إهداء
الطائر الملعون «سندريلا» تهرب
نداء إلكتروني
الوجه الخيزراني
بائع الكلام
التوقيت المناسب
نصب تذكاري
فقاعة الهواء
انتصار
قيلولة
جمهورية المبروك
قطعة سكر
رائحة الدجاج
المفكر الكبير
في حضرة رجل
رمادي
فوبيا
رقص منفرد
صندوق لا يتسع للأحلام
مدينة في حراسة موكب الملائكة
ليلة العيد
ذاكرة نظيفة
بنت بأحلام نفاذة
اسم معرف
نظام غذائي، رجل منزوع الدسم
واجهة زجاجية
إهداء
الطائر الملعون «سندريلا» تهرب
نداء إلكتروني
الوجه الخيزراني
بائع الكلام
التوقيت المناسب
نصب تذكاري
فقاعة الهواء
انتصار
قيلولة
جمهورية المبروك
قطعة سكر
رائحة الدجاج
المفكر الكبير
في حضرة رجل
رمادي
فوبيا
رقص منفرد
صندوق لا يتسع للأحلام
مدينة في حراسة موكب الملائكة
ليلة العيد
ذاكرة نظيفة
بنت بأحلام نفاذة
اسم معرف
نظام غذائي، رجل منزوع الدسم
واجهة زجاجية
صندوق لا يتسع للأحلام
صندوق لا يتسع للأحلام
مجموعة قصصية
تأليف
شرين يونس
إهداء
أمي!
أردت يوما أن أكتب سيرتك الذاتية، ثم استصعبت الأمر، حتى اكتشفت تباعا أنك تسكنين تفاصيل كل حكاياتي.
الطائر الملعون
وقفنا جميعا، حشودا مجتمعة بالآلاف، في هذا اللقاء الأسبوعي، الرءوس تتعلق بالسماء، وبهذا الواقف فوق تلته يخطب فينا. في حديثه سكينة، وعلى وجهه أمارات القداسة. أجواء إيمانية خالصة. نرتفع بأيادينا لأعلى، وكأننا نطرق للسماء بابا. دعوات وصلوات تتلى وسط تأمين جماعي.
مضت الدقائق تطهر ما علق بأبداننا ونفوسنا طوال الأسبوع من خطايا. نشعر بكلماته تتناثر فوق رءوسنا كالتبر، فيزداد المشهد بريقا.
لا حاجة لبكاء أو نحيب؛ فكلها مظاهر دنيوية تسقط في هذا الطقس الإيماني بامتياز. لم تعد الأقدام تتحمل صلابة الأرض، وكأن مراسم التوبة خففت من أثقال النفوس والأبدان، فصارت الأرض تحتنا كبساط مخملي يمحو حدود الأرض بالسماء. وهو في ردائه الأبيض كرسول من السماء جاء ليمنحنا بركته.
بعد انتهاء الخطبة يسأله المؤمنون، بحماسة، أمارة لقبول التوبة. يجيبهم بابتسامة صافية، فتحمل إليه حمامة بيضاء. يهمس لها مانحا بركته، ويطلق سراحها. تتعلق النفوس بجناحيها، فيختلط بياضها الثلجي ببياض السماء، فتزيد الجموع حماسة.
يقطع المشهد، يظهر فجأة كنقطة سوداء، ثم تقترب، وكلما اقتربت تزداد ضخامة. يتجه حيثما الحمامة، وكأنه أراد بسواده حرماننا من اكتمال طقس توبتنا. نتابع المشهد مشدوهين. تتعلق قلوبنا بالحمامة، أمارة قبول توبتنا، فتطلب قلوبنا العون لها.
يزيد الاضطراب بين الصفوف، ويبدأ المؤمنون صلاة أخرى لمساعدة ذات البياض الثلجي. تغلق العيون رافضة ألا تقبل توبتها، فيما تقل المسافة بين الجسدين الطائرين، حتى يحط عليها بمنقاره الضخم، فيختلط الأبيض بالأسود، ويرتفعان معا، وتبتلعهما السحب.
لحظات ثقيلة مرت، حاولنا البحث عن تفسير وسط غمزات المتشككين. وحينما فشلنا، انفض الجمع منكسي الرءوس، وركب الجميع صمت يشوبه الفزع والإنكار. وحينما حاول الأطفال إعادة رواية ما حدث، نهرهم آباؤهم، وأمروهم بالصمت؛ رغبة في محوه من ذاكرتهم.
حول أجهزة التلفاز، كان هناك اجتماع آخر لمن غاب عن الحدث لقلة إيمانه، أو لانشغاله. حان وقت إعادة بث الحدث الإيماني. يتابع الجميع المشهد: الأيادي المرتفعة للسماء، والوجه الساكن بقداسته؛ الحمامة المحمولة، والهمس، وإطلاق السراح. ولكن الحمامة طارت في هذه المرة عاليا، تودعها الجموع بكلمات مقدسة، واختفت حيث أراد الجميع لها، واختلط بياضها بالسحب دونما تعكير لصفو قبول التوبة.
اختفى النورس الأسود في إشارات البث وسط تساؤلات المؤمنين: هل كان حقيقيا أم اختلقته أرواحهم الشريرة؟ وفي الأعوام التالية استخدم طائر إلكتروني لضمان ألا يتكرر ظهور هذا الطائر اللعين.
«سندريلا» تهرب
أكره ليالي الصيف؛ فرطوبتها تعيث في زينتي إفسادا. أتذكر «أيمان» البائعة وهي تخبرني بثبات المساحيق، وها هي تذوب كذوبان الثلج، فألعنها ألف مرة.
أفتش في حقيبتي عن مرآتي لأسوي زينتي كل بضع دقائق، محاولة إخفاء زكامي بمزيد من الألوان، وأزيل بمنديلي الورقي عدوان الشارع على حذائي.
أتعبني الوقوف أكثر من ساعتين، وهذا اللعين المشدود في وقفته على الرصيف المقابل تذكرني نظراته بزحف شيخوختي.
أعقد يدي أمام صدري مرة، ومرات خلف ظهري حين أمل، وأستمر في السير ذهابا وإيابا أمام زبائن هذا الفندق المتهالك كسني عمري.
على الجهة الأخرى من الطريق، تختال تلك الشابة ممشوقة القوام، تتبختر في خطواتها برأسها المرفوع زهوا. تغريني نظراتها المتعالية وتلك المساحيق التي أبرزت مفاتنها بإلقاء حجر فوق رأسها المرتب بعناية، فترتطم رغباتي بنظرات رجلنا ببزته الكالحة اللون كزينتي الرخيصة الثمن.
يلح علي ألم هذا الكعب العالي، فألعن وقفتي، وأتمنى أن أكون «سندريلا»؛ فأرمي بحذائي العالي وبزينتي في وجه أمرائي، وأهرب منهم أجمعين قبل حلول منتصف الليل، وأعود، عن طيب خاطر، خادمة في منزل أبي، وأدعو لزوجته آلاف المرات.
من بعيد، تخترق أوهامي أبواق سيارة صاخبة، ومصابيحها المتلألئة تدمي عيني. أعرف بخبرتي زبائن السيارات وسقف كفايتهم المرتفع عن إمكاناتي، وبالفعل صدقت توقعاتي حينما مرت دقائق تحادثت فيها الفتاة ورجلها مع أصحاب السيارة، ثم رحلت بهم.
يشقني الملل ويهصرني. أشغل عقلي بمداعبة جامع القمامة الذي يرميني بنظراته الفضولية، فأرسل إليه فيضا من الغمزات الجانبية، فيرتاب من تجاوبي ويسرع الخطى مبتعدا.
تمر دراجة بخارية، يطلق ركابها صفاراتهم المشاكسة كمراهقتهم، ونظرات رجلنا تكبل رغباتي؛ فالتعليمات تأمرنا بعدم الانصياع لمداعبات المراهقين؛ فكلها ضرر ومضيعة للوقت.
تداعبني كلماتهم الساخرة، أشعر بها أكثر صدقا، ترمي عني ثقل الزينة والرطوبة. يحاولون إغرائي بما يملكون؛ كلمة، وسيجارة رخيصة السعر؛ فيأمرني رجلي بالرفض بحركة عنيفة من رأسه، وحينما ييئسون، يتحلقون على جانب الطريق، ويطلقون العنان لنكاتهم وضحكاتهم المجلجلة.
ألمح آخر يأتي على بعد أمتار، يتلفت يمينا ويسارا، وحينما لا يجد غيري تمتعض ملامحه، وحينما يهم بالرحيل يسارع إليه رجلي، يفاوضه ويتودد له، ويطن في أذنه، ويرسل إلي نظرات تستحثني على استعراض إمكاناتي. وحينما أهم بالتبختر، تستوقفني تلك الضحكات المتناثرة على جانب الطريق، طليقة وحرة، تذكرني بضحكتي المسحولة كذبا وادعاء. أراهما يحثان السير تجاهي، فأخلع هذا الكعب العالي وأسرع إلى الدراجة البخارية التي لا تلبث أن تطير بي. ننطلق تحت نظرات الرجلين اللاعنة، وأستنشق بسعادة أول نسمة في هذه الليلة الرطبة، رغم يقيني من عقابي المنتظر.
نداء إلكتروني
المكان يعج بالبشر من كل الأطياف كلوحة فسيفساء، وينافس أكثر الأمكنة ارتفاعا في معدل كثافتها السكانية. أتململ في جلستي ممتعضا، أهش عني أفكاري الشريرة التي تحاول تلطيف أجواء الاختناق التي لا تناسب أجواء مارس الربيعية .
ككل تلك الآلات التي تقتحمنا فتحيلنا أجزاء معطبة بجانبها، صرنا في تلك القاعة الصغيرة مجرد «عيون وآذان» ترضخ لهذا النداء الإلكتروني، وتتلفت بلهفة وغيرة لصاحب الرقم المحظوظ.
بمجرد دخول رقم إضافي للقاعة، وكطقس نعتاده للتعارف ولقتل الوقت، نبدأ في تبادل النظرات، وكأنه يحصي المنتظرين. تلتقط عيناه الرقم الوامض على الشاشة الإلكترونية، فتأتيه «الضربة القاضية» ل «فارق النقاط»، ثم يجر قدميه لينضم إلى كومة الأرقام على مقاعد الانتظار.
يرتفع معدل التأففات، والاعتراضات المكتومة مع اتساع الهوة بين حجم الأرقام المتململة، وحركة الأرقام المضاءة البطيئة كسلحفاة. يغريني الوقت، فيطل هذا الفضولي من رأسي، يحتك بأسرار الهواتف النقالة المفتوحة على مصاريعها، ويقتات على ما يصله من أحاديث جانبية وثرثرات أثيرية يقتل بها الجميع مللهم.
ترصد عيني الأحذية، وقامات أصحابها المتباينة، ما بين الأحذية الرياضية ذات العلامات التجارية المشهورة، والأخرى «المضروبة» المقلدة، والجامعي بحذائه «البانص» متحررا من جوربيه، حسب آخر نداءات الموضة، وذات الحذاء الأحمر الناري بكعبه الحاد كطباعها البادية في تأففها وعبارات اعتراضها المتكررة، وتلك المتخففة من أحمالها فاكتفت بالصندل. أتذكر مقولة قرأتها في مجلة للموضة: «الحذاء علامة لفك رموز الشخصية.»
أتعوذ من شيطاني، وأحاول تهدئته ببعثرة محتويات هاتفي النقال، فتقطع محاولاتي تلك الثرثارة بجانبي التي لم تفطن لأني غير معنية بمشكلات مديرها في العمل، وراتبه، وحوافزه التي ترويها هاتفيا، فيما يتحول مقعدي تحت وطأة اهتزاز ساقيها إلى أرجوحة تصيبني بدوار.
يختال أحد الأرقام، يدخل متكئا على استمارة إيداع، ومفاتيح فضية لسيارته الألمانية، تتعثر به تلك السيدة الريفية التي تعاود النظر في ورقتها والرقم المضاء على الشاشة. «باقي رقمين»؛ هكذا تمني نفسها بفرج الحال، فلا تنتبه لخطوه المتباهي.
تعتذر بتمتمة، وتعاود جر طفلها الباكي، تسر له بمكافأته بقطعة حلوى إذا ما كف عن صراخه وهرجه.
بلهفة، تحادث الموظف البنكي المتشبث بسطوته. يخيب رجاءها بلا مبالاة، ويبلغها من خلف حاجزه الزجاجي أن حوالة زوجها المسافر لم تصل. ورغم توسلاتها لمراجعة بياناته، يخرسها النداء الإلكتروني بدعوة الرقم التالي. تتراجع وأطراف أصابعها تتحامل على الحاجز الزجاجي ، وكأنها تشكو إليه حظها.
أسأم الوجوه، فأداعب أصابعي حينا، ويتراقص جسدي على وقع ألحان سماعتي أذني حينا آخر، وحينما أنتبه لفضول جاري المسن بلحيته الصغيرة ونظراته المستنكرة، أطلق بلا مبالاة سراح عيني للحائط الرمادي الذي يشبه ملامح الموظفين الباردة.
ترتطم نظراتي بإعلانات متشددة لغسل المخ والجيوب، «كيف تسترد 20٪ من مشترياتك؟» الأمر يتوقف على مدى استنزافك. و«كن من الفائزين الستة أسبوعيا»، وشاشات أسعار العملات التي تذكرك بانهيارات دولتك العتيقة.
تتقلص هوة الأرقام تدريجيا، بعد هروب/نجاة عدد من العملاء. يزداد توتري وتململي مع تتابع الدقات الإلكترونية الرتيبة المفتتة للأعصاب كانتظارها. فجأة، يموت الصوت الإلكتروني، وتتوقف الرنات، وتعتم الشاشات، وبهدوء يعلن الموظف انقطاع التيار الكهربائي في البنك.
الوجه الخيزراني
بيدين مرتعشتين، أتمسك بطرف السجادة. تنبهني أمي بنظرات يتطاير منها التحذير ألا أفلتها، فأسقط بين ظلمات الخوف.
هل يمكن أن يتسبب شيء صغير في دوائر متعاقبة من الرعب، كل منها تسلمك لأخرى أوسع؟
أتابعها ترقد في سكون على وجه حائط مطبخنا، تصدمني بوجهها البيضاوي المتشابك كلما حاولت غلق الباب، أو إحضار بعض الأدوات من الخزانة.
يقشعر بدني حينما أتذكر وظيفتها، فأنشغل بإحضار ما طلبته أمي مني من الخزانة العلوية. أستطيل على أطراف أصابعي كي أصل إليها، فيرتطم كوعي بساقها، فتسقط، فأضطر إلى حملها وإعادتها إلى موضعها.
يدور عقلي مع التواءات تلك الأسطوانات الرفيعة، فأتعجب لطبيعتها التي منحتها تلك التقسيمات الأنثوية، ولمساتها السخية في نعومتها كوجه وليد، فتتداعى لذهني صور النبتة المقعدة التي حرمت من سيقانها، فيما ظلت هذه وفية لجيناتها الصابرة والقادرة على التحمل.
تفيقني أمي بصدى صوتها يتردد في جنبات المنزل، كأحد إجراءات هذا الطقس الأسبوعي. أتابع شرر نظراتها، وأحاول تجنبها محتمية بأحلام يقظتي الصغيرة مثل عمري؛ فهي تفقد في يوم التنظيف، بسبب تعبها وجسدها المتهالك، كثيرا من هدوئها الهش؛ فأحاول ألا أتدخل إلا حينما تطلب، وفي حدود المسموح لي.
تأتي الدعوة آمرة من فم أمي، فتضيع كل رجاءاتي هباء. تتشبث أصابعي القصيرة بهذا الطرف المنسوج وعناقيده المتدلية، ثم يبدأ الضرب ، فأرتطم ككرة صغيرة بمحيط دوائر الخوف المثيرة والمتعاقبة. ماذا ستفعل بي لو أصابت أصابعي؟ هل يمكن أن يتطاير أحد أجزائه على غرار الأفلام الأجنبية؟ وهل ستوبخني أمي حينها أم ستنشغل بالبحث عن الجزء الهارب مني؟
تستحيل أحلامي كوابيس مع بداية الارتعاش الذي تسببه الضربات في هذا السور الذي يحمل سجادتنا كمقصلة لتنفيذ عقوبتها الأسبوعية، فأتمنى أن تصير قدمي وتدا مثبتا في الأرض، فلا يخلعه أشد الاهتزازات، وتزداد وتيرة تساؤلاتي.
يزيد هلعي؛ فلا أفقه إن كان بسبب اهتزازات البلاط أم اختلاجات جسدي. تبدأ عيناي في الذهول، ويغيب عقلي في ترنيمة أخرى؛ لعلها تهدئ من روعي. وأخيرا، لا أرى وجه أمي أو خيزرانتها.
تهزني أمي بشدة، فأفتح عيني بتراخ. يواجهني هلعها وفي يدها زجاجة عطرها. تفتش في أنحاء جسدي وروحي عن سبب لهذا العطب المفاجئ، بلا أمل للإجابة.
امتنعت أمي عن طلبها الأسبوعي منذئذ، ولم تعد تعلق على أحلام يقظتي، لكن هلعي من الاهتزازات ما زال مستمرا.
بائع الكلام
يبدأ المؤتمر الصحفي، يرسم على وجهه ملامح الجدية، يلقح حديثه بكلمات إنجليزية تناسب بذلته «السينيه». على يساره ترتكز لوحة إلكترونية كبيرة، عليها رسومات بيانية، وأمامه تستلقي أوراق، يخط بأحمره على أرقام وبيانات لتأكيد نجاحات المؤسسة.
تصله رزمة الأسئلة، وبحركة اعتيادية يفضها بتأن وهو يتابع بيانه. وسط القصاصات يأتي دورها، لا تختلف في الشكل عن غيرها. يفتحها، فتصدم عينيه؛ جريئة وصريحة، والأسوأ أنها تقطر صدقا.
يبحث بين الوجوه عن مرسلها، يقلب فيها عن إمضاء أو علامة تكشف كاتبها، وحينما تتكتم يحاول تجاهلها، فيفاجئه شبح يأتيه مرة من خلف هذا العمود، أو من بين تلك الستائر المخملية، ثم يطل برأسه من تجاويف الحواجز المبطنة.
يتلعثم، تتقطع كلماته، يتخلى عن رابطة عنقه الحريرية، وعيناه معلقتان بهذا الخط وبشبح كاتبه. يستجدي الكلمات؛ لعلها تفضح صاحبها، فتطل عليه بسخرية وكأنها تبرز له لسانها.
تباغته حشرجة، فيسارعون إليه بكوب ماء، تتبعثر قطراته كطفل. يحاول استعادة الثبات، وإزاحة قطرات حرجه بمنديله، ثم يعيده لعناقه مع جيبه الأمامي. يطارده الشبح مرة أخرى، يفرك عينيه من خلف نظارته الثمينة، لكن ذلك لا يمنع تناسخ شبحه بعدد حضور قاعته.
تستبد أسئلته بعقله، يلمح ثرثرة بين مقاعد الإعلاميين، فيشك أن أحدهم احتال على النظام الذي وضعه لمنع تباهي الصحفيين المخبولين بجدلهم، بضبط إيقاع الأسئلة بالاتفاق مع مندوبي الصحف الرئيسية، أو إرسالها مكتوبة إلى منصته.
يداعبه شبحه تلك المرة مرتديا وجوها لموظفين تجاوزهم نفاقا، ودهسهم بقاطرة طموحاته وصعوده. أحدهم وشى بإحدى محادثاته الشخصية عن مديره، فنال هو ترقية استثنائية، ونظرة عتاب من ضحيته قبل مغادرته الأخيرة للمبنى، وثان دس تقريرا عنه، وآخر دبر له فضيحة فساد أخلاقي.
عادت أشباحه لهيئتها الأولى، ولكن رافعة شعارات رنانة اعتاد عليها ماضيا، حتى ثبت عطبها، فخلفها في ركن قصي من عقله وقلبه، وعليها لافتة «منتهي الصلاحية».
تعيد له الورقة دهشة مرسومة على وجوه أصدقائه القدامى، وأسئلتهم حول وظيفته الجديدة. توقفوا كثيرا أمام مسماها، «بائع كلام»! هكذا قال بلا مواربة، هو خريج كلية التجارة الذي عمل بالتجارة حينا، فباع كثيرا من البضائع، وآخرها الكلام، و«كله تجارة، والتجارة شطارة». هكذا سوغ لهم اقتحامه هذا المجال الجديد.
سألوه يومها عن متطلبات وظيفته، فأجاب بأريحية يفتقدها الآن: كالتجارة؛ كلام معسول، ووجه واثق، وقدرة على التسويغ المستمر. ولا تنسوا البذلة، والشياكة، حتى الحذاء اللامع. وكتب في التنمية البشرية تستحضر عناوينها في حديثك، ولا داعي لقراءتها، فيمكنك البحث عن ملخصات لها، أو حتى قراءة أغلفتها الخلفية.
يتخيل الآن وجوههم وهم يتابعونه على شاشات التلفاز وكل تلك الميكروفونات تملأ منضدته، فيقنع نفسه بأن الغيرة دفعت أحدهم لاقتحام حضوره بهذه الورقة اللعينة.
وقع أسيرا لغيابات توقعاته، تخلى عن ثباته، فحاول أن ينهي المؤتمر، وأن يعود إلى مكتبه، فاتسعت الهوة أمامه، واختفت الدرجات المخملية من تحت قدميه.
التوقيت المناسب
تمسك بهاتفها المحمول، تحتضنه بشدة، تراجع مستوى الصوت مرات للتأكد من ضبطه على أعلاه، ثم تتلمس موضع سماعات أذنيها التي فرضتها عليها سنوات عمرها السبعون.
تنير أضواء شقتها لتخيب آمال «سلطان النوم» في الاستفراد بها. تحتمي بفنجان قهوتها الثاني، فتستجديه لنصرتها عليه.
تنتهي من فنجانها، فترده إلى مكانه بالمطبخ، وأثناء عودتها تطرق الباب الوردي؛ جريا على عادتها التي واظبت عليها رغم غياب ساكنة الغرفة. تتنهد، وتستنشق بعمق لتطهر رئتيها بعطرها المحبب.
تختلي بالألوان والكتب المبطنة بلمسات الأنامل الصغيرة، وتعيد ترتيب الأوراق المحتفظة بوجهها الفوضوي بفعل الشخبطة والحروف المتعرجة.
تبحث عن قطع «البازل» لتكمل أحلامها، ثم تصفر مع القطار ليبدأ رحلته للعودة إلى سنوات حلوة، بطعم البراءة حينا، وبالصراخ والمناكفات حينا آخر.
تتبادل الأحاديث مع أبطال القصص المتراصة التي تعاتبها لغيابها الطويل، وتستعطفها بإزاحة غبار سنوات زادتها شيبا، فتقدم لها الاعتذارات، وجولة تنظيف مجانية.
تطلب من بطلاتها أن تهبها بساطا سحريا يرسلها إلى شواطئ المحيط البعيد، أو أن تمنحها حكايات تختصر بها دقائق من لياليها المملة، لكن البطلات يفاجئنها بنوبة نعاس طويل لن يخرجها منه سوى لمسة من «الأميرة الوردية».
تسقط من الكتاب المصور الكبير صور صغيرة مقصوصة ل «ست الحسن»، بشعرها الطويل الذي طالما حملها لأحلام أكثر براحا، ثم يعيدها مرة أخرى لأحضانها في موعدها. أما اليوم فهي تود لو تكتفي بجدل ضفائر «الجميلة»، أو حتى قصه على الطريقة الحديثة؛ لعل ذلك يمنع رحيلها مرة أخرى.
على الحوائط، ما زالت الآثار محفورة بفرحتها المقاسة بالسنتيمتر حتى جاوزت المائة بقليل، فيما استطالت فرحتها اليوم بعيدا عن عظام كتفها الهشة.
تدق ساعتها وتعلمها بانتصاف الليل، فتتذكر هاتفها. يجرها عكازها لمكانه، فتعيد النظر إليه، فترجع خائبة.
تنتظر وتنتظر، وتمني نفسها: ربما الساعة غير مضبوطة، أو لعل الخطوط مشغولة لضغط الاتصالات، تنتظر فيما يزحف خوفها كالسوس ينخر جسدها كآلة صدئة. تنتظر وتنتظر، ربما تأتيها «ذات الرداء الوردي» بكعكها المحبب.
يرن الهاتف الأرضي، يظل صراخه صاخبا، والجسد على مقعده منتظرا، وفي يديها تهمد سماعات أذنيها، بينما يطل ثعلبها المكار مستعدا لانتفاضته.
نصب تذكاري
كنت الشاهدة الأولى، نطفة في رحم الكون. عشت مخاضا طبيعيا طويلا، دوامات متتالية من الانشقاقات والالتحامات، فراقا ثم لقاء يغريني بديمومته، حتى يفاجئني انفصال يبدو لي حتميا هو أيضا. ترتطم بك تساؤلات عدة: هل كنت ذرة من جبل، أم قطرة من أول أمطار عرفها الكون وارتوى بها؟
أحاول أن أشحذ ذاكرتي البعيدة؛ حينما كان الجميع عطشى، وشهدت بداية الارتواء، نقطة تلو أخرى، زخات متتالية، حتى تكون الطوفان الأكبر.
تمر اللحظات كألف سنة مما تعدون؛ حيث الكون ينكشف رويدا رويدا، يفرك عينيه الناعستين، لأكتشف أنا آخرين يشبهونني، ولا يكتفون. وبحركة إعجازية، تجمعنا، ولم يكن الأمر أكثر من مجرد كن فيكون.
حل الاستقرار أخيرا، فلم يعد للزمن قيمة، غرور يأخذني لمساحات متتالية من الأبيض. إحساس بالتفرد المحسود، ولكنه يلبسك شعورا غير منطوق بالوحدة؛ حيث تطاولك كل المواسم، ويصبح هدير الأمواج رفيقا مخلصا.
لا حدود، حتى يأتيني الزائر الأول، كالعروس البكر، أبتسم خجلا، فيفض بكارتي بمراسم بدائية، فأحمل أول الأسماء، عشقا وولها، وأعاهده وفاء، ولكن يأتيني آخرون فلا تحفظ حرمتي، ويكثر الآثمون.
زيارات متتابعة تنطق بالضحكات والابتسامات البلهاء واختراق للوحدة يبدو، للوهلة الأولى، محببا، ثم ما يلبث أن يظهر وجهه الشرير، حينما يطول التدخل، وتنتهك الخصوصية بتشويه متعمد للروح تحت مسميات زائفة للعشق.
ويزداد الكون من حولي رثاء، وتتوالى الأنفاس، ثم تتقطع وتختنق بفعل «الأسود»، ويزداد الاحتكاك، وتتآكل مساحات «الأبيض»، ويحتل «الأصفر» بغروره وصخبه، ثم تختلط الألوان بعنفوانها.
يرتفع المدى جنونا، وجلبة تحتلك، وترتطم حوافك باليابس. وعلى المدى، تحتل الصورة الناقلات العملاقة، وأطنان الأسمنت، وسبائك الحديد. يستبدل بهديرك صخب الرافعات، والشاحنات، وناطحات تأكل روحك، حتى تصبح بالنهاية مجرد «نصب تذكاري» على بطاقات المعايدة.
فقاعة الهواء
يتناول بجرعة واحدة كوب الفوار. تداعب فقاعاته أنفه، فيتمنى استمرار دغدغاتها بعض الوقت؛ لتخفف حدة ضيقه. تفاجئه نوبة تسريح لغازات فمه، فيشعر بقليل من التحسن. «كان علي مقاومة إغراء تلك الأصناف الدسمة، والانصياع لنصيحة الطبيب.» هكذا وبخ نفسه، رغم يقينه بعودته لمجاراة ضعفه الأول.
يلقي النظرة الأخيرة على مظهره، فيسعد بنجاحه في عقد حزام بنطاله أضيق بثقبين، ليقلل محيط كرشه المتدلي بقدر الإمكان، لكنه لم يستطع التمادي في طموحاته مع إلحاح صراع أمعائه، فترك سترته مفتوحة؛ لعلها تهدأ .
بخطوات متراخية، يتجه إلى القاعة. يتمنى لو يتخلص من ثقل غازاته نوبة واحدة. يستقبله أحد المنظمين، ويدله على طاولته التي يتفاجأ بجهله معظم وجوه ساكنيها، فيلعن المنظمين لهذا الفخ.
يتابع، بحقد محبوس كغازاته، ذلك الرابض فوق منصة سطوته وهو يتبختر في خطواته كطاووس، يصافح كبار المدعوين ويصاحبهم لطاولته، فيما يكتفي بتحية باردة له، فيتأسى لعراب كان يوما خادما مطيعا، يقدم فروض نفاقه. «يا لغبائه حينما نصبه نائبا له!» تمتم لشيطانه.
يهمز لجاره بأناقة مضيفه التي أصبحت موضع نميمة في صالونات الصحافيين، ويتساءل، ببراءة مصطنعة، عن أي نوع من صبغات الشعر يستخدمها، غامزا له بأنه لاحظ انخفاضا في مستوى ذراعه اليسرى، ربما كان سببه ثقل ساعته الذهبية المهداة له في زيارته الأخيرة لدولة النفط السخية في عطاياها «لأصدقائها».
يتمنى لو كان بسطوته فيطلق أسراب هداهده بين الطاولات، ليشيعوا بين مريديه كيف أن الصحيفة المرموقة انخفض عدد قارئيها بعد «طلاقه» لها، وأن موقعه المؤسس حديثا تعداها في مؤشر «أليكسا»، وكيف أن الغربال الجديد يحاول جاهدا شد سير العمل، حتى إنه اضطر إلى رفع الرواتب لضمان الولاء.
تلح عليه أمعاؤه المثقلة، فيتناول جرعة فوار أخرى. تمنى لو يصبح، مثل فقاعات دوائه، خفيفا وشفافا، فيرتفع إلى ذلك النجم الساطع على شاشاته الفضائية؛ ليزيح منافسيه. يتذكر صباه؛ حينما كان يستمتع بلعبة الفقاعات، وخاصة عندما كانت تنفجر في وجوه أصدقائه. لم يكن يعلم حينها أن عملية التنظيف تعتمد، أيضا، على الفقاعات وقدرتها على فصل الأوساخ عن سطح الملابس. ربما احتاج أن يكون إحدى تلك الفقاعات؛ ليطهر القاعة من نفاقها.
تغلق الأنوار، ويهدأ الصخب. تنار شاشة كبيرة، ويبدأ المضيف سرد نجاحاته خلال العام الذي ربض فيه على قمة مؤسسته، وعدد مراسليه ونجوم السياسة الساطعين على صفحات جريدته. تنفجر فقاعاته، وتتحرر معدته، ويتخفف في خطواته فور انطفاء الشاشة، وهو يسارع بمصافحة نجم الحفل، وتحل ابتسامة عريضة على وجهه أثناء نوبات التصوير.
انتصار
زفرة عميقة يطلقها، يخفف بها ملله، يكره هذا الإحساس الرطب، يستغيث بأربعه، وبخطوات متثاقلة يتحامل عليها ، تتلمس أطرافه الأولى حرارة الحبيبات الناعمة، فتبعث في نفسه بعض الدفء.
يداعب الوجه السخي، فيرسم خطوطا منحية وأخرى متكسرة، يمنح أطرافه حدودا لا متناهية، يغوي بها هذا القرص المتلألئ في سماه، المزهو بحرارته، يطارده بنظرات مضطربة، حتى تفاجئه موجة تزيحه خطوات، فتخفف من حرارة عجيزته.
على بعد ذراعين، يتداعبان، يرشان المياه من مسدس بلاستيكي، فتتناثر ضحكاتهما مع حباته، وبقدر صفائها. يد تمتد للخصر الذي امتلأ بعض الشيء، فيما تلامس أطراف اليد الأخرى نبتتهما الصغرى.
على بعد موجتين، يلمحها بجسد منتفخ، تغريه التواءاتها، زهوها السخي بألوانها، يجذبه صمودها المنفرد، يتمطى مرة ومرتين، فيخزيه ضعفه. يتنهد بضيق وبرجاء، يستعطف تلك الموجة الماردة، تقربه خطوة، فتداعبه الألوان وحلم التهادي. يطلق النفس عميقا، ويشد العزم، فيخبط الوجه المتلألئ من تحت أقدامه، ويزيح بعصبية أطرافا تحاول منع مروره.
على وقع الضحكات يداعبها. يهمس في أذنيها: هل تتذكرين المرة الأولى؟ تجيبه بنظرة خجلى؛ تلك النظرة التي طالما سحرته وشاكسته. تتلامس الأطراف تلك المرة فتتدافع ضربات قلبها، فلا يزال يحتفظ بحقه الأزلي في دغدغة مشاعرها.
تسقط بفعل موجة غادرة فيضجان بالضحك، ترتسم على وجهها ملامح الغضب حينما تخطو أخرى أمامهما بملابسها التي تكشف مفاتنها، فتقارنها بردائها الذي صار فضفاضا ليخفي خصرها الذي أثقل محيطه بضعة أرطال.
تلمح نظرة جانبية للساق الممشوقة الخالية من الزغب، كإحدى موديلات الإعلانات، يحتدم صراعها الداخلي، فتعقد النية على مشادة حادة. «ماما! بابا!» يلمحانه بنصف جسد، يرفعه الموج، فيحجبه عنهما، يظهر ظل كف مرفوعة كاستغاثة. وبنظرة مذعورة، يبدآن العدو، حتى إذا ما هدأت الموجة ظهر هو بقدمين متشبثتين داخل عوامة، وعلى وجهه علامات الزهو والظفر.
قيلولة
حينما تحل تلك الساعة أتذكر صيحات أمي الغاضبة، ودعواتها التي تصلنا رغم وجهها المكور تحت وسادتها، تأمرنا بالخضوع للنوم؛ احتراما لعادتها اليومية المقدسة.
كنا نحن الثلاثة، قبل أن يضاف إلينا رابعنا وخامسنا، نتحايل على محاولات «إرغامنا»، فنشد ألحفتنا فوق رءوسنا، بينما تتواصل ألاعيبنا أسفلها، تتداعب أطرافنا الممتدة عبر أبعاد سريرنا الأربعة، فنخلق من ملاءتنا أمواجا نركبها كقراصنة عتاة.
نتصارع أينا يسبق في لسع أحدنا أثناء لعبة «صلح»، محاولين إخفاء رنات ضحكاتنا ونحن نتبادل الغمزات لمزيد من التمويه. وحينما تحثنا أمنا، بضربة من أطراف قدميها، على الصمت، نبدأ في اختلاق النكات والمقالب، متخذين من مغامرات توم وجيري قدوة لنا.
تتساقط أعين إخوتي تباعا تحت وطأة سلطان النوم وضربات أمي المتتابعة من خلف ستائر أحلامها، فيما يستعصي النوم على ذهني. أستلقي على يميني؛ تيمنا بنوم «الملائكة والرسل» كما حدثنا أستاذ التربية الدينية، فأتساءل: هل تنام الملائكة حقا مثل البشر؟
أزيح البحث عن الإجابة جانبا، حينما تداعب عيني خيوط أشعة الشمس وظلالها الترابية المتسللة عبر فتحات شرفتنا نصف المغلقة، أعيق مرورها بيدي، كما أفعل مع أسراب النمل في حديقة مدرستنا، ثم أتابع خيوطه وهي تواصل مرة أخرى مسارها.
ألمح فراشة تنتصب على ورود ستائرنا الزائفة، أتابع خيبتها ومحاولاتها امتصاص رحيق كاذب لن يسد رمقها.
أجرب تلك المرة طريقة نوم الملوك والأمراء، فأستلقي على ظهري. لا أتذكر أين قرأت تلك المعلومة، لكنني أظن أنني تقمصت بنجاح دور الأميرة مرات عدة، فأدخلت تعديلات على مأساتها، وجعلتها أكثر جرأة في مواجهة زوجة أبيها وبناتها، وأخفيت تسجيلا صوتيا لهن في طيات ملابسي لم يستطعن إنكاره أمام والدي، فخرجن بلا رجعة من مملكتي.
على الجدران، تتراقص خيوط ستائرنا مرة أخرى. أتبع نصائح مدرسة الرسم، فأرسم بها وجوها لحيوانات وبشر بملامح فضفاضة. تلك أذن قنفذ، وأخرى لحمار وحشي، وذلك أنف مفلطح وجبهة بارزة. للأسف، لم تخبرني كيف أبث فيها الروح على الورق؛ فقد سحبوا الحصة اليتيمة أسبوعيا لصالح مادة الجغرافيا لإلحاح المنهج، ولأن الرسم ليس مادة نجاح ورسوب!
لم يبق أمامي خيار إلا الجهة اليسرى. هل أجربها رغم لعناتها حسب مفتينا وكتبنا الدينية؟ تلفحني أنفاس أمي الهادئة كزخات الندى الصباحي، فأعجب لحرصها على ساعة قيلولتها مهما كانت مشاغلها، فيما فشلت محاولاتي في إيقاف صرير الأفكار في ذهني.
اليوم، وبعد عشرين عاما، في الساعة نفسها، أستلقي على كرسيي الهزاز بشرفتي التي جعلتها مرتعا للفراشات، تنهل من زهورها كيف تشاء، وبينما عيني لا تزال عصية على سلطان النوم، تتهادى على الأريكة المقابلة أنفاس أمي مستسلمة لأشعة شمس خريفها الوادعة.
جمهورية المبروك
بصوت جهوري، تفاجأت به حارتنا في عصر يوم شتوي. كلماته همهمات يطلقها لسانه الأعرج، كأنه يحدث نفسه أو أشباحا لا يراها غيره. أزعجنا صوته الأجش، فلاحقناه بلعناتنا.
اعتدنا حضوره في الوقت ذاته يوميا. نطلق التعويذات بمجرد ظهوره، وحتى رحيل آخر تردد لصدى صوته بالشوارع المجاورة. بظهوره تتوارى الحوامل خشية على أجنتهن، فيما تتبعه شياطين الشوارع؛ يقلدونه حينا، ويطلقون قذائفهم الرملية حينا آخر.
تعددت معاركه التي كانت لها جماهيرها من صبية الشارع وسيدات الحارة اللواتي يتلهفن لحكايات يشغلن بها ثرثراتهن الصباحية عبر الشرفات.
في هذا اليوم كانت المعركة أكبر، وأشعلتها الشائعات، وزادتها سخونة، عندما تعثر به «عم بدوي»، صاحب أحد المحلات، فأطلق العنان لسبابه، ووصف قدومه بالشؤم.
وفي الليل، كان صراخ «عم بدوي» يستبيح السكون ساعات عدة، حتى سكت صوته تماما. احتار الأطباء في تشخيص مرضه، فقالوا إنه التهاب حاد بالحنجرة، ثم استدركوا: بل في الأحبال الصوتية.
وحينما رفض الألم الخضوع لتوسلات المضادات الحيوية، التمس الأمل في الأعشاب الطبية؛ وهو ما أسعد عطاري المنطقة الذين تفننوا في إبداع الخلطات والوصفات، لكن ذلك لم يجد في نهاية الأمر.
وفي صلاة جمعة، تحدث إمام المسجد عن عقوبة الظالمين، وردد المثل الشعبي: «يا بخت من بات مظلوما، ولم يبت ظالما.» وحذر المصلين من أن «دعوة المظلوم لا حجاب بينها وبين الخالق».
يومها، وفي فترة العصاري، حين يحلو لعم بدوي، بعد تناول الغداء، الاستلقاء على سريره وتناول شايه الذي استبدل به منذ مرضه كوبا من الأعشاب التي جلبتها زوجته من أسوان، فاتحته امرأته بما في نفسها من شكوك.
على استحياء، لمحت له بأن مرضه ربما يكون تكفيرا عن ذنب، أو إشارة ربانية. وحينما استجابت نظراته لشكوكها، ذكرته صراحة بمعركته مع الرجل المجذوب، ورده على سبابه الذي لم يتجاوز الهمهمات التي كانت، حسب تفسيرها، دعوة في ساعة «مفترجة»، ثم طلبت منه بصراحة تطييب خاطر المجذوب.
أمام إلحاح المرض وحديث أم العيال، و«وقف الحال» الذي أصاب البيت، خضع «عم بدوي»، وعند أول بشارة لقدوم المجذوب فوجئ أهالي الحارة بلقاء حار، وأحضان وقبلات، ثم دعوة الرجل «البركة» إلى الغداء.
لم يتم عم بدوي ليلته الثالثة على الصلح إلا وقد تعافى صوته، وعادت إليه شخطته التي كادت ترج البيت والدكان، وأطلقت زوجته زغاريد في وضح النهار، وكأنها أرادت بها محو صراخ الليل وألمه.
أغلظ «عم بدوي» الأيمان ببركة «شيخنا المبروك»، وذبح شاة على حس «بركته».
ومن حينها تبدلت الحال؛ ففي ساعة مرور الرجل «المبروك» يترجل الرجال، ويتوقف البيع والشراء، وتتابع النساء من شرفاتهن الموكب المبروك.
بعد أسابيع، دعا «عم بدوي» كبار الحارة إلى اجتماع عاجل في دكانه بعد صلاة العشاء التي أصبح مواظبا عليها، بل وأجبر صبيته على إغلاق دكانه لحين إقامتها.
افتتح «بدوي» حديثه بمقدمة طويلة عن عمل الخير، ووجوب الثبات عليه، وأهمية إدخال البركة للحارة ولأهلها جميعا، ثم أطلق اقتراحه باستضافة «المبروك» بشكل دائم، وأن يقام له مجلس في أحد أركان الحارة.
في البداية تلعثم الحضور، واعتبروا ارتباطه بالرجل «المبروك» مبالغا، لكن «عم بدوي» أسكتهم بتذكيرهم بمرضه ثم شفائه، بعد حيرة الأطباء، بعد الصلح على مسمع ومرأى من الجميع، مختتما حديثه بتحذير من ويلات رفضهم.
كانت موافقة بدت في أول الأمر على استحياء، ثم تحولت إلى حماسة تجلت في اجتماعات تالية للحديث عن المكان المناسب، وتأثيثه، وتوزيع المهمات في دوريات استمرت ليلا ونهارا.
الوحيد الذي سخر من مجهوداتهم كان «كبير عائلة المتعلمين»، «الأستاذ مصلح»، الموظف المحال على المعاش، الذي حصل على لقبه لأنه الوحيد الذي حرص على تعليم أبنائه الثلاثة حتى وصلوا إلى الجامعة، وتخرج الكبير فيها.
لم يقتنع «الأستاذ مصلح» بحججهم وحماستهم، فاحتجب عن اجتماعاتهم، ونفر من تصديق كرامات «المبروك»، فانزوى في ركنه المعروف من المقهى، وانفض الجمع من حوله، وتحولت علاقته بأهل الحارة إلى مشاحنات مكبوتة، يثيرها أصحاب المحلات، حين مروره، بتعمد الدعاء للمبروك بصوت مرتفع.
أثناء جلوسه بالمقهى ذات صباح ، وبعدما استقر مقام «المبروك»، تجرأ «مصلح» وقرأ خبرا من جريدته عن القبض على نصاب مشعوذ. استحال الخبر مشاحنة كبيرة، وبما أن «الأستاذ مصلح» «صاحب ملك» في الحارة، فقد انتهى الأمر بقرار جماعي من أهل الحارة بطرد بائع الجرائد الذي اعتبروه مشاركا في إشعال «الفتنة» بالحارة، وحظر بيع الصحف نهائيا.
تبدلت حال الحارة؛ بدءا من اسمها الذي حمل من «البركة» نصيبا. ولم يكن «المبروك» يرد سائلا، ولكن إجاباته كانت دائما همهمات وأشباه كلمات، يفسرها كل حسب فقهه الخاص، فصارت الحارة مبكى للتائهين الباحثين عن خلاص من مأساتهم، ورشد لتيههم.
لم يعد للحارة شاغل سوى «المبروك» وكراماته التي لا نعلم يقينا صدقها من كذبها، وصارت حكاياته حاضرة في السهرات، مثل فك نحس ابنة «أم محمود»، ذات الخمسة والعشرين ربيعا، التي توسلت إلى «المبروك» أن يمر بعتبة بيتها، لعل «ابن الحلال» يأتي ويطرق بابها، وهو ما حصل بعد أيام. تلك البركة جرأت صبي المقهى المشاغب على اقتراح أن يرش من ماء استحمام المبروك على عتبات أبواب الحارة للتبرك، وهو ما نفذه الجميع.
تحولت الحارة إلى بياض تام، بلون الجلابيب التي اتسع نطاق مرتديها، حتى حجب الرؤية. بياض لم يعد يحتمله «الأستاذ مصلح» وأسرته، وهو الذي اعتاد اختلاف الألوان والأشكال، فحزم أمتعته، بينما تظاهر رجال الحارة ونساؤها بأنهم لم يلحظوه، فرحل دون سلام أو وداع، ومع آخر شعاع لمصابيح سيارة الأجرة التي ركبها، تنهد الجميع ورددوا: «استراح وأراح.»
صارت الحارة وكأنها تدور في حلقة دروشة لا تنتهي إلا بدوار وشعور بالغثيان. كم استمر الأمر؟ وكم بقي «المبروك» بينهم؟ لا نعلم. الحكايات تؤكد وجوده سنوات طوالا، حتى جاءه يوما بعض المتوسمين حلولا لخيباتهم، وحينما هموا بالدخول وجدوه جالسا متقوسا، حاملا رأسه بين ركبتيه، فبقوا على بسطته ساعات طوالا. وحينما قلقوا لاستمراره على وضعه، اقترحوا اقتحام خلوته.
وبعد مداولات على من يتولى إيقاظه، تطوع صبي المقهى بهزه، فسقط على الفور بين قدميه. خرج الصبي لاهثا ينعيه لقومه، فركبهم الغم والحزن. وحينما أفاقوا على حقيقة الخبر انشغلوا ثانية بدفنه، وتساءلوا: هل يغسلونه أم يدفنونه على حاله؟ وكيف يخلعون ثيابه ويكشفون عورته؟ وهل هم أهل لذلك؟ ثم دثروه بعباءته، وأهالوا عليه التراب حينما بدأت رائحة الموت تخيم على المكان.
عاشوا حدادا طويلا، لم يفارقوا فيه عتبته، ظلوا يرددون حكاياته وكراماته؛ ربما خشية النسيان، أو فقدان ما كان يميزهم. وبعد تفكير، وحينما فشلوا في استيعاب فراقه، أقاموا عند قبره مقاما ظل الناس يحجون إليه، وتطوع صبي المقهى بحراسته.
وبعد أسابيع، استيقظت الحارة على صوت جهوري يشبه صوت «المبروك»، وحديث يشبه كلماته المتقاطعة. ظنوا، وهم يتخبطون في الظلام في طريقهم إلى مقامه، أن معجزة أخرى انشق عنها قبر «المبروك». دخلوا، فلاحظوه في عباءته يدور في حلقات متتالية، ووجهه للسماء يطلق همهماته، وحينما بدأت عيونهم تستبين الوجه، رأوا صبي المقهى الذي أخبرهم أن «مسا» من المبروك قد جاءه ومنحه عباءته وبركته. ورغم المفاجأة، انفرجت أسارير الرجال لعودة «المبروك» إلى حارتهم.
قطعة سكر
بدأت كمداعبة منك، حتى أدمنت أنا تلك العادة، أحمل إليك مشروباتي، تزحف إلى شفتيك لتختلس منها قطعة سكر. تضحكين، وتسألين بدلال عمن سرق قطعة السكر، وخبأها بين حباتك اللؤلئية. أغار حينها من الكوب لحظه الوافر في أن ينهل من حلاوتك بلا رقيب.
أدغدغك، فتنثرين ضحكاتك الحلوة، تسكرينني ببراءتها. وحينما تبدئين ثرثرتك، أسجل كلماتك المدللة، فيما تحاولين إخفاء وجهك عن عدستي، وأنت تشتكين عرج لسانك، فأذكرك بخبث بغرورك مع جنية الأسنان، وإخفائك لسنك الساقطة واستئثارك به، فتردين ببراءة إنك أردت إهداءه لدميتك؛ لفقر فمها.
الآن، أراقب مؤشرات ذلك الجهاز اللعين وهو يكشف سر حلاوتك المفرطة؛ وجهك الشاحب، وكل تلك الأسلاك التي تذوب سكرك. من خلف هزالك، تسألينني بجزع هل تستطيعين الاستمرار في عادتك؟
ما زال الكوب يحتفط ببصمة شفتيك. أصبح باردا، شاخ على منضدته، ومرارته ملأت الحلق في انتظارك. في انتظار قطعة السكر.
رائحة الدجاج
بكفها البضة توقظني، أعرف تلك اللمسة الحريرية، «كف عز» كما تصفها دائما، قبل أن تستطرد في حديثها عن الزبدة البلدية، والخضار الذي لم يضع مذاقه وفائدته بفعل المبيدات وأشياء أخرى. مخيلتي مصمصة شفتيها وهي تترحم على أيام «خيرها».
تتوقف عن النداء الخافت حينما تتأكد من استيقاظي، وتحثني على الإسراع للحاق بها؛ حيث أعلم جيدا أين سأجدها.
تنتظرني على مدخل مطبخها. بحرص شديد تمسك بيمينها «الكزرولة»؛ حيث ترقد بيضاتها في سلام، وباليسرى ذلك الكرسي الخشبي ذا الأرجل المستطالة الذي صنعه جدي خصيصى ليرافقني ويطيل قامتي في مهمتي الصباحية التي تتسبب في جرعات متتالية من توبيخات أمي؛ بسبب تأخري عن موعد المدرسة، واتساخ ملابسي.
اعتادت جدتي أن تحتال على دجاجاتها، وتستعير منها بيضاتها، وتنقلها إلى «عيون الحمام» كما كانت تسميها، بيضة واحدة لكل زوج حمام. في البداية، لم يعجبني الأمر، واعتبرت الأمر «سرقة»، وأضفت بشكل استعراضي: السرقة حرام كما تخبروننا أنتم الكبار عادة، متسائلة في حيرة حقيقية: ألا يسبب ذلك اضطرابا لفراخ الدجاج بين ولائها لأمهاتها الجينية والأخرى بالتبني؟
كانت جدتي تهدهدني، وتخبرني أن دفء الحمام يسرع من نمو الصغار، ويقلل من الفترة التي يحتاجها البيض للفقس، كما أن الحمام حنون، فإذا أرادت الأم أخذ استراحة من الرقاد، تناوب ذكرها معها على الرقاد بنفس راضية، أما الديك فأناني؛ يترك المهمة، مهما طالت، للدجاجة.
ننتهي من المهمة الصباحية. حصاد اليوم عشر بيضات كاملة، اعتدت بعدها التسلل لأكشاك الدجاجات، أهمس لها كي تطمئن على مصير بيضاتها. تستعجلني أمي لحلول موعد المدرسة، فأخرج من العش وأنا أرمق هذا المختال بريشه وعرفه بنظرة حقد وعتاب.
تلتقط أذن جدتي نقر الحياة، وأول نداءاتها، فتناديني مسرعة: «تعالي! البيض بدأ يفقس.» تنبهني للحذر، أحمل الفراخ الصغيرة، أدغدغ زغبها المنتشي، وأتحسس نعومته. كطفل جديد، تحمله جدتي إلى أعشاش الكتاكيت المصنوعة خصيصى كحضانات للصغار، فيما أنشغل أنا بمواساة الحمام. أشعر أن صغار الدجاج سترث منها حنانها وبعضا من روائحها؛ عرفانا بجميلها.
تدلل جدتي صغارها؛ ربما لتعوض شيخوختها، أو تمرد أطفالها عليها. تحضر لهم البيض المسلوق المفتت، والقمح، وبقايا الطعام، والخبز المبلول، طوال فترة حضانتهم، وحتى انتقالهم إلى أعشاش الدجاج الأكبر سنا.
حينما كبرنا بعض الشيء، وكثر المتزوجون والأحفاد، استغنى جدي عن فيلته ذات الغرف التي تشبه في اتساعها شقق الأفلام العربية القديمة، وأسقفها العالية، التي لا تحتاج لتهوية اصطناعية، وحديقة تتسع لشغبنا نحن الأطفال، واستبدل بها عمارة ليحتل كل ابن شقة فيها، نتقابل فيها بالصدفة على بسطات طوابقها وسلالمها.
حملت جدتي دجاجاتها، واكتفت بأعشاش لها من الخوص منتصبة فوق سطح منزلنا الجديد، وازدادت تحذيرات أمي خشية علي من سور سطحنا، ومن صعودي السلم الخشبي الذي كان يربط الطابق الأخير بالسطح.
كانت جدتي تسبقني إليه، بينما أبقى أنا بجانب درجته السفلى، ممسكة بعموديه لمنع تراقصه تحت وقع خطواتها، حتى إذا اطمأننت لوصولها لقمته، أبدأ رحلتي في صعوده.
نعيد الكرة يوميا، نطلق سراح دجاجاتها، وننظف أعشاشها من مخلفاتها، ونستبدل بورق الجرائد المفروش أسفلها آخر نظيفا، ونعيد ملء أحواض مياهها، وننثر حبيباتها، ونضع الخبز الممزوج بالماء، ثم نحمل البيض، لا إلى «عيون الحمام»، فلم تعد باحتنا تكفي لأبراجها، ولكن إلى «شقق» العائلة، كل حسب عدد أفراد أسرته.
يوما، عدت من مدرستي، وعلى ناصية الشارع انتفض جسدي على وقع صيحات وصرخات مصدرها بيتنا، أكدت ظنوني تلك الجموع المتجمهرة على عتبته ومدخله.
علمت أن أحدهم اختار الانتحار حرقا فوق سطح منزلنا؛ لاعتقاده بأن طيور جدتي وعششها الخشبية ستسرع من إنهاء حياته. تفحمت دجاجات جدتي، ولكن المنتحر، طبقا لشهود عيان رأوا ملامحه المنتصبة رعبا، مات خوفا. ترى، هل الموت خوفا أسرع أم الحرق؟
أسرعت أبحث عن جدتي، فوجدتها متكومة تحت السلم الخشبي، تنتحب لمنعها من الصعود لإلقاء النظرة الأخيرة على طيورها قبل أن يجمعوا أجسادها المتصلبة في أجولة.
عاد الهدوء بعد أيام إلى منزلنا، وأصدر جدي فرمانا بحرمان جدتي من مزاولة عادتها فوق السطح، مكتفيا ببناء قفص داخل شرفتها اليتيمة بشقتها.
كبرنا، وازدادت انشغالاتنا، وقلت نوبات تسللي إلى شقة جدتي. وحينما رحل جدي، وتعالى الصغار على تناول البيض، واستبدلوا به الكورن فليكس والكرواسون، لجأت جدتي لبيع بيضها في السوق القريب من شارعنا.
أصبحت رائحة جدتي تشبه رائحة طيورها، وانتقلت إليها عاداتها. كنا نتنادر نحن مراهقي العائلة لأحاديثها مع طيورها، وإطلاقها عليها الأسماء والألقاب، واحتضانها وتفتيشها بين ريشها عن الطفيليات. وقلت زيارات أبنائها لها؛ بحجة تأففهم من رائحة قاذورات طيورها. كنت أتساءل: هل قلت الزيارات لهذا السبب فعلا، أم إن قلتها جعلت جدتي تستأنس بدجاجاتها عوضا عنهم؟
زحفت الشيخوخة على جسد جدتي وعقلها، أصبحت تنقر على بابنا، تشكو محاولات سرقة دجاجاتها، واللص الذي أراد حرقة قلبها، فأشعل النيران في طيورها. تسمعها أمي غير مبالية وهي تقطف أوراق الملوخية، وتدفعنا للدخول للمذاكرة وسط ضحكاتنا المستترة.
بعد سنوات، يجتمع الإخوة ويقررون الانتقال إلى أحياء أخرى، متعللين برائحة الدجاج العالقة بجدران البيت.
تنشغل أمي بحزم أمتعتنا، وإخوتي يلتقطون صورا تذكارية لأركان منزلنا، وأتسلل إلى الطابق الخامس، فتلفحني رائحة القمح والخبز العفن منذ سنوات، ألمح على الجدران ريشات عالقة، أمنحها بضع زفرات تطلق سراحها. أجلس القرفصاء، وأجمع أطلال الأعشاش، وأحتفظ بأعواد من الخوص، أخفيها في حقيبة يدي أثناء رحيلي.
المفكر الكبير
بابتسامة خبيثة، قدمته: هو المفكر والكاتب والأكاديمي المخضرم، فلان الفلاني. ذكرت حسناته، وقائمة طويلة من كتاباته وإسهاماته، ذيلتها بدراسة مهمة تركت بصمة في أصول الفكر والعمل النقدي. وقدم ضيفي الآخر عرضا مستفيضا لهذه الدراسة، رغم صدورها منذ سنوات طويلة، ولم ينس أن يذكر أنه رغم كتابة المؤلف لها في ريعان شبابه، فإنها كانت تنبئ بحضور مهم لعقل مستنير.
انتهت الحلقة، وصافحني المفكر بشدة وهو يعدل عدسات نظاراته التي أصبحت الآن أكثر سمكا، وخلع عنه سماعات الاستديو، وأعاد سماعاته الخاصة إلى موضعها.
أعطيته مظروف مكافأة الاستضافة وأنا أهمس في أذنه أن يشحذ ذاكرته ويراجع سنوات فكره الأولى ليتذكر وجهي، حينما كنت طالبا لديه. نعم، كان وجهي أكثر نحافة بفعل الفقر وامتصاص تلك الليالي الطويلة التي سهرت فيها على ضوء غرفتي اليتيم الأصفر، وأنا أكتب له دراساته مقابل عشرين جنيها.
استمع إلي بثغر مفتوح، فأخبرته بسخرية، وأنا أنظر إلى مظروفه الراقد على راحته، أنني لن أنسى تلك الفرحة حينما كافأني بمائة جنيه إضافية عن دراسته الضخمة التي خطت به أولى خطوات المجد. ترك الاستديو متعرقا، وعدت أنا لكرسي المضيف منفوخ الصدر.
في حضرة رجل
أسرع الخطى في محاولة بائسة لإثبات رجولتي المبكرة. أخفي أنفاسي المتلاحقة كدليل إدانة على ضعفي. بجوار ذلك الحائط، ترتطم المخاوف والأحلام كما ترتطم الأجساد.
درجات السلم تمتد أمامي، أشعر بها قاسية، أصعدها تلك الليلة كعربة خربة تصعد مرتفعا شديدا، أحمل قدمي فيما تخذلني هي.
تذهل أمي حينما تراني، تبقى في استسلامها، وتسألني دموعها المتحجرة: هل ذهب حقا؟ لا أعطيها فرصة لمحاصرتي بأنينها، فأدخل الغرفة، وأغلقها كقبر علينا.
مسجى أمامي الآن، عاريا تماما من سطوته وغضبه ورجولته التي طالما استعرضها أمامي. أتذكر صموده أمام بكائي، ورده بابتسامة باردة. هذا الصمود خذله، فتركه وحيدا في لحظاته الأخيرة.
أقرأ المشهد في عينيه الثابتتين على نظرة الرعب الأخيرة. تذكرني بارتعادي أمام قوته، وتحت حزامه الذي ترك آثاره على لحمي الغض. لعلها حلت أخيرا لحظة انتقامي الأول والأخير منه.
الآن، أصبحت رجلا كما أراد، أصبحت دموعي عصية، يحلو لي انتقامي واستغلال لحظة ضعفه، رغم توسلات نظراته، أعيد المشهد عليه كضربات لاعب محترف.
يعيد ذهني لعبتي القديمة؛ حينما كانت توهمني كوابيس رعبي بقدراته المارقة، فيضبطني في نوبة نعاس أفتش في وجهه عن قناع المارد، فتوقظني صفعة من يده، ويزيحني عن أحلامي. الآن، أعيد بحثي مطمئنا أنه لن يزعجني ولن أزعجه.
أجرده من أسلحته المتجبرة على ضعفي؛ حزام، ويد، وسباب، وركلات. أحكم دفنهم في طبقات الأبيض، وأسد ثناياه كمارد محكوم عليه بالحبس في قمقمه.
أسمع تساؤلاتهم وثرثرات فضولهم: ماذا حدث؟ وكيف؟ ولماذا جاء متجردا؟ وأين ملابسه التي انتفضت عنه؟ تستحلفني نظراتك ألا أخذلك هذه المرة، وأن أكون رجلا ولا أبيح سرك، وأن أبقيك «ماردا» في ذاكرتهم، أن أمحو هذا الحادث ومفرداته، في استسلام تام.
الآن، سأكون أهدأ، سأجلس عند ناصيتك، أهمس إليك، أبثك أسئلتي، وظلال تلك النظرة تلاحقني، هل كان الحادث عذرا لموتك أم لإحياء هذا الرجل الذي تمنيته؟
رمادي
المشهد لا يختلف كثيرا في مجمله، الجالسون على المقاهي لا يزالون في مقاعدهم يلقون بالنرد، ويستنشقون أحجار النرجيلة، والنساء في شرفاتهن يتابعن حدث التنظيف اليومي، وشراء خضرواتهن من البائعين الجوالين، ولكن كل ذلك يتم الآن بتواطؤ خفي من الصمت، لا ثرثرة أو ضحكات، ولا حتى سخرية أو جدال أو مشاحنات متناثرة.
متى أصبح للصمت كل تلك السطوة، فصار كأذرع الأخطبوط، يمتد ليحتل النفوس، فيصبغها بلون رمادي يشبه الموت في حياده؟
ربما بدأ ذلك منذ اختفاء بعض الثرثارين. ذهب الأول، فاعتقد البعض بسفره، أو رحيله المفاجئ دون وداع. ورغم تصريحات الارتياح لانخفاض حدة الصخب، فحينما تعددت حالات الاختفاء ملأت التساؤلات الأذهان، ولكنها لم تجرؤ على تخطي حدود الأدمغة، ثم أصبح للخوف سلطة عليا، فتوارت النظرات المشتبه بها، وزحف الصمت الثقيل بخوائه حتى امتلك الجميع.
صارت تعبيرات الوجه جريمة، فالتزم الجميع حيادهم التام، وارتدت الوجوه أقنعة ثلجية. خلت الأرصفة من مجالسها الليلية وصخبها النهاري، وخشيت الأمهات على أطفالهن من العقوبات، فبدأن بفرض أطواق حول أعناقهم لمنع عبثهم. وحينما لم يلتزموا بشعائر الصمت، أقمن على أفواههم سياجا.
ضبطت امرأة بتهمة الضحك علنا، فعوقبت بارتداء وشاح بلاستيكي لشهور عدة. وحينما ضاق البعض وحاولوا الهرب، عوقبوا بالحبس داخل جحور؛ ليتأكدوا أن الحياة الرمادية أوسع مما كانوا يتخيلون، وقيدت عقولهم بأصفاد؛ لردعهم عن معاودة التفكير في الهرب.
تواطأت الطبيعة مع الحكم الرمادي، فتوقف تعاقب الفصول. لم يعد هناك حر أو برودة، أو رطوبة أو ربيع. خضعت الطبيعة وقدمت ولاءاتها للرمادي، وانتشر السعال وأصبح كالزفير والشهيق. سكن الكسل الأجساد، والتزم الجميع الجمود.
في السابق، أدمن الجميع كتابة التقارير. وحينما زادت وطأة الصمت، لم تعد هناك أسرار تستباح، فقلت التقارير، حتى اختفت ولم يعد لها معنى.
لم يعد هناك أشباح لعلاقات إنسانية عاطفية أو حتى حسية، هجرت بيوت المتعة، واشتكت النساء، وزممن أفواههن اعتراضا على فتور رجالهن، حتى لبسهن اليأس، فخلعن لباس أنوثتهن، واختفت ألوانهن الزاهية من فوق أحبال غسيلهن.
وفي يوم، استيقظت المدينة على صخب جديد؛ أبواق، ومنشورات توزع وتلصق على الجدران تؤكد إمكانية التغيير. لم يصدق أحد تلك الشعارات، واعتبروها اختبارا للوفاء، فالتزموا الصمت، وقدم الكثير قرابين طاعتهم، فطلوا المنازل بالرمادي، فضاقت المسافات وتآكلت مساحات الفراغ.
فوبيا
شعور بالتحرر يداهمني وأنا أعبر تلك البوابة. اللون الأخضر بسلامه يغويني، وصفحة النيل أو ما تبقى منها قبل أن تتآكل بفعل الفنادق والمباني المتعددة النجوم والطوابق، تستقبلني كأنها تبتسم لي، وتتمنى لي صباحا ممتلئا بالحواديت ككتابي الذي أضمه إلى صدري كوديعة.
دعوة لقضاء صباح لا تقطعه نوبات بكاء صغيرتي وصراخها، أو جرعات لا تنتهي من الأعمال المنزلية، تلقيتها من صديقتي إلى نادي جامعتها الموجود على شاطئ النيل.
أتاحت لي الدخول ببطاقة عضويتها، ثم انصرفت لأستمتع بخلوتي الخاصة، أنا وكتابي وثالثتنا المتعة الحلال، أرتوي منها. حتى هذا العامل بلباسه الرمادي الكالح لم يزعجني، لعله ظنني من رواد المكان المتشابهة هيئاتهم بفعل هيبتهم العلمية، الذين يأتون لمهمات مشتركة؛ إما الانكفاء أمام شاشات الحاسوب للدراسة، أو تصحيح كراسات حفظ حجمها وشكل أغلفتها الخارجية، أو لتدوين الملاحظات على الرسائل العلمية.
في النهاية، اكتفى العامل ببسمة رائقة عند جلوسي، ثم راح يستكمل تنظيف الطاولات وإحكام غلق المظلات، أو فتحها حسب طلب القلة من رواد النادي في هذا الوقت المبكر.
بدأ الأمر على مهل. جاء الأول، فلملمت أشيائي، ونقلتها من الكرسي المقابل إلى المجاور. دقات قلبي تتسارع وتيرتها، نظرة منه دامت لحظات ثم رحل، فانكأفت أنا على كتابي أواري قلقي وتوتري.
دقائق مرت، نعمت فيها بمداعبة نسمات الهواء الربيعية الخالية من أتربة الخماسين وغدر الموجات الحارة، أتابع هذا الغراب الذي يستعرض هيبته وهو ينفش ريشه تحت مياه خرطوم الحديقة، أمام آخر، لعلها وليفته، غير آبه لتعويذات المتشائمين.
مرة أخرى، عادني رعبي مع عودتهما. اثنان هذه المرة، في تأن يلتفت بعضهما لبعض، واحدة تتهادى بخلاعة، ثم تمرغ جسدها بإغراء كمحترفة، والآخر يمعن النظر إليها في غرور، فيلاحظهما ثالث فيأتي متحفزا، ويقطع احتمالية الإغواء.
لحظات ثقيلة مرت وأنا أتخيل أجواء معركة قادمة، وأعد نفسي لخطة بديلة لإفساح المكان لهم؛ فاحتمالية القراءة على أصداء المعركة، أو إجراء هجوم دفاعي من جانبي، أمران مستبعدان تماما.
خابت توقعاتي برحيلهم، ولكنهم تركوا معدتي فريسة لتشنجاتها العصبية. متى بدأ كل هذا الخوف؟ أتساءل مستهزئة بطولي الفارع وسنوات عمري التي تعدت الثلاثين، ولم تمنع ارتجافي أمام هذا المخلوق الصغير.
أهدهد مخاوفي، وأبحث في عقلي الباطن عن سبب كل هذا الرعب بحسب التفسير الفرويدي؛ فلعله هذا الكابوس الذي أفزعني طفلة، وهاجمني فيه قطيع منها، وما زالت تطاردني ذكراه حتى اليوم، ويسطو على تعاملي مع هذا الكائن، وما زال بدني يقشعر من فروها وجسدها الانسيابي.
وربما محاولات التسلل التي مارسها هذا المخلوق مرات أثناء المرحلة الابتدائية؛ حينما فوجئنا به يتحرش بأقدامنا تحت مقاعد الدراسة، فتعالت صرخات بعضنا ونحن نحتمي بأسطح المقاعد، وبعضنا استغل الفرصة للتفلت إلى ساحة الملعب، حتى نجح الفراش في طردها، وكانت النتيجة عقابا جماعيا لنا بإرسال خطابات إنذار إلى أولياء أمورنا.
أتذكر سخرية زوجي وابنتي حينما انتفضت مرات عديدة عند دخول إحداها مجال جلوسنا في الحدائق العامة أو المقاهي المفتوحة، واشتراطي على صديقة لي تمتلك إحداها ألا أدخل بيتها إلا إذا حبستها في غرفتها فترة مكوثي ببيتها.
لعل فوبيا النظافة عند أمي هي ما أورثني هذا الرعب، أو لعلها أحاديث برامج الحيوانات عن فصيلتها المستأسدة التي أصلت فيها الغدر بحسب ظني. ألعن العلماء وأطباء النفس ونظرياتهم التي تهاجمني اليوم، تكفيني فوبيا واحدة في هذا الصباح.
في هذه المرة كان الهجوم أكثر جرأة؛ حيث جاءوا جماعة وتحرشوا بطاولتي، يبحثون بدهاء عن صيد تحت قدمي المرتعشتين، حتى أصبح المكان مرتعا لأصداء المواء، فلملمت حقيبتي ورحلت.
أطأطئ رأسي وأنا أجرجر هزيمتي أمام مخاوفي، وأثناء مروري أمام الكافتيريا سمعت عاملا يشكو لآخر قسوة البشر بصوت مرتفع: «دي قطة، مش أسد، هي الناس جرى لقلوبهم إيه؟»
رقص منفرد
في درب يشبهني في غلظته، أسير وأجواء عاصفة تعلن تمردها هي أيضا على تقارير الأرصاد الجوية. أسير محتميا بمعطفي، متلحفا بأحزاني التي تشعل خطواتي. أستمع لأنشودة الريح الشجية، تواسيني في عزفها فتشبه مايسترو تتبعه فرقته في انصياع تام.
لمحته ينازع الإهمال، يفترش الطريق مستنجدا به كطفل، تراوده الريح عن نفسه فيتمنع؛ تغويه بعصاها فيطاوعها، ويبدآن رقصتهما.
تأتي الخطوات الأولي خجلى ومتعثرة. يداري عثرته بدوران قصير. يعاود قراءة نوتته الموسيقية، ويطاوع إشارات قائده، وحينما يخدره اللحن يمتزجان معا، ويشتد وقع خطواته، فيطلق العنان لخفته كراقصة محترفة.
يدور تلك المرة بمهارة صانعا دوامته. يداعب روحي في صعوده، فألمحه وهو يرتطم بالجدران، وحينما أفصح عن شماتتي يسخر مني، ويهمس لي بأنه يتحرش بها ويوسوس لها لمجاراته، ولكن يخزيه قعودها.
في الشرفة، يتابعه فضولي آخر، تغريه رقصته، فيعقد طائرته الورقية، يباركها بأحلامه الوردية، ويحررها من قيدها لتصاحبه في صعوده.
يتحرران مع صعود اللحن، ترتقي معهما روحي، فتتخفف من أحمالها، وحينما أبدأ في التخلي عن معطفي تفاجئنا الزخات الأولى رقيقة كالندى، يبتسم لها، ويأخذه غروره، فيتباهى بخفته أمامها.
يزداد وقعها، تثقل القطرات وجهه، ومع توالي ضرباتها وشدتها يتخلى عن لحنه، يتوالى سقوطه، فيلمح خلو مقعد المايسترو، فيقدم قرابين طاعته وخضوعه.
ألمحه يرقد هامدا في بركته، وبجانبه تخمد الطائرة الورقية، فأحكم غلق معطفي، وأسرع خطاي.
صندوق لا يتسع للأحلام
تمتد اليدان النحيفتان، تتهامسان عبر السورين المتباعدين، لحد العناق حتى ينتبها للحظة الفراق على صوت أمهما تدعوهما إلى الذهاب.
هو يطلق روحه تسابقه على الدرج في هبوطه، لم تزعجه كسوره المتعددة، أو روائح الرطوبة ودورات المياه وعفن المخلفات، ولم يشاكس تلك القطة مع صغارها كعادته، بل كان كريما معها، فانسحب على أطراف أصابع قدميه، مانحا لها نصف وجبته المدرسية.
يحمل عنها حقيبتها المهترئة، ورغم ثقل الحقيبتين يحاول ألا يحني ظهره أمامها. يعقدان كفيهما ويحملان بينهما قلبيهما. قبل خطوات من مدرستها يودعها، ثم يمنحها نصف وجبته الآخر. تتعانق الأنامل الصغيرة لتبني أحلاما ليست بذات شروخ كبيوت الحارة الكبيرة.
في طريق العودة، يعرفان مقصدهما جيدا، على جانب الطريق؛ حيث يقف هو بسحنته الطيبة، يحث التلاميذ على سماع حكاياته، يبتسم للعشاق الصغار، متعجلا لهم بنهاية وردية كنهايات قصصه.
الجسدان النحيفان يلتصقان، ويسألهما الرجل المسن ماذا يحبان أن يشاهدا. تجيب لأعين قبل الألسنة، كالعادة: «الشاطر حسن وست الحسن.»
تطل الأميرة بجدائلها الذهبية، تراقبها وهي تتبختر في زهوها وسط خدامها. الأميرة ما زالت حزينة، والملك يطلق مناديه في المدينة يبحث عمن يفلح في إضحاك ابنته، أو تطبيبها، بحسب رغبة الراوي، وفي كل مرة تساعد العرابة الطيبة الشاطر الفقير، فيهنأ بالأميرة وبحسنها وبمملكتها.
لم يسأما من تكرار القصة رغم حفظهما لأحداثها، ورغم ازدياد خشونة صوت الراوي؛ بسبب كهولته، وسعاله المتعدد لمكوثه الطويل بالطرقات، وانحناءة ظهره، وذاكرته التي أسقطت تفاصيل عدة.
تطوق يداه كفها بلا كلام، يتمنى أميرته، فتتعثر قدماه في أوحال الحارة وضيقها، كما تتعثر أحلامه وأفكاره.
يكبر الحبيبان، ويصبح للشاطر صندوق آخر مثبت على عربة «نصف نقل»، زينها بإطارين: أحدهما لشهادته الجامعية، والآخر لصورته محتفيا باستلام مشروعه الخاص من رئيس الحي.
صندوقه، أيضا، ممتلئ بالحكايات، مثل يومياته مع شرطة البلدية، وإنكار رجالاتها أوراقه الثبوتية إلا حينما يضيف إليها ورقة بنكية من فئة العشرين؛ وفصاله مع زبائنه الذي لا ينتهي، مهما كانت العلامة التجارية لسياراتهم؛ وسطوة «فتوات» العصر الحديث، وإتاواتهم التي لا تنتهي، سواء أكان حصاده اليومي يقبل القسمة على مسئولياته وعليهم أم لا.
في نهاية يومه ينتظر أميرته. تأتيه وهي تجر قدميها، وقد تنازلت عن دور «ست الحسن»، واكتفت ب «سندريلا»، بعدما خدعتها عرابتها، ولم تعد تعويذاتها السحرية تصلح لتعديل هندامها أو تأدية مهامها اليومية عنها. تأتيه بعد انتهاء جولتها على المنازل، بعد تلطمها في صناديق متعددة؛ بدءا من أتوبيسات النقل العام، وانتهاء بصندوق خشبي قابع فوق سطح المنزل، يقال عنه بيتها.
تبتلعهما الحارة بضيقها وتلصص الجدران والعيون، وعبر سوريهما نصف المتهدمين يتابعان سراب أحلامهما، وأنفاسهما المتقطعة، وزحف الشيب إلى روحيهما. لم تعد الدنيا باتساع صندوق الحكايات، ولم يعد هو «الشاطر حسن»، ولم تعد هي «ست الحسن».
تختفي أميرته أياما، فيسأل عن السر. يعرف من أمها التي واسته أنه لم يعد في العمر سنوات لتهدر. يتابعها في حليها وفستانها المنفوش تزف لأمير آخر، ربما لم يكن هو بالنهاية سوى قضمة التفاحة السامة التي أصابت الأميرة بغيبوبة طويلة حتى أيقظها الأمير المختار.
يعلم حينها أنه لم يكن محظوظا ك «الشاطر حسن»؛ فالأميرة ما عادت يكفيها دعابة لإضحاكها، ولم يعد هناك عرابة لتنصحه بمكان دوائها، وأن والدها بنى أسوارا حول مملكتها لمنع اختلاطها بالعامة.
بعد ليال من غلق صندوقه، تابعه المارة وهو يوزع بضائعه على المتسولين، ويحمل على ظهره صندوقا آخر، وسط دهشة المتطفلين واتهامات بالجنون. وبالقرب من بوابة المدرسة القديمة جلس، ونادى على العشاق الصغار: «صندوق الدنيا»؛ «الشاطر حسن وست الحسن»؛ «علاء الدين والمصباح السحري»؛ «سندريلا»؛ «الأميرة النائمة».
مدينة في حراسة موكب الملائكة
فتحت عيني في هزال. تحسست سريري فلم أجدك بجانبي كعادتك، سألتهم عنك، فأنكروا معرفتك، حاولت وصفك، فاعتقدوا أنني أهذي من أثر المخدر.
لأول مرة نفترق، منذ لقائنا الأول بمباركة جدتي. أتذكر سعادتي وجذلي بحديثها عن أوجه التشابه بيننا: العينان السوداوان المتسعتان، والمنفتحتان دائما على نظرة الاندهاش؛ أطرافنا التي تشبه البراعم؛ خطواتنا الأولى المتعثرة؛ وألاعيبنا المبعثرة؛ وصرخات أمي المتتابعة حينما تتعثر خطواتها بنا ونحن نختلس أدواتها المطبخية.
أعمار تتابع في جلساتنا؛ حينما أدعي أمومتي لك أنثر ضفائرك ثم أجدلها، وحينما تنفلت شعورك من بين أناملي الصغيرة أستدعي مساعدة جدتي. أضع لك مساحيق تجميلية بألواني الحبرية، حتى تبدي كمهرج السيرك، ثم أمنحك محاضرة كمحاضرات أمي عن النظافة وأهميتها، وأختمها بجولة تنظيف بالماء والصابون.
أتذكر عندما بدأت تلك الأصوات في الانطلاق، كنا نلعب الغميضة؛ لعبتك المفضلة. كنت تجيدين الاختباء وراء الستائر؛ تحت الأسرة؛ خلف الأبواب. حينها، كررت النداءات، والتزمت أنت الصمت، فظننت أنها إحدى ألاعيبك. بحثت عنك حتى وجدتك تخفين وجهك بين الملاءات، ورائحة الخوف تنبعث منك. احتضنتك وأخبرتك أنها مجرد «ألاعيب نارية». ضممت يديك، وإلى شرفتنا تسللنا، جلسنا في حضرة روح جدتي، تداعبنا بلعبتها المفضلة.
كعادتنا، نتابع الأدخنة المنطلقة كزفير ينطلق من عشرات الأفواه، اجتمعت في مدينتنا، تبث أخيلتنا الروح في الدخان المتصاعد. علمتنا جدتي ألا نخاف منها، قائلة إنها ترى فيها موكبا من الملائكة يحرس مدينتنا. ونتبادل الأدوار تباعا. مرة رأيت وجه أمي ترسل إلي قبلة بحجم السماء، ومرة رأيت أنت محلا للعب، ورفيقات تشبه الأميرات في زينتهن على الأرفف، ورأت جدتي العذراء تدثر وليدها بتعويذاتها المباركة. يومها وجدت ملامح جدتي مستنسخة عشرات المرات على وجوه ملائكتها.
تضيق الغرفة بزوارها، يتفوهون بكلمات عن الحرب والدمار، ويستنطقون مشاهد خربة وبيوتا متهدمة وعوائل سقطت. أخفي وجهي بين كفي لأبتعد عن عدسات آلات التصوير. لا أحب أضواءها، تذكرني بانتفاضاتك حينما كنت تسمعين أصوات زخات الطلقات المتتابعة ليلا. ثم إني أتساءل: هل يمكنك التعرف إلى صورتي عند نشرها بالصحف؟
حضر الزوار بدماهم، وملئوا بها المكان. ظنوا أنهم يعوضونني عنك، ولكنها لم تكن بملامحك التي تسكنها روح جدتي. وحينما عاث في أجسادها الخراب، وبعثرت أطرافها، فتشوا في جسدي عن آثار الهذيان، ظانين أنها خيالات صبيانية من أثر الصدمة. أسخر منهم وأتساءل: ألا يرون أنني فقدت بغيابك أطرافا أخرى وخيالات لا حدود لها؟ وتتبعثر الأسئلة برأسي: ترى، هل ما زالت مدينتي تحرسها الملائكة؟ وهل ما زالت تحتفظ بوجه جدتي؟
ليلة العيد
الأبخرة تتصاعد فتحجب الرؤية، وتسد الأنوف روائح مواد الفرد وأدوات الكي الرخيصة السعر، فتجعل المكان كغرفة تحنيط.
أفواه لا تتوقف عن الطلبات، وقلوب لا تتوقف عن التطلعات من خلف طبقات من الأقنعة الزائفة.
الحكايات هنا لا تنتهي، كصندوق كبير للحكي، يمكنني أن أتجول فيه كدمية، أشارك حينا في صنعها، أو أكتفي بالمشاهدة، كتلك الطفلة التي صاحبت يوما أمها، فامتلأت عيناها ورأسها بالأسئلة والقصص. وأحيانا، أصبح كصانع عرائس الماريونيتات، أحركها وأسطو عليها وأسحرها وأمسخها.
أبدأ عملي بأسئلة عدة، وبكلمات بسيطة، فأبدو كصاحبة مقام، يأتينني طوعا، ليضعن وجوههن وشعورهن وأطرافهن وأحلامهن كذلك تحت إمرتي؛ من أجل فرحة ترتسم على قلوبهن كوشم. «ماذا تريدين؟ الوجه فقط؟ ما رأيك بتنظيف إضافي بالبخار، وإزالة للنقاط السوداء المتطفلة على أنفك ووجنتيك؟ سأهديك معه قناعا من اللبن والعسل ونباتات طبيعية آتية من بلاد الجمال والنور، سينير وجهك وينفس عن مسامه، ويعيد إليه ربيعه.» ألحظ أحلاما وردية وكلمات معطرة ترتسم في المخيلة، فتدفع بزبونتي للرضوخ. «قدماك تعانيان العطش، تتكسر أحجبتهما على طرقات المشقة والحرمان، تلهث خلف مسئوليات الحياة، هي الآن تنتصب بين أصابعي وتتمدد كعروس تستيقظ للتو من غفوة طويلة.»
يتصبب عرقي وأنا أعدو خلف أدوات التزييف، أحصي بعيني الأجساد على مقاعد الانتظار، فألعن العاملات الأخريات المتأخرات دائما عن موعد حضورهن، حتى في هذا اليوم.
في أرجاء المكان يتطاير السؤال، يعاد استنساخه عشرات المرات، كروح تسكن الجميع، ولا مفر من طاعته. ما أسباب حضورهن اليوم؟ كيف سيقضين تلك الليلة؟ تدغدغ رغباتي قصصهن، وضحكاتهن الخليعة الماكرة الخارجة لتوها معطرة من ذاكرة نسائية.
أستمع إلى همزات تلك التي اشترت قميصا بلون أحلامها الوردية لتجدد ليلة عرسها، رغم مرور عشر سنوات كاملة، ثم دخولها في نقاش حاد حول الأسعار المبالغ فيها للانجيري، وآخر موديلاته التركية التي أزاحت المصنوعات المصرية؛ لجدارة خامتها وأناقتها، مذكرة بشوارع وسط البلد التي كانت عامرة بالمستورد من أفخم الموديلات.
ومدام منال التي كانت تستعد لحضور زوجها خلال أيام، بعد غياب أسابيع في مهمة عمل. جاءت لمفاجأته بجلسة فرد وقصة شعر جديدة، ففاجأها هو بمكالمة تليفونية يخبرها بوصوله الآن، فخرجت في حلتها الجديدة تجر خيبتها وتحذيراتي ترن في أذنيها: «الكيراتين سيحرمك من الاستحمام لمدة 72 ساعة على الأقل!»
أرهقتني مفاوضات تلك العشرينية التي أمضت معظم وقتها في محادثة حبيبها، واستشارته في لون وشمها ورسمته، ولون صبغتها وطول شعرها؛ استعدادا لمقابلة أولى مع والدته.
ثم حرضت مدام سلوى على طفلها البكر، حينما أبلغتني بأنها ستكتفي، استعدادا للاجتماع العائلي، بتقليم أظافرها دون صبغها؛ لتتفادى سخرية ابنها وهو يسألها عن سبب «المانيكير» لامرأة مسنة. •••
تتأمل ضفائرها وهي مجدولة ومشدودة إلى دوبارتها، تتمنى لو تطلق سراحها حينا كتلك الفتيات المتباهيات بخصلاتهن، وبألوانهن التي تشبه أعمارهن البضة. تنتفض أحلامها الفضفاضة مع أذيال الفساتين والجونلات المتطايرة، فيما تحاول هي مقاومة هجوم أسراب الذباب المتطفل بفعل أكوام القمامة القريبة.
تؤلمها جلستها، فتفرج عن ركبتيها، وتكتفي بفردهما، حينما تنغزها تلك التي بجانبها متحفزة، فتستجيب لأوامرها. تلعن تلك الرائحة الكريهة، ووعود أمها البلهاء التي دفعتها لهذه الجلسة في ذلك اليوم.
لا يعجبها العيد ذلك العام. هل يمكنها الإفصاح عن ذلك؟ هل سيغفر الله لها كرهها ذلك الموسم المبارك؟ هل سيغضب منها، كما غضبت أمها حينما اعترضت على المجيء معها هذا العام بسبب زواج أختها الكبرى التي كانت تتولى تلك المهمة، فدعت ألا يأتي أبدا هذا العيد، فجاء رغم رجائها غير عابئ بكسر خاطرها؟
من خلف أسوار تلك الحديقة، تابعت ببصرها أفواج الأطفال مع عائلاتهم؛ تلك الضحكات الطليقة، والتحلق حول عربات غزل البنات والآيس كريم، والطراطير المفضضة. تتذكر الأعياد الماضية؛ حينما كانت أمها تطلق سراحها لدى جارتها التي لا تعبأ بلعبها مع صبية البلد أو فتياتها كما تفعل أمها.
اليوم بطوله تغيب أمها لتعود في آخر الليل منهكة القوى ورائحتها تشبه الذبيحة، وفي يديها كيسان أو ثلاثة محملة بقطع اللحم، وقطع متباينة الطول والحجم من جلد وفرو كانت تفرشها أياما في الشمس حتى تجف، ثم تبيعها في السوق.
مع حضور أول المانحين تنغزها أمها، وتدفعها للعدو إلى سيارته، تقف مع آخرين، وتمد يديها. تخرج يد ملطخة بالدماء، تذكرها برائحة أمها عند العودة من رحلة العيد، فتنتابها قشعريرة، وحينما تهم بالتراجع تدفعها أجساد أخرى وتقذفها عائدة إلى صاحب السيارة، يخرج منها ويوزع أكياسه السوداء، ثم يعود أدراجه، وتعود هي إلى قرفصتها.
بعد حين دفعتها أمها للقيام. تحركت معها غير مبالية بين شوارع عدة، حتى وصلت إلى صوان كبير. سدت أنفها رائحة الموت. جرتها أمها جرا.
وقفت تتأمل الجموع المنتصبة حول دائرة أصغر في المنتصف، أحدهم يقف وبيمينه أدوات حادة تشبه السكين ولكنها أكبر، وتحت قدميه ينتحب خروف، يثبت أطرافه اثنان آخران، وبضربة من قبضة يده الممسكة بالسكين يقطع أوردة رقبته، ثم يتركه في انتفاضته الأخيرة دقائق عدة قبل سلخه.
لم أردد في هذا العيد تكبيراته، ولم أنتفض فرحة كبقية الصبايا، بل ازداد كرهي للعيد مع كل هذه السيول الدامية، وأكوام جثث الخراف والبقر وبقاياها المتراصة. ترغمني أمي على الانتظار، بينما تتطاير دموعي حزنا على الفقيد، فيما تنتصب سعادة في عين أمي حينما تنال نصيبا أكبر كرما لأجلي، كما أخبرها صاحب «المأتم». •••
أعيد رص بضاعتي. أشعر بها اليوم كعروس، أمسح أتربة وجهها اللامع بحرص مبالغ وكأنني أزيل عنها الشيب. أتذكر توبيخات زوجتي لخروجي طيلة أيام العيد وتركها فريسة لتعليقات جاراتها وأمها عن العائد من كل هذا، خاصة بعد تجاهلي نصائح الجميع بإضافة بعض البضائع الحديثة، كالصواريخ والبمب، التي تلاقي رواجا في مثل تلك المناسبات.
أتذكر أنا وحدي ذعرها حين سمعت انفجاراتها لأول مرة، وانتفاضتها بين ذراعي في ليلة تشبه هذا العيد. وحينما أخبرتها عن مصدرها كافأتني بقبلة على وجنتي؛ لأنني اكتفيت ببضاعتي السلمية البريئة.
أعيد رسم ملامحها من تلك الوجوه الملائكية التي تعبث ببضائعي، مترددة في الاختيار بين غطاء الرأس القرطاسي والبالونات وشرائط الشعر، أو الاكتفاء بغزل البنات والذوبان عشقا بين بلوراته.
كانت تنتظرني في كل ليلة عيد، تتشبث بأطراف أناملها بشباكنا اليتيم، وتتعلق عيناها بأكياس البضاعة، ثم تفضها متلهفة، وتختار عيديتها بنفسها. لونها المحبب ذلك العام سيكون الأبيض بلون رداء دمية ابنة جارتنا الجديدة، أمنحها بالونا أبيض بلون براءتها، وقبلة تنام ضاحكة على جبينها.
تقف هي بجانب عربتي الخشبية، أستلم أنا النقود، وهي تسلم الزبائن مشترياتهم. تفضل أن تمنحهم هي الفرحة؛ لتشعر برعشة أناملهم، وهم يستلمون بالونا أو طرطورا يرتدونه كملوك متوجين، وغزل بنات لا يضاهيها حلاوة.
منذ رحيلها، وأنا ما زلت أتعلق بهذا الشباك في كل عيد، وأحتفظ لها بأول بالون في جيبي. ما زلت أحتفظ لها بالأبيض، ولكنه تلك المرة يذكرني بلون ردائها الأخير. •••
جميلة هي شوارع المدينة في اليوم الرابع للعيد، يظللها هدوء من ساكنيها وأطفالها وجزاريها ومذابحها ودمائها. أجر قدمي بعد أيام متواصلة من العمل، أشد وجوها، وأرفع شعورا، وألون أحلاما كساحر، بينما وجهي أنا خال إلا من الخيبة والتعب، ترتد إلي خطواتي كرصاص مجرد من الصوت رغم ما يبثه من أنين.
ألمحها تجر قدميها خلف أمها المتلحفة بردائها الأسود الريفي، تهش النوم عن جفونها وهي تلاحقه ببضاعته فوق عربته الخشبية حيث يعيد ترتيبها في تؤدة، تشد طرف أمها، تهمس لها برغبتها، فتسرع الأخرى خطواتها، وهي تحمل بيدها الأخرى مشنتها، تلحق بخطوات أمها، ورقبتها تلتوي لهفة على تلك القراطيس اللامعة.
أسرع إليه، وأضع بين كفيه عملتين؛ ثمنا لقرطاس لامع تزينه شرائط وردية تشبه عمرها، وأعدو خلفها. يتابعني هو مبتسما، وحينما أصل إليها أهديها تاجها، وتمنحني أمها بضع دقائق أضيف لوجهها الملائكي قصة جديدة لشعرها. يأتينا بعربته، فيخرج من جيبه بالونا أبيض ويمنحه لها عيدية.
ذاكرة نظيفة
المكان ضيق بعض الشيء، ولكنه لا يزعجني. يضايقني، فقط، هذا الطنين الذي يشبه وقعه مبرد طبيب الأسنان. أنشغل بهذا الضوء الذي ينسدل خافتا ملتحفا بألحان باهتة، يدفعني لأرهف سمعي لأتبينها.
تعيد إلي الأصوات أحلاما ضمرت، وصورا باهتة يعاد تلوينها. ينبت لي جناحان، فأتجول حرة بين سنواتي الماضية، أتلصص بين فصوص عقلي، فتعيدني إلى ضفائري المجدولة، وبراءة الأعوام العشر.
يأتيني صوت فايزة أحمد «بالسلامة يا حبيبي بالسلامة، بالسلامة تروح وترجع بالسلامة»، وأم كلثوم وهي ترطب الصبح بصوت ندي «يا صباح الخير ياللي معانا»، متداخلا مع تلاوة محمد رفعت وقرآن السادسة صباحا.
يبهت الصوت أمام روائح أمي المتعددة، فتخدرني رائحة اللبن الساخن الطازج، قبل أن يستبدل به اللبن المبستر، وتأفف أخي اعتراضا على هذا الطقس الصباحي، ثم تشجيني رائحة الكي وظهر أمي المنحني أمام تلال ملابسنا. لم يمنعها الإنهاك من مناجاة أبي في غربته على صدى صوت أم كلثوم «واحشني وأنت قصاد عيني، وشاغلني وأنت بعيد»، تقطعه ولولتها لفراق أبدي لأحبائها على صوت عبد الباسط عبد الصمد، فأحاول صم أذني بوسادتي لأمنع وصول التلاوة ونحيبها إلي.
أحاول أن أعيد ترتيب ذاكرتي؛ أن أحمل عصاي السحرية، كهذا الطبيب الذي يمسك بمشرطه ويعبث برأسي. أتذكر ماجدة الرومي وهي تتوسل لطبيب حبيبها أن يرفق بالأسماء عندما يدخل قلبه، للأسف لم تخبرنا؛ هل استمع الأطباء لنداءاتها أم فتنتهم أدواتهم الطبية المعقمة جيدا، فأجادوا تنظيف قلبه من حكايتهما، كما يجيدون تنظيف وجوههم من التعبيرات والعواطف؟
أنا سأكون أكثر دهاء، سأكون مثل تلك المعتوهة التي رأيتها يوما بأحد المسلسلات الأجنبية، تعرضت لحادث شوه وجهها، وحينما واتتها الفرصة لإجراء عملية تجميل اختارت وجها خاليا من العيوب، تخلت عن أنفها المفلطح، وجبينها العريض، وجعلت شفتيها أكثر اكتنازا كما فرضت آخر صرعات الموضة.
سأمارس بعض ألعابي السحرية، كالتي مارستها قديما مع جارتي التي تصغرني بأعوام عدة، فجعلتها تصدق حكاياتي عن الجن ومحادثة الحيوانات، والقطة التي تصير عفريتا في المساء. سأجعلهم يزيحون سطورا من ذاكرتي، ويعيدون ترتيب صفحات أخرى، وسأجمع كل وسائل الإعلام وأعلن في «السوشيال ميديا» عن مؤتمر صحافي مهم، سيحملون وهم راحلون رسما لمخي يضم ذكريات على مقاس أحلامي وشغبي.
سأوصيهم بحفظ لحظات سعادتي، ونقلها من فصه الأيمن إلى الأيسر؛ لعله يكف عن عطله، ولتبقى الروائح أطول مدة ممكنة عالقة بين شعيرات أنفي.
سأتحمل في إصداري الجديد غضب أمي وخوفها، ولن أتمرد على تكرار نصائحها التي لا تنتهي، لكنني لن أسمح لمعلمتي بالعبث في مخيلتي، ولن أكون رقيبة على الفصل. سأمحو كل الأسماء التي كتبتها على السبورة، كأول فخ لي في كتابة التقارير، وسأخبئ ألاعيبهن في رأسي لأعبث بها في أوقات فراغي التي ستلون صفحات كاملة بالأبيض.
سأكف عن أسئلتي حول «علي بابا والأربعين حرامي» ومدى شرعية ما قام به، ولن أتضامن بعد اليوم مع الأميرة وانتظارها الطويل والبائس لأميرها، ولن ألتمس العذر للفأر جيري على قاعدة أنه الأضعف؛ فالدهاء لا يعرف وزنا أو حجما.
لن أكون مهذبة جدا ومؤدبة جدا وهادئة جدا كما كانت معلماتي ووالدتي يفخرن بي، سأعيد تعريف التهذيب وأنقل إلى قاموسه بعض الشغب.
سأتمرد على مناهجي الدراسية، ولن أشي بزميلاتي اللواتي اختلسن لحظات في الحمامات يحتسين ممنوعاتهن من أجل لذة رائقة، سأشاركهن تلك المرة في سبيل تدوين لحظات انتشائي، ثم ألصق لعناتها بإحدى بطلاتي، ثم أعاقبها في نهاية القصة.
سأعلن الأحكام العرفية على كل الصور الفوتوغرافية، سأضع خلفية صفحتي على «الفيس بوك» مجرد شجرة تشبه أشجار عيد الميلاد، وسأترك لعشاقي حرية تعليق أشيائهم الثمينة بين فروعي، وسأحتفظ بها دون فضها أو معرفة أسمائهم.
يقطع خططي أزيز حاد، يعبث بشريط أفكاري، يقدم لحنا ويؤخر آخر، ثم يعود فيمحوه بكبسة واحدة بلا مبالاة. الأزيز يزداد قوة، وأنا أحاول التمسك بألحاني وروائحي، يزداد الصوت الذي يصك أسناني، وينتفض شعر جسدي.
يطغى الطنين كممحاة تفسح للأبيض مساحة شاسعة يتربع بها على عرش عقلي، حتى يبتعد اللحن سريعا حاملا معه كل الروائح القديمة، وتفشل خططي المشاغبة.
في مؤتمرهم الصحافي، يتباهى أطبائي بشفائي من ورم مخي إضافة إلى منحي ذاكرة نظيفة، ومن بعيد يرقبني حبيب ماجدة الرومي حاملا قلبا جديدا زرعوه خاليا من الأسماء والأحباب.
بنت بأحلام نفاذة
هل كان خطأها أنها حملت قدرا كبيرا من اسمها؛ فكانت كلما سارت تركت عطرها خلفها يشي بجريمتها الكبرى؟
هي طفلة لم تعرف حدودا لابتساماتها. نبتت على حدود براءتها فروع تسلقتها خارج النص المقرر لمنهاجها الحياتي. ذهبت يوما لأمها، ووشت في أذنها أن تبعثر ضفائرها، أسوة بنساء تراهن في أحلامها، على أجسادهن ترقد أوشمة الجمال، وفي قلوبهن أرصدة عشق تكفي عشرات الروايات، بين ثنايا شعورهن يتدلى العشاق والتائهون في مرساهن.
تحت وطأة ابتزاز ابتساماتها وإلحاحها خضعت أمها، وأطلقت عنان خصلاتها. لم تكن تعرف أنه ستبنت لها على ضفاف ضفائرها أجنحة ستحملها إلى أحلام رحبة بعدد خصلاتها المتحررة.
الطفلة حلمت بقصص الحب وخطاباتها. بعثرتها بين عينيها، وغرست على وجوه أحبائها قلوبا أزهرت بساتين ربيعية بألوان قوس قزح. شرعت للحب وسائدها، وزينت به مفارشها. كتبت بحروفها المتعرجة أحجية لزميلاتها، فصرن جميعا علامات موسيقية في نوتتها الخاصة، وأودعتها درجها المدرسي.
لم تكن كالأميرة التي اكتفت بالجلوس بين جدران قلعتها تندب حظها، وتمشط خصلاتها الذهبية، ولكنها اعتادت أن تتراقص بخصلاتها المتبعثرة، ورائحتها تشدو خلفها، فأثارت غيرة أهالي المدينة الذين اعتادوا قياس طول شعرها ولهوها بمقياس حقدهم.
أرادوا هبة من جمالها وعطرها، فصارت كلما قبلت قدماها حيا امتدت الأيادي إلى خصلاتها المتساقطة من فرط ما حملت من عشاقها، وحبسوا بين كفوفهم ومجساتهم الشمية شيئا من رائحتها.
جربوا فيها خلطات وأعمالا سحرية؛ علهم ينالون جزءا من سحرها ، أو حتى لتعلق روائحها بأجسادهم، ولكنها خابت جميعها، وما نالوا سوى زيادة أعداد مريديها الذين أثملتهم رائحتها، فتبعوها لتأخذ قلوبهم وتلونها وتطعم بها إحدى قصصها.
يوما سقطت بين يدي معلمتها إحدى أحلامها المدونة. تتبعت بصمات روائحها، فدلتها على درج مكتبها المدرسي، وما إن فتحته حتى طاردت كل عشاقها، وقيدتهم بجدول الضرب، وحاولت أن تلقنهم التعليمات المدرسية.
أمسكت المعلمة بضفائرها، وخنقتها بشرائطها، ومشطت ألوانها ورائحتها، فصارت كتلك الشجرة التي أفقدوها تيجانها لدواعي التشذيب، فوقفت تداري سوءاتها عاجزة.
اجتمع الأهل وأولياء الأمور. اتهموها بالفجور، واعتبروها تشجع أطفالهم على الإثم. حملوا رائحتها التي التصقت بقلوب أبنائهم كدليل إدانة، وطالبوا بتطهير المدرسة والمدينة من خيالاتها.
كان عليها أن تختار عقوبتها بنفسها، وكان هذا جزءا من العقاب، فأعادت ضفائرها إلى محبسها، وتركت جسدها يلهث تحت سياط الشمس حتى تتخلص من رائحته.
اسم معرف
تدخل أمي غرفتي، تتأملني وأنا أختال أمام مرآتي كزهرة عباد شمس، أزهو بقميص نومي الجديد الذي أهدتنيه قريبة لي عائدة من الخارج في إجازتها الصيفية.
تستطلع أمي ردائي ذا الحمالتين بتحفز؛ حيث يتلصص على حوافه برعمان أبيضان، كطفلين حديثي الولادة يستكشفان عالمهما. تقطب أمي جبينها وهي تأمرني بخلع الرداء. تخبطني بطرف كفها علي نهدي بضربة خفيفة، وتغمز لي قائلة: «في البيت صبيان!» تتركني، وتغلق باب غرفتي خلفها.
نعم أمي! أعلم أن لدي خمسة من الإخوة، ولكنك نسيت أن تذكري أن أكبرهم يصغرني بستة أعوام. ما زالت تفاصيل يوم مجيئه محفورة في رأسي كنقش.
البيت تحول لما يشبه غرفة توليد الكهرباء، شحنات زائدة متطايرة في أرجاء المكان، والجميع مضطرب، صرخات أمي المتواصلة، وتحركات أبي وأنفاسه المتقاطعة بطول الصالة وعرضها، وجدتي التي تخرج كل حين لتطمئنه، وأنا أعلم ماذا يحدث، وإن كنت لا أستوعب لماذا منعوني من الدخول لرؤية أمي.
صراخ آخر ليس كصراخ أمي، ليس كصراخ استغاثاتها، بل إنه يشبه طرق أبواب الحياة، شرع له كل من في البيت كفوفهم مرحبين، استقبلوه بزغاريد، وأبي أسرع إلى غرفته، ففتح علبته الفضية المخبأة بين طيات بذلته، وأخرج مسدسه، وحرر من سطح منزلنا طلقاته الست التي رجت الحي كله، وهو يتلقى التهاني والمباركات، رغم تسببها في هروب أسراب الحمام أياما عدة.
أستغرب جدا أن الجميع أصبحوا يكنون أمي بأخي الذي يصغرني ببضع سنوات. في البداية، ظننت ذلك من بواعث فرحة والدي، بعد محاولات مضنية لإصلاح عطب لحق برحم أمي أثناء ولادتي، وحينما استمر الوضع فسرته تكفيرا عن ذنبي؛ باعتباري السبب في تأخر الحمل، فتقبلت العقاب كندبة، فيما حمله والدي كوسام زرعه على صدره.
لم يكتف والدي بذكر واحد، وأراد تأكيد رجولته، فأجبر أمي على المضي قدما، حتى أصبحنا نصف دستة؛ خمسة ذكور وأنا. كانت أمي كلما شكت كثرة الأبناء وطلباتهم لكزها أبي، وذكرها بوالدها الذي ظل طوال عمره عالقا باسم ابنه الذي مات طفلا في حادث، ورغم بناته الأربع حمل جدتي مسئولية قطع نسبه في الدنيا، فهجرها وهي على ذمته ثلاثين عاما.
كان أبي كثيرا ما يتفاخر بنا ككتيبته الخاصة، يدخلنا في صف على ضيوفه وأقاربه من بلدته الذين يزوروننا كل بضعة أعوام، وكانت أمي تنهره دائما بقولها: «داري على شمعتك تقيد، عندك 5 صبيان وفيه ناس نفسها في ظفر واحد!»
في البداية، كنت أقود كتيبة أبي. يستجوبني الأقارب على طريقتهم الصعيدية: «إنت بنت مين؟» فأسرد نسب أبي الذي حرص على تلقينه لي، فيما يتباهى أبي بي، ثم أنسحب سريعا حسب تعليمات أمي: «البنات لا يجالسن الكبار.»
بعد حين، تقهقر وجودي ضمن كتيبة أبي، ولم ينشغل والداي كثيرا ما دام إخوتي الصبية يقومون بالواجب، وحينما يسأل أحد الضيوف عني لا أدخل إلا معلقة بطرف رداء أمي، وسط ثناء الحضور لخجلي البكر.
كانت مشاحنات جدي وجدتي تنغص علينا حياتنا كمتوالية يومية، كانت تجرحني اتهاماته لها كطلقات نارية. وفي يوم، أيقظنا طرقه الحاد على بابنا ملوحا بدليله لإدانتها؛ ورقة مرسومة بها خطوط عجيبة، فسرها أحد المشعوذين بأنها «عمل سحري» نفذته جدتي لتفشل محاولاته للزواج وإنجاب ذكر يحمل اسمه من بعده.
ما زال وجه جدتي على فراش موتها حاضرا نديا في ذهني، وهي تناجي ولدها البكر، وتعتب عليه لطول الغياب و«بهدلتها» من بعده. رسمت قبلة لجدي، ثم شحب وجهها قبل أن يتلقاها.
كبرت ورسمت لي صفا، جعلتني الأولى والوحيدة به. كنت الأولى في صفوفي الدراسية، والوحيدة ذات الطبائع الغرائبية التي كانت محضرا لسخرية إخوتي، كذلك اليوم الذي حضر فيه قريب لأبي، فحاول استجوابي كالعادة، ولكنه فوجئ بتمسكي باسمي منفردا، وحينما نهرني والدي أخبرته بعنجهية أنني «لا أعرف بغيري»!
صرخاتي اليوم تذكرني بصرخات أمي. أشد على أصابعها، مصرة على ألا يدخل أبي وإخوتي؛ لئلا يطلعوا على ضعفي. وحينما يتردد في الغرفة صريخ خافت، أحتضن طفلتي. يسألني الطبيب عن اسمها ليدونه في بطاقتها الملفوفة حول معصمها، فأخبره باسمها معرفا باسمي، وليس باسم والدها وسط ضحكة عاتبة من والدتي.
نظام غذائي، رجل منزوع الدسم
أفضلك كشطيرة كبرى، أقضمها علي مهل حسب تعليمات طبيبي النفسي، يعجبني كثيرا هذا الطبيب؛ فهو لا يمنعني من أطعمتي المفضلة خاصة مع إغراءاتها اللحوحة، هو فقط ينصحني بالتهامها بترو، حتى تسأمني معدتي وتتركني لحالي.
يقول لي إن «الطعام دواء»، وأنا آكل حينما أمل، وحينما أكتئب، وحينما أحزن، وفي أوقات فراغي، وحين تلاحقني نظراتك اللائمة وهي تراقب ازدياد محيط خصري، أو تعليقاتك على طبقات الدهون المتراكمة على فخذي وأنا أريك قميص نومي الجديد.
لا أضع كثيرا من الملح؛ حتى لا أضطر لشرب جرعات متتالية من الماء؛ الماء يذكرني بك حينما كنت ألجأ إليك وأخبرك باكتئابي، فتجيبني وأنت تعد قهوتك الصباحية: تناولي كوبا من الماء. ثم تبتسم في سخرية وتتركني حتى لا يبرد فنجانك.
حتى الآن لا أجيد صنع شطائري، أو بالأدق أفضلها جاهزة مثلها مثل الخيبات التي يأتينا بها الأحباء ويجيدون صنعها، رائحتها تكون دائما نفاذة، وتأتيني في أغلفة متأنقة تليق بوجه الموديل في الإعلان التليفزيوني، يغريني بابتسامته ولسانه المتدلي في إغراء وهو يلتهم شطيرته التي يعلن عنها.
تبا لهذا المعلن الذي جعل حواسي ترتعد كلما لامست هذا الساندويتش وكأنني تحت تأثير قبلة من هذا الوسيم ذي الملامح اللاتينية .
أصبحت بالنسبة إلي كشطيرة اللحم الدسمة، معظمها دهون لا تصلح للحميات الغذائية، وتخفي رداءة اللحم، ومن الأفضل ألا نتناولها مساء، وأنت لا تظهر إلا مساء، تأتيني بعطرك الذي خرج للتو من مدخنة مطعم للوجبات السريعة، وسرعان ما سيتلاشى مذاقه من روحي فلا يترك أثرا إلا تلبكا معويا حادا. سأتناول معك المرة القادمة شطيرة بدون مايونيز، يكفيني حديثك اللزج.
طبيبي تلك المرة حاد جدا في حديثه، ينذرني ملوحا بتقارير طبية، وأشعة لا أجيد قراءة رموزها، تؤشر لتراكم السكريات والدهون، ينصحني بتناول كمية كبيرة من السلطة بديلا عن الأطعمة الدسمة، هل تكفي تلك المحادثات الأثيرية التي تأتيني عبر لغات ووجوه مختلفة حول العالم لتهدئة معدتي؟
أشعر الآن أنني أفضل حالا، امتنعت مؤقتا عن شطائر اللحم، واستبدلتها بشطيرة محشوة بطبقات من الخس، تحتضن أصابع الجبن المقلي التي تعيد إلي وجهك حينما أخبرنا النادل عن «الجبن المقلي» للمرة الأولى، قلت إنك لا تحب المفاجآت. هل كانت مفاجأة حينما أخبرتك أن خاتمك الماسي محشو بشطيرة النقانق التي يتناولها هرك المدلل؟
واجهة زجاجية
حينما سمعت صوته الجهوري للمرة الأولى نافذا بنبرته الحادة من نافذة شقتنا التي تقبع بالدور التاسع، أسكن في قلبي فزعا، أكدته تلك الملامح الجادة، وأوامره الصارمة لأصحاب السيارات، غير عابئ بعلاماتها التجارية الفاخرة أو بمناصب أصحابها.
تملكت جسدي قشعريرة كلما مررت بمقعده القريب من جراج مسكننا، جعلتني أتجنب التعامل معه، وترك مهمة الاحتكاك به للسائق الخاص.
زالت تلك الرجفة تدريجيا مع حكايات جارتنا التي أكدت طيبته، وأن «عم رشاد»، الصعيدي الذي عرفه الحي وعايشه سنوات طوالا كحلها بنشاطه، هو رمانة الميزان للشارع، بدونه سيختل ناموسه، وسيترك نهبا لرغبات ساكنيه بحسب مناصبهم وسطوتهم.
تسرد جارتنا، التي عاشت سنواتها العشر الأخيرة بهذا الشارع، أن «عم رشاد» يبدأ عمله منذ السادسة صباحا صيفا، وقبلها بقليل خلال فترة المدارس، ينظف واجهات السيارات، وينظم دخولها وخروجها في شارعنا الذي ضاق بالسيارات المركونة على صفيه.
بإشارة واحدة يمنع أو يسمح بمرور الحافلات المدرسية، ويرتب أولويات الدخول. يعطي تنبيهاته للسكان ولسائقي الحافلات، ويحدد مدة الانتظار، وهو على المدخل الأمامي للشارع، بالتنسيق مع ابنه المنتظر لأوامره على المدخل الآخر.
حكايات جارتي شجعتني على إلقاء التحية الصباحية عليه للمرة الأولى. استقبلها بابتسامة عريضة، ثم ردها بمبادرة منه في اليوم التالي.
حينما ينتهي من مهمته الصباحية ينتظر على مقعده لا يبرحه، وعلى يمينه فوطته المبللة؛ أداته التي لا تفارقه. يتابع ببصره هياكل السيارات ووجوهها الزجاجية. يختبر بنظرته المواربة مدى إتقان عمله، فيسعد بنتيجة براقة.
علاقة خفية تربط «عم رشاد» بالسيارات، وخاصة بواجهاتها الزجاجية. يراها أكثر نقاء وشفافية من البشر، لا تستطيع أن تخفي عيوبا أو خدوشا أو «نفاقا». تذكره بنقاء صفحة النيل في قريته بالصعيد قبل نزوحه المديني، وبجلوسه طفلا ومراهقا على ضفته يتابع ملامحه، ويسرد له أسراره وأحلامه التي تشبهه في بساطته.
كان «عم رشاد» كثير الشكوى من المتسولين الذين يحملون القطع القماشية بأنواعها كافة، ويشرعون في تشويه واجهات السيارات، عوضا عن تنظيفها، أثناء وقوفها الاضطراري في إشارات المرور وساعات الازدحام، فمنع دخولهم شارعنا.
كان ما بينه وبين البشر يشبه تلك الواجهة الزجاجية، فمن فوق كرسيه تابع الوجوه وهي تتغير كما تتغير أبعادها بحسب قربها أو بعدها عن المرايا، كالمسئول الحكومي بوجهه المنتفخ غرورا من خلف نظارته الشمسية التي تلازمه كملامح وجهه؛ والطالبة الجامعية الممتعضة دائما لأتفه الأسباب، مثل حفر الطين المتخلفة في يوم ماطر؛ وهذا الجار الذي تتضاءل ملامحه نفاقا أثناء تحيته للمسئول وانحناءته المبالغ فيها؛ وبعض الوجوه الأخرى التي لا تستحق سوى غلق الزجاج لمحو صورتها من الذاكرة.
لم يخضع يوما لتلك الواجهات المزيفة، فتجاهل تحية أحد أبناء وزير سابق، حينما تحدث إليه بطرف عينه، وبإشارات مغرورة، فتركت سيارته طويلا تبحث عن مأوى، حتى اضطر إلى الاعتذار، وطلب توفير موقف لها وتنظيفها، بكلمات ملحة أقرب للرجاء.
كالزجاج الأصلي، صمد «عم رشاد» طويلا أمام العواصف الحياتية وألاعيب البشر، وزحفت شيخوخته كما تزحف الخدوش على الواجهات بفعل الزمن. أصيبت روحه بخيبات عدة: ابنه البكر الذي قبض عليه لأنه رفض إهانة أحد الضباط ، فحوكم عسكريا بالسجن ثلاث سنوات؛ وزوجته التي مرضت، ثم ماتت وهي على قائمة انتظار العلاج؛ وابنه الأصغر الذي حصل على شهادة متوسطة، وأضاع سنوات طرقا على أبواب العمل، حتى اضطر للعمل معه أخيرا.
استحالت الخدوش كسرا في أحد النهارات، حينما كان يساعد في دفع سيارة معطلة، فسقط «عم رشاد»، وأصيب بكسر في إحدى ساقيه، واحتاج إلى دعامة جديدة.
مكث «عم رشاد» في المستشفى العام، وأجريت له العملية، ورغم بساطتها لم تظهر آثار التداوي، وأضيفت إليه قرحة الفراش؛ نتيجة لإهمال عاث في جسده طيشا. وببطء، وعلى مدى 45 يوما، امتدت آثار الكسر إلى روح «عم رشاد» وجسده، حتى صارت صدعا هائلا لا ينفعه لحام أو دعامات.
كرسي «عم رشاد» أصبح اليوم خاليا، وفوطته تواسيه، تستلقي جافة على طرف مسنده، فيما تنتظره السيارات التي أحالت شارعنا إشارة مرور معطلة، فيما أقف أنا خلف نافذتي أسترق السمع لعله يصلني صوته الحاد.
অজানা পৃষ্ঠা