغ القبر - ثم لا شيء بعد ذلك! ويعتدل إكليل الغار على جمجمتي ويبلغ من فرط إحكام لفه عليها أني لا ألبث أن أحس منه الضيق والكرب!»
قال نوفيكوف متهكما ولم يسمعه يوري لفرط سروره بفصاحته: «نفسه أبدا!»
وكان لكلامه سهوم لذيذ في نظره، وكان ما يقوله يشرفه ويزيد في احترامه لنفسه وعاد فقال: «وشر ما في الأمر أن أصير عبقريا يسيء الناس الحكم عليه، حالما مضحكا، ومدارا للأقاصيص الفكاهية وشخصا سخيفا لا خير فيه لأحد.»
فصاح نوفيكوف وهو ينبض: «آها. لا خير فيك لأحد؟ أوتقر بهذا إذن؟»
فقال يوري: «تالله ما أسخفك! أوتظن أني لا أعرف ماذا ينبغي أن أحيا له وبمن أؤمن؟ من المحتمل أن أقبل بسرور أن أصلب إذا اعتقدت أن موتي ينقذ العالم ويخلصه. ولكني لا أعتقد هذا. ومهما يكن ما أصنع فلن يغير من مجرى التاريخ. أضف إلى ذلك أن معونتي من الهوان والضآلة بحيث لا يخسر العالم شيئا لو أني لم أكن. بيد أني - من أجل هذه الذرة من المعونة - مكره أن أعيش وأن أتعذب وأن أنتظر الموت في حزن!»
ولم يلاحظ يوري أنه اندفع يتكلم في أمر آخر، وأنه لا يرد على نوفيكوف بل على هواجسه الغريبة المحزنة.
ثم ذكر سمينوف فجأة فسكت وسرت في ظهره رعده باردة وقال بصوت منخفض وهو ينظر إلى النافذة المظلمة: «الحقيقة أني أخشى المحتوم وأني لأعلم أن هذا طبيعي. وأنه لا يسعني أن أفر منه. ولكنه على هذا رهيب، مهول.»
فقال نوفيكوف وإن كان قد هاله صدق هذا الكلام: «إن الموت ظاهرة فسيولوجية لازبة.»
فقال يوري لنفسه: «يا له من خرف!»
ثم صاح بنوفيكوف وهو مغضب: «ماذا يهم إذا كان موتنا لازما لغيرنا أو غير لازم؟»
فقال نوفيكوف: «وما قولك في رضاك أن تصلب؟»
فأجاب يوري ببعض التردد: «هذا شيء آخر.»
فقال نوفيكوف بلهجة فيها بعض التعالي: «إنك تناقض نفسك.»
فتضايق يوري ودفع أصابعه في شعره الأسود المضطرب وقال بحدة: «إني لا أناقض نفسي أبدا! إذ من المعقول أني إذا شئت أن أموت بمحض إرادتي الحرة ...»
فقاطعه نوفيكوف معاندا وبنفس اللهجة: «كل هذا سواء وأنتم جميعا تطلبون السهام النارية والتصفيق وما إلى ذلك. وليس هذا إلا أنانية!»
قال يوري: «هبها كذلك! إن هذا لا يغير المسألة.»
وصارت المناقشة مختلطة وأحس يوري أنه لم يرد أن يقول هذا، ولكن الخيط أفلت منه بعد أن كان مجراه واضحا ممتدا منذ برهة فجعل يقطع الغرفة رائحا جائيا. معالجا أن يغالب غيظه وهو يقول لنفسه: «إن المرء أحيانا ينقصه المزاج المناسب. وأحيانا أخرى يتكلم بجلاء كأنما الألفاظ مخطوطة أمام عينيه. وأنا أحيانا أكون كالملجم فلا أحسن العبارة عما في نفسي، نعم هذا كثيرا ما يقع.»
وصمت كلاهما، ثم وقف يوري بجانب النافذة وتناول قبعته وقال: «دعنا نتمشى.»
أجاب: «حسن جدا.»
ووافق نوفيكوف وفي مأموله أن يلاقي ليدا وسره أمله وأحزنه في آن.
الفصل التاسع
ذهب يوري ونوفيكوف يتمشيان في الميدان ولم يقابلا أحدا يعرفانه فأخذا يستمعان إلى فرقة الموسيقى التي كانت تعزف كالعادة في الحديقة وكان عزفها ضعيفا وألحانها خشنة متنافرة.
ولكن صوتها كان شجيا هافيا عن بعد. ولم يريا إلا رجالا ونساء يتمازحون ويضحكون، وكانت ضوضاء سرورهم لا تناسب الموسيقى الحزينة والليل المتجهم فأمض ذلك يوري.
وانضم إليهما سانين في آخر الميدان وحياهما محتفلا وكان يوري لا يحبه ففتر الحديث.
وراح سانين يضحك من كل مخاوف تقع عليه عينه.
ثم قابلوا إيفانوف فمضى معه سانين.
وسألهما نوفيكوف: «أين تذهبان؟»
فقال إيفانوف: «أريد أن أشارب صديقي»
وأخرج زجاجة «فودكا» لوح لهما بها مباهيا، فضحك سانين.
وذهب يوري بعد هذا الضحك والفودكا في الحضيض الأوهد من عامية النفس وخشونتها ولوى وجهه عنهما مشمئزا.
ولاحظ سانين ذلك منه ولكنه لم يقل شيئا.
ولكن إيفانوف قال متهكما: «أحمدك اللهم إذ لم تجعلني كغيري من الناس!»
فاحمر وجه يوري وقال لنفسه: «ونكتة مبتذلة أيضا تضاف إلى سابقتها!»
وهز كتفيه استخفافا وانصرف.
وقال إيفانوف: «نوفيكوف! أيها الفريسي الغرير تعال معنا!»
فسأله: «لماذا؟»
فرد عليه: «لنشرب.»
فأدار نوفيكوف عينه في المكان متحسرا، ولكن ليدا لم يكن لها أثر.
فضحك سانين وصاح به: «إن ليدا في البيت تكفر عن ذنوبها!»
فقال نوفيكوف مغضبا: «ما هذه السخافة؟ إن علي أن أعود مريضا ...»
فأجاب سانين: «يستطيع أن يموت بدون مساعدتك! ونحن نستطيع أن نشرب الفودكا بدون معونتك أيضا.»
فقال نوفيكوف لنفسه «ولنفرض أني سكرت!»
ثم التفت إليهم وقال: «حسن سأذهب معكما.»
وكان يوري يسمع عن بعد صوت إيفانوف الضخم الخشن وضحكة سانين الجذلة المستخفة فعاد يتمشي في الميدان وأهابت به ظلمة الليل أصوات فتيات ندية.
وكانت سينا كارسافينا ودوبوفا المدرسة جالستين على مقعد وهما في ثياب قاتمة، ورأساهما عاريان، وفي أيديهما كتب يحملانها، ولم يكن يسهل أن يراهما المرء في الظلام.
فأسرع يوري ولحق بهما وسألهما: «أين كنتما؟»
فقالت سينا: «في المكتبة.»
وتحركت رفيقتها دون أن تتكلم لتفسح مكانا ليوري.
وكان يود لو جلس بجانب سينا ولكنه لخجله جلس إلى جانب دوبوفا المدرسة الدميمة.
وسألته دوبوفا: «ما لوجهك فيه كل آيات التعاسة؟»
وضمت شفتيها الجافتين كما هي عادتها.
فرد عليها: «ماذا يحملك على الظن بأني تعس؟ إني على العكس منشرح الصدر وربما كنت سأمان قليلا.»
فقالت دوبوفا: «إن علة مثيلك أن لا عمل لك.»
قال: «أولديك أعمال كثيرة إذن؟»
قالت: «مهما يكن من الأمر فليس عندي وقت للبكاء.»
قال: «أترينني أبكي؟»
فقالت دوبوفا مكايدة: «إن بك نوبة سهوم.»
قال يوري بلهجة فيها من المرارة ما ألزمهم الصمت: «إن حياتي أنستني الضحك كيف يكون.»
ثم عاد إلى الكلام بعد فترة: «لقد أخبرني صديق لي أن في حياتي عبرة كبيرة.»
وإن كان لم يقل له أحد مثل هذا الكلام.
فسألته سينا بحذر: «كيف؟»
أجاب يوري: «هي مثال يريك كيف لا يعيش المرء.»
فقالت دوبوفا: «حدثنا عنها بالله لعلنا نستفيد من الدرس.»
وكان يوري يرى أن حياته إخفاق مطلق وأنه هو أتعس الناس وأشقاهم. وفي هذا الاعتقاد نوع من السلوى الشجية، فكان يلذ له أن يبث الناس شكاته من حياته ومن الناس على العموم. ولم يكن يحدث الرجال بشيء من هذا، إذ كان يشعر بغريزته أنهم لن يصدقوه. أما النساء - لا سيما الشواب الجميلات منهن - فكان على أتم استعداد للإسهاب معهن في تحديثهن عن نفسه.
وكان يوري وسيما محدثا، ولم يعدم قط من النساء العطف عليه والمرثية له.
فشرع يحدثهما متفكها في أول الأمر، غير أنه لم يلبث أن عاودته نغمته المألوفة فأطال في الكلام في نفسه، ويظهر مما قال أنه رجل ذو مواهب عظيمة سحقتها قوة الظروف، وأساء فهمها حزبه وقضى عليه نحس الطالع وحماقة الناس ألا يكون أكثر من طالب منفي لا زعيم أمة.
وكان يوري ككل الراضين عن أنفسهم لا يستطيع أن يدرك أن هذا ليس من شأنه أن يثبت عظم مواهبه، وأن ذوي العبقرية يلتف بهم مثل رفقائه وتعترض سبيلهم مثل هذه الكوارث والمصائب، ولكنه كان يتوهم أنه هو وحده فريسة قدر لا يرحم.
ولما كان محدثا بارعا وكان في كلامه قوة وحياة فإن ما يقوله كان يكتسب رنة الصدق، فتصدقه الفتيات ويعطفن عليه ويشاطرنه الأسى لما نزل به.
وكانت الفرقة لا تزال تعزف ألحانها الحزينة المتنافرة والليل حالك ثقيل الطل فاكتأبوا جميعا. ولما كف يوري عن الكلام سألته دوبوفا وهي تفكر في حياتها المملة الفاترة وصباها البائد قبل أن تدري ما الطرب أو الحب: «قل لي يا يوري؟ ألم تخطر لك فكرة الانتحار؟»
أجاب: «لماذا تسألينني هذا؟»
قالت: «لا أدري لماذا؟»
وصمتوا جميعا.
ثم سألته سينا بشيء من التلهف: «إنك عضو في اللجنة. أليس كذلك؟»
فأوجز يوري في الجواب مجتزئا بنعم.
كأنه يريد أن يعترف بهذه الحقيقة ولكنه في الواقع سره أن يعترف لأنه ظن ذلك يزيد اهتمام الفتاة به.
ثم رافقهما إلى بيتهما وجعلوا يضحكون جميعا ويتحدثون كثيرا طول الطريق، وانقشعت عنهم سحابة الكآبة.
ولما انصرف يوري قالت سينا: «ما ألطفه.»
فهزت دوبوفا أصبعها متوعدة: «حاذري أن تقعي في حبه.»
فقالت سينا: «أي خاطر هذا؟»
وضحكت وإن كان الخوف قد خامرها.
ووصل يوري إلى بيته وهو أكثر انشراحا وأعظم أملا، وذهب إلى الصورة التي كان قد بدأها وجعل يتأملها فلم يجد لها في نفسه وقعا ما، فاستلقى ونام راضيا مطمئنا، وبدت له في أحلامه نساء جميلات متأنقات مغريات.
الفصل العاشر
وفي الليلة التالية عاد يوري إلى نفس المكان الذي التقى فيه سينا وزميلتها وكان نهاره كله يفكر مسرورا فيما جرى له معهما من الحديث في الليلة السابقة.
فراح يرجو أن يلقاهما مرة أخرى وأن يحدثهما كما فعل، وأن يرى في عيني سينا الرقيقتين نظرة العطف والحنو التي أنس بها في ليلته تلك.
وكان المساء ساكنا والجو دافئا والأتربة الخفيفة ثائرة، والميدان خاليا إلا من واحد أو اثنين من السابلة.
فسار يوري وعيناه إلى الأرض، وجعل يخاطب نفسه قائلا: «ما أشد ملالي، ماذا أصنع؟»
وإنه لكذلك وإذا بشافروف الطالب يغذ السير ويطوح بذراعيه ثم دنا منه وعلى وجهه ابتسامة الودود وسأله: «ما لك تمشى وئيدا؟»
فقال يوري بلهجة فاترة فيها شيء من التعالي: «لقد كاد يقتلني الملل ولا أدري ماذا أصنع. وإلى أين؟»
وكان لا يكلم شافروف إلا بهذه اللهجة لأنه عضو سابق في اللجنة الثورية، أما شافروف فما هو في نظره إلا فتى ثوري حديث العهد. فابتسم شافروف ابتسامة الرضى عن النفس وقال: «ستلقى اليوم محاضرة.»
وأشار إلى حزمة من الرسائل مطوية في ملف ملون.
فتناول يوري إحداهما وفتحها وقرأ المقدمة الطويلة الحافة لخطبة اشتراكية مشهورة كان يعرفها ثم نسيها الآن.
فسأله يوري: «وأين تلقى هذه المحاضرة؟» ورد إليه الرسالة وعلى فمه ابتسامة الاستخفاف.
أجاب شافروف: في «المدرسة.»
وكانت هي عين المدرسة التي تدرس فيها سينا كرسافينا ودوبوفا. فذكر يوري أن أخته لياليا حدثته مرة عن هذه المحاضرات ولكنه لم يجعل باله إليها، فسأله: «أتسمح لي أن أرافقك؟»
أجاب: «بلا شك.»
وأظهر السرور بهذا الاقتراح وكان يعد يوري مهيجا صميما ويبالغ في تقدير كفاءته السياسية ويكبره ويحبه.
وأحس يوري أن لا بد له من أن يقول: «إني عظيم الاهتمام بهذه الشئون.»
وسره أن عرف كيف يقضي ليلته وأنه سيلاقي سينا مرة أخرى.
فقال شافروف: «نعم تهتم بلا ريب.»
أجاب: «إذن فلنمض.»
وسارا مسرعين في الميدان واجتازا الجسر، وصافحهما من جانبيه الهواء البليل ولم يلبثا أن بلغا المدرسة حيث كان الناس قد اجتمعوا.
وكانت القاعة مظلمة وقد صفت فيها المقاعد والأدراج وبدأ القماش الأبيض المعد للمصباح السحري. وكان المرء يسمع أصوات الضحك المكتوم.
ووقفت لياليا ودوبوفا عند النافذة ومنها كان الناظر يستطيع أن يرى أغصان الأشجار الخضراء وعليها من الظلام جهامته، فحيتا يوري فرحتين.
وقالت لياليا: «ما أعظم سروري بحضورك!»
وهزت دوبوفا يده بشدة.
فقال يوري مستفهما وأدار لحظه فيمن حوله لعله يرى شيئا: «لماذا لا تبدءون؟»
ثم قال وفي صوته دليل صريح على خيبة أمله: «أرى سينا لا تحضر هذه المحاضرات.»
وأشعل بعضهم في هذه اللحظة عود كبريت قريبا من منضدة المحاضر، فبدت في نوره قسمات سينا وأضاء محياها النضير الجميل وكانت تبتسم في سرور، فقالت وانحنت ليوري ومدت إليه راحتها ... - «ألا أحضر هذه المحاضرات؟»
فصافحها مسرورا دون أن يتكلم.
واتكأت هي قليلا ووثبت إلى جانبه فأحس نفسها العذب المنعش على خده.
وجاء شافروف من الغرفة المجاورة وقال: «قد آن أن نبدأ.»
فسار الخادم بخطى ثقيلة طائفا بالغرفة، وموقدا مصابيحها واحدا بعد واحد فشاع في الحجرة نورها.
وفتح شافروف الباب المؤدي إلى الممر وقال بصوت عال: «تفضلوا من هنا.»
فدخل الناس وكان بهم في أول الأمر بعض الحياء ثم ما عتموا أن حثوا الخطى في جلبة وضوضاء.
وجعل يوري يفحص وجوههم ولما كان من مروجي الدعوة السياسية فقد تحركت نفسه واشتد اهتمامه.
ودخل الحجرة شيوخ وشبان وأطفال لم يجلس منهم أحد في الصف الأول فشغلته سبع سيدات لا يعرفهن يوري وإلى جانبهن مفتش المدارس وأساتذة المدارس الابتدائية للبنين والبنات ومعلماتها، وغصت بقية القاعة بلابسي الجلاليب والمعاطف الطويلة وبالجنود والفلاحين والنساء وبكثير من الأطفال في قمصان ملونة عليها جاكتات واسعة.
وجلس يوري بجانب سينا إلى درج وأصغى إلى شافروف وهو يتلو في سكون - أردأ تلاوة - خطابا موضوعه حق الانتخاب العام.
وكان صوته جافا مملا فما قرأ شيئا إلا خيل إلى سامعه أنه قائمة إحصاءات.
ولكن الناس أنصتوا مع هذا ما خلا المتعلمين الجالسين في الصف الأول، فسرعان ما قلقوا وراحوا يتهامسون.
فساء يوري هذا منهم وأدركه العطف على شافروف والأسف لرداءة إلقائه، وكان هذا قد بدا عليه التعب فقال يوري لسينا: «ما قولك في أن أنوب عنه؟»
فرمته بنظرة رقيقة من تحت أهدابها المرسلة. وقالت: «نعم. نعم افعل ذلك بودي لو فعلت.»
فهمس في أذنها مبتسما لها كأنما كانت شريكته: «أترين في هذا ضيرا؟»
فقالت: «ضير؟ كلا، كلنا حقيقون أن نغتبط.»
وسنحت فترة فعرضت ذلك على شافروف وكان قد نال منه التعب ولم يكن يغيب عنه سوء إلقائه فقبل مسرورا وأخلى مكانه ليوري وقال: «بلا شك حبا وكرامة.»
وكان يوري مولعا بالإلقاء يحسنه ويجيده فتقدم إلى المنضدة دون أن ينظر إلى أحد وشرع يتلو بقية المحاضرة بصوت عال متزن.
وسدد لحظه إلى سينا مرتين. والتقت عينه في كل منهما بعينها المتألقة الفصيحة فابتسم لها مسرورا مرتبكا ثم رجع إلى كتابه واستأنف القراءة بصوت أعلى وأقوى وكان كأنما يباشر عملا ليس أسمى منه ولا أمتع، ولما فرغ صفق له الجالسون في الصفوف الأولى فانحنى لهم يوري في أدب ووقار وانصرف عن المنضدة وهو يبتسم لسينا كأنما يريد أن يقول لها: «لقد فعلت هذا من أجلك.»
وتهامس الناس قليلا ثم تجاوبت الحجرة بضوضاء الكراسي لما دفعها الجالسون عليها إلى الوراء وهم ينهضون عنها.
وقدم يوري إلى سيدتين هنأتاه بحسن إلقائه.
ثم أطفئت المصابيح وعادت الغرفة مظلمة.
وقال شافروف وهو يهز كف يوري بحرارة: «أشكرك كثيرا. وبودي لو أن لنا دائما من يلقي مثلك.»
وكانت المحاضرة شغل شافروف فأكبر صنيع يوري وطوق نفسه بفضله كأنما كان أحسن إليه في أمر يخصه وإن كان كان قد جعل شكره باسم الشعب. وألح شافروف في ذكر «الشعب» وجعل يؤكد لفظه ويقول كأنما يودع يوري سرا خطيرا: «إنهم لا يصنعون هنا شيئا للشعب وإذا هم فعلوا فبدون اكتراث أو احتفال. وغريب أمرهم! يأتون بطائفة مختارة من خير الممثلين والمغنين والمحاضرين ليتلهى بهم المتطلبون من السادات. فأما الشعب ففي محاضر مثلي الكفاية. كل امرئ راض. فماذا يطلبون فوق هذا؟»
وافتر ثغره سرورا بتهكمه الرقيق.
فقالت دوبوفا: «هذا صحيح. والصحف تفرد أعمدة برمتها للممثلين ولأعمالهم العجيبة، إن هذا مثير حقا. أما هنا ...»
فقال شافروف باقتناع وهو يجمع أوراقه: «ولكن ما أصلح عملنا وأنفعه؟»
فقال يوري لنفسه: «يا لها من غرارة كغرارة الأطفال؟»
ولكن وجود سينا وما وفق إليه هو من النجاح جنحا به إلى التسامح. والواقع أن بساطة شافروف وسذاجته وقعا من نفسه وأشعراه بعض العطف عليه.
ولما صاروا في الشارع سألتهم دوبوفا: «والآن أين نذهب؟»
وكان الظلام في الشارع مثله في الحجرة ولم يكن في السماء إلا بضعة نجوم مضيئة.
وقالت دوبوفا ليوري: «أنا وشافروف ذاهبان إلى أسرة راتوف، فهل لك أن ترافق سينا إلى المنزل؟»
أجاب: «بسرور.»
وكانت سينا ودوبوفا يسكنان بيتا واحدا قائما وسط حديقة كبيرة مجدبة المنظر. وكان حديث سينا ويوري أثناء رواحهما دائرا حول المحاضرة ووقعها في نفوس السامعين.
فزاد اقتناع يوري بأنه أتى عظيما وفعل شيئا مجيدا.
ولما بلغا البيت قالت سينا: «هل لك أن تمكث معي برهة؟»
فقبل يوري مسرورا وفتحت الباب واجتازا الفناء المعشوشب وكانت الحديقة تلوه. فقالت سينا ضاحكة: «اسبقني إلى الحديقة. ولقد كان بودي أن أدخلك المسكن ولكنه ليس على ما ينبغي من النظافة والنظام، فإني لم أعد مذ زايلته في الصباح.»
ودخلت البيت ومضى يوري متريثا إلى الحديقة الخضراء الأرجة ولم يوغل فيها بل وقف يلتفت في أرجائها ويحدق في نوافذ البيت المظلمة كأنما قام بنفسه أن شيئا يجري هناك - شيئا غريبا جميلا غير مفهوم - وبرزت سينا إلى عتبة الباب، ولكن يوري لم يكد يعرفها وكانت قد نضت ثوبها الأسود وارتدت ثوب «الروسيا الفتاة» وهو صدرية إلى الخصر قصيرة الأكمام ينسدل من تحتها إلى الساقين قميص أزرق فقالت باسمة: «هذا أنا.»
فأجابها يوري وفي صوته نبرة توكيد لا يقدرها غيرها: «وكذلك أراك.»
فابتسمت ثانيا ونحت عينها عنه وهما يسيران بين الحشائش الطويلة وأغصان الليلاج. وكانت الأشجار صغيرة وأكثرها أشجار توت لأوراقها الصغيرة رائحة الصمغ. ومما يلي الحديقة مرج متفتحة فيه الأزاهير بين الحشائش.
فقالت سينا: «دعنا نجلس هنا.»
فجلسا إلى جانب السور المتداعي وجعلا يتأملان الشفق الزائل من وراء المرج، وتناول يوري عود ليلاج صغير فتساقطت عنه الأنداء.
وسألته سينا: «هل أغنيك؟»
أجاب: «نعم غنني!»
فأصعدت سينا نفسا عميقا كما فعلت ليلة النزهة وبرزت معالم صدرها البديع تحت صدريتها الرقيقة وهي تغنيه:
آه يا نجم الحب الوضيء
وسبحت ألحانها النقية الحارة في جو المساء.
وظل يوري جامدا يرمقها ويحبس أنفاسه أن تطغى بصدره.
وأحست هي أنها قيد لحظه فأغمضت عينيها وانطلقت تغني أعذب غناء وأحره.
وكان السكون شاملا محيطا كأن كل شيء يصغي، ومثل في خاطر يوري سكون الغابات الرهيب في الربيع إذا ما غرد بلبل.
وكانت خاتمة غنائها نغمة صافية عالية غادرت السكون أتم وأشد.
وكان الشفق قد زال وأمست السماء حالكة مهولة وارتعشت الأوراق والحشائش من حيث لا تراها عين، وهب على المرج وجاز الحديقة نسيم أرج خفيف كالزفرة.
فأدارت سينا عينيها المتألقتين في الظلام إلى يوري وقالت: «ما لك صامتا؟»
أجاب: «ما أجمل هذا المكان!» وتناول عود ليلاج ندي آخر.
فقالت سينا بهيئة الحالم: «نعم إنه جميل.»
فقال يوري: «جميل جدا أن يعيش المرء.» وطاف برأسه خاطر غامض مقلق ولكنه لم يلبث أن زال قبل أن يستبين ويتضح. وصفر بعضهم صفرتين عاليتين على الناحية الأخرى من المرج.
ثم سكنت كل نأمة فقالت سينا فجأة وقد سرها على ما يظهر هذا السؤال الذي لم يكن من داع له: «أتحب شافروف؟»
فأحس يوري ألم الغيرة لحظة ولكنه أجاب بتؤدة بعد جهد لطيف: «إنه رجل طيب.»
فقالت: «ما أعظم انقطاعه لعمله.»
فسكت يوري وتصاعد من المرج ضباب رقيق أشهب وحال لون الحشائش تحت الندى.
وقالت سينا وهي ترتجف قليلا: «لقد اشتدت الرطوبة.»
فنظر يوري إلى كتفيها الرقيقتين المستديرتين واضطرب فجأة.
وأحست هي بنظرته فسرت إليها عدوى الاضطراب، وإن كان قد سرها ما لاحظت وقالت: «لنقم من هنا.»
وعادا أدراجهما آسفين وقطعا ممشى الحديقة الضيق وكانا يحتكان أحيانا وهما سائران: وكل ما حولهما مظلم مهجور. وخيل إلى يوري أن ستبدأ حياة الحديقة الآن - حياة مستسرة مجهولة - وأن ستتسلل بين الأشجار وترتمي على الحشائش المثقلة بالأنداء ظلال غريبة متى احلولك الظلام، وأن أصواتا ستتهامس في المخضر الساكن من أرجائها.
وأفضى إلى سينا بهذا الخاطر فشخصت بعينيها السوداوين إلى الظلام وهي تفكر وقام في نفس يوري أن «سينا» لو نضت عن جسمها كل أرديتها وانطلقت تعدو على الحشائش المطلولة إلى حيث تتكاثف الأشجار - وهي عارية بيضاء جذلة - لما كان في هذا شيء من الغرابة. بل أخلق به أن يكون أمرا طبيعيا حسن الوقع. وليس من شأن هذا الحادث - إذا وقع - أن يزعج حياة الحديقة الخضراء المظلمة ولعلها تستوفي به حاجتها، ونازعته نفسه أن يسر إليها بهذا الخاطر، ولكن شجاعته خانته فتحدث إليها عن المحاضرات والشعب، ولكن الحديث كان مقطع الأوصال ثم كفا عن الكلام كأنما ضنا بالألفاظ أن يسوقاها عبثا.
وهكذا وصلا إلى الباب وهما صامتان باسمان ينفضان بأكتافهما الندى عن الأغصان.
وكان كل شيء ساكنا مفكرا سعيدا مثلهما.
وكان الفناء مظلما مهجورا كما ألفياه من قبل. ولكن الباب الخارجي كان مفتوحا وتأدى إليهما من البيت وقع أقدام مسرعة وصوت أدراج تفتح وتقفل فقالت سينا: «لقد عادت أولجا.»
وسألت دوبوفا من البيت: «سينا! أهذا أنت؟»
وكان في نبرة صوتها ما يشعر بوقوع أمر سيئ وبرزت إلى الباب مضطربة حائلة اللون، وقالت وأنفاسها منبهرة: «أين كنت؟ لقد كنت أبحث عنك. إن سمينوف يموت!»
فصاحت سينا فزعة: «ماذا تقولين؟»
أجابت: «نعم يموت. فقد انفجر أحد أوعية الدم. ويقول أناتول بافلوفتش إنه مقضي عليه وقد حملوه إلى المستشفى. وكان كل ذلك بسرعة مرعبة فقد كنا في بيت راتوف نشرب الشاي وكان المسكين جذلا يجادل نوفيكوف في كل مسألة. ثم أخذه السعال فجأة فنهض وتطرح ونفث الدم على كساء المائدة وفي طبق المربى ... والدم أسود سائل.»
فسألها يوري باهتمام ساهم: «وهل هو يعرف ذلك؟»
وذكر الليلة القمراء والظل الحالك والصوت الضعيف المتقطع يقول له: «ستكون حيا وتمر بقبري وتقف عليه وأنا ...»
فقالت دوبوفا وعلى يديها حركة عصبية: «نعم يظهر أنه يعرف، فقد دارت بنا عينه وسألنا: «ما هذا؟» ثم أخذته الرعدة من فرعه إلى قدمه وقال: «أوقد قضي الأمر؟» أليس هذا فظيعا؟»
فقال يوري: «هذا أهول مما يطاق!» وصمتوا جميعا.
وكان الظلام الآن حالكا. ومع أن السماء صافية فقد توهموا فيها الكآبة والحزن.
ثم قال يوري ووجهه أصفر: «الموت شيء فظيع.»
فتنهدت دوبوفا ونظرت إلى الفضاء. وارتعشت ذقن سينا وابتسمت وهي لا تملك غير ذلك ولم تستطع أن تحس ما أحساه من الهول. وهي غادة في عنفوان الصبا يجول في عودها ماء الحياة الدافق ولا يسعها أن تحصر خواطرها في الموت. ولم يكن مما يصدقه خيالها أو يقوى على تصوره أن يتعذب أحد ويموت في ليلة صيفية جميلة وضيئة كهذه. نعم إن الموت طبيعي لا شك فيه، ولكنه لسبب ما خطأ. وأخجلها هذا الإحساس فعالجت أن تنفيه وأن تظهر على قسمات وجهها دلائل العطف. وراحت بفضل هذا الجهد وهي أظهر أسى من صاحبيها وسألت: «مسكين! أهو حقيقة ...؟»
وكانت تريد أن تسأل: «هل سيموت عاجلا؟»
ولكن الألفاظ وقفت في حلقها. وجعلت تلقي على دوبوفا أسئلة فارغة مفككة.
فقالت دوبوفا بصوت فاتر: «إن أناتول بافلوفتش يقول إنه سيموت الليلة أو غدا صباحا.»
فهمست سينا: «أولا نذهب إليه؟ أم تريان أن البقاء خير؟ لا أدري!»
وكان هذا السؤال يدور في أذهانهم جميعا - أيذهبون ويشهدون سمينوف وهو يقضي نحبه؟ أيكون هذا خطأ منهم أم صوابا - ورغبوا جميعا في الذهاب ولكنهم أشفقوا مما عسى أن يشهدوا.
فهز يوري كتفيه وقال: «فلنذهب. ومن المحتمل جدا أن لا يأذنوا لنا وربما ...»
فأضافت دوبوفا كأنما ارتفع عن كاهلها عبء: «ربما طلب سمينوف أن يرى بعضهم على الخصوص.»
فقالت سينا بلهجة جافة: «تعالوا بنا! سنذهب.»
وقالت دوبوفا وكأنها تريد أن تسوغ الأمر لنفسها: «إن شافروف ونوفيكوف هناك.»
وعدت سينا إلى البيت لتعود بقبعتها ومعطفها ثم مضوا جميعا في وجوم مخترقين البلدة إلى البناء الضخم الأشهب ذي الأدوار الثلاثة، أي المستشفى الذي كان سمينوف يجود فيه بأنفاسه.
وكانت الممرات الطويلة ذات الأقبية مظلمة تتصاعد منها رائحة اليودوفرم والكاربوليك.
ومروا في طريقهم بقسم المجانين فسك أسماعهم صوت ثائر أجش، ولكنهم لم يروا أحدا ففزعوا وحثوا الخطى إلى نافذة صغيرة معتمة.
وجاء إليهم فلاح هرم شائب الرأس واللحية وعلى صدره «فوطة» كبيرة وقدماه في حذائين عاليين ضخمين يدب بهما على الأرض. فسألهم ووقف: «من تريدون أن تعودوا؟»
فقالت دوبوفا متلجلجة: «جيء بطالب إلى هنا - سيمنوف - اليوم!»
فقال الخادم: «رقم 6 في الدور الثاني.»
وتركهم وسمعوه يتسخط ويبصق على الأرض ثم يدهس البصاق بقدمه.
وكان الدور الثاني أضوأ وأنظف ولم تكن بالسقف عقود ورأوا بابا مفتوحا مكتوبا عليه «حجرة الطبيب» ولمحوا فيها مصباحا يضيئها وسمعوا أصوات الزجاجات والأكواب.
فأدخل يوري رأسه ونادى من فيها فانقطعت الأصوات.
وظهر ريازانتزيف نضير الوجه مسرورا كعادته، وقال بصوت طروب إذ كان قد ألف هذه الحوادث التي أحزنت زائريه: «آه إن دوري اليوم. كيف أنتم سيداتي؟»
ثم قطب فجأة وقال بلهجة جادة كبيرة الدلالة: «إنه لا يزال غائبا عن رشده على ما يظهر. فلنذهب إليه، إن نوفيكوف وغيره هناك.»
وساروا واحدا وراء الآخر في الممر الضيق النظيف، وإلى يمينهم ويسارهم أبواب بيضاء عليها أرقام سوداء وقال ريازانتزيف: «ولقد أرسلنا في طلب القسيس: ما أسرع ما جاءت الخاتمة! إني مستغرب! ولكنه أصيب ببرد كما تعلمون وهذا هو الذي قضى عليه، هذه هي الغرفة.»
وفتح ريازانتزيف بابا أبيض ودخل منه وتبعه الآخرون يتصادمون على العتبة.
وكانت الغرفة نظيفة رحيبة وفيها أربعة أسرة خالية، وعلى كل منها غطاؤه الخشن مطويا يحضر في الذهن صورة النعش، وفي السرير الخامس رجل هرم ضئيل الجسم جاف العود جالس يلحظ الداخلين، وعلى السرير السادس سمينوف وفوقه غطاء خشن كذلك، وإلى جانبه نوفيكوف منحنيا إليه على حين كان إيفانوف وشافروف واقفين عند النافذة.
وكانوا كلهم يرون من الأمور الغريبة المؤلمة أن يتصافحوا في حضرة رجل يموت وربكم أن لا يفعلوا كأن في ترك المصافحة إشارة إلى أن المنتهى قريب. فسلم البعض وامتنع الآخرون ووقفوا جميعا يرمقون سمينوف بعيون مستفسرة.
وكان يتنفس ببطء وجهد. وما أبعده عن سمينوف الذي يعرفونه، والواقع أنه لم يكن كالأحياء وقد ظلت معارفه وأوصاله ولكنها صارت متصلبة مشدودة فظيعة المنظر. وكأن ذلك الذي يصب الحياة والحركة في أجسام الآدميين غيره لم يعد له وجود، وكأن أمرا مرعبا يجري بسرعة وتكتم في هذا الجسم الجامد؛ أمرا مهما لا سبيل إلى إرجائه، وكأنما لم يبق له من الحياة إلا تلك القوة المشتغلة بهذا العمل المتفرغة لإتمامه باهتمام حاد لا يناله التفسير.
وكان المصباح المدلى من السقف يصب ضوءه على وجه ذلك المائت، وكل من في الغرفة يتئره النظر ويعلق أنفاسه كأنما يخشى أن يزعج شيئا رهيبا. فكانت أنفاس المريض المحشرجة المخنوقة - وسط هذا السكون - واضحة وضوحا مرعبا.
وفتح الباب ودخل قسيس بدين قصير يسير بخطى قصيرة ضعيفة، ومعه المرتل وهو رجل أسمر هزيل، ودخل معهما سانين وسعل القسيس سعالا خفيفا وانحنى للطبيبين وللحضور فردوا عليه بأدب مبالغ فيه ثم عادوا إلى الصمت التام.
أما سانين فلم يجعل باله إلى أحد. ومضى إلى النافذة ومن ثم أخذ يرصد سمينوف والحاضرين جميعا منقبا في سرائرهم معالجا أن يستشف من الوجوه ما يحسه المريض ومن حوله ويفكرون فيه في الواقع.
وظل سمينوف جامدا يتنفس كما كان.
وقال القسيس في رفق غير موجه سؤاله إلى أحد على التعيين: «إنه غائب عن رشده. أليس كذلك؟»
فأسرع نوفيكوف وأجابه: «نعم.»
وتمتم سانين شيئا غير مفهوم فنظر إليه القسيس مستفسرا غير أن سانين ظل صامتا فصرف القسيس وجهه عنه ومسح شعره ورده إلى الوراء ولبس عباءته وشرع ينشد التراتيل للميت بصوت عال شجي.
وكان صوت صاحبه المرتل ضخما خشنا ثقيلا فصار الصوتان المختلفان مؤلمين في تنافرهما وهما يتصاعدان إلى السقف العالي.
ولم يكد الترتيل يبدأ حتى اتجهت كل العيون في فزع إلى ذلك الذي يموت.
وكان نوفيكوف أدنى إليه فخيل إليه أن جفون سمينوف اختلجت قليلا كأنما تحرك من تحتها الإنسانان المكفوفان في اتجاه الغناء. أما الآخرون فلم يروا إلا أن سمينوف بقي بلا حراك كما كان من قبل.
ولم يكد الترتيل يبدأ حتى بكت سينا بكاء ساكنا ملحا وانهمرت الدموع على محياها النضير الجميلن فتحولت إليها العيون وشرعت دوبوفا تبكي كذلك وجالت العبرات في عيون الرجال ولكنهم قرضوا أسنانهم ليمنعوا الدموع أن تسيل. وكانت الفتيات كلما علا الترتيل ازددن نحيبا. فعبس سانين وهز كتفيه محنقا وجعل يقول لنفسه: ما أخلق سمينوف أن لا يطيق - إذا سمع - هذا العويل الذي يكرب نفس الأصحاب ثم قال للقسيس في غيظ: «خفض من صوتك!»
فمال القسيس إليه ليسمع ما يقول فلما فهم معناه قطب وزاد في صوته علوا. وحملق رفيقه في سانين ورماه الجميع بنظرهم كذلك وبهم مزيج من الخوف والدهشة كأنه قال شيئا يسوء فأعرب سانين عما به من الضيق بإيماءة ولم ينبس.
ولما انتهي من الترتيل وطوى القسيس الصليب في عباءته ألح الانتظار على النفوس بالألم. وكان سمينوف متصلبا جامدا كالعهد به.
ثم طاف بأذهان الجميع فجأة خاطر فظيع لا سبيل إلى مغالبته ونفيه: «أما لو أنه انتهى الأمر بسرعة! لو أن سمينوف يعجل بالموت!»
ولكن الخوف والخجل دفعاهم إلى كتمان هذه الرغبة والاكتفاء بتبادل النظرات الضعيفة.
فقال سانين بصوت منخفض: «أما لو انتهى كل هذا! فظيع أليس كذلك؟»
فأجابه إيفانوف: «نعم.»
وكان كلامهما همسا، ومن الجلي أن سمينوف لم يكن يستطيع أن يسمعهما غير أن الحاضرين بدت عليهم أمارات الاشمئزاز والاستفظاع.
وهم شافروف أن يقول شيئا ولكن صوتا جديدا شاكيا - لا سبيل إلى وصف ما انطوى عليه من ألم - دوى في الغرفة وأرسل الرعدة في الموجودين. ذلك أن سمينوف أخرج هذا الصوت: «اي ... اي ... اي ...»
وكأنما اهتدى إلى طريقة يطلبها للتعبير والنطق فمضى يخرج هذا الصوت الممطوط لا يعوقه إلا نفسه المحشرج المخنوق.
ولم يدرك الحضور في أول الأمر ماذا حدث له. ولكن سينا ودوبوفا بكتا.
واستأنف القسيس ترتيله في بطء واحتفال وظهرت على وجهه السمين الطيب دلائل العطف والانفعال.
ومضت دقائق. وكف سمينوف فجأة عن التوجع وهمس القسيس أن قد قضي الأمر.
ثم حرك سمينوف ببطء وبجهد جاهد شفتيه المصمغتين وتقبض وجهه كأنما يبتسم وسمع النظارة صوتا أجوف منكرا يخرج من أعماق صدره - وكأنه خارج من نعش - يقول: «أيها الشيخ الأحمق!»
وعيناه تنظران شزرا إلى القسيس وشاعت الرعدة في جسمه ودار حملاقاه كالمجنونين في كهفيهما وتمطى ...
وسمعوا جميعا كلماته الثلاث ولكن لم يتحرك منهم أحد وغاضت - لحظة - من وجه القسيس السمين الرطب آية الحزن وتلفت حوله في قلق غير أن لحظه أخطأ كل عين. وكان سانين وحده يبتسم.
وحرك سمينوف شفتيه ثانيا غير أنه لم يخرج منهما صوت واسترخى أحد شاربيه الخفيفين وتمطى مرة أخرى، وصار في رأى العين أطول وأفظع. وانقطع كل صوت وكل حركة. ولم يبك أحد الآن، فقد كان نزول الموت أهول من ترنيقه، وكأنما كان من الغريب المعجب أن ينتهي منظر ملفت كهذا بمثل تلك السرعة والبساطة.
فظلوا برهة وقوفا إلى السرير يتأملون معارف وجهه الميتة النافقة وكأنهم يتوقعون أن يحدث شيء جديد وراحوا - لكي ينبهوا في نفوسهم الإحساس بالهول والمرثية - يرقبون نوفيكوف وهو يغمض أجفان الميت ويضع له يديه على صدره.
ثم خرجوا في سكون وحذر. وكانت المصابيح قد أضيئت في الممر وبدا لهم كل شيء مألوفا فخلصت أنفاسهم.
وكان القسيس أول الخارجين فمضى بخطوات قصيرة وأراد أن يقول شيئا على سبيل العزاء للإيضاع من الحاضرين فتنهد وقال بصوت رقيق: «وا أسفاه! إنه لأمر محزن جدا! وفي مثل هذا الشباب أيضا. وا أسفاه! ومن الواضح أنه مات غير تائب ولكن الله رحيم.»
فقال شافروف وكأنه يليه متوخيا الأدب: «نعم، نعم بالطبع.»
فسأل القسيس: «أتعرف أسرته ما حدث.»
فأجابه شافروف: «لست أدري.»
ونظر بعضهم إلى بعض في دهشة واستغربوا واستقبحوا أن لا يعرفوا من هم أهل الميت.
وقالت سينا: «أظن أخته في المدرسة العالية.»
فقال القسيس: «آه حسن! والآن عموا مساء.» ورفع قبعته قليلا بأصابعه السمينة.
فقالوا جميعا بصوت واحد: «عم مساء!»
ولما بلغوا الشارع تنهدوا كأنما تخلصوا. وسألهم شافروف: «أين نذهب؟»
وبعد تردد قليل ودع بعضهم بعضا ومضى كل في طريقه.
الفصل الحادي عشر
لما رأى سمينوف الدم الذي نفث وأحس الفراغ الرهيب في نفسه ومن حوله، ولما احتملوه ومضوا به ووضعوه وقاموا له بكل ما كان يفعله هو في حياته - حينئذ أيقن أنه سيموت وعجب كيف لا يشعر بأقل فزع من الموت.
وقد قالت دوبوفا: إنه ريع لأنها هي نفسها ريعت وتوهمت أنه لما كان الصحيح المعافى يرهب الموت فلا بد أن يكون المحتضر أعظم فزعا واستهوالا له. وحسبت اصفراره وشرود نظرته - وهما نتيجة الضعف وخسارة الدم - دليلا على الخوف. ولكن الأمر لم يكن كذلك في الواقع.
وكان سمينوف يخاف الموت أبدا ويفرق منه لا سيما منذ عرف أنه مصاب بالسل. وكان في أول مرضه نهب الفزع وفريسة الذعر شأنه في ذلك كشأن المحكوم عليه بالإعدام ضاع كل رجاء في العفو عنه. وكاد يصور له الرعب أن الدنيا لم يعد لها وجود منذ تلك اللحظة، وأن كل مستملح جميل سار قد اختفى وزال، وأن ما حوله يموت ويقضي نحبه، وأن كل لحظة بل كل ثانية قد تكر عليه بالمفزع الذي لا يسعه طوق والمستهول كالهاوية السحيقة السوداء الفاغرة. وكان الموت يتمثل له كالهاوية الهائلة المظلمة كالليل. وكانت هذه الهاوية أبدا ماثلة لعينه حيثما ذهب. وفي ظلامها الكثيف يختفي كل صوت وكل لون وكل إحساس. وأخلق بمثل هذه الحالة النفسية أن تكون مرعبة ولكنها لم تطل وصار سمينوف كلما أخب به الداء وأوجف على مر الأيام يزيد الموت في نظره بعدا وغموضا والتياثا.
واسترد ما حوله من الأصوات والألوان والعواطف قيمته الأولى عنده وعادت الشمس تشرق كأضوأ ما كانت. ورأى الناس يباشرون أعمالهم كالعادة وأحس هو مثلهم أن ثم أمورا خطيرة وأخرى تافهة ينبغي له أن يعالجها. وصار يقوم في الصباح ويتحرى العناية في غسل وجهه ويتناول غذاءه ويستمرئه أو لا يستمرئه كسابق عهده، ويجد الغبطة بالشمس تطلع والقمر ينير والضيق بالمطر والرطوبة كما كان. ويلعب البلياردو مساء مع نوفيكوف وغيره ويقرأ الكتب ويستجيد بعضها ويستسخف البعض ويسترذله كعهده قديما.
وضايقه - بل آلمه في أول الأمر - أن كل شيء ظل على حاله لم يلحقه تغيير، فحاول أن يبدل هذا الحال بأن يدفع الناس إلى الاهتمام له والاكتراث لموته، وأن يكرههم على أن يقدروا موقفه المفزع وأن يدركوا أن الأمر قد قضي ؛ غير أنه كان كلما أفضى إلى إخوانه بهذا عاد فرأى أنه لم يكن ينبغي له أن يفعل ذلك، وكانوا يعجبون أولا ثم يتشككون ويذهبون إلى الريب في دقة تشخيص الطبيب للمرض. ثم جعلوا يتوخون آخر الأمر أن يتقوا غضاضة وقع المسألة بأن يغيروا موضوع الكلام ويحولوا مجرى الحديث. وهكذا ألفى سمينوف نفسه يحادثهم في كل شيء ما خلا الموت.
ثم نزعت نفسه إلى العزلة وأن يخلو أبدا بنفسه وأن يتعذب مستفردا إذ كان حيز إدراكه قد استغرقه القضاء المنتظر. غير أن كل شيء بقي على حاله كما ظلت حياته وأوساطه كما كانت فبدا له أن من الخرف أن يتصور أن الأمر يمكن أن يكون على خلاف ذلك، أو أنه هو سيصبح ولا وجود له، وصار خاطر الموت أقل لذعا بعد إذ كان جرحا عميقا. ووجدت روحه المكروبة حريتها وتعددت لحظات النسيان التام وانبسطت أمامه وجوه الحياة رائعة اللون والحركة والصوت.
ولم يعد يطوف بنفسه إحساس الهاوية السوداء إلا وهو وحده ليلا، فكان بعد أن يطفئ المصباح يرى شبحا مسيحا لا شكل له ولا معارف يشارفه شيئا فشيئا في الظلام ويهمس في أذنيه «شش شش» بلا انقطاع فيجاوبه صوت بشع كأنه خارج من جوفه ويحس أنه صائر بعض هذا الهمس وهذه الهيولي ويرى حياته فيها لهيبا وانيا محتضرا قد ينطفئ في أي لحظة.
فاعتزم أن يدع المصباح يضيء الغرفة الليل كله، وكانت هذه الهمسات تنقطع في الضوء والظلمة تنتسخ. وفارقة إحساسه بأنه معلق على فوهة هاوية فاغرة لأن النور أشعره وجود ألف شيء تافه مألوف في حياته كالكراسي والنور والدواة وقدميه ورسالة لم يتم كتابتها والحذاء الذي نسي أن يتركه خارج الغرفة، وغير ذلك من الأشياء اليومية المحيطة به.
على أنه مع ذلك كان يسمع همسات صادرة عن أركان الغرفة التي لم ينرها ضوء المصباح فتفغر الهاوية فاها له، فكان يعرق من النظر إلى الظلام بل من التفكير فيه لأنه كان إذا فعل تكتنفه الحلوكة المزعجة، وتحجب عن عينه المصباح وتخفي العالم كأنما أضمره ضباب بارد كثيف. وكان هذا هو الذي يعذبه ويفزعه حتى لكانه يحس الحاجة إلى البكاء كالطفل أو أن ينطح الحائط برأسه.
ولكنه ألف هذه الإحساسات والهواجس على مر الأيام وكلما دنا من الموت. ولم تكن تلج به وتطغى إلا إذا أذكره مذكر - من كلمة أو إيماءة أو منظر جنازة أو قبر - أنه هو أيضا لا محالة ميت فآلى - لكي يتقي هذه النذر - أن لا يسير في سكة تؤدي إلى المقبرة وأن لا ينام على ظهره ويداه معلويتان على صدره.
وكأنما كانت له حياتان: حياته الأولى الرحيبة المفهومة وهذه لا تتسع لخاطر الموت، بل تغضي عنه إذ كانت في شاغل من شئونها، وهي متعلقة بالأمل في البقاء أبدا كائنا ما كان ثمن ذلك، وحياة آخرى مستسرة غامضة غير معينة تقرض - كالدودة في التفاحة - قلب حياته الأولى وتسمها وتجعلها غير محتملة.
وهذا الازدواج في حياة سمينوف هو الذي جعله لا يكاد يحس أي فزع لما واجه الموت وأيقن أن المنتهى قريب. فلم يزد على أن سأل: «أوقد قضي الأمر؟» ليعرف على وجه التحقيق ماذا يجب أن ينتظر.
ولما قرأ في وجوه من حوله جوابهم عن سؤاله عجب الموت كيف يكون على هذه البساطة كأنه مهمة ثقيلة أرهقت قواه وأدرك في الوقت نفسه بنوع من الإلهام الباطن أنه لا يمكن أن يكون إلا هكذا، وأن الموت نتيجة طبيعية لاستنزاف حيويته ولم يتحسر على شيء سوى أنه لن يرى شيئا بعد ذلك.
ولما احتملوه في المركبة إلى المستشفى جعل يحملق وعيناه مفتوحتان كل الفتح محاولا أن يأخذ كل شيء بنظرة وأسف، لأنه لا يستطيع أن يثبت في ذاكرته كل دقيق وجليل في هذه الدنيا بسمائها اللانهائية وأناسيها وخضرتها وآفاقها القصية الزرقاء، وصار كل ما لم يكن قد فطن إليه حبيبا إلى نفسه عزيزا عليها ككل ما كان يجده حافلا بالجمال والخطر الجليل، لا بل أحب من أن يناله وصف وأقوم من أن يفي ببيانه تعبير؛ فمن السماء القائمة المترامية ونجومها الوهاجة إلى ظهر السائق الهزيل، ومن وجه نوفيكوف المكتئب إلى الطريق الترب، ومن المنازل ونوافذها المضيئة إلى الأشجار الجهمة التي ظلت مكانها وراءهم في صمت. ومن العجلات المضطربة إلى نسيم العشي اللين، كل أولئك رآه وسمعه وأحسه.
ولما صار في المستشفى دارت عيناه بسرعة في الغرفة الكبيرة ورصدتا كل حركة وشخص حتى صرفهما الألم الجثماني الذي أشعره العزلة المطلقة عما حوله. وانحصرت مداركه في صدر منبع كل آلامه، ثم أخذ في بطء شديد يفارق الحياة وصار إذا رأى شيئا يستغربه ولا يرى فيه معنى، فقد بدأ الصراع الحاسم بين الحياة والموت واكتظ به كل كيانه وخلق له عالما جديدا غريبا موحشا، عالما من الفزع والألم والصراع اليائس.
وكانت تعاوده من حين إلى حين لحظات انتباه وإفاقة فينقطع الألم ويهدأ ويعمق تنفسه وتستبين الشخوص والأصوات من خلال النقاب الأبيض. غير أن كل شيء كان ضعيفا وباطلا كأنه آت من مكانه سحيق. وكان يسمع الأصوات واضحة ثم لا يتبينها أما الأشخاص فلم يكن لحركاتها صوت كأنها أشباح الصور المتحركة وأنكر الوجوه التي كان يعرفها ولم يستطع أن يذكرها.
وكان على السرير المجاور له رجل له وجه حليق غريب يقرأ شيئا ويرفع الصوت به. لماذا يقرأ؟ ولمن يقرأ؟ لم يعن سمينوف بالتفكير في هذا. وسمع بأجلى وضوح أن الانتخابات البرلمانية أرجئت وأن بعضهم حاول أن يقتل غراندوقا، ولكن الألفاظ كانت فارغة لا معنى لها كأنها الفقاقيع انفرجت وزالت ولم تخلف وراءها أثرا.
وتحركت شفتا الرجل والتمعت أسنانه ودارت عيناه وخشخشت الورقة وأضاء المصباح المدلى من السقف ودارت حوله فراشات كبيرة سوداء فظيعة المنظر. وكأنما اشتعل في ذهن سمينوف لهيب فأنار كل ما يحيط به، وأحس فجأة أنه لا يعنيه شيء، وأن كل ما في الدنيا من قوة لا يستطيع أن يطيل حياته ساعة واحدة، وأنه لا بد أن يموت. فهوى مرة أخرى في أمواج الضباب الحالك وعاد الصراع الصامت بين قوتين هائلتين خفيفتين تحاول إحداهما بأقصى ما أوتيت من العنف أن تقضي على الأخرى .
وكانت إفاقة سمينوف للمرة الثانية لما سمع البكاء والترتيل فلم ير وجه الحاجة إلى هذا إذ كان لا صلة له بما هو جار في جوفه، على أن ذلك أضاء ذهنه لحظه فرأى بوضوح وجه رجل مزيف الكآبة لا يعنيه من أمره شيء على الإطلاق، وكانت هذه آخر دلائل الحياة.
أما ما تلا ذلك فيتجاوز مدى الفكر والإدراك.
الفصل الثاني عشر
قال إيفانوف لسانين: «تعال عندي نحيي ذكرى الفقيد.»
فهز سانين رأسه دلالة على الموافقة واشتريا في طريقهما شيئا من الفودكا والخضر وأدركا يوري وكان يتمشى مستمهلا في الميدان وعلى وجهه كآبة شديدة.
وكان موت سمينوف قد وقع من نفس يوري موقعا أليما مزعجا رأى معه من اللازم أن يحلله، وإن كان قد أعجزه ذلك، فقال لنفسه محاولا أن يرسم خطا مستقيما قصيرا في ذهنه: «إن الأمر بسيط على كل حال. لم يكن الإنسان موجودا قبل أن يولد وليس في هذا شيء مفزع أو غير مفهوم. والإنسان ينتهي وجوده متى مات. وهذا - كسابقه - بساطة وسهولة إدراك؛ فالموت - وهو الوقوف التام للأداة التي تخلق القوة الحيوية - فهمه ميسور على أتم وجه، وليس فيه ما يفزع الخاطر، ولقد غبر زمن كان فيه غلام اسمه «يورا» ذهب إلى الكلية وضارب زملاءه وكان يتلهى ويروح عن نفسه بأن يقطع رءوس الأشواك ويقضي حياته الخاصة الممتعة على النحو الخاص به. وقد مات «يورا» هذا وذهب في سبيل من خلا، وحل محله رجل آخر يمشي ويفكر هو الطالب «يوري»، ولو أنهما التقيا لما وسع «يورا» أن يفهم «يوري»، ولعله يمقته ويرى فيه أستاذا مربيا يحمله ما لا آخر له من المتاعب. لهذا كان بينهما بون يتعاظم المجتاز. ولهذا أيضا أرى أني أنا قد قضيت نحبي بموت الغلام «يورا» وإن كنت لم أفطن لهذا من قبل. هذا هو واقع الأمر. وإنه لطبيعي بسيط! وماذا يخسر الإنسان بأن يموت؟ إن الحياة على كل حال يرجح فيها الشقاء بالسعادة. نعم إن لها مسراتها وما أقسى أن ينفض المرء يده منها ! ولكن الموت يريحنا من كثير من البلايا والشرور فنحن في نهاية الأمر نستفيد به ونربح من ورائه. ما أبسط هذا وأقل عناصر الفزع فيه! أليس كذلك؟»
قال يوري آخر جملة بصوت عال وتنفس الصعداء غير أنه فزع فجأة فقد طاف برأسه خاطر لداع. «كلا! عالم بأسره، حافل بالحياة، معقد الأمر إلى حد يتجاوز المدارك، هذا العالم يحول فجأة إلى عدم؟ كلا! ليس هذا في شيء من تطور الغلام «يورا» وصيرورته الرجل «يوري» إن هذا سخيف مثير وهو لذلك مفزع غير مفهوم!»
وجاهد يوري بكل ما استطاع من قدرة أن يكون لنفسه فكرة عن هذه الحالة التي لا يرى أحد أن في الطوق احتمالها، والتي يحتملها كل امرئ على الرغم من ذلك كما فعل سمينوف.
وعاد يوري إلى مخاطبة نفسه وهو يبتسم لغرابة الخاطر فقال: «ولم يمت خوفا مع ذلك! كلا! لقد كان يضحك منا جميعا ويهزأ بقسيسنا وتراتيلنا وعبراتنا. ألا كيف وسع سمينوف أن يضحك وهو موقن أنه بعد دقائق لا يكون؟ أتراه كان بطلا؟ كلا! ليست المسألة مسألة بطولة. إذن فالموت ليس من الهول بحيث أتوهم!»
وإنه لكذلك وإذا بإيفانوف يحييه فجأة بصوت مرتفع فسأله يوري وهو يرجف: «آه! هذا أنت! أين تراك ذاهب؟»
فقال إيفانوف بجذل وحشي: «إلى الصلاة على روح صديقنا الفقيد! والخير لك أن تمضي معنا. ما خير أن تظل دائما مستفردا؟»
ولما كان يوري حزينا مهموما فإنه لم يجتنب سانين وإيفانوف كالعادة وقال: «حسن جدا. سأمضي معكما.»
ثم ذكر فجأة بعد المدى بينه وبينهما وأنهما دونه مواهب وملكات فقال لنفسه: «أي جامعة بيني وبين مثل هذين؟ أأشاربهما الفودكا وأروح أهدر مثلهما؟»
وهم أن ينصرف عنهما ولكن إشفاقه من الوحدة بلغ منه مبلغا دفعه إلى البقاء معهما.
ولم ينبث سانين ولا إيفانوف بشيء ووصلوا جميعا في صمت إلى بيت إيفانوف، وكان الظلام قد أرخى سدوله وبدا لهم شبح رجل واقف عند الباب ومعه عصا غليظة معوجة اليد، فقال إيفانوف مغتبطا: «إنه العم بيتر إيليتش.»
فأجابه الشيخ بصوت عميق رنان: «نعم هو بعينه.»
وذكر يوري أن عم إيفانوف شيخ سكير ينشد التراتيل في الكنيسة وكان شاربه أبيض فأكسبه ذلك منظر الجندي على عهد نيقولا الأول. وشم من معطفه الأسود البالي رائحة كريهة. «بوم. بوم» هكذا كان صوته فكأنه خارج من جوف برميل.
وعرفه إيفانوف بصاحبه يوري فصافحه وهو لا يدري ماذا يقول لمثل هذا الرجل. على أنه ذكر أن الناس ينبغي أن يكونوا سواء عنده، فتأدب مع المغني الكهل وتركه يتقدمه في الدخول.
وكان بيت إيفانوف أشبه بمخزن أخشاب منه بمسكن إنسان لكثرة التراب وقلة الترتيب والنظام.
ولكن إيفانوف لم يكد يشعل المصباح حتى وجد يوري أن الجدران مغطاة بصور فامنتسوف وأن ما خاله أقذارا ليس سوى كتب مكدسة أكواما على أن هذا لم يخفف من ضيقه فذهب يتأمل الصور ليخفي ما به.
وسأله إيفانوف: «أتحب فامنتسوف؟» ولم ينتظر الجواب بل غادر الغرفة طلبا للصحاف.
ونعى سانين صديقهم سمينوف إلى بيتر فقال هذا: «رحمه الله! آه! لقد قضي أمره!»
فرماه يوري بنظرة المستطلع وأدركه العطف على هذا الشيخ الهرم.
وعاد إيفانوف بخبز وكئوس وبشيء من الخضر المملحة ووضعها على المائدة وكانت مغطاة بجريدة. ثم فتح زجاجة بسرعة لا تكاد تحس وبحذق بالغ منه مع السرعة أن لم تسل قطرة واحدة.
فقال بيتر معجبا موافقا: «يد صناع!»
فقال إيفانوف بلهجة الراضي عن نفسه وهو يملأ الكئوس بالشراب الأخضر. «إنك تستطيع أن تتبين في لحظة: هل المرء عارف بما يعالج أم جاهل به»
ثم رفع صوته وهو يتناول الكأس وقال: «والآن أيها السادة لنشرب على ذكر الفقيد إلخ!»
وشرعوا يأكلون وأصابوا من الفودكا كثيرا وأقلوا من الكلام وأكثروا من الشراب، وما هي إلا برهة حتى عاد جو الغرفة حارا ثقيلا.
وأشعل بيتر سيجارة فاختلط بالهواء الدخان الأزرق المتصاعد من الطباق الرديء. فدار رأس يوري من الخمر والدخان والحرارة وجرى بباله سمينوف مرة ثانية فقال: «إن في الموت شيئا مفزعا.»
فسأله بيتر: «لماذا؟ الموت؟ هو هو هو! إنه لا بد منه، الموت؟ تصور أن يحيا الإنسان أبدا؟ هو هو! لا ينبغي لك أن تتكلم على هذا النحو. الحياة الأبدية حقا ماذا عساها أن تكون؟»
فعالج يوري أن يتصور الحياة الأبدية كيف تكون، فارتسم لعينه خط أبيض ضارب إلى السواد ممتد إلى غير غاية في الفضاء كأنما تقذفه موجه وتلقفه أخرى، واستعجمت كل صورة للألوان والأصوات والعواطف وتسرب بعضها في خلال بعض وغابت في ثنايا جدول مريد ينحدر أبدا. وليس هذا في شيء من الحياة وما هو إلا الموت الدائم، فاستهول هذا الخاطر وتمتم: «نعم لا شك.»
وقال إيفانوف: «يظهر أن الأمر عظيم الوقع في نفسك.»
فسأله يوري: «ومن ذا الذي لا يعظم وقع الموت في نفسه؟»
فهز إيفانوف رأسه هزة مبهمة المعنى وشرع يحدث بيتر عن آخر ساعات سمينوف. وكان الهواء في الغرفة قد صار لا يطاق. وراقب يوري إيفانوف وهو يرشف الفودكا المتألقة في ضوء المصباح وبدا له أن كل شيء يدور ويجول. وهمس في أذنه صوت غريب ضئيل: «آ آ آ»
فقال وهو لا يدري أنه إنما يرد على هذا الصوت العجيب الهامس: «كلا! إن الموت شيء فظيع!»
فلاحظ إيفانوف متهكما: «إنك تضطرب له أكثر مما يجب.»
فقال يوري: «أولست أنت كذلك؟» - «أنا؟ كلا! لا ريب أني لا أشتهي الموت فليس فيه متعة كبيرة ترغب. والحياة أشهى منه وأمتع. ولكن إذا كان لا بد من الموت فإني أحب أن يكون وحيا وأن تخلو موافاته من الجلبة والكلام الفارغ.»
فضحك سانين وقال: «وإنك لم تجرب الأمر بعد!»
فأجابه إيفانوف: «كلا! هذا صحيح.»
فقال يوري: «لقد سمعنا كل هذا من قبل. قولوا ما شئتم فالموت هو الموت وهو فظيع في ذاته وكفى هادما لكل لذة في الحياة أن يفكر المرء في هذه الخاتمة العنيفة التي لا مفر منها. ما معنى الحياة؟»
فصاح به إيفانوف متضايقا: «لا معنى لها.»
فأجابه يوري: «كلا، هذا مستحيل، إن كل شيء أحكم نظاما وأبرع ترتيبا من ...»
فقال سانين مقاطعا: «إن رأيي أنه ما من خير في أي شيء.»
فقال يوري: «كيف تذهب إلى هذا؟ وما قولك في الطبيعة؟»
فضحك سانين ضحكة خفيفة ولوح بيده مستخفا وقال: «الطبيعة؟ ها ها، إني أعلم أن من المألوف أن نقول إن الطبيعة بالغة حد الكمال. والحقيقة هي أن الطبيعة مثل الإنسان نقصا وعيوبا. وفي وسع كل منا بدون جهد كبير أن يتصور عالما يكون خيرا من هذا مائة مرة. لماذا لا تكون الحرارة والضوء سرمدا علينا والرياض خضراء نضيرة خلقة أبدا؟ أما عن معنى الحياة فلا أشك في أن لها معنى فإن الغاية في مطاويها مجرى الأمور وأخلق بالفوضى أن تكون شاملة محيطة إذا لم يكن ثم من غاية. ولكن هذه الغاية خارجة عن دائرة وجودنا إذ هي كائنة في أساس الوجود. هذا محقق. ونحن لا يمكن أن نكون أصل الوجود ولا آخره كذلك. وليس دورنا فيه إلا سلبيا إضافيا. ونحن نؤدي مهمتنا بمجرد حياتنا، فحياتنا ضرورية. وكذلك موتنا أيضا.»
فقال يوري: «لأي سبب؟»
فأجاب سانين: «أنى لي أن أعلم هذا؟ وماذا يعنيني منه، فضلا عن ذلك إن حياتي معناها خوالجي لذيذة كانت أو غير لذيذة، وكل ما هو خارج عن هذه الحدود فإلى الشيطان به! ومهما تكن النظرية التي نشاء أن نخترعها فهي لا تعدو أن تكون نظرية ولا يمكن أن تخرج عن كونها نظرية. ومن الخرف أن نبني عليها فكرة عن الحياة. ومن شاء فليذهب ذهنه في ذلك أما أنا فإني معتزم أن أحيا!»
فقال إيفانوف مقترحا: «لنشرب جميعا على قوة هذا العزم!»
وقال بيتر لسانين وهو يتأمله بعينيه الضعيفتين: «ولكنك تؤمن بالله أليس كذلك؟ إنه لا يؤمن أحد بشيء في هذه الأيام حتى ولا بما يسهل الإيمان به.»
فضحك سانين وقال: «نعم أؤمن بالله. ولقد آمنت به طفلا ولا حاجة إلى المنازعة في أسباب ذلك أو تأييدها. والحقيقة أنه ليس أجدى علينا من الإيمان، فإذا كان الله موجودا تقدمت إليه بأصدق الإيمان وأخلصه. وإذا لم يكن له وجود كان ذلك خيرا لي.»
فقال يوري: «ولكن كل حياة تقوم على الإيمان أو عدم الإيمان.»
فهز سانين رأسه وابتسم مغتبطا وقال: «كلا، إن حياتي ليست بقائمة على شيء من هذا القبيل.»
فسأله يوري وقد تداعت قوته: «على أي شيء تقوم حياتك إذن؟»
وقال لنفسه: «آه، ينبغي أن أكف عن الشرب.» ومسح جبينه البارد الرطب بكفه ولم يسمع ما قال سانين ردا عليه، فقد كان رأسه يدور وغلبته الخمر على أمره برهة.
وقال سانين: «إني أعتقد أن الله موجود وإن كنت لست على يقين جازم مطلق. وسواء أكان موجودا أم غير موجود فإني عاجز عن تصوره، ولا أستطيع أن أعرف هذا حتى لو كنت أحر الناس إيمانا به، إن الله هو الله ولما كان غير آدمي فلسنا نستطيع أن نجري عليه المقاييس الإنسانية، إن عالمه المخلوق المحيط بنا شامل لكل شيء: للخير والشر، وللحياة والموت، وللجمال والقبح - كل شيء في الواقع - ولذلك يعجزنا كل معنى وكل تعريف محدود لأن معناه غير إنساني وآراؤه في الخير والشر ليست بإنسانية، ولا معدى لنا عن أن تكون فكرتنا عن الله وثنية في صميم أمرها وليس يسعنا إلا أن نكسو معبودنا السحنة والثوب الملائمين للأحوال الجوية في بلادنا التي نعيش فيها - سخافة - أليس كذلك؟»
فقال إيفانوف: «بلى، أصبت. كل الإصابة!»
فسأله يوري ودفع كأسه مكروبا: «إذن ما الفائدة من الحياة؟ أو من الموت أيضا؟»
فأجابه سانين: «إني أعرف شيئا واحدا هو أني لا أريد أن تكون حياتي شقية. لذلك يجب على المرء أن يرضي رغباته الطبيعية قبل كل شيء. إن الرغبة هي كل شيء. ومتى انقطعت الرغبة انقطعت الحياة معها. وإذا قتل المرء رغباته فإنه يكون قد قتل نفسه.»
فقال يوري: «ولكن رغباته قد تكون شرا؟»
فأجاب سانين: «ربما»
فقال يوري: «إذن ماذا يكون من أمرها؟»
فأجابه سانين في رفق وحدق في وجهه بعينيه الزرقاوين الصافيتين: «إذن ... تكون شرا، لا أكثر ولا أقل.»
فرفع إيفانوف حاجبيه غير مصدق ولم يتكلم. وصمت يوري كذلك وحيرته هاتان العينان الزرقاوان الصافيتان لسبب ما وجعل يرنو إليهما .
وساد السكون لحظة فكان المرء يسمع فراشة هناك تصطدم مستيئسة بزجاج النافذة. وهز بيتر رأسه في حزن وتدلى رأسه المخمور إلى الجريدة القذرة الملوثة.
فعاد سانين إلى الابتسام. وكانت هذه الابتسامة المرتسمة أبدا على ثغر سانين تثير يوري وتفتنه كذلك فقال لنفسه: «ما أصفى عينيه.»
ونهض سانين فجأة وفتح النافذة وأخرج الفراشة واندفعت موجة هواء بارد عليل كأنما أرسلتها أجنحة رقيقة.
وقال إيفانوف مجيبا على خواطره: «نعم ليس في الناس اثنان متشابهان، فلنشرب على هذا كأسا أخرى.»
فقال يوري وهز رأسه: «كلا! لن أشرب شيئا آخر.»
أجاب إيفانوف: «ولماذا؟»
قال يوري: «إني لا أكثر من الشراب.»
وكانت الفودكا والحرارة قد صدعاه فطلبت نفسه الهواء الخالص وقال وهو ينهض: «لا بد لي من الخروج.»
فقال إيفانوف: «إلى أين؟ تعال. اشرب كأسا أخرى.»
فقال يوري متلعثما باحثا عن قبعته: «كلا، يجب أن ...»
فرد عليه إيفانوف: «حسن عم مساء.»
وخرج يوري وأغلق الباب وراءه. وسمع سانين في هذه اللحظة يقول لبيتر: «نعم أنت لست كالأطفال. إن هؤلاء لا يستطيعون أن يميزوا بين الخير والشر، لأن نفوسهم ساذجة على الفطرة. وهذا هو السبب في أنهم ...»
وكان يوري قد أتم إغلاق الباب فلم يسمع شيئا.
وكان القمر مضيئا في قبة السماء، وهب نسيم الليل البليل على محيا يوري وجلت له الطبيعة كل جميل محرك للخيال وجرى بذهنه سمينوف وهو يجتاز الشوارع الساكنة المضيئة. فتصور سمينوف راقدا في قبر مظلم ساكن على أنه مع ذلك لم تعاوده تلك الهواجس المحزنة التي كانت من قبل تجثم على صدره وتسود الدنيا كلها في نظره. بل خامرته الكآبة الهادئة المطمئنة وأحس دافعا يغريه بالشخوص بطرفه إلى القمر. وذكر سانين وهو يجتاز ميدانا مهجورا فسأل نفسه: «أي رجل هذا؟»
وغاظه أن في الدنيا رجلا لا يستطيع هو أن يحلل شخصيته في لحظة فراح يجد لذة في النيل منه وقال: «إن هو إلا صواغ عبارات ليس إلا. وقد كان يتكلف الطيرة أولا ويدعي مقت الحياة ويرفه عن نفسه بالإعراب عن المستحيل من الآراء، أما الآن فإنه يعبث بالحيوانية.»
وانتقل يوري من التفكير في سانين إلى تأمل نفسه وانتهى من الموازنة إلى أنه لا يعبث بشيء ما، وأن كل خواطره وآلامه وشخصيته مبتكرة، وأنها لا تشبه خواطر الناس غيره وشخصياتهم في دقيق أو جليل.
فارتاح إلى هذه النتيجة أعظم الارتياح، ولكنه أحس افتقاد شيء فانقلب يفكر في سمينوف وأحزنه أن عينيه لن تقع عليه أبدا، واستوحشت نفسه وإن كان لم يشعر له بإعزاز في حياته، وترقرقت الدموع في عينيه وتصور الطالب الميت مدرجا في قبره، وقد صار كتلة متعفنة وذكر هذه الكلمات له:
ستكون حيا تستنشق الهواء وتتمتع بضوء القمر وتمر بالقبر الذي يضم رفاتي.
فرمى يوري بلحظة إلى التراب وقال لنفسه: «إن ها هنا تحت قدمي آدميين أيضا. وإني أطأ بقدمي عقولا وقلوبا وعيونا آدمية! آه وسأموت مثلهم ويمشي غيري فوقي وتخطر لهم ما يطوف بذهني الآن؛ آه، يجب أن يحيا الإنسان قبل أن يخرج الأمر من كفيه. ألا إنه يجب أن يعيش المرء! نعم ولكن على الطريقة الصحيحة حتى لا تضيع عليه لحظة من حياته ولكن كيف هذا؟»
وكانت السوق عارية بيضاء في ضوء القمر وكل ما في البلدة ساكت فغنى يوري نفسه:
لن يسمعنا المزمار عنه نبأ
ثم قال بصوت عال: «ما أثقل كل شيء وأشجاه وأرهبه!» كأنما يقول بشجوه لرفيق معه وأفزعه صوته وتلفت ونفض المكان بعينه ليرى هل سمعه أحد وخطر له أنه «سكران»
وكان الليل مشرقا في سكون وجلال.
لما كانت سينا كارسافينا وزميلتها دوبوفا غائبتين في زيارة كانت حياة يوري مملة فاترة. وكان أبوه أبدا في شاغل من «النادي» أو من شئون البيت.
ولم تكن لياليا وريازانتزيف يرتاحان إلى وجود شخص ثالث معهما فكان يوري يجانبهما.
وصار من عادته أن يبكر في الذهاب إلى مضجعه وأن لا يقوم إلا وقت الغداء، وكان يقضي نهاره كله بين غرفته والحديقة مفكرا في أموره، منتظرا أن تساعفه موجة نشاط تدفعه إلى عمل جليل.
وكان هذا العمل الجليل يتخذ في كل يوم صورة، فيوما يكون صورة ويوما يكون سلسلة مقالات تكشف للعالم عن الخطأ الجسيم الذي وقع فيه [الديمقراطيون الاشتراكيون بأن لم يعقدوا ليوري الزعامة في حزبهم]. وطورا تكون مقالا في الحث على معاضدة الشعب والتعاون معه، مقالا شاملا ضافيا في الموضوع. ولكن كل يوم كان يمضي عليه ولا يخلف له سوى السآمة.
وجاء إليه نوفيكوف وشافروف مرة أو مرتين يزورانه.
وحضر يوري بعض المحاضرات وأدى بعض الزيارات، غير أن هذا كله كان في نظره فارغا لا خير فيه وليس هو بالذي يفكر فيه أو يظن أنه يفكر فيه.
وفي يوم من الأيام ذهب لزيارة ريازانتزيف وكانت غرف هذا الطبيب رحيبة مهواة حافلة بكل ما يحتاج إليه الرجل الصحيح الجسم المعافى البدن من وسائل التسلية؛ فمن عصى هندية إلى كتل حديدية وسيوف وأدوات الصيد وحقائب للطباق، وغير ذلك مما هو بسبيل الملاهي التي يباشرها الرجال الأصحاء.
فرحب به ريازانتزيف وأحسن ملاطفته ومحادثته وقدم له السجائر ثم سأله أن يخرج معه للصيد.
فقال يوري: «ليس معي بندقية.»
فقال: «خذ واحدة من هنا فإن لدي خمسا.»
وإذ كان يوري أخا لياليا فقد أراد ريازانتزيف أن يلاطفه ما أمكنته ملاطفته. أصر على أن يأخذ يوري إحدى بنادقه وعرضها كلها عليه ليختار من بينها وفككها وشرح له تركيبها، بل لقد أطلق إحداها على هدف في الفناء. فاقتنع يوري وأخذ واحدة وبعض الخراطيش وهو يضحك.
فسر ريازانتزيف وقال: «هذا حسن جدا. لقد كان عزمي أن أخرج غدا لصيد البط فلنذهب معا.»
فقال يوري: «هذا يسرني جدا.»
ولما عاد إلى بيته قضى نحو ساعتين يفحص بندقيته ويتحسس زندها ويسددها إلى المصباح ثم صقل حذائي الصيد القديمين. وفي مساء اليوم التالي جاء إليه ريازانتزيف يهتز مسرورا في مركبة يجرها جواد مضمر وصاح به من النافذة وكانت مفتوحة: «أنت مستعد؟»
وكان يوري قد احتمل حزمة الخراطيش وحقيبة الصيد والبندقية فخرج إليه مثقلا بها وقال: «إني مستعد، مستعد.»
وكان ريازانتزيف قد أخف من هذه الأحمال فعجب ليوري وما تأهب به وقال مبتسما: «ستعاني البرح من هذه الأثقال. اخلعها وضعها هنا. فما بك حاجة إلى لبسها قبل أن نبلغ المكان.»
وساعد يوري على التخلص منها ووضعها تحت المقعد ثم ألهبا الجواد فأخب بالمركبة، وكان النهار قد أوشك أن ينقضي ولكن الجو كان لا يزال دافئا كثير التراب.
وجعلت المركبة تميل يمنة ويسرة حتى اضطر يوري أن يتشبث بمقعده. وكان ريازانتزيف يتكلم ويضحك طول الطريق فلم يسع يوري إلا أن يشاطره جذله.
ولما برزا إلى الحقول كانت الأكلاء الطويلة تلمس أقدامهم وصار الجو ألطف وانقطع التراب. وبلغا حقلا واسعا مستويا، فأوقف ريازانتزيف الجواد وكان يتصبب عرقا ورفع كفه إلى فمه وصاح بصوت رنان صاف: «كوسما، كوسما»
وكان المرء يرى عند نهاية الحقل صفا من الرجال صغيري الأجسام فشخصوا بأبصارهم إلى مصدر الصوت.
ثم اجتاز أحدهم الحقل متحرزا بين الأخاديد ولما دنا منهما رأى يوري فلاحا ضخما أبيض الشعر طويل اللحية مفتول الساعدين.
فسار إليهما وقال مبتسما: «إنك تحسن الصياح يا أناتول بافلوفتش.» «عم مساء كوسما كيف حالك؟ أتسمح لي أن أترك الجواد معك؟»
فقال الفلاح بصوت ساكن ودي وأمسك اللجام: «نعم ولا شك. جئت للصيد أليس الأمر كذلك؟ ومن هذا؟» وألقى إلى يوري نظرة رقيقة فقال ريازانتزيف: «إنه ابن نقولا يجوروفتش»
أجاب: «آه نعم! إني أراه شبيها بلياليا! نعم. نعم!» وسر يوري أن هذا الفلاح الهرم المغتبط يعرف أخته ويذكرها ذكر الصديق المخلص.
وقال ريازانتزيف بصوته الطروب وتقدم زميله بعد أن احتمل بندقيته وحقيبة الصيد: «والآن فلنمض في سبيلنا.»
فقال كوسما: «أرجو أن يكون حظكما عظيما.»
وكان يسمعانه يلاطف الجواد وهو يجره إلى كوخه.
وكان عليهما أن يسيرا نحو ميل قبل أن يصلا إلى المستنقع، وكادت الشمس تغيب، وكانت الأرض مكسوة بالحشائش والأعشاب تحس القدم بللها وتجد الأنف ريح رطوبتها والعين جهامتها، والماء تلمع صفحته في بعض المواضع.
وكف ريازانتزيف عن التدخين ووقف ورجلاه منفرجتان وتجهم وجهه كأنما كان يهم بعمل عظيم التبعة.
ووقف يوري إلى يمينه يبحث عن مكان جاف مريح. وكان أمامهما الماء صافيا عميقا تنعكس في صقاله صفحة السماء المجلوة ومن ورائه الشاطئ كالخط الأسود.
وهب البط مثنى وثلاث وجعلت أفراخه تطير متريثة فوق الماء خارجة من الأعشاب محلقة فوق رأسي الصائدين صفا من الأشباح السوداء باديا دون السماء، فأرسل ريازانتزيف أول طلقة فأصاب وهوت بطة مكلومة إلى الماء وجناحاها يخبطان الأعشاب فقال ريازانتزيف وضحك عاليا: «لقد أصبتها.»
وقال يوري لنفسه وكان قد جاء دوره: «إنه رجل طيب حقيقة.»
وأطلق بندقيته فهوت ببطة ولكنها سقطت في مكان بعيد لم يصل إليه يوري وإن كان قد جرح كفيه وخاض إلى ركبتيه في الماء ولم تزده هذه الخيبة إلا حماسة وظن الأمر لهوا طيبا.
وكان لدخان البنادق رائحة لذيذة في هذا الجو الصافي البليل، وكانت الطلقات تبرق في الظلام فيجد المرء لبريقها وقعا حسنا. وجعلت الطيور الجريحة ترسم وهي تهوي أقواسا رشيقة تحت قبة السماء الخضراء التي بدت فيها النجوم. وأحس يوري من النشاط والاغتباط ما لا عهد له به كأنما لم يمر به ما هو أمتع من هذا وأعظم إنعاشا للنفس. وقلت الطيور الطائرة الآن وتعذر تسديد المرمى في الظلام المتكاثف.
وصاح ريازانتزيف بزميله: «يوري! يجب أن نعود الآن!»
فأسف يوري لذلك وعز عليه أن يرجع ولكنه مضى إلى رفيقه إجابة لرغبته وكان يتعثر في سيره بين الأعشاب ويخوض الماء الذي لم يعد يفترق في الظلام عن الأرض الصلبة.
فلما التقيا برقت عيونهما وكان كلاهما يلهث.
فقال ريازانتزيف: «هل مالأك الحظ؟»
فقال يوري وكشف عن حقيبته المكتظة: «أظن ذلك!»
فقال ريازانتزيف متبسطا: «إنك أشد مني ساعدا وأحكم رماية.»
فابتهج يوري بهذا الثناء وإن كان لا يفتأ يدعي قلة الاعتداد بالقوة الجثمانية أو المهارة وقال بغير اهتمام: «لا علم لي بأني خير أو شر. وكل ما في الأمر أن الحظ ظاهرني.»
وكان الظلام قد اشتد لما بلغا الكوخ وغمرت الدياجي حقل الليمون فلم تكن العين تأخذ منه سوى صفوفه الأولى تلتمع في ضوء النار وتلقي على الأرض ظلالا طويلة .
وكان الجواد واقفا ينفخ إلى جانب الكوخ حيث أوقدت النار من عيدان الكلأ الجافة، فجعلت تقعقع وهي تحترق.
وسمعا أصوات رجال ونساء يتكلمون ويضحكون. وخيل ليوري أنه يعرف أحد الأصوات وكان لينا جذلا.
فقال ريازانتزيف وقد أخذه العجب: «إنه سانين. ماذا جاء به إلى هنا؟»
واقتربا من النار وكان كوسما ذو اللحية البيضاء جالسا بجانبها فرفع طرفه إليهما وهز رأسه مرحبا بهما وسألهما بصوت غليظ عميق يخرج من تحت شاربيه المتهدلين: «كيف كان حظكما؟»
فقال ريازانتزيف: «متوسطا.»
وكان سانين جالسا على جذع ضخم فرفع رأسه أيضا وابتسم لهما.
فسأله ريازانتزيف: «كيف جئت إلى هنا؟»
فقال سانين وزاد ابتساما: «أوه. إني أنا وكوسما صديقان قديمان.»
فضحك كوسما وانفرجت شفتاه عن بقايا أسنانه الصفراء المتداعية وجعل يربت ركبة سانين بيده الخشنة وقال: «نعم نعم. اجلسا يا أناتول بافلوفتش وذوقا هذا البطيخ وأنت يا سيدي الشاب ما اسمك؟»
فقال يوري مسرورا: «يوري نيقولا بيفتش»
وأحس بعض الارتباك ولكنه أحب هذ الفلاح الشيخ الرقيق وارتاح إلى لهجته الودية. وقال كوسما: «يوري نيقولا بيفتش. آها. يجب أن نتصادق. اجلس يا يوري.» فجلسا قريبا من النار على جذعين كبيرين وقال كوسما: «والآن أريانا ما صدتما.»
فأفرغا من الحقيبتين كوما من الطيور المقتولة وتلوثت الأرض بدمها، وكان لها في ضوء النار المضطرب منظر منفر وبدا الدم أسود اللون، وكأنما كانت المخالب تتحرك.
فرفع كوسما بطة وأمر يده تحت جناحيها متحسسا، وقال: «هذه بطة سمينة. يجب يا أناتول أن تدع اثنتين. وماذا عساك تصنع بكل هذه؟»
فقال يوري في خجل: «خذها كلها.»
فضحك الشيخ قائلا: «لماذا آخذها كلها؟ إنك أكرم مما يجب. لا آخذ سوى اثنتين.» ودنا منهم في هذه اللحظة فلاحون آخرون ومعهم نساؤهم ولم يستطع يوري أن يميز وجوههم لفرط ما أزاغت النار من نظره، وكان الوجه تلو الوجه يخرج من الدجى ثم لا يكاد يظهر حتى يغيب.
ورمى سانين الطيور بعينه وهو عابس ثم أدار وجهه ونهض واستكره أن يرى هذه المخلوقات الجميلة مكسورة الأجنحة ملطخة بالدم والتراب.
وراقب يوري كل شيء باهتمام وهو يمص بطيخة كبيرة ناضجة شهية قطعها له كوسما بسكين يدها من العظم الأصفر وقال كوسما: «كل يا يوري. إن هذه البطيخة جيدة. إني أعرف أختك الصغيرة لياليا وأباك أيضا. كل وتمتع.»
وشاع السرور في نفس يوري بكل شيء: برائحة الفلاحين والخبز الجديد وضوء النار والجذع الضخم الذي كان جالسا عليه ووجه كوسما كلما أطرق. وكان إذا رفع رأسه يلفه الظلام ولا تظهر منه إلا عيناه، وكانت الظلمة الطاغية فوقهم تكسب المكان المضاء بهجة وأنسا.
وكان يوري إذا رفع رأسه لا يرى شيئا ثم لا تلبث السماء الشاسعة الساكنة أن تبدو متألقة فيها نجومها البعيدة. على أنه حيره أنه لا يعرف ماذا يقول لهؤلاء الفلاحين.
وكان كوسما وسانين وريازانتزيف يحدثونهم بلا كلفة وببساطة عن هذا الأمر أو ذاك ولا يهتمون بأن يتخيروا موضوعا خاصا للكلام. ولما انقطع الحديث سألهم: «كيف حال الأرض؟»
وأحس أن سؤاله متكلف لا محل له فرفع كوسما لحظه وقال مجيبا: «سنصبر. سنصبر ونرى.»
ثم طفق يحدثهم عن حقول البطيخ وغيرها من الشئون الخاصة ويوري يزداد ارتباكا وحيرة وإن كان قد سره أن يصغى إليه.
وسمعوا وقع أقدام مقبلة وظهر في الضوء كلب أحمر صغير ذنبه أبيض ملتو وجعل يشم يوري وصاحبه ويحك جسمه بركبة سانين فمسح له هذا جلده الخشن. وجاء على أثر الكلب شيخ قصير له لحية خفيفة وعينان صغيرتان لامعتان. وفي يده بندقية صدئة ذات خرطوم واحد فقال كوسما: «إنه الجد حارسنا.»
وجلس الشيخ على الأرض ووضع إلى جانبه سلاحه وأقبل يتأمل يوري وصاحبه. ثم قال وكشف عن لثاه المجعد المشوه: «كنتما تصيدان؟ نعم. نعم. هاها! كوسما لقد آن أن تغلي البطاطس.» فالتقط ريازانتزيف بندقية هذا الشيخ وأرى يوري إياها ضاحكا، وكانت قديمة علا الصدأ كل أجزائها، ثقيلة مشدودة بسلك ملفوف عليها، وقال لصاحبها: «أي بندقية هذه؟ ألا تخشى أن تصيد بها؟»
أجاب الشيخ: «هاها. لقد كادت تقتلني مرة. قال لي ستيبان شابكا إن المرء يستطيع أن يطلقها بدون إسطوانة. هاها. بدون أسطوانة. وقال إنه إذا كان في البندقية مقدار من الكبريت باقيا فإنك تستطيع إطلاقها بغير أسطوانة، فوضعت البندقية المحشوة على ركبتي هكذا وأطلقت زنادها بأصبعي هكذا ... انظروا، فانطلقت وكدت أقتل نفسي. هاها. حشوت البندقية وأطلقتها وكدت أقتل نفسي.»
فضحكوا جميعا وانحدرت دموع السرور من عيني يوري وما كان أمتع هذا الشيخ الضئيل ولحيته الخفيفة وشدقيه الغائرين.
وضحك الشيخ كذلك حتى دمعت عيناه وجعل يردد قوله: «كدت أقتل نفسي! هاها»
وكان المرء يستطيع أن يسمع في الظلام وراء دائرة النور ضحكا وأصوات بنات نأى بهن الحياء عن المجلس.
وكان سانين جالسا على بضعة أقدام من النار في مكان غير الذي توهمه يوري.
فأوقد سانين عود كبريت ورأى يوري في ضوئه الأحمر عينيه الساكنتين الودودتين وإلى جانبه وجه غض عيناه الرقيقتان مرفوعتان إلى سانين وفيهما نور الجذل الساذج.
فنظر ريازانتزيف إلى كوسما وقال: «أيها الجد أليس خيرا لك أن ترقب بعينيك حفيدتك؟»
فأجاب كوسما عنه وأومأ إيماءة من لا يكترث: «ما الفائدة؟ إن الشباب هو الشباب.» وضحك الشيخ والتقط بأصابعه جمرة متقدة من النار.
وسمع القوم ضحكة سانين في الظلام. وكأن الفتيات خجلن فقد انصرفن عنه وعادت أصواتهن وهي لا تكاد تسمع.
وقال ريازانتزيف وهو ينهض: «لقد آن أن نذهب أشكرك يا كوسما.»
فقال كوسما: «لا شكر البتة.» ومسح بكمه بذور البطيخ التي علقت بلحيته البيضاء. وصافحهما وأحس يوري استكراها لمس هذه الراحة الخشنة المعروقة.
وخفت الظلمة لما نأيا عن النار ورأيا فوقهما النجوم الزهراء المقرورة وقبة السماء الهائلة الجليلة الجمال.
وبدا الجالسون حول النار والخيل وكوم البطيخ في شملة من الظلام وقال لهما سانين: «افتحا عيونكما. عما مساء.»
فقال يوري: «عم مساء.»
وتلفت وراءه ليرى قوامه الطويل وخيل إليه أن امرأة رشيقة القد معتمدة على كتفه فخفق قلبه وذكر سينا وأحس الغيرة تدب في صدره لسانين.
وانطلقت عجلات المركبة تخطف الأرض وجعل الجواد ينفخ وهو يجري وخفيت عنهما النار والأصوات والضحكات وساد السكون، وتطلع يوري إلى السماء ورنا إلى نجومها المنثورة، ولما قاربا البلدة بدأت الأضواء تسطع هنا وههنا والكلاب تنبح.
وقال ريازانتزيف ليوري: «إن كوسما هذا فيلسوف. ألا ترى ذلك؟»
وكان يوري جالسا خلف صاحبه ينظر إلى عنقه فنبهه السؤال وأيقظه مما كان غارقا فيه من الخواطر السوداء وحاول أن يفهم ما ألقي إليه وأجاب بتردد: «آه، نعم!»
فقال ريازانتزيف وهو يضحك: «لم أكن أظن أن سانين فاجر إلى هذا الحد.»
ولم يكن يوري يحلم الآن فذكر منظر سانين ومحيا الفتاة الجميل في نور الكبريت وعاودته الغيرة، وما عتم أن طاف برأسه أن معاملة سانين للفتاة وضيعة مستوجبة للاحتقار فقال مجيبا صاحبه: «كلا، ما حسبته كذلك قط.»
وكان في صوته نبرة تهكم لم يلتفت إليها ريازانتزيف فألهب الجواد بالسوط وقال بعد فترة: «إنها فتاة جميلة أليست كذلك؟ وأنا أعرفها. حفيدة الشيخ الهرم.»
فصمت يوري وانقشعت عنه سحابة التفكير واقتنع بأن سانين رجل سوء.
وهز ريازانتزيف كتفيه ثم قال: «إلى الشيطان بها! وفي ليلة كهذه أيضا؟ وأراني أخذت كذلك. أسمع. ما قولك في أن نعود وأن ...»
ولم يفهم يوري في أول الأمر ما أراد صاحبه الذي عاد فقال: «إن هناك بضع فتيات حسانا كما تعلم. ما قولك؟ أنعود؟»
فصبغ الحياء وجه يوري وشاعت في كيانه هزة شهوة حيوانية ومثلت لعينيه ولخياله الملتهب صور مغرية ولكنه ضبط نفسه وقال بصوت جاف: «كلا! لقد آن أن نكون في البيت الآن.»
ثم زاد على ذلك بخبث: «لياليا تنتظرنا.»
فتداعى ريازانتزيف وقال: «نعم. نعم بالطبع. نعم يجب أن نكون في البيت الآن.»
وقرض يوري أسنانه وحدق في ظهر صاحبه العريض تنسجم عليه الجاكتة البيضاء وقال متحديا مناصبا: «لست أحب المغامرات التي من هذا القبيل.»
فأجابه ريازانتزيف ضاحكا في فتور: «كلا! كلا! أعلم ذلك! هاها!»
ثم صمت. وقال لنفسه: «قاتلني الله. ما أغباني!»
وسارا بالمركبة إلى البيت دون أن ينبسا بحرف آخر، وكان يخيل إليهما أن الطريق لا آخر له ولما وصلا قال يوري دون أن يرفع رأسه: «ألا تدخل معي؟»
فقال ريازانتزيف مترددا: «أ.. أ.. لا! إن علي أن أعود مريضا. والوقت متأخر كذلك.»
فنزل يوري ولم يعن بأن يأخذ البندقية أو الطيور وكأنما صار يمقت كل شيء مما يتعلق بريازانتزيف فصاح به هذا: «لقد نسيت بندقيتك.»
فالتفت يوري وعاد فاحتمل البندقية والحقيبة بهيئة المتقزز وصافح صاحبه ودخل.
ومضى الآخر بمركبته في بطء مسافة قصيرة ثم انثنى فجأة وعطف على زقاق وكان يوري يسمع صوت العجلات آتيا من ناحية أخرى غير التي درجت فيها المركبة أولا، فأصغى يوري وهو ثائر النفس إلا أنه غائر وقال لنفسه: «حظ سيئ.» وأدركه العطف على أخته.
الفصل الثالث عشر
أدخل يوري ما معه ولم يجد بعد ذلك ما يصنع فانحدر إلى الحديقة وكان الليل كظلمة القبر وزاد في وقعه منظر السماء وما فيها من النجوم المتألقة، وكانت لياليا جالسة على إحدى درجات السلم وهي لا تكاد ترى في الظلام فسألته: «أهذا أنت يا يوري؟» «نعم هو أنا.»
وجلس إلى جانبها فأسندت رأسها إلى كتفه وهي كالحالمة وفاح منها عبير الصبا الغض فتحركت حواسه وقالت: «هل آتاك الحظ في الصيد؟»
ثم سألته بعد قليل بصوت رقيق: «وأين أناتول بافلوفتش؟ لقد سمعت صوت المركبة.»
وود يوري- وقد هاج فجأة - لو يقول لها «إن أناتولك هذا بهيم قذر» غير أنه أجابها غير محتفل: «لا أدري أين هو. لقد كان عليه أن يعود مريضا.»
فرددت لياليا لفظة «مريض» ولم تزد وشخصت بعينها إلى النجوم، ولم يسؤها أن ريازانتزيف لم يحضر فقد كانت على نقيض ذلك تبغي الوحدة لتطلق لأحلامها وخيالاتها اللذيذة العنان ولا يكبحها وجوده، وكانت العاطفة التي استولت على كيانها الغض غريبة حلوة رقيقة أشعرتها أنها تستقبل غاية منشودة محتومة إلا أنها مقلقة تطوي بها صفحة ماضيها ويبدأ بها عهد جديد بالغا من الجدة مبلغا جعل لياليا تحسب أنها ستصير كائنا آخر غير الأول في كل شيء.
وعجب يوري لأخته اللعوب الضحوك كيف تغري بالسكون والتفكير، وكان هو مكروبا مكتئبا فبدا له أن كل شيء به مثل سهومه وفتوره - كل شيء حتى لياليا والحديقة المظلمة والسماء البعيدة الملتمعة النجوم - ولم يفطن إلى أن هذه الحالة الحالمة لا تنطوي على الحزن بل على قوة الحياة نفسها. في السماء قوى مجهولة لا حد لها تموج وتتصارع. والحديقة الغامضة تمتص من الأرض ما تحتاج إليه من العصير الحيوي. وفي قلب لياليا غبطة تامة كاملة تضن بها أن تنفي سحرها أية حركة أو شعور. وفي صدرها الحب والحنين يتجاوبان، وهي بما يختلج في نفسها منهما وضيئة كالسماء المزدانة بالنجوم وعليها كالحديقة المستسرة نقاب يخفي ما تحته.
وسألها يوري مترفقا كأنما خشي أن يوقظها: «خبريني يا لياليا. أتحبين أناتول كثيرا؟»
فبدا لها أن تقول «كيف تسألني عن هذا؟» ولكنها كبحت نفسها ودنت منه حتى التصقت به وفي نفسها له الشكر على أن لم يحدثها إلا عما يعنيها في حياتها - أي الرجل الذي تحبه - فقالت لياليا: «نعم أحبه حبا جما.»
وكان صوتها من الرقة بحيث حزر يوري ما قالت إذ لم يكد يسمعه وهي تتكلم وتحاول أن تمنع دموع الفرح. ولقد خيل إلى يوري أن في صوتها نغمة أسى فزاد عطفه عليها ومقته لريازانتزيف.
فسألها وأذهله أن يسألها ذلك: «ولماذا؟»
فرفعت طرفها إليه مستغربة وضحكت في رفق وقالت: «أيها الولد الخرف! لماذا حقا؟ لأن ... اسمع! ألم تحبب مرة في حياتك؟ إنه طيب شريف مستقيم.» وكان بودها أن تزيد على ذلك «وهو جميل قوي ولكنها خجلت ولم تزد شيئا.»
فقال يوري: «أتعرفينه حق معرفته؟» وخطر له أنه لم يكن ينبغي أن يسألها هذا لأنها بالبداهة تحسبه خير من في العالم.
فأجابته بخجل وفي صوتها لهجة الظافر المنتصر: «إن أناتول لا يكتمني شيئا.»
فابتسم يوري، وإذ كان يدرك أن لا سبيل إلى التراجع فقد ألح عليها بالسؤال: «أأنت على يقين جازم؟»
أجابت: «نعم واثقة بالبداهة. ولماذا لا أكون على يقين؟» وارتجف صوتها.
فقال يوري وبه شيء من الارتباك: «لا شيء. لا شيء. إنه سؤال لم أرد به شيئا خاصا.»
وصمتت لياليا ولم يستطع هو أن يحزر ما يجري في ذهنها من الخواطر، ثم سألته فجأة: «لعلك تعلم عنه شيئا!» وكان في صوتها ما ينم على الألم.
فحار يوري وقال: «لا! لا! كلا ماذا يمكن أن أعرف عن أناتول بافلوفتش.»
فقالت لياليا ملحة: «لولا أنك تعلم شيئا لما قلت ما قلت.»
قال: «إن كل ما أعنيه هو ...»
ثم قطع الكلام فجأة واستحيا وعاد فقال: «إننا معشر الرجال كلنا فساق.»
فلزمت لياليا الصمت هنيهة ثم انفجرت ضاحكة وقالت: «نعم، أعرف ذلك.»
فلم ير أن لضحكها هذا محلا وقال بشيء من الغيظ: «لا يحسن بك الاستخفاف بالأمور إلى هذا الحد. كذلك لا يسعك أن تحيطي بكل ما يجري. وأنت خالية الذهن مما في الحياة من حقارة. أنت أصغر سنا من أن تلمي بهذا وأنقى وأطهر.»
فقالت لياليا ضاحكة وقد سرها كلامه: «أهذا كذلك حقا؟»
ثم اتخذت لهجة الجد فقالت: «أتحسب أني لم أفكر في مثل هذه الأمور؟ لقد فكرت وآلمني وأحزنني أننا نحن النساء نكترث لسمعتنا وطهرنا وعفتنا كل هذا الاكتراث ونخاف أن نخطو خطوة لئلا ... لئلا ... نهوي ونسقط، على حين يعد الرجال إغراء الفتاة من مظاهر البطولة. إن هذا ظلم شنيع، أليس كذلك؟»
فقال يوري بمرارة وإن كان على ذلك قد وجد شيئا من الارتياح إلى الاعتراف بمعايبه وذنوبه ولكنه اعتراف يخالطه الشعور بأنه ليس كالناس في شيء: «نعم هذا أظلم شيء في الدنيا. سلي من شئت منا أيرضى أن يتزوج من ... (وهم أن يقول مومسا ولكنه رد هذا اللفظ واعتاض منه) غنجة يقل لك «كلا» ومن أي الوجوه يفضل الرجل المرأة الغنجة؟ إنها تبيع نفسها في مقابلة المال على الأقل لترتزق وتعيش، فأما الرجل فيطلق لشهوته العنان بلا خجل ولا استحياء.»
فصمتت لياليا.
وكان هناك خفاش يطير تحت سقف البهو رائحا جائيا ولا يراه أحد واصطدم جناحاه مرات بالجدار ثم رفرف واختفى.
وأصغى يوري إلى أصوات الليل الغريبة ثم استأنف الكلام وقد زادت مرارة لهجته وصار صوته نفسه يدفعه ويستاقه فقال: «وشر ما في الأمر أنهم جميعا يعرفون ذلك وهم مع هذا متفقون على أن الحال يجب أن يظل كذلك، ثم ترينهم يمثلون مآسي مضحكة فيسمحون بأن يتزوجوا ثم يكذبون على الله والإنسان. ولا يذهب ضحية أحط الفساق وأدنأ المستهتكين إلا أنقى الفتيات وأطهرهن.» (قال هذا وهو يفكر في سينا كرسافينا).
ولقد قال لي سمينوف مرة «كلما كانت المرأة أطهر كان صاحبها أقذر.» وأراه على صواب.
فسألته لياليا بلهجة مستغربة: «أهذا كذلك؟»
فقال يوري وعلت وجهه ابتسامة مرة: «نعم كذلك بلا مراء.»
فتمتمت لياليا وقد خنقتها العبرات: «لا أعرف، لا أعرف شيئا عن هذا.»
فصاح بها يوري ولم يكن قد سمع ما قالت: «ماذا؟»
أجابت: «لا شك أن توليا ليس كالباقين! إن هذا مستحيل.»
وكانت هذه أول مرة ذكرت فيها اسم حبيبها بلفظ الإعزاز ثم طفقت تبكي فجأة، فوقع من نفسه بكاؤها وأمسك بيدها وقال: «لياليا! لياليا! ماذا جرى؟ لم أكن أقصد أن ... لا تبكي يا عزيزتي لياليا! ازجري العين عن بكاها.»
ونحى يديها عن وجهها وقبل أصابعها التي بللها الدمع فقالت وهي تنشج: «لا! لا! إن الأمر صحيح وأنا أعلم ذلك!»
وكان قولها أنها فكرت في هذا من قبل تخيلا محضا ولم تكن تدري عن حياة ريازانتزيف وسلوكه شيئا. نعم إنها تعرف أنها ليست أول من أحب ولا تجهل معنى هذا ودلالته، ولكن وقع هذا الذي تعلمه كان غامضا زائلا.
وكانت تحس أنها تحبه وأنه يحبها. وهذا هو الجوهر وما سواه لا قيمة له ولا وزن. فأما وقد قال أخوها ما قال بلهجة التعنيف والازدراء فقد خيل لها أنها على حرف هاوية واستهولت ما تحدثا عنه، وحسبت أن حلم سعادتها قد انتسخ وأنه لا سبيل إلى إصلاح ما فسد، وأنه لم يعد ثم محل للتفكير في حبها لريازانتزيف.
وحاول يوري وهو يكاد يبكي أن يرفه عنها وجعل يقبلها ويمسح شعرها ولكنها ألحت في البكاء واستسلمت للأسى والمرارة كالطفل.
وأسى يوري لحزنها وما بدا له من ألمها، فعدا إلى البيت وهو ممتقع اللون مضطرب فاصطدم رأسه بالباب وعاد إليها بكوبة ماء أراق نصفها على الأرض وعلى يديه، وقال لها وهو يقدمها إليها. «لا تبكي يا لياليا! لا ينبغي لك أن تبكي هكذا؟ ماذا جرى؟ ما خطبك؟ لعل أناتول بافلوفتش خير من الباقين يا لياليا؟»
وجعل يكرر ذلك وبه من اليأس خاطر.
ولكن لياليا ظلت تعول وترجف رجفا عنيفا حتى لكانت أسنانها تصطك بزجاج الكوبة.
وجاءت الخادمة وقالت: «ماذا جرى يا سيدتي؟»
فنهضت لياليا واتكأت على سور البهو ومضت وهي باكية تنتفض إلى غرفتها.
فقالت لها خادمتها: «سيدتي العزيزة خبريني ماذا حدث؟ أأدعو سيدي والدك؟»
وخرج في هذه اللحظة أبوها نيقولا من المكتبة يمشي بخطى بطيئة متزنة، فلما أخذت عينه لياليا وقف في الباب وقد أذهله منظرها وسأل: «ماذا حدث؟»
فأجابه يوري: «لا شيء! لا شيء! مسألة تافهة! لقد كنا نتحدث عن ريازانتزيف. كلام فارغ.»
وضحك ضحكة مستكرهة، فنظر أبوه إليه شزرا وارتسمت على وجهه دلائل الغضب وصاح به: «ماذا بالله كنت تقول لها؟» وهز كتفيه واستدار وخرج.
فطار طائر يوري وهم بأن يجيبه جوابا عنيفا وقحا ولكن ما خالجه من الحياء أسكته وعقد لسانه. وجاش بصدره الغيظ من أبيه والتوجع للياليا والاحتقار لنفسه، فلم يسعه إلا أن ينحدر إلى الحديقة وداس وهو يمشي ضفدعة تنقنق فسحقها وكادت تزل قدمه فوثب صائحا محنقا. وجعل يمسح قدمة مدة طويلة على الحشائش الطويلة وقد سرت في ظهرة رعدة باردة.
وعبس وأغراه الاشمئزاز الجثماني والعقلي باعتبار كل شيء مثيرا مستفزا حقيرا. وتلمس الطريق إلى مقعد جلس عليه وشخص بعينه إلى الحديقة غير معتمد شيئا على التعيين بنظره، ولم ير إلا رقعا عريضة سوداء في الظلام الشامل، واصطخت في صدره ورأسه الخواطر السوداء.
ورمى بعينه إلى حيث كانت تموت تلك الضفدعة الصغيرة المسكينة أو حيث ماتت بعد كرب وألم هائلين. فكأنما ماتت دنيا بأسرها وزهق عالم برمته، فيالها من حياة مفردة مستقلة لقيت حتفها الشنيع ولم يحسها أحد ولا سمع بها ديار!
واستطرد يوري من ذلك إلى خاطر مقلق غريب ، هو أن كل ما يكون الحياة من غرائز الحب أو البغض الخفية التي تدفع المرء إلى قبول شيء بعينه ورفض آخر، وإحساسه الفطري بالخير والشر، كل هذا ليس إلا ضبابا رقيقا يغطي شخصيته وحدها ويلفها ويحجبها. فأما أعمق تجاريبه وأوجعها فلا يكترث لها العالم في جملته الهائلة كما لم يكترث لمصرع هذه الضفدعة الصغيرة. وكان قبل ذلك يتصور أن آلامه وعواطفه تعني غيره، فنسج من هذه العلاقة شبكة معقدة بينه وبين الوجود؛ كان مصرع الضفدعة كافيا لتحطيمها والقضاء عليها، فتركه ذلك مستفردا يعوزه العطف والغفران.
ثم كرت خواطره إلى سمينوف وإلى ما بدا له من استخفافه بالمثل العليا التي استغرقت نفسه هو وملايين غيره من الناس، فراح يفكر في لذة الحياة الخالصة وفي سحر المرأة الجميلة وضوء القمر والبلابل، وهو موضوع كان قد شغل خواطره في اليوم التالي لآخر حديث جرى له مع سمينوف، ولم يكن يومئذ يفهم لماذا يهتم سمينوف بالتافه من الأمور كركوب زورق أو وجه فتاة حسنة، وكيف يأبى أن يكترث لأسمى الآراء وأعمقها. فأما الآن فقد أدرك أن هذا لم يكن منه بد وأنه لا سبيل إلا إليه، إذ كانت هذه الأمور التافهة هي التي تتكون منها الحياة - الحياة الحقيقية الغاصة بالإحساسات والعواطف والمتع واللذات - أما تلك الآراء السامية العميقة فليست إلا عبارات جوفاء باطلة لا يسعها أن تؤثر أضأل تأثير في ذلك السر الضخم المحجوب وراء الحياة والموت. وهب لهذه الآراء قيمة ووزنا فستعفى عليها وتحل محلها في المستقبل آراء أخرى ليست دونها خطرا وأهمية.
ولما انتهى إلى هذه النتيجة التي نشأت على غير انتظار من آرائه في الخير والشر حار واضطرب وأحس كأنما يواجه فراغا هائلا، وتحرر ذهنه لحظة وصفا وشعر بالقدرة التي يشعر بها الحالم على السبح في الفضاء إلى حيث أحب دون أن تقعد به قيود المادة، فأفزعه هذا الإحساس وجاهد بكل ما وسعه من قوة أن يجمع آراءه المألوفة في الحياة، فزايله هذا الإحساس المرعب وعاد كل شيء جهما ملتاثا في نظره كما كان.
وكان يوري يقول إن الحياة هي تحقيق الحرية وإن من الطبيعي على ذلك أن يبغي المرء في حياته اللذة وأن يعيش لها. وعلى هذا تكون وجهة نظر ريازانتزيف - على انحطاطها - منطقية معقولة، إذ كان لا ينشد إلا سد حاجاته الجنسية ما أمكنه ذلك لأنها ألح الحاجات وأعنفها. ولكن هذا جره إلى القول إن الفسوق والطهر ليسا إلا أوراقا ذاوية تكسو الحشائش النضيرة الجديدة، وإن لمثل لياليا وسينا كرسافينا من الفتيات الطاهرات الحق كل الحق في الارتماء في تيار اللذة الجثمانية. فأحس لهذا الخاطر صدمة واستقذره ورآه عبثا وصبيانية وعالج أن ينفيه عن ذهنه وقلبه بعباراته الحادة القاسية المألوفة.
وقال وهو ينظر إلى السماء: «نعم، إن الحياة هي الشعور ولكن الناس ليسوا بهائم لا تعقل وعليهم أن يحكموا شعورهم وعواطفهم وأن يضبطوها وأن يوجهوا رغباتهم إلى ما هو خير. ولكن أثم إله فيما وراء هذه النجوم؟»
وما كاد يسأل نفسه هذا حتى شاع في جوانب نفسه إحساس مضطرب مؤلم رهيب كاد يسحقه وألح بالنظر على نجم وضيء في ذيل الدب الأكبر، وذكر أن كوسما الفلاح صاحب حقل البطيخ سمى هذه المجموعة الجليلة من النجوم عجلة أثقال، وضايقه أن يذكر هذا الوصف المرذول الوضيع وشخص إلى الحديقة المظلمة السوداء بنظره كأنما يريد أن يقابل بينها وبين السماء الوضيئة وأن يفكر فيهما ويتدبر أمريهما ثم قال لنفسه: «إذا حرم العالم طهر المرأة وحسنها وهما باكورة أزهار الربيع فماذا عسى أن يبقى للإنسان مما هو مقدس جليل؟»
وصور لنفسه وهو يقول ذلك سربا من الغادات الفاتنات كأزهار الربيع جالسات في ضوء الشمس على المروج الخضراء في ظل الأغصان المتهدلة بالثمار والنوار، وجعلت صدورهن وأكتافهن الرقيقة البديعة التكوين وأعضاؤهن اللينة تتحرك أمام عينيه وتشيع في جسمه هزات لذة سارة، وكأنما أدارت رأسه هذه الصورة فأمر يده على جبينه يمسحه بها.
وجعل يسائل نفسه: «لماذا يثور ثائري لأن لياليا ليست بأول من أحب ريازانتزيف؟»
ولم يدر كيف يجيب عن سؤال كهذا ثم مثلت لعينه فجأة صورة سينا كرسافينا فقر ثائر نفسه، وحاول أن ينيم إحساساته التي أيقظتها هذه الصورة، ولكنه كان كلما عالج ذلك ازداد شعورا بما يجعله ينشدها كما هي: نقية لم تمسسها يد.
وقال لنفسه لأول مرة: «نعم ولكني أحبها.»
ونفى هذا كل ما عداه من الخواطر واستحوذ على نفسه حتى لجالت الدموع في عينيه. وما هي إلا برهة ثم راح يسأل نفسه وعلى وجهه ابتسامة مرة: «لماذا إذن توددت إلى سواها من النساء قبلها؟ نعم إني لم أكن أدري أنها موجودة. وكذلك لعمري لم يكن ريازانتزيف يعرف لياليا. وكان كلانا وقتئذ يحسب أن المرأة التي يشتهي أن يفوز بها هي الوحيدة التي لا غنى له عنها، وكنا في ذلك على ضلال ولعلنا الآن مخطئون أيضا. فلا معدى لنا عن إحدى اثنتين: أن نعف أبدا أو أن نتمتع بالحرية الجنسية دون قيد ما ونبيح للنساء مثل ما أبحنا لأنفسنا. وعلى هذا لا يكون ريازانتزيف ملوما من أجل أنه أحب نساء غير لياليا بل من أجل أنه لا يزال على صلة بعدة منهن، وليس هذا مما أصنع أنا في شيء.»
وزهاه هذا الخاطر وأشعره الطهر، ولكن هذا الإحساس لم يدم إلا هنيهة ثم ذكر ما تخيله من منظر الفتيات الجميلات اللينات في ضوء الشمس، وغلبه ذلك حتى ملك عليه حواسه وصار ذهنه ميدانا تتدافع فيه الخواطر المتناقضة وأتعبه النوم على جانبه الأيمن فانقلب وتمطى على الأيسر وقال يخاطب نفسه: «الحقيقة أنه ما من امرأة عرفتها تستطيع أن ترضيني طول حياتي، والذي أسميته الحب الحقيقي مستحيل لا سبيل إلى تحقيقه، ومن الهذيان أن يحلم المرء بشيء كهذا.»
ولم يجد للتمطي على جانبه الأيسر ما قدره من الراحة، فعاد إلى الأيمن وهو قلق يتصبب تحت الغطاء الدافئ وتصدع رأسه: «إن العذرية مثل أعلى وفي تحقيقه فناء الإنسانية فهي إذن جنون - والحياة ماذا هي إن لم تكن بالجنون كذلك؟»
وكاد ينطق هذه الكلمات بصوت عال وعض على نواجذه حتى أومضت لعينه نجوم صفر.
وهكذا ظل إلى الصباح يتقلب وقد أثقلت قلبه وذهنه الخواطر الموحشة، ولما أراد أن يتخلص منها راح يقنع نفسه أنه هو أيضا أناني شهواني مستهتك وأن شكوكه ليست إلا نتيجة الشهوة المخبوءة، غير أن هذا لم يزده إلا مضا ولم يرفه عنه إلا هذا السؤال البسيط: «لماذا أعذب نفسي هكذا؟»
وأحنقه عبث هذا التشريح لنفسه ونفدت قواه فنام.
الفصل الرابع عشر
بكت لياليا في غرفتها طويلا ووجهها مخبوء في الوسائد حتى أخذ عينها الكرى، وقامت في الصباح برأس متصدع وعين منتفخة، وكان أول ما خطر لها أن البكاء لا يجمل بها لأن ريازانتزيف سيتغذى معها، وأخلق به إذا هي لجت في البكاء أن يروعه منظرها وهيئتها، ثم ذكرت أن الأمر انقضى بينهما فألهبت هذه الذكرى حبها وأشعرتها ألما مرا فبكت من جديد، وقالت وحاولت أن تحبس دموعها: «يا لها من نذالة وشناعة! ولماذا؟ لماذا؟»
وجعلت تكرر هذا السؤال كأنما غلبها البث والحزن على الحب الذي ضاع وأهاجها أن ريازانتزيف كان يكذبها أبدا على هذا النحو. «وليس هو بالكذوب وحده بل كل من عداه كانوا يكذبون مثله. كانوا يدعون أنهم أتم ما يكونون سرورا بوشك زواجنا ويزعمونه رجلا شريفا طيبا! لا لا! إنهم لم يكذبوا في الواقع ولكنهم لم يروا أن زواجنا خطأ. وما أشنع ذلك منهم!»
وهكذا خيل لها أن كل من حولها أشرار بغيضون، فأسندت جبينها إلى زجاج النافذة ونظرت إلى الحديقة من خلال دموعها، وكانت الحديقة في ثوب من الجهامة. والمطر يضرب زجاج النافذة فلم تدر أيهما حجب الحديقة عن عينها: المطر أم دموعها. وكانت الأشجار كاسفة ولم ينزل القطر عن أوراقها الصفراء، ولا تكاد تبدو غصونها السوداء من خلال خطوط الديمة السحاحة السكوب التي أحالت ممشى الحديقة مستنقعا من الطين.
وأحست لياليا أنها شقية وأرسلت طرفها إلى المستقبل فلم تر فيه نجم أمل واحد يومض وكرت إلى الماضي فإذا هو مظلم.
وجاءت الخادمة تدعوها إلى الإفطار، سمعت لياليا ألفاظها ولكنها عجزت عن فهم معناها.
ولما جلست إلى المائدة ألفت نفسها مرتبكة كلما خاطبها أبوها، ولم يخامرها شك في أن كل الناس قد أحاطوا علما الآن بغدر حبيبها وزيف حبه، فبادرت إلى العود إلى غرفتها وجلست مرة أخرى تنظر إلى الحديقة الساهمة الموحشة. «لماذا يغدر؟ وما الذي يدفعه إلى إيذائي وإيلامي؟ أترى يفعل هذا لأنه لا يحبني؟ كلا! إن توليا يحبني وأحبه. إذن فماذا؟ إن الأمر هذا: لقد خدعني وكان في خلال ذلك يخطب وداد كل امرأة مقبوحة. فيا عجبا، أ أحببنه كما أحبه؟»
سألت نفسها ذلك في دلال وحرارة ثم قالت: «تالله ما أحمقني، ما خير أن أقطع قلبي بالأسى والتفكير في هذا؟ لقد خانني عهدي فانقضى الأمر بيني وبينه، آه، ما أتم شقاوتي! نعم يحق لي أن أقطع قلبي أسى، لقد غدر بي، وكان يجدر به أن يعترف لي بذلك على الأقل ولكنه لم يفعل، فيا لها من نذالة، يقبل زمرا من النساء غيري، ولعله أيضا ... يا للشناعة ويحي لقد صرت شقية!»
ثم غنت نفسها:
وثبت ضفدعة في الطريق ورجلاها ممدودتان
تلك كانت أغنيتها وهي تنظر إلى ضفدعة صغيرة تثب في الطريق الزل ثم عادت تحدث نفسها بعد أن اختفت الضفدعة بين الحشائش: «نعم أنا شقية وقد قضي الأمر. وما كان أحلى ما مر بي من عهد حبي هذا وأحفله بالغرائب الممتعة أما هو ... فلم يكن الأمر في نظره إلا مسألة عادية مألوفة! وأحسبه لهذا كان يحاذر أن يحدثني عن ماضيه! وهذا أيضا فيما أظن سر ما كان يبدو لي من غرابة شأنه ومن هيئة التفكير التي كانت تلازمه. كأنما كان يقول لنفسه أبدا: «إني خبير بهذا وأنا أعرف ما تحسينه وأستطيع أن أتكهن بالنتيجة.» بينما كنت أنا طول هذا الزمن ... آه ما أفظع هذا وأشنعه! ألا لن أحب أبدا بعد ذلك!»
ثم بكت مرة أخرى وأسندت خدها إلى الزجاج البارد وشخصت بعينها إلى العماء السائر ولم تكف عن مناجاة نفسها: «ولكن توليا سيحضر للغداء اليوم!»
وارتجفت لهذا الخاطر: «فماذا عسى أن أقول له؟ ماذا ينبغي لمثلي أن يقول لمثله في هذه الأحوال؟»
وفتحت فمها وأتأرت نظرها إلى الحائط: «لا بد لي من سؤال يوري في هذا. إيه ما أطيب يوري وأقومه!»
وجالت دموع العطف في عينيها. ولما كانت لم تألف أن ترجئ أمرا ما فقد خفت إلى أخيها في غرفته حيث ألفت معه شافروف يناقشه في ما لا تعلم فوقفت مترددة في الباب وقالت بشيء من الذهول: «عما صباحا.»
فأجابها شافروف: «عمي صباحا! تفضلي بالله يا لياليا! إنه لا غنى لنا عن عونك في هذا الأمر.»
فلم يفارقها ارتباكها وأطاعت وجلست إلى المنضدة وجعلت تعبث بأصابعها ببعض الأوراق الخضراء والصفراء المكومة فوقها.
والتفت إليها شافروف التفاتة من يهم بجلاء معضل وقال: «المسألة هي أن كثيرين من زملائنا في كورسك في ضيق وكرب شديدين، ولا بد لنا من بذل كل ما يسعنا بذله لمساعدتهم، ومن أجل هذا فكرت إحياء ليلة فهل توافقين؟»
فأذكرها سؤاله وعباراته المألوفة ما جاءت من أجله إلى أخيها فنظرت إليه بعين ملؤها الأمل وقالت وهي تعجب لماذا يتقي يوري لحظها: «لم لا؟ إنها فكرة حسنة جدا!»
وكان يوري بعد الذي شهده من بكاء أخته وما كابده من الخواطر المقلقة طوال الليل، يحس أنه أشد اكتئابا وحزنا من أن يستطيع أن يكلم أخته. ولقد توقع أن تقصد إليه طلبا لمشورته، ولكنه شعر أن الإشارة عليها بشيء مرض مطلب بعيد. كذلك من المستحيل استرداد ما قاله ليرفه عنها ويسري أحزانها وليدفعها إلى ذراعي ريازانتزيف ولم يشعر بالقدرة على القضاء على سعادتها الوليدة.
وعاد شافروف إلى الكلام ودنا من لياليا كأنما زاد الأمر تعقدا أو إشكالا: «حسن، إن الذي قررنا أن نفعله هو هذا: نريد أن نطلب إلى ليدا سانين وإلى سينا كرسافينا أن يغنيا، كل منهما على حدة أولا ثم بعد ذلك معا وليس أصلح من صوتيهما للغناء المشترك، فإذا فرغا عزفت على الكمنجا ثم بعد ذلك يغني سارودين ومعه تاناروف.»
فسألته لياليا بلا تعمد وهي تفكر في شيء آخر: «إذن فسيشترك الضباط في الحفلة أليس كذلك؟»
فصاح شافروف ولوح بيده: «نعم بلا شك، وما على ليدا إلا أن تقبل فتلتف بها جمهرة منهم كالزنابير، أما من حيث سارودين فهذا يسره أن يغني وهو لا يكترث للسكان ما دام يستطيع أن يغني وسيجتذب غناؤه عددا جما من زملائه الضباط فيغص المكان.»
فرمت لياليا إلى أخيها بنظرة ذات معنى وقالت: «يجب أن تدعو سينا كرسافينا.»
وحدثت نفسها قائلة: «لا أحسبه قد نسي كيف يكلمني في شأن هذه الحفلة وأنا ...»
فقال شافروف: «لقد قلت لك منذ هنيهة أننا دعوناها!»
فقالت لياليا: «نعم قلت ذلك.» وابتسمت: «وهناك أيضا ليدا ولكنك ذكرت اسمها فيما أظن؟»
قال شافروف: «نعم فعلت ومن ندعو غيرهما؟»
فتمتمت لياليا: «لا أدري والله! ... إن برأسي صداعا.»
فنظر يوري إلى أخته مسرعا ثم استأنف الإكباب على الأوراق وحرك عطفه عليها إصفرارها وثقل جفونها وقال لنفسه: «لماذا قلت لها كل هذا؟ إن المسألة غامضة مستبهمة المعالم في رأيي ورأي الكثيرين من الناس. ولا مفر للمسكينة الآن من تعب القلب والخاطر فلماذا خبرتها؟» وأحس كأنما سيهم بتمزيق شعره.
وفي هذه اللحظة دخلت الخادمة وقالت: «سيدتي إن المسيو أناتول بافلوفتش قد حضر!»
فأسرع يوري وألقى إلى أخته نظرة فزعة فالتقت عينه وعينها فأشاحت لارتباكها بوجهها عنه إلى شافروف وقالت على عجل: «هل قرأت شارل برادلاف؟»
أجاب: «نعم قرأنا بعض كتبه مع دوبوفا وسينا كرسافينا إنها ممتعة!»
قالت: «نعم. أو قد عادنا؟»
أجاب: «نعم»
فسأل يوري وكتم انفعاله: «متى؟»
قالت: «منذ أول من أمس.»
فقال يوري: «حقا؟»
ونظر إلى أخته وخجل منها وأحس الخوف في حضرتها كأنما كان قد خدعها.
وظلت لياليا لحظة وهي واقفة مترددة تعبث بأصابعها بكل شيء ثم دنت من الباب.
فقال يوري مخاطبا نفسه: «ويحي ماذا صنعت؟» وأصغى وهو مكروب إلى وقع قدميها المتعثرتين.
ومضت لياليا إلى الغرفة الثانية مترددة حزينة وأحست كأنما جمد الدم في عروقها، وكأنما هي تائهة في غابة مظلمة، فنظرت إلى مرآة ورأت في صقالها وجهها المقطب وقالت تحدث نفسها: «سيراني بهذا الوجه !»
وكان ريازانتزيف واقفا في غرفة المائدة يقول لنيقولا بصوته الحلو: «بديهي أن هذا غريب ولكنه لا بأس منه.»
فلما سمعت لياليا صوته خفق قلبها خفقا عنيفا كأنما يهم أن يتمزق وأبصرها ريازانتزيف فكف فجأة عن الكلام وتقدم، إليها وذراعاه مفتوحتان ولم يكن أحد سواها يعلم أن هذه الإشارة دليل على أنه يريد أن يحتضنها.
فرفعت إليه طرفها في حياء وارتجفت شفتاها ونزعت كفها من كفه دون أن تنبث، واجتازت الغرفة وفتحت الباب الذي يفضي إلى الشرفة وجعل ريازانتزيف يرقبها وهي تفعل ذلك، وهو هادئ غير أن به بعض الدهشة.
والتفت إلى أبيها وقال بوقار المازح: «إن لود ميللا نافرة!»
فانفجر الأب نيقولا يضحك وقال: «الأولى أن تذهب إليها وتتألفها.»
فتنهد ريازانتزيف وقال بهيئة مضحكة وهو يتبعها إلى الشرفة: «ليس ثم غير ذلك.»
وكان المطر لا يزال يهطل وفي الجو صوت قطراته المتساقطة المملة، ولكن السماء كانت أصفى والسحب متقطعة. وكانت لياليا واقفة وخدها إلى أحد عمدان الشرفة والمطر يضرب يدها العارية وشعرها مبتل.
فقال ريازانتزيف وهو يدنو منها: «إن سيدتي غاضبة ... لياليتشكا!»
ومنح شعرها العطر البليل قبلة خفيفة، فأحست كأن شيئا يذوب في صدرها ويتحلل وأقبلت عليه وهي لا تدري ما تصنع وطوقت عنق حبيبها القوي بذراعيها وأمطرته وابلا من اللثمات وهي تقول بينها: «إني مستاءة جدا جدا منك ... أنت رجل شرير.»
وكانت في خلال ذلك تقول لنفسها أن ليس في الأمر بعد كل ما يقال سوء لا سبيل إلى إصلاحه كما حسبت من قبل، وماذا يهم؟ إن كل ما تريده هو أن تحب هذا الرجل الكبير الجميل وأن يحبها.
ولما جلسا بعد ذلك إلى المائدة آلمها من أخيها نظرة إليها مستغربة وما سنحت لها الفرصة حتى أسرت إليه: «إن هذا مني فظيع وأنا أعرف ذلك.»
فلم يزد على أن ابتسم ابتسامة مجتواة.
وكان يوري في الواقع قد سره أن الأمر انتهى على هذا الحال الحسن، وإن كان على هذا قد ذهب يدعي استنكار هذا التسامح العامي واحتقاره، فانسحب إلى غرفته ومكث بها وحده إلى المساء.
ولما آذنت الشمس بالمغيب ورأى السماء صافية احتمل بندقيته على نية الذهاب للصيد في حيث صاد هو وريازانتزيف أمس.
وكان المطر قد أكسب هذه البركة حياة جديدة، فكان المرء يسمع أصواتا غريبة كثيرة والحشائش تترنح كأنما تحركها قوة حيوية خفية والضفادع تنقنق جماعات، والطيور من حين إلى حين ترسل أصواتا حادة متنافرة، والبط يصيح بين الأعشاب والأكلاء البليلة على مقربة من يوري وإن كان أبعد من مدى بندقيته. ولم يحس الرغبة في الصيد فاحتمل بندقيته وانثنى آيبا يصغى إلى أصوات الصفاء البلوري في الغسق الساكن ثم قال: «ما أجمل هذا، كل شيء جميل إلا الإنسان فهو وضيع.»
وأخذت عينه النار موقدة على بعد في حقل البطيخ، ولما اقترب عرف في ضوئها وجهي كوسما وسانين فاستغرب ونزعت نفسه إلى استطلاع السر «ولماذا يدأب على المجيء إلى هنا؟»
وكان كوسما جالسا إلى جانب النار يقص حكاية وهو يضحك ويومئ وسانين يضحك كذلك، وكان لهيب النار خفيفا كلسان الشمعة ورديا لا أحمر قانيا كما يكون في ظلمة الليل. وفي قبة السماء الزرقاء طلائع النجوم تتوامض، وفي الجو رائحة الجدة غب المطر وشذى النبات المطلول.
وخاف يوري لسبب ما أن يرياه وأحزنه في الوقت نفسه أن لا يستطيع أن يلحق بهما ويكون معهما، فكأنما قام بينهما وبينه حجاب كاذب غير مفهوم أو فضاء لا جو فيه أو بون لا سبيل إلى تخطيه.
وثقلت على نفسه وطأة هذا الإحساس بالعزلة. وتجسم له أنه مستفرد وحيد، وأنه واقف بمعزل عن هذه الدنيا بأضوائها وألوانها ونيرانها ونجومها وأصواتها الآدمية كأنما هو ملقى به في غرفة حالكة، وبلغ من جثوم هذا الشعور بالوحدة أن خيل له وهو يجتاز حقل البطيخ حيث كانت مئات منه أن هذه ليست سوى جماجم آدمية مبعثرة فوق ظهر الأرض.
الفصل الخامس عشر
جاء الصيف بالحرارة والدفء، فكان الجو بين الأرض الساخنة والسماء الزرقاء المشرقة الصفحة كأنما يغشاه ويسبح فيه نقاب خفيف من البخار الذهبي، وكأنما أرهق الحر الأشجار فنامت وألقت أوراقها المتدلية الساكنة ظلالا شفافة قصيرة على الثرى الظامئ الجاف. وفي البيوت الرطوبة. والحدائق ترسل ألوانا خضراء باهتة ترسمها الأضواء على السقوف وكل شيء ساكن ما خلا الستائر المجموعة إلى جوانب النوافذ. هذه وحدها كان النسيم الواني يعابثها.
وكان سارودين في جاكتة من التيل مفكوكة الأزرار يقطع أرجاء الغرفة في بطء وهو يدخن سيجارة في كسل وفتور ويكشف عن أسنانه الكبيرة البيضاء. وعلى الكنبة تاناروف في ثياب الركوب متمطيا يلحظ سارودين بعينيه الصغيرتين السوداوين. وكان في أشد الحاجة إلى خمسين روبلا، وقد طلب إلى سارودين مرتين أن يسلفه إياها ولم يجرؤ على معاودة الكرة مرة ثالثة. فجعل ينتظر في قلق أن يعود سارودين من تلقاء نفسه إلى الموضوع، ولم يكن سارودين قد نسي ولكنه كان قد قامر وأضاع سبع مئة روبل في الشهر الماضي فضن على صاحبه بأي قرض آخر. وكان يقول لنفسه وهو ينظر إلى تاناروف إذ يمر به: «إن عليه لي مئتي روبل وخمسين روبلا. وهذا مدهش حقا! نعم نحن صديقان حميمان إلخ، ولكني أعجب له كيف لا يخجل. إنه على الأقل يستطيع أن يعتذر إلي من أنه مدين لي بكل هذا المبلغ. كلا. لن أقرضه درهما واحدا آخر.»
ودخل في هذه اللحظة خادمه وهو جندي صغير الجسم منقط الجلد ووقف بشكل محتوى وحيا وقال وهو لا ينظر إلى سارودين: «سيدي لقد طلبت جعة ولكنه لم يبق منها شيء.»
فنظر سارودين على غير إرادته إلى تاناروف واحمر وجهه وقال لنفسه: «حقا إن هذا أكثر مما يطاق! إنه يعلم ما أنا فيه من الضيق ومع ذلك لا بد من الجعة!»
وزاد الخادم على خبره السابق: «والباقي من الفودكا قليل أيضا.»
قال: «حسن لعنة الله عليك إنه لا يزال معك روبيلان فاذهب واشتر ما تريد.»
أجاب: «عفوا سيدي فليس معي شيء على الإطلاق.»
فوقف سارودين وصاح به: «كيف هذا؟ ماذا تعني بالكذب علي؟»
قال «عفوا يا سيدي. لقد أمرت أن أنقد الغسالة روبيلا و70 كربيك ففعلت ووضعت الثلاثين الباقية على المنضدة.»
فقال تاناروف متكلفا عدم الاهتمام وإن كان على هذا قد احمر خجلا: «نعم هذا صحيح. لقد أمرته بهذا أمس، وكانت المرأة لم تزل تتعقبني منذ أسبوع وأنت تعلم ذلك.»
فبدت على خدي سارودين الحليقين المصقولين نقطتان حمروان وتقبضت عضلات وجهه واستأنف رواحه ومجيئه في صمت، ثم ما عتم أن وقف بغتة أمام تاناروف وقال والغضب يرعش صوته: «اسمع. إني أكون شاكرا جدا إذا تركتني أدير شئوني المالية في المستقبل.»
فاحتقن وجه تاناروف وتمتم وهو يهز كتفيه: «ه. م! ومسألة تافهة كهذه!»
فقال سارودين: «إنها ليست مسألة توافه، بل مسألة مبدأ. فهل تسمح لي أقول لك بأي حق ...»
أجاب: «أنا ...»
وقاطعه سارودين بنفس هذه اللهجة الجارحة وقال: «أرجوك أن لا تشرح لي شيئا وليس يسعني إلا أن أرجوك أن لا تستعمل هذه الحرية مرة أخرى.»
فارتجفت شفتا تاناروف وتدلى رأسه وجعلت أصابعه تعبث «بفم» سيجارة.
وبعد لحظة استدار سارودين بحدة وأخرج مفاتيحه وفتح درج مكتبه وقال: «خذ واذهب واشتر ما نريد!»
قال ذلك بصوت أهدأ وأعطى الجندي ورقة بمائة روبل.
فقال الخادم: «حسن يا سيدي.» وحيا وخرج.
ثم أغلق سارودين صندوق نقوده ورد الدرج وأدار فيه المفتاح واستطاع تاناروف أن يرى الصندوق الذي يحتوي الخمسين روبيلا التي به الحاجة إليها، ثم تنهد وأشعل سيجارة وهو على أشد ما يكون ألما، ولكنه خشي أن يظهر ألمه لئلا يزداد سارودين غضبا واكتفى بأن يقول لنفسه: «ما قيمة روبيلين عنده؟ إنه يعلم علم اليقين أني في ضيق شديد.»
وظل سارودين يروح ويجيء في الغرفة والغضب باد عليه إلا أنه كان يهدأ شيئا فشيئا، ولما عاد الخادم بالجعة كرع كوبا من هذا الشراب المرغي المثلج بالتذاذ واضح، وبعد أن مص حافة شاربيه قال كأنما لم يكن قد حدث شيء: «لقد عادت ليدا إلي أمس! تالله ما أحلاها! حارة حامية!»
وكان تاناروف لا يزال متوجعا فلم يجبه ولم يلتفت سارودين إلى صمته. واجتاز الغرفة في بطء وفي عينه ضحكة ذكرى مكتومة. وجعل الحر كيانه القوي الصحيح أحس بتأثير الخواطر المثيرة. ثم ضحك ضحكة قصيرة فكأنما كان يصهل ثم وقف وقال: «تعلم أني البارحة حاولت ...»
وهنا استعمل لفظة خشنة وضيعة لا يليق أن يشار بها إلى امرأة واستأنف الكلام. «فتأبت قليلا في أول الأمر، يا لنظرة عينيها أنت بالضرورة تعرف.»
فابتسم تاناروف ابتسامة الشهوان وقد ثارت غرائزه الحيوانية.
وقال سارودين والذكرى ترعش منه: «ولكن بعد ذلك لانت أعطاف الأمور. لم يمر بي مثل هذا الوقت في حياتي كلها.»
فقال تاناروف حاسدا إياه: «ما أسعد حظك!»
وصاح بهما صوت من الشارع: «هل سارودين هنا؟ أندخل؟»
وكان السائل هو إيفانوف ففزع سارودين وأشفق من أن يكون ما قاله عن ليدا قد سمعه أحد ولكن إيفانوف كان يناديه من السكة ولم يكن بحيث يرى فصاح به سارودين من النافذة. «نعم. نعم هنا.»
وعلت في الغرفة الأخرى جلبة ضحك ووقع أقدام كأنما غزا البيت جيش من أهل القصف، ثم دخل إيفانوف ونوفيكوف والكابتن مالينوسكي وضابطان آخران وسانين. وصاح مالينوسكي وهو يدفع نفسه داخلا الغرفة: «هوراه! كيف أنتم أيها الصبيان؟»
وهو رجل وجهه أحمر وخداه سمينان طريان وله شاربان تخالهما عودين من القش.
وقال سارودين يحدث نفسه مغضبا: «وستذهب أيضا ورقة بخمسة وعشرين روبيلا.»
ولكنه لم يكن يحب أن تسوء سمعته وأن يظن به إلا أنه غني كريم فصاح بهم وهو يبتسم لهم: «هالوا! أين أنتم ذاهبون جميعا، آتون إلي؟ هيا يا شيريبانوف هات لنا فودكا وسائر ما نحتاج إليه. اجر إلى النادي وائت بشيء من الجعة. إنكم تريدون جعة أليس كذلك يا سادة؟ في مثل هذا الحر؟»
ولما جاء الخادم بالجعة والفودكا زادت الضجة وعلت الجلبة وصاروا جميعا يضحكون ويصيحون ويشربون كأنما آلوا أن يحدثوا أكبر صخب ممكن، ولكن نوفيكوف كان مطرقا مكتئبا وعلى وجهه الطيب أمارات منذرة. ولم يكن قد عرف إلا أمس ما تلغط به البلدة فطغت به في أول الأمر الغيرة والشعور بالمهانة ثم قال لنفسه: «إن هذا مستحيل! سخافة مطبقة وحديث خرافة.»
وأبى أن يصدق أن ليدا الجميلة المزهرة البعيدة المنال - ليدا التي يحبها من أعماق قلبه - يمكن أن تكون قد تورطت على نحو مخز مع مخلوق مثل سارودين الذي يعده نوفيكوف دونه ذكاء ومواهب. ثم استحوذت على نفسه الغيرة الجامحة الحيوانية ومرت به لحظات يأس مرة فكانت تمزق قلبه الكراهية لليدا ولسارودين على وجه أخص. وهو إحساس لا يلائم مزاجه الهادئ اللين فكان لذلك يتطلب منفذا ومتنفسا، وظل الليل كله يرثي لنفسه، بل لقد خطر له الانتحار غير أنه ما كاد الصبح يتنفس حتى نازعته رغبة جامحة طاغية غامضة أن يرى سارودين.
ولما جاء انتحى ناحية وجعل يكرع الكأس إثر الكأس وعينه ترصد كل حركة لسارودين كما يرصد الوحش في الغابة قرينه الوحش - متظاهرا بأنه لا يرى شيئا ولكنه على هذا أتم ما يكون استعدادا للوثوب - وكان كل ما له علاقة بسارودين - ابتسامته وأسنانه البيضاء وقسمات وجهه المليحة وصوته - كل هذه كانت سهاما أو خناجر في جرح رهيب فاغر.
وقال ضابط طويل نحيف له ذراعان طويلتان: «سارودين! لقد جئت إليك بكتاب.»
وسمع نوفيكوف وسط الصخب العالي اسم سارودين يذكر وصك أذنه صوته كذلك كأنما كانت ألسنة الحضور خرساء وقال: «أي كتاب؟»
فقال الضابط الهزيل ورفع صوته كأنما يلقي بيانا: «إنه كتاب عن النساء بقلم تولستوي.» وكانت على وجهه الطويل الهضيم آيات الزهو والمباهاة بأنه يقرأ تولستوي ويبحثه.
فسأله إيفانوف وقد لاحظ دلائل هذا الزهو: «أوتقرأ تولستوي؟»
وقال مالينوسكي مجيبا عنه: «إن فون دايتز مجنون بتولستوي.»
وتناول سارودين الكتاب الصغير وقلب بعض صفحاته وقال: «أهو لذيذ؟»
فقال فون دايتز بحماسة: «سترى. لعمري إنه لعقل! ويخيل لك بعد قراءته كأنما كنت تعرف هذا من قبل!»
فسأل نوفيكوف بصوت منخفض وعيناه إلى الكأس في يده: «ولكن لماذا تطلب إلى فيكتور سرجيفنش (سارودين) أن يقرأ تولستوي، مع أن له آراء خاصة عن النساء؟»
فقال سارودين بحذر وقد استروح نية الهجوم: «ما الذي يجعلك تظن هذا؟»
فصمت نوفيكوف وكان يود أن يلطم سارودين على وجهه الحسن الذي ينم على الرضى عن النفس وأن يطرحه على الأرض ويلكزه لكز من طغى بصدره ورأسه جنون العاطفة. ولكن الألفاظ التي يطلبها خانته. وأدرك - وآلمه أن يدرك - أنه ينطق بما لا يريد حين قال: «حسب المرء أن ينظر إليك ليعرف ذلك.»
فأحدثت لهجته الغريبة المنذرة سكونا مباغتا كأنما ارتكبت جريمة قتل وفطن إيفانوف إلى سر المسألة وقال سارودين ببرود: «يخيل إلي أن ...» وتغيرت هيئته قليلا وإن كان قد ملك عواطفه وضبطها.
فصاح بهما إيفانوف: «مهلا مهلا يا سادتي، ماذا حدث؟»
فقال سانين مقاطعا: «لا تدخل بينهما. دعهما يقتتلان ويفرغان من الأمر.»
وعاد نوفيكوف فقال مجيبا سارودين بنفس اللهجة وعيناه إلى كأسه: «ليس في الأمر تخيل وإنما هو كذلك.»
ولم يكد يقولها حتى حال بين المتنافسين حائط من اللحم والدم وكثر الصياح والتلويح بالأذرع وانطلقت الألسنة بعبارات المزاح والدهشة، وأمسك مالينوسكي وفون دايتز بسارودين ورد إيفانوف والضباط الآخرون نوفيكوف وأترع إيفانوف الكئوس وقال شيئا غير معتمد أحدا بخطابه وصار السرور متكلفا لا إخلاص فيه، وأحس نوفيكوف أن خروجه واجب ولم يطق البقاء، فابتسم ابتسامة خرقاء والتفت إلى إيفانوف والضباط الذين كانوا يعالجون أن يلفتوا نظره إليهم، وقال يحدث نفسه: «ماذا دهاني؟ أحسب أن واجبي أن أضربه ... أن أهجم عليه وألكمه في عينه، وإلا عدوني طفلا إذ لا بد أن يكونوا قد حزروا أني أحتك به ...»
ولكنه بدلا من أن يفعل هذا ادعى الإهتمام بما يقوله إيفانوف وفون دايتز.
وقال فون دايتز: «أما من حيث النساء فلست أوافق تولستوي كل الموافقة.»
فقال إيفانوف: «إن المرأة ليست إلا أنثى. وقد تجد في كل ألف رجل واحدا جديرا بأن يسمى رجلا فأما النساء ... ويحهن إنهن جميعا سواء ولسن إلا قردة عارية حمراء ولكنها بغير أذناب.»
فقال فون دايتز موافقا: «ما أذكى هذا؟»
فقال نوفيكوف بمرارة: «بل ما أصدقه.»
واستمر إيفانوف ملوحا بيديه قريبا من أذن صاحبه فقال: «يا سيدي العزيز، اسمع. إذا ذهبت إلى الناس وقلت لهم (إن المرأة إذا نظرت إلى الرجل نظرة اشتهاء فقد زنت معه في قلبها) كان الأرجح أن يعد أكثرهم هذا القول صحيحا مبتكرا.»
فأخرج فون دايتز ضحكة جشاء كأنها نباح الكلب، ولم يكن قد فهم نكتة إيفانوف، غير أنه على هذا آسف لأنه لم يقلها دونه.
وإنهم لكذلك وإذا بنوفيكوف يمد يده إلى فون دايتز فقال فون دايتز مستغربا: «ماذا؟ أذاهب أنت؟»
فلم يحر نوفيكوف جوابا. وسأله سانين: «إلى أين؟»
فظل نوفيكوف صامتا وهو يحس كأن الألم المكتوم يوشك أن ينهمر دموعا.
فقال سانين: «إني أعرف ما بك. ابصق على كل ذلك.»
فرمى إليه بنظرة من يرثي له وارتجفت شفتاه وأومأ إيماءة الأسف وخرج في صمت والإحساس بعجزه يخامره فقال ليتسلى: «ما خير أن ألطم هذا النذل على وجهه؟ إن هذا ما كان ليفضي إلا إلى قتال سخيف، ولخير لي أن لا ألوث يدي.»
ولكن الغيرة الثائرة والإحساس بالعجز ظلا ضاغطين فعاد إلى بيته وهو في أشد حالات الغم والأسى، وألقى بنفسه على الفراش وأخفى وجهه في الوسادة، وظل كذلك بقية النهار وبه ما به من مرارة الشعور بأن لا حيلة له. •••
وسأل مالينوسكي زملاءه: «ألا نلعب الورق؟»
فقال إيفانوف: «حسن جدا.»
وجاء الخادم بمنضدة اللعب وعليها غطاؤها الأخضر يستهويهم جميعا. وكان اقتراح مالينوسكي قد أيقظهم فجعل ينقل الأوراق بكفيه الصغيرتين الكثيرتي الشعر وانتشرت على المائدة الخضراء الأوراق الزاهية، وسمع رنين الروبيلات الفضية بعد كل دور أو صارت الأصابع تطبق عليها كالعناكب، ولم تند عن الأفواه إلا عبارات وجيزة مصرحة عن السرور أو الكمد.
وخذل الحظ سارودين فذهب إلى العناد وأصر على المخاطرة في كل شوط بخمسة عشر روبيلا، وكان يخسرها في كل مرة وصار وجهه ناطقا بالألم الشديد، وكان في الشهر الماضي قد قامر وخسر سبع مئة روبل يضاف إليها كل ما ذهب اليوم وأعدى غيره بسوء خلقه، فلم يلبث فون دايتز ومالينوسكي أن تراشقا بالعبارات الجارحة.
فصاح بهما سارودين وألقى ورقه: «ويحكم ما معنى هذا كله؟»
وفي هذه اللحظة ظهر قادم جديد في مدخل الغرفة، فخجل سارودين لانفجار مرجل غضبه وانطلاق لسانه بعبارات العامة، ولوجود هؤلاء الضيوف المخمورين الصاخبين، ولأوراق اللعب وزجاجات الخمر وخيل إليه أن غرفته قد صار لها منظر الخمارة.
وكان القادم رجلا نحيفا طويلا في بذلة بيضاء فضفاضة وأنيقة، غالية فوقف على العتبة مذهولا وجعل يتأمل الحضور باحثا عن سارودين بينهم.
فصاح سارودين وتقدم لتحيته ووجهه كالجمر من الغيظ: «أهلا بك يا بافل لفوفتش! ماذا جاء بك؟»
ودخل القادم بهيئة المتردد وصارت كل العيون قيد حذائيه الأبيضين الناصعين، وهو يخطو بهما على حذر بين زجاجات الجعة وسداداتها وأعقاب السجاير، وكان من البياض والنظافة والتعطر وحسن الهندام بحيث صار بين سحب الدخان المعقود في جو الغرفة ومرسليها السكارى أشبه شيء بالزنبقة في المستنقع لولا خوره وذبوله، ولولا أن قسمات وجهه ضعيفة وأسنانه البادية تحت شاربيه الخفيفين الأحمرين متداعية.
فقال سارودين: ومن أين جئت؟ أغبت طويلا عن بتجر؟
1
ثم أدركه الخوف من أن تكون بتجر لفظة لا يجمل بمثله استعمالها.
فقال الرجل ذو الثوب الأبيض بلهجة باتة، وإن كان صوته كصياح الديك المكتوم: «جئت أمس فقط.»
فقال سارودين وقدمه إلى الحاضرين: «هذا هو المستر بافل لفوفتش فلوتشين.»
فانحني فلوتشين قليلا وقال إيفانوف وكان ثملا فأزعج سارودين: يجب أن تدون هذا! - «تفضل واجلس يا فلوتشين. أتشرب نبيذا أم جعة؟»
فجلس فلوتشين ببطء وحذر على كرسي ذي ذراعين، فظهر نصوع ثوبه إلى جانب الغطاء القذر وقال ببرود ودارت عينه في الحضور: «أرجوك لا تتعب نفسك إنما جئت لأراك هنيهة.»
فسأله سارودين: «كيف تقول هذا؟ سأطلب لك نبيذا أبيض. فإنك تحبة أليس كذلك؟»
وأسرع فخرج وهو يقول لنفسه: «لماذا شاء هذا الأحمق أن يأتي إلي اليوم؟ إنه سيروي عني في بطرسبرج ما يجعل من المستحيل علي أن تطأ رجلي عتبة بيت محترم فيها.» وبعث خادمه ليشتري النبيذ.
وفي خلال ذلك كان فلوتشين ينقد الحاضرين نقدا صريحا وينظر إليهم نظر الموقن أنهم دونه بمراحل. ويقلب فيهم عينه الزجاجية تقليب من يعرض مجموعة من الوحوش، ووقع من نفسه على وجه الخصوص قامة سانين ووثاقة تركيبه وثيابه فقال لنفسه: «هذا نوع ممتع! ولا بد أن يكون قويا!»
وبه إعجاب الضعيف الخوار للقوي الباطش. والواقع أنه ما عتم أنه انطلق يكلم سانين، غير أن سانين كان متكئا على حافة النافذة ينظر إلى الحديقة، فكف فلوتشين عن الكلام وغاظه حتى صوته وحدث نفسه أن هؤلاء ليسوا إلا حثالة الخلق.
وعاد سارودين في هذه اللحظة وجلس بجانبه، وجعل يسأله عن بطرسبرج وعن مصنعه ليفهم الحاضرين أن زائره رجل ثري خطير الشأن، وبدت على وجهه الوسيم دلائل الزهو والغرور الحقير فأجابه فلوتشين بلهجة السأمان: «كل شيء هناك كما كان! وكيف حالك أنت؟»
فقال ساردين وأخرج زفرة: «إني أعيش عيشة النبات.»
فصمت فلوتشين ورفع طرفه بازدراء إلى السقف حيث كانت تلتمع الأضواء المنعكسة عن الحديقة.
وعاد سارودين إلى الكلام: «إن سلوتنا الوحيدة هي هذا.» وأشار إلى الورق والزجاجات والضيوف.
فقال فلوتشين: «نعم نعم.»
وخيل لسارودين أن صاحبه يقول له: «إنك لست بخير منهم.»
ثم وقف فلوتشين يودع صاحبه وقال: «يجب أن أذهب الآن. إني مقيم بالفندق القائم في الميدان وأرجو أن أراك مرة أخرى.»
وفي هذه اللحظة دخل الخادم وحيا بهيئة رثه وقال: «سيدي إن السيدة الصغيرة هناك.»
ففزع سارودين وصاح به: «ماذا؟»
أجاب: «لقد حضرت يا سيدي.»
فقال سارودين: «آه! نعم سمعت.» وأدار لحظة في الغرفة مضطربا وأوجس خيفة وقال لنفسه: «أتراها ليدا مستحيل!»
فالتمعت عين فلوتشين وكأنما استجد جسمه الصغير الضعيف في ثيابه الواسعة البيضاء حيوته المفقودة فقال وهو يضحك: «حسن أسعد الله نهارك، أراك لا تزال على عهدك القديم ها ها!»
فابتسم سارودين وهو قلق وماشى زائره إلى الباب. ولما عاد سارودين قال لرفقائه: «والآن يا سادة كيف يجري اللعب؟ خذ (البنك) عني يا تاناروف إذا سمحت وسأعود إليكم عاجلا.»
وكان يتكلم بسرعة وعيناه قلقتان.
فنبحه مالينوسكي وكان قد سكر: «وهذا كذب! لا بد أن نشبع من النظر سيدتك الصغيرة هذه.» فأمسك تاناروف بكتفه ورده إلى كرسيه وعاد الباقون إلى أماكنهم حول المنضدة وهم لا ينظرون إلى سارودين، وجلس سانين كذلك، ولكن ابتسامته كان فيها شيء من الجد، وكان قد أدرك أن ليدا هي التي جاءت، وخالجه إحساس غامض بالغيرة والمرثية لأخته الجميلة التي صارت الآن في كرب شديد.
هوامش
الفصل السادس عشر
جلست ليدا على سرير سارودين يائسة تلوي المنديل لي الاضطراب، فلما دخل عليها لحظ تغير منظرها وحئول هيئتها - فما بقي شيء من تلك الفتاة المزهوة الشامخة الرأس العالية الروح - ورأى أمامه امرأة محزونة حطمها الأسى وأغار من خديها وأخمد لمعة عينيها، فحدقته هاتان العينان السوداوان ثم ما عتمتا أن جانبتاه فأدرك بغريزته أن ليدا تخشاه، وفاجأه لذلك غيظ شديد فرد الباب بعنف ومضى إليها. وقال وهو لا يكاد يغالب جماح رغبة أن يضربها: «إنك حقيقة عجيبة جدا! ها ذا أنا هنا في غرفة غاصة بالناس وفي جملتهم أخوك. أما كان يسعك أن تتخيري وقتا آخر للمجيء؟ إن هذا مثير حقا.»
فانطلقت إليه من العينين السوداوين نظرة تداعى لها سارودين فتغيرت لهجته وابتسم وكشف عن أسنانه البيضاء، وتناول يدا ليدا وجلس إلى جانبها على السرير وقال: «حسن حسن. إن الأمر غير مهم. وإنما كان قلقي وإشفاقي عليك، ولقد سرني أنك جئت فقد كنت مشتاقا لرؤيتك.»
ورفع سارودين يدها الحارة المعطرة إلى شفتيه وقبلها مما يلي القفاز فسألته: «أتقول حقا؟»
فأدهشته غرابة لهجتها، ثم نظرت إليه مرة أخرى وقالت له عيناها بأصرح ما تنطقان: «أصحيح أنك تحبني؟ إنك ترى مبلغ شقوتي الآن. وكيف أني لم أعد في شيء مما كنت. وإني لأخافك وأشعر بكل ما في حالتي من الذلة والمهانة ولكنه ليس لي معين سواك.»
فأجابها سارودين: «كيف يخامرك الشك في صدق ما أقول؟» ولكن صوته خلا من رنة الإخلاص بل لقد كان باردا جافيا.
وتناول يدها مرة أخرى ولثمها وأحس أنه عالق بشبكة عجيبة من الإحساسات والخواطر؛ منذ يومين فقط على هذه الوسادة بعينها كانت خصل شعرها متهدلة وهو يطوقها بذراعيه وشفاهما ملتقية في قبلة عن أحر عاطفة وأجمحها، وفي تلك اللحظة خيل إليه أن كل ما استمتع به من النساء الأخر قد تحقق، وأنه بلغ سؤاله من الإساءة إلى هذه المرأة التي جعلتها العاطفة درج يديه إساءة وحشية متعمدة - والآن ... شعر لها فجأة بالمقت. وود لو استطاع أن يدفعها عنه وأن لا يراها أو يسمع صوتها بعد ذلك. وبلغ من قوة هذه الرغبة وطغيانها أن الجلوس إلى جانبها صار مؤلما له. على أنه نازعه خوف مبهم منها فسلبه ذلك إرادته واضطره إلى البقاء بجانبها. وكان يدرك أتم إدراك أنه ليس ثم ما يربطه بها، وأنه ما نال منها شيئا إلا برضاها دون أن يعدها شيئا، فكأن كلا منهما قد أخذ كما أعطى، بيد أنه مع ذلك أحس كأنما لصق بمادة لزجة لم يقو على التخلص منها وتوقع أن تطالبه ليدا بشيء وأنه سيكون بين أمرين: أن يوافق ويقرها على ما تدعي أو أن يأتي عملا حقيرا دنيئا. وأحس أن كل قوة له مسترقة كأنما نزعت عظام رجليه وذراعيه، وكأنما صار لسانه الذي في فمه خرقة مبلولة. وأراد أن يصيح في وجهها وأن يفهمها صراحة أن ليس لها حق ما في مطالبته بشيء، ولكن قعد به عن ذلك الخوف والجبن، وندت إلى لسانه عبارة فارغة كان يعلم أنها لا محل لها على الإطلاق. «آه. المرأة. المرأة.»
فنظرت إليه ليدا مستفظعة وكأنما أضاء لذهنها بارق فأدركت في لحظة أنها فقدت كل شيء، وأن كل ما منحت من طهرها وشرفها إنما منحته رجلا ليس له وجود، وأن حياتها وصباها وطهرها وكبرها قد ألقت بها جميعا عند قدمي بهيم جبان نذل لم يشعر لها بالشكران على ما بذلت له بعد أن لوثها، فهمت أن تلطم كفا بكف وأن تسقط على الأرض يأسا وألما، غير أن الرغبة في الانتقام المنبعثة عن مرارة البغض حلت محل ذلك الشعور بسرعة البرق، فقالت وأسنانها مطبقة وعينها محدقة به: «ألا تعلم أنك غاية في الغباء والسخف؟»
فجاءت قحة هذه الألفاظ ونظرة الحقد التي لا تلائم ليدا اللينة السمحة، صدمة لسارودين تراجع لها ولم يكد يفهم مدلولها وحاول أن يمزح ويضيع أثرها بالفكاهة، وقال وهو مستغرب مغيظ: «أي ألفاظ هذه؟»
فردت ليدا بمرارة وخبطت كفا بكف: «لست في حالة تسمح لي بانتقاء الألفاظ.»
فقطب سارودين وسألها: «لماذا كل هذه السمات الحزينة؟»
واستهواه وهو لا يشعر جمال شكلها، فجعل ينظر إلى كتفيها الرقيقتين وذراعيها البديعتي التكوين، وأشعرته إيماءات اليأس والضعف الثقة بقوته، فكأنما هما في كفتي ميزان إذا شالت إحداهما رجحت الأخرى، ووجد سارودين لذة قاسية لعلمه أن هذه الفتاة التي كان يعدها أسمى منه قد صارت معذبة من أجله، وكان في العهد الأول من علاقتهما يخافها، فسره الآن أنها هوت إلى حضيض العار.
فلان لها وتناول في رفق يديها الضعيفتين وجذبها إليه وتنبهت مشاعره وصار نفسه سريعا وقال: «لا تراعي، سينصلح الأمر فما فيه شيء فظيع بعد كل ما يقال.»
فأجابته باحتقار: «أوتظن ذلك؟» وساعدها الاحتقار على أن تثوب إليها نفسها وقوتها فحدجته بنظرة غريبة العنف.
فقال سارودين وهو يحاول أن يضمها إليه ضمة يعلم أن لها سحرا: «نعم بلا شك أظن ذلك.»
غير أنها ظلت باردة جامدة، فقال بلهجة العاتب المترفق: «تعالي تعالي. ما بالك نافرة يا حبيبتي.»
فصاحت به ليدا وهي تدفعه عنها: «دعني! أقول لك دعني!»
فتألم سارودين وحز في نفسه أن عواطفه هاجت عبثا وحدث نفسه «إن المرأة هي الشيطان بعينه» وسألها وقد حرج صدره واحمر وجهه: «ما خطبك؟»
وكأنما أطاف سؤاله بذهنها ذكرى فسترت وجهها بكلتا يديها، وبكت بكاء الفلاحات الساذجات، وأعولت ووجهها مدفون في راحتيها وجسمها منحن وشعرها متهدل على محياها البليل المتهضم، فأسقط في يد سارودين ولم يسعه الابتسام. وإن كان على هذا خشي أن يسوأها ابتسامه، وحاول أن ينحي كفيها عن وجهها فقاومته مقاومة عنيدة وظلت تبكي.
فقال: «يا إلهي.» ونازعته نفسه أن يصيح بها وأن ينزع كفيها وأن يسبها ويشتمها وقال لها بخشونة: «لماذا تبكين؟ لقد أخطأت معي وهذا من سوء الحظ ولا حيلة الآن، فلماذا كل هذه الدموع اليوم؟ أمسكي بالله .»
وأمسك بإحدى يديها فاهتز رأسها يمنة ويسرة، فكفت عن البكاء بغتة ونحت كفيها عن وجهها المبلل بالدمع ورفعت عينها إليه كما يرفعها الطفل الخائف، وطاف بذهنها بمثل سرعة البرق أن في وسع من شاء أن يلطمها الآن، ولكن سارودين ألان من شدته، وقال بصوت المواسي: «اسمعي ياليدوتشكا، كفي عن البكاء، إنك ملومة مثلي، فلماذا تحدثين ضجة؟ لقد خسرت الكثير ولا شك، وإني لأعلم ذلك ولكنا نلنا حظا كبيرا أليس كذلك؟ ويجب علينا أن ننسى ...»
فانطلقت ليدا تبكي من جديد فصاح: «أوه، أمسكي عن هذا.»
ثم مشى إلى آخر الغرفة وجعل يشد شعر شاربيه بعنف وشفتاه ترجفان وصارت الغرفة ساكنة. وحط طائر على أغصان شجرة مما يلي النافذة. فاهتزت في رفق وحاول سارودين أن يكبح جماح غضبه فدنا من ليدا وطوق خصرها بذراعه، ولكنها أفلتت منه مسرعة وضربته بجمع يدها على ذقنه ضربة اصطكت لها أسنانه فصاح مغضبا: «إلى الشيطان بها!»
وآلمته الضربة وغاظه صوت أسنانه المصطكة أكثر مما ألم للطمة.
ولم تسمع ليدا قوله هذا، ولكنها أدركت بفطرتها أن موقف سارودين مضحك فانتهزت هذه الفرصة بكل ما أوتيت المرأة من قسوة وقالت تحاكيه: «أي ألفاظ هذه؟»
فأجابها مغيظا: «إن هذا يكفي لاستفزاز أي إنسان!»
ثم عاد فقال: «لو أني عرفت ما خطبك!»
فقالت ليدا بلهجة جارحة مرة: «أتريد أن تقول إنك ما زلت تجهل؟»
وصمتا برهة. وجعلت ليدا تنظر إليه شزرا ووجهها أحمر كالنار، فامتقع سارودين كأنما انسدل على وجهه نقاب أصفر، ثم صرخت به صرخة المتشنج حتى لأفزعها صوتها: «ما لك صامتا؟ لماذا لا تنطق؟ تكلم قل شيئا تعزيني به!»
أجاب: «أنا ...» وارتجفت شفته السفلى.
فصرخت مرة أخرى ودموع الحنق واليأس تكاد تخنقها: «نعم أنت، ولا أحد سواك!»
وسقط عنه كما سقط عنها نقاب الأدب والمجاملة وظهر الوحش الشارد الجامح في عيونهما كليهما.
وطافت برأس سارودين خواطر كالجرذان والفيران ... وخطر له أولا أن ينقدها مالا وأن يقنعها بالتخلص من الجنين، ورأى أن لا بد له من بت كل صلة بها ، وبذلك ينتهي الأمر، غير أنه لم يقل شيئا، وإن كان يرى أن هذه خير وسيلة وتمتم: «لم يخطر لي قط ...»
فصرخت ليدا كالمجنونة: «لم يخطر لك قط! لماذا لم يخطر لك؟ بأي حق لم تفكر؟»
فقال والألفاظ تتعثر: «ولكني يا ليدا لم أقل لك أبدا إني ...»
وخاف أن يتم ما يريد فأمسك، وفهمت ليدا مراده دون أن يصارحها به، فاسود وجهها ومسخه الاستقطاع واليأس وسقط ذراعاها إلى جانبيها وهوت إلى السرير، وقالت وكأنها تفكر بصوت عال: «ماذا أصنع؟ أأغرق نفسي؟»
أجاب: «لا! لا! لا تقولي هذا!»
فرمته ليدا بنظرة قاسية وقالت: «هل تدري يا فيكتور سرجيفتش؟ أني واثقة أن هذا لا يحزنك أبدا.» وكان في عينيها وعلى فمها الجميل المرتجف من الحزن والأسى ما جعل سارودين يدير وجهه عنها.
ثم وقفت وكانت تحسب في أول الأمر - ويعزيها حسبانها هذا - أنها ستجد فيه منقذا لها وعونا وأنها ستعيش معه أبدا، فالآن كفلها ما أهداه إليها من خيبة الأمل بالمقت والتقزز منه، وودت لو هزت له قبضة يدها وبصقت احتقارها في وجهه جزاء له على إذلالها وامتهانها، ولكنها شعرت أنها ستبكي قبل أن ينطلق لسانها بحرف، وصدتها بقية من الكبر هي كل ما بقى من ليدا الحزينة الجميلة، وقالت له وأسنانها مطبقة وفي لهجتها من الاحتقار العميق ما أدهشها كما أدهشته: «أيها الوحش؟»
وانطلقت كالسهم خارجة من الغرفة وعلق كمها برتاج الباب فتمزق، فاصطبغ وجه سارودين بالحمرة إلى جذور شعره. ولو أنها قالت «أيها الشقي» أو «أيها النذل» لاحتمل منها هذا في سكون، ولكن لفظة «الوحش» خشنة لا تتفق في رأيه مع شخصيته الساحرة، فأذهله ذلك واحمر حتى بياض عينيه فتلوى وهز كتفيه مضطربا وزر جاكتته ثم فك أزرارها وهو على أتم ما يكون اضطرابا.
ولكنه ما عتم أن استشعر الارتياح الناجم عن الإحساس بالتخلص، فقد قضي الأمر. على أنه غاظه أنه لن يظفر مرة أخرى بليدا وأنه خسر مثل هذه الرفيقة الجميلة المشتهاة، غير أنه نفى هذا الأسف بإيماءة احتقار . «إلى الشيطان بهن جميعا. إن في طوقي أن أنال ما أشاء ممن أشاء منهن.»
وسوى جاكتته وأشعل سيجارة وشفتاه لا تزالان ترتجفان ثم استعاد مألوف هيئته وكر إلى ضيوفه.
الفصل السابع عشر
لم يعد أحد من المقامرين - ما خلا مالينوسكي السكران - يلتذ اللعب. ولج بهم جميعا حب الاستطلاع والرغبة في معرفة السيدة التي جاءت إلى سارودين من عسى أن تكون، وأدرك بعضهم أنها ليدا وخالجتهم لذلك الغيرة وتصوروا جسمها الأبيض بين ذراعي سارودين.
وبعد برهة وقف سانين وقال: «لن ألعب أكثر مما لعبت. فإلى الملتقى.»
فسأله إيفانوف: «تمهل يا صديقي. إلى أين؟»
فأشار سانين إلى الباب الموصد وقال: «سأذهب لأرى ما يجري هنا!»
فقال إيفانوف: «لا تكن أحمق! اجلس واشرب كأسا!»
فأجابه سانين وهو يخرج: «إنك أنت الأحمق!»
ولما وصل سانين إلى منعطف تكثر فيه الأشواك الثابتة نفض المكان ليرى الموضع الذي تشرف عليه نافذة سارودين، ثم مشى بحذر بين الأشواك وتسلق الحائط، ولما بلغ قمته كاد ينسى لماذا صعد لفرط ما بهره جمال المنظر وهو يطل من مرقبه على النجائل والحديقة الفيحاء، والنسيم الرقيق يمسح أعضاءه الحارة القوية، ثم وثب عن الحائط إلى الناحية الأخرى بين الأشواك وجعل يدلك جسمه حيث شكته واجتاز الحديقة، وبلغ النافذة حين كانت ليدا تقول: «أتريد أن تقول إنك لا تزال تجهل؟»
فأدرك من غرابة لهجتها حقيقة الأمر، فاستند إلى الحائط وعينه إلى الحديقة وأرهف سمعه وأدركه العطف على أخته الحسناء التي لا تلائم جمالها لفظة «الحبلى» الخشنة. ووقع من نفسه الاختلاف بين هذه الأصوات الآدمية الصاخبة والسكينة الرائعة التي كانت تجلل الحديقة الزاهية.
وطارت فراشة بيضاء فوق الحشائش وقد أنعشتها الشمس فضحت لها فجعل سانين يرقبها بمثل اهتمامه بالإصغاء. ولما صاحت ليدا: «أيها الوحش!» ضحك سانين جذلا وعاد أدراجه في تثاقل وإبطاء غير مكترث لمن يراه أو لا يراه.
وعدت أمامه سحلية فلبث برهة يرصد حركاتها السريعة وهي تزحف بجسمها الصغير الأخضر بين الحشائش الطويلة.
الفصل الثامن عشر
لم تعد ليدا إلى البيت بل حثت خطاها في طريق ينأى بها عنه، وكانت الشوارع خالية والحر يأخذ بالمخنق والظلال متقلصة إلى الحائط والسياج بعد أن هزمتها الشمس الظافرة وردتها، ففتحت ليدا مظلتها بحكم العادة وقوتها، ولم تلتفت إلى الحر أو البرد ولا إلى النور ولا الظلمة، ولم تدر في أيها تسير، فمضت مسرعة وتجاوزت الأسيجة المعفرة المكسوة بالأكلاء ورأسها مثني وعينها إلى الأرض، ولم تصادف في طريقها إلا نفرا من الراجلين كان يخنقهم الحر، وفيما عدا ذلك كانت البلدة ساكنة كما تكون في القيلولة.
وكان قد تبعها جرو أبيض شم رداءها ثم انطلق يعدو أمامها يلتفت إليها ويبصبص لها بذنبه كأنما يريد أن يقول لها إنهما زميلان مترافقان. ورأت ليدا عند منعطف الشارع صبيا صغيرا بدينا مضحك الهيئة أطل قميصه من جاكتته عند كتفه وخداه طويلان ملوثان بعصير بعض الفاكهة ويداه تعملان بقوة في منفاخ خشبي.
فأومأت ليدا إلى الجرو وابتسمت للصبي غير معتمدة شيئا مما فعلت، فقد كانت روحها سجينا، وكانت تدفعها إلى الأمام قوة غامضة تفصل ما بينها وبين الدنيا، وتجوز بها ضوء الشمس والخضرة وكل ما في الحياة من مفارح ومتع وتسوقها إلى هاوية سحيقة مظلمة أشعرها الألم أنها منها قريبة.
ومر بها ضابط تعرفه على جواده فلما أبصرها وقف وسألها بصوت طروب: «ليدا بتروفنا! إلى أين في هذا القيظ»
فارتفعت عينها بلا عمد إلى قبعته المشدودة إلى جبينه الملوح الرطب ولم تتكلم، ولكنها منحته ابتسامة الدلال المألوفة وجعلت تردد سؤاله «إلى أين؟» وهي تجهل ما عسى أن يقع لها.
وزايلها غضبها على سارودين، ولم تكد تفهم لماذا قصدت إليه، فقد كان يخيل لها أن من المستحيل أن تحيا بدونه أو أن تحتمل حزنها وحدها. أما الآن فكأنما اختفى وغاب ولم يعد له وجود في حياتها ومات الماضي ولم يبق إلا ما يعنيها وحدها، وهذا ما يسعها أن تبت فيه دون أن ترجع في ذلك إلى أحد.
وكان ذهنها يفكر بسرعة المحموم، غير أن خواطرها كانت على هذا واضحة جلية ولكن أهول ما كان يهولها هو أن ليدا الجميلة المزهوة ستذهب وتخلف وراءها مخلوقا شقيا مضطهدا ملطخا ضعيف الحول. كلا! لا بد أن تبقى النفس المزهوة والوجه الجميل، وإذن لا بد لها أن تمضي إلى حيث لا تعلق بها الأوحال.
ولما تقرر هذا في ذهنها أحست كأنما أحاط بها فراغ وغابت الحياة والشمس والناس وصارت مستفردة بينهم كل الاستفراد، ألا لا مفر! لا معدى لها عن الموت! يجب أن تغرق نفسها. وما عتمت أن استولت عليها هذه النية واستغرقتها هالة الفكرة، فبدا لها كأن سورا من الحجر التف بها وحجبها عن كل ما كان وكل ما عسى أن يكون.
وقالت: «ما أبسط هذا في الحقيقة!» ودارت بعينها ولم تر شيئا ...
وصارت خطاها أسرع، ولولا سعة ثوبها لجرت فقد كانت تحس أن بطأها لا يطاق. «هنا بيت وها هنا آخر له نوافذ خضراء ثم هنالك الفضاء!»
والنهر والجسر ثم ما سيحدث ... فلم تتمثل لها صورة واضحة لهذا، فكأن ثم سحابة أو ضبابا يحجب كل شيء، غير أن هذه الحالة النفسية لم تدم إلا ريثما بلغت الجسر. ولما حنت على سور الجسر ترمق الماء المربد زايلتها ثقتها بنفسها وتملكها الخوف وإرادة الحياة، وعاودها إحساسها بكل شيء حي وسكت سمعها الأصوات وتناغي الأطيار، ورأت نور الشمس والأزاهير في الرياض والجرو الأبيض يتطلع إليها تطلع من يعدها سيدته بلا مراء، وكان مقعيا قبالتها يرفع لها كفه ويضرب الأرض بذيله.
فرنت إليه ليدا واشتاقت أن تضمه على ساعديها إلى ثدييها، واغرورقت عيناها وغلبها الأسى والأسف على حياتها الجميلة التي درست، فمالت إلى السور وهي تكاد تفقد رشدها واتكأت على حافته الملتهبة، فسقط لسرعة انحنائها أحد قفازيها في الماء، فجعلت ترقب في فزع صامت هوية الساكن إلى صفحة الماء واندياح الدوائر فيها، فرأت قفازها الأصفر يحلولك شيئا فشيئا ويملؤه الماء وينقلب كأنما لواه ألم النزع ثم يهوي إلى أغوار النهر الخضراء، فحددت ليدا نظرها لترى غوصه، ولكن النقطة الصفراء لم تزل تتضاءل حتى غابت، ولم تعد تأخذ عينها إلا صفحة الماء المصقولة.
وإنها لكذلك وإذا بصوت أنثى على كثب منها يسألها: «كيف حدث هذا أيتها السيدة؟»
ففزعت متراجعة ورأت فلاحة مفرطحة الأنف ترمقها مستطلعة بعين عطوف، ومع أن هذا العطف لم يكن المقصود به إلا القفاز المفقود، إلا أن ليدا شعرت كأنما هذه الفلاحة السمينة الطيبة القلب تعرف كل شيء وترثي لها، فهمت أن تقص عليها خبرها وأن ترفه بذلك عن قلبها، غير أنها نحت هذه الفكرة وطاردتها مستسخفة إياها واحمر وجهها وتمتمت: «لا شيء!» وهي تتطرح متراجعة عن الجسر. «هنا! مستحيل، لو أغرقت نفسي هنا لأنقذوني.»
وسارت مسافة أخرى على شاطئ النهر متوخية طريقا ممهدا إلى اليسار بين النهر والحقول وعلى جانبيه الأشواك والأزهار وأشجار الصفصاف منحية إلى النهر، وكان الشاطئ المنحدر مكسوا بالخضرة ومغمورا بنور الشمس والنباتات تترنح نواراتها اللزجة فوق الأكلاء والأشواك التي علقت بأهداب ليدا، ولمست وهي سائرة نباتا هائجا فانتثرت فوقها حباته البيضاء.
وكانت ليدا تدفع نفسها دفعا وتغالب القوة التي تحاول أن تثنيها وتقول وتكرر: «لا بد من ذلك! لا بد منه!» وهي تجر نفسها وكأن رجليها أنبت ما بينهما لما نأت عن الجسر ودنت من الموضع التي اعتزمت أن تنتهي إليه.
ولما بلغته ورأت الماء الأسود البارد في ظل الأغصان المتهدلة والتيار يندفع ويزخر عند زاوية ناتئة من الشاطئ أدركت لأول مرة كيف شوقها إلى الحياة وفزعها من الموت، ولكنه لم يكن لها مفر من الموت إذ كان البقاء مستحيلا. فرمت بقفازها الثاني ومظلتها دون أن تنظر حولها، وعاجت عن الطريق ومالت إلى النهر بين الحشائش ومر بذهنها في تلك الهنيهة ألف خاطر وتنبه إيمانها من أعمق أعماق روحها حيث ظل راقدا، فجعلت تردد هذه الصلاة: «رب انقذني! رب ساعدني.» وما أتمتها حتى ذكرت من حيث لا تحتسب قطعة من أنشودة كانت تدرسها في الأيام الأخيرة، فارتد ذهنها إلى سارودين ثم بدا لها وجه أمها وزاد حبها لها في تلك الآونة، فلم يثنها ذلك بل زاد عزمها مضاء فاندفعت تعدو إلى النهر، ولم تكن ليدا تدرك حتى الساعة أن أمها وسائر من يحبونها إنما يحبون منها ذلك الذي يودون أن تكونه لا ليدا على حقيقتها وبكل عيوبها ونقائصها وشهواتها. فالآن وقد حادت عن الطريق الذي لا يعدون غيره مستقيما فإن هؤلاء الوامقين وأمها على وجه أخص سيقسون عليها بقدر حبهم لها.
ثم اختلط كل شيء في نظرها اختلاط الحلم في مخيلة المحموم وتنازعها الخوف والشوق إلى الحياة، والإحساس بالقدر المحتوم والإنكار والاقتناع بأن الأمر قد قضي والأمل واليأس، والشعور المفزع بأنها ها هنا ستموت، ثم مثلت لعينها صورة رجل شبيه بأخيها يثب بين الأكلاء إليها. «لم يكن يسعك أن تفعلي أسخف من هذا!» هكذا قال سانين وهو يلهث.
ومن عجيب الاتفاق أن ليدا كانت قد انقلبت إلى نفس الموضع الذي أمكنت فيه سارودين منها لأول مرة، وهو موضع تحجبه الأشجار الضخمة عن ضوء القمر، فرآها سانين وفطن إلى ما عقدت عليه نيتها، فخطر له بادئ الرأي أن يدعها وشأنها، ولكن حركاتها العصبية المضطربة حركت عطفه فتخطى مقاعد الحديقة وحواجزها وأسرع إلى إنقاذها.
فكان لصوت أخيها تأثير مفزع في نفسها، فتداعت أعصابها بعد أن شدها الصراع الباطن ودارت بها الأرض، وصار كل شيء يسبح أمام عينيها، ولم تعد تدري أفي الماء هي أم على الشاطئ. وكان سانين قد أمسك بها ولما يكد، وتراجع عن الماء وقد سرته قوته ومهارته وقال: «هذا أنت!» وأجلسها إلى سياج الحديقة وأدار عينه فيما حوله وهو يقول لنفسه: «ماذا أصنع لها؟»
ثابت إلى ليدا روحها في هذه اللحظة وشرعت تبكي بكاء أليما وهي مصفرة مضطربة، وتقول وهي تعول كالطفل: «يا إلهي! يا إلهي!»
فقال سانين ناهرا في رفق: «سخافة مطبقة!»
ولم تسمعه ليدا ولكنها لما أخذ يتحرك تعلقت بذراعه وزاد عويلها ثم قالت لنفسها خائفة: «آه! ماذا أنا صانعة؟ لا ينبغي لي أن أبكي، يجب أن أضحك وإلا فطن إلى الأمر.» فسألها سانين وربت كتفها بحنان: «ما لك مضطربة؟» فرفعت إليه طرفها تحت القبعة وبها مثل حياء الطفل وكفت عن البكاء فقال سانين: «إنى أعرف كل شيء. القصة كلها. أعرفها من زمن مديد.»
وكانت ليدا تعلم أن أناسا كثيرين قد فطنوا إلى نوع علاقاتها مع سارودين، ولكنها أحست لما قال سانين هذا كأنما لطمها على وجهها، فتقبض جسمها اللين ونظرت إليه بعين فاض منها الدمع، فقال سانين وهو يضحك: «ماذا دهاك الآن؟ إنك تنظرين إلي كأني دست على قدميك.»
ثم أمسك بكتفيها المستديرتين المصقولتين فارتجفتا للمسته وردها في رفق إلى مجلسها الأول وهي مذعنة طائعة وقال: «تعالي! ماذا يحزنك؟ أهو أني أعلم كل شيء؟ أم تحسبين خطيئتك مع سارودين من الفظاعة بحيث تخافين أن تقري بها؟ الحق أني لا أفهمك يا ليدا، إذا كان سارودين لا يريد أن يتزوجك، حسن ... هذا شيء يجب أن تحمدي الله عليه. لقد عرفت الآن - ولا بد أنك كنت تعرفين من قبل - أي حقير دنيء هو على الرغم من قسامته ومن صلاحه لمواقف العشق، إذ كل ما له هو الوسامة، وأحسبك الآن أصبت منها كفايتك.»
فقالت ولسانها يتعثر: «لقد أصاب هو كفايته مني ... لا أنا منه! آه! ربما كنت قد أصبت كفايتي! آه! يا إلهي ماذا أصنع؟»
فقال سانين: «والآن أنت حبلى ...»
فأغمضت ليدا عينيها وأطرقت. فمضى سانين في كلامه مترفقا: «لا شك أن هذا أمر سيئ، فالوضع - أولا- عمل ثقيل مؤلم والناس - ثانيا وهو المهم - قد يضطهدونك. على أنك يا ليدوتشكا لم تسيئي إلى أحد، ولو أنك جئت إلى هذه الدنيا بعشرة أطفال لما أضر هذا بأحد سواك.»
وأمسك سانين ليفكر وطوى ذراعيه على صدره وجعل يعض أطراف شاربه وقال: «وفي وسعي أن أشير عليك بما ينبغي لك أن تصنعي ولكنك أضعف وأسخف من أن تعملي برأيي. إنك أجبن من ذلك! ومهما يكن من الأمر فالمسألة لا تستحق أن تنتحري من جرائها. انظري إلى الشمس المشرقة وإلى النهر المنحدر الساكن، واذكري أنك إذا مت عرف كل إنسان ماذا أماتك، فأي خير لك في هذا؟ إنك لا تريدين الموت من أجل أنك حبلى، بل من أجل أنك تخافين ما سيقوله الناس. فشر ما في مصيبتك ليس في المصيبة نفسها بل في أنك تضعينها بينك وبين حياتك التي ترين أنها يجب أن تنتهي. ولكن هذا في الحقيقة لن يغير من الحياة شيئا. إنك لا تخافين البعداء بل القريبين منك، ولا سيما من يحبونك ويعدون بذلك نفسك إحدى الكبر، لأن البذل كان في غابة أو مرج لا في سرير شرعي. وهؤلاء لن يتلكئوا في عقابك على زلتك، فأي خير في هؤلاء لك؟ إنهم قوم أغبياء غلاظ القلوب فارغو الرءوس. ولماذا تموتين من أجل قوم أغبياء غلاظ القلوب فارغي الرءوس؟»
فسألته بصوت أجش: «ولكن ماذا ينبغي أن أصنع؟ خبرني ماذا ... ماذا؟»
فقال سانين: «أمامك طريقان: أن تتخلصي من هذا الطفل الذي لا يريده أحد والذي لا يفيدك ميلاده إلا المتاعب كما لا بد أن تعرفي.»
فأعربت عينا ليدا عن الاستفظاع، وعاد سانين إلى الكلام فقال: «من الظلم الشديد أن يقتل المرء مخلوقا يقدر لذة الحياة ويعرف هول الموت. ولكن جرثومة ... كتلة جامدة من اللحم والدم ...»
فوجدت ليدا إحساسا عجيبا وشعرت في أول الأمر بالعار حتى لكأنها نضت عنها ثيابها جميعا وراحت أصابع وحشية تجسها وتلمسها. ولم تجرؤ أن تنظر إلى أخيها وخشيت أن يميتهما العار كليهما. ولكن عيني سانين الزرقاوين كانتا ساكنتين وكان صوته متزنا هادئا كأنما يحدثهما عن أمور مألوفة، وهذه القوة الهادئة وعمق الصواب هما اللذان أزالا خجل ليدا وخوفها، غير أنها ما لبثت أن غلبها اليأس، فأمسكت بجبينها وجعلت أطراف ثوبها الرقيق تخفق كجناحي الطائر الفزع وقالت: «لا أستطيع كلا. لا أستطيع! أحسبك مصيبا ولكن لا أستطيع! إن هذا فظيع!»
فقال سانين وهو يركع وينحي كفيها في رفق عن وجهها: «حسن حسن، إذا لم تستطيعي هذا فلا بد لنا أن نحتال على إخفائه على نحو ما، وسأرى لي رأيا في حمل سارودين على الخروج من البلدة: وأنت - حسن - ستتزوجين نوفيكوف وتسعدين. إني أعرف أنك كنت حقيقة أن تقبلي نوفيكوف لولا أن لاقيت هذا الضابط اللهج! إني على يقين من هذا.»
فلما ذكر اسم نوفيكوف بدا لليدا النور في الظلمة، وخيل إليها لحظة أن من السهل إصلاح ما فسد لأن سارودين أشقاها، وهي مقتنعة أن نوفيكوف لم يكن ليصنع بها ما صنع ذاك. ولم يبق عليها إلا أن تنهض لتوها وأن تعود وأن تقول كلمة أو اثنتين لتعود الحياة وضيئة الجمال. وستحيا مرة أخرى وتحب ثانية.
ولكن حياتها في هذه المرة ستكون خيرا وحبها أعمق وأطهر، بيد أن هذا الحلم لم يطل، فذكرت أن هذا مستحيل، وأن الحب السخيف الحقير قد لوثها وهوى بها.
وخطرت ببالها كلمة خشنة لم تكن تدري أنها تعرفها ولم تنطق بها قط، فنعتت بها نفسها فكأنما لكمها لا كم على أذنيها وصاحت: «ويحي. هل صرت حقا ...؟ نعم نعم لا شك.»
ثم تمتمت وقد أخجلها رنين صوتها: «ماذا قلت؟»
فسألها سانين: «حسن علام عولت؟»
ونظر إلى شعرها الجميل المتهدل على جيدها الناصع المتألق في ضوء الشمس النافذ إليه من خلل الأوراق، وتملكه الخوف من أن يعجز عن إقناعها، وأشفق أن تغيب في فراغ الموت المظلم هذه المرأة الجميلة التي خلقت لتنشر السرور والغبطة، وكانت ليدا صامتة تعالج أن تصرع رغبتها في الحياة، وكانت هذه الرغبة قد طغت بها على رغم إرادتها واستولت على كيانها المرتعد. وحسبت أن من العار بعد الذي جرى لا أن تعيش فقط بل أن ترغب في الحياة. غير أن جسمها القوي المملوء حيوية رفض هذه الفكرة الممسوخة كأنها السم الزعاف.
وسألها سانين: «ما لك صامتة!»
قالت: «لأن هذا مستحيل. إنه يكون دناءة! إني ...»
فقال سانين وقد نفد صبره: «لا تنطقي بهذه السخافة!»
فرفعت ليدا طرفها إليه مرة أخرى وفي عينيها المغرورقتين بارقة أمل، وكسر سانين غصنا صغيرا عضه ثم ألقى به وقال: «دناءة! ألفاظي تذهلك. ولكن لماذا؟ إن المسألة لا يسعني لا أنا ولا أنت أن نجيب عنها جوابا صحيحا. جريمة؟ ما هي الجريمة؟ إذا تعرضت حياة الأم للخطر وهي تضع طفلا وأميت هذا الطفل الحي لتنجو أمه لم يعد الناس هذا العمل جريمة بل ضرورة منحوسة! فإما أن نقضي على شيء لم يوجد بعد فهذا جرم شنيع! نعم جرم شنيع حتى ولو كانت حياة الأم بل سعادتها وهي أكبر من حياتها رهن بذلك! لماذا يكون هذا هكذا؟ لا يدري أحد! ولكن كل امرئ يذهب إلى هذا ويصيح: مرحى! - وضحك سانين ساخرا - ويحكم معاشر الرجال يخلقون لأنفسهم خيالات وأشباحا وأوهاما هم أول من يروح فريستها. على أنهم يقولون إن الإنسان أشرف الكائنات وأعلاها وأنه تاج الخليقة وملكها وأراه ملكا لم يحكم قط، ملكا معذبا يفزعه ظله!»
وأمسك سانين هنية ثم عاد يتكلم: «على أن هذا ليس بسبيلنا الساعة. تقولين إن هذا يكون عملا دنيئا. لا أدري لعل الأمر كما تقولين. وأحسب أن لو سمع نوفيكوف بما أنت فيه لأمضه جدا وأحزنه، وربما قتل نفسه، على أنه مع ذلك سيحبك كما أحبك من قبل. ولئن قتل نفسه ليكونن هو الملوم. أما إذا كان لبيبا ذكيا فأخلق به أن لا يكترث لكونك (معذرة من هذه العبارات) ضاجعت سواه، فإن جسمك لم يفقد شيئا بذلك - لا ولا روحك. ويا عجبا له! أما يمكن أن يتزوج أرملة مثلا؟ إذن فليس هذا بالذي يمنعه أن يتزوجك وإنما تمنعه - إذا منعته - آراؤه المشوشة المختلطة التي حشى بها رأسه، وأما أنت يا ليدا فلو أنه كان ممكنا أن لا يحب الآدمي إلا مرة في حياته كلها لكانت معاودة الحب عبثا لا يسر ولكن هذا ليس هكذا. والحب متعة مشتهاة دائما وستألفين نوفيكوف وتحبينه، فإذا لم تفعلي رحلنا معا يا ليدوتشكا، إن المرء يستطيع أن يعيش حيثما اتفق أليس كذلك؟»
فتنهدت ليدا وحاولت أن تغلب ترددها وتمتمت: «ربما ... صلحت الأمور ... ونوفيكوف ... طيب رقيق القلب. وجميل أيضا أليس كذلك؟ نعم ... لا، لا أدري ماذا أقول.»
فقال سانين: «ولو كنت أغرقت نفسك ... ماذا إذن؟ إن قوى الخير والشر ما كانت لتكسب أو تخسر بذلك، وكل ما كان يحدث هو أن جثتك المشوهة الممسوخة الملطخة بالأوحال كانت تطفو وتجر إلى الأرض وتدفن. هذا كل ما كان يحدث.»
فتصورت ليدا الماء المربد والأوحال والأعشاب والفقاقيع سابحة حولها وقالت واصفرت: كلا. كلا. أبدا. أهون من ذلك أن أحتمل كل عار ... ونوفيكوف ... كل شيء ... «أي شيء سوى هذا»
فقال سانين ضاحكا: «انظري كيف تفزعين.»
فابتسمت ليدا بين دموعها وعزتها ابتسامتها وقالت بقوة: «مهما يكن ما يحدث فإني مصممة على الحياة.»
فصاح سانين ووثب: «حسن، إنه ليس أفظع من فكرة الموت، وما دام المرء يستطيع أن يحتمل العبء وأن لا يفقد إحساسه بمناظر الحياة وأصواتها فليحيا. ألست على صواب؟ والآن ناوليني يدك.»
فمدت إليه ليدا يدها شاكرة.
وقال سانين: «هذا حسن ... ما أحلى يدك وأجملها.» فابتسمت ليدا ولم تقل شيئا.
ولم يذهب كلام سانين سدى، فقد كانت ليدا قوية الحيوية زخارتها، وكانت الأزمة التي مرت بها قد وترت أعصابها إلى أقصى حد، فلو زاد الضغط لتمزقت، ولكن الضغط لم يزد وعاد كيانها يتجاوب بالرغبة في الحياة زاخرة قوية. فنظرت فوقها وحولها وهي ثملة وأحست السرور تنبض به كل جارحة، وكل شيء أحسته في ضوء الشمس وفي المروج الخضراء وفي النهر المؤتلق وفي وجه أخيها الساكن المبتسم وفي نفسها فكأنما كانت ترى ذلك وتسمعه لأول مرة، وصاح بها صوت طروب من أعماق صدرها: «الحياة. الحياة».
وقال سانين: «حسن، سأكون عونك في متاعبك وظهيرك وساعدك في معاركك، والآن لما كنت فتانة الجمال فهاتي قبلة.»
فابتسمت ليدا ابتسامة عرائس الغاب ولف سانين ذراعيه حول خصرها وضمها، فاهتز جسمها الحار اللين للمسته وهمرها وعانقها عناقا حارا وشاع في نفسها السرور وحنت إلى الحياة الرحيبة القوية، ولم تك تكترث لما تصنع فطوقت عنق أخيها بكلتا ذراعيها في بطء وزمت شفتيها لتتلقى قبلته وعيناها مفتوحتان كمغمضتين.
وأحست سعادة لا تدانيها سعادة بين ذراعي سانين ونسيت في هذه اللحظة من يقبلها أهو أخوها أو أجنبي منها، مثل الزهر تدفئها الشمس ولا تسأل من أين كل هذه الحرارة.
ثم قالت مغتبطة: «ماذا جرى آه! نعم! لقد أردت أن أغرق نفسي ... ما أحمقني ولماذا؟ أوه، إن هذا جميل! هات أخرى وأخرى والآن سأقبلك أنا؛ ما أحلى هذا! ولن أكترث لما يحدث ما دمت أحيا.»
فقال سانين وأطلقها: «هذا أنت فانظري إن كل شيء حسن في الدنيا حسن، ولا ينبغي لنا أن نحيله قبيحا ونمسخه.»
فابتسمت ليدا ابتسامة المفكر ورتبت شعرها وسوته وناولها سانين المظلة والقفاز فأدهشها في أول الأمر أن قفازها الثاني لا وجود له، ولكنها لم تلبث أن ذكرت السبب وأضحكها اهتمامها العظيم بذلك الحادث لما وقع وقالت: «حسن حسن، لقد مضى هذا وانقضى.»
وسارت مع أخيها على شاطئ النهر وأرسلت الشمس أشعتها القوية على صدرها الناضج المكتنز.
الفصل التاسع عشر
لما فتح نوفيكوف الباب بيده لسانين لم تكن لمحته تدل على الارتياح إلى هذه الزيارة لأن كل ما يذكره ليدا وحلمه المنتسخ كان يحرك آلامه.
ولاحظ سانين هذا ودخل الغرفة يبتسم، وكان كل ما فيها مبعثر على غير نظام كأنما ثارت به زوبعة، وكانت الأرض مغطاة بالأوراق والقش وغير ذلك، والسرير والكراسي عليها الكتب والثياب وأدوات الجراحة وحقيبة.
فسأله سانين مستغربا: «أمسافر أنت؟ وإلى أين؟» فتحاشى نوفيكوف نظرة سانين ومضى في جمع أشيائه وهو مرتبك مغيظ لارتباكه ثم قال أخيرا: «نعم لا بد لى من مغادرة هذا المكان. فقد أمرت بذلك رسميا.»
فنظر إليه سانين ثم إلى الحقيبة. وبعد نظرة أخرى انبسطت أسارير وجهه عن ابتسامة، وكان نوفيكوف صامتا يجثم على صدره إحساسه بالوحدة وحزنه العميق وشرع - وهو غارق في خواطره - يلف حذاءين مع بعض الأنابيب الزجاجية. فقال سانين: «إذا كنت تحزم أمتعتك على هذه الطريقة فستصل إلى حيث تقصد بدون الأنابيب أو بدون الحذاءين.»
فأرسلت عين نوفيكوف المغروقة ردها وقالت: «آه! دعني أما ترى كيف حزني وألمي؟»
ففهم سانين هذا الرد الصامت وسكت: وكان الأصيل قد جاء وصارت السماء صافية كالبلور ثم قال سانين: «أظن أن الأرشد لك والأولى بك بدلا أن تذهب إلى حيث لا يدري - إلا الشيطان - أن تتزوج ليدا.»
فاستدار نوفيكوف وهو يرجف وقال: «لا يسعني إلا أن أطلب إليك أن تكف عن هذا المزاح السخيف.»
قال ذلك بصوت عال شديد فرن صداه وتجاوبت به الحديقة الحالمة فسأله سانين: «لماذا هذا الغضب؟»
فأجاب نوفيكوف بصوت مخنوق: «اسمع؟»
وكان في عينه وعلى وجهه من الغضب ما جعل سانين ينكره ولا يعرفه على أنه مع ذلك سأله ضاحكا: «أتريد أن تقول إنه لا يكون من حسن حظك أن تتزوج ليدا؟»
فصاح به نوفيكوف: «اخرس»
وتطرح إليه وفي يده حذاء قديم يلوح به فوق رأس سانين، فقال سانين بعنف وهو يتراجع: «تمهل! لا تغضب أمجنون أنت؟»
فرمى نوفيكوف الحذاء ساخطا وأسرعت أنفاسه وعاد سانين يتكلم فقال: «لقد هممت فعلا بهذا الحذاء أن ...»
وأمسك وهز رأسه ورثى لصديقه وإن كان قد استخف سلوكه هذا فقال نوفيكوف وهو مرتبك: «إن هذا خطؤك.»
ثم شاعت في نفسه الثقة بسانين والاطمئنان إلى قوته وسكونه، وكان هو كالتلميذ الصغير يود لو قال بشجوة الحال موافق وجال الدمع في عينه وقال وهو يغالب عواطفه: «لو أنك عرفت كيف ينفطر قلبي؟ ...» فقال سانين بعطف: «يا صديقي العزيز إني أعرف كل شيء.» فأجابه نوفيكوف وجلس إلى جانبه: «كلا، إنك لا تستطيع أن تعرف كل شيء.»
وأحس أنه ما من أحد به مثل حزنه وكمده فقال سانين: «نعم نعم أعرف. وأقسم على ذلك. وإذا وعدت أن لا تحمل علي مرة أخرى بحذائك القديم هذا أثبت لك ما أقول. فهل تعدني؟» أجاب: «نعم سامحني يا فولودكا!»
وسمى سانين أول أسمائه وهو ما لم يفعله من قبل، فتأثر سانين وزادت رغبته في مساعدة صديقه فقال ووضع يده على ركبة نوفيكوف: «إذن فاسمع ولنكن صريحين. إنك مسافر لأن ليدا رفضت أن تتزوجك ولأنك لما كنا عند سارودين ظننت أنها هي التي جاءت إليه سرا.»
فأطرق نوفيكوف ولم يسعه الكلام لفرط حزنه وكأنما نكأ سانين جرحا رجيعا ولاحظ سانين اضطراب صاحبه فقال لنفسه: «يا لك من أبله طيب القلب.» ثم استأنف الكلام: «أما من حيث العلاقات بين ليدا وسارودين فلا أستطيع أن أجزم بشيء لأني لا أعرف شيئا ولكني لا أعتقد ...»
ولم يتم الجملة لما رآه من اسوداد وجه صاحبه ثم عاد فقال: «إن علاقتهما من حداثة العهد بحيث لا يمكن أن يكون قد حدث شيء خطير لا سيما إذا اعتبرنا أخلاق ليدا. وأنت بالضرورة تعرف كيف أخلاق ليدا.»
فمثلت لعين نوفيكوف صورة ليدا كما عرفها وأحبها - ليدا المزهوة العالية الروح المؤتلقة العين وعليها من الجمال الناضج إكليل وضيء - فأغمض عينيه واستراح إلى كلام سانين الذي عاد فقال: «وهبهما تعابثا قليلا فقد مضى هذا وانقضى الآن، وعلى أنه ماذا يهمك إذا كانت فتاة شابة مجنحة الخيال مثل ليدا قد تسلت قليلا؟ أحسبك بلا جهد كبير تستطيع أن تذكر على الأقل اثنتي عشرة حادثة خلعت فيها العذار وفعلت ما هو أخطر من هذا.»
فنظر نوفيكوف إلى سانين نظرة الواثق وخاف أن يتكلم لئلا تخبو بارقة الأمل الوانية الباقية ثم تمتم: «إنك تعرف أني إذن ...»، ووقف وخانته الألفاظ وخنقته العبرات فسأله سانين بصوت عال والتمعت عينه: «إذن ماذا؟ إني أستطيع أن أقول لك هذا. وهو أنه ليس بين ليدا وسارودين ولم يكن بينهما شيء.»
فنظر نوفيكوف إليه مذهولا وشرع يتكلم: «أنا. لقد ظننت ...» وأحس أنه لا يسعه أن يصدق سانين. فقال سانين بحدة: «لقد ظننت سخافات كثيرة! وكان ينبغي أن تكون أعرف بليدا. أي حب هذا مع كل ذلك التردد؟»
فطار نوفيكوف فرحا ودفع يده إلى سانين. ولكن وجه سانين تصلب وهو يرصد تأثير كلماته في نفس صديقه.
وبدا على نوفيكوف السرور الواضح والارتياح البين إلى كون المرأة التي يشتهيها نقية طاهرة ونطقت عيناه الحزينتان الصريحتان بالغيرة الحيوانية، فنهض سانين وقال بصوت مهدد: «أوهو. إذن فإني أقول لك: إن ليدا لم تجب سارودين فقط بل كانت لها به علاقات غير شرعية وهي الآن حبلى.»
فسكنت الغرفة سكون الموت وابتسم نوفيكوف ابتسامة مريضة غريبة وفرك كفيه وخرجت من شفتيه المرتجفتين صرخة ضعيفة. ودل تقبض ركني فمه على الغضب المكتوم فسأله سانين : «لماذا لا تتكلم؟»
فرفع نوفيكوف يمينه ولكنه جانب عين صاحبه وكان وجهه لا يزال تشوهه هذه الابتسامة. فقال سانين بصوت منخفض كمن يحدث نفسه: «لقد عانت ليدا تجربة هائلة. ولولا أني أدركتها مصادفة لما كانت الساعة حية. ولعادت الفتاة الجميلة القوية جثة ممسوخة غارقة بين أوحال النهر تأكل منها الحشرات. وليس المهم مسألة موتها فإننا جميعا سنموت يوما ما، ولكن ما أوجع أن يفكر المرء في الغبطة والوضاءة التي تمنحهما شخصيتها للغير يذهبان بذهابها. نعم إن ليدا ليست منقطعة النظير في الدنيا، ولكن ويحنا لو خلت الدنيا من مثل هذا الجمال لعادت مظلمة كالقبر. أما أنا فإني مستعد أن أرتكب جريمة القتل إذا رأيت فتاة مسكينة تتقوض حياتها بهذه الطريقة السخيفة. وليس يعنيني على الإطلاق أن تتزوج ليدا أو أن تذهب إلى الشيطان، ولكنه لا يسعني إلا أن أقول لك إنك مغفل أبله! ولو أنه كانت في رأسك فكرة صحيحة واحدة أكنت تعني نفسك وسواك من أجل أن امرأة حرة في الاختيار قد أحبت رجلا ليس بأهل لها وأطاعت غريزتها الجنسية واستوفت تمام نضوجها؟ ولست - فاعلم - بالأبله الوحيد. فإن في الدنيا ملايين مثلك يحيلون الحياة سجنا مزويا عن ضوء الشمس وحرارتها! وكم من مرة أطلقت فيها العنان لشهوتك برفقة مومس تشاطرك فسوقك؟ وأما ليدا فما دفعها إلا العاطفة وإلا شعور الشباب والقوة والجمال. فبأي حق تنفر منها أنت يا من تدعو نفسك رجلا رشيدا ذكيا؟ ما شأنك بماضيها؟ أهي أقل جمالا؟ أم أقل صلاحا لأن تحب وأن تحب؟ أم المسألة أنك كنت تريد أن تكون أول من ينالها؟ تكلم!»
فقال نوفيكوف وشفتاه ترتجفان: «إنك تعلم حق العلم أن هذا ليس كذلك.»
فصاح سانين: «نعم هو كذلك، وإلا فما السبب من فضلك؟»
فصمت نوفيكوف واسود كل شيء في نفسه، ولكن خاطر العفو والتضحية طاف برأسه كما يومض شعاع النور في الظلمة.
وكان سانين يرقبه وكأنما قرأ ما يدور في ذهنه فقال بصوت مضبوط متزن: «أراك تفكر في التضحية بنفسك من أجلها . وكأني أسمعك تقول لنفسك «سأهبط إلى دركها وأحميها من الرعاع.» هذا ما تقوله الآن لنفسك الفاضلة فيضخم شأنك في عينيك كما تضخم الدودة تغتذي بالجثة. ولكن هذا كله زور. وليس هو إلا أكذوبة؟ إنك لست مطيقا لتضحية الذات. ولو أن ليدا مثلا شوهها الجدري لكان من المحتمل أن تستطيع أن ترفع نفسك إلى مستوى هذه البطولة، ولكنك كنت خليقا بعد يومين اثنين أن تسقي حياتها العلقم وأن تنبذها أو تهملها أو تمطرها التأنيب كل ساعة. أما الآن فإنك تقف من نفسك موقف العبادة. نعم لقد استحال وجهك وصار من يراك خليقا أن يقول «انظروا! هذا قديس.» ولكنك لم تفقد شيئا كنت تبغيه. إن أعضاء ليدا ما زالت كما كانت ولم تزايلها قوة العاطفة ولا أصابها جزر في حيويتها البديعة. ولكن من المرغوب فيه جدا أن يروح المرء يستمتع ويقطف أزاهير اللذات، وهو يوهم نفسه أنه إنما يأتي عملا شريفا!!»
فلما سمع نوفيكوف هذا الكلام فارقه عطفه على نفسه واستولى على روحه شعور أنبل وأشرف فقال معاتبا: «إنك تجعلني أسوأ مما أنا في الواقع، ليس ينقصني الشعور كما تظن. وما أنكر أن لي آراء معينة وأن بي بعض التحرج، ولكني أحب ليدا بتروفنا، ولو أني على يقين من أنها تحبني أكنت تظن أن يطول بي التردد من أجل أن ...»
وخانه صوته. وهدأ سانين فجأة واجتاز الغرفة ووقف أمام النافذة المفتوحة غارقا في بحر من الفكر وقال: «إنها في هذه الساعة حزينة جدا لا يسعها أن تفكر في الحب. وكيف أعرف هل تحبك أم لا تحبك؟ ولكن يخيل لي أنك إذا ذهبت إليها وكنت بذهابك ثاني رجل لم يضطهدها من أجل حبها القصير ... على كل حال لا أستطيع أن أعلم ماذا عسى أن تقول!»
وكان نوفيكوف جالسا كأنه يحلم وأشعره الحزن والسرور نوعا من السعادة لطيفا كالضوء في السماء مساء.
وقال سانين: «لنذهب إليها. ومهما يكن ما يحدث فإنه سيسرها أن ترى وجه إنسان وسط هذه الوحوش المسيخة المنتقبة. إن بك يا صديقي بعض الغباء ولكن في غبائك شيئا ينقص سواك. تالله ما أغرب أن الدنيا كانت وما تزال تبني آمالها وسعادتها على مثل هذا الغباء! تعال نذهب.»
فابتسم نوفيكوف وقال: «إني على أتم استعداد للذهاب إليها، ولكن أتهتم بأن تراني؟»
فقال سانين ووضع يده على كتفي نوفيكوف: «لا تفكر في هذا. إذا كنت تريد أن تفعل خيرا أو صوابا فافعله ودع المستقبل يعنى بنفسه.»
فقال نوفيكوف بلهجة البت: «حسن فلنذهب.»
ولما صارا في حرم الباب وقف وقال بلهجة التأكيد وعينه محملقة في وجه سانين: «اسمع سأبذل أقصى وسعي لإسعادها. وقد يبدو لك هذا الكلام مبتذلا ولكني لا أعرف كيف أعرب عما في نفسي بما هو خير من هذا.»
فأجابه سانين بلهجة الودود: «لا يكربك هذا يا صديقي، فإني فاهم ما تريد.»
الفصل العشرون
كان الصيف وهاجا. والليل يسجو إذا طلع القمر المنير ويعود الجو مثقلا بشذى الرياض والحقول فتأنس النفوس وتجد الروح والغبطة.
وكان الناس يكدحون نهارهم أو يشتغلون بالسياسة أو بالفنون وبالأكل والشراب والاستحمام والحديث، حتى إذا فتر الحر وخفت وقدته وسكنت الضوضاء، وأخذ قرص القمر يطلع في الأفق ويطل على المروج والحقول ويريق على سطوح المنازل والحدائق ضوءه البارد خلصت أنفاس الناس واستأنفوا الحياة كأنما نفضوا عنهم ثوبا ثقيلا، وصارت الحياة في حيث تكون للشباب الغلبة أوسع وأكثر حرية، فتتجاوب الحدائق بأصوات البلابل وتعمق الظلال وتعود العيون أشد تلماعا والأصوات أعذب رقة ويبيت الجو مشربا أنفاس الحب وطيبه.
وكان يوري وشافروف عظيمي الاهتمام بالسياسة، وكانت قد تألفت جماعة التهذيب، فطالع يوري كل الكتب الحديثة، وراح يعتقد أنه وفق إلى العمل الصالح له. واهتدى إلى وسيلة يمحو بها كل شكوكه. ولكنه لم يكن يجد الحياة إلا عقيمة جافة لا فتنة فيها على كثرة ما كان يقرأ وعلى الرغم من مشاغله جميعها، ولم تكن الحياة تعود مشتهاة إلا حين كانت الصحة والعافية يضفوان عليه، وإلا حين ينبه حواسه الحب، وكانت كل الفتيات سواء في نظره من قبل فانتقى واحدة منهن رآها جمعت مفاتن أترابها واستبدت دونهن بحسنها ورونقها.
وكانت طويلة القامة بارعة التكوين يعتدل رأسها الجميل على كتفيها المصقولتين الناصعتين حديثها تغريد وغناؤها سحر. ولها في الشعر والموسيقى باع تستطيلها وتزهى بها، ولكن حيويتها الدافقة لم يكن لها مظهر أقوى ولا صورة أتم من جهدها الجثماني، فكان يلج بها الحنين إلى شيء تضمه إلى صدرها، وإلى أن تضرب الأرض بقدمها، وأن تضحك وتغني وأن تتأمل ذوي الوجوه الصبيحة من الشبان، وكانت ربما اشتاقت - في وقدة الظهيرة أو في الليلة القمراء - أن تخلع كل ما عليها من ثياب وأن تعدو على الحشائش وتقذف بنفسها في النهر بحثا عمن تحن إلى اجتذابه واستهوائه إليها بأعذب نغمة، وكان محضرها يحرك نفس يوري فيعود أفصح لسانا وأسرع نبضا وأحضر خاطرا. وكان نهاره يفكر فيها ويحلم بها حتى إذا جاء الليل راح يبغيها، وإن أبى أن يقر بذلك لنفسه. ولا ينفك يحلل إحساساته فتذوي على التعاقب كالنورة في الصقيع. وكلما سأل نفسه ماذا يجذبه إلى سينا كرسافينا أجاب: «إنها الغريزة الجنسية لا شيء سواها.» فيثير هذا التعليق أعمق الاحتقار لنفسه. على أنه كان بينهما تفاهم ضمني فكأنهما مرآتان تنعكس في صقال كل منهم عواطف الآخر.
ولم تكن سينا تعنى بأن تحلل خوالجها بل كانت تستلذها وإن أقلقتها، وكانت تكتمها ولا تبيحها أحدا، وكربها أنها لم تستطع أن تعلم ما ينطوي عليه لها صاحبها، وكانت ربما خيل إليها أنه ليس بينهما شيء فتأسى لذلك كأنما افتقدت ثمينا، على أنها لم تكن تكره أن تكون موضع احتفال غيره من الرجال وأكسبها اعتقادها أن يوري يحبها دالة جعلتها أفتن لسواه من المعجبين بها. وكان يسحرها وجود سانين كل السحر ويسبيها منه كتفاه العريضتان وعيناه الساكنتان وشمائله الهادئة المستقرة. ولما تنبهت إلى عمق ما يتركه سانين من الوقع في نفسها اتهمت بضعف الإرادة إن لم يكن بالخفة وقلة الحشمة. ولكنها على هذا ظلت تمنحه أعظم الالتفات والرعاية.
وفي نفس الليلة التي كانت فيها ليدا تجوز ذلك الامتحان القاسي التقت سينا ويوري في المكتبة فاقتصرا على تبادل التحية وانصرف كل منهما إلى شأنه، ومضت هي تنتقي الكتب واشتغل هو بمطالعة الصحف الواردة مع البريد الأخير من بطرسبرج. على أنه اتفق أن زايلا المكان في وقت واحد فترافقا في الطريق واجتازا معا الشوارع الموحشة في ضوء القمر، وكان كل شيء ساكنا سكون القبر ولم يكن الساري يسمع إلا صوت الحراس من حين إلى حين وإلا نباح الكلاب عن بعد.
ولما بلغا الميدان رأيا نفرا جلوسا يضحكون تحت الأشجار واستطاعا في ضوء سيجارة تشعل أن يلمحا شاربا جميلا، وورد على سمعهما صوت يغني «إن قلب الحسناء قلب كالريح» ولما اقتربا من بيت سينا جلسا على مقعد وكان الظلام طاغيا وأمامهما الشارع العريض يضيئه القمر، والكنسية على قمتها صليب ملتمع كالنجم باديا من فوق قمم الصفصاف.
فقالت سينا وأشارت إلى الكنيسة: «انظر! ما أجمل هذا!»
فنظر يوري إلى كتفها البيضاء الحاسرة نظرة الإعجاب واشتاق أن يضمها بين ذراعيه وأن يقبل شفتيها الحمراوين الناضجتين، وكأنما لم يكن له بد من ذلك، وكأنما كانت هي تتوقع ذلك وتشتهيه، ولكنه ترك الفرصة السانحة تمر وجعل يضحك من نفسه ساخرا في رفق فسألته: «لماذا تضحك؟»
فقال يوري وهو مضطرب وحاول أن يخفي انفعاله: «لست أدري! لا شيء.»
وصمت كلاهما وأنصتا إلى أصوات ضعيفة يحملها النسيم إليهما في الظلام ثم باغتته سينا بهذا السؤال: «ألم تحب قط؟»
فأجابها يوري ببطء: «نعم.» وقال لنفسه: «وهبني صارحتها فماذا يكون؟»
ثم قال لها: «إني الآن أحب.» فسألته: «وتحب من؟» وأشفقت أن تسمع الجواب وإن كانت على يقين منه.
فأجابها يوري: «أحبك أنت.»
وحاول عبثا أن يقول ذلك بلهجة المازح وهو مائل إليها يحدق في عينيها المؤتلقتين وكانتا ناطقتين بالدهشة والانتظار، واشتاق يوري أن يعانقها ولكن شجاعته خانته مرة أخرى فتظاهر بأنه يعالج بأن يكتم الثؤباء.
فحدثت سينا نفسها «إنه إنما يمزح» وخمدت في نفسها الحرارة، وآلمها هذا التردد من يوري وأرادت أن ترد الدموع فقرضت أسنانها ثم قالت بلهجة غريبة: «هذا كلام فارغ .»
ونهضت فقال يوري بجد غير طبيعي: «إني جاد جدا. صدقيني فإني أحبك حبا طاغيا.»
فتناولت كتبها ولم تنبث وسألت نفسها: «لماذا يتكلم على هذا النحو؟ لقد أريته أني أعنى به فلما بدا له هذا أخذ يحتقرني.»
فانحني يوري ليلتقط كتابا سقط وقالت له هي ببرود: «لقد آن أن أذهب إلى البيت.»
فأحزن يوري أنها تريد العود إلى بيتها في هذه اللحظة، ولكن رأى أنه قام بدوره على أحسن وجه وأنجحه وأنه لم يصنع شيئا مبتذلا ثم قال بصوت مؤثر: «إلى الملتقى.»
فمدت إليه يدها فأسرع فانحنى ولثمها ففزعت سينا وانفرجت شفتاها عن صيحة خافتة وقالت: «ماذا تصنع؟»
ولم تكد شفتاه تلمسان يدها الرخصة الصغيرة ولكن صدره جاش مع ذلك حتى لم يسعه أكثر من الابتسام الخفيف وهي تسرع نائية عنه، ثم ما لبث أن سمع صوت بابها ولم تفارقه هذه الابتسامة السخيفة وهو ماض إلى بيته وراح يحس القوة في جسمه والغبطة في قلبه.
الفصل الحادي والعشرون
لما بلغ يوري غرفته الضيقة كالسجن وجد الحياة أبعث ما تكون على السآمة وخيل إليه أن حادثته الغرامية التي وقعت له مبتذلة أتم الابتذال. «لقد سرقت منها قبلة! فأي نعمة! وما أعظم بطولتي! إن البطل يستهوي في ضوء القمر فتاته الحسنة بالألفاظ الملتهبة والقبل النارية! رباه! أي سخافة! إن المرء ليعود مغفلا فارغا جدا في هذا الجحر الصغير اللعين!»
وكان يوري وهو في المدن يتصور أن الريف هو المكان الصالح له حيث يستطيع أن يعايش القرويين ويشاطرهم كدهم تحت الشمس المحرقة. فلما أتيحت له الفرصة بدا له أن حياة القرى لا تطاق وأحس الحاجة إلى منشط من المدن التي لا يتسع سواها لقواه ومواهبه، وكان لا يفتأ يقول: «ما أحلى جلبة المدن وضوضاءها! وهزة الفصاحة المنبعثة عن قوة العاطفة!» بيد أنه لم يلبث أن كبح هذه الحماسة الصبيانية. «وبعد فما معنى هذا؟ أي شيء هذه السياسة والعلم؟ إنها لكبيرة ما بقيت مثلا عليا نائية ولكنها في حياة كل فرد ليست إلا تجارة ككل شيء سواها! النضال؟ جهود تيتان؟ إن ظروف الحياة الحديثة تجعل هذا مستحيلا. إني أعاني وأجاهد وأتخطى رقاب الموانع! حسن وماذا إذن؟ أين المنتهى؟ إنه ليس في حياتي على كل حال! لقد أراد برومثيوس أن يهدي النار إلى الناس وأن يعلمهم قدحها ولقد فعل. ولك أن تعد هذا نصرا كبيرا وفتحا مبينا إذا شئت. ولكن ما الرأي فينا نحن؟ إن أقصى ما يسعنا هو أن نضيف عيدانا موقوصة إلى نار لم نوقدها ولن نكون نحن المخمديها؟»
وخطر له أنه إذا كانت الأمور على غير ما ينبغي فذلك لأنه ليس من طراز برمثيوس! وهو خاطر محزن في ذاته كل ما أفاده هو أن أتاح له فرصة جديدة لتعذيب نفسه. «أي برومثيوس أنا يا ترى؟ إني لا أزال أنظر إلى الأشياء من وجهة شخصية أنانية. «أنا» دائما «وأنا» في كل شيء. ألا أني لضعيف مهين كغيري من الناس الذين أحتقرهم من أعماق قلبي.»
وساءته هذه المقارنة حتى اختلطت خواطره فجلس برهة يفكر في الموضوع ويعالج أن يلتمس مبررا ما، فقال وارتاح قليلا إلى هذا الخاطر: «كلا لست مثل سواي لأني على الأقل أفكر في هذه الأمور، وهو ما يحلم بأن يفعله أمثال ريازانتزيف ونوفيكوف وسانين. إنهم لا يجري ببالهم قط أن ينقدوا أنفسهم إذ كانوا أتم ما يكونون سعادة ورضى عن نفسوهم كخنازير «زردشت» إن الحياة كلها تتلخص في ذاتيتهم الذرية، وتالله لقد أعدوني بهذه السطحية! آه نعم! إذا كان المرء بين الذئاب فليعو مثلها. إن هذا طبيعي.»
وجعل يوري يقطع الغرفة جيئة وذهوبا فحدث - وذلك مألوف - أن تغير اتجاه خواطره بتغير المكان. «حسن جدا. هذا كذلك وعلى كل حال فالواجب النظر في أمور كثيرة. مثال ذلك ما هو موقفي حيال سينا كرسافينا؟ وليس المهم هل أحبها حبا جما أم قليلا، بل المسألة متعلقة بالنتيجة. ولنفرض أني تزوجتها أو اتصلت بها اتصالا وثيقا، فهل تراني أعود بذلك سعيدا؟ إن الغدر بها جريمة وأنا أحبها ... حسن إذن فإني أستطيع ... الأرجح في الاحتمال أن ترزق مني أبناء ... «وأخجله هذا الخاطر» وليس في هذا عيب سوى أنه قيد يفقدني حريتي، فأعود رب أسرة. تقول النعيم المنزلي؟ كلا ليس هذا بسبيلي.» «واحد. اثنان. ثلاثة» هكذا كان يعد وهو يحاول أن يتخطى مربعين ويضع قدمه على الثالث.
لو استطعت أن أكون على يقين من أن لا تحمل أو من أن أحب أبناءنا إذا رزقناهم وأقف حياتي لهم! كلا! ما أرذل هذا وأصغره! وريازانتزيف سيكون له أبناء يحبهم فأي فرق يكون بيننا؟ حياة تضحية بالذات؟ ويزعم الزاعم أن هذه هي الحياة الحقيقية؟ نعم هي كذلك ولكن تضحية لمن؟ وبأية طريقة؟ ودع عنك الطريق الذي أختاره والغاية التي أرمى إليها وأرني المثل الأعلى الذي يستحق أن أموت في سبيله. كلا! إن السبب ليس راجعا إلى ضعفي بل مرده إلى أن الحياة نفسها ليست بأهل للتضحية أو الحماسة. وعلى هذا فلا معنى البتة لأن يعيش المرء.»
ولم يتفق له من قبل أن اقتنع بصحة هذه النتيجة مثل هذا الاقتناع. وكان على منضدته مسدس كلما مر به وهو سائر أخذت عينه حديده المصقول.
فتناوله وفحصه بعناية، وكان محشوا وصوب فوهته إلى صدغه وقال لنفسه: «هكذا! بانج، ثم ينقضي الأمر! فهل من الحكمة أو الغباء أن يقتل المرء نفسه؟ هل الانتحار جبن؟ إذن فأحسبني جبانا!»
وأحس للمس الحديد البارد لجبينه الملتهب لذة وفزعا وسأل نفسه: «وماذا عن سينا! دعني من هذا فلن أفوز بها ولهذا فإني أدع لغيري هذه المتعة.»
وأيقظ خاطر سينا ذكريات سارة حاول أن ينفيها لأنها حمق وضعف وقال: «لماذا لا أفعل؟»
فكأنما كف قلبه عن الخفقان. ثم سدد المسدس إلى جبينه في احتفال وإصرار ورفع الزناد فجمدت دماؤه في عروقه وطن في أذنه شيء ومادت به الغرفة.
ولكن الرصاصة لم تنطلق فلم يسمع سوى صوت الزناد فهوت يده إلى جانبه، وهو يكاد يغشى عليه، وكانت كل شعرة ترتجف ورأسه يدور وشفتاه معصوبتان ويده من الاضطراب بحيث سقط المسدس على المنضدة. فقال وعادت إليه نفسه: «ما أغرب شأني.»
ومضى إلى المرآة ليرى فيها وجهه وقال: «أجبان أنا إذن؟ كلا! لست به. لقد فعلتها كما ينبغي وماذا أصنع إذا كانت الرصاصة لم تشأ أن تنطلق؟»
ورامقه خياله في المرآة وكان فيما يرى بادي الجد. ثم أخذ يقنع نفسه بأنه لا يعلق أية أهمية بما حدث ولأجل هذا أخرج لسانه لخياله! ونأى عن المرآة وقال بصوت عال: «إن القدر لم يشأ أن يتم ما أردت.»
وكأنما أنعشه صوته، ثم سأل نفسه: «ترى هل أبصرني أحد؟» وتلفت مذعورا ولكن كل شيء كان ساكنا ولم يسمع حركة وراء الباب. فكأنما لا موجود سواه ولا معذب في هذه الوحدة غيره. وأطفأ المصباح فأذهله أن رأى أولا آشعة الفجر الحمراء ثم استلقى لينام وأحس في نومه شيئا هائلا ينحني فوقه ويخرج أنفاسا من النار.
الفصل الثاني والعشرون
زحف الأصيل في رفق ولين وقد ترفق في حواشيه أرج الأزهار. وكان سانين جالسا إلى منضدة قريبا من النافذة يطالع - أو يحاول أن يطالع - في الضوء الكابي قصة يحبها وهي وصف لمصرع أسقف هرم قضى نحبه وهو لابس ثيابه اللاهوتية وفي يده صليب مرصع والبخور يعقد في الجو سحابات.
وكان الجو في الغرفة باردا مثله خارجها، ونسيم المساء العليل يمسح جسم سانين القوي ويملأ رئتيه ويعبث بشعره، فمضى في قراءة القصة، وكانت شفتاه تتحركان من حين إلى حين، فلو رأيته لحسبته صبيا كبيرا يلتهم حكاية من حكايات المخاطرة بين الهنود، على أنه كان كلما أوغل في الكتاب اسودت خواطره، وتعجب للدنيا كيف حشيت كل هذه السخافة وللناس وكثافتهم ووحشيتهم ولنفسه كيف بذهم وسبقهم!
وفتح الباب ودخل منه زائر فرفع سانين طرفه وقال وهو يطوي الكتاب: «آها، ما عندك من الأخبار؟»
فافتر ثغر نوفيكوف عن ابتسامة حزينة وصافح سانين وقال وهو يدنو من النافذة: «لا شيء! إن كل شيء كما كان.»
ولم يكن سانين يستطيع أن يرى من نوفيكوف إلا شخصه الطويل. فظل برهة طويلة ينظر إليه ولا يتكلم.
وكان سانين قد مضى قبل ذلك بصديقه إلى ليدا التي تغيرت وزايلها الزهو والشموخ فلم ينبثا بحرف عما هو أدنى إلى قلبيهما وأعلق بهما، وكان سانين يعلم أنهما سيشقيان بعد أن يتصارحا وإنهما خليقان أن يكونا أشقى وأتعس إذا ظلا صامتين، وأن ما يستسهله هو لا يسعهما إلا بجهد جاهد فقال لنفسه: «ليكن الأمر كذلك فإن الألم ينقي الروح ويرفعها، فأما الآن فقد سنحت الفرصة الملائمة لهما.»
وكان نوفيكوف واقفا قبل النافذة ينظر في صمت إلى مغرب الشمس، وكان ينازعه الأسى على ما فقد والشوق إلى اللذة المنتظرة، فصور لنفسه ليدا حزينة مطوقة بالعار فلو آتته الشجاعة لركع أمامها الساعة ونفث بلثماته الحرارة في يديها الباردتين وبحبه الضخم الغفور حياة جديدة في عروقها، ولكن أنى له بالقوة والقدرة على المضي إليها؟
وكان سانين يدرك ذلك فنهض في بطء وقال: «إن ليدا في الحديقة فهل نذهب إليها؟»
فأسرعت دقات قلب نوفيكوف وامتزج في نفسه الفرح والحزن أغرب امتزاج وتغير وجهه قليلا وجعلت أصابعه تعبث بشاربيه. فأعاد سانين سؤاله في هدوء كأنما آلى أن ينهض بأمر خطير: «ما قولك في؟ هنا أنذهب؟»
فأحس نوفيكوف أن سانين يعرف كل ما في نفسه فاستحيا كالصبي وإن كان قد أراحه هذا الإحساس قليلا. فقال سانين في رفق: «هيا بنا!»
وأمسك بكتف نوفيكوف ودفعه إلى الباب فتمتم «نعم، أنا ...» وكاد يعانق سانين ولكنه لم يجترئ ولم يسعه إلا أن يرمقه بعين عبرى، وكانت الحديقة الدافئة العطرة مظلمة، وأغصان الأشجار فوق جذوعها تكون فيما بينها أقبية تحت السماء الخضراء، وعلى سطح الأرض الظامئة ضباب خفيف خافق، فكأنما هناك شبح غير مرئي يجوب مسالك الحديقة الصامتة ويسري بين الأشجار الجامدة فترجف لطيفه الأوراق والأزهار الناعسة، وكان الشفق لا يزال وهاجا فيما وراء النهر المنحدر بين المروج الحالكة، وعلى حرفه تجلس ليدا مكبة عليه مائلة إليه كأنه روح حزين ظفره الطفل، فلما سمعت صوت أخيها ملأها يقينا لم يلبث أن ولى أسرع مما جاء واستحوذ عليها الخوف والخجل، وأحست كأنما لا حق لها في السعادة لا ولا في الحياة ، وكانت لذلك تقضي النهار كله في الحديقة وفي يدها كتاب، إذ كانت عينها لا تقوى على النظر إلى أمها. وتحدث نفسها مرة بعد أخرى إن ألم أمها لا يكون شيئا مذكورا بالقياس إلى ما تعانيه هي الآن، ولكنها على هذا ما اقتربت من أمها إلا تلعثم لسانها وارتسمت في عينها نظرة المذنب، فأثارت خجلاتها واضطرابها العجيب ظنون أمها وحركت شكوكها، ولمحت ذاك ليدا فصارت تلوذ بالحديقة فرارا من نظراتها الفاحصة وأسئلتها القلقة. وهكذا كانت الليلة جالسة على حافة النهر تنظر إلى المغرب وتفكر في مصابها، وكانت الحياة لا تزال في نظرها مستعجمة وكأنما يحول بينها وبين استجلائها شبح بشع، فاستعانت بضعة كتب وسعت أفق فكرها وحررته فجنحت إلى الاعتقاد بأن سلوكها طبيعي بل حقيقي بالثناء؛ ذلك أنها لم تسئ إلى أحد، وما فعلت شيئا سوى أن أمكنت نفسها وشخصا آخر مثلها من اللذة الجسمية التي لا شباب بغيرها والتي تعقم الحياة بدونها وتقفر وتعود كالشجرة العارية في الخريف.
واستسخفت أن علاقتها بذلك الرجل علاقة لم تمنحها الكنيسة موافقتها بعد، ذلك أن حرية الفكر قد نقصت هذه الضرورات من زمن بعيد، وأنها لحقيقة أن تغتبط بهذه الحياة الجديدة اغتباط الزهرة استيقظت صباحا على مس اللقاح يحمله إليها النسيم، ولكنها مع هذا أحست أنها صارت أحط وأسفل من كل منحط وسافل.
وذابت كالشمع كل هذه الآراء النبيلة الجليلة والحقائق الأبدية لاقتراب يوم الفضيحة، وصارت تفكر في أن تدوس بقدمها من يمتهنونها، بل همها الوحيد وشغلها الشاغل هو كيف تجانبهم أو تخدعهم.
على أنها مع رغبتها في إخفاء حزنها عن غيرها أحست جاذبا إلى نوفيكوف كما تجذب الشمس الزهرة. وخيل إليها أن من الحقارة بل من الإجرام أن يراد منه إنقاذها. وحز في ضلوعها أن يتوقف أمرها على حبه وصفحه، ولكن الرغبة في الحياة كانت أقوى من الكبر.
وكان خوفها من غبائه أعظم من احتقارها له، فلم تكن تستطيع أن تنظر إلى نوفيكوف، بل كانت ترجف في حضرته كالعبد أمام ملك رقه، فما أشبهها بالطائر المهيض الجناح الذي لا يسعه أن يطير مرة أخرى.
وكانت إذا جاوز الألم طاقتها ربما فكرت في أخيها بشيء من الدهشة. وكان لا يخفى عنها أنه لا يقدس شيئا، وأنه ينظر إليها وهي أخته نظر الذكر إلى الأنثى، وأنه أناني لا يكترث للعرف والعادة، ولكنه الرجل الوحيد الذي كانت تحس الحرية المطلقة في محضره والذي تستطيع أن تصارحه بأخفى أسرار حياتها. لقد أخطأت ... حسن. وماذا في هذا؟ ولقد أمكنت رجلا من نفسها. حسن جدا وهل كان هذا إلا بمشيئتها؟ وسيحتقرها الناس ويمتهنونها فماذا يهم إن أمامها الحياة وضوء الشمس والدنيا الطويلة العريضة، وأما من حيث الرجال فهم كثر وستأسى أمها وتحزن. حسن إن هذا شأنها هي إذا شاءت ذلك. وإن ليدا لتجهل شباب أمها ولا تعرف عنه لا قليلا ولا كثيرا ومتى ماتت فلن يبقى مجال للبحث والتنقيب. ولقد التقيا مصادفة في طريق الحياة وترافقا مسافة فهل هذا سبب يدعوهما إلى تبادل المقاومة والمعارضة؟
وتبينت ليدا أنها لن ترزق حرية أخيها، وإنما خطرت لها هذه الآراء بتأثير هذا الرجل القوي الساكن الذي تعجب به وتحبه فطافت برأسها خواطر غريبة ... خواطر ليست مشروعة الصبغة وحدثت نفسها أن «آه لو كان غريبا ولم يكن أخي!»
وبادرت فعالجت أن تخنق هذا الخاطر الفاضح المغري.
ثم ذكرت نوفيكوف فاشتاقت كالرفيق العزيز أن يمنحها عفوه ورضاه، وسمعت وقع أقدام فتلفتت، وجاء إليها سانين ونوفيكوف في سكون ولم تستطع أن تتبين وجهيهما في الظلام، ولكنها أحست أن اللحظة المرهوبة قد دنت فاصفر وجهها وكأنما أوشكت الحياة أن تنتهي.
وقال سانين: «هذا أنت؟ لقد جئت إليك بنوفيكوف وسيقول لك كل ما عنده فامكثا هنا ريثما أذهب وأعود بشيء من الشاي.»
وانقلب عنهما مسرعا فظلا هنيهة يرقبان قميصه الأبيض يغيب في ظلمة الليل، وكان السكون من العمق بحيث ظناه لم يجاوز ظلال الأشجار المحيطة بهما.
وقال نوفيكوف بصوت رقيق متهدج وقع من قلبها أعمق وقع: «ليدا بتروفنا؟»
فقالت لنفسها: «مسكين! ما أطيبه!»
ومضى هو فقال: «إني أعرف كل شيء يا ليدا بتروفنا. ولكن حبي لك باق على عهده. وربما أحببتني يوما ما فقولي لي هل تقبلينني زوجا؟»
وقال لنفسه: «خير لي أن لا أكثر من الكلام في هذا إذ لا ينبغي أن تعرف أي تضحية أبذلها من أجلها.»
فصمتت ليدا فكان المرء يسمع خرير الماء في هذا السكون وعاد نوفيكوف إلى الكلام فقال: «إننا شقيان يا ليدا. ولعل الحياة تعود أخف محملا إذا كنا معا.» وكانت هذه الكلمات خارجة من أعماق قلبه ففاضت عينا ليدا بدموع الشكر وهي تميل إليه وتقول: «لعل وعسى.»
على أن عينيها قالتا له: «ويعلم الله أني سأكون زوجة صالحة وأني سأحبك وأحترمك.»
ففهم نوفيكوف ما قالت العينان فهوى إلى ركبتيه وتناول يدها وأمطرها قبلات حارة، فأجاشت هذه العاطفة نفس ليدا فنسيت عارها وحدثت نفسها «أن قد انقضى ومضى ذلك الأمر وسأسعد مرة أخرى. فيا لك من رجل طيب!»
وأبكاها الفرح فآتته كلتا يديها وانحنت على رأسه ولثمت شعره الناعم الحريري الذي كانت تعجب به، ومثلت لعينها صورة سارودين ولكنها لم تظهر حتى غابت.
ولما عاد سانين بعد أن أفسح لهما الوقت للتفاهم ألفاهما جالسين وأيديهما مشتبكة وهما يتحدثان بصوت خافت هادئ.
فقال سانين بهيئة الجاد: «آها! اشكرا الله واسعا.»
وكان يهم أن يقول شيئا آخر ولكنه عطس بدل أن يتكلم ثم قال ومسح عينيه: «إن الجو هنا رطب فاحذر البرد.»
فضحكت ليدا وتجاوب ما وراء النهر بصدى صوتها الفاتن ثم قال سانين بعد فترة: «سأذهب عنكما.»
فسأله نوفيكوف: «إلى أين تذهب؟»
قال: «إن سفاروجتش وذلك الضابط الذي يعجب بتولستوي - ما اسمه؟ - قد دعواني.»
فقالت ليدا ضاحكة: «أتعني فون دايتز؟» - «هو بعينه. ولقد أرادا أن نكون جميعا هناك ولكني قلت لهما إنك لست في البيت.»
فسألته ليدا ضاحكة أيضا: «لماذا قلت له ذلك؟ ربما كنت أذهب.»
فقال سانين: «كلا. ابقيا هنا. ولو كان معي رفيق لبقيت مثلكما.» ثم تركهما.
وزحف الليل وارتمت على الأرض غيابات الطفل وبدأ أول نجم يرتعش في مرآة النهر المتدفق.
الفصل الثالث والعشرون
كانت الليلة داجية والسحب يطارد بعضها بعضا فوق الأشجار وكانت تمضي مسرعة كأنها مرسلة إلى غاية خفية والنجوم تتلامح لحظة وتختفي أخرى، وكل شيء في السماء كأنه في هرج ومرج، على حين كانت الأرض كمن ينتظر شيئا وهو معلق الأنفاس، فكانت الأصوات الآدمية المتنازعة وسط هذا السكون مستثقلة عالية.
قال فون دايتز وهو يتعثر تعثرا شديدا: «مهما يكن من الأمر فإن المسيحية نعمة باقية وبركة خالدة على الإنسانية إذ كانت هي النظام الوحيد التام المفهوم للأخلاق.»
فقال يوري وكان سائرا خلفه ورمى برأسه يمنة على سبيل التحدي وعينه إلى ظهر الضابط: «هذا صحيح. ولكن المسيحية في صراعها مع الغرائز الحيوانية في الإنسان ظهر أنها عاجزة كغيرها من الأديان.»
فصاح فون دايتز مغضبا: «ماذا تعني بقولك ظهر أنها كذلك؟ إن للمسيحية المستقبل وفي الإشارة إلى أنها عتيقة ...»
فقاطعه يوري بحدة: «ليس للمسيحية مستقبل. وإذا كانت لم تنتصر وهي في أوج نشوئها بل صارت آلة في أيدي عصابة من الدجالين، فمن السخافة المطبقة أن نتوقع منها معجزة في هذه الأيام التي عاد حتى اسم المسيحية فيها مضحكا. إن التاريخ لا يرحم وكل ما يخرج من الميدان لا يسعه أن يكر إليه.»
فصرخ فيه فون دايتز: «هل تريد أن تقول إن المسيحية خرجت من الميدان؟»
فمضى يوري في كلامه معاندا: «أعني ذلك على التحقيق. وأراك تعجب لذلك كأن مثل هذه الفكرة مستحيلة. كما أن شريعة موسى قد بادت وكما أن بوذا وآلهة الإغريق قد غبروا كذلك ذهب المسيح. هذا قانون النشوء فماذا يدهشك؟ أتؤمن بألوهيته؟»
فقال فون دايتز وقد ساءته لهجة يوري أكثر مما ساءه السؤال: «كلا لا أؤمن بألوهيته.»
فسأله يوري: «إذن فكيف تقول إن إنسانا يستطيع أن يخلق سننا أبدية؟»
وحدث نفسه إن فون دايتز «قدم غبي» وارتاح إلى الاقتناع بأنه دونه ذكاء بمراحل وأنه يعجز عن فهم ما هو واضح وضوح الشمس.
فقال فون دايتز وقد تحمس بدوره: «لنفرض أن هذا كذلك، فإن المستقبل على الرغم من هذا الفرض ستكون قاعدته المسيحية. ذلك لأنها لم تفن. ولكنها كالبذرة في التربة ...»
فقاطعه يوري وبه بعض الارتباك والغضب لارتباكه: «لم أكن أتكلم عن هذا، وإنما أردت أن أقول ...»
فقال: «عفوا فإن هذا هو ما قلته.»
فقاطعه يوري مرة ثانية وقد هاجه أن هذا الغبي يظن نفسه أذكى الاثنين: «إذا كنت قد قلت كلا فإني أعني ما أقول. ما أسخفك! أريد أن أقول ...»
فقال: «قد يكون هذا كذلك. وأنا آسف إذا كنت قد أسأت الفهم.» وهز فون دايتز كتفيه الضيقتين هزة المتنازل إلى التسامح وكأنه يقول إنه فاز على مناظره.
ولم يفت يوري هذا المعنى فكاد يخنقه الغضب وقال: «لست أنكر أن المسيحية قامت بدور عظيم ...»
فصاح فون دايتز: «آه! إنك الآن تناقض نفسك.» والتز هذا النصر وسره جدا أنه يفوق يوري ذكاء وفطنة.
فقال يوري بحرارة: «ربما خيل إلى مثلك أني أناقض نفسي ولكن الواقع أن فكرتي منطقية وليس ذنبي أنك لا تريد أن تفهم. ولقد قلت وأقول الآن إن المسيحية قد غبر عهدها وإن من العبث أن نتطلع إليها لخلاصنا.»
فسأله فون دايتز قائلا: «نعم نعم. ولكن هل تريد أن تنكر التأثير الحسن الذي أحدثته المسيحية باعتبارها قاعدة النظام الاجتماعي؟»
أجاب: «كلا! لا أنكر ذلك.»
فقال سانين: «ولكني أنكره.» وكان يسير إلى الآن صامتا وراءهما وكان صوته هادئا لذيذا على العكس من المتناظرين، فصمت يوري وغاظته هذه اللهجة الساخرة المضبوطة النبرات، ولكنه لم يجد الرد حاضرا ولم يكن يحب أن يناظر سانين لأن معجم ألفاظه المألوف لم يكن يجديه في هذا النزال، وكان يخيل له إذا قارعه كأنما هو واقف على الجليد يحاول أن يهدم حائطا. غير أن فون دايتز صاح مغضبا: «أتسمح لي أن أسألك لماذا؟»
فقال سانين بلهجة جافية باردة: «لأني أنكر ذلك.»
أجاب يوري: «لأنك تنكر ذلك؟ إذا قرر المرء شيئا فيجب عليه أن يثبته.»
أجاب: «لماذا يجب أن أثبته. إنه لا حاجة إلى إثبات أي شيء! هذه عقيدتي وليس لي أقل رغبة في إقناعك. وعلى أن هذا عبث.»
فقال يوري بحذر: «إذا سايرناك في أسلوب تفكيرك كان الأولى أن نحرق كل كتب الأدب.»
فأجابه سانين: «لا لا! لماذا تفعل هذا؟ إن الأدب شيء جليل جدا وممتع جدا. والأدب الصحيح الذي أعنيه ليس جدليا وليس صاحبه كذلك الدعي الذي لم يكن يجد ما يصنع ذهب يعالج أن يقنع كل إنسان بأنه آية في الذكاء وتوقد الذهن. إن الأدب يجدد الحياة ويعيد إنشاءها ويتغلغل وينفذ حتى إلى دم الإنسانية جيلا بعد جيل. ففي القضاء عليه سلب لكل لون للحياة وكل طعم وروح لها.»
فوقف فون دايتز وترك يوري يمر به ثم قال لسانين: «أرجوك أن تزيدني! إن ما قلته الآن ممتع لي جدا.»
فاستغرق سانين في الضحك ثم قال: «إن ما قلته بسيط جدا وفي وسعي أن أفيض في البيان إذا شئت. وعندي أن المسيحية قامت بدور ضئيل في حياة الإنسانية. ذلك أنها في الوقت الذي أحس فيه الناس أن حالهم لا يطاق وصمم فيه المضطهدون والمستعبدون لما ثابت إليهم مداركهم على أن يقلبوا نظام الحياة الجائر وأن يعصفوا بالطفيليات الآدمية - أقول في هذا الوقت ظهرت المسيحية وديعة متواضعة تعد الجزيل، فانحت على النزاع واستنكرته وألاحت للناس بصورة النعيم المقيم، وعللت الإنسانية بأنغامه حتى أتعستها وانطلقت تنشر دين الإذعان والتسليم لسوء المعاملة، وقصارى القول أنها جاءت بمثابة «متنفس» للحنق المكتوم، فعاد بها ذوو الشخصية القوية الذين درجوا ونشئوا وسط روح الثورة، وكانوا يحنون إلى خلع نير القرون - أقول عادوا - وقد فقدوا كل حرارة كانت تحفزهم، فساروا كالحواريين إلى ميدان الفناء يطلبونه بشجاعة خليقة بغرض أسمى. ولم يكن خصومهم يبغون بالبداهة غير هذا. والآن فسيحتاج الأمر إلى قرون ظلم فاضح قبل أن توقد نيران الثورة مرة أخرى. ولقد خلعت المسيحية على الشخصية الآدمية العنيدة التي لا تصبر على الرق ثوبا من التوبة والندم يخفي تحته كل ألوية الحرية. وخدعت الأقوياء الذين كان يسعهم الآن أن يستحوذوا على الثروة والسعادة بأن نقلت مركز ثقل الحياة إلى المستقبل - إلى عالم أحلام لا وجود له - عالم لن يراه أحد منهم. وهكذا اختفت روعة الحياة وفتنتها وماتت الشجاعة والعاطفة والجمال. ولم يبق إلا الواجب وحلم العصر الذهبي في المستقبل - ذهبي للآتين - نعم لقد كان دور المسيحية صغيرا. واسم المسيح ...»
فقاطعه فون دايتز صارخا ووقف: «أبدا! إن هذا يتجاوز الحد!»
وجعل يلوح بذراعيه الطويلتين في الظلام.
فسأله يوري مضطربا: «ولكن ألم يخطر لك قط أي عصر فظاعة وإراقة دماء كان خليقا أن يكون لولا أن حالت المسيحية دون ذلك؟»
فأجابه سانين بإيماءة استخفاف: «ها! ها! حدث في بادئ الأمر أن «الميدان» - تحت ثوب المسيحية - تلطخ بدماء الشهداء، ثم حدث بعد ذلك أن الناس كانوا يذبحون أو يلقون في السجون أو محابس المجانين. والآن يسفك كل يوم من الدم أكثر مما يمكن أن تريقه ثورة عامة. وشر ما في الأمر أن كل تحسين في حياة الإنسانية لا يتم إلا بسفك الدماء والفوضى والانتفاض، وإن كان الناس لا يفتئون يدعون أن حب الإنسانية وإيثار الجار هما قاعدة حياتهم وأعمالهم. والأمر كله ينتهي بمأساة سخيفة كاذبة ليست من هذا ولا ذاك في شيء. أما أنا فإني أوثر أن تنزل بالعالم كارثة عامة وحية تقضي عليه، ذلك خير عندي من وجود نباتي فاتر يمتد على الأرجح ألفي عام أخرى.»
فصمت يوري ومن الغريب أن ذهنه لم يكن موجها إلى ما يقول سانين بل إلى شخصيته. وساءه من سانين يقينه المطلق ولم يطق أن يحتمل هذا منه، فقال وهو مدفوع بعامل قوي إلى إيلام سانين: «هل لك أن تتفضل علي فتخبرني لماذا تتكلم دائما كأنك تعلم أطفالا صغارا؟»
فقلق فون دايتز لهذا السؤال وقال شيئا على سبيل التوفيق.
وسأله سانين بحدة، «ماذا تعني بذلك؟ ولماذا تغضب؟»
فأحس يوري أن كلامه جارح وأنه لا ينبغي أن يتمادى ولكن كرامته المثلوبة دفعته فقال: «إن هذه اللهجة ثقيلة الوقع جدا.»
فأجابه سانين وبه بعض الغيظ إلا أن به رغبة في التسرية عن صاحبه: «إنها لهجتي المألوفة.»
فقال يوري ورفع صوته: «إنها ليست موافقة دائما ولا أدري ماذا يكسبك مثل هذا اليقين الجازم!»
فأجابه سانين وقد عاد إلى سكينته: «لعل السبب شعوري أني أذكى منك.»
فوقف يوري وهو يرعد من فرعه إلى قدمه وصاح بصوت متهدج: «انظروا ماذا يقول!» فقال سانين: «لا تغضب! إني لم أرد أن أسيء إليك وإنما أعربت عن رأيي الصريح، وليس رأيي فيك إلا كرأيك في وكرأي فون دايتز فينا وهكذا وذلك طبيعي.»
وكان سانين يقول ذلك بلهجة ودية صريحة لا تدع محلا للغضب، فصمت يوري ولكن فون دايتز ظل قلقا عليه. فتمتم يوري: «مهما يكن من الأمر فإني لا أصارحك برأيي وأرميه لك في وجهك.»
فأجابه سانين: «كلا! إنك لا تفعل هذا وذلك حيث تخطئ، ولقد كنت أصغي إليك وأنت تناظر صاحبك الآن فرأيت روح الغضب والإساءة يحفز كل كلمة يجري بها لسانك. والمسألة مسألة شكل. أنا أقول ما أرتئي وليس في هذا ذرة من الامتناع. ولو أننا كنا كلنا صرحاء مخلصين لكان هذا أمتع لنا جميعا.»
فضحك فون دايتز وقال: «يا له من رأي مبتكر!»
ولم يجبه يوري وكان غضبه قد سري عنه، بل لقد استشعر شيئا من السرور، وإن كان قد آلمه أنه قد خرج من المعركة مهزوما وإن لم يشأ أن يعترف بذلك.
فقال فون دايتز: «إن مثل هذه الحالة تكر بنا إلى الحياة الساذجة.»
فسأله سانين: «وهل ترى الأفضل أن تكون الحياة مبهمة معقدة.» فهز فون دايتز كتفيه واستغرقه التفكير.
اجتاز ثلاثتهم الميدان ومن بعده السكك المقفرة خارج البلدة وهي أضوأ من الميدان وأكثر نورا، وكان الإفريز الخشبي واضحا حيال الأرض السوداء، وفي السماء الصافية الزرقة تلتمع النجوم.
وقال فون دايتز: «ها نحن هؤلاء قد وصلنا.» وفتح بابا قصيرا اختفى فيه ولم يكد يغيب حتى سمعنا نباح كلب وصوتا يقول له: «ارقد يا سلطان.» وأبصر فناء واسعا فارغا وفي جانب منه كتلة سوداء هي طاحونة بخارية ذهبت مدخنتها الضيقة في الهواء وحولها خصاص، ولم تكن ثم أشجار إلا في رقعة ضيقة من الأرض أمام البيت الثاني، وقد أضاء أوراقها الخضراء نور منبعث من نافذة مفتوحة. فقال سانين: «ما أظلمه من مكان!» فسأله يوري: «أحسب الطاحون قديمة.» فأجابه فون دايتز: «قديمة جدا.» ولما جاوز النافذة المضيئة أطل منها ثم قال بلهجة المرتاح: «لقد حضر خلق كثير.» فأطل سانين ويوري مثله ورأيا رءوسا تتحرك في سحابة من الدخان، فمال إلى النافذة رجل عريض الألواح مجعد الشعر وسأل: «من هنا؟» فقال يوري: «أصدقاء!»
ولما صعدوا السلم اصطدموا برجل صافحهم مصافحة الأوداء وقال بنبرة يهودية بارزة: «لقد خشيت أن لا تحضروا.» وقام فون دايتز بواجب التعريف قائلا: «سولوفتشك - سانين.» فضحك سولوفتشك ضحكة المضطرب وقال: «يسرني أن ألقاك، لقد سمعت عنك كثيرا وأنت تعرف ...» وتطرح إلى الوراء دون أن يخلي كف سانين، فاصطدم بيوري وداس على قدم فون دايتز فقال: «عفوا يا جاكوف ادولفوفتش (دايتز)» وأخذ يهز كفه بقوة. وهكذا طال الأمر قبل أن يبلغوا الباب وكان في الردهة صفوف من المسامير دقها سولوفتشك لاجتماع الليلة وبها القبعات معلقة، وبجانب النافذة زجاجات خضراء ملأى بالجعة. وسحب الدخان معقودة حتى في جو الردهة.
وبدا سولوفتشك في الضوء يهوديا شابا أسود العينين مجعد الشعر صغير القسمات قبيح الأسنان بديها إذ كان لا يزايله الابتسام.
فاستقبلهم القوم بضجة عالية وأبصر يوري سينا جالسة على حافة النافذة، فعاد كل شيء في عينه وضاحا سارا كأن الاجتماع لم يكن في حجرة مرذولة غاصة بالدخان، بل حفلة بين المروج الخضراء في الربيع.
فابتسمت له سينا وهي مرتبكة. وقال سولوفتشك وهو يحاول أن يرفع صوته الضعيف الحوار ويداه تتحركان على نحو زري مضحك: «أيها السادة، أحسبنا جميعا قد حضرنا، أرجوك العفو يا يوري! إني دائما أصطدم بك.» وضحك وهو يدفع نفسه إلى الأمام محاولا أن يتوخى الأدب، فضغط يوري على ذراعه وقال له: «لا شيء!»
وصاح طالب حسن الوجه: «لسنا جميعا هنا لعنة الله على الباقين.» وكان صوته العالي يشعرك أنه ألف أن يأمر سواه، فوثب سولوفتشك إلى المنضدة ودق جرسا صغيرا وابتسم مرتاحا إلى أنه فكر في استعمال الجرس.
فصاح به الطالب: «أوه! لا تفعل هذا! إنك مولع بكل أنواع السخافات! ليس بنا أدنى حاجة إلى هذا.»
فتمتم سولوفتشك: «لقد ... ظننت ... أن ...» وارتبك ووضع الجرس في جيبه فقال الطالب: «ينبغي أن تكون المنضدة في وسط الحجرة.»
فأجاب سولوفتشك: «نعم نعم سأجرها حالا.» وأسرع فأمسك بطرف منها فصاحت ديبوفا قائلة: «حاذر أن تكسر المصباح.»
وقال الطالب ودق ركبته: «إنها لا تنقل بهذه الطريقة.»
فقال سانين: «دعني أساعدك.» - «أشكرك.»
فوضع سانين المنضدة في وسط الحجرة، وكانت كل عين تنظر إلى ظهره القوي وعضلات كتفيه التي كان قميصه الرقيق يشف عنها.
وقالت ديبوفا: «والآن يا جوشنكو من حيث إنك مقترح هذا الاجتماع فإن عليك أن تلقي الخطاب الافتتاحي» وكان من الصعب أن تعرف من عينيها أجادة هي أم ضاحكة بالطالب.
فقال جوشنكو ورفع صوته: «أيتها السيدات. أيها السادة. إنكم جميعا تعرفون لماذا اجتمعنا الليلة هنا، وعلى ذلك نستطيع أن نستغني عن خطاب تمهيدي.»
فقال سانين: «الواقع أني لا أعرف لماذا جئت، ولكن ربما كان السبب أنهم قالوا لي إن هنا جعة!» وضحك.
فنظر إليه الطالب باحتقار ومضى في كلامه: «إن جماعتنا مؤلفة لتهذيب النفس بواسطة المطالعة المتبادلة والمحاضرات والمناقشات المستقلة ...»
فقاطعته ديبوفا: «المطالعة المتبادلة؟ لست بفاهمة!» قالت ذلك بلهجة قد تعد ساخرة، فاحمر وجه الطالب وقال: «أردت أن أقول مطالعة نشترك فيها جميعا، فالغرض من جماعتنا هو تربية الرأي الفردي تربية تفضي إلى أن يتألف في هذه البلدة اتحاد يعطف على الحزب الديمقراطي الاشتراكي.»
فقال إيفانوف: «آها!!» وحك رأسه. «ولكنا سنتناول هذا الموضوع فيما بعد. أما في مبتدأ الأمر فلن نتولى حل شيء من هذه المسائل الكبيرة ...»
فلقنته ديبوفا: «أو الصغيرة.»
فتظاهر جوشنكو بعدم الالتفات إليها وقال: «وسنبدأ بوضع برنامج يتضمن بيانا بالكتب التي ننوي أن نطالعها وأقترح أن نقصر اجتماع الليلة على هذا العمل.»
فسألت ديبوفا: «سولوفتشك. هل سيحضر عمالك؟»
فوثب سولوفتشك كأنما كان لدغ وقال: «نعم سيحضرون ولقد أرسلت في طلبهم.»
فصاح الطالب : «لا ترفع عقيرتك هكذا!»
وقال شافروف وكان يصغي إلى خطاب جوشنكو باحترام: «ها هم أولاء قد حضروا.»
وصر الباب وسمع نباح الكلب وانطلق سولوفتشك من الغرفة وهو يقول: «لقد حضروا.» وصاح بالكلب أن «ارقد يا سلطان.» وسمعوا وقع أقدام ثقيلة وسعالا وأصوات رجال، ثم دخل طالب هندسة شبيه بجوشنكو لولا أنه أسمر وأقل وسامة ودخل معه الحجرة عاملان مستحييان مرتبكان أكفهم خشنة وعلى كل منهم جاكتة قصيرة تحتها قميص أحمر قذر، وكان أحدهما طويلا عريضا تقرأ في وجهه الحليق النحيل آيات الجوع سنين والكمد الباطن المخامر والبغض والسخط المكتومين. أما الثاني فله هيئة الرياضي وهو عريض الكتفين حسن الوجه مجعد الشعر وكان يتلفت حوله كالفلاح إذ يرى مدينة لأول مرة فتقدمهما سولوفتشك وقال بجد ووقار: «أيها السادة هؤلاء ...»
فقاطعه جوشنكو كعادته: «كفى كفى! عموا مساء أيها الرفاق.»
فقال طالب الهندسة مقدما رفيقيه: «بتسوف وكودريافجي.»
فدخل العاملان بحذر وصافحا الأيدي الممتدة للترحيب بهما، وابتسم بتسوف وهو مرتبك أما زميله فكان يلوي عنقه الطويل كأنما كان الزيق «الياقة» يخنقه. ثم جلسا إلى النافذة قرب سينا.
فسأله جوشنكو: «لماذا لم يحضر نيقولايف؟»
فأجاب بتسوف: «لم يستطع الحضور.»
وزاد كودريافجي: «لقد شرب حتى عمي.»
فقال جوشنكو وهز رأسه: «آه! فهمت.»
فأثارت هذه الحركة التي أراد بها جوشنكو أن يعرب عن عطفه حنق يوري ووجد في الطالب خصما شخصيا له.
وعاد الكلب إلى النباح فقالت ديبوفا: «لقد حضر آخرون.»
فقال جوشنكو وتكلف الاستخفاف: «لعلهم الشرطة.»
فصاحت ديبوفا: «إني على يقين من أنك لا تكترث إذا كان الطارقون هم الشرطة!»
فنظر سانين إلى عينيها الذكيتين وإلى جدائل شعرها الجميلة المرسلة على كتفيها وقال لنفسه: «إنها فتاة ذكية الفؤاد.»
ووثب سولوفتشك كأنما يهم بالخروج ولكنه استعاد صوابه فتظاهر بأنه يتناول سيجارة على المنضدة. ولم تفت جوشنكو هذه الحركة فقال ولم يجب ديبوفا: «ما أكثر قلقك وحركاتك يا سولوفتشك.»
فاحمر وجه سولوفتشك وتجهم وخالجه الأسف على حماسته التي لا تستحق أن يكون جزاؤها هذا التعنيف، ثم دخل نوفيكوف وهو باش مبتسم: «هذا أنا.» فقال سانين: «وكذلك نراك.» وتصافحا. وهمس نوفيكوف في أذن سانين على سبيل الاعتذار: «إن ليدا تستقبل زوار اليوم.»
وعاد طالب الهندسة إلى موضوعه فسأل: «هل جئنا لنتكلم؟ ألا دعونا نبدأ!»
فقال نوفيكوف والسرور باد عليه: «إذن فأنتم لم تبدءوا بعد؟» وصافح العاملين اللذين وثبا على أقدامهما وارتبكا لمقابلته هنا مقابلة الند والزميل وهو لا يعاملهما في المستشفى إلا معاملة من هم دونه.
ثم أخذ جوشنكو يتكلم وبه بعض الغيظ وقال: «أيتها السيدات، ويا أيها السادة. إننا كلنا نريد بطبيعة الحال أن نوسع آفاقنا ونعمق نظرنا إلى الحياة، ولما كنا نعتقد أن خير وسيلة لتهذيب النفس أن نضع طريقة منتظمة للمطالعة وتبادل الآراء فيما نقرأ فقد رأينا أن ننشئ هذا النادي. والمسألة الآن هي: أي كتب نقرأ؟ ربما استطاع بعضكم هنا أن يقترح شيئا.»
فوضع شافروف نظارته على عينيه ونهض في بطء وفي إحدى يديه مذكرة صغيرة وقال بصوته الجاف المنفرد: «أرى أن نقسم برنامجنا قسمين. ولا بد في تهذيب عقولنا وصقلها من أمرين؛ دراسة تبدأ بأول أطوارها، ودراسة الحياة كما هي في الواقع.»
فقالت ديبوفا: «إن شافروف قد بدأ يتفصح.»
واستمر شافروف: «فأما الأول فيتم بقراءة الكتب العلمية والتاريخية القيمة والثاني طريقه كتب الأدب ومنها نواجه الحياة.»
ولم يسع ديبوفا إلا أن تقول وفي عينيها لمعة خبيثة: «إذا مضيت في كلامك على هذا النحو فسيأخذنا النوم.»
فقال شافروف بلطف: «إني أجتهد أن يكون كلامي مفهوما من الجميع.»
فقالت ديبوفا وأومأت إيماءة التسليم بقضاء الله: «حسن جدا قل ما بدا لك.»
وضحكت سينا أيضا من شافروف وأعادت رأسها إلى الوراء فبدا للعين جيدها الأتلع الناصع وكانت ضحكتها موسيقية منغمة.
فقال شافروف وعينه إلى ديبوفا: «لقد وضعت برنامجا، ولكني أخشى أن تملكم قراءته وأرى أن نبدأ بكتاب «أصل الأسرة» مع مؤلفات داروين. أما من حيث الأدب فلنبدأ بتولستوي.»
فصاح فون دايتز وهو راض عن نفسه وفي يده سيجارة يشعلها: «تولستوي بكل تأكيد!»
وانتظر شافروف حتى أشعل صاحبه السيجارة ثم قال: «ثم بتشكوف وأبسن وكنوت همسون.»
فصاحت سينا: «ولكنا قرأنا كل هؤلاء!»
فاهتز يوري لصوتها وقال: «بالطبع! إن شافروف ينسى أننا لسنا في مدرسة وما أعجب هذا الخلط! تولستوي وكنوت همسون!»
فساق شافروف بعض الحجج تعزيزا لرأيه ولكنه بعثرها فلم يفهمه أحد، فقال يوري وسره أن سينا تنظر إليه: «كلا! لا أوافقك.» وراح يشرح رأيه في الموضوع وأكثر ما يعنيه من الكلام أن يفوز بموافقة سينا فحمل على مشروع شافروف حملة شعواء، وأنحى حتى على ما يوافق عليه منه، وتلاه جوشنكو فأدلى برأيه وكان يعد نفسه أذكاهم وأنصحهم وأعظمهم تهذيبا، وكان يتوقع أن يفوز بالمحل الأول فغاظه ما وفق إليه يوري من النجاح فعارضه في رأيه، وتلت ذلك مناقشة طويلة لا آخر لها، وشرع نوفيكوف وجوتشكو وإيفانوف يتكلمون جميعا في وقت واحد، واختلطت الأصوات اختلاطا لم يعد معه مجال للفهم. ولزم سولوفتشك الصمت في هذه الحرب وجلس في زاوية يصغي، وكان في أول الأمر عظيم الاهتمام ثم لم يلبث الشك والأسى أن غضنا وجهه ورسما خطوطا حول فمه وعينيه.
وكان سانين يشرب ويدخن ولا يقول شيئا وعلى وجهه دلائل الملل، ولما علت الضجة ولم تعد محتملة وقف وأطفأ سيجارته وقال: «ألا تشعرون أن هذه حالة لا تطاق؟»
فقالت ديبوفا: «إنها لكذلك حقا!»
وسأله جوتشنكو: «كيف ذلك؟»
فلم يلتفت إليه سانين وقال ليوري: «هل تعتقد أنك تستطيع أن تستخلص فكرة الحياة عن الحياة من الكتب؟»
فأجابه يوري بدهشة: «أعتقد ذلك بلا شك.»
فقال سانين: «إذن فأنت مخطئ! إذا كان هذا صحيحا فإن المرء يستطيع أن يصب الإنسانية كلها في قالب واحد بأن يجعل الناس يقرءون كتبا تنزع إلى منحنى واحد. إن فهم الحياة لا يتأتى إلا من ملابسة الحياة نفسها في جملتها، وليس الأدب أو مظاهر العقل الإنساني إلا ذرة ضئيلة فيها. وليس في وسع أي نظرية عن الحياة أن تعينك عن تكوين فكرة عنها، لأن هذا رهن بمزاج كل فرد وخليق أن يختلف ذلك ما دام الإنسان حيا . وعلى هذا فمن المحال عليك أن تكون فكرة محدودة مضبوطة عن الحياة كما تريد أن ...»
فصاح يوري مغضبا: «ماذا تعني بقولك (من المحال)؟»
فقال سانين: «محال ولا شك! لو أن تكوين فكرة عن الحياة نتيجة نظرية محدودة تامة لوقف تقدم الفكر الإنساني. بل لانقطع. وهذا كلام لا يقبل. إن كل لحظة تنطق بكلمة جديدة، وواجبنا أن نصغي إليها وأن نفهمها دون أن نضع لأنفسنا قيودا وحدودا سابقة. وعلى أنه ما خير الجدل في هذا؟ رأيك ما تشاء. إنما أسألك يا من قرأت مئات من الكتب لماذا عجزت إلى الآن عن تكوين فكرة محددة عن الحياة؟»
فسأله يوري وبدا الغضب في عينيه: «لماذا تفرض أني لم أفعل ذلك؟ ربما كانت فكرتي عن الحياة كلها خطأ ولكن لي فكرة.»
فقال سانين: «حسن جدا. إذا كانت لك فكرة فلماذا تبغي غيرها؟»
وقالت سينا لنفسها: «ما أذكاه!» وأعجبت به أيما إعجاب، وجعلت تلحظه هو ويوري وأحست شيئا من الخجل، ولكنها كانت على هذا فرحة مسرورة، فكأنما كان الاثنان يتجادلان في أيهما يفوز بها.
ومضى سانين في كلامه فقال: «فأنت لا حاجة بك إلى ما تطلبه عبثا. وأرى كل امرئ هنا يحاول أن يكره غيره على الاقتناع برأيه ويخشى أن يقنعه الآخرون بآرائهم. الحقيقة بصراحة أن هذا ممل جدا.»
فقال جوتشنكو: «لحظة واحدة! اسمح لي!»
فأجابه سانين بضجر: «كفى كفى! لا بد أن لك فكرة رائعة عن الحياة وأن تكون قد قرأت أكواما من الكتب! هذا واضح لا خفاء به! ومع ذلك فإنك تغضب لأن غيرك لا يوافقك على رأي لك! وشر من ذلك أنك تسيء معاملة سولوفتشك وهو لم يسئ إليك في حياتك!»
فذهل جوتشنكو ولزم الصمت. وقال سانين: «يا يوري لا يغضبك أني صارحتك الآن. إنه لا يخفى عني أن في صدرك عراكا!»
فصاح يوري: «عراك؟» واحمر وجهه ولم يدر أيغضب أم يحتمل هذا القول، ووقع في نفسه صوت سانين الساكن وقعا عميقا كما حدث وهما آتيان إلى هذا الاجتماع.
فأجابه سانين : «إنك تعلم أن الأمر كذلك. ولكنه لا ينفع المرء أن يعنى بهذا الهذر الصبياني. الحياة أقصر من ذلك».
فصاح به جوتشنكو مغضبا: «اسمع. إنك تدعي لنفسك أكثر مما يجب!»
فقال سانين: «ليس أكثر مما تدعي أنت.»
أجاب: «كيف ذلك؟»
فقال سانين: «فكر في الأمر وحدك. إن ما تقوله وتفعله أخشن وأسوأ أدبا من كل ما أقول!»
أجاب: «لست بفاهم.»
فقال سانين: «ليس هذا بذنبي.»
أجاب: «ماذا؟»
فلم يجبه سانين وتناول قبعته وقال: «سأخرج فقد ضجرت.»
فقال إيفانوف: «هذا حق وقد فرغت الجعة.»
فقالت ديبوفا: «لن نتقدم خطوة إذا سرنا على هذا النحو، هذا واضح.»
وقالت سينا: «رافقني في الطريق يا يوري»، ثم التفتت إلى سانين وقالت: «إلى الملتقى.»
والتقت عيناها وعيناه فسرت في جسمها هزة سرور وقالت ديبوفا في الطريق: «وا أسفاه! لقد تداعى نادينا قبل أن يقوم.»
فقال صوت حزين: «ولكن لماذا؟» وكان صاحبه سولوفتشك يتطرح ويصطدم بكل واحد وكانوا قد نسوا وجوده فراعتهم كآبته. فقال سانين وكأنه يفكر: «اسمع يا سولوفتشك سأزورك يوما لنتحادث.»
فانحنى سولوفتشك وقال: «بكل تأكيد أرجوك أن تتفضل.»
ولما خرجوا من الحجرة المضاءة كان الظلام على أشده فكانوا يتعارفون بالأصوات دون الشخوص، وسار العاملان على مسافة من الباقين ولما ابتعدا قال أحدهما: «هذه حالهم أبدا. يجتمعون ويتحدثون عن عجائب ومعجزات ينوون إتيانها ثم يأبى كل منهم إلا أن يكون الأمر على هواه ومشيئته. إلا أنه لم يعجبني غير هذا الرجل الضخم (سانين).»
فقال صاحبه: «ما أكثر ما نفهم حين يتجادل أمثالهم!» ولوى عنقه كأنما يخنقه شيء فصفر رفيقه ساخرا بدل أن يجيبه.
الفصل الرابع والعشرون
وقف سولوفتشك عند الباب برهة ينظر إلى السماء الغائمة ويفرك أصابعه النحيلة. وكانت الريح تزمر حول الأبنية الخشبية وتحني رءوس الأشجار المتقاربة كأنها جند من الأشباح. وكانت السحب في سباق دائم كأنما تدفعها قوة قاهرة إلى الأمام. أو كأنما تنتظرها جيوش يخطئها الحصر رفعت رايتها السوداء وخرجت في كل قوتها الرائعة إلى ميدان تتصارع فيه العناصر. وكانت الريح كأنما تحمل من حين إلى حين ضجة المعركة النائية.
وقف سولوفتشك ينظر إلى السماء وقد ملأت روعة المنظر نفسه. فلج به الإحساس بضآلته وأنه لا شيء إزاء هذه الهيولى الهائلة. فتنهد وقال: «يا إلهي! يا إلهي!» وكان إذا أضواه الليل يعود شخصا آخر غير الذي يعرفه الناس. وكذلك زايله القلق والارتباك الآن. واختفت أسنانه الدميمة وراء شفتيه الحساستين وارتسمت في عينيه السوداوين نظرة الجد والشجن.
ودخل البيت في بطء وأطفأ مصباحا لا ضرورة إليه ورد المنضدة والكراسي إلى مواضعها، وكانت الغرفة لا تزال ملأى بدخان الطباق والأرض مبعثرة عليها أعقاب السجائر والكبريت. فتناول مكنسة وشرع ينظف الغرف وكان يحب أن يرى مأواه نظيفا مرتبا. ثم جاء بدلو ووضع في مائه كسرا من الخبز وحمل هذا في يمينه ومد يسراه ليحفظ توازنه واجتاز الفناء بخطى قصيرة، وكان قد وضع مصباحا صغيرا قرب النافذة لتضيء له طريقه، ولكن الظلام مع ذلك كان طاغيا، فلما وصل إلى مبيت الكلب تنفس الصعداء وتقدم كلبه «سلطان» ليقابله. «آه. سلطان! كوش كوش!» أخرج هذه الأصوات ليتشجع ودفع الكلب أنفه البارد البليل في كف سيده فوضع له الدلو وقال له: «هذا أنت.» فشم الكلب الدلو ثم انطلق يأكل بنهم وسيده واقف بجانبه يتأمل الظلام المحيط ويقول لنفسه: «ماذا أصنع؟ كيف أستطيع أن أحمل الناس على تغيير آرائهم؟ لقد كنت أنا نفسي أتوقع أن يعلمني الناس كيف أعيش وكيف أفكر. ولقد ضن علي الله بصوت النبي فكيف أساعد الخلق؟»
وزام الكلب راضيا. فقال سيده: «كل واشبع. لقد كنت أود أن أطلقك لتعدو قليلا ولكن المفتاح ليس معي وأنا متعب مجهود ... إيه ما أذكى من كانوا هنا الليلة وأعلمهم وأمهرهم! إنهم يعرفون شيئا كثيرا. نصارى طيبون على الأرجح! وهذا أنا ... من يدري؟ لعل هذا خطئي وحدي. لقد كنت أحب أن أقول لهم كلمة. ولكني حرت كيف أقولها.»
وحملت الريح من وراء المدينة صفيرا طويلا هافيا فرفع الكلب رأسه وأصغى وسقطت قطرات كبيرة من كمامته في الدلو. فقال صاحبه: «كل واشبع إن هذا صوت المطر.»
فتنهد الكلب وقال سيده: «ترى هل يعيش الناس أبدا على هذا النحو؟ ربما أعياهم ذلك.» وهز كتفيه يائسا. وبدت له في الظلام صورة حشد هائل من الخلق لا آخر له كالأبد يغيب ويختفي في الظلام - سلسلة قرون لا مبدأ لها ولا منتهى - سلسلة متصلة الحلقات من آلام وأوجاع لا دواء لها ولا شفاء منها وفوقها حيث عرش الله سكون أبدي!
واصطدم الكلب بالدلو فقلبه وأخذ يبصبص بذنبه، وسمع صوت سلسلته فمسح سولوفتشك ظهره وربته وأحس هزة السرور تسري في كيان الكلب ثم انقلب إلى البيت، وكان يسمع منه صوت سلسلته، وبدا الفناء أقل ظلمة والطاحون أشد جهامة بمدخنتها الطويلة والتمع في السماء خط عريض من النور أضاء المدينة هنيهة، فبدت للعين أزهارها الصغيرة الضعيفة مطرقة تحت السماء الثائرة وأعلامها السوداء المنذرة التي نشرها الليل.
وغلب الحزن سولوفتشك وراخى أعصابه الشعور بالوحدة وبخسارة لا عوض عنها، فدخل غرفته وجلس إلى المنضدة وبكى.
الفصل الخامس والعشرون
كتب سارودين رسالة إلى ليدا وقعت في يد أمها ماريا إيفانوفنا، وفيها يطلب إليها أن تأذن له في الحضور ليراها، ويشير إلى أن هناك أمورا يمكن أن تسوى على نحو مرضي، فرأت ماريا إيفانوفنا أن هذه الصفحات تلقي ظلا مخجلا على ابنتها الطاهرة، فارتبكت وذكرت معاشقها في صدر أيامها وما كان فيها من خدع، وزواجها وما تخلله من آلام، وكانت حياتها سلسلة طويلة من الأوجاع صاغتها قوانين الأخلاق الحرجة ومدتها إلى حدود الشيخوخة.
وهاجت لما خطر لها أن ابنتها كسرت الحائط الذي يدور بهذه الحياة القذرة، وانغمست في الدوامة التي تختلط فيها اللذات والأحزان والموت. وقالت لنفسها: «يا لها من فتاة خسيسة خبيثة!» وهوى ذراعاها إلى جانبيها. ثم خطر لها فجأة أن الأمور ربما كانت لم تبلغ هذا المدى فعزاها ذلك، وتلت الرسالة ثم تلتها غير أنها لم تستخلص شيئا من أسلوبها الجاف المتكلف، ولما أعياها الأمر بكت بكاء مرا ثم سوت قبعتها وسألت الخادمة: «دونيكا! هل فلاديمير سانين هنا؟» فصاحت دونيكا : «ماذا ؟» أجابت: «أيتها الحمقاء إني أسألك هل فلاديمير سانين هنا؟»
قالت: «لقد ذهب إلى المكتبة! وهو يكتب رسالة!»
وانبسطت أسارير الخادمة كأنما كانت كتابة الرسالة مبعث سرور غير عادي، فحملقت ماريا في الفتاة والتمع في عينيها الدابلتين نور الشر وقالت: «أيتها الورهاء (الحمقاء)! لئن اجترأت أن تحملي رسائل مرة أخرى لألقننك درسا لن تنسيه عمرك!»
وكان سانين جالسا إلى مكتب ولم تألف أمه أن تراه يكتب، فارتاحت إلى هذا المنظر على الرغم من حزنها وسألته: «ماذا تكتب؟» فقال سانين ورفع رأسه إليها باسما: «رسالة.»
قالت: «لمن الرسالة؟»
أجاب: «لصحفي أعرفه. فإني أفكر في الالتحاق بجريدته.»
قالت: «وهل تكتب مقالات للصحف؟»
فابتسم سانين وقال: «إني أصنع كل شيء.»
فقالت أمه: «ولكن لماذا تريد أن تذهب إلى هناك؟»
فقال سانين بصراحة: «لقد مللت العيش معك يا أماه.»
فتألمت أمه لذلك وقالت: «أشكرك.» فرامقها سانين ونازعته نفسه أن يقول لها لا ينبغي لك أن يبلغ من حمقك أن تتصوري أن رجلا ليس له عمل يمكن أن يرتاح إلى البقاء أبدا في مكان واحد، ولكنه لم يكن يحب أن يقول شيئا من هذا فسكت.
فأخرجت أمه منديلها وفركته بين أصابعها ولولا رسالة سارودين وحزنها وقلقها من جرائها لساءتها خشونة ابنها ولكنها لم تزد على أن قالت: «نعم! واحد يتسلل من البيت كالذئب والأخرى.»
وأتمت الجملة إيماءة التسليم بالقضاء.
فرفع سانين رأسه إليها بسرعة وألقى القلم وسألها: «ماذا تعرفين عن هذا.»
فخجلت ماريا إيفانوفنا من أنها قرأت رسالة ليدا واحمر وجهها وأجابته بصوت المتردد يشوبه شيء من الغيظ: «الحمد لله لست بالعمياء! وإني لأستطيع أن أرى.»
فقال سانين بعد أن فكر هنيهة: «ترين! إنك لا تستطيعين أن تري شيئا. ولكي أثبت لك ذلك دعيني أهنئك بخطبة ابنتك! وكانت ستخبرك بهذا بنفسها.»
فصاحت ماريا إيفانوفنا واعتدلت قامتها: «ماذا؟ ليدا ستتزوج؟ تتزوج من؟» أجاب: «نوفيكوف بالبداهة.»
قالت: «نعم، ولكن ما القول في سارودين؟»
فقال سانين بغضب: «أوه! إنه يستطيع أن يذهب إلى الشيطان وما شأنك بهذا؟ لماذا تتدخلين في شئون غيرك؟»
فقالت أمه وبها بعض الدهشة إلا أنها أحست هزة الفرح: «نعم ولكني لم أفهم تماما يا فولودجا. إن ليدا ستتزوج؟»
فهز سانين كتفيه وقال: «ما هذا الذي لا تفهمينه؟ لقد كانت تحب رجلا وهي الآن تحب غيره، وغدا تحب ثالثا. حسن. بارك الله في معاشقها!»
فصاحت ماريا إيفانوفنا مغضبة: «ما هذا الذي تقوله؟»
فمال سانين إلى المكتب وطوى ذراعيه وسألها بغضب: «هل لم تحبي في حياتك إلا رجلا واحدا؟»
فنهضت ماريا إيفانوفنا وارتسمت على وجهها المغضن أمارات الشموخ والتعالي وقالت بحدة: «لا ينبغي للمرء أن يخاطب أمه بهذا اللسان.»
فسألها: «لا ينبغي لمن؟» فقالت: «ماذا تعني بمن؟»
فقال وصعد نظره فيها وصوبه: «من الذي لا ينبغي أن يتكلم.» ولحظ لأول مرة فراغ نظرة عينيها وسخافة هيئة القبعة على رأسها، فقالت بصوت مخنوق: «لا ينبغي لأحد أن يوجه إلي مثل هذا الكلام.»
فقال سانين واستعاد سكينته وأمسك القلم: «مهما يكن من ذلك فقد فعلته وانقضى الأمر. لقد فزت بنصيبك من الحياة، ولا حق لك في منع ليدا من طلب نصيبها.»
فلم تجبه بشيء وراحت تحدجه بنظرات الدهشة وأسرعت فنفت ذكريات شبابها وكل ما كان في ليالي حبه الفرحة وعلق بذهنها هذا السؤال وحده: «كيف يجرؤ أن يخاطبني بهذا اللسان؟» وقبل أن تهتدي إلى جواب ما التفت إليها سانين وتناول يدها في رفق وقال: «لا يؤلمك هذا أو يزعجك وإنما يجب عليك أن تمنعي سارودين من دخول البيت لأنه يستطيع أن يلعب معنا دورا قذرا.»
فهدأت ماريا إيفانوفنا وقالت: «بارك الله فيك يا بني. وإني لمسرورة جدا فقد كنت دائما أحب ساكا نوفيكوف، نعم لا نستطيع أن نستقبل سارودين. هذا لا يمكن من أجل ساكا.»
فقال سانين وفي عينيه نظرة فكهة: «كلا! هو كما تقولين! من أجل ساكا.»
وسألته أمه: «وأين ليدا؟» أجاب سانين: «في غرفتها.»
فقالت: «وساكا؟» ونطقت مختصر اسمه هذا بعطف فقال سانين: «لا أدري: لقد ذهب إلى ...»
وفي هذه اللحظة دخلت دونيكا الخادمة وقالت: «فيكتور سارودين وسيد آخر معه.»
فقال سانين: «اطرديهما من البيت.»
فابتسمت دونيكا ابتسامة صبيانية وقالت: «سيدي كيف أستطيع ذلك؟»
فقال سانين: «تستطيعين بالطبع! ما شأنهما هنا؟»
فأخفت دونيكا وجهها وخرجت. ومدت ماريا إيفانوفنا قامتها حتى صارت في رأي العين أصبى وأصغر لولا أن في عينيها نظرة شر. وكانت قد غيرت وجهة نظرها إلى الموضوع بسرعة مدهشة وسهولة عجيبة، فبعد أن كانت تحس لسارودين رقة في قلبها لما كانت ترجو أن يتزوج من ابنتها عادت فأحست له شنآنا لما أدركت أن غيره سيتزوج منها وأن سارودين لم يكن إلا طالب حب.
واستدارت لتخرج ولحظ سانين تحجر وجهها وصلابة نظرتها فقال لنفسه: «ها هنا دجاجة عتيقة لك يا سارودين!» وطوى الرسالة التي كان يكتب وتبعها ليرى على أي حال ينتهي الأمر.
وبالغ سارودين وفلوتشين في تحيتها ولكن سارودين فقد سلاسة شمائله، وقلق فلوتشين قليلا إذ كان قد جاء لغرض واحد هو أن يرى ليدا فاضطر أن يكتم غايته.
وبدا الاضطراب على سارودين على رغم تكلفه، وأحس أنه لم يكن يجمل به أن يأتي، وأشفق من لقاء ليدا، ولكنه لم يكن يحب أن يطلع فلوتشين على هذا السر إذ كان يريد أن يظهر أمامه في مظهر الفاتك اللهج فقال وتصنع الابتسام: «عزيزتي ماريا إيفانوفنا. اسمحي لي أن أقدم إليك صديقي بول فلوتشين.»
فقالت ماريا بأدب جاف: «مسرورة» ولمح سارودين جفوة النظرة التي في عينيها فاضطرب وأدرك أنه لم يكن ينبغي له أن يحضر بعد أن كان قد غفل عن هذا في حضرة صديقه، وقد تدخل ليدا في أي لحظة - ليدا أم طفله - فماذا يقول لها! كيف يواجهها؟ وربما كانت أمها على علم بما وقع بينهما! فاضطرب في كرسيه وأشعل سيجارة وهز كتفيه وحرك رجليه وتلفت يمينا وشمالا.
فقالت ماريا لصاحبه بصوت بارد متكلف: «هل تطول إقامتك هنا؟»
فقال «كلا!» وجعل ينظر إلى هذه السيدة الريفية نظرة الارتياح والرضى عن النفس وزج سيجارته في زاوية فمه، فكان الدخان يصعد إلى وجهها مباشرة فقالت: «لا شك أن الحياة هنا مملة بعد بطرسبرج.»
قال: «إنها على العكس لذيذة في هذه البلدة الصغيرة.»
قالت: «يحسن أن تزور الجهات المجاورة فإنها متنزهات بهيجة وفيها أماكن للسياحة والتجديف.»
فقال فلوتشين وبدأ يسأم: «بالطبع يا سيدتي بالطبع.»
وتعثر الحديث وصاروا جميعا كأنما على وجوههم صور مستعارة باسمة تخفي تحتها عيونا متعادية. ونظر فلوتشين عن عرض إلى سارودين نظرة لا سبيل إلى الخطأ في فهم مدلولها، ولم تفت سانين دلالتها، وكان يرقب كل شيء من الركن الذي وقف فيه.
ولكن خوف سارودين أن يستصغر أمره صاحبه ولا يرى فيه ما زعمه من اللباقة والجرأة والفتك رد إليه شيئا من عازب ثقته بنفسه وجرأته فسأل ماريا: «وأين ليدا بتروفنا.»
فنظرت إليه ماريا غاضبة مذهولة وقالت له عيناها: «ما أنت وهذا إذا كنت لن تتزوجها.» ثم قالت بجفاء: «لا أدري! لعلها في غرفتها.»
فرمى فلوتشين نظرة أخرى إلى زميله معناها: «ألا تستطيع أن تستنزل ليدا بسرعة؟ إن هذه العجوز مملة.»
ففتح سارودين فمه ولوى شاربيه. وقال فلوتشين باسما وفرك كفيه ومال إلى ماريا إيفانوفنا: «لقد سمعت ثناء طيبا على ابنتك فطمعت أن أتشرف بمعرفتها.»
فعجبت ماريا إيفانوفنا لهذا الوقح ماذا سمع عن ابنتها وقام في نفسها أن ابنتها زلت وهوت. فاضطربت ولانت نظرتها. فقال سانين لنفسه: «إذا لم يطردا الآن فسيسببان متاعب لليدا ونوفيكوف» ثم قال فجأة لسارودين وهو ينظر إلى الأرض مفكرا: «سمعت أنك مسافر.»
فعجب سارودين كيف لم يخطر له هو هذا العذر واستحسن الفكرة وقال لنفسه: «لقد وجدت تكئة! إجازة شهرين.» قبل أن يجيب بسرعة: «نعم لقد كنت أفكر في السفر لأن الإنسان محتاج إلى الانتقال وطول مقام المرء في مكان واحد خليق أن يكسوه طبقة من الصدأ.»
فضحك سانين ضحكا عاليا وسره هذا الحديث الذي ليس فيه كلمة واحدة صادقة معبرة عن حقيقة ما في النفوس، وهذا الخداع الذي لم يخدع أحدا.
ووجد ارتياحا وحرية فنهض وقال: «إذن فكلما كان ذلك أسرع كان خيرا.»
فتمزق الحجاب في لحظة واحدة، وتغير الثلاثة الآخرون، واصفرت ماريا إيفانوفنا ونطقت عين فلوتشين بالخوف الحيواني، ونهض سارودين في بطء وتردد وسأل بصوت مبحوح: «ماذا تعني؟»
وتطرح فلوتشين وجعل يتلفت باحثا عن قبعته.
ولم يجب سانين على سؤال سارودين، بل ناول فلوتشين قبعته بخبث وكان هذا مفتوح الفم فخرج منه صوت مخنوق وصاح سارودين مغضبا: «ماذا تعني بهذا؟» وقال لنفسه: «فضيحة!»
فأجاب سانين: «أعني أن وجودك هنا لا ضرورة له على الإطلاق، وأنه يسرنا أعظم السرور أن لا نراك.»
فتقدم سارودين خطوة وهو مضطرب وأسنانه تلمع مهددة كأسنان الوحش وتمتم وأنفاسه مسرعة: «آه! أهذا كذلك؟»
فقال سانين باحتقار: «اخرج.» ولكن لهجته بلغ من هولها أن حملق سارودين وتراجع.
وقال فلوتشين بأخفت صوت: «لا يدري إلا الشيطان معنى هذا.» ورفع كتفيه ومضى إلى الباب.
ولكن ليدا كانت واقفة في حرم الباب وفي ثياب غير مألوفة، وكان شعرها مضفرا والضفيرة مدلاة على ظهرها وثوبها واسع مرسل فزادت بساطته في جمال شكلها.
وابتسمت فظهر الشبه بينها وبين أخيها وقالت بصوتها الرخيم الغض: «هذا أنا. لماذا تسرعان؟ فيكتور سارودين ضع قبعتك.» فصمت سانين ونظر إلى أخته مذهولا وقال لنفسه: «ماذا ترى تعني؟»
وما كادت تظهر حتى وجدوا لها تأثيرا خفيا رقيقا لا سبيل إلى مقاومته، فكأنها وهي واقفة هناك مروضة أمام قفص غاص بالوحوش الضارية، فهدأ الرجال وأذعنوا.
وتمتم سارودين: «هل تعلمين أننا ...»
فلما سمعت صوته ارتسم على وجهها الألم فنظرت إليه وخامرها الأسى والرقة والأمل، ولكن هذه الإحساسات لم تلبث أن عفت عليها الرغبة الوحشية في أن تري سارودين مبلغ خسارته، وأنها ما زالت جميلة وضاءة على الرغم من كل أساها وعارها اللذين كلفها إياهما.
فأجابته بصوت الآمر: «لا أريد أن أعرف شيئا.» وأغمضت عينيها فأحدث وجودها تأثيرا غريبا في نفس فلوتشين فبرز لسانه الصغير الحاد من بين شفتيه الجافتين وصغرت عيناه واهتز كيانه. وقالت ليدا لسارودين: «لقد نسيت أن تعرف بعضنا ببعض.»
فتمتم: «فلوتشين بافل لفوفتش.» وقال لنفسه: «وهذه الجميلة كانت عشيقتي.»
والتذ هذا الخاطر وأراد أن يتظاهر أمام فلوتشين بغير الواقع وإن كان قد أمضه الشعور بخسارته التي لا تعوض.
فقالت ليدا لأمها في فتور: «إن أناسا يريدون أن يقابلوك.»
فأجابت ماريا إيفانوفنا: «لا أستطيع الذهاب إليهم الآن.»
فألحت ليدا: «ولكنهم ينتظرون.»
فنهضت ماريا إيفانوفنا مسرعة وراقب سانين أخته وقالت هذه: «ألا تذهبون إلى الحديقة؟ إن الجو هنا حار لا يطاق.» ومضت الحديقة دون أن تتلفت وراءها.
وكأنما سحرتهم فتبعوها، وكأنما كانوا مقيدين إليها بخصل شعرها، فلو شاءت لجرتهم إلى حيث راقها، وكان أسبقهم فلوتشين الذي سباه حسنها ونسي كل ما عداه.
وجلست ليدا على كرسي هزاز تحت شجرة الزيزفون، ومدت قدميها الصغيرتين الجميلتين في جوربيها الشفافين الأسودين وحذائيها القصيرين، وكأنما كانت لها طبيعتان؛ إحداهما كلها أدب وخجل، والثانية كلها إحساس بنفسها وحسن دلالها. وكانت الأولى تغريها باستفظاع الرجال والحياة ونفسها.
ثم قالت وهي مطرقة: «والآن يا فلوتشين أي أثر كان لبلدتنا الصغيرة الفقيرة النائية في نفسك؟»
فأجابها فلوتشين وهو يفرك كفيه: «تأثير الزهرة المونقة تصافح عين الموغل في قلب الغابة المظلمة.»
ثم بدأ حديث فارغ متكلف، كل ما يجري به اللسان منه كاذب راجف، وكل ما يطوونه هو الصادق. وجلس سانين في صمت يصغي إلى أحاديث النفوس الصامتة المخلصة التي كانت تنطق بها الوجوه والأيدي والأقدام واضطراب نبرات الصوت. وكانت ليدا شقية، وفلوتشين يشتاق جمالها، وسارودين يمقتها ويمقت سانين وفلوتشين والدنيا جميعها، وكان يحب أن يفارقهم ولكنه لم يستطع أن يتحرك، ونازعته نفسه أن يأتي أمرا فاضحا غير أنه لم يسعه إلا أن يدخن سيجارة بعد أخرى وهو أشد ما يكون رغبة أن يعلن إلى الحضور أن ليدا عشيقته.
وعادت ليدا فسألت فلوتشين: «وكيف تحب المقام هنا؟ ألا تأسف لتركك بطرسبرج وراءك.» ونفسها تتقطع حسرات وهي تعجب لأمرها لماذا لا تنهض وتدعهم.
فقال فلوتشين بالفرنسية ولوح بيده وحدق في ليدا: «على العكس!»
فقالت ليدا بدلال: «اسمع! اسمع! دعنا من الخطب الجميلة.» وكان جسمها يقول لسارودين: «إنك تظنني شقية أليس كذلك؟ وأنني سحقت؟ ولكنك يا صاحبي مخطئ ! انظر إلي!»
فقال سارودين: «يا ليدا بتروفنا! كيف تسمين هذا خطبة جميلة.»
فسألته ليدا بجفوة: «عفوا يا سيدي ماذا تقول؟» كأنما لم تكن سمعته ثم عادت إلى كلام فلوتشين بلهجة أخرى: «حدثنا عن الحياة في بطرسبرج. إننا هنا نعيش كالنبات.»
ورأى سارودين أن فلوتشين يبتسم لنفسه ابتسامة من لا يصدق أن سارودين كانت له بها علاقة متينة فعض شفتيه وتوجع.
فتعلقت عين فلوتشين بجمال ليدا وانطلق يهضب وكأنه القرد الصغير يهذي بما لا يفهم وقال: «حياة بطرسبرج الشهيرة؟ إني أؤكد لك بشرفي أن حياتنا مملة لا لون لها. ولقد كانت هذه الحياة إلى ما قبل اليوم كذلك في بطرسبرج وفي غيرها.»
فقالت ليدا وأطبقت جفونها: «أكذلك تقول؟»
وأتم فلوتشين كلامه فقال: «إن الذي يجعل للحياة قيمة ... هو المرأة الجميلة. وما ظنك بالنساء في المدن الكبرى؟ آه لو ترينهن! وصدقيني إني مقتنع بأنه لن ينقذ الدنيا ويخلصها - إذا كان شيء من ذلك مقدورا لها - سوى الجمال.» ولم يكن يريد أن يقول هذا ولكنه نطق به فجأة لظنه أنه أليق ما يكون، وكانت لمحة وجهه ناطقة بالغباء والشره، وهو يكر في حديثه إلى موضوع المرأة الذي لم يكن أشهى منه عنده. وكان سارودين يحمر تارة ويصفر أخرى من الغيرة فلم يطق الجلوس في مكان واحد فنهض وجعل يتمشى وقال فلوتشين: «إن نساءنا كلهن سواء، كل واحدة منهن صورة طبق الأصل من الأخرى، فمن طلب امرأة يستحق جمالها العبادة فليذهب إلى الأقاليم حيث الأرض بكر تخرج آنق الأزهار.»
فحك سانين قفاه ووضع إحدى رجليه فوق الأخرى.
فقالت ليدا: «وما خير أن تنفتح هذه الأزهار هنا إذا لم يكن ثم من هو أهل لقطفها؟»
فاهتم سانين فجأة وقال لنفسه: «آها! أهذا ما تقصد إليه.» والتذ هذا التلاعب بالألفاظ.
فسألها فلوتشين: «أهذا ممكن؟»
فأجابته ليدا بحرارة: «نعم هو كذلك! وإني لأعني ما أقول من الذي يقطف أزهارنا السيئة الحظ؟ ما هؤلاء الرجال الذين نحسبهم أبطالا؟»
فسألها سارودين: «ألا تظنين أنك قاسية علينا في هذا الحكم ؟»
فقال فلوتشين: «كلا! إن ليدا بتروفنا مصيبة!» ونظر إلى سارودين فانقطع تيار فصاحته، فضحكت ليدا ضحكا عاليا وأثارت نظرها إلى سارودين، وقد امتزجت في نفسها عواطف الخجل والأسى والانتقام، وعاد فلوتشين إلى الكلام وجعلت ليدا تقاطعه بالضحك لتخفي دموعها.
فقال سارودين: «أظن أن الوقت قد أزف فلنقم.» وأحس أن الموقف لا يحتمل ولم يكن يدري لماذا. ولكن كل شيء - ضحك ليدا ونظراتها الساخرة واضطراب يديها - كان له وقع اللكم على الأذن وأضناه بغضه المتزايد لها وغيرته من فلوتشين وشعوره بما فقد فسألته ليدا: «بهذه السرعة؟»
فافتر ثغر فلوتشين ولحس شفتيه بطرف لسانه وقال بلهجة المتهكم وقد زهاه انتصاره: «لا حيلة لنا. إن فيكتور سارودين على ما يظهر متغير.»
وودعوا ولما انحنى سارودين على يد ليدا همس: «إن هذا فراق بيني وبينك.» ولم يشعر لليدا بمثل هذا المقت.
ونازعت ليدا نفسها هنيهة أن تودع تلك الساعات الحالية ساعات الحب التي نعما بها ولكنها خنقت هذه الرغبة وقالت بصوت خشن عال: «الوداع، سفر سعيد! لا تنسنا يا بافل لفوفتش!»
ولما انصرفا كانت ليدا وأخوها يسمعان فلوتشين وهو يقول: «ما أفتنها! إنها تسكرني مثل الشمبانيا!»
وجلست ليدا على الكرسي الهزاز وتغيرت هيئتها ومالت إلى الأمام وأطرقت وجعلت ترجف ودموعها تتساقط.
فقال سانين وتناول يدها: «تعالي! تعالي ما الخبر؟»
فقالت ليدا: «آه، دعني، ما أفظع الحياة!» وتدلى رأسها وغطت وجهها براحتيها وكانت ضفيرتها الناعمة المصقولة قد زلت عن كتفها إلى صدرها.
فقال سانين: «ما خير أن تبكي لمثل هذه التوافه؟»
فتمتمت ليدا: «أوليس في الدنيا إذن من هم خير من هؤلاء الرجال؟»
فابتسم سانين وقال: «كلا! على التحقيق. إن الإنسان سافل بطبيعته، فلا تتوقعي منه شيئا من الخير وإذا وطنت نفسك على هذا لم يحزنك ما يصيبك من شره.»
فرفعت ليدا إليه عينيها الجميلتين المغرورقتين وسألته: «أولا تنتظر أنت كذلك شيئا من الخير من أبناء جنسك؟»
فأجابها سانين: «كلا! بالبداهة. إني أعيش في هذه الدنيا وحدي.»
الفصل السادس والعشرون
في اليوم التالي ذهبت دونيكا تعدو إلى سانين ورأسها عار وكذلك قدماها، وكان في الحديقة، وصاحت به وفي عينيها آيات الفزع: «فلاديمير بتروفتش! قد جاء الضباط وهم يطلبون أن يحادثوك!» ورددت هذه الكلمات كأنما كانت درسا حفظته عن ظهر قلب.
فلم يعجب سانين إذ كان يتوقع ذلك من سارودين وسألها بلهجة المغتبط المازح: «هل يشتاقون جدا أن يقابلوني؟»
ولا بد أن تكون دونيكا توقعت شيئا مزعجا ذلك أنها لم تخف وجهها بل طفقت تحدق في وجه سانين وترنو إليه رنو العطف والذهول.
فأسند سانين فأسه إلى شجرة وشد حزامه ومضى إلى البيت في تؤدة على عادته، وكان يقول لنفسه: «ما أسخفهم وأشد غباءهم!» وهو يفكر في سارودين ورسوليه ولم يكن يقصد بهذا إلى الطعن فيهم بل إلى مجرد الإعراب عن رأيه الصريح المخلص في سلوكهم.
ولقي في طريقه ليدا خارجة من غرفتها فوقفت على العتبة ووجهها باهت ممتقع وعيناها قلقتان محزونتان وشفتاها تختلجان دون أن ينبثا، وكانت في هذه اللحظة تحس أنها أشقى النساء في العالم وأعظمهن جرما.
ورأى ماريا إيفانوفنا جالسة على كرسي ذي ذراعين أشد ما تكون فزعا ويأسا وعلى رأسها قبعتها مائلة إلى أحد خديها، فألقت إلى سانين نظرة فزعة وخانها الكلام فابتسم لها وهم بأن يقف معها هنيهة ولكنه آثر أن يمضي لشأنه.
وكان تاناروف وفون دايتز جالسين في غرفة الانتظار جلسة صلبة، ورأس كل منهما إلى زميله كأنما كانت تضايقهما ثيابهما المشدودة، فلما دخل سانين وقفا في بطء وتردد كأنهما في شك مما يجب عليهما نحوه. فقال سانين بصوت عال: «عما صباحا.» ومد إليهما كفه فتردد فون دايتز وانحنى تاناروف وبالغ في الانحناء حتى لاستطاع سانين أن يرى قفاه وعاد سانين فقال: «أي خدمة أستطيع أن أقدمها لكما؟» ولم تفته مبالغة تاناروف في التأديب وعجب له كيف وسعه أن يقوم بدوره السخيف بهذا الاطمئنان.
فاعتدل فون دايتز وأراد أن يكسب وجهه الممطوط كوجه الحصان هيئة الجد والوقار إلا أنه لم يفلح في هذا الذي عالجه لفرط اضطرابه. ومن الغريب أن تاناروف - وهو في العادة سخيف حيي - هو الذي خاطب سانين بلهجة حاسمة متزنة فقال: «إن صديقنا فيكتور سارودين قد أولانا شرفا بأن طلب إلينا أن نمثله في أمر معين بعينكما.» ألقى هذه الجملة بإحكام الآلة وضبطها.
فقال سانين: «أهو!» بوقار مضحك وفتح فمه على آخره ومضى تاناروف في كلامه معبسا قليلا: «نعم يا سيدي. إنه يرى أن سلوكك نحوه لم يكن ... أحسن ... أ ...»
فقاطعه سانين وقد بدأ صبره ينفد: «نعم نعم، فهمت. لقد كدت أطرده من البيت لكزا برجلي فقولك لم يكن «أحسن» أقل العبارات صلاحا للعبارة عما حدث.»
فلم يلتفت تاناروف إلى هذا الكلام وقال: «حسن يا سيدي. إنه يصر على أن تسحب ألفاظك.»
وأيده فون دايتز بنعم نعم وكان ينقل رجليه كالجواد فابتسم سانين وقال: «أسحب ألفاظي؟ كيف أستطيع أن أفعل ذلك؟ إن الكلمة كالطائر خرج من قفصه!»
فحار تاناروف وارتبك وحدق في وجه سانين بدل أن يرد عليه وقال سانين لنفسه «وا سوأتا لعينيه!» ثم استأنف تاناروف الكلام وهو مغضب: «إن هذه ليست بالمسألة التي يجوز فيها المزاح فهل أنت مستعد لسحب كلامك أم غير مستعد؟»
فصمت سانين برهة وجيزة وقال لنفسه: «ما أغباه» وهو يتناول كرسيا ثم جلس وقال بلهجة الجد: «ربما كنت مستعدا أن أسحب كلامي لأرضي سارودين وأسكن نفسه لا سيما وأنا لا أعلق أضأل أهمية بما قلت له. ولكن سارودين أولا لغبائه أبى أن يفهم الباعث لي على كلامي، ثم هو يأبى الآن إلا أن يلغط بالأمر بدل أن يضبط لسانه، ثم إني ثانيا أمقت سارودين كل المقت ولست أرى في هذه الظروف أي مبرر لسحب كلامي.»
فقال تاناروف بصوت أشبه بالصفير: «حسن جدا. وإذن ...»
وحملق فوق دايتز مذهولا واصفر وجهه الطويل.
وعاد تاناروف فقال بصوت عال أراد به الوعيد: «في هذه الحالة.»
فزاد كره سانين لهذا المخلوق وهو ينظر إلى جبهته الضيقة وثيابه المشدودة وقاطعه قائلا: «نعم نعم. إني أعرف كل ذلك. ودعاني أقل لكما شيئا واحدا وهو أني أنوي أن لا أبارز سارودين.»
فاستدار فون دايتز بحدة ومط تاناروف جسمه وسأله بلهجة المحتقر: «ولماذا من فضلك؟»
فانفجر سانين ضحكا وزال كرهه له بأسرع مما جاء وقال: «حسن أذكر لك السبب. إني أولا لا أريد أن أقتل سارودين، وأنا - ثانيا - أقل رغبة في أن يقتلني أحد.»
فقال تاناروف باحتقار: «ولكن ...»
فقاطعه سانين ووقف: «لن أبارزه والسلام. لماذا؟ إني لا أميل إلى تعليل شيء أو تفسيره لكما، وإن ما تطلبان لأكثر مما لكما الحق فيه.»
وكان احتقار تاناروف لهذا الرجل الذي يأبى أن يبارز ممتزجا باعتقاده أن الضابط وحده هو الذي رزق الشجاعة والإحساس بالشرف اللازمين لهذا العمل. ومن أجل ذلك لم يدهشه أن يرفض سانين بل لعل الرفض سره. فقال بلهجة زارية: «هذا شأنك ولكني لا أرى بدا من تحذيرك ...»
فضحك سانين وقال: «نعم نعم، ولكني أنصح لسارودين أن لا ...»
فقاطعه تاناروف وهو يتناول قبعته سائلا: «أن لا يفعل ماذا؟»
فقال سانين: «أنصح له أن لا يلمسني وإلا جلدته حتى ...»
فصاح فون دايتز هائجا: «اسمع إني لا أستطيع أن أحتمل هذا ... إنك ... إنك إما تضحك منا. ألا تعلم أنك برفضك أن تبارز ...»
وكان وجهه أحمر وعيناه جاحظتين، والزبد على فمه، فنظر سانين إلى فمه مستغربا وقال: «وهذا هو الرجل الذي يعد نفسه من تلاميذ تولستوي!»
فقلق فوق دايتز وطوح رأسه وتمتم وهو مستح من أن يخاطب بهذه اللهجة من كان صديقا له إلى آخر لحظة: «إني مضطر أن أرجوك أن لا تذكر هذا. فإنه لا شأن له بموضوعنا.»
فأجابه سانين: «أوليس لهذا شأن بما أذكرتك؟ حقيقة؟ إن له لدخلا كبيرا.»
فنعق فون دايتز: «ولكني مضطر أن أرجوك ...»
وقال تاناروف: «إن هذا كثير حقيقة.»
فقال سانين وتراجع مشمئزا من فون دايتز وكانت شفتاه تنثران ريقه: «أوه. كفى كفى! ظنا ما شئتما فما يعنيني ظنكما وقولا لسارودين إنه حمار.»
فصاح فون دايتز: «ليس لك حق يا سيدي. أقول ليس لك حق.»
وقال تاناروف مقتنعا: «حسن جدا. دعنا نذهب.»
فصاح فون دايتز ولوح بذراعيه: «كلا ! كيف يجرؤ؟ ... أي حق ... إن هذا ...»
فنظر إليه سانين هنيهة وأومأ محتقرا وخرج من الغرفة، فصاح به تاناروف: «سنبلغ رسالتك إلى زميلنا الضابط.»
فقال سانين: «افعل ما شئت.» ولم يلتفت وراءه وكان يسمع تاناروف يعالج أن يهدئ روع فون دايتز فقال لنفسه: «إن هذا الفتى سخيف في العادة ولكنه بصير عاقل إذا كانت المسألة من اختصاصه.»
وصاح فون دايتز وهما خارجان: «إن المسألة لا يمكن أن يسمح لها بالانتهاء عند هذا الحد.»
ونادت ليدا أخاها من غرفتها: «فولودجا.»
فوقف سانين وسألها: «ماذا؟»
أجابت: «تعال فإني أريد أن أحادثك.»
فدخل سانين غرفة ليدا وكان العطر يفغم الأنف فيها فقال سانين: «ما أحلى أن يكون المرء هنا!» وكانت ليدا تواجه النافذة والأضواء المعكوسة عن الحديقة تضطرب على خديها وكتفيها.
فسألها سانين برفق: «ماذا تريدين مني؟»
فصمتت ليدا وأسرعت أنفاسها.
فسألها ثانية: «ما الخبر؟»
فقالت بصوت أجش ولم تلتفت إليه: «ألا تنوي أن تبارزه؟»
أجابها: «كلا.» فصمتت ليدا وقال سانين: «وماذا إذن؟»
فاضطربت ذقن ليدا والتفتت إليه بسرعة وقالت: «إني لا أفهم هذا ... لا أستطيع أن ...»
فقاطعها سانين متجهما وقال: «إذن فإن أسفي عليك عظيم.»
وأحس أن الغباء والشر يحيطان به من كل جانب، وغاظه أن يجد هذه الصفات في الأشرار والأخيار والقباح والحسان على السواء، فاستدار وخرج.
وراقبته ليدا وهو يخرج ورأسها بين يديها، ثم ألقت بنفسها على السرير وامتدت ضفيرتها السوداء الطويلة على الغطاء الأبيض، فبدت في هذه اللحظة على الرغم من يأسها أصبى وأينع.
وكانت النافذة ترسل النور والحرارة والعطر، ولكن ليدا لم تلتفت إلى شيء من هذا.
كان الوقت أصيلا بارع الجمال ومساء من تلك المسى التي تفيضها على الأرض في أخريات الصيف قبة السماء اللازوردية، وكانت الشمس قد مالت صوب المغرب، ولكن الضوء كان وضاحا والجو صافيا رائقا والندى كثيرا والتراب الذي ثار في بطء يعقد شفوفا دون السماء. والأصوات تسبح هنا وها هنا كأنما تحملها أجنحة سريعة.
وكان سانين يسير في الطريق المعفر ورأسه عار، وعلى جسمه قميصه الأزرق حائل اللون قليلا عند الكتفين ثم مال إلى درب كثير النجائل ميمما بيت إيفانوف.
وكان إيفانوف جالسا عند النافذة عريض الكتفين بادي الجد وشعره الطويل مرسل عن جبهته إلى يافوخه، وأمامه الطباق يصنع منه لفائف، والحديقة ترسل إليه النسيم رطبا بليلا، وأوراق الأشجار أمامه يومض فيها الطل، ورائحة الطباق القوية تغريه بالعطاس. فقال سانين ومال على حافة النافذة: «عم مساء لقد طلب إلي اليوم أن أبارز.»
فأجابه إيفانوف غير محتفل: «أي فكاهة هذه؟ تبارز من؟ ولماذا؟ فقال سانين: «سارودين. فقد طردته من البيت فعد هذه إهانة.» فقال إيفانوف: «إذن فسيكون عليك أن تلاقيه. دعنى أكون شاهدك وطير له أنفه.»
فقال سانين وهو يضحك: «لماذا؟ إن الأنف عضو جميل من وجه الإنسان. كلا، لن أبارزه.»
فهز إيفانوف رأسه موافقا وقال: «هذا شيء حسن. والمبارزة بعد لا ضرورة إليها أبدا.»
فقال سانين: «ولكن أختي ليدا لا ترى هذا الرأي.»
فأجابه إيفانوف: «ذلك لأنها أوزة ورهاء (حمقاء). ما أكثر السخافات التي يؤمن بها الناس!»
وفرغ من آخر لفافة وأشعلها ووضع الباقية في علبة ونفخ بقايا الطباق عن النافذة ووثب منها وانضم إلى سانين وسأله: «ماذا نصنع هذا المساء؟» فقال سانين مقترحا: «لنذهب إلى سلوفتشك.» فقال إيفانوف: «لا لا!»
فقال سانين: «لماذا؟!» فقال إيفانوف: «لا أحبه؛ إنه كالدودة.» فهز سانين كتفيه وقال: «ليس شرا من غيره، هيا بنا.» فقال إيفانوف: «حسن، هيا بنا.» وكان لا يمتنع عن شيء يقترحه سانين فمضيا معا. ولكن سلوفتشك لم يكن في البيت، وكان الباب موصدا والفناء موحشا وليس به إلا «سلطان» يجرجر سلسلة طوقه فنبحهما فقال إيفانوف: «يا له من مكان موحش. دعنا نذهب إلى الميدان.»
فعادا ونبحهما الكلب مرتين أو ثلاثا ثم أقعى أمام مبيته.
وراح ينظر إلى الفناء المهجور الموحش وإلى الطاحونة الصامتة وإلى آثار الأقدام على الحشائش المعفرة.
وكانت فرقة الموسيقى تعزف في الميدان على عادتها والنسيم يهب عليلا والمتنزهون كثر تسير جموعهم إلى الحدائق الظليلة تارة وإلى المدخل الحجري الضخم أخرى.
وما كان سانين وإيفانوف يدخلان وذراعاهما مشتبكتان حتى لقيا سلوفتشك وكان يسير وهو مطرق ويداه وراء ظهره فقال سانين: «لقد مررنا الساعة بدارك.»
فاحمر وجه سلوفتشك اإبتسم وقال مجيبا: «أسألك العفو. وإني لعظيم الأسف ولكنه لم يخطر لي قط أنك ستزورني اليوم وإلا للزمت البيت. لقد خرجت طالبا للرياضة قليلا.» والتمعت عيناه.
فقال له سانين بلهجة العطف وأمسك بذراعه: «تعال معنا.» وكأنما ابتهج سلوفتشك فأطبق على ذراعه ودفع قبعته إلى قفاه، وسار معهما وكأنه ممسك بشيء ثمين لا بذراع سانين، وكان يخيل إليك أن فمه يصل من أذن إلى أذن.
وكان رجال الفرقة حمر الوجوه منتفخي الخدود يرسلون أصوات آلاتهم النحاسية المصمة ويحثهم رئيسهم ملوحا بعصاه بحماسة. وحول الفرقة طوائف من الكتبة وعمال الحوانيت والصبيان والبنات وعلى أجيادهم مناديل زاهية الألوان. وفي طرقات الحديقة وممراتها طائفة مرحة من الضباط والطلبة والسيدات.
وما لبث أصحابنا الثلاثة أن قابلوا ديبوفا وشافروف ويوري فتبادلوا معهم البسمات. وبعد أن طافوا بأرجاء الحديقة كلها قابلوا سينا كرسافينا فانضمت إليهم وسألتها ديبوفا: «لماذا تسيرين وحدك؟» وقال بعضهم: «تعالي معنا.»
واقترح شافروف: «ميلوا بنا إلى ناحية منعزلة؛ فإن الزحام هنا شديد.» فمالوا إلى مكان أهدأ وأكثر ظلا وهم يضحكون ويتحدثون. ولما بلغوا آخره وهموا أن يعرجوا على سواه التقوا بسارودين وتاناروف وفلوتشين، وأدرك سانين أن سارودين لم يكن يتوقع أن يلتقي به هنا وأنه اضطرب اضطرابا شديدا، فقد تجهم وجهه ومط جسمه. وضحك تاناروف ساخرا.
وقال إيفانوف لسانين: «إن هذا القرد الصغير لا يزال هنا.» ونظر إلى فلوتشين وكان هذا لم يرهم إذ كان في شاغل من سينا، وكانت سائرة في طليعتهم حتى لقد التفت وراءه لينظر إليها.
فقال سانين: «نعم لا يزال هنا.»
وظن سارودين أن تاناروف إنما يقصده هو بضحكه فتلوى كأنما كان جلد وثارت ثائرة غضبه وترك زميليه واندفع إلى سانين.
فقال سانين: «ماذا؟» وجد جده وعينه إلى سوط صغير في يد سارودين المرتجفة وقال لنفسه: «ما أحمقك!» وخامره العطف عليه والغضب منه، فقال سارودين بصوت مبحوح: «أريد أن أقول لك كلمة. هل تلقيت دعوتي؟»
فقال سانين وعينه ترصد كل حركة ليد الضابط: «نعم.»
فسأله سارودين: «وهل استقر رأيك على أن ترفض ... أن تعمل ما ينبغي لكل رجل محترم أن يعمله في مثل هذه الظروف؟»
وكان صوته متهدجا مخنوقا وإن كان عاليا حتى لأنكره هو نفسه، ولم تؤاته الشجاعة على التحول عن الطريق الذي أمامه.
فسكنت الحديقة فجأة كأنما لم يعد بها هواء ووقف الباقون من الناحيتين سكوتا مرتبكين منتظرين.
وحاول إيفانوف أن يتدخل فقال: «أوه! أي شيطان ...»
فقاطعه سانين موجها كلامه إلى سارودين وقال بصوت غريب في هدوئه واتزانه وهو يحدق في عينه: «أرفض بالطبع.»
فأسرعت أنفاس سارودين كأنه يرفع ثقلا جسيما، وسأله مرة أخرى بصوت رنان: «أسألك مرة أخرى - هل ترفض؟»
فاصفر سلوفتشك وقال لنفسه: «وا أسفاه إنه سيضربه.»
ثم تمتم وهو يحاول أن يحمي سانين: «ماذا؟ ماذا جرى؟»
فلم يلتفت إليه سارودين ودفعه عنه بخشونة ولم ير أمامه إلا عين سانين الهادئتين الباردتين.
وقال سانين بنفس هذه اللهجة: «لقد قلت لك هذا مرة.»
فماج كل شيء في نظر سارودين وسمع خلفه أقداما سريعة الخطى وصرخة امرأة وأحس من اليأس ما يحسه من يسقط في هاوية فلوح في الهواء بسوطه.
وفي هذه اللحظة نفسها جمع سانين كل قوته ولكمه في وجهه بجمع يده فصاح إيفانوف ولم يملك نفسه: «حسن!»
فتدلى رأس سارودين على كتفه وفاض على أنفه وفمه شيء حار أحس له وخزا في دماغه وعينيه، وتوجع وسقط على يديه، وأفلت السوط من كفه وزلت قبعته عن رأسه ولم ير شيئا ولا سمع شيئا. ولا شعر إلا بالفضيحة الشنيعة وبالألم الكاوي في عينيه. وصرخت سينا: «يا إلهي!» وأمسكت رأسها بكلتا يديها وأغمضت عينيها. واستفظع يوري منظر سارودين وهو راقد على يديه ورجليه. فاندفع إلى سانين ووراءه شافروف. أما فلوتشين فزلت نظارته عن أنفه لما تعثر وعدا بأسرع ما يستطيع على النبات البليل حتى اسودت سراويله البيضاء الناصعة إلى الركبتين.
وقرض تاناروف أضراسه هائجا وتقدم مثل يوري، ولكن إيفانوف أمسك بكتفه ورده. فقال سانين باحتقار: «هذا حسن، دعه يقبل.» وكان واقفا ورجلاه منفرجتان وأنفاسه بطيئة والعرق يتصبب عن جبينه.
ونهض سارودين بطيئا وندت عن شفتيه الوارمتين المرتجفتين ألفاظ وعيد خافتة غير مفهومة رآها سانين غاية السخافة والبله.
وكان الجانب الأيسر كله من وجه سارودين قد انتفخ وورم ولم تعد عينه ترى والدم يسيل من فمه وأنفه وجسمه كله يرعد كأنما ترعشه الحمى. ولم يبق شيء من ذلك الضابط الرشيق الوسيم.
فقد سلبته هذه اللكمة الفظيعة كل مظهر إنساني، ولم تدع إلا كتلة مشوهة مستبشعة تبعث على العطف والمرثية، ولم يحاول أن يمضي أو أن يدافع عن نفسه، وجعلت أسنانه تصطك وهو يبصق الدم ونفض الرمل عن ركبتيه ثم دار رأسه فمال إلى الأمام وسقط على الأرض مرة أخرى.
فصاحت سينا: «ما أفظع هذا! ما أشنعه!» وأسرعت فغادرت المكان. وقال سانين لإيفانوف: «هيا بنا.» ونظر إلى السماء حتى لا تقع عينه على هذا المنظر البشع.
فقال إيفانوف: «وتعال معنا يا سلوفتشك.»
ولكن سولوفتشك لم يتحرك بل ظل يحدق في سارودين وفي الدم والرمل القذر على ثيابه البيضاء وهو يرجف وشفتاه تختلجان.
فجره إيفانوف بعنف ولكن سلوفتشك دفعه بحدة عجيبة ثم التصق بجذع شجرة كأنما يريد أن يقاوم من يجره بالقوة.
وقال: «لماذا؟ لماذا فعلت هذه الفعلة؟»
وصاح يوري في وجه سانين: «ما أنذل هذا العمل!»
فأجابه سانين وعلى فمه ابتسامة ساخرة: «نعم نذالة! هل كان يكون خيرا في رأيك لو تركته يضربني؟» ثم أشار بيده وحث خطاه ورمى إيفانوف إلى يوري نظرة ازدراء وأشعل سيجارة وتبع سانين على مهل، وقال له ظهره العريض وشعره المصقول: «ما أقل ما أثر فيك هذا المشهد!» وقال هو لنفسه: «ما أقدر الإنسان على أن يصير وحشا!»
ونظر سانين وراءه مرة ثم مضى مسرعا.
وقال يوري وهو يمضي: «مثل الوحوش تماما.»
وتلفت وراءه فإذا الحديقة التي كانت جميلة لطيفة قد صارت بعد الذي وقع مكانا موحشا جهما معزولا عن سائر العالم .
وتنفس شافروف الصعداء وتلفت من وراء نظارته في كل جهة كأنما يتوقع أن تتكرر هذه الفظيعة في أية لحظة.
الفصل السابع والعشرون
تغيرت حياة سارودين كل التغير في لحظة، كانت رحبة سلسة كلها مرح، فعادت الآن مشوهة لا تحتمل، وسقط القناع الضاحك وبدا وجه الوحش الدميم.
وكان تاناروف قد حمله إلى مسكنه في مركبة، فجعل في الطريق يبالغ في التألم والتظاهر بالضعف حتى لا يفتح عينيه، وبذلك ظن أن يجتنب تعيير آلاف العيون له كلما وقعت عليه، وكان يخيل إليه أن ظهر السائق والمارة والوجوه المتطلعة من النوافذ وذراع تاناروف حول خصره. كل ذلك ليس إلا عبارات صامتة عن الاحتقار. ولج به هذا الشعور المؤلم حتى كاد يغشى عليه، فأحس أن رشده يكاد يعزب وتمنى الموت، وأبى أن يعترف بالواقع وظل يعالج أن يتصور أن هناك خطأ أو سوء تفاهم وأن خطبه ليس من الهول بحيث يتصور. ولكن الحقيقة الواقعة بقيت كما كانت، فصار يأسه أظلم.
وشعر سارودين بأن أيديا تساعده وأنه يتألم، وأن يديه ملوثتان بالدم والأقذار، وعجب لنفسه كيف لا يزال يشعر بهذا، وكانت المركبة ربما مالت إلى طريق آخر عند ركن حاد فيفتح عينيه ويرى ما ألف من الشوارع والمنازل والناس والكنيسة، كل شيء كما كان لم يلحقه تغيير، ولكن كل شيء كان يبدو له غريبا مناصبا. وكان المارة يقفون ويحملقون فيغمض سارودين عينيه خجلا ويأسا. وكأن الطريق لا آخر له، ثم تصور وجوه خادمه وربة البيت والجيران، فود لو يطول الطريق إلى غير نهاية وأن يظل ماضيا هكذا إلى غير غاية وعيناه مغمضتان.
وكان تاناروف أعظم ما يكون استفضاحا لهذا الموكب، فجعل ينظر أمامه وهو مضطرب أحمر الوجه، وحاول أن يوقع في روع النظارة أنه لا شأن له على الإطلاق بهذه المسألة. وكان في أول الأمر يدعي العطف على سارودين ثم لم يلبث أن لزم الصمت، وربما استحث السائق من حين إلى حين وأسنانه مطبقة، فأدرك سارودين من هذا ومن تراخي ذراعه حوله بل من دفعه به أحيانا، ما يحسه تاناروف، وجاء إدراكه هذا أن رجلا كتاناروف دونه بمراحل صار يخجل منه مغريا له بالاعتقاد أن كل شيء قد انقضى. ولم يستطع سارودين أن يجتاز فناء الدار بغير معين، فكان على تاناروف والخادم المذهول أن يحملاه، ولم ير سارودين غيرهما، ثم وضعاه على الفراش ووقفا أمامه مترددين لا يعلمان ماذا يصنعان، فهاج ذلك سارودين، ولما عادت إليه نفسه جاء الخادم بماء ساخن ومنشفة وغسل له وجهه ويديه، وكان سارودين يتجنب عينه، ولكن وجه الخادم لم يكن فيه شيء من دلائل الشر أو الزراية، ولم يكن المرء يقرأ فيه سوى آيات العطف والقلق وهو يتمتم: «كيف حدث ذلك يا سيدي؟ وا أسفاه! وا أسفاه؟ ماذا فعلوا به؟» فصاح تاناروف مغضبا: «هذا ليس شأنك.» وتلفت حوله مضطربا ثم مضى إلى النافذة وأخرج سيجارة ولكنه تردد ولم يدر أيليق به وسارودين ملقى هناك أن يشعلها فردها إلى موضعها من العلبة ودفعها في جيبه.
وقال الخادم ولم يصدمه ما أصابه من سوء الرد: «هل أدعو الطبيب.» فمد تاناروف أصابعه مترددا وقال: «لا أدري» بصوت آخر غير الأول وأدار وجهه، وسمع سارودين هذه الكلمات واستهول أن يرى الطبيب وجهه المحطم فتمتم بضعف: «لا أريد أحدا.» كأنما يعالج أن يقنع نفسه وغيره أنه سيموت. ولما طهر وجهه من الدم والأقذار لم يعد بشعا بل لعله صار أبعث على العطف. فنظر تاناروف مسرعا ثم صرف عنه عينه، ولمح سارودين هذه الحركة على خفائها وناله منها ألم ويأس لا سبيل إلى العبارة عنهما، فأطبق جفونه وصاح بصوت متقطع تخنقه العبرات: «اتركاني أوه! أوه!»
فرماه تاناروف بنظرة أخرى وتملكه السخط عليه والاحتقار له وقال لنفسه بارتياح خبيث: «إنه يهم فعلا بالبكاء.»
وكان سارودين مغمضا عينيه هادئا فنقر تاناروف بأصابعه على حافة النافذة ولوى شاربيه وتلفت حوله ثم أطل من النافذة واشتاق أن يخرج ولكنه قال لنفسه: «لا أستطيع ذلك الآن. ما أمله! الأوفق أن أبقى حتى ينام.»
ومضى ربع ساعة أخرى وسارودين لا يهدأ وتاناروف على أحر من الجمر قلقا. وأخيرا هدأ ولم يعد يتحرك فسر تاناروف وقال: «آها! لقد نام. نعم وأنا واثق من ذلك.»
ومشى بحذر وخفة حتى لم يسمع صوت مهمازه، ولكن سارودين فتح عينيه فجأة. فوقف تاناروف وأدرك سارودين ما انتواه صاحبه وعرف تاناروف أنه افتضح. ثم حدث أمر غريب: أغمض سارودين عينيه وادعى النوم وحاول تاناروف أن يقنع نفسه بأن صاحبه نائم وإن كان على يقين جازم بأنه يراقبه ويرصد حركاته. وهكذا زحف من الغرفة وهو منحن يحس كأنه خائن محكوم عليه.
وأغلق الباب وراءه في رفق. وكذا انبتت روابط الصداقة التي كانت بينهما إلى الأبد. وأحس كلاهما أن هاوية لا سبيل إلى تخطيها قد احتفرت بينهما. وأنهما صارا غريبين.
ولما صار تاناروف في الغرفة الخارجية تنفس بحرية، ولم يأسف على انقطاع الصلة بينه وبين من قضى كثيرا من سني حياته معه. وقال للخادم على سبيل المداراة: «اسمع. سأذهب الآن. وإذا جد شيء ... إنك تفهم ...»
أجاب: «حسن جدا يا سيدي.» - «أنت الآن تعرف، غير الضمادات كثيرا.»
وأسرع إلى السلم ومنه إلى بوابة الحديقة ثم أخرج نفسا عميقا طويلا لما رأى الشارع الساكن العريض، وكان الظلام قد زحف فسره أن لا يستطيع أحد أن يرى احتقان وجهه.
وقال لنفسه: «من يدري! قد يزجون بي في هذه المسألة الفاضحة؟ ولكن ما شأني بها؟»
وهبط قلبه في صدره لما بلغ الميدان وحاول أن يهدئ روعه وأن ينسى أن تاناروف دفعه بقوة حتى كاد يسقط إلى الأرض. «إلى الشيطان بها! ما أشأمها حادثة! إن سببها كلها سارودين لماذا راح يصاحب مثل هذا الوحش؟»
وكان مستعدا أن يلمح في وجوه المارة أمارات السخرية والتهكم، فلو تعرض له أحد لاستل سيفه. ولكنه لم يلق إلا قليلين كأنهم الظلال المتنقلة يمضون مسرعين. ولما بلغ البيت صار أهدأ وكر ذهنه إلى صدمة تاناروف فقال: «لماذا لم أضربه؟ لقد كان يجب علي أن ألكمه على فكه. وكنت أستطيع أن استعمل سيفي. وكان في جيبي مسدسي أيضا. ولقد كان يجب أن أقتله به كالكلب. ألا كيف نسيت المسدس؟ من يدري عسى أن يكون هذا خيرا ولنفرض أني قتلته؟ إذن كانت المسألة تصبح في أيدي البوليس ولعل بعض الموجودين كان معه مسدس أيضا. حالة لطيفة أليس كذلك؟ وعلى كل حال فلا يعلم أحد أنه كان معي سلاح. وستنسى المسألة تدريجيا.»
وتلفت تاناروف بحذر وهو يخرج مسدسه ويضعه على المنضدة وقال: «يجب أن أذهب إلى الكولونول حالا وأن أفهمه أن لا شأن لي بهذا الموضوع ولا دخل لي فيه.» وأغلق الدرج على المسدس ثم نازعته نفسه أن يذهب إلى نادي الضباط وأن يصف الحادثة وصف شاهد عيان، وكان الضباط قد سمعوا بها في الحدائق العامة فارتدوا مسرعين إلى ناديهم ليطلقوا العنان لسخطهم. وكانوا في الحقيقة قد سرهم ما أصاب سارودين لأن رشاقته وأناقته في ملبسة وهيئته كثيرا ما ضيعتاهم.
فاستقبلوا تاناروف بالترحيب وبالرغبة الصريحة في الاستطلاع، وأحس هو أنه بطل الساعة وهو يفصل الحكاية لهم، وكان المرء يلمح في عينه نظرة مقت لصديقه الذي كان دائما يفوقه. وذكر حادثة القرض ووقوف سارودين منه موقف المتنازل فانتقم لنفسه منه بأن أفاض في وصف ما أصابه من الهزيمة. •••
وفي خلال ذلك كان سارودين وحده على فراشه. وعلم خادمه بما أصابه من الناس فجعل يتنقل في سكون ورفق وهو قلق حزين. وأعد أدوات الشاي وجاء بقليل من النبيذ وطرد الكلب الذي جعل يثب فرحا بعودة سيده ثم قال بعد برهة: «سيدي يحسن بك أن تتناول قليلا من النبيذ.»
ففتح سارودين عينيه وقال: «ماذا؟» وأغمضهما، وبجهد ما استطاع أن يحرك شفتيه وأن يطلب المرآة.
فتنهد الخادم وجاءه بها ورفع له شمعة أمامها. وقال لنفسه: «ترى لماذا يريد أن ينظر إلى وجهه؟»
فنظر سارودين في المرآة ثم صرخ مكرها، فقد رأى أمامه وجها مشوها مسيخا أحد جانبيه أسود أزرق وعينه منتفخة وشاربه كالأشواك على خده الوارم. «خذها عني! خذها!» وبكى «إلي بشيء من الماء.»
فقال الخادم وهو يقدم إليه الماء في كوب لزج تفوح منه رائحة الشاي : «سيدي لا تأس على ما نزل، كل شيء سيعود كما كان.»
ولم يستطع سارودين أن يشرب وجعلت أسنانه تصطك بزجاج الكوب وأريق الماء على ثيابه.
فتوجع وقال بضعف: «اذهب» وخطر له أنه ما من أحد في الدنيا يعطف عليه غير هذا الخادم، ولكن الرقة التي أحسها قلبه نحو خادمه عفى عليها الشعور بأنه محل للمرثية حتى من الخادم.
فخرج الخادم وعيناه مغرورقتان وجلس على السلم المؤدي إلى الحديقة. وتمسح به الكلب وحك أذنه بركبته ورفع إليه وجهه مستفسرا، فمسح الخادم شعره في رفق، وكانت النجوم مضيئة في السماء فتوجست نفسه خيفة وأحس أن كارثة ستقع. وذكر قرينه وأهله فقال: «إن الحياة كلها أسى وكرب.»
وانقلب سارودين في فراشه ولم ينتبه إلى أن الضمادة زلت عن وجهه لما دفئت وتمتم: «قد انقضى كل شيء! حياتي كلها ذهبت. لماذا؟ لأني أهنت - ضربت كالكلب - ضرب وجهي بلكمة! ألا لن أستطيع البقاء في فرقتي. أبدا، أبدا.»
ومثلت لعينه صورته كأوضح ما تكون وهو يحبو على يديه ورجليه، ذليلا مهينا مضحك الهيئة. يخرج وعيدا سخيفا. وظل مرة بعد أخرى يحضر إلى ذهنه تفاصيل ما جرى له، وكلما تمثله طغى به الألم ولكن أوجع ما آلمه تذكر ثوب سينا كرسافينا وكان قد لمحه في اللحظة التي كان يقسم فيها أن ينتقم.
ثم حاول أن يدفع خواطره في مجرى آخر فقال: «من الذي رفعني؟ أهو تاناروف؟ أم ذلك اليهودي الذي كان واقفا معه؟ لا بد أن يكون تاناروف على أن هذا لا يهم. إنما المهم أن حياتي انهارت وأن علي أن أترك فرقتي والمبارزة، ما القول في هذا؟ لقد انتصر علي. فلا بد من تركي الفرقة.»
وذكر سارودين أن لجنة إحدى الفرق أكرهت ضابطين متزوجين على الاستقالة لأنهما رفضا المبارزة. «وسيطلب إلي أن أستقيل كذلك بكل أدب، بدون مصافحة، لن يباهي أحد الآن بأن يرى معي في الميدان. أو يحسدني أحد أو يحاكيني. ولكن هذا لا شيء. إنما المهم هو العار. لماذا؟ ألأني لكمت على وجهي ؟ لقد جربت ذلك من قبل لما كنت تلميذا في المدرسة الحربية فضربني ذلك الرجل الضخم - شفارتز - وأطار أحد أسناني. ولم ير أحد في هذا عارا. ولكنا تصافحنا بعد ذلك وصرنا خير الأصدقاء. ولم يحتقرني أحد يومئذ. فلماذا يكون الأمر الآن غير ذلك؟ إن الحادثتين سواء على التحقيق. ولقد سال دمي يومئذ وسقطت على الأرض. وعلى هذا ...»
ولم يجد سارودين جوابا مريحا على هذه الأسئلة التي يبعثها اليأس: «لو أنه كان قبل دعوتي وضرب وجهي بالرصاص لكان هذا شرا وأوجع. ولكنه لم يكن يحتقرني أحد حينئذ بل على العكس كنت أفوز بالعطف والإعجاب، فهناك فرق بين الرصاصة واللكمة. أي فرق؟ ولماذا يكون هناك فرق؟»
وتتابعت خواطره سريعة غير منتظمة ولكن آلامه ومصيبته حركت على ما يظهر شيئا جديدا كامنا في نفسه لم يكن يشعر به في أيام هنائه ومرحه. «إن فون دايتز مثلا كان دائما يقول: «إذا ضربك أحد على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر.» ولكن على أي حال من الهياج عاد من بيت سانين اليوم؟ عاد يصيح مغضبا ويلوح بذراعيه لأن سانين أبى أن يبارزني! إن الحقيقة أنه غير ملوم على تقصيري في جلده وقد أخطأت في أني لم أجلده في الوقت المناسب. إن الأمر كله ظلم. على أن هذا هو الواقع والفضيحة باقية. وسيكون واجبي أن أترك الفرقة.»
وضغط سارودين بكلتا يديه على جبينه المتصدع وجعل يتقلب ويتلوى لأن ألم عينه كان مما يطير له العقل، ثم تمتم وهو هائج: «أتناول مسدسا وأهجم عليه وأطلق على رأسه رصاصتين. وهناك وهو ملقى على الأرض أدوس بقدمي على وجهه وعينيه وأسنانه ...»
وسقطت الضمادة إلى الأرض وسمع سارودين صوتها ففزع متراجعا وفتح عينيه فأبصر حوض ماء ومنشفة ورأى النافذة المظلمة كأنها العين المرعبة تحدق فيه. فقال: «لا لا! لم تعد في الأمر حيلة الآن. لقد رأى الناس جميعا ما حدث وأبصروني وأنا أزحف على يدي ورجلي آه! يا للفضيحة والعار! ضربت على وجهي! كلا! إن هذا أكثر مما يحتمل. ولن أكون حرا أو سعيدا مرة أخرى.»
ثم أضاء في ذهنه خاطر جديد حاد. «ومع ذلك فهل كنت حرا في يوم من أيام حياتي؟ كلا! هذا هو السبب فيما يكربني ويحزنني الآن لأن حياتي لم تكن حرة، لأني لم أعش على النحو الذي يروقني. ولو أن إرادتي كانت حرة طليقة أكنت أطلب أن أبارز رجلا أو كانت نفسي تنازعني أن أجلده بالسوط؟ لو كنت حرا لما لكمني أحد. من أول من تخيل ومتى تخيل أن الإهانة لا يغلسها إلا الدم المراق؟ لست أنا على التحقيق. ولقد غسلتها أو هي غسلت في الحقيقة بدمي أليس كذلك؟ ولست أدري ما معنى هذا كله، ولكن الذي أدريه أني مضطر أن أترك فرقتي.»
وكان يود لو اتجهت خواطره إلى ناحية أخرى ولكنها كانت كالطيور المهيضة المقصوصة الأجنحة لا تزال ترجع وتكر إلى حقيقة واحدة مركزية هي أنه أهين وأنه مضطر أن يغادر الفرقة.
وذكر أنه رأى مرة ذبابة سقطت في شراب مراق فجعلت تزحف على الأرض وتجر أرجلها اللزجة وأجنحتها بأقصى صعوبة، وكان من الواضح أن الذبابة المسكينة لا مفر لها من الموت، وإن كانت لا تزال تجاهد وتبذل جهودا عنيفة لاسترداد حرية أرجلها. ولقد أشاح يومئذ عنها بوجهه مشمئزا، فالآن مثلت لعينيه كأنه محموم يحلم. ثم ذكر قتالا دار بين فلاحين أهوى أحدهما على وجه صاحبه بضربة مرعبة طرحته على الأرض وكان شيخا أبيض الشعر.
فنهض ومسح أنفه الدامي بكمه وصاح: «يا لها من حماقة.»
ثم قال نعم أذكر أني رأيت هذا وأنهما شربا معا في حان «الكرون.»
ومضى الليل إلا قليلا، فكأن سارودين في سكونه الثقيل الوطأة الحي الشقي الوحيد فوق ظهر الأرض، وكانت الشمعة لا تزال موقدة على المنضدة. ولكنه كان غارقا في ظلام خواطره المضطربة فكان يرمقها بعين محمومة.
وكان في هذه الفوضى - فوضى الذكريات والخواطر - يرى شيئا واضحا هو الإحساس بوحدته إحساسا له وقع الخنجر في قلبه. وكان يحدث نفسه أن ملايين من الناس في هذه اللحظة يقطفون أزهار الحياة ويضحكون ويمزحون ، ولعل بعضهم يتحدثون عنه وليس وحيدا سواه. وحاول عبثا أن يذكر الوجوه التي ألفها، فلم تبد له إلا صفراء باردة منكرة وفي عيونها نظرة استطلاع وشماتة. ثم ذكر ليدا فمثلت لخياله كما رآها آخر مرة؛ عينها الواسعة الحزينة، والصدرية الرقيقة التي تشف عن ثدييها الناعمين وشعرها ضفيرة واحدة. ولم ير سارودين في وجهها لا مقتا ولا احتقارا. بل كانت عيناها تنظران إليه نظرات العطف والأسى. وذكر كيف ردها في أظلم ساعات حزنها، فأحس لفقدها وقع السكين واتجهت إليها روحه كأنها آخر ملجأ ومعاذ واشتاق عطفها وحنانها، وخيل إليه هنيهة أن آلامه ستعفى على الماضي وتمحوه، ولكنه لم يكن يخفى عنه أن ليدا لن تعود إليه، وأن ما بينهما قد مضى وانقضى، وأنه لم يبق أمامه سوى فراغ هائل.
فرفع ذراعه وضغط بكفه على جبينه، وظل كذلك لا يتحرك وعيناه مغمضتان وفمه مطبق وراح يعالج أن لا يرى شيئا وأن لا يسمع شيئا وأن لا يحس شيئا، ولكن يده انحدرت عن جبينه بعد قليل فجلس واشتد الصداع، وعاد لسانه وكأن فيه نارا وارتجف من فرعه إلى قدمه ثم نهض ومشى إلى المنضدة وهو يقول: «لقد فقدت كل شيء؛ حياتي وليدا ... كل شيء.»
وخطر له أن هذه الحياة التي قضاها لم تكن لا صالحة ولا سعيدة ولا رشيدة بل حياة خرق وسفالة وشر. وأن سارودين - الوسيم الخليق بخير متع الدنيا وأحلاها - لم يعد له وجود، وأنه لم يبق منه إلا جسم ضعيف يحمل كل هذا العار والألم. «إن البقاء مستحيل لأن معناه إمحاء الماضي ولا بد لي من حياة جديدة، ومن أن أصبح رجلا آخر، وهذا ما لا طاقة لي عليه.»
وسقط رأسه على المنضدة وظل كذلك - في ضوء الشمعة الضعيف المضطرب - لا يتحرك.
الفصل الثامن والعشرون
ذهب سانين إلى سلوفتشك في نفس هذه الليلة، وكان هذا اليهودي جالسا وحده على سلم بيته ينظر إلى المكان الموحش العاري الذي أمامه. وما كان أشجى منظر الخصاص الفارغة الصدئة الأقفال ونوافذ الطاحون السوداء ! لقد كان المنظر كله ناطقا بنضوب الحياة والجزر في مدها الأول.
ولم يفت سانين هذا التغير في ملامح سلوفتشك، فقد كان لا يبتسم، وكانت نظرته قلقة مضطربة وعيناه تتساءلان وقال: «آه! عم مساء.» وتناول يد سانين ثم استأنف التحديق في السماء الساكنة. وجلس سانين إلى جانبه على السلم وأشعل سيجارة وجعل يراقب سلوفتشك في صمت ويجد لذة في درس هذه الحالة الغريبة، ثم قال بعد برهة: «ماذا تصنع بنفسك هنا؟»
فإذا سلوفتشك يحرك عينيه الحزينتين الواسعتين إليه في فتور ويقول: «إني أعيش هنا، وكانت عادتي أن أكون في المكتب أيام كانت الطاحون دائرة. ولكنها الآن مغلقة وقد ذهب كل امرئ سواي.» فسأله سانين: «ألا تحس وحشة الوحدة هنا؟»
فصمت سلوفتشك ثم هز كتفيه وقال: «سواء عندي كل شيء.» وسكتا برهة فلم يكن يسمع إلا صوت سلسلة الكلب ثم قال سلوفتشك بحدة مفاجئة: «إن المكان ليس موحشا بل الموحش هو هذا وهذا.» وأشار إلى رأسه وصدره.
فسأله سانين في هدوء «ما خطبك؟»
فقال سلوفتشك وزاد حماسة: «اسمع لقد ضربت اليوم رجلا وحطمت له وجهه. وربما كنت قد قضيت على حياته. ولا يسوءك كلامي هذا. لقد فكرت كثيرا في هذا كله وأنا جالس هنا كما ترى أعجب وأعجب، والآن هل إذا سألتك عن شيء تجيبني؟» فقال سانين بعطف: «سلني ما بدا لك. أتخشى أن تسيء إلي؟ إني أؤكد لك أن هذا لا يسيئني. إن ما وقع وقع. ولو كنت أعتقد أني أسأت لكنت أول من يقر ويعترف.»
فقال سلوفتشك وهو يرتعش: «أريد أن أسألك: هل تدرك أنك ربما كنت قد قتلت هذا الرجل؟»
فأجابه سانين: «لا يكاد يكون هناك شك كبير في هذا، فإن من الصعب على رجل مثل سارودين أن يتخلص من هذه الورطة دون أن يقتلني أو أن أقتله. أما حيث قتله لي فقد أفلتت منه اللحظة المناسبة، وهو الآن في حالة لا تسمح له بإيذائي، ولن تؤاتيه الشجاعة فيما بعد، لقد انتهى دوره.» - «وتقول لي هذا بكل هدوء؟»
فسأله سانين : «ماذا تعني بالهدوء؟ إني لا أستطيع أن أنظر في هدوء إلى فرخ يقتل فضلا عن إنسان. ولقد آلمني أن أضربه، نعم إن شعور الإنسان بقوته لذيذ، ولكنها على هذا تجربة فظيعة، فظيعة لأن مثل هذا العمل في ذاته وحشي. غير أن ضميري هادئ، لأني لم أكن إلا أداة القدر، وإنما حاق بسارودين ما حاق به لأن تيار حياته كلها كان لا بد أن ينتهي إلى كارثة. والعجيب أن غيره من أمثاله لا يصيرون إلى مثل مصيره. إنهم قوم يتعلمون أن يقتلوا أبناء جنسهم ولا يعرفون لماذا. إنهم مجانين بله! إذا خليت حبالهم على غواربهم قطعوا رقاب الناس ورقابهم كذلك، فهل ألام على أن حميت نفسي من مجنون من هذا النوع؟»
فأجابه سلوفتشك بعناد: «نعم ولكنك قتلته.»
فقال سانين: «إذن فتوجه إلى الله الذي قدر لنا اللقاء.» «كان يسعك أن تمنعه بأن تمسك كلتا يديه.»
فرفع سانين رأسه وقال: «إن المرء في هذه اللحظة لا يفكر. وكيف كان ذلك خليقا أن يمنع وقوع الشر؟ إن قانون الشرف عنده يطلب الانتقام بأي ثمن. ولم يكن يسعني أن أظل قابضا على يديه إلى الأبد. وما كان ذلك ليكون إلا إهانة جديدة.»
فلوح سلوفتشك بيديه ولم يجب وأطبق الظلام عليه وزال الشفق وعمقت الظلال، وصار المكان كأنما يتأهب لاستقبال كائنات مرعبة خفية، ولعل خطاهم الصامتة أقلقت الكلب فقد خرج من مبيته فجأة ورقد أمامه.
وقال سلوفتشك: «ربما كنت مصيبا. ولكن ألم يكن من ذلك مفر؟ ألم يكن خيرا أن تحتمل أنت اللطمة؟»
فقال سانين: «خيرا! إن الضرب شيء مؤلم فلماذا أحتمله؟ في أي سبيل؟»
فقاطعه سلوفتشك: «استمع إلي من فضلك كان هذا يكون خيرا.» فقال سانين: «لسارودين على التحقيق.»
فقال سلوفتشك: «لا بل لك. لك أنت.»
فأجابه سانين: «إيه يا سلوفتشك دعك من سخافة القول بالانتصار الأدبي. إنها فكرة غير صحيحة. ليس النصر الأدبي في أن تقدم خدك للضارب، بل في أن تكون على حق أمام ضميرك. فأما كيف يتأتى ذلك فمسألة مرجعها إلى المصادفة والظروف. إنه ليس أفظع من الاستعباد. وهو أفظع ما يكون حين تثور الروح على الإرغام والقوة، ولكنها تذعن على رغم ذلك باسم قوة أعظم منها وأعلى.»
فأمسك سلوفتشك برأسه كأنما يهم أن يطير عن جسمه وقال بلهجة شاكية: «ليس لي العقل الذي أفهم به هذا. ولست أدري كيف ينبغي لي أن أعيش.»
فقال سانين: «وما حاجتك أن تدري؟ عش كما تعيش الطيور؛ إذا أرادت أن تحرك جناحها الأيمن فعلت، وإذا شاءت أن تطير حول شجرة طارت وحومت.»
فأجابه سلوفتشك: «قد يستطيع الطائر ذلك ولكني لست بطائر بل إنسان.» فضحك سانين ورنت ضحكته في الفناء الموحش وهز سلوفتشك رأسه وقال: «كلا! هذا ليس إلا كلاما. وأنت أعجز من أن تبين لي كيف أعيش والناس مثلك عجزا وقصورا.» فقال سانين: «هذا صحيح وما يستطيع ذلك أحد. إن فن الحياة يتطلب الموهبة اللازمة له. وأحر بمن حرمته الطبيعة هذه الموهبة أن يفنى أو أن تعود حياته كالسفينة المحطمة.» فقال سلوفتشك: «ما أعظم هدوءك وأنت تقول هذا كأنك تعرف كل شيء! لا يسوءك قولي هذا - ولكن هل كنت دائما هكذا - هادئا دائما.»
فقال سانين: «كلا! وإن كان مزاجي هادئا في العادة، ولقد مر بى وقت تنازعتني فيه الشكوك من كل نوع. ولقد كنت أحلم في بعض أيامي بأن الحياة المسيحية هي المثل الأعلى.»
وأمسك سانين ومال إليه سلوفتشك كأنما يتوقع أن يسمع شيئا على أعظم جانب من الأهمية فقال سانين: «وكان لي في ذلك الوقت زميل - طالب رياضة - اسمه إيفان لاند وكان رجلا عجيبا نصيبه من قوة الروح عظيم، وكان مسيحيا بفطرته لا عن اقتناع، فكانت حياته مرآة للمسيحية وصورة مجسدة لتعاليمها. إذا لطمه أحد لم يكر عليه باللطم، ولم يجاره في التعدي، وكان يعد كل رجل أخا له، ولا تثير المرأة في نفسه الإحساس الجنسي. هل تذكر سمينوف؟»
فهز سلوفتشك رأسه أن نعم وبه مثل اغتباط الطفل ومضى سانين في كلامه فقال: «كان سمينوف في ذلك الوقت مريضا جدا، وكان يعيش في القرم حيث يشتغل بالتدريس، فرمت به الوحدة وتوقع الموت، فسمع «لاند» بخبره فآلى أن يذهب إليه وأن ينقذ روحه، ولم يكن معه مال، ولم يكن ثم من يرضى أن يقرض مجنونا مشهورا شيئا من المال. ولكنه ذهب إليه مع ذلك مشيا على رجليه، وبعد أن قطع أكثر من ألف فرسخ قضى نحبه في الطريق، وهكذا ضحى بحياته في سبيل الناس.»
فصاح سلوفتشك وعيناه تلتمعان: «قل لي هل تقدر عظمة هذا الرجل؟» فأجابه سانين وعلى وجهه هيئة المفكر: «لقد تحدث الناس عنه كثيرا في ذلك الوقت. وكان البعض لا يعدونه مسيحيا وينحون عليه لهذا السبب. وقال غيرهم بل هو مجنون لا يخلو من الزهو، وأنكر آخرون أن له نصيبا من قوة الروح، ولما رأوه يأبى أن يقاتل فقد أنكروا أنه نبي أو فاتح! أما أنا فرأيي فيه غير ذلك. كان له في ذلك الوقت أعظم تأثير في نفسي. حتى لقد لكمني طالب على أذني فثار ثائري وكدت أجن. ولكن لاند كان واقفا أمامي فنظرت إليه، ولا أدري كيف حدث هذا، ولكني نهضت دون أن أتكلم وخرجت من الغرفة، وأحسست في أول الأمر شيئا من الزهو والمباهاة بما فعلت، ثم انقلبت أمقت هذا الطالب من أعمق أعماق نفسي، لا لأنه لكمني، بل لأن سلوكي معه لا بد أن يكون أرضاه كل الرضى، ثم اتضح لي شيئا فشيئا كذب موقفي وزوره، فشرعت أفكر، وقضيت أسبوعين وأنا كالذي ضاع عقله، وبعد ذلك زايلني الإحساس بالزهو والمباهاة بهذا النصر الأدبي الكاذب، وحدث أن هذا الطالب تهكم علي فجلدته حتى غاب عن رشده، فأفضى هذا إلى وقوع الجفوة بيني وبين لاند، ولقد فكرت في حياته تفكيرا نزيها فألفيتها فقيرة شقية إلى أقصى حد.»
فقال سلوفتشك: «كيف تقول هذا؟ كيف استطعت أن تقدر ثروة عواطفه الروحية؟»
فأجابه سانين: «إن عواطفه هذه واحدة مملة، ولقد كانت سعادته في حياته في تقبل كل مصيبة بدون تململ. وأما ثروته كلها فكان قوامها رفض لذات الحياة والمنافع المادية. لقد كان متسولا باختياره، وكان شخصا مضحكا ذهبت حياته في سبيل فكرة لم يكن يدركها على صورة واضحة.»
فضرب سلوفتشك كفا بكف وقال: «إنك لا تستطيع أن تقدر ألمي لسماع هذا الكلام.»
فقال سانين بلهجة المستغرب: «إنك يا صاحبي مضطرب الأعصاب جدا. لم أقل لك شيئا غريبا فلعل الموضوع مؤلم لك.»
أجاب: «مؤلم جدا. إني دائم التفكير حتى ليخيل إلي أحيانا أن رأسي سينفجر. فهل كان كل هذا خطأ لا أكثر؟ إني أتلمس طريقي كأني في غرفة مظلمة ولا أجد من يقول لي ماذا أصنع. لماذا نعيش؟ أجبني.»
فقال سانين: «لماذا؟ هذا ما لا يعرفه أحد.»
أجاب: «ألا نحيا للمستقبل ليفوز الناس في الأجيال الآتية بعصر ذهبي؟»
فقال سانين: «لن يتأتى هذا العصر الذهبي أبدا. ولو أن الدنيا صلحت والناس صلحوا في لحظة واحدة لكان من المحتمل أن يطلع فجر عصر ذهبي. ولكن هذا مستحيل؛ إن السير في طريق التحسن بطيء. والإنسان لا يستطيع أن يرى إلا الخطوة التي أمامه والخطوة التي وراءه مباشرة. ونحن لم نجرب حياة الرقيق الروماني ولا حياة المستوحشين في العصر الحجري، ولذلك لا نستطيع أن نقدر نعمة مدنيتنا، فإذا حدث أن عصرا ذهبيا مر بالعالم فإن أهله لن يجتلوا أي فرق بين حياتهم وحياة أجدادهم. إن الإنسان يسير في طريق لا آخر له يعرف، وليس من يريد أن يمهد الطريق ويسويها للسعادة إلا كمن يريد أن يضيف أرقاما إلى اللانهاية.» فسأله سلوفيتشك: «إذن فأنت تعتقد أن كل هذا لا معنى له. وأن كل شيء عبث؟»
أجاب سانين: «نعم هذا ما أرى.» فقال سلوفتشك: «ولكن ما قولك في صديقك لاند؟ لقد قلت إنك ...»
فقال سانين بلهجة الجد: «لقد كنت أحب لاند، لا لأنه كان مسيحيا، بل لأنه كان مخلصا، ولم يحد قط عن طريقه ولا أرهبته العقبات الكأداء أو السخيفة، فأنا كنت أقدره باعتباره شخصية، فلما مات لم يعد لقيمته وجود.»
فسأله سلوفتشك: «وهل تظن أن لمثل هؤلاء الناس تأثيرا في الحياة يجعلها أنبل؟ ألا يكون لأمثالهم أتباع أو تلاميذ.»
فقال سانين: «ولماذا تريدون أن تجعلوا الحياة أنبل؟ قل لي ما الداعي إلى ذلك أولا؟ واعلم ثانيا أن المرء لا يحتاج إلى التلاميذ، وإنما يكونون كذلك بفطرتهم مثل «لاند»، لقد كان المسيح رجلا رائعا، ولكن المسيحين نوتية مساكين. وما أجمل فكرته غير أنهم أحالوها شيئا جامدا لا حياة فيه.»
وتعب سانين من الكلام فسكت ولزم زميله الصمت كذلك، وكان السكون عميقا حولهما والنجوم فوقهما كأنما تديران حديثا صامتا لا آخر له. ثم همس سلوفتشك بشيء فزع له سانين وسأله: «ما هذا الذي تقوله؟»
فتمتم سلوفتشك: «قل لي رأيك. لنفرض أن رجلا لم يعد يرى الطريق واضحا وأنه لا يكف عن التفكير وتقطع قلبه به، وأن كل شيء يحيره ويفزعه، فقل لي ألا يكون خيرا له أن يموت؟»
فأجاب سانين وقد استشف ما في ذهن صاحبه: «ربما كان الموت في هذه الحالة خيرا، فإن التفكير وكد الذهن لا طائل تحتهما، ولا ينبغي أن يعيش سوى من يجد لذة في الحياة. أما الشقي فالموت خير له وأرفق به.»
فصاح سلوفتشك: «هذا رأيي أيضا.» ودفع يده إلى سانين وكانت عيناه في الظلام أشبه شيء بثقبين مظلمين. فقال سانين وهو ينهض: «إنك رجل ميت، وخير مكان للميت هو القبر. الوداع!»
وكأنما لم يسمعه سلوفتشك فظل لا يتحرك وتريث سانين قليلا ثم مضى في بطء. ولما بلغ البوابة وقف وأصغى ولكنه لم يسمع شيئا، وقال لنفسه وكأنما يرد على شعور باطن: «سواء أن يعيش هذا الرجل أو يموت. وسيموت غدا إذا لم يمت اليوم.»
وأغلق الباب فصر ومضى هو إلى الميدان، فأخذت عينه شخصا يعدو وهو يبكي فوقف سانين، وبرز من الظلام رجل دنا منه فصاح به: «ما الخبر؟»
فوقف الرجل هنيهة فرأى سانين جنديا كئيبا فسأله: «ماذا حدث؟» فتمتم شيئا ثم عدا وهو يعول وغاب في الظلام كالأشباح فقال سانين: «هذا خادم سارودين.» ثم طاف بذهنه مثل البرق «إن سارودين قد انتحر.»
فحدق في الظلام برهة وابترد جبينه ودار عراك وجيز - إلا أنه هائل - في صدر هذا الرجل القوي.
وكانت البلدة نائمة والطرقات عارية والنوافذ كالعيون الفاترة محملقة في الظلام، فهز سانين رأسه وابتسم وقال بصوت عال: «لا ذنب لي!» ونصب قامته واستجمع قوته وسار شبحا رائعا في الليل الساكن.
الفصل التاسع والعشرون
استفاض في البلدة الخبر بأن اثنين انتحرا في ليلة واحدة، وكان إيفانوف هو الذي أبلغ يوري ذلك، وكان يوري قد عاد من المدرسة وجلس يصور أخته لياليا، فقال إيفانوف ووضع قبعته على كرسي: «عم صباحا.»
فسأله يوري باسما: «أهذا أنت؟ ما عندك من الأخبار؟»
وكان مزاجه معتدلا ووجهه باشا، ذلك أنه صار مدرسا، فقلت حاجته إلى أبيه، وتكفلت أخته المليحة الفتانة بشرح صدره.
فقال إيفانوف وفي عينه نظرة غامضة: «أخبار كثيرة: واحد شنق نفسه، وثان نسف دماغه، وثالث استحوذ عليه الشيطان!»
فصاح يوري: «من تعني؟»
فأجابه إيفانوف: «إن الكارثة الثالثة مما اخترع خيالي لزيادة التأثير، وأما من حيث الأولى والثانية فالخبر صحيح؛ فقد انتحر سارودين البارحة، وسمعت الساعة أن سلوفتشك شنق نفسه.»
فصاحت لياليا ونهضت: «مستحيل» ودنا يوري من إيفانوف وقال: «أهذا مزاح؟»
فقال إيفانوف: «كلا!» وأظهر عدم الاكتراث، وإن كان على هذا قد راعه ما حصل. وسأله يوري: «لماذا انتحر؟ ألأن سانين لكمه؟»
وسألت لياليا: «هل اتصل الخبر بسانين؟»
فأجابها إيفانوف: «نعم لقد علم سانين البارحة.»
فقال يوري: «وماذا يقول؟»
فهز إيفانوف كتفيه ولم يشأ أن يتحدث مع يوري عن سانين وقال بشيء من الضجر: «لا شيء! ما شأنه بهذا؟»
فقالت لياليا: «إنه السبب.»
فرد عليها إيفانوف: «ولكن لماذا اعتدى عليه ذلك الأحمق؟ إن هذا ليس خطأ سانين. والمسألة كلها مما يؤسف له، ولكن مرجعها إلى سخافة سارودين.»
فقال يوري: «إني أظن أن السبب أعمق من ذلك. لقد عاش سارودين بين زمرة ...»
فهز إيفانوف كتفيه وقال مقاطعا: «نعم، ولحياته بين هذه الزمرة السخيفة وتأثره بها دليل قاطع على أنه كان سخيفا.»
ففرك يوري كفيه ولم ينبث، وآلمه أن يبسط إيفانوف لسانه في رجل مات وقالت لياليا: «قد أفهم لماذا قتل سارودين نفسه. فأما سلوفتشك! لم يخطر لي قط أن هذا محتمل! هل تعرف السبب؟» فأجابها إيفانوف: «الله أعلم! لقد كان دائما شاذا.» وجاء في هذه اللحظة ريازانتزيف في مركبته والتقى بسينا كرسافينا على السلم فصعدا معا ودخلت سينا أمامه وقالت: «لقد جاء أناتول بافلوفتش من هناك.»
وتبعها ريازانتزيف ضاحكا كعادته وفي يده سيجارة كان يشعلها وهو داخل وقال: «شيء حسن جدا. إذا استمر هذا لم يبق في المدينة شبان على الإطلاق.»
وجلست سينا دون أن تتكلم، وكان وجهها الجميل مكتئبا فقال إيفانوف: «قص علينا ما تعرفه.»
فقال ريازانتزيف: «كنت خارجا البارحة من النادي فاندفع إلي جندي وقال: «قد انتحر سعادته» فوثبت إلى مركبة وذهبت إلى هناك بأسرع ما أستطيع، فألقيت الفرقة كلها تقريبا في المنزل وكان سارودين على الفراش وعرى ثوبه محلولة.»
فسألته لياليا وتعلقت بذراعه: «وفي أي موضع أطلق الرصاص على نفسه؟» فقال ريازانتزيف: «في رأسه، اخترقت الرصاصة دماغه ونقلت إلى السقف.»
فسأله يوري: «هل كان المسدس من طراز بروفنج؟»
فقال ريازانتزيف: «نعم. وما أفظع المنظر! لقد كان الحائط ملوثا بالدم وعليه بعض عظام رأسه وكان وجهه ممسوخا، لقد فعلها سانين! تاالله ما أقوى هذا الشاب!»
فهز إيفانوف رأسه موافقا وقال: «أؤكد لك أنه قوي جدا.»
فقال يوري: «وحش خشن!»
فالتفتت إليه سينا وقالت: «رأيي أن هذا ليس بخطئه ولم يكن من المستطاع أن ينتظر حتى ...»
فقاطعها ريازانتزيف: «نعم نعم. ولكنه لكمه لكمة فظيعة. لقد تحداه سارودين ودعاه إلى المبارزة.»
فصاح إيفانوف ضجرا وهز كتفيه: «هذا أنت تهذي.»
وقال يوري: «الحقيقة أن المبارزة لا معنى لها.»
فوافقت سينا: «لا شك في ذلك.»
ولاحظ يوري أن سينا يسرها أن تنتصر لسانين فقال: «على كل حال هذا ...» وخانته الألفاظ.
فاقترح ريازانتزيف: «عمل وحشي.»
ومع أن يوري لم يكن يعد ريازانتزيف إلا وحشا آخر فقد سره أن يفدح في سانين أمام سينا. ولكن هذه لاحظت غيظ يوري فكفت عن الكلام، وكانت في الواقع معجبة بقوة سانين وشجاعته، ولم تكن مستعدة أن توافق ريازانتزيف على اعتبار المبارزة عملا عادلا. وقال إيفانوف متهكما: «إن من التمدين ولا شك أن ينسف المرء أنف صاحبه أو أن يبقر بطنه.» فقال ريازانتزيف: «وهل لكم الوجه خير؟»
فقال إيفانوف: «لا شك أنه خير. أي أذى تستطيع القبضة أن تلحقه بالرجل؟ إن الجرح يشفى بسرعة. وما من لكمة آذت أحدا أذى بليغا.»
فقال ريازانتزيف: «ليس هذا في الموضوع!»
فقال إيفانوف: «إذن ماذا فيه من فضلك!» وزم إيفانوف شفتيه ازدراء. فقال ريازانتزيف: «لقد كاد يفقأ له عينه. وأحسبك لا ترى هذا ضررا بليغا!»
فأجابه إيفانوف: «لا شك أن فقد العين خسارة، ولكنه ليس كدخول رصاصة في جسمك. إن فقد العين ليس قتلا.»
فقال ريازانتزيف: «ولكن سارودين مات!»
فقال إيفانوف: «آه! ذلك إنما كان لأنه أراد أن يموت!»
فقال يوري وسرته صراحته: «يجب أن أعترف أني لم أنته إلى رأي في هذا الموضوع. ولا أعلم ماذا كنت أصنع لو أني كنت في موقف سانين. ولا شك أن المبارزة سخيفة ولكن التلاكم ليس خيرا.»
فقالت سينا: «ولكن ماذا يصنع المرء إذا اضطر أن يقاتل؟»
فقال ريازانتزيف: «إن أسفنا يجب أن يكون على سلوفتشك.»
فقالت: «أين شنق نفسه؟ هل تدري؟»
فقال ريازانتزيف: «في الخص المجاور لجحر الكلب، أطلقه ثم شنق نفسه.» فخيل ليوري وسينا أنهما يسمعان صوتا عاليا يقول: «ارقد يا سلطان!»
ومضى ريازانتزيف في قصته فقال: «وقد كتب ورقة قبل موته نسختها، إنها وثيقة إنسانية.» وأخرج من جيبه مذكرته وقرأ: «لماذا أعيش إذا كنت لا أدري كيف ينبغي أن أعيش؟ إن أمثالي لا يستطيعون أن يجعلوا إخوانهم سعداء!»
فساد سكون رائع وترقرقت عينا سينا واحمر وجه لياليا وجاشت نفسها، وابتسم يوري ابتسامة حزينة والتفت إلى النافذة وقال ريازانتزيف: «هذا كل ما فيها!»
فقالت سينا وشفتاها ترجفان: «ماذا تريد أكثر من ذلك؟»
ونهض إيفانوف واجتاز الغرفة إلى المنضدة طلبا للكبريت وقال: «إن هذا ليس إلا سخافة.»
فاحتجت سينا وقالت: «يا للعار!»
والتفت يوري إليه مشمئزا وقال ريازانتزيف: «لقد كنت دائما أعتقد أن سلوفتشك صبي يهودي سخيف فانظروا الآن ماذا فعل؟ إنه ليس أجل من الحب الذي يدفع المرء إلى التضحية بنفسه في سبيل الإنسانية.»
فأجابه إيفانوف: «ولكنه لم يضح بنفسه في سبيل الإنسانية.»
قال: «نعم ولكنه يستوي أن ...»
فقاطعه إيفانوف وفي عينيه لمعة الغضب: «إن الأمرين لا يستويان. إنه عمل أبله لا أكثر ولا أقل.» فكان لبغضه الغريب لسلوفتشك أسوأ وقع في نفوسهم. ونهضت سينا وهمست في أذن يوري: «سأذهب إنه لا يطاق.»
فوافق يوري وقال بصوت خافت: «وحش.»
وخرج في أثر سينا، لياليا وريازانتزيف وجلس إيفانوف برهة يدخن ثم خرج أيضا. وقال لنفسه وهو سائر في الطريق يطوح ذراعيه على عادته: «إن هؤلاء السخفاء يظنون أني عاجز عن فهم ما يفهمون ويلذ لي ظنهم هذا! ألا إني لأدرى بخواطرهم وإحساساتهم منهم أنفسهم، وأعلم كذلك أنه ليس أجل من الحب الذي يأمر المرء أن يبذل حياته للناس. فأما أن يشنق رجل نفسه لا لسبب سوى أنه لا خير فيه لأحد ... كلام فارغ!»
الفصل الثلاثون
كان يوري مطلا من نافذته يشهد جنازة سارودين وهم سائرون به إلى المقبرة على ألحان الموسيقى الحربية، فرأى الخيل مجللة بالسواد وقبعة الفقيد على غطاء النعش، وكانت الأزهار كثيرة، وبين المشيعين عدد كبير من السيدات. فأحزنه هذا المنظر.
وفي مساء ذلك اليوم سار مسافة طويلة مع سينا كرسافينا، غير أن جمال عينيها وفتنة محضرها لم ينفضا عنه الكآبة وقال وعيناه إلى الأرض: «ما أهول أن يتصور المرء أن سارودين لم يعد موجودا! ضابط وسيم مرح مثله يصبح لا شيء! لقد كان المرء يخيل إليه أنه سيعيش أبدا، وأنه لا يعرف متاعب الحياة وآلامها وشكوكها وأن هذه لن تمسه. فانظري! في صبيحة يوم رائق ذهب كأنه التراب المكنوس بعد أن عانى تجربة فظيعة لا يدري بها سواه. والآن قد مضى ولن يعود أبدا. أبدا. ولم يبق منه غير القبعة على النعش!»
وسكت وكانت سينا تصغي إليه ويداها تعبثان بمظلتها ولم تكن تفكر في سارودين بل كان قربها من يوري مثار لذة حادة لها، غير أنها مع ذلك شاطرته كآبته وقالت: «نعم إن الأمر محزن وهذه الموسيقى أيضا!»
فقال يوري بلهجة التأكيد: «لست ألوم سانين. فما كان يسعه أن يفعل غير ما فعل. وأفظع ما في الأمر أن طريقي هذين الرجلين تعارضا وصار لا بد لأحدهما من أن يخلي الطريق للثاني. ومما هو فظيع أيضا أن المنتصر لا يدرك أن نصره مروع: يزيل رجلا من فوق ظهر الأرض في سكون ويكون مع ذلك على حق.»
فقالت: «نعم إنه على حق ...» ولم تكن قد سمعت كل ما قاله يوري وجعل صدرها يعلو ويهبط، فصاح يوري مقاطعا وهو ينظر إلى جمال جسمها ووجهها: «ولكني أقول إن هذا فظيع!» فسألته سينا بصوت رقيق واحمر وجهها فجأة وفقدت عينها لمعتها: «لكن لماذا؟»
فأجابها يوري: «غير سانين كان حقيقا أن يندم أو أن يعاني شيئا من ألم الروح، ولكنه لم يظهر أي دليل على ذلك، وكل ما قاله هو أني آسف جدا ولكن هذا ليس خطئي. خطأ حقا! كأنما كانت المسألة مسألة خطأ أو ملامة!»
فسألته سينا: «إذن ماذا هي؟» وارتجف صوتها وأطرقت مخافة أن تؤلم رفيقها فقال: «هذا ما لا أعرفه. ولكن الإنسان لا حق له في أن يكون مثل الوحش في أخلاقه.»
وسارا مدة في صمت وآلم سينا ما بينهما من الجفوة الوقتية، وأسفت لانقطاع هذه الصلة الروحية التي لم يكن أعذب منها ولا أحلى، وراح يوري يظن أنه قصر في إيضاح خواطره فجرح هذا الظن إحساسه بكرامته.
ثم افترقا وكانت سينا مكتئبة متألمة، ولاحظ يوري اكتئابها فسره كأنما انتقم لنفسه من إهانة شخصية. وزاد سوء خلقه لما صار في البيت. وقصت لياليا على المائدة ما قال لها ريازانتزيف عن سلوفتشك. وخلا يوري بنفسه في غرفته وشرع يصحح كراسات تلاميذه ويحدث نفسه: «ما أعظم نصيب الإنسان من الوحشية! وهل مثل هذه الوحوش البليدة تستحق أن يموت في سبيلها المرء؟» ثم خجل من عدم تسامحه وقال: «إنهم غير ملومين! ولا يعرفون ما يفعلون . وسواء عرفوا أم لم يعرفوا فهم وحوش ولا شيء غير ذلك.»
ثم كرت خواطره إلى سلوفتشك فقال: «ما أشد وحدتنا في هذه الدنيا! هذا سلوفتشك كان بين ظهرانينا، عظيم القلب مستعدا أن يبذل كل تضحية في سبيل غيره. ومع ذلك لم يحسه أحد ولا قدره أحد. بل الواقع أننا كنا نحتقره. وذلك لأنه لم يكن يحسن العبارة عن نفسه، ولم يكن لرغبته في إرضاء الناس من أثر سوى إسخاطهم، وإن كان في الحقيقة قد حاول أن يوثق صلاته بنا وأن يساعدنا. ألا لقد كان قديسا نظنه قدما غبيا.»
واشتد ندمه حتى لترك عمله وجعل يقطع الغرفة ثم جلس إلى المنضدة وفتح الإنجيل وقرأ فيه: «كما تنفد السحابة وتغيب كذلك من يهبط إلى الأرض لا يصعد أبدا، ولا يعود إلى بيته لا ولا يعرف مكانه بعد ذلك.»
ثم قال: «ما أصدق هذا وأحكمه! حتم فظيع! هذا أنا أعيش ويلج بي الظمأ إلى الحياة واللذات. ثم أقرأ هذا القضاء المبرم ولا يسعني حتى أن أحتج عليه!»
ثم ثار يأسه فأمسك بجبينه وناشد القوة الخفية: «ماذا جنى الإنسان عليك حتى تسخري منه هذا السخر؟ إذا كنت موجودة فلماذا تخفين نفسك عن عينه؟ لماذا تجعليني إذا آمنت بك لا أؤمن بإيماني؟ وإذا أجبتني كيف أعرف أأنت المجيبة أم نفسي؟ وإذا كنت على حق في رغبتي في الحياة وطلبي لها فلماذا تسلبيني هذا الحق الذي منحتني إياه؟ إذا كانت بك حاجة إلى آلامنا فدعينا نحملها من أجل حبنا لك. ولكنا لا نعرف أيهما أعظم قيمة الشجرة أم الإنسان.» «إن الشجرة دائمة الأمل. إذا قطعت استطاعت أن تقوم مرة أخرى وأن تسترد الخضرة وتفوز بحياة جديدة، أما الإنسان فيموت ويزول؛ يرقد فلا ينهض كرة أخرى، ولو أني كنت على يقين من أني سأحيا مرة ثانية بعد ملايين السنين لرضيت أن أنتظر في صبر كل هذه القرون في الظلام.»
ثم قرأ: أي ربح يجنيه الإنسان من كل تعبه تحت الشمس؟ «جيل يمضي وجيل غيره يأتي ولكن الأرض تبقى إلى الأبد.» «والشمس أيضا تطلع وتنحدر وتسرع إلى مكانها الذي طلعت منه.» «والريح تهب صوب الجنوب ثم تكر إلى الشمال وتدور أبدا.» «ما رأيناه أمس نراه اليوم وسنراه غدا. لا جديد تحت الشمس.» «ليس ثم ذكرى لما مضى. ولن تكون ثم أي ذكرى لما سيأتي في نفوس من سيتلوننا.» «أنا الواعظ كنت ملكا على بني إسرائيل في أورشليم.»
ولما وصل إلى هذه الجملة رفع بها صوته مغضبا يائسا ثم تلفت حوله مخافة أن يكون قد سمعه أحد ثم تناول ورقة وشرع يكتب: «أبدأ هذه الوصية التي تنتهي حياتي بانتهائها ...»
ثم قال: «رباه! ما أسخف هذا!» ودفع الورقة بعنف فسقطت على الأرض ثم عاد فقال: «ولكن ذلك المسكين الشقي سلوفتشك لم ير من السخافة أنه يعجز عن فهم معنى الحياة!»
ولم يفطن يوري إلى أنه يتمثل برجل يصفه بأنه مسكين شقي. «وعلى كل حال فهذا مصيري عاجلا أو آجلا لا مفر من ذلك! ولكن لماذا؟ لأن ...»
ووقف. وخيل إليه أن الجواب الدقيق المضبوط حاضر ولكن الألفاظ تنقصه. وكان ذهنه قد تعب واضطربت خواطره وقال: «لماذا لم أمت وأنا طفل لما مرضت بالتهاب الرئتين؟ إذن لارتحت!» وارتعد لهذا الخاطر «ولو حدث هذا لما رأيت ولا عرفت ما أعرف الآن. وهذا فظيع أيضا.»
ورد رأسه إلى الوراء ونهض «إن هذا كفيل بأن يجن المرء.»
ومضى إلى النافذة وحاول أن يفتحها ولكن مصراعيها كانا مقفلين من الخارج، فاستخدم قلما وفتحهما ودخل الهواء البارد فنظر إلى السماء ورأى ضوء الفجر في الأفق. وكان الفجر وضيئا ونجوم الدب الأكبر السبعة بادية، وفي الشرق المتوهج يومض كوكب الصباح. وهب نسيم عليل فحرك أوراق الشجر ومزق الضباب الذي كان يحجب صفحة الغدير حيث الأزاهير يانعة. وكانت السماء موشاة بالسحب والنجوم هنا وهنا تتلامح. وكل شيء جميل رائع كأنما كانت الأرض تتأهب لاستقبال الفجر.
ثم انقلب إلى فراشه ولكن الضوء حال بينه وبين النوم فظل مستلقيا ورأسه موجع وعيناه مفتوحتان كمغمضتين.
الفصل الحادي والثلاثون
خرج إيفانوف وسانين في صباح ذلك اليوم مبكرين، وكان الطل يومض في أشعة الشمس والحجاج يدلفون إلى الدير وكانت نواقيسه تدق وتجلجل والريح تحمل أصواتها على السهوب إلى الغابات الحالمة فقال إيفانوف: «لقد بكرنا.» فتلفت سانين حوله مغتبطا مسرورا وقال: «إذن فلنجلس قليلا.» فجلسا على الرمل وأشعلا سيجارتين، وكان الفلاحون السائرون وراء مركباتهم يتلفتون لينظروا إليهما والنساء، والبنات يشرن ويتضاحكن، ولم يلتفت إيفانوف إلى شيء من هذا، ولكن سانين كان يبتسم ويهز رأسه لهن.
ثم بدا على سلم بيت صغير أبيض سقفه أخضر لامع صاحب خمارة «الكرون» وهو رجل طويل قصير كمي القميص وفتح الباب وهو لا يكف عن التثاؤب، ودخلت في إثره امرأة على رأسها منديل أحمر فقال إيفانوف: «دعنا ندخل.» ففعلا واشتريا قليلا من الفودكا وبعض البقل والخضر والخبز. فقال إيفانوف لما رأى سانين يخرج كيسه: «آها! إن مالك كثير على ما يظهر يا صديقي.»
فقال سانين ضاحكا: «لقد أخذت دفعة مقدما. وذلك أني على نقيض رغبة أمي قبلت أن أكون سكرتيرا لشركة تأمين، وبهذه الطريقة استطعت أن أظفر بشيئين: قليل من المال واحتقار أمي.»
ولما صار في الطريق مرة أخرى قال إيفانوف: «أوه! إني أشعر أني الآن أحسن وأسعد!»
فقال سانين: «وكذلك أنا وما قولك في أن نخلع نعالنا؟»
فقال إيفانوف: «حسن جدا.»
وخلعا نعالهما وجواربهما وسارا حافيين على الرمل البليل الدافئ واستلذا ذلك بعد أن نزعا أحذيتهما الثقيلة. وقال سانين وتنفس تنفسا عميقا: «بديع أليس كذلك؟»
وكانت الشمس قد زادت حرارتها وهما ماضيان عن البلدة صوب الأفق الأزرق، وكانت الأطيار على أسلاك التلغراف، ومر بهما قطار ركاب، مركباته خضراء وصفراء وزرقاء ووجوه الركاب المتعبين مطلة من نوافذها، وفي آخر مركبة منه فتاتان جميلتان جعلتا تتأملان هذين الحافيين وفي عيونهما أمارات الدهشة، فضحك منهما سانين وارتجل رقصة عنيفة.
ورأيا على كثب منهما مرجا ترتاح القدم إلى السير على نجائله فقال إيفانوف: «ما أبدع هذا.»
فقال صاحبه: «إن الحياة اليوم تستحق أن تحيا.» فنظر إيفانوف إلى سانين وخطر له أن هذه الكلمات تذكره بسارودين وبالمأساة الأخيرة، ولكن خواطر سانين كانت على ما يظهر أشد ما تكون انصرافا عن هذا، فعجب إيفانوف إلا أن ذلك لم يسؤه.
واجتازا المرج إلى السكة الكبرى الحاشدة بالفلاحين ومركباتهم وفتياتهم، ثم بلغا الأشجار ومن ورائها النهر وإلى ناحية أخرى الدير قائما على تل وفوقه صليب يلتمع كالنجم المتوهج. وكانت على الشاطئ زوارق موشاة فاستأجرا منها واحدة، وكان إيفانوف يحسن التجديف، فانطلق الزورق يشق الماء ويفرق تياره، وكانت المجاديف ربما لمست أعشابا أو أغصانا غائصة إلى قريب من رءوسها فتظل تضطرب وترتعش على سطح الماء بعد كل لمسة. وكان سانين يجدف بحدة حتى صار الماء يرغي ويزبد ويتدفع حول الدفة. وبعد لأي ما بلغا مكانا ظليلا بليلا، وكان الماء من الصفاء بحيث يستطيع المرء أن يرى قاعه وما فيه من الحصى والأسماك فقال إيفانوف: «هذا مكان يحسن أن ننزل فيه.» فدفعا الزورق إلى الشاطئ ووثبا عنه وقال سانين: «لن تجد خيرا من هذا المكان!» وغاص إلى ركبتيه في الحشائش فقال إيفانوف: «كل مكان حسن تحت الشمس.» وجاء بالشراب والخبز والخضر ووضع كل ذلك على الحشائش تحت شجرة ثم استلقى، وكانا قد نسيا الأكواب فتسلق سانين شجرة وقطع غصنا وقور جزءا منه اتخذه كأسا، فقال إيفانوف وكان يراقب سانين باهتمام: «ولنستحم بعد ذلك.» فقال سانين: «فكرة حسنة.» وقذف الكأس في الهواء والتقطها ثم جلسا ووقعا على الشراب والطعام، ولما أصابا كفايتهما قال إيفانوف: «لا أستطيع أن أنتظر الآن وسأذهب إلى الماء لأستحم.» وخلع ثيابه، ولما كان لا يحسن السباحة فقد اختار موضعا قريبا للفور، وكان سانين يراقبه ثم نضا عنه ثيابه في بطء وهدوء واندفع إلى أعمق مكان في النهر، فصاح به إيفانوف: «حاذر أن تغرق.» فضحك سانين وقال: «لا تخف.» بعد أن طفوا على وجه الماء وكان الجو يتجاوب بأصواتهما الطروبة ثم خرجا من الماء ورقدا على الحشائش وهما عاريان وجعلا يتقلبان فوقها، ثم صاح إيفانوف «هورا» وشرع يرقص رقصا عنيفا خشنا، فضحك سانين ووثب على قدميه وانطلق يرقص مثله، وكان جسماهما يلتمعان في ضوء الشمس وكل عضلة ظاهرة، ثم كف إيفانوف وقال لصاحبه: «تعال وإلا شربت كل ما بقي من الفودكا.» فلبسا ثيابهما وأتيا على ما بقي من الطعام والشراب وتمنى إيفانوف شربة ماء مثلجة. وقال: «دعنا نعد.» فراحا يعدوان بأسرع ما يستطيعان إلى الشاطئ وانحدرا إلى الزورق ودفعاه.
ثم قال سانين وكان راقدا في قاع الزورق: «ألا تحس لسع الشمس؟ فأجابه إيفانوف: «هذا نذير المطر فانهض وجدف بالله.»
فقال سانين: «إنك قادر على هذا وحدك.» فضرب إيفانوف الماء بالمجدافين ضربة أطارت الرشاش إلى سانين فقال: «أشكرك» ومرا بموضع تكسوه الخضرة فسمعا ضحكا وأصوات فتيات مرحات فقال إيفانوف: «فتيات يستحممن.» فاقترح سانين: «دعنا نذهب لننظر إليهن.» فقال إيفانوف: «ربما أبصرننا.»
أجاب سانين: «كلا لن يستطعن. وفي وسعنا أن ننزل هنا وأن ندخل بين الحشائش.» فخجل إيفانوف وقال: «دعهن.»
فأجابه: «تعال.» فقال: «لست أحب أن ...»
فأجابه: «لست تحب ماذا؟»
فقال: «إنهن فتيات صغيرات، ولا أظن هذا يجمل بنا.» أجاب سانين: «إنك مجنون. هل تريد أن تقول إنك لا تشتهي أن تراهن؟» فقال إيفانوف: «ربما كنت أشتهي ولكن.»
أجاب سانين: «إذن فلنذهب إليهن ودع عنك هذا الحياء الكاذب، من ذا الذي لا يفعل ما نفعل إذا أتيحت له الفرصة؟»
فقال إيفانوف: «ولكنك إذا كنت تذهب إلى هذا فلماذا لا تراقبهن علنا؟! لماذا تختفي؟»
أجاب سانين مسرورا: «لأن الاختفاء ألذ وأمتع.»
قال: «ربما كان كذلك ولكني أنصح لك ...»
أجاب: «احتراما للعفاف على ما أظن؟» قال: «نعم.»
أجاب: «ولكن العفاف هو عين ما ينقصنا.»
فقال إيفانوف: «إذا أذنبت عينك فاقلعها.»
فصاح سانين: «أوه! أرجوك أن تكف عن هذا الكلام الفارغ وأن لا تكون مثل يوري. إن الله لم يعطنا عيوننا لنقلعها.» فابتسم إيفانوف وهز كتفيه، وقال سانين وأدار الدفة بحيث يمضي الزورق إلى الشاطئ: «اسمع يا فتى! إذا رأيت فتيات يستحممن ولم يحرك منظرهن في نفسك أية شهوة كنت في حل من أن تدعي العفاف. ومع أني آخر من يحاكيك في ذلك فإن مثل عفتك هذه تفوز عندئذ بإعجابي واحترامي، فأما وقد فطرنا على هذه الشهوات الطبيعية فإن محاولة خنقها تكون رياء ونفاقا.»
فقال إيفانوف: «إن هذا حسن، ولكن إذا لم يكن ثم كابح للرغبات وجماح الشهوات أفضى الأمر إلى الشر.»
فأجابه سانين متهكما: «أي شر يا ترى؟ إن للشهوانية آثارا سيئة أسلم لك بها ولكن هذا ذنب الشهوانية.»
فقال إيفانوف: «ربما كان الأمر كذلك ولكن ...»
فقاطعه سانين قائلا: «حسن جدا إذن فهل تأتي معي؟»
أجاب: «نعم ولكني ...» قال سانين وهما يتسللان وسط الحشائش والأعشاب: «مغفل! هذا أنت اتئد ترفق. لا تحدث هذا الصوت.» فقال إيفانوف بحماسة: «انظر هنا! بأمل!» وكان ظاهرا من الثياب والقبعات المكومة على الحشائش أن السابحات أتين من البلدة، وكانت بعضهن تضرب بيدها مرحة في الماء، وكانت قطراته تزل كالفضة عن أعضائهن اللينة الناعمة. وكان إحداهن واقفة على الشاطئ طلقة وضاحة، والشمس تضاعف جمال جسمها الذي كان يهتز وهي تضحك!
فقال سانين وفتنه هذا المنظر: «تأمل هذا!»
ففزع إيفانوف متراجعا وسأله سانين: «ما خطبك؟»
فأجابه: «إنها سينا كرسافينا!»
وقال سانين: «نعم هي بعينها. ولكني لم أعرفها. ما أفتن جمالها!» فقال إيفانوف: «نعم هي كذلك!»
وعلت الأصوات وكثر الضحك في هذه اللحظة، فعلما أن الفتيات قد سمعتهما وفزعت سينا فألقت بنفسها في الماء. ولم يعد باديا منها سوى وجهها الوردي وعينيها اللامعتين. وفر سانين وصاحبه إلى الزورق وقال سانين لما بلغاه: «ما أحسن أن يكون الإنسان حيا!» ومط جسمه وغنى فتجاوب الفضاء بصوته الرنان الصافي، وكانت ضحكات الفتيات لا تزال تسمع، فتطلع إيفانوف إلى السماء وقال: «ستأخذنا السماء.» وأظلمت الأشجار واكفهر الأفق وارتمت الظلال الحالكة على المروج، فقال إيفانوف «يجب أن نعجل بالهرب.»
فقال سانين وهو مغتبط: «أين؟ إنه لا مفر لنا الآن!»
وركدت الريح وزاد السكون والجهامة فقال إيفانوف: «سيغمرنا المطر فأعطني سيجارة أتسلى بها.»
وأشعل عودا من الكبريت كان ضوءه كابيا في هذه الظلمة، فثارت هبة من الريح مباغتة فأطفأته، وسقطت قطرة كبيرة في الزورق وأخرى على جبين سانين ثم هطل المطر وخشخشت الأشجار، وكان للقطر وهو ينهمل على النهر صوت الصفير، وفتحت ميازيب السماء، ولم يعد يسمع إلا صوت تدفق المطر فقال سانين: «بديع هذا أليس كذلك؟» وحرك كتفيه وكان القميص قد لصق بهما فقال إيفانوف: «ليس بالسيئ جدا.» وتجمع في قاع الزورق.
وما لبث المطر أن انقطع، وإن كانت السحب لم تنقشع، بل ظلت مكدسة وراء الغابة حيث كانت ترسل سهاما من البرق إلى حين فقال إيفانوف: «يجب أن نرجع.» فوافق سانين وخرجا بالزورق في وسط التيار، وكانت السحب السوداء الكثيفة معلقة فوقهما، والبرق لا يكف عن الإثخان في كبد السماء. ولم يكن ثم مطر، ولكن الإحساس بالرعد كان شائعا في الجو، وجعلت الطيور تخطف في الجو فوق سطح الماء وهي مبتلة الريش فصاح إيفانوف: «هو هو!»
ثم نزلا وسارا على الرمال وكان الظلام قد اشتد، وجعلت السحب تدنو وتسف هيادبها إلى الأرض، وهبت الريح فجأة، فثارت زوابع من التراب وأوراق الأشجار، ثم جلجل الرعد فكأنما انفطر كمد السماء وتعاقب البرق والرعد فصاح سانين: «أو هو! هو هو.» كأنما يريد أن يعلو صوته ضجة الطبيعة، ولكنه لم يكن يسمع حتى صوته.
وبلغا الحقول وكان الظلام قد أسلف والبرق يضيء لهما طريقهما ولم ينقطع الرعد فصاح سانين: «أوه! ها! هو!»
فسأله إيفانوف: «ما هذا؟»
وفي هذه اللحظة أضاء البرق فلمح إيفانوف وجه سانين وكان متوقدا هاشا ثم أضاء مرة أخرى فإذا سانين مفتوح الذراعين يناجي العاصفة!
الفصل الثاني والثلاثون
كانت الشمس مضيئة والجو ساكنا صافيا إلا أن فيه ريح الخريف، وكان يوري يتمشى في الحديقة وهو غارق في خواطره، ينظر إلى السماء وإلى الأوراق الخضراء والصفراء وصفحة الماء المصقولة وكأنه يودعها، ويريد أن يعلق صورها بذاكرته حتى لا يعفي عليها النسيان. وكان يحس شيئا من الكمد كأن كل ساعة تمضي بشيء ثمين لا سبيل إلى استرداده، شبابه الذي لم يغتبط به ومكانه باعتباره رجلا نافعا عظيما في العمل الذي وقف عليه كل حياته. ولم يكن يدري كيف انخذل. وكان مقتنعا بأن له قوى كامنة يسعها أن تقلب العالم وعلما واسعا لا يدانيه عقل سواه، غير أنه لم يكن يعرف تعليلا لاقتناعه هذا، وكان يخجل أن يصارح به حتى أصدق أصفيائه.
وقال وهو يتأمل ظلال الأشجار في الماء: «آه! حسن، لعل ما أفعل الآن هو أحكم ما يمكن. والموت يعفي على كل شيء مهما عاش المرء أو حاول أن يعيش. أوه! هذه لياليا آتية! ما أسعدك يا لياليا إنك تعيشين كالطائر من يوم إلى يوم لا تطلبين شيئا ولا ينغص عليك حياتك شيء! ألا ليتني أستطيع أن أحيا حياتها ...!»
على أن هذا لم يكن إلا خاطرا زائلا لأنه لم يكن في الحقيقة يتمنى أن يعتاض من آلامه الروحية هذا الوجود الضيق الذي يتمثل في شخصية لياليا.
ونادته ليا «يوري! يوري!» بصوت عال، وإن لم يكن بينهما إلا ثلاث خطوات، وضحكت بخبث ورمت إليه برسالة وردية اللون، فتوقع يوري أمرا وسألها بحدة: «ممن؟»
فقالت لياليا: «من سينوتشكا كرسافينة.» وهزت له إصبعها.
فصار وجه يوري كالجمرة المتقدة، وخيل إليه أن من الحمق إن لم يكن من السخافة المطبقة أن يتلقى رسالة وردية اللون معطرة عن طريق أخته. وكربه ذلك جدا وانطلقت لياليا وهي سائرة بجانبه تتحدث عن حبه لسينا على عادة الأخوات اللواتي يعنيهن معاشق إخوتهن، وجعلت تصف له حبها لسينا ومبلغ سرورها إذا تزوج منها، وما كادت تفوه بكلمة الزواج المنحوسة حتى احتقن وجه يوري وطار الشر من عينه، وتمثلت له الصورة المبتذلة المألوفة البيت والزوجة والبنون، وكان لا يفزع من شيء فزعه من أن يكون له بنون.
فقال بصوت حاد أذهل أخته: «كفى هراء من فضلك!»
فأجابته مغضبة: «ما لك تكبر الأمر إلى هذا الحد؟ وماذا يهم إذا كنت عاشقا؟ إني لا أفهم لماذا تتظاهر بأنك بطل غريب؟»
وكان في الجملة الأخيرة أثر من المكايدة النسوية، فنفذ السهم إلى القلب، وما كادت تفرغ من الكلام حتى انصرفت عنه، ودخل البيت،
فجعل يوري يراقبها والغضب يتطاير من عينيه وهو يفض غلاف الرسالة وكان هذا ما فيها:
عزيزي يوري
إذا سمح لك الوقت وآتتك الرغبة فإني أنتظر أن أراك اليوم في كنيسة الدير، وستكون معي عمتي وستظل في الكنيسة الوقت كله. وأخشى أن يفدحني الملل وبودي أن أحدثك عن شئون كثيرة، فوافني هناك. ولعلي أخطأت في الكتابة إليك ولكني على كل حال في انتظارك.
فطار في لحظة واحدة كل ما كان يشغل خواطره ويكظ ذهنه، وجعل يتلو الرسالة مرة بعد أخرى فرحا مسرورا، فقد كشفت هذه الفتاة الطاهرة الفتانة بجملة واحدة عن سر حبها له، فكأنها جاءت إليه يحدودها الحب وبذلت له نفسها، وأحس أن غايته دنت فأخذته الرعدة لما تصور أنه مالكها، وحاول أن يبتسم متهكما ولكن جهده ذهب عبثا، فقد شاعت الغبطة في نفسه حتى أحس أنه كالطائر يستطيع أن يحلق فوق رءوس الأشجار ويسبح في الهواء المشمس تحت السماء الزرقاء.
ولما همت الشمس بالمغيب اكترى مركبة إلى الدير، وكان دونه النهر فركب زورقا عبر به إلى الشاطئ الآخر، ولم يشعر إلا وهو في عرض النهر أن سعادته مبعثها تلك الرسالة الوردية فقال يحدث نفسه: «الأمر بسيط لقد عاشت عمرها في دنياها هذه. وإنها لرواية غرامية ريفية وماذا إذا كانت كذلك؟»
وكان الماء يضرب جانبي الزورق في رفق وهو يدنو من التل الأخضر، وما كاد يصل إليه حتى أنقد الملاح نصف روبل ثم شرع يصعد التل، وكانت الشمس قد دلفت إلى مغربها وانبسطت الظلال عند سفح المنحدر، وتصاعد الضباب الكثيف فخفيت وراءه ألوان الأشجار، وكان فناء الدير ساكنا جليلا، والأشجار كأنها تصلي، والرهبان يروحون ويغدون كالأشباح، والمصابيح تضيء فوق باب الكنيسة، ورائحة البخور ساطعة.
وناداه صوت من ورائه: «مرحبا بك يا يوري!»
فالتفت فإذا شافروف وسانين وإيفانوف وبيتر الليتش يجتازون الفناء ويتحدثون بصوت عال والرهبان ينظرون إليهم وجلين، حتى الأشجار عادت وكأنما فقدت شيئا من سكون العبادة. فقال شافروف ودنا منه وكان يجل يوري: «لقد حضرنا جميعا.» فقال يووي: «نعم أراكم.» فسأله شافروف: «ألا ترافقنا؟» ودنا منه .
فأجابه يوري: «كلا! أشكرك إني مرتبط بموعد.»
فصاح إيفانوف: «أوه! هذا حسن سترافقنا إني أعرف ذلك.» وأمسك بذراعه فحاول يوري أن يتخلص وصاح: «كلا! لعن الله هذا! لا أستطيع. ربما لحقت بكم فيما بعد.»
ولم ترقه خشونة إيفانوف. فقال هذا: «حسن سننتظرك فلا تنس أن توافينا.»
فافترقوا وعادت السكينة فخيمت على الفناء، فخلع يوري قبعته ودخل الكنيسة وبه حياء وزراية، ووقعت عينه على سينا على مقربة من أحد العمدان فأسرعت دقات قلبه، وما كان أحلاها وأفتنها وأجمل شعرها الأسود المجموع إلى جيدها الأتلع، وكأنما شعرت بنظرته فتلفتت حولها والتمعت في عينيها الغبطة والحياء.
فقال يوري بصوت خفيض: «كيف أنت؟» ولم يدر أيصافحها في الكنيسة أم يمتنع عن ذلك، وتلفت كثيرون من الحضور فقلق يوري، بل لقد خجل، ولمحت سينا خجله فابتسمت له ابتسامة الأم وفي عينها نور الحب، ويوري واقف هناك سعيدا طائعا. ولم ترم إليه سينا بنظرة أخرى، بل جعلت ترسم الصليب على صدرها بحماسة وورع، ولكن يوري كان على يقين من أنها تفكر فيه، فكان يقينه هذا بمثابة عروة سرية وثقت ما بين قلبيهما فاضطربت دماؤه في عروقه، وبدا له كل شيء عجيبا خفي الأمر - قلب الكنيسة والتراتيل والأضواء وزفرات المتعبدين ووقع أقدام الداخلين والخارجين - كل ذلك لاحظه يوري، وكان يسمع في هذا السكون العميق خفقان قلبه وهو واقف لا يتحرك وعيناه قيد حد سينا وقدها، وكأنما كان يجب أن يقول لكل إنسان إنه لا يؤمن بالصلاة ولا الترتيل ولا الأضواء، ولكنه مع ذلك لا يقاومها، فأفضى به هذا إلى المقارنة بين غبطته الحالية واكتئابه في صبيحة هذا اليوم.
وسأل نفسه: «إذن فالمرء يستطيع أن يكون سعيدا؟ لا شك أن كل آرائي الخاصة بالموت وعبث الحياة منطقية، ولكن الإنسان يستطيع على رغمها جميعا أن يسعد ويهنأ. وإذا كنت سعيدا فإن ذلك من فضل هذه الفتاة الجميلة التي لم أرها إلا منذ زمن قريب.»
ثم خطر له فجأة أنهما ربما كانا قد التقيا وهما طفلان ثم افترقا، ولم يكن أحد منهما يحلم بأن سيعشق الآخر، ولا بأنها ستبذل له نفسها وهي عارية مشرقة فاحمر خداه وخاف أن ينظر إليها. وكانت سينا - التي عراها خياله - واقفة أمامه في قميصها الرمادي وقبعتها المستديرة تدعو الله أن يجعل حبه لها عميقا كحبها له، ويظهر أن حشمتها العذرية وقعت من نفس يوري فقد زايلته خواطره الشهوانية واغرورقت عيناه بالدموع فرفعهما وناجى ربه:
رب إن كنت موجودا فاجعل هذه العذراء تحبني واجعل حبي لها عظيما أبدا.
ثم قال لنفسه وقد أخجلته عاطفته: «إن هذا كله كلام فارغ.» وهمست في أذنه سينا أن «تعال» وكان صوتها كأنه الزفرة، ومضيا إلى الفناء وخرجا من الباب الصغير المفضي إلى سفح الجبل، ولم يكن ثم أحد فكأن السور العالي قد حجبهما عن عالم الرجال، وكانت غابة البلوط تحت أرجلهما والنهر هناك يلتمع كأنه مرآة من الفضة، فتقدما إلى حافة المنحدر وكلاهما يشعر أن عليه أن يفعل شيئا ولكن الشجاعة تنقصه، ثم رفعت سينا رأسها فالتقت شفتاها وشفتا يوري فاضطربت واصفرت وهو يحتضنها، وأحست لأول مرة أن جسمها الدافئ اللين بين ذراعيه. ودق ناقوس في هذا السكون، فخيل ليوري أنه إيذان بالاحتفال بهذه اللحظة التي وجد فيها كل منهما صاحبه ثم ضحكت سينا وتخلصت منه وقالت: «ستعجب عمتي مني ماذا أصنع! انتظر هنا فسأعود إليك.» ولقد ظل يوري لا يدري أقالت ذلك بصوت عال تجاوبت بأصدائه الغابة أم سبحت إليه الألفاظ كالهمسة على أجنحة النسيم، فجلس على الحشائش وسوى شعره وسمع سينا تقول: «إني آتية يا عمتي!»
الفصل الثالث والثلاثون
تجهم الأفق ثم خفي النهر وراء الضباب وحملت الريح من المراعي صهيل الخيل هنا وهناك وتوامضت الأضواء الضعيفة. وكان يوري جالسا ينتظر أن تعود سينا فجعل يعد هذه الأضواء: «واحد. اثنان ثلاثة. أوه. إن هناك رابعا عند طرف الأفق كأنه النجم الضئيل، والفلاحون جالسون حوله يصنعون طعامهم ويتحدثون. أما النار التي هناك فقرية عالية اللهيب والخيل إلى جانبها تنفخ، ولكنها ليست مع هذا البعد إلا شعلة ضئيلة قد تخمد أو تغيب في أية لحظة.»
وصعب عليه أن يفكر في شيء ما لأن إحساسه بالسعادة والهناء استغرق كل مشاعره، وكان ربما تمتم من حين إلى حين تمتمة الفزع: «ستعود حالا.»
وهكذا ظل ينتظر على قمة التل ويصغي إلى الخيل وصيحات البط فيما وراء النهر، وإلى ألف شيء آخر عرضي مما يحمله إليه النسيم عن الغابة. ثم سمع وقع أقدام تسير وراءه وحفيف ثوب تعبث به الريح، فعلم وإن كان لم يتلفت أنها هي قد جاءت، فارتجف لما تصور ما عسى أن يحدث. ووقفت سينا ساكنة بجانبه وأنفاسها معلقة، فأمسك بها يوري وحملها بين ذراعيه وسرته جرأته، وانحدر بها إلى سفح التل وكادت قدمه تزل فأسرت إليه «ستقع» واحمر وجهها وهي على هذا مغتبطة. وكان الظلام طاغيا فوضع يوري سينا وجلس إلى جانبها، ولما كانت الأرض منحدرة فإنهما كانا كالمستلقيين جنبا إلى جنب، فألصق يوري فمه بفمها في قبلة عن أحر عاطفة وأجمحها، ولم تتأوب أو تتمنع ولكنها كانت تضطرب اضطرابا عنيفا.
ثم تمتمت وهي تلهث وكان صوتها خافتا كأنه همسة من الغابات: «أتحبني؟» فسأل يوري نفسه وهو مذهول: «ماذا أنا صانع؟.»
فجاء هذا الخاطر كالثلج وحار كل شيء في لحظة وصار كنهار الشتاء تنقصه القوة والحياة، وكانت عينا سينا تستجوبانه وتحاولان أن تستشفا من وجهه ما انطوت عليه ضلوعه، فلما رأت محياه وتغير سحنته تراجعت عنه وتخلصت من عناقه، وصار صدر يوري ميدانا للعواطف المتدافعة، فأحس أن التراجع سخيف، وشرع من جديد يلاطفها في فتور وضعف وهي تقاومه بمثل فتوره وبروده، وعاد الموقف وليس أسخف منه في نظر يوري فأخلى سبيلها وكانت تلهث كالطريدة.
وساد سكون أليم ثم قال فجأة: «عفوا ... لا بد أني جننت!» فأسرعت أنفاسها وخطر له أنه لم يكن ينبغي أن يقول هذا الكلام الذي لا بد أن يكون قد آلمها وجرح نفسها، فأخذ على غير إرادته يعتذر بما يعلم أنه كاذب مزيف، ولم تكن له إلا رغبة واحدة هي أن يعود أدراجه لأن الموقف صار لا يحتمل.
ويظهر أنها لمحت ذلك فقد قالت: «ينبغي ... أن أذهب.»
فنهضا ولم ينظر أحد منهما إلى صاحبه، وحاول يوري للمرة الأخيرة أن يوقظ نائمة إحساساته فعانقها عناقا فاترا، فتحركت في نفسها عاطفة الأمومة وكأنما أحست أنها أقوى منه فدنت منه ولصقت بصدره ونظرت إلى عينيه وابتسمت ابتسامة رقيقة عذبة وقالت: «عم مساء تعال إلي غدا.» ثم طبعت على فمه قبلة حلوة أذهلت يوري ودار لها رأسه ووقف منها موقف العابد من ربه.
ولما انصرفت عنه ظل برهة طويلة يصغي إلى وقع قدميها، ثم التقط قبعته ونفض عنها أوراق الشجر الذاوية قبل أن يضعها على رأسه، ومضى إلى الدير من طريق طويل تفاديا من لقاء سينا.
وقال لنفسه: «آه! ألا بد لي من تدنيس هذه الفتاة الطاهرة النقية؟ أينتهي الأمر بأن أفعل ما يفعله أي رجل غيري من الأوساط؟ بارك الله فيها! إن هذا يكون خسة ودناءة. ويسرني أني لم أهو إلى هذا الحضيض. وما أفظع ذلك! في لحظة واحدة، بدون كلام ... ينقلب الإنسان حيوانا!»
وهكذا كان يفكر مشمئزا مما كان قبل لحظة مبعث سرور وقوة له. وتنازعه الإحساس بالخجل والسخط، حتى رجلاه كان يجرهما، وحتى قبعته كانت على رأسه، وكأنها على رأس ممرور أبله.
ثم سأل نفسه يائسا: «وبعد فهل أنا في الحقيقة كفء للحياة؟»
الفصل الرابع والثلاثون
كان الممر المفضي إلى الدير يفوح برائحة البخور والخبز ولمح يوري راهبا قويا نشيطا وفي يده وعاء فصاح به يوري: «أيها الأب!» واضطرب لمخاطبته بهذه العبارة وظن الراهب سيحار مثله ويرتبك.
فسأله الراهب بأدب وكانت بينهما سحب من البخور: «ماذ تبغي؟» فقال يوري: «أليس هنا طائفة من الزوار آتون من المدينة؟» فأجابه الراهب على الفور كأنما كان يتوقع هذا السؤال: «نعم في رقم 7.»
ففتح يوري الباب فألقى غرفة يتلوى في جوها دخان الطباق ورأى ضوءا قريبا من شرفتيها وسمع أصوات الكئوس والشاربين وضحكاتهم وكان شافروف يتكلم ويقول: «إن الحياة داء عياء.» فصاح به إيفانوف: «وأنت مغفل لا شفاء لك! ألا تستطيع أن تكف عن صوغك الأبدي لهذه العبارات السخيفة.»
ودخل يوري فاستقبلوه بأعظم الترحيب وأصخبه ووثب شافروف إلى قدميه وكاد يجر غطاء المائدة عنها وهو يصافح يوري ويقول له: «ما أعظم سروري بحضورك! الحق أن هذا فضل كبير منك! أشكرك كثيرا.»
فجلس يوري بين سانين وبيتر الليتش وجعل ينظر حوله، وكان في الشرفة مصباحان مضيئان وكأنما وراءهما من الظلمة جدار، ولكنه مع ذلك استطاع أن يرى النجوم تومض في قبة السماء وأن يلمح الجبل عند الأفق ورءوس الأشجار العالية وسطح الماء اللامع، وكانت الفراشات تأتي من الغاب وتدور بالمصباح ثم تسقط على المائدة وتموت موتا بطيئا، فقال يوري لنفسه وكأنه يرثي لمصرع هذه الفراشات: «ونحن أيضا كهذه الفراشات نرتمي على النار ونحوم حول كل فكرة براقة لنقضي نحبنا آخر الأمر، ونتوهم أن الفكرة هي مظهر إرادة الحياة، على حين ليست إلا النار التي تذيب عقولنا.»
فقال سانين ومد إليه يده بالزجاجة: «والآن فلتشرب.»
فقال يوري: «بكل سرور.» وخطر له أن هذا يكاد يكون خير ما يسعه أن يصنع بل هو في الواقع كل ما بقي عليه أن يفعله.
فشربوا جميعا، وكان مذاق الفودكا في فم يوري بشعا حارا مرا كالسم فعالجه بالخضر، ولكن هذه أيضا لم تكن أحسن طعما فلم يسغها حلقه. وقال لنفسه: «كلا! سواء علي الموت وسيبريا، إنما المهم أن أزايل هذا المكان كله! ولكن أين أذهب؟ إن الحياة سواء في كل مكان ولا مهرب لي من نفسي، ومتى شرع المرء يفكر في الحياة فأخلق بها أن لا تعود أي صورة منها مرضية سواء أعاش في جحر كهذا أم في بطرسبرج.»
وقال شافروف: «إني أرى أن الإنسان لا شيء من حيث هو فرد.» فنظر يوري إلى وجهه الغبي وعينيه المتعبتين الصغيرتين الباديتين من وراء النظارة، وقال لنفسه: «إن مثل هذا لا شيء في الحقيقة.» ومضى شافروف فقال: «إن الفرد صفر، وما يرزق القوة الحقيقية إلا الذين يخرجون من صفوف الجماهير ولا يفقدون الاتصال بها ولا يقاومونها كما يفعل أبطال الطبقات الوسطى.»
فسأله إيفانوف بلهجة المتحفز: «وفي أي شيء تكون قوتهم من فضلك؟ أتظهر قوتهم في محاربة الحكومة الفعلية؟ ربما؟! ولكن كيف تساعدهم الجماهير في جهادهم في سبيل السعادة الشخصية؟» فقال شافروف: «آه! هذا أنت! إنك رجل ضخم من طراز السوبر مان. ولذلك تنشد نوعا من السعادة يلائمك، ولكننا نحن الأوساط نرى أن جهادنا في سبيل الغير هو السعادة. انتصار الفكرة هو قوام السعادة!»
فسأله إيفانوف: «وهب الفكرة كانت خطأ؟»
فقال شافروف: «هذا لا يهم! إن الإيمان هو كل شيء.» وهز رأسه معاندا. فقال إيفانوف بازدراء: «ياه! إن كل امرئ يعتقد أن عمله أهم عمل وأن الدنيا لا يسعها الاستغناء عنه، حتى حائك ثياب السيدات يظن ذلك ويتوهمه! وأنت تعلم هذا حق العلم، وإن كنت قد نسيته على ما يظهر وإذ كنت صديقا لك فليس يسعني إلا أن أذكرك!» - فنظر يوري إلى إيفانوف نظرة البغض والمقت وسأله بلهجة الزراية: «وما هو قوام السعادة في رأيك؟»
فقال إيفانوف: «إن قوامها على التحقيق ليس الزفرات والأنات التي لا آخر لها ولا التساؤل الذي لا ينتهي كأن يظل المرء حياته يقول: «لقد عطست الآن. فهل كان هذا صوابا؟ أليس ذلك خليقا أن يضر بعضهم؟ هل أديت واجبي وقمت بمهمتي إذ عطست؟» فغاظ يوري أن يلمح أن إيفانوف يظن نفسه أذكى منه وأن يتضاحك به فأجابه: «إن هذا ليس برنامجا.» وحمل لهجته ما استطاع من الازدراء.
فقال إيفانوف: «أبك حقا حاجة إلى برنامج؟ إني إذا شئت واستطعت أن أفعل شيئا فعلته. هذا هو برنامجي.» فقال شافروف بحدة: «ما أجمله من برنامج!» وهو يوري كتفيه ولم يجب.
وظلوا لحظة أخرى يشربون في صمت ثم التفت يوري إلى سانين وشرع يشرح له آراءه في الله تعال، وكان يقصد إلى إسماع إيفانوف ما يقول وإن لم ينظر إليه. وكان شافروف يصغي باحترام وحماسة. أما إيفانوف فأولاه ظهره وجعل يقول بعد كل بيان يلقيه يوري: «لقد سمعنا هذا من قبل!»
فتدخل سانين في آخر الأمر وقال لإيفانوف: «أرجوك أن تكف عن هذا! ألا ترى أن تكريرك عبارتك هذه ممل جدا؟ إن لكل إنسان الحق في إبداء رأيه والحرية في اعتناقه.» ثم أشعل سيجارة وخرج إلى الفناء فخفف سكون الليل من حرارة جسمه، وكان القمر قد طلع من وراء الغابة وأراق ضوءه السلس اللين على عالم الظلام، ثم سمع وقع أقدام عارية على الحشائش، ورأى غلاما يخرج من الظلام فسأله: «ماذا تريد؟»
فقال الغلام: «إني أبحث عن المدموازيل كرسافينا المدرسة.»
فسأله سانين: «لماذا؟» وذكر سانين منظرها وهي عارية على حافة النهر ونور الشمس يغمر جسمها فقال الغلام: «إن معي رسالة إليها.» فقال سانين: «أها! لا بد أنها هناك عند الممر لأنها ليست هنا فاذهب إلى هناك.»
فمضى الغلام وغاب في الظلام وتبعه سانين في بطء وهو ينشق النسيم الرقيق الحواشي ويكرع منه كرعا، وسار حتى دنا من المسكن وصار الضوء المرسل من النافذة على وجهه الهادي المفكر، فلمح سينا عند النافذة واقفة في ثياب النوم وعلى كتفها المستدير الرقيق نور المصباح وكانت غارقة في خواطرها، ويظهر أنها كانت سارة إلا أن فيها ما تستحي منه، فقد كانت أجفانها تختلج وعلى شفتيها ابتسامة مرتسمة، فرأى فيها سانين ابتسامة العذراء الناضجة الملتهبة لقبلة ساحرة طويلة، فوقف جامدا مكانه وجعل يحدق فيها.
وكانت سينا تفكر فيما مر بها في يومها وفي تجاربها التي سرتها وأثارت على هذا حياءها وخجلتها فقالت لنفسها: «يا إلهي! أوقد هويت إلى هذا الدرك؟» ثم ذكرت للمرة المائة ما فازت به من الغبطة، وهي بين ذراعي يوري وهمسه «واحبيبتاه!» ولحظ سانين اختلاج جفونها مرة أخرى وابتسامتها، ولم تشأ أن تفكر فيما تلا ذلك مما دفعت إليه العاطفة الجامحة. ودق الباب فسألت سينا «من الطارق؟» ورأى سانين جيدها الناصع الرقيق كأوضح ما يكون، فقال الغلام: «هذا خطاب إليك.»
ففتحت سينا الباب ودخل الغلام وقدماه تحملان طوائف شتى من الأوحال ونزع قبعته عن رأسه وقال: «قد أرسلتني سيدتي.»
ففضت سينا الرسالة وقرأت: «عزيزتي سينوتشكا! إذا استطعت فاحضري الليلة فقد جاء المفتش وسيزور مدرستنا غدا صباحا ولا يحسن أن تكوني غير موجودة.» فسألتها عمتها: «ماذا؟» فقالت سينا: «قد أرسلت ديبوفا في طلبي لأن المفتش حضر.» وحك الغلام قدميه وقال: «لقد أمرتني أن أرجوك أن تبادري إلى الذهاب.» فسألتها عمتها: «أذاهبة أنت؟»
أجابت: «كيف أذهب وحدي في الظلام؟»
فقال الغلام: «إن القمر في كبد السماء والليل منير.»
فقالت سينا مترددة: «لا بد لي من الذهاب.»
فقالت عمتها: «نعم نعم. اذهبي لئلا يحدث ما لا تحبين؟»
فهزت سينا رأسها وقالت: «حسن سأذهب إذن.»
ولبست ثيابها ووضعت قبعتها على رأسها وودعت عمتها والتفتت إلى الغلام وقالت: «أوعائد معي أنت؟» فأطرق الغلام وارتبك وحك قدميه وقال: «لقد حضرت لأبقى مع أمي الليلة وهي تغسل ثياب الرهبان هنا.»
فقالت سينا: «ولكن كيف أذهب وحدي؟»
فأجابها الغلام: «حسن جدا. فلنذهب معا.»
وخرجا إلى الظلام فقالت: «ما أبدعه من منظر!»
ثم ما عتمت أن ندت عنها صرخة إذ اصطدمت بإنسان في الظلام، فقال سانين ضاحكا: «إنه أنا.»
فمدت سينا إليه يدها المرتجفة وقالت على سبيل الاعتذار: «إن الظلام طاغ لا تنفذ فيه العين.» فسألها سانين: «أين تذهبين؟»
أجابت: «إلى المدينة، فقد أرسلوا في طلبي.»
قال: «وحدك؟» أجابت: «كلا! معي الغلام وهو الليلة فارسي.» فقال الغلام ضاحكا: «فارس! هاها!»
وسألته سينا: «وماذا كنت أنت تصنع هنا؟» فقال سانين: «كنا نشرب قليلا.» فسألته سينا: «قلت كنا فمن هم؟»
أجاب: «نعم شافروف ويوري وإيفانوف و...»
فقالت سينا: «أوه! وهل يوري معك؟» واحمر وجهها وسرت في جسمها لذكر اسمه هزة جعلتها تحس كأنها واقفة على حرف هاوية. فسألها سانين: «لماذا تسألين؟»
فقالت وزاد خجلها «لأني ... قا ... قابلته. والآن إلى الملتقى!» فصافح سانين اليد الممدودة إليه وقال: «إذا شئت فإني مستعد أن أحملك في زورقي إلى الشاطئ الآخر. لماذا تقطعين كل هذه الدورة على قدميك؟»
فقالت سينا: «كلا! لا تتعب نفسك من فضلك!» وقال الغلام: «دعيه بالله يفعل فإن الشاطئ كله أوحال تغوص فيه الرجل إلى الركبة.» فقالت: «حسن إذن. ولتذهب إلى أمك الآن .»
فسألها الغلام: «ألا تخافين أن تجتازي الحقول وحدك؟»
فأجاب سانين: «سأرافقها إلى البلدة.»
فسألته سينا: «ولكن ماذا عسى أن يقول إخوانك؟»
فأجابها: «هذا لا يهم! سيظلون إلى الفجر على كل حال وحسبي ما عانيته من الملل إلى الآن.»
فقالت: «إن هذه منة أحفظها لك ... اذهب يا جريشكا.»
فقال سانين: «امسكي بذراعي وإلا تعثرت.»
فلفت سينا ذراعها بذراعه وخالجها إحساس غريب لما لمست عضلاته الحديدية، وهكذا مضيا في الظلام واخترقا الغابة إلى النهر، وكان الليل في الغابة أسحم طاغيا كأنما لفت كل الأشجار في ضباب دافئ لا تنفذ العين منه. فقالت: «ما أشد الظلام!»
فهمس سانين في أذنها وكان صوته يرجف قليلا: «هذا لا يهم إني أحب السرى في الغابات لأن المرء حينئذ يتضرعه ثوب للرياء ويعود أجرأ وأمتع.» وكانت سينا تجد صعوبة في السير، وشاع في جسمها الاضطراب لملامستها في هذه الظلمة جسم سانين القوي المتين الذي كان يجذبها أبدا، واحمر وجهها وعاد كالجمرة المضطرمة وأعداها سانين بحرارة جسمه، فصار ضحكها متكلفا لا ينقطع. وكان الظلام أخف عند سفح التل والقمر يريق ضوءه على صفحة الغدير والنسيم البليل يصافح خديها، وأخذت الغابة تنأى عنهما وتغيب في الظلام كأنما أسلمتها إلى النهر.
فقالت: «أين زورقك؟» أجاب: «هذا هو.»
ثم أخذا مقعدهما فيه وأكسبها القمر والتماع الماء وضاءة وروعة ودفع سانين الزورق فانطلق يفرق الماء ويعوم على ضوء القمر مخلفا وراءه خطا طويلا.
فقالت سينا وأحست فجأة قوة لا تغالب: «دعني أجدف فإني أحب ذلك.» أجاب: «إذن فاجلسي هنا.» ووقف هو في وسط الزورق. فاحتكت به وهي تنتقل إلى مكانها الجديد ولمست بأطراف أصابعها يده الممدودة إليها لمساعدتها وبدت أمامه في حسنها الرائع. وهكذا سبحا على متن الغدير. والقمر يرسل أشعته على وجهها الباهت وحاجبيها السوداوين وعينيها البراقتين، فخيل لسانين أنهما مقبلان على أرض مسحورة منعزلة عن الناس بعيدة عن منازلهم خارجة عن دائرة القانون والعقل الإنساني، وقالت سينا: «ما أجمل هذه الليلة!»
فقال بصوت خفيض: «نعم أليست كذلك!»
فانفجرت ضاحكة وقالت : «لا أدري كيف هذا ولكني أحس رغبة شديدة في أن ألقي بقبعتي في الماء وأرسل شعري.»
فقال سانين: «إذن افعلي.»
ولكنها قلقت وصمتت. وكرت خواطرها إلى ما مر بها في يومها من التجاريب، وخيل لها أن من المستحيل أن لا يكون سانين عارفا بما جرى، فزاد هذا الظن في حدة سرورها ونازعتها نفسها أن تقول له إنها ليست دائما ساكنة حيية محتشمة وإنها أحيانا تلقي عن وجهها قناع الرياء وتعود شخصا آخر مختلفا جدا.
وسألته بصوت مضطرب: «هل عرفت يوري منذ زمن طويل؟» فأجاب: «كلا! لماذا تسألين؟»
قالت: «مجرد سؤال. ألا تظنه ذكيا؟»
وكانت في صوتها نبرة حياء صبياني كأنما كانت تريد أن تنتزع شيئا ممن هو أسن منها ومن له أن يلاطفها أو يعاقبها.
فابتسم سانين لها وهو يقول: «نعم!» وعلمت سينا من صوته أنه يبتسم فزاد حياؤها وقالت: «إنه حقيقة ذكي ... ولكنه شقي على ما يظهر!» فأجابها سانين: «ربما كان الأمر كما تصفين. فأما شقاؤه فلا شك فيه. وهل أنت آسفة له؟»
فقالت سينا بدلال متكلف: «نعم بلا شك.»
فقال سانين: «هذا طبيعي ولكن للشقاء معنى عندك غير معناه الحقيقي. إنك تظنين أن الرجل الساخط الذي لا ينفك يحلل ويشرح حالته النفسية وأعماله - مثل هذا الرجل - تظنينه لا شقيا مسكينا بل تحسبينه قوة وشخصية نادرة فذة، لأنك تتوهمين أن هذا التحليل المستمر من شأنه أن يخول المرء أن يظن نفسه أرقى من سواه وأحق بالعطف والحب والإجلال.»
فسألته سينا: «حسن ولكن ماذا هو إذا لم يكن كذلك؟»
ولم تكن قد كلمت سانين طويلا من قبل، وكانت تسمع أنه فذ فريد في بابه، فوجدت لذة في ملاقاة مثل هذه الشخصية الجديدة الممتعة وضحك سانين وقال: «مضى زمن كان الإنسان فيه يعيش عيشة الوحش ولا يحمل نفسه تبعة أعماله أو إحساساته، ثم تلا ذلك عهد الحياة المحسة المدركة، فبالغ الإنسان في مفتتحها في تقدير عواطفه وحاجاته ورغباته. وهنا عند هذا الطور - يقف يوري فهو آخر «الموهيكان» - آخر من يمثل عصرا من النشوء الإنساني مضى وانقضى ولا سبيل إلى عوده. وكأنه قد أشرب خلاصة ذلك العصر فتسممت روحه، فهو لا يحيا حياته في الحقيقة. يسائل نفسه عن كل عمل وكل فكرة «هل أحسنت؟ هل أساءت؟» وهذا غاية السخف. وهو في السياسة لا يدري هل يليق بكرامته أن يقف في صف مع الآخرين أم لا يليق، وإذا نفض يده من الاشتغال بالسياسة عاد يعجب لنفسه أليس اعتزاله إياها مهانة له وأمثاله كثر، وإذا كان يوري شاذا فذلك راجع إلى أنه أذكى.»
فقالت سينا بحذر: «لم أفهم مرادك تماما. إنك تتكلم عن يوري كأنه هو الملوم عن كونه كذلك. وإذا كانت الحياة عاجزة عن إرضاء رجل فهذا الرجل لا بد أن يكون فوق الحياة.»
فأجابها سانين: «إن الإنسان لا يمكن أن يكون فوق الحياة لأنه ليس إلا جزءا منها. وقد يسخط ولكن مرجع السخط إلى نفسه. فهو إما لا يستطيع أو لا يجرؤ على أن يأخذ من كنوز الحياة ما يسد حاجته. ومن الناس من يقضون حياتهم في السجون وهناك غيرهم آخرون يخافون أن يفروا منها كالطائر الأسير يفرق من الطيران إذ يطلق له. والجسم والروح معا يكونان كلا متجاوبا لا يزعجه إلا دنو الموت الرهيب، ولكننا نحن الذين نقضي على هذا التلاؤم بسوء فكرتنا عن الحياة. فقد زعمنا أن رغباتنا الطبيعية حيوانية وصرنا نحس العار والخجل منها ونخفيها في صور وضيعة. والضعاف منا لا يفطنون لهذا بل يقطعون حياتهم في الأغلال المضروبة عليهم. أما الضحايا فأولئك الذين تقعد بهم آراؤهم المقلوبة. ولا شك أن القوى المحبوسة تتطلب منفذا، وأن الجسم ينشد السرور واللذة وأنه يتعذب من جراء عجزه وقصوره. فهؤلاء وأمثالهم حياتهم صراع دائم وشك مستمر يتعلقون بكل ما يقدرون أن يعينهم ويقضي بهم إلى نظرية أخلاقية أحدث وأجد، ولا يزالون كذلك حتى يعودوا وهم يخافون أن يعيشوا وأن يحسوا.» فقالت سينا مبتهجة: «نعم نعم.» وغزت رأسها كتائب من الخواطر الجديدة، وتلفتت حولها وعينها تضيء وتغلغل إلى أعماق نفسها جمال الليل وحسن الغدير الساكن والغابات الحالمة، وعاودها الشوق إلى تجربة القوة التي تؤتيها السرور.
ومضى سانين في كلامه فقال: «إني أبدا أحلم بعصر ذهبي لا يحول فيه شيء بين الإنسان وسعادته فيباشر كل ما يستطيع من المتع في جرأة وحرية.» فسألته سينا: «ولكن كيف يصنع ذلك؟ أبالرجوع إلى الهمجية؟» قال: «كلا! إن العصر الذي كان فيه الإنسان وحشا كان عصرا منحوسا. وعصرنا الحاضر الذي يتحكم فيه العقل في الجسم ويخفيه عصر تنقصه الهمة والرشد. ولكن الإنسان لم يعش عبثا فقد خلقت له حياته حالات جديدة لا تدع مجالات لخشونة الهمجية ولا للرهبانية.»
فسألته: «وماذا عن الحب؟ ألا يفرض علينا قيودا؟»
فقال: «كلا! إن الحب إذا كان يفرض قيودا مؤلمة فذلك من جراء الغيرة. والغيرة نتيجة العبودية. والرق في أي صورة ضار وينبغي للناس أن يستمتعوا ما يتيح لهم الحب بلا خوف ولا قيد، فإذا فعلوا عاد الحب أمتع وأحفل في كل صورة وأكثر تأثرا بالمصادفات والفرص.» فقالت لنفسها: «لم يخالجني أي خوف في هذه اللحظة.» ثم نظرت فجأة إلى سانين نظرة من يراه لأول مرة وكان جالسا أمامها أزرق العينين عريض الكتفين يشوق الناظر إليه ويروق فقالت لنفسها: «ما أجمله!»
وبدا لعينها عالم بأسره من القوى والعواطف فهل تدخله؟ فابتسمت لهذا الخاطر وهي ترتجف ولا بد أن يكون سانين قد أدرك ما يجول في خاطرها فقد أسرعت أنفاسه وعاد وكأنه يلهث. ومر الزورق بنقطة يضيق فيها مجرى النهر فالتصق المجدافان بالأعشاب وأفلتا من كفيها فقالت: «لا أستطيع أن أجدف هنا إن المجرى ضيق.» وكان صوتها رقيقا منغما كخرير الماء. فوقف سانين وسار إليها فسألته وهي فزعة: «ماذا؟» فقال: «لا شيء إني أريد ...»
فوقفت مثله وحاولت أن تصل إلى الدفة واضطرب الزورق اضطرابا عنيفا ففقدت توازنها ومالت إلى سانين وأمسكت به ووقعت بين ذراعيه. وفي هذه اللحظة - وبدون أن يجري في خاطرها أن هذا ممكن - أطالت التصاقها به، فاندلعت النار في دماء سانين وخرجت من بين شفتيه آهة دهشة وسرور واحتضنها وردها إلى الوراء حتى سقطت قبعتها وزاد اضطراب الزورق فصاحت به: «ماذا تصنع؟ دعني بالله! ماذا تصنع؟» وكان صوتها ضعيفا خافتا. وحاولت أن تتخلص من ذراعيه الحديديتين ولكن سانين ضم صدرها إليه ضما أزال ما كان بينهما من الحواجز.
ولم يكن حولهما إلا الظلام، وإلا رائحة النهر والأعشاب البليلة، وجو يسخن تارة ويبرد أخرى وسكون عميق، ثم فقدت فجأة وهي لا تدري كل إرادة لها أو فكر فتراخت أعضاؤها وأسلمت نفسها لإرادة غيرها.
الفصل الخامس والثلاثون
أفاقت سينا أخيرا فأبصرت صورة القمر الوضاء مرتسمة على صفحة الماء ووجه سانين مكبا عليها بعينيه اللامعتين، وأحست أن ذراعيه حول خاصرتها وأن أحد المجدافين يحك ركبتها.
ثم طفقت تبكي بكاءا رقيقا ملحا دون أن تحاول التخلص من عناق سانين، وكان بكاؤها على ذلك الذي لا يرد ودموعها دموع الخوف والمرثية لنفسها والحب له. فرفعها سانين ووضعها على ركبته وهي مستسلمة له كالطفل، وكانت تسمعه يرفه عنها بلهجة الوامق الشاكر وكأنها تحلم فقالت لنفسها: «سأغرق نفسي.» وكأنما كان هذا الخاطر جوابا على سؤال شخص ثالث يقول لها: «ماذا صنعت؟ وماذا تنوين أن تصنعي الآن؟»
ثم سألت سانين بصوت عال: «ماذا أصنع الآن؟» فأجابها سانين: «سنرى» فحاولت أن تنهض عن ركبته، ولكنه أمسك بها فبقيت في مكانها وهي تعجب كيف لا تشعر له بمقت أو اشمئزاز، وحدثت نفسها إن لم يعد يعنيها ما عسى أن يحدث وخالجها شعور خفي بالعجب لهذا الرجل الأجنبي الحبيب ماذا ينوي أن يصنع بها.
وبعد برهة تناول سانين المجدافين واستلقت هي إلى جانبه وعيناها مغمضتان وجسمها يضطرب كلما لامست يده صدرها وهو يجدف، ولما بلغ الزورق الشاطئ فتحت عينيها فأبصرت الحقول والماء والضباب والقمر باهتا كالشبح يهم بالفرار من الفجر، وكان الفجر قد تنفس وهب النسيم باردا فسألها سانين: «هل أذهب معك؟» فقالت: «كلا! إني أفضل أن أمضي وحدي.» فحملها سانين وسره أن يحملها، فقد كان يحس أنه يحبها وأنه مدين لها بالشكر ووضعها على الشاطئ بعد أن ضمها وقال: «يا لك من حسناء!» فابتسمت ابتسامة الزهو. وتناول سانين يديها وجذبها إليه وقال: «قبليني» فقالت لنفسها وهي تطبع على فمه قبلة حارة طويلة: «لا يهم الآن! إن كل شيء لا يهم!» وهمست في أذنه: «إلى الملتقى.» وهي لا تكاد تدري ما تقول فناشدها سانين: «لا تغضبي علي يا فتاتي!» وجعل يراقبها وهي تصعد الشاطئ مترنحة متطرحة وهو يرثي لها وأحزنه ما هو مذخور لها من الآلام التي لا ضرورة إليها والتي لا قبل لها باحتمالها، وكانت تسير في بطء إلى مطلع الفجر ولم تلبث أن لفها الضباب في شملته البيضاء.
ولما خفيت عن عينه وثب سانين إلى الزورق وجلد المساء بمجدافيه فأرغاه، واندفع به الزورق حتى توسط النهر، وكان ضباب الفجر قد غشي ما حوله فترك المجدافين ووقف في وسط الزورق وأطلق صيحة فرح عالية، فتجاوبت بصيحته الغابات والضباب كأنما كانت حية مثله.
الفصل السادس والثلاثون
نامت سينا كأن ضربة أصابتها، ولكنها بكرت في القيام وكانت مهدودة القوى باردة الجسم كالجثة. ولم ينم يأسها لحظة ولم تستطع أن تنسى ما حدث، فجعلت وهي حزينة صامتة تفحص ما في الغرفة كأنما تريد أن ترى هل لحق شيئا تغيير، ولكن كل شيء كان على العهد به، وكانت ديبوفا على السرير الثاني مستغرقة في نومها، وليس غير الثوب الملقى على كرسي بدون احتفال يقص عليها قصتها. وزاد وجهها اصفرارا وأحضرت لذهنها كل ما مر بها ثم نهضت ولبست ثيابها وجلست إلى النافذة تنظر إلى الحديقة، وكان رأسها يموج بالخواطر المضطربة المبهمة كالدخان إذ تعبث به الريح. ثم استيقظت ديبوفا فجأة وقالت: «ماذا؟ أوقد قمت؟ ما أعجب هذا؟»
وكانت لما حضرت سينا صباحا قد سألتها والنوم يغالبها: «وكيف استطعت أن تحضري في هذه الليلة؟» ثم نامت ولم تنتظر الجواب، ولكنها لما تبينت الآن أن في الأمر شيئا أسرعت حافية وسألتها: «ما الخبر؟ أمريضة أنت؟» فقالت سينا وعلى شفتيها الورديتين ابتسامة: «لالا! ولكني لم أذق النوم.»
وهكذا نطقت بأول أكذوبة أحالت عذريتها الصريحة المزهوة ذكرى وجعلت تنظر إلى ديبوفا وهي تلبس ثيابها فبدت لها نقية وضاءة، ورأت نفسها بغيضة كالأفعى، وبلغ من ذلك أن خيل لها أن الجانب الذي كانت ديبوفا واقفة فيه مشمس ضاح على حين بدا لها ركنها مغمورا بالظلام. ولكن ذلك كله كان مكتوما ولم يكن ظاهرها الطاهر ينم على شيء، ثم لبست حلتها وقبعتها وتناولت مظلتها وذهبت إلى المدرسة جذلة على عادتها، وبقيت ثم إلى الظهر ثم عادت وقابلت في الطريق ليدا، فوقفتا تتحدثان عن أمور تافهة كثيرة، وكانت ليدا تمقت سينا لظنها أنها سعيدة حرة فارغة القلب من الهموم، على حين كانت سينا تنفس على ليدا حياتها السلسلة الممتعة، وكانت كل منهما تعتقد أنها ذاهبة ضحية الظلم وتقول لنفسها: «إني ولا شك خير منها فلماذا تسعد وأشقى؟»
وتناولت سينا بعد الغداء كتابا وجلست قرب النافذة تقرأ، وكانت ساعة الانفعال قد انقضت فصارت الآن لا تحفل بشيء وجعلت تردد من حين إلى حين: «آه! لقد قضي الأمر. وخير لي أن أموت.» ورأت سانين قبل أن يراها، وكان سائر صوبها يخترق الحديقة وينحي عنه الأغصان المتهدلة كأنما تريد أن تحييه بلمسها فاضطجعت في كرسيها وجعلت ترقبه بعينين شاردتين.
وقال ومد إليها يده: «عمي صباحا.» وقبل أن تستطيع أن تنهض أو تفيق من دهشتها حياها مرة أخرى بصوت رقيق فتمتمت: «عم صباحا.» فمال إلى النافذة واتكأ عليها وقال: «تعالي إلى الحديقة برهة نتحدث.» فنهضت تدفعها قوة سلبتها إرادتها وقال سانين: «سأنتظرك هناك.» فلم تزد على أن هزت رأسها.
وكانت سينا تشفق من النظر إليه وهو يتراجع إلى الحديقة، فظلت بضع ثوان جامدة في مكانها ويداها متصافقتان ثم خرجت، وكان سانين واقفا ينتظرها في بعض جهات الحديقة فأقلقتها ابتسامته، فتناول كفها وجلس على جذع شجرة وجذبها برفق إلى حجره وقال: «لست واثقا من أنه كان يليق بي أن أحضر لأني أخشى أن تظني أني أسأت إليك، ولكني لم أستطع البقاء بعيدا عنك وأريد أن أشرح لك بعض الأمور حتى لا تذهبي إلى مقتي وكرهي. وبعد ... فماذا كنت أستطيع أن أفعل غير ما فعلت؟ كيف كان يسعني أن أقاوم؟ لقد مرت بي لحظة شعرت فيها أن كل حاجز بيننا تداعى وأني إذا أفلتتني هذه اللحظة فلن تعود وأنت رائعة الجمال وضيئة الشباب ...» وكانت سينا صامتة وأذنها الرقيقة الشفافة يغطيها شعرها إلا أقلها فاحمرت واختلجت أهداب أجفانها فقال سانين: «إنك شقية الآن. أما البارحة فما كان أجمل كل شيء! وإنما تنشأ الأحزان لأن الإنسان فرض ثمنا لسعادته، ولو أن أسلوب حياتنا كان مختلفا لبقيت ليلتنا هذه في ذاكرتينا أنفس ما جربناه وأجمل ما استمتعنا به.» فقالت: «نعم لو أن ...» ثم ابتسمت فجأة فأنعشتها ابتسامتها التي لم تكن مقدرة ولكن ذلك لم يطل إلا برهة. ثم تراءت لها حياتها المستقبلية تكتنفها الأحزان والعار فأثارت في نفسها هذه الصورة الحقد والمقت وقالت بحدة: «اذهب عني! دعني!» وصرت أسنانها وتصلب وجهها ونطق بالبغض وهي تنهض.
فرق لها قلب سانين ونازعته نفسه هنيهة أن يعرض عليها اسمه وحمايته ولكن شيئا صده وصرفه، وأحس أن مثل هذا الإصلاح لما أفسد أحط وأسفل من أن يعالج. ثم قال: «إني أعلم أنك تحبين يوري فلعل هذا ما يكربك؟» فتمتمت سينا وشدت كفا على كف: «لست بعاشقة أحد.» فقال سانين مستعطفا: «لا تحملي لي ضغنا إنك كما كنت جمالا وحسنا وقدرة على إيتاء يوري ما أوليتني إياه من السعادة، وإني لأتمنى لك من أعماق قلبي كل غبطة ميسورة ونعمة ممكنة، وسأتمثلك دائما كما رأيتك البارحة. فالوداع وابعثي في طلبي إذا إحتجت إلي. واعلمي أن حياتي مبذولة لك إذا أردت.» فنظرت إليه سينا وهي صامتة وأحست عطفا عجيبا وقالت لنفسها: «من يدري؟ ربما استقامت الأمور.» وتجرد المستقبل من البشاعة في نظرها ووقف الاثنان وجها لوجه وهما يعلمان أن في صدريهما سرا لا سبيل لأحد إليه، وأن ذكراه ستبقى على الأيام سارة. وقالت سينا: «إلى الملتقى.» بصوت رقيق عذب، فأضاء السرور وجه سانين ومدت إليه كفها فقبلها وقبلته قبلة الأخوين ورافقته إلى بوابة الحديقة، ثم وقفت وجعلت تراقبه آسفة وهو يمضي عنها، ثم كرت راجعة إلى الحديقة واستلقت على النجائل وأغمضت عينيها وفكرت فيما وقع وتساءلت: أينبغي لها أن تطلع يوري عليه أم تكتمه. وقالت: «كلا! لن أفكر في هذه مرة أخرى، ويحسن أن ننسى بعض الأمور.»
الفصل السابع والثلاثون
استيقظ يوري صباح اليوم التالي متوعكا مصدع الرأس مر الفم. ولم يذكر في أول الأمر إلا صيحات وأصوات كئوس وضوء مصابيح خابية قرب الفجر، ثم ذكر كيف أن شافروف وبيتر الليتش مضيا وأنه بقي مع إيفانوف، وكان هذا قد اصفر من كثرة الشراب ولكنه ظل متماسكا وأنهما وقفا يتحدثان فوق الشرفة.
ولم تدع لهما الخمر عينا تفطن إلى جمال الفجر والمروج والنهر وظلا يتناقشان، وأثبت إيفانوف ليوري أن أمثاله لا قيمة لهم إذ كانوا يخافون أن يقطفوا ثمار الحياة، وأن خيرا لهم أن يموتوا وذكر قول بيتر الليتش: «إني على التحقيق لا أدعو هؤلاء الأشخاص رجالا.» وضحك وتوهم أنه هدم يوري وقضى عليه، ولكن يوري لم يسؤه ذلك ولم يعبأ من كلامه إلا بقوله إن حياته شقية، وذهب يعلل ذلك بأن أمثاله أدق حسا وألطف شعورا، ووافق على أن خيرا لهم أن يخرجوا من الدنيا، ثم طغى حزنه حتى كاد يبكي، وهم بأن يخبر إيفانوف بحبه لسينا وما وقع له معها وأن يلقي بشرفها تحت قدمي هذا الوحش.
وذكر أيضا أن إيفانوف عاد بعد برهة ومعه سانين، وأن سانين كان منشرح الصدر كثير الكلام، وأنه كان ينظر إلى يوري نظرة ود مشوبة بالزراية ثم انتقلت خواطره إلى سينا فقال لنفسه: «لقد كان من الخسة أن أنتهز فرصة ضعفها. ولكن ماذا أصنع الآن؟ أنالها ثم أرمي بها. كلا! هذا لا سبيل إليه فإني أرق قلبا من ذلك، إذن ماذا أفعل؟ أأتزوج منها؟»
الزواج! إن هذا مبتذل إلى حد شنيع. وكيف يستطيع من كان مثله معقد المزاج أن يحتمل فكرة المعيشة الزوجة العامية! إن هذا مستحيل: «على أني أحبها، فهل أنبذها وأمضي؟ ولماذا أقضي على سعادتي؟ إن هذا فظيع ومضحك !»
ثم وصل إلى البيت وحاول أن يصرف خواطره عن هذا الموضوع، فجلس إلى المكتب وشرع يقرأ بعض عبارات فخمة كان قد كتبها أخيرا. «ليس في هذه الدنيا خير ولا شر. يقول البعض إن الطبيعي خير وإن الإنسان حقيق أن يرضي شهواته لأنها طبيعية ولكن هذا خطأ لأن كل شيء طبيعي. وما من شيء يولد في الظلام أو الفراغ. وأصل كل شيء واحد.» «ويقول آخرون كل شيء يخرج من يد الله حسن. ولكن هذا أيضا خطأ لأن الله إذا كان موجودا مصدر كل شيء حتى الكفر. وهناك آخرون يقولون: «إن الخير هو فعل الخير والإحسان إلى الناس. وكيف يكون ذلك؟ إن ما ينفع واحدا يضر غيره، يطلب الرقيق حريته. ويستبقيه سيده عبدا رقيقا والغني يبغي بقاء ثروته، والفقير ينشدها وينشد المظلوم الإنصاف والحرية والظافر أن لا يهزم، والمشنوء أن يحب، والحي أن لا يموت والإنسان أن يقضي على الوحوش، والوحوش أن تفترس الإنسان، هكذا كانت الحالة في البداية وهكذا ستظل إلى آخر الدهر، وليس من حق إنسان كائنا ما كان أن يستأثر بما هو خير له وحده.» «ويقول الناس إن الحب خير من البغض، وهذا أيضا خطأ لأنه إذا كان ثم جزاء فخير على التحقيق للمرء أن لا يذهب إلى الأثرة والأنانية، ولكن إذا لم يكن ثم جزاء فخير له أن يفوز بنصيبه من السعادة تحت الشمس.»
ومضى يوري في تلاوة هذا الذي كان كتبه وهو يظن أن خواطره هذه مدهشة العمق وقال لنفسه: «إن هذا صحيح.» واستشعر الزهو ثم مضى إلى النافذة وأطل على الحديقة حيث كانت الأرض مغطاة بالأوراق الصفراء، فأحس أن لون الموت يطالعه من كل ناحية، وصار حيثما أدار بصره يرى أوراقا ذابلة وحشرات ارتهنت حياتها بالحرارة والدفء ولم يستطع يوري أن يفهم هذا السكون وملأ الصيف المنصرم قلبه بالسخط فقال: «لقد زحف الخريف وسيتلوه الشتاء والجليد ثم الربيع فالصيف فالخريف كرة أخرى وتدور الأعوام دورتها الأبدية المملة. وماذا أصنع طول هذا الزمن؟ ما أنا صانعه الآن ؟ كلا فسأكون أبدا حيا وأكل ذهنا ثم يوافيني الهرم وفي عقبه الموت.»
وغزت ذهنه الخواطر التي كانت تربكه أبد، فراح يتوهم أن الحياة قد مرت به وأنه ليس في الدنيا وجود خاص - حتى حياة الأبطال تكون مفعمة بدواعي الملل والشجن في مفتتحها وخالية من بواعث السرور في ختامها - ثم صاح: «عمل! نصر من أي نوع! أتقد ثم أخمد بلا خوف ولا ألم! هذه هي الحياة الحقيقية الوحيدة.» وخطر لذهنه ألف عمل كل منها أفحل من الآخر، فأغمض عينيه فمثل لخياله منظر الصباح في بطرسبرج وبدت أسوار مرتفعة بينها مشنقة. وتصور فوهة مسدس ملتصقة بجبينه وخيل له أنه يسمع صوت انطلاقه على وجهه فقال: «هذا هو الذي يدخره القدر لي! هذا مصيري!» فخفيت أعمال البطولة وحل محلها إحساسه بالعجز، وخيل له أن ما يحلم به من الأعمال المجيدة ليس إلا أوهاما صبيانية. فقال: «لماذا أضحي بنفسي أو أحتمل الإهانة والموت لتتقي طبقات العمال في القرن الثاني والثلاثين آلام الجوع والفقر الجنسي؟ إلى الشيطان بكل من في الدنيا من العمال وغير العمال! بودي لو ضربني بعضهم برصاصة! نعم أود أن يقتلني بعضهم بضربة من خلفي حتى لا أحس شيئا. ما هذا الكلام الفارغ؟ ولماذا أطلب أن يفعل غيري هذا؟ ألا يمكن أن أفعل أنا ذلك؟ هل بلغ من جبني أن لا أستطيع أن أختصر هذه الحياة التي أعلم أنها حياة شقاء محض؟ إن المرء يموت لا محالة فخير ...» ودنا من المكتب الذي فيه مسدسه وأخرجه منه وقال: «لنفرض أني جربت! لا لأقتل نفسي فعلا بل على سبيل التلهي والمزاح ...» ووضع المسدس في جيبه وخرج إلى الشرقة المؤدية إلى الحديقة وكانت الأوراق الصفراء منتشرة على الدرج فرفسها برجله وأطارها في كل ناحية وصفر لحنا شجيا حزينا. فسألته لياليا: «ما هذا اللحن؟ أهو رثاء لشبابك الراحل؟» وذهبت إليه فقال: «لا تهذي.» وأحس منذ هذه اللحظة أن شيئا يدنو منه وأن لا طاقة له على دفعه فراح يتنقل في أرجاء الحديقة وهو مضطرب، ومضى إلى النهر حيث كانت الأوراق الذاوية عائمة على صفحته. وظل برهة يرقب الدوائر تنداح على سطح الماء والأوراق ترقص ثم كر إلى البيت، ووقف في طريقه يتأمل أحواض الزهر، وكانت فيها بقية منه ثم انقلب إلى الحديقة. كانت فيها شجرة بلوط خضراء الأوراق وعلى مقعد في ظلها قط فرمقه يوري واغرورقت عيناه، وجعل يكرر: «إن هذا هو المنتهى.» وكانت هذه الألفاظ تقع من نفسه موقع السهم فعاد يقول: «كلا! ما هذا الهراء؟ إن حياتي كلها لا تزال أمامي وإني ما زالت في الرابعة والعشرين من عمري. كلا ليس هذا بالذي يقضى، وما هو؟» وذكر سينا فجأة وخطر له أنه من المستحيل عليه أن يقابلها بعد ذلك المنظر الفاضح في الغابة والخير له أن يموت ... وقوست القطة ظهرها وماءت فراقبها يوري باهتمام ثم جعل يمشي جيئة وذهوبا ويقول: «إن حياتي مملة جافة، ولا أدري ... كلا! إن الموت أهون من لقائها!»
فزايلت سينا حياته وانبسط أمامه المستقبل باردا فارغا موحشا فقال: «خير لي أن أموت.» وفي هذه اللحظة مر السائق وفي يده دلو ماء تغطي سطحه الأوراق الذاوية الصفراء وبدت الخادمة في حرم الباب ونادت يوري، فمكث برهة لا يفهم ما تقول ثم قال لما أدرك أنها تدعوه إلى الطعام: «نعم نعم» وحدث نفسه: «الطعام؟ أتناول طعاما! ما أفظع هذا! كل شيء سيكون على العهد به: أعيش وأقطع قلبي بالتساؤل عما ينبغي لي أن أصنعه لسينا ولحياتي وأعمالي؟ إذن فلا بد من التعجيل وإلا لم تبق في الوقت فسحة إذا ذهبت إلى الطعام.» وغلبته الرغبة في الإسراع فراح كل عضو من أعضائه يرعد، وأحس أنه لن يحدث شيء، ولكنه كان على هذا يشعر أن الموت يرنق فوقه، وكانت الخادمة لا تزال واقفة في الشرفة ويداها تحت منشفتها تنشق نسيم الخريف الرقيق، فتسلل يوري كاللص وراء شجرة البلوط حتى لا يراه أحد من الشرفة، وأطلق مسدسه بسرعة مدهشة على صدره، وخيل له أن النار أخطأته ففرح وعاوده الشوق إلى الحياة والفزع من الموت ، فصرخت الخادمة وارتدت إلى البيت وما هي إلا برهة ثم رأى يوري حوله جمهور من الناس، وصب أحدهم ماء باردا على رأسه ولصقت ورقة ذاوية بجبينه وضايقته، وسمع أصواتا عالية من حوله وبكاء ونداء: «يوري! يوري! لماذا؟ لماذا؟ فعرف أنها أخته لياليا وفتح عينيه وأخذ يغالب الموت بعنف وصاح: «إلي بطبيب عجلوا.» ولكنه أحس مع هذا أن الأمر قد قضي وأنه لا سبيل إلى نجاته، وثقلت الورقة الصفراء على جبينه وضغطت على ذهنه، فمط عنقه مستوضحا، ولكن الأوراق ظلت تكبر في رأي عينه حتى دون النظر ولم يدر يوري ماذا حدث بعد ذلك.
الفصل الثامن والثلاثون
آسف كل امرئ على يوري سواء في ذلك من أحبوه ومن أبغضوه ومن احتقروه ومن لم يفكروا فيه. ولم يفهم أحد منهم باعثه على الانتحار، وإن كانو يظنون أنهم يعلمون أن في أعماق نفوسهم بعض ما خامر نفسه. ولم يشيعه من أهله أحد لأن أباه كان قد أصيب بالفالج، ولم يسع أخته لياليا أن تتركه فناب ريزانتزيف عن الأسرة، وتولى الإشراف على الجنازة والدفن، وكان لهذا وقع محزن في نفوس المشيعين، وغمر النعش بورود الخريف الجميلة ووسد يوري بين بيضائها وحمرائها هادئا ساكنا ليس على وجهه أقل أثر للعراك أو الألم.
ولما مرت الجنازة ببيت سينا لحقت بها هي وديبوفا، وكانت سينا مكسورة القلب مضطربة كأنما يسوقها سائق إلى إعلان فضيحتها، وكانت على يقين من أن يوري لم يسمع بما أصاب عفافها ولكنها على هذا رأت علاقة بين هذا وموته، وكانت قد قضت الليل في البكاء وفي تقبيل وجه حبيبها المرتسم في خيالها، وطلع الصبح فاكتظ قلبها بحبه ومقت سانين، واستفظعت كل ما قاله لها سانين، وكانت قد آمنت به، فلما دنا منها وهي سائرة في الجنازة نظرت إليه نظرة فزع واستبشاع وانصرفت عنه، وأدرك سانين لما سلم عليها كل ما تحسه وتفكر فيه، وعلم أنهما بعد اليوم غريبان فعض شفته وانضم إلى إيفانوف وقال له: «اسمع! إن يبتر الليتش سيموت ترتيلا!» فقال إيفانوف : «ما أغرب هذا الضعف! يقتل نفسه في لحظة!» فأجابه سانين: «إن اعتقادي أنه قبل أن يطلق مسدسه بثلاث دقائق لم يكن يدري أينتحر أم يحيا. لقد مات كما عاش.» فقال إيفانوف: «إنه على كل حال قد وجد لنفسه مكانا.» وتلقت الأرض يورى في هذه اللحظة. وحين كاد النعش يخفى عن النظر وتفصل الأرض إلى الأبد بين من عليها ومن تحتها صرخت سينا، فتجاوبت المقبرة بصرختها وعويلها ولم يعد يهمها أن تكتم سرها فمضوا بها عن القبر، وهيل التراب وسوي ورفعت عليه بعض الصوي. وقلق شافروف وقال: «أليس من يرثيه؟ أيها السادة إن هذا لا يليق! لا بد من تأبينه.»
فقال إيفانوف مقترحا بخبث: «اطلب من سانين ذلك.»
فقال شافروف: «سانين؟ وأين هو؟ آه فلاديمير سانين هل تتفضل بإلقاء كلمتين؟ إننا لا نستطيع أن نمضي دون أن نرثيه.»
فقال سانين بجفوة: «إذن فارثه أنت.» وكان يصغي إلى سينا هي تبكي بعيدا عنهم فقال شافروف: «لو استطعت لفعلت إنه كان حقيقة رجلا نادرا، أليس كذلك؟ قل من فضلك كلمة!» فنظر سانين إليه شزرا وقال بلهجة المغضب: «ماذا عسى أن أقول؟ لقد نقصت الدنيا مجنونا. هذا كل ما في الأمر.» فوقعت هذه الكلمات أوضح ما تكون على مسامع الحاضرين وبلغ من ذهولهم أن لم يجدوا جوابا، ولكن ديبوفا صاحت بصوت عال: «يا للفضيحة!» فسألها سانين وهز كتفيه: «لماذا؟» فهمت ديبوفا بأن تصيح في وجهه وأن تهدد بقبضة يدها، ولكن رفيقاتها منعنها وتفرق الجمع بغير نظام، وكانت عبارات الاحتجاج تخرج من كل فم، وتشتت المشيعون كالأوراق الذاوية عصفت بها الريح، وجرى شافروف ثم ارتد ووقف ريازنتزيف مع بعضهم يومئ إيماءات عنيفة. وكان سانين غارقا في خواطره يحدق في وجه رجل على عينه نظارة ثم التفت إلى إيفانوف، وكان مرتبكا ولم يكن يقدر حين أحال شافروف عليه أن يكون هذا رده فأسف، وكان إلى جانبه شاب يتكلم بحرارة فسمره إيفانوف بنظرة وقال له: «يظهر أنك تظن أنك حلية وزينة.» فخجل الشاب وقال: «ليس في هذا ما يضحك.» فصاح به إيفانوف: «لعنك الله اذهب عني!» وكانت نظرته من العنف بحيث لم يسع الشاب إلا المضي وكان سانين يراقب ذلك فابتسم وقال: «ما أحمقهم جميعا!»
فقال إيفانوف: «هيا بنا! إلى الشيطان بهم.»
ومرا في طريقهما بريازانتزيف، ورأى سانين زمرة من الشبان لا يعرفهم واقفين ورأس كل منهم إلى رأس صاحبة، وفي وسطهم شافروف يتكلم ويومئ، فلما دنا منهم سانين سكت والتفتوا جميعا لينظروا إلى سانين وفي وجوههم أمارات السخط والغضب والاستغراب، فقال إيفانوف: «إنهم يأتمرون بك.» واستغرب نظرة سانين الحزينة وتقدم شافروف ودنا من سانين فالتفت هذا إليه بحدة كأنما يتهيأ لأن ينفض به الأرض. ويظهر أن شافروف أدرك ذلك فقد اصفر ووقف على بعد وحف به الطلبة والفتيات كالأغنام وسأله سانين: «ماذا تريد غير ذلك؟» فقال شافروف وهو مرتبك: «إننا لا نريد شيئا ولكن كل زملائي يريدون أن أعرب عن سخطهم ...» فقال سانين وأسنانه مطبقة: «ما أعظم اهتمامي بسخطكم! لقد سألتني أن أقول كلمة عن الميت فلما صارحتكم برأيي جئت تعرب لي عن سخطك. وهذا حسن منك. ولولا أنكم زمرة من الصبيان الحمقى الممرورين لأثبت لكم أني مصيب وأن حياة يوري كانت حياة سخيفة لأنه قضاها في التساؤل عن كل ما لا يجدي ثم مات ميتة الحمقى، ألا إنكم جميعا لأكثف ذهنا وأضيق عقلا من أن تستحقوا الكلام. فإلى الشيطان بكم جميعا اذهبوا عني!.» ولم يقلها حتى انطلق يشق لنفسه طريقا بينهم فقال شافروف: «لا تدفعني من فضلك.» وصاح بعضهم: «لم أر أوقح ...» ولم يتم عبارته. وسأله إيفانوف: «ما الذي يخيف الناس منك! إنك تفزعهم أشد الفزع!»
فقال سانين: «لو ضايقك هؤلاء الشبان بآرائهم الخرقاء في الحرية لعاملتهم بأحسن من معاملتي لهم فليذهبوا جميعا إلى الجحيم.»
فقال إيفانوف: «دعنا من هذا يا صديقي. هل تدري ماذا يجب أن نصنع؟ نشتري شيئا من الجعة ونشربها على ذكرى يوري.»
فقال سانين بدون اكتراث: «إذا شئت.»
ومضى إيفانوف في تفصيل اقتراحه فقال: «لن يكون هناك أحد حين نعود. فلنشرب الجعة بجانب القبر وللفقيد احترامنا ولأنفسنا المتعة.» فقال: «حسن جدا.» ولم يكن على القبر أحد حين عادا فجلسا، وما كادا يفعلان حتى خرج من التراب ثعبان أسود فظيع فصاح إيفانوف وهو يرعش: «ثعبان» ثم شربا وألقيا بالزجاجات الفارغة على الحشائش المغروسة على القبر الجديد.
الفصل التاسع والثلاثون
قال سانين لإيفانوف وهما يجتازان الشارع في المساء: «اسمع»! قال: «ماذا؟» قال: «تعال معي إلى المحطة فإني مزمع رحيلا.» فوقف إيفانوف وسأله عن السبب فقال سانين: «لأني مللت هذا المكان.» فقال إيفانوف: «أترى أخافك شيء؟» أجاب: «أخافني أني راحل لأني أريد ذلك.» قال: «نعم ولكن ما السبب؟»
أجاب: «يا صديقي لا تسأل عن هذه الأسئلة السخيفة. إني راحل وكفى وما دام المرء لم يستبطن الناس فقد يبقى له أمل فيهم. ولكن تأمل بعض من نعايشهم هنا: خذ مثلا سينا أو سمينوف أو ليدا نفسها التي كان يمكنها أن لا تكون عامية النفس أوه! إنهم يضجرونني الآن وقد مللتهم وأضنتني معاشرتهم وطال صبري عليهم واحتمالي لهم ولم تعد لي طاقة على ذلك.»
فحدق إيفانوف في وجهه قليلا وقال: «تعال! إنك لا شك ستودع أهلك؟» قال سانين: «كلا! لست من يفعل ذلك فإنهم هم الذين أملوني.» أجاب: «ولكن أين أمتعتك؟»
قال: «ليس عندي شيء كثير. وإذا انتظرتني في الحديقة ذهبت إلى غرفتي وألقيت إليك بالحقيبة من النافذة حتى لا يكثروا من السؤال عن الأسباب والدواعي، وعلى أي سبب هناك ما أقوله لهم؟»
فقال إيفانوف «حسن. وإني لآسف جدا لسفرك يا صديقي ولكن ... ماذا أستطيع أن أصنع لك؟» أجاب: «تعال معي.»
فقال «أين؟» أجاب: «إن المكان لا يهم وفي وسعنا أن نفكر في هذا فيما بعد.» فقال: «ليس معي مال.» فضحك سانين وقال: «ولا أنا» أجاب: «كلا! إذن فاذهب وحدك وستبدأ الدراسة بعد أسبوعين فأعود إلى المجرى القديم.» ونظر كل منهما إلى صاحبه ثم صرف إيفانوف وجهه وهو مرتبك كأنما كان رأى صورة مشوهة لوجهه في مرآة. واجتاز فناء البيت ودخل سانين من الباب وانتظر صاحبه في الحديقة المظلمة تحت النافذة.
أما سانين فإنه لما مر بغرفة الاستقبال سمع أصواتا آتية من الشرفة فأصغى فإذا ليدا تقول: «ولكن ماذا تريد مني؟»
فقال نوفيكوف: «لا أريد شيئا. ولكن يخيل لي أنه من الغريب أن تظني أنك ضحيت بنفسك يا ليدا من أجلي على حين أني أنا ...» فقالت ليدا بصوت متهدج: «نعم نعم. أعلم ذلك وأعلم أنك أنت الذي يضحي بنفسه لا أنا. فماذا تريد أكثر من ذلك؟»
فتضايق نوفيكوف وقال: «ما أقل فهمك لما أعنى! إني أحبك فليس في الأمر تضحية، ولكن إذا كنت تظنين أن في زواجنا تضحية بك أو بي فكيف نستطيع أن نتعايش؟ أرجوك أن تفهمي. إننا لا نستطيع الحياة معا إلا على شرط واحد، وهو أن لا يجري في وهم أحد منا أن في الأمر تضحية ما. وأما أن نكون متحابين حينئذ يكون زواجنا معقولا وطبيعيا، وإما أن لا نكون متحابين وحينئذ ...» فشرعت ليدا تبكي فجأة، فصاح نوفيكوف: «ماذا دهاك؟ إني لا أفهمك. لم أقل شيئا يسيئك لا تبكي. الحق أن المرء لا يستطيع أن ينطق كلمة واحدة.»
فقالت ليدا وهي تبكي: «لا أدري ... ولكن ...»
فقطب سانين أساريه ودخل غرفته وقال لنفسه: «وهذا كل ما وصلا إليه؟ لعله كان خيرا أن تغرق نفسها!»
وكان إيفانوف منتظرا تحت النافذة يسمع حركة سانين وهو يجمع أمتعته فقال: «أسرع» فقال سانين ودلى إليه الحقيبة: «خذ» ولما تناولها وثب سانين وراءها وقال: «هيا بنا.»
وأسرعا فاجتازا الحديقة وكانت الشمس قد انحدرت، ولما بلغا محطة السكة الحديدية ألفيا المصابيح مضاءة ووجد قاطرة تنفخ والناس يعدون ذات اليمين وذات الشمال وبصر بزمرة من الفلاحين يشغلون جانبا من الإفريز بأشخاصهم وحزمهم الكبيرة.
وشرب سانين وإيفانوف كأسي وداع وقال إيفانوف: «رحلة سعيدة إن شاء الله.» فابتسم سانين وقال: «إن كل رحلاتي سواء لست أنتظر من الحياة شيئا أو أسألها شيئا. أما من حيث الحظ والسعادة فلن يبقى من ذلك كثير حتى شارفتنا النهاية - الهرم والموت - يكاد يكون هذان كل ما دخر لنا .» ثم خرجا إلى الإفريز وانتحيا منه ناحية خالية ساكنة وقال إيفانوف: «الوداع مع السلامة!» أجاب: «الوداع!» وتلاثما وهما لا يدريان الدافع لهما وصفرت القاطرة وبدأت تتحرك فقال إيفانوف: «يا صديقي لقد أصبحت كلفا بك. إنك للرجل الوحيد الذي صادفته في حياتي.» فقال سانين وهو يبتسم: «وأنت الرجل الوحيد الذي اهتم بي.» ووثب إلى إحدى المركبات وهي مارة به وصاح: «هكذا أرحل فالوداع.» وأسرعت المركبات أمام إيفانوف كأنها قررت أن ترحل مثل سانين، وبدا من آخرها الضوء الأحمر في ظلام الليل، ولما نأى خيل لرائيه أنه جامد في مكانه. وظل إيفانوف يرقبه برهة وبنفسه حسرة ثم كر إلى الشوارع المضاءة وقال لنفسه: «أأغرق همي؟» ثم دخل حانة ودخلت معه صورة حياته الشوهاء المملة وكالشبح.
الفصل الأربعون
كانت المصابيح فاترة الضوء في جو القطار الخافق وجلس سانين بجانب ثلاثة من الفلاحين وكانوا يتحدثون ساعة دخل عليهم وأحدهم يقول: «إن الأحوال سيئة.» فقال ثانيهم وكان جار سانين: «لا يمكن أن تكون أسوأ إنهم لا يفكرون إلا في أنفسهم أما نحن فلا يكترثون لنا أو يعبئون بنا، قل ما بدا لك، متى وصل الأمر إلى الدفاع عن النفس فالساعة للأقوى.»
فسألهم سانين: «إذن فما فائدة هذه الضجة؟» وكان قد حذر موضوع الكلام فالتفت إليه أكبرهم سنا ولوح بيده، وقال: «ماذا نصنع غير ذلك؟»
فنهض سانين وغير مكانه وكان خبيرا بهؤلاء الفلاحين الذين يعيشون كالدواب، ولا يستطيعون أن يدفعوا الظلم أو يقضوا على الظالم ويعلقون أملهم بمعجزة يموت في انتظارها الملايين منهم.
وكان الليل قد بسط رواقه ونام كل امرئ ما عدا تاجر قبالة سانين كان معه امرأة صغيرة لم تقل شيئا ولكن عينها كانت فزعة، وكان الرجل ينظر إليها شزرا ويقول: «أيتها البقرة! سأريك!»
ونام سانين فترة من الليل حتى أيقظته صرخة من المرأة فنحى زوجها يده عنها ولكن سانين أدرك أنه كان يضربها فصاح به: «يا لك من وحش!!»
فتراجع الرجل وهو فزع وخرج سانين إلى مؤخرة القطار، ورأى في طريقه إليها كثيرين من الفلاحين رءوس بعضهم على أجسام البعض، وكان الفجر قد أوشك أن يطلع فوقف سانين ينشق نسيم الصباح العليل وقال: «ما أحقر الإنسان!» ونازعته نفسه أن يعتزل الناس ولو برهة قصيرة وأن يترك القطار وجوه الملوث ودخانه وضجته. ولج به الشوق إلى الخلاص من كل ذلك.
وكان الأفق في الشرق قد احمر وغابت ظلال الليل في زرقة الأفق. فلم يضيع سانين الوقت في التفكير بل ترك حقيبته ووثب من القطار على الأرض.
ومر به القطار بمثل صوت مرعد وهو ملقى على الرمال البليلة اللينة، فلما نهض كان المصباح الأحمر قد بعد عنه فأخرج سانين صيحة فرح وقال: «هذا حسن.»
وكان كل ما حوله طليقا شاسعا والحقول والمزارع منبسطة على الجانبين إلى الأفق، فتنفس سانين نفسا عميقا ورمى هذا المنظر بعينين وضاءتين ثم سار ووجهه إلى الفجر اللامع، وخيل لسانين وهو يري السهول تستيقظ وتكتسي حلتها البيضاء تحت قبة السماء وأشعة الشمس تنطلق كالسهام النارية التي يطلقونها في ليالي الأفراح.
خيل إليه أنه سائر إلى لقاء سعيد في جنة فيحاء.
অজানা পৃষ্ঠা