هرول على رصيف المحطة الكبيرة ذات المبنى الكلاسيكي الوقور، والخطوط الحديدية الكثيرة والمتقاطعة في شبكة معقدة باحثا عن المخرج، بعدما اجتاز ردهة المدخل المزدحمة بصفوف الواقفين أمام شبابيك التذاكر تلفت حوله ماسحا ببصره محلات الحلويات المقابلة للمحطة على الجانب الآخر من موقف السيارات والشارع المكتظ بسيارات الأجرة، عبر الموقف والشارع بسرعة إلى أحد تلك المحلات التي تتزاحم على واجهاتها لفافات الحلوى التي تشتهر بها المدينة، اشترى لفافات مختلفة من حلوى السمسم والسوداني والمشبك دونما تركيز، ثم سأل البائع ما إذا كان يمكنه إجراء مكالمة للإسكندرية من هاتف المحل، فأجاب الرجل بطريقة ميكانيكية بأن سعر دقيقة المحافظات عشرون قرشا. أمسك بالهاتف وطلب رقم بيتها وظل منتظرا لثوان قليلة مرت عليه كسنين حتى جاءه صوتها، تكلم مباشرة كأنما يطلق دفعات من الرصاص من بندقية آلية: لن أسافر يا فريدة، سأبقى هنا من أجلك، أنا قادم إليك الآن، فقط مسافة الطريق، ساعة ونصف أو ساعتان على الأكثر وسأكون أمام الباب.
ثم ابتسم وهو يتفحص ما اشتراه من الحلوى، وواصل حديثه منتقلا إلى نبرة صوت أكثر هدوءا ومرحا: هل تحبين حلوى السمسم أم السوداني؟
يونيو 2012م
خلف مكتب فخم كلاسيكي الطراز من خشب الأبنوس الداكن المطعم بزخارف دقيقة مشغولة من النحاس، جلس ياسين على كرسي من ذات الطراز ذي ظهر مكسو بالجلد البني الفاخر متصفحا في وجوم ملف الوضع المالي لشركته التي تعمل في مجال النقل بالشاحنات، بين ميناء الإسكندرية والمصانع الكبرى بالمنطقة الصناعية بمدينة برج العرب الجديدة إلى الغرب من الإسكندرية، كان قد أسس هذه الشركة مع شريكين آخرين قبل إحدى عشرة سنة، بعد أن قضى سنواته السابقة في اكتساب الخبرة العملية متنقلا بين وظائف وشركات مختلفة. كانت تلك فكرته وكان قد درسها جيدا واختارها من بين أربعة مشاريع، ظل يفاضل بينها لعدة أشهر معتمدا على ما اكتسبه من خبرات وعلاقات في السوق، لكنه لم يكن يملك رأس المال اللازم لتنفيذها بمفرده. استطاع إقناع اثنين من عملائه بمشاركته، وافق الاثنان دون طول عناء لما سبق لهما من دراية بدقة دراساته وصواب تحليلاته لمتطلبات السوق. تم تأسيس الشركة وبدأت بالعمل على الفور بحسب خطته والدراسات التي وضعها، ظل العمل مزدهرا ومربحا مع تزايد عدد المصانع في المدينة الجديدة وتطور طاقتها الإنتاجية. ينقل بشاحنات مستأجرة مستلزمات الإنتاج المستوردة من الخارج، من رصيف الميناء إلى المصانع المختلفة التي أنشئت في المدينة الجديدة، ثم يعود لنقل المنتجات المعدة للتصدير من المصانع ذاتها إلى رصيف الميناء. مكنه ذلك الازدهار من زيادة رأس مال شركته والاستثمار في شراء المزيد من الأصول؛ فطار إلى الصين في صيف العام 2010م، وعاد بأسطول من الشاحنات الجديدة بسعر جيد، ثم انتقل بمقر الشركة من مكتبها القديم قرب بوابة الميناء بمنطقة رأس التين، إلى شقة كبيرة فاخرة في إحدى البنايات الكلاسيكية ذات الطراز الإيطالي على كورنيش محطة الرمل، حيث تطل شرفة مكتبه على الكورنيش الأثري الممتد حتى قلعة قايتباي التي يمكنه رؤيتها وهو جالس على كرسيه ذي الظهر الجلدي، يرتشف قهوته التي يعدها بنفسه كل صباح من ماكينة فرنسية أنيقة لصنع القهوة تستقر على الطاولة المجاورة لمكتبه.
أنفق ياسين وشريكاه القسط الأكبر من أرباح الشركة التي تجمعت خلال السنوات السابقة على مشروع التطوير الطموح ذلك، والذي كان هو كذلك نتاج أفكاره، منتظرين طفرة كبرى في حجم أعمالهم تبدأ الشركة في جني ثمارها مع انتصاف العام 2011م على أقصى تقدير، بدت كل المؤشرات إيجابية، فقد انخفضت تكلفة التشغيل بنسبة كبيرة بعد الاستغناء عن تأجير الشاحنات وتعويضها بالشاحنات الجديدة المملوكة للشركة، والتي كانت أفضل كذلك في معدلات استهلاك الوقود؛ مما حقق توفيرا مضاعفا في النفقات. كانت التوقعات للشهور القادمة عالية قبل أن يحدث الزلزال، قبل ذلك الحدث الذي غير وجه الحياة في هذا البلد إلى الأبد، فلم يعد أي شيء هنا كما كان عليه قبل يناير 2011م.
توقف العمل تماما، توقفت الحياة كلها لأيام ثم لم تعد بعدها قط، تحول الكورنيش أسفل مكتبه إلى ساحة دائمة للتظاهرات أو الاعتصامات التي لم تنقطع حتى ذلك التاريخ، ولم يكن ثمة ما ينبئ بإمكانية انقطاعها في المستقبل القريب، كان هناك دائما سبب ما للتظاهر، إما تأييدا لاستفتاء ما أو رفضا له، إما دعما لتطبيق الشريعة أو دفاعا عن قيم العلمانية والمواطنة، إما مطالبة بحقوق الشهداء، أو استعجالا لمحاسبة رموز النظام السابق، أو دعوة لمقاطعة دولة أوروبية ما بسبب نشر رسوم كاريكاتيرية، أو طلبا لإنهاء المرحلة الانتقالية، أو دعما لثورات أخرى اندلعت في بلدان مجاورة.
كان ياسين قد فقد اهتمامه بالشأن العام منذ سنوات، لم يعد يشغله سوى إدارة أعماله ورعاية أسرته الصغيرة، استمر على عزوفه حتى عن التصويت في أي مناسبة من تلك السلسلة من الاقتراعات التي لم تنقطع منذ تخلي ذلك الرجل المسن عن السلطة، فيما عدا الانتخابات الرئاسية التي كانت الحدث الوحيد الذي يفهمه ويمكنه اتخاذ قرار بشأنه. يمكنه بالطبع كرجل ناضج متعلم أن يختار الشخص الأنسب لقيادة البلاد من بين عشرة مرشحين، لكنه لن يجعل من نفسه أبدا مجرد رقم يرجح كفة فريق ما على آخر في تلك المناورات السياسية التي تختلف مسمياتها؛ ما بين استفتاءات وانتخابات نقابية ومجلس شعب ومجلس شورى، لكنها تتفق جميعها في أهدافها بتمكين فئة ما - لا يمكنه معرفه دوافعها أو أولوياتها - من مفاصل الدولة. كان هناك دائما ما يجمع تلك الآلاف من البشر إلى تجمهر ما على اختلاف المسميات؛ مسيرة أو مظاهرة أو اعتصام أو حتى احتفال، ولأنه شخص متحفظ بطبعه فلم يكن في أي يوم واحدا من تلك الآلاف، لم يمتلك يوما الدافع الكافي للانضمام إليهم، لكن لسبب ما لا يعلمه؛ وجدت كل تلك الحشود من البشر الدافع الكافي والطاقة اللازمة للمطالبة بحل مشكلات الكون كلها الآن، ولم يجدوا مكانا لفعل ذلك إلا أسفل شرفة مكتبه هو بالذات. صارت المشاجرات بين المعتصمين وبين سائقي سيارات الميكروباص الرافضين لقطع طريق الكورنيش جزءا ثابتا من روتين الحياة اليومية، حاول مناقشة بعض المتجمهرين في أكثر من مناسبة، حاول أن يوضح لهم أنهم يعطلون أعماله ويغلقون أبواب الرزق أمام موظفيه دون أن تكون له أو لأي من موظفيه علاقة بأولئك الذين يهتفون ضدهم، لكنه في كل مرة كان يصطدم بحائط صلب من الغوغائية. اقتنع بعد عدة محاولات بأنه ليس بإمكانه إقناع حشود غاضبة بإعمال المنطق؛ يتغير شيء ما في سلوك البشر حينما يكونون ضمن حشد متحمس أو غاضب، تبرز فيهم حينئذ ثقافة القطيع ويصعب التفاهم مع أي منهم بشكل فردي. أيقن تماما بعدم جدوى الحوار حينما نعته أحد أولئك الغاضبين بالفطرة بأنه من «المواطنين الشرفاء»، وكان للمفارقة ينطق تلك العبارة بتهكم واضح وكأنما يصفه بصفة مهينة؛ ألجمته المفاجأة للحظات فلم يدرك أي الصفتين هنا مقصود بها الإهانة، أهي صفة «الشرفاء»؟ ربما صار الناس يعتبرون ذلك إهانة لسبب ما لا يدركه، أم أن صفة «المواطنين» هي المهينة؟ نعم، لعل كون المرء مواطنا في هذا البلد هو سبة بالفعل.
صارت رحلات شاحناته من الميناء إلى برج العرب عبر محور التعمير أو الطريق الصحراوي ضربا من المغامرة التي تتطلب مرافقة حراس مسلحين لكل شاحنة، والتي ربما تنتهي بمطاردة ومعركة بالأسلحة النارية قد تودي بحياة أحدهم، أو على أقل تقدير تذهب بالشاحنة وما تحمله من بضائع إلى خانة الخسائر، أو خانة الهالك كما يسجلها في برنامجه المحاسبي الدقيق على الكمبيوتر. كانت الفوضى هي القاعدة، الشرطة غائبة عن المشهد بشكل كلي، قوات الجيش تظهر من آن لآخر هنا وهناك، لكنها تترك مواقع التأمين وتنتقل بسرعة لمواجهة الغاضبين أمام مقر جهاز أمن الدولة تارة، وأمام قيادة المنطقة الشمالية العسكرية تارة أخرى.
توقف الكثير من المصانع التي يتعامل معها عن الإنتاج، بعضها بشكل مؤقت لصعوبة الدعم اللوجيستي وتوقف الإمدادات وتردي الوضع الأمني، والبعض الآخر بشكل نهائي لتصفية ملاكه من المستثمرين الأجانب لأعمالهم في مصر بالكامل وخروجهم من السوق، انخفض حجم الواردات والصادرات التي يتم التعامل عليها في الميناء. لم يكن المستقبل القريب مبشرا بالخير، فحتى لو انتهت الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية بسلام وانتهت معها رسميا تلك المرحلة الانتقالية فلا يمكنه توقع الاستقرار، لقد أوصل الناخبون هذه البلاد إلى طريق مسدود بعد أن قرروا التصويت في صناديق الاقتراع بدوافع انتقامية. ألقت بنا الديمقراطية أمام خيارين يقوم كل منهما على فكرة إفناء الآخر؛ فإذا فاز المرشح العسكري السابق؛ فلن يتركه الإسلاميون ليهنأ بيوم واحد من الهدوء؛ خوفا من أن يعيدهم إلى المعتقلات بعد أن كانوا على بعد خطوة واحدة من تحقيق حلم التمكين الذي يعملون لأجله منذ ثمانين عاما، وإذا فاز المرشح الإسلامي فلن يتركه كذلك لا الثوريون ولا القوى التقليدية في هذه الدولة شديدة العمق؛ خوفا من أن يتخلص منهم واحدا تلو الآخر كما فعل نظراؤه في إيران من قبل، كما أن رفاقه في الجماعة سيتحكمون في مصير البلاد ويوجهونها نحو نموذج الدولة الدينية الذي يسعون إليه، وسيجلب ذلك علينا حتما ويلات لا يعلم عواقبها إلا الله.
كانت أعماله تندفع بسرعة جنونية نحو الانهيار، لم تفلح في توقع ذلك السيناريو كل دراسات الجدوى، وكل حسابات الفرص والمخاطر التي درسها بجدية وأنفق عليها الكثير من الوقت والجهد والمال، ومن كان يمكنه توقع سقوط تلك الدولة العتيدة المعقدة بهذا الشكل المفاجئ؟ موظفوه الآن جالسون في بيوتهم، يتقاضون رواتبهم الشهرية دون القيام بأي عمل، شاحناته الجديدة التي أنفق عليها كل ما ربح من مال مصطفة بجوار بعضها البعض في مخزن بعيد عن العمران على الطريق الدائري، تحت حراسة مشددة من بلطجية مسلحين استأجرهم لحمايتها من احتمال سرقتها من قبل بلطجية مسلحين آخرين، رغم أنه لا يملك أي ثقة في أن من استأجرهم لحراستها لن يستولوا عليها لأنفسهم، إنهم في النهاية مجرمون على أي حال، ولكن أي خيار كان قد بقي لديه غير ذلك؟ فبدلا من أن تكون تلك الشاحنات الآن على الطريق تعمل وتدر عليه المال ليغطي ما أنفقه على شرائها، إذا به يضع رأس ماله وأصول شركته تحت تصرف مجرمين يحملون السلاح.
অজানা পৃষ্ঠা