على الأريكة الكبيرة في غرفة المعيشة بمنزله كان ياسين مستلقيا أمام التليفزيون. شقة أسرته قديمة، تقع في الطابق الأرضي من بناية كلاسيكية الطراز تعود للنصف الأول من القرن العشرين، وتتكون من أربعة طوابق، وتقع في شارع هادئ من حي بولكلي، تظلله الأشجار المورقة التي تبرز جذوعها العتيقة من خلف الأسوار الحديدية المحيطة بالفيلات والبنايات العائدة إلى الفترة ذاتها، متعامد على شارع الترام حيث يبدأ، وممتد في اتجاه البحر حيث يتصاعد، ثم ينحدر بميل كبير مفضيا إلى شاطئ ستانلي. هي كذلك من شقق قانون الإيجارات القديم. كانت شرفتها الكبيرة تطل على حديقة داخلية مهملة تنتصب في وسطها شجرة ضخمة الجذع، تظلل فروعها وأوراقها كامل مساحة الحديقة، وتتساقط منها بين حين وآخر ثمار كروية في حجم حبة الحمص لكنها ذات لون داكن ومذاق لاذع، وتطل على طرفها الآخر فيلا صغيرة وقديمة من طابق واحد تسكنها سيدة متقدمة في العمر لدرجة مذهلة، لا يتذكرها إلا وهي عجوز، حتى عندما كانت تنهره بلكنتها الأجنبية أيام كان طفلا يلهو أمام بابها ويعبث بنباتاتها الصغيرة ذات الروائح العطرية؛ كانت كذلك عجوزا، يناديها الجميع مدام كوستا. يقول له صاحب كشك البقالة الصغير المستند إلى سور الفيلا الواقعة على الجانب الآخر من الشارع إنها يونانية، وإن زوجها كان صيدليا تحولت صيدليته بعد وفاته منذ سنوات طويلة إلى محل الخياطة الرجالي الذي يقع على ناصية الشارع. بينما يجزم البعض الآخر من قدامى سكان الشارع أنها إيطالية لأن زوجها كان يتحدث الإيطالية. بينما قالت هي يوما لوالدته إن عائلتها هاجرت إلى الإسكندرية من قبرص، هاربة من اضطهاد الأتراك منذ زمن بعيد، وأنها ولدت في بيت خصصته الكنيسة للاجئين في شارع العطارين، ثم جاءت إلى هذا البيت عندما تزوجت السيد كوستا الذي لم يره ياسين ولم يعرف عنه إلا أنه مات قبل أن ينتقل أبوه وأمه للسكن في هذا الحي. لا تتحدث مدام كوستا كثيرا، لكنها عندما تفعل فإنها تتحدث العربية بطلاقة وبلهجة أولاد البلد السكندرية المميزة، مع لكنة أجنبية لطيفة. وفي أحيان نادرة حينما يكون مزاجها رائقا تردد بفرنسية متقنة ما تغنيه مطربة قديمة يأتي صوتها مشوشا من المذياع، أو ربما من ذلك الفونوجراف الذي يظهر بوقه النحاسي الكبير عندما تفتح السيدة كوستا البوابة الداخلية للفيلا. لم يعرف أحد ما بداخل بيت مدام كوستا، ولا ما تفعله طوال اليوم منذ أن أصبحت لا تغادر البيت إلا في مناسبات معدودة من الأعياد الدينية حين يأتي بعض أقربائها المسنين لاصطحابها في سيارة أمريكية كبيرة وقديمة الطراز؛ إما لحضور القداس في كاتدرائية اليونان قرب ميدان المنشية الصغرى، أو لزيارة الموتى من عائلتها في مدافن طائفة الروم الأرثوذكس قرب الشاطبي. لكن ياسين كان يراها من الشرفة كل صباح تسقي النباتات في حديقتها الصغيرة، أو تتلو صلوات هامسة أمام أيقونة كبيرة للعذراء، معلقة في غرفتها المطلة نافذتها الطويلة على الحديقة الداخلية المشتركة بين بنايته وبين فيلا مدام كوستا.
انتقل أبوه وأمه إلى هذا الحي بعد أن توظف الأب مدرسا للغة العربية في المدرسة الإعدادية القريبة، وقد تصادف أن كانت إيجارات الشقق فيه مغرية في تلك السنوات؛ نتيجة هجرة غالبية الأسر الأجنبية التي سكنت ذلك الحي لعقود. كانا قد تزوجا قبل ذلك بعامين في شقة صغيرة بحي محرم بك، حيث ولدت وكبرت أمه، وحيث عاشت عائلتها منذ أجيال. بينما قدم الأب نازحا من قريته البعيدة في أقاصي الصعيد، قدم إلى الإسكندرية في منتصف الخمسينيات طالبا في الجامعة، ثم جذبه السحر العجيب لتلك المدينة فاستقر بها وتوظف وتزوج، ثم انتقل أخيرا إلى منطقة بولكلي الراقية. قضى سنوات عمله الرتيبة الطويلة مدرسا ملتزما وقورا يكن له الجميع كل الاحترام، تخرجت على يديه أجيال من الطلبة الذين صار منهم بعد سنوات محامون ومهندسون ودبلوماسيون وأطباء.
لم تكن لوالده علاقات وطيدة بالجيران؛ فقد كان يقضي أغلب وقته بعد ساعات العمل في قراءة الكتب والصحف وتلاوة القرآن، أو في ممارسة هوايته الأثيرة في التمشية من البيت صباح كل يوم جمعة صعودا وهبوطا مع الشارع حتى كورنيش ستانلي، ثم الانعطاف يمينا حتى الشارع الذي يصل إلى الكنيسة الإنجيلية وقصر الضيافة التابع لرئاسة الجمهورية، حيث ينعطف عند نهايته يمينا هابطا مرة أخرى حتى يصل إلى المسجد الكبير ذي الطابقين، حيث يستمع إلى خطبة الجمعة من شيخه المفضل، ويعود بعد الانتهاء من الصلاة سيرا بمحاذاة شريط الترام حتى البيت. ظل الرجل مواظبا على هذه العادة كل جمعة في الصيف وفي الشتاء، لا يقعده عنها حر بئونة وأبيب أو نوات شهر طوبة، كما كان معتادا على تسمية الشهور طبقا للتقويم القبطي الذي تعلمه في قريته لتحديد مواقيت مواسم الزراعة والحصاد، وكما كان يعرف منه في الإسكندرية توقيتات النوات الممطرة على وجه الدقة. لم يتوقف عن هذه العادة إلا بعدما تمكن منه مرض الروماتيزم بعد إحالته إلى التقاعد؛ فصار إما يستقل الترام لمحطتين حتى مسجده المفضل، أو يصلي مضطرا إذا لم تسعفه حالة مفاصل ساقيه في المسجد القريب، الذي أقامه أحد أولئك المتدينين الجدد من العائدين من البلاد العربية بجلابيب بيضاء ولحى طويلة، أسفل بناية جديدة ذات طوابق عالية، كانت بمثابة أول نغمة نشاز ضربت جمال الشارع المتناغم. أما الضربة القاضية التي أسقطته مستسلما للمرض ومنتظرا للموت في فراشه بهدوء فكانت رحيل زوجته، ربما مرض في البداية بسبب قلة العمل، لكنه ظل يقاوم، لكن المرض انتصر عليه بمساندة الوحدة والفقد.
وبرغم إقامة أبيه لعقود في الإسكندرية وتأقلمه مع الحياة فيها، لكنه لم يقطع صلاته قط بمسقط رأسه، ولم يخلع أبدا جذوره من عمق أرض الجنوب الثملى بالطمي وقشور أعواد القصب. لم يكن يمل من ترديد الحكايات عن صباه وشبابه في القرية، عن سنوات دراسته الأولى في كتاب القرية، ثم في المدرسة الابتدائية التي تقع على مسيرة ساعة من قريته، ثم في المدرسة الثانوية التي تقع في المركز الذي كان أول مدينة يراها قبل أن يعرف كيف تكون المدن بحق حين جاء إلى الإسكندرية. في سنواته الأخيرة وخاصة بعد التقاعد كان يحكي تلك الحكايات بشغف واضح، يسرد التفاصيل الدقيقة بحنين بالغ، يستطرد ويستطرد ويقفز من حكاية لأخرى. كان بإمكانه مواصلة الحكي إلى ما لا نهاية، وكان يجد ضالته وتعود إليه عافيته عندما يطرق بابه طارق قادم من قريته، أو حتى أي شخص يرجع أصله إليها ولو لم يعد يعيش فيها. كان يستعيد مع ذلك الوافد الذكريات والحكايات، وكان يبالغ في إكرامه ويلح عليه في البقاء، كانت تلك الجلسات المتباعدة تضيء وجهه وتنسيه أمراضه وشيخوخته، كانت أحاديث الذكريات تلك تعيد الشيخ إلى صباه حقيقة لا مجازا. •••
كانت سنوات ياسين الأولى بعد استكماله لشهور الخدمة العسكرية حافلة بالمتغيرات، لم تكد ساعات يومه تكفي لاستيعاب ما يتنقل بينه من أفكار وإبداعات وفنون، ظل يقضي ما يتبقى من ساعات يومه بعد العودة من العمل بين الكتب والموسيقى والسينما، خاصة مع انشغال فريدة في دراستها التي تستغرق جل وقتها، كان قد فتح أبواب عقله أمام مختلف الاتجاهات الفكرية، يستكشف العالم ويسبر أغوارا سحيقة من التاريخ والسياسة والفن. هام على وجهه بين سحر سينما الواقعية الجديدة بمخرجيها المغامرين، والتي كانت في أوج مجدها في ذلك الوقت رغم قلة جماهيريتها. سحره عالم محمد خان عاشق الشارع، وعالم داود عبد السيد عاشق الليل، وعالم عاطف الطيب عاشق الصعيد. انبهر بسينما الفانتازيا الموسيقية التي نبغ فيها خيري بشارة وشريف عرفة، فتح عينيه لأول مرة على عالم اليسار والشيوعيين عندما سحرته أغاني الشيخ إمام، التي اكتشفها بالصدفة بينما هو يستمع في طرب شديد يقارب الجذبة الصوفية إلى محمد منير - الذي لم يكن فقط مطربه المفضل، بل نموذجه الأمثل للفنان - وهو يشدو بأغنية شديدة القسوة من فرط ما تحمل من شجون لا يكاد يفهم مصدرها، كانت الأغنية من فيلم شديد التفرد كذلك، فيلم تليفزيوني جديد عن حرب أكتوبر، لكنه ليس كما اعتاده من أفلام مصرية، حتى تلك التي يصنعها مخرجوه المفضلون. كانت تلك أغنية فريدة في فيلم فريد عن قصة قصيرة كتبها جمال الغيطاني أثناء عمله كمراسل حربي في السويس أيام حرب أكتوبر، يستمع إلى الأغنية للمرة الأولى ويكاد قلبه يتوقف عن الخفقان من فرط ما فيها من متعة غامضة لا يدرك أبعادها، وإن أدرك إلى حد اليقين أنها ستفتح له أبواب عالم فسيح ليست له حدود. كان المطرب الأسمر النوبي يشدو بأسلوبه المتفرد وصوته الدافئ الحزين بالفطرة:
البحر غضبان ما بيضحكش
أصل الحكاية ماتضحكش
البحر جرحه ما بيدبلش
وجرحنا ولا عمره دبل
قللنا فخارها قناوي
অজানা পৃষ্ঠা