ব্ল্যাক হোলের বছরগুলি

হুসাইন মিহরান d. 1450 AH
38

ব্ল্যাক হোলের বছরগুলি

سنوات الثقب الأسود

জনগুলি

يجول ببصره متطلعا إلى ركاب القطار متأملا تلك التشكيلة العجيبة من الأعراق والأجناس والثقافات، إن كان لهذه البلاد ميزة واحدة فهي هذا التنوع، أدهشته فكرة أن كل هؤلاء البشر على اختلاف ظروفهم ومرجعياتهم في بلدانهم الأصلية، اختاروا نفس الطريق وأتوا إلى هنا من كافة بقاع الأرض ليجمعهم قطار ضواحي تورونتو، لا يعرف إذا ما كان هو قد اختار الطريق الصحيح، أم أن حياته كانت لتصبح أقل بؤسا لو أنه اختار طريقا آخر، يفهم تماما بالطبع أن لا معنى لكل تلك الترهات؛ فلا يمكن لأحد إعادة الزمن إلى الوراء ليصلح ما أفسده، أو ليسلك طريقا مختلفا، بل إنه لا يضمن أن ما يظنه الآن الخيار الأفضل كان سيحقق له السعادة أو يقوده إلى مكان أفضل بالفعل، جميع الناس بؤساء بشكل أو بآخر، يمكن لشخص في عمره أن يدرك ذلك بسهولة، لا أحد سعيد تماما، ولا يوجد طريق مضمون إلى السعادة، لا يوجد طريق مضمون لأي شيء في الحقيقة، فكل طريق خاضع لتقلبات الحياة. إن الطريق الذي اختاره والقرارات التي اتخذها على مدار عمره والتجارب التي مر بها كل ذلك يجعله من هو عليه الآن، بكل محاسنه ومساوئه، بكل ميزاته وعيوبه، ولا يمكن فعل شيء لتغيير ذلك الآن. هذا هو ما قاده إليه مشوار عمره، وهذا هو ما انتهى إليه - حتى الآن على الأقل - بعد تلك الرحلة المجهدة بين ربوع العالم، من الصحاري العربية إلى الأصقاع الكندية، ما بين حرارة متطرفة وبرودة متطرفة، وكأنه ليس مقدرا له الاعتدال قط، بعد ذلك التجوال بين مدن متباينة الملامح والنكهات، حتى إنه فكر ذات يوم أن يضع في سيرته الذاتية تحت بند المهارات الشخصية أنه - بجانب قدرته على العمل تحت الضغوط وضمن فريق عمل - يحفظ عن ظهر قلب كل شارع في تورونتو ودبي والشارقة وجدة، كما أنه يمكنه كذلك التجول في مدن مثل الرياض ومكة وأبو ظبي والقاهرة وأوتاوا وديترويت، دون الحاجة لتشغيل نظام تحديد المواقع الجغرافية، ما بين «لك حبي وفؤادي» مرورا ب «سارعي للمجد والعلياء» و«عاش اتحاد إماراتنا» يتوقف به قطار الرحلة هذه المرة عند محطة

God Save The Queen ، ولا يدري بعد إن كانت تلك هي محطته الأخيرة، أم أنه لم يزل للقطار رأي آخر. •••

أخرج هاتفه مرة أخرى من جيب المعطف، فتح ألبوم الصور وأخذ يقلب فيه عائدا إلى الخلف، كان يحتفظ بألبومات صوره كلها على موقع لتخزين الملفات؛ حتى يمكنه الوصول إليها من أي مكان، وكان قد حول كل صوره منذ أن غادر مصر - حتى تلك التي ترجع لفترة ما قبل التصوير الرقمي - إلى أرشيف إلكتروني كبير مقسم حسب المدينة والتاريخ. طالعته من الألبوم صور شخوص متفرقة قابلها وتعامل معها في مراحل متفرقة من حياته، لا يعرف لماذا برزت له تلك الشخوص بالتحديد، رغم أنه لا رابط يستطيع إدراكه يجمع تلك التشكيلة غير المتجانسة من البشر.

توقف عند صورة تحمل تاريخ يناير 2007م، وتجمعه هو وابنته الكبرى أمام سيارته الأمريكية الكبيرة مع محمد إرشاد، حارس البناية الصغيرة الهادئة التي سكن إحدى شققها لبضع سنوات، كان شخصا طيبا وودودا إلى حد لم يسبق أن رأى له مثيلا، لم يره قط إلا مبتسما، كان شابا مثابرا في عمله لا يكف قط عن التنظيف، ينتهي من غسل سيارات السكان في الصباح الباكر قبل أن يغادر أصحابها إلى أعمالهم، فيبدأ في تنظيف أرضيات الأدوار والمصاعد بالسائل المعقم قبل أن يبدأ في تلميع الحوائط الرخامية للمدخل، ثم ينتهي من ذلك كله ليبدأ في رعاية نبتات الطماطم والنعناع التي كان يزرعها في حوضين رخاميين صغيرين على جانبي مدخل البناية، ليقطف ما ينضج منها ويهديه لطفلة من سكان البناية عائدة في حافلة مدرستها فيرى السعادة في وجهها، لم يكن محمد إرشاد يطلب المال أبدا، لم يكن حتى يطالب بما استحق له من أجر نظير غسل سيارات السكان، إذا أنست ضغوط الحياة أحد السكان أن يدفع له المبلغ الشهري المتفق عليه - والذي لم يكن يفصح عن قدره عند الاتفاق إلا بعد إلحاح شديد - فإنه يظل يغسل السيارة دون أن يلمح إلى شيء، فقط عندما يطول الأمد يتوقف عن غسل السيارة لعدة أيام؛ فإما أن يتنبه صاحبها ويعطيه ماله فيعود لغسلها، أو ينتهي الأمر فحسب. اعتاد ياسين أن يعطيه ثمن ما يشتريه له من أغراض في الحال؛ لأنه عرف بتكرار التجربة أنه إذا نسي دفع ما عليه فلن يذكره محمد إرشاد بذلك، وربما ينسى هو الآخر، ويصبح إقناعه بأنه يدين له ببعض المال مهمة صعبة.

لم يكن محمد إرشاد يعرف شيئا عن المدينة الحديثة الواسعة التي يعيش فيها، حتى في تلك الدقائق التي تنشغل فيها المدينة بأكملها بمتابعة الألعاب النارية التي تنطلق من البرج الشاهق الشهير، لتلون سماء المدينة ليلة رأس السنة، كان محمد إرشاد يغط في نوم عميق ليستيقظ مع أذان الفجر ويمارس طقوس عمله المقدسة، لم يكن محمد إرشاد يعرف حتى أبعد من حدود الحي الصغير الهادئ الذي تقع به البناية؛ لسبب بسيط ومؤلم في آن واحد هو أنه لم يكن يحصل على إجازات قط، لم يغب عن البناية يوما واحدا منذ سكنها ياسين وحتى غادرها إلى بناية أخرى، حتى إن ياسين سأله يوما من باب الفضول عن بلاده وأهله، ولماذا لا يذهب لزيارتهم قط، فأجابه - بطريقة نطقه التي يجد ياسين صعوبة شديدة في فهمها بقدر ما يجده محمد إرشاد نفسه من صعوبة في جمع ما يعرف من كلمات عربية قليلة ومفردات إنجليزية أقل - بأنه كان في إجازة قبل عامين، وأنه ينوي السفر إلى بنجلاديش مرة أخرى بعد عام ليرى ابنته الوحيدة التي كانت قد بلغت حينئذ عامها الخامس. إن تذكرة الطائرة أغلى من أن يتحمل كلفتها كل عام أو كل عامين؛ فكان يجعل إجازته لذلك كل ثلاثة أعوام؛ ليوفر من راتبه الضئيل الذي يكفي بالكاد لتغطية نفقات معيشته في هذه المدينة ذات تكلفة المعيشة المرتفعة، قدرا من الدراهم يصلح لإرساله إلى عائلته مرة كل ثلاثة أشهر. كان محمد إرشاد يحكي تلك المأساة المؤلمة بثغر باسم وكأنه يلقي دعابة، كان راضيا بدرجة تثير العجب، كانت ابتسامات أطفال البناية - الذين أحبوه جميعهم - له في ذهابهم ومجيئهم تمنحه سعادة تظهر جلية على وجهه البشوش الذي لا يعرف التلون أو الزيف.

لم يحزن ياسين لشيء وهو يغادر تلك البناية إلى أخرى أقل إيجارا بنفس الحي كحزنه على فراق محمد إرشاد، وظل لشهور تالية يمر به في طريقه إلى صلاة الجمعة في مسجد الحي الكبير؛ ليقله معه في السيارة بدلا من السير تحت الشمس الحارقة، حتى غادر محمد إرشاد إلى بلاده لقضاء إجازته تلك التي تأخرت كثيرا، لكن محمد إرشاد لم يعد حتى غادر ياسين نفسه تلك المدينة. •••

قلب في ألبومات الصور مرة أخرى حتى توقف عند صورة بتاريخ أغسطس 2013م تجمعه مع مارسيل؛ صديقه السري في العالم الجديد، حيث الصقيع، والمساحات الشاسعة، والبنايات الشاهقة، والأجناس المتشابكة، حيث كانا يتسليان معا بإحصاء ما يسمعانه من لغات يتحدث بها المارة أمام كشك الصحف الذي كان يعمل به مارسيل. كان مارسيل خبيرا بتمييز اللغات بالفطرة، رغم أنه لا يتحدث ولا يفهم فعليا إلا بعض الفرنسية التي أتى بها من وطنه الأول ، وبعض الإنجليزية التي تعلمها في هذه البلاد، والكثير من الرطانة القبلية الأفريقية التي تشربها مع حليب أمه، وسط متاهات تجمع سكني عشوائي مشيد من ألواح الصفيح والخشب، على تخوم مدينة كاميرونية فقيرة قرب نهر الساناجا الذي كان يحمل لهم من الأوحال والأوبئة أكثر مما يحمله من ماء، لكن سنوات تعامل مارسيل مع مختلف الأعراق والثقافات عبر ذلك الكشك القائم على الرصيف العريض لشارع تجاري كبير يعج بالحياة في وسط تورونتو، كانت قد صقلت موهبته المذهلة في تمييز اللغات من إيقاعها وموسيقاها، ومن وجوه متحديثها ومن مفرداتها الشائعة، بل ومن شتائمها الدارجة كذلك، حتى صار يمكنه تمييز ما يبدو للغالبية كلغة واحدة كالصينية والكورية أو كالروسية والبلغارية.

أتى مارسيل إلى كندا للمرة الأولى قبل ثمان سنوات مع فريق كرة السلة المحلي، الذي انضم له في مدينته الصغيرة مستفيدا من تكوينه الجسماني الفارع، ومن أجل كسب القليل من المال لإعانة أسرته، كان النادي الصغير قد حصل على منحة ضمن برنامج تدريبي تموله الحكومة الكندية لمساعدة المواهب في الدول الأفريقية على الاحتكاك بالأندية الكندية والتدرب لبعض الوقت في بيئة احترافية، كان مارسيل قد اتفق مع ثلاثة من زملائه في الفريق على الفرار من معسكر الفريق في آخر ليلة لهم في كندا؛ حتى لا يجد المسئولون عن البعثة الوقت الكافي للبحث عنهم، فقد كانوا واثقين من أن بعثة الفريق ستغادر في موعدها دون أن تنتظرهم، فليس من الحكمة على أي حال أن تضيع قيمة تذاكر الطيران لعشرين شخصا - والتي تعادل قيمة ميزانية النادي بالكامل في ستة أعوام - من أجل البحث عن أربعة من الحمقى. كانت بالنسبة لهم فرصة ذهبية لن تتكرر، فلم يعرف أي من الأصدقاء الأربعة شخصا من معارفه أو جيرانه أو أي شخص في المدينة الفقيرة كلها استطاع أن يضع قدميه على أرض دولة متقدمة، وكان المؤكد أن أيا منهم لن تتاح له فرصة مماثلة مرة أخرى. وبالفعل نجحت خطتهم البسيطة، غادروا نزل الشباب المتواضع الذي كان محل إقامة البعثة دون أي تصور عما سيفعلونه للبقاء على قيد الحياة في هذه البلاد، استقلوا أول قطار قابلهم إلى آخر محطة فيه ليبتعدوا قدر المستطاع عن البعثة ورئيسها وعن أي شيء له علاقة ببلادهم، لم يكن أي منهم يعرف شيئا عن هذه البلاد أو يتحدث الإنجليزية، بل حتى فرنسيتهم لم تكن متقنة بالقدر الكافي، تخبطوا لفترة ليست بالقصيرة ما بين النوم على الأرصفة وفي أكشاك الهواتف العامة، حتى إن أحدهم يئس وقرر تسليم نفسه إلى قنصلية بلاده ليطلب منها ترحيله إلى وطنه، لكنه علم أن بلاده ليست لها قنصلية في هذه المدينة، وأن السفارات موجودة كلها في العاصمة التي تبعد مسافة خمس ساعات بالقطار، ولا يمكنه حتى تحمل تكلفة الوصول إليها. مارس الأصدقاء الأربعة بعض الأعمال غير المشروعة، وشاركوا لفترة طويلة في مباريات كرة سلة قائمة على المراهنات لكسب بعض المال، حتى تعلموا بالاحتكاك مع حياة الشارع ما يكفي من الإنجليزية للحصول على أعمال صغيرة. كان مارسيل أفضلهم حظا بحصوله على هذا العمل المريح في الكشك، بينما تنقل الثلاثة الآخرون بين العمل كحمالين أو كعمال بناء أو نظافة.

اكتشف ياسين هذا الكنز المسمى مارسيل بالصدفة يوم أن توقف عند الكشك ذات صباح في طريقه إلى مقر عمله، الواقع على بعد تقاطعين ليشتري بعض البسكويت المملح ليفطر به، بعد أن كان قد غادر منزله مسرعا دون إفطار على غير عادته، كان مارسيل آنذاك يتلاسن بغضب مع شابة شقراء تعمل مع ياسين في ذات الشركة، لم يعد ياسين يذكر ما كان يغضب مارسيل من الفتاة، لكنه يذكر جيدا كيف قال له بتأفف بعد أن أقنع ياسين الفتاة بنسيان الأمر والانصراف للحاق بعملها: كلهن عاهرات هؤلاء البولنديات، كن على حذر منهن.

التفت إليه ياسين بحدة وأشار إليه بإصبعه علامة التحذير قائلا: انتبه لألفاظك يا رجل.

অজানা পৃষ্ঠা