* مقدمة المؤلف
الحمد لله الذي جعل الأرض مهادا ، وسلك فيها سبلا ، وأودعها من عجائب صنعه ما شاهدته أبصار أولي الأسفار قبلا (1). سبحانه ما أعجب ما قدر في أمور عباده ، وألطف ما دبر في أرضه وبلاده. أنفذ كيف شاء في خلقه أحكامه ، فقضى على هذا بشعث السفر ، وعلى هذا بلم الإقامة ، والصلاة والسلام على نبيه الذي بعثه بأشرف البقاع ، وشرف بمواطئ أقدامه الشريفة كثيرا من الفجاج والقاع ، وجعل دينه المنيف مألفا لعباده بلا حيف ، فأغناهم عن إيلافهم رحلة الشتاء والصيف ، وعلى آله وصحبه البررة الهادين الذين مهدوا طرق الحق ، وأوضحوا مناهج الدين.
وبعد ، فيقول المفتقر إلى ربه الغني علي صدر الدين بن أحمد نظام الدين الحسيني الحسني ، هداهما الله إلى سواء السبيل ، وأنالهما من جزيل ما ينيل : غير خاف إن شيمة الأيام وسخيمة (2) صدور اللئام هما كمد نفس كل فاضل ، ورمد جفون الأفاضل ، فما من ذي فضل إلا مني بدهر عبوس ، أو غمر ببنيه كؤوس الهم والبوس. ذاك ينصب له المصايد وهذا يجرعه غصص المكايد ، فقلما انتدب ذو أدب لنيل أرب إلا وأدركته حرفة الأدب ، أو جد واحتشد لأمر برشد إلا عاقة ذو حسد. بهذا جف القلم فيما ألم ، وقضى القضا فيما مضى. ومن هنا استولى النقص على الكمال ، واستعلى على الرشد الضلال ، وركدت ريح الفضل وخوى (3) طالعه وخبت مصابيح الأدب ودجت
পৃষ্ঠা ১৩
مطالعه. حتى سئمت الفضائل أهلها ، وحمد من الأراذل جهلها ، فشكا كل أديب من دهره ، وبكى كل أريب من رعاع عصره.
هذا زمان ليس فيه
سوى النذالة والجهاله
ثم هذا ليس إشارة إلى هذا الزمن العديم ، بل العلة عادية ، والبلاء قديم حتى قيل : ما فسد الناس ، وإنما اطرد القياس ، ولا اظلمت الأيام وإنما امتد الظلام ، وهل يفسد الشيء إلا عن صلاح ، ويمسي المرء إلا عن إصباح ، وقديما ما بثت الأفاضل خطوب الدهر ونكوب الزمن ، ونثت (1) من أهوال أحوالها بخس الحظ ووكس الثمن ، وكم جدت بجدودها العواثر في هذه الدنيا لنيل العلياء ، فضربت شرقا وغربا ، وأوغلت بعدا وقربا ، فلم تحصل على طائل ، وما أشبه الأواخر بالأوائل.
وإذا السعي لم يلاحظ بسعد
فالتماس المنى من الحرمان (2)
وهيهات مع شرف العلم عز المال ، ومع حرفة الأدب بلوغ الآمال ، ولا سيما من انتمى إلى بيت النبوة ، وارتدى مع ذلك رداء صيت الفتوة ، فإن الدهر أشد حقدا عليه ، وأسرع نهدا إليه.
نحن بني المصطفى ذوو محن
يجرعها في الحياة كاظمنا
هذا وإني منذ كبر عن الطوق عمري (4)، وارتفع عن منافثة الأتراب عمري ، لم أزل أصابح وأماسي ما يهد أيسره الرواسي ، وأكابد وأقاسي ما يلين أهونه القواسي. أسوق من دهر قصصا ، وأسيغ من غمر غصصا.
পৃষ্ঠা ১৪
ولقد منيت بكربة الغربة ، وتشعث الحال وعهد الصبا مخيم ما هم بالارتحال ، وبليت بورود منهل البين الأكدر ، وباهر العمر مشرق أشرف على الكمال وما أدبر. رمتني مرامي النوى بجهدها ، وأبدلتني عن خير بلاد الله المشرفه بأرض هندها ، وناهيك بأرض شاسعة نائية ، وبلد أهلها كفرة طاغية ، وليس ذلك والله لطلب نائل ، أو بلوغ وطر امتثلت له قول القائل :
وارحل ركابك عن ربع ظمئت به
إلى الجناب الذي يهمي به المطر (2)
كيف وقد علمت أن الحرمان من شيم الزمان ، ورب عطب تحت طلب ، ولكن قضاء حتم ، وأمر لزم فأين المفر ، وهيهات طلب المستقر.
لو أنصف الدهر دلتني غياهبه
على العلى بضياء العقل والحسب
وكنت بعد أن نزلت على حكم القدر في تحمل شقة البين ، وفارقت الأهل والوطن فراق الجفن للعين ، حريصا على أن لا يكون فعلي إلا فعل امرئ جد في طلب العلى جده.
وما رأيه في عسجد يستفيده
ولكنه في مفخر يستجده (3)
وإن زعم قوم أني على خلاف ذلك فالحسد يقحم مقتفيه أضل المسالك.
পৃষ্ঠা ১৫
فجهدت على أن لا أظفر بنكتة طريفة إلا نمقتها ، أو فائدة ظريفة إلا علقتها ، أو شعر فائق إلا كتبته ، أو نثر رائق إلا أثبته ، حافظا لذلك حفظ الجفن لمقلته ، والصدر لمهجته ، والشحيح لدرهمه ، والجريح لمرهمه. حتى كأني استدبرت وطنا واستقبلت وطرا ، وسلوت عن قديم ما سلف بحديث ما طرا ، فاجتمع لدي من نخب اللطائف ما رق وراق ، واقتطفته النواظر من ثمرات الأوراق ، وانتخبته نتائج الأفكار ، وجنحت إليه جنوح المفرخ إلى الأوكار ، وتملت به النفوس ، وتحلت به المهارق (1) والطروس.
ملح إذا ذكرت بناد خلته
من نشرها البادي تضمخ طيبا
فأزمعت على أن أجمع ما وقع لي من ذلك رحلة تكون لأولي الألباب من ذوي الآداب نحلة ، أثبت فيها ما وقفت عليه ، وما سأقف إن شاء الله تعالى جانحا إليه ، إلى أن يمن الله سبحانه بالعود إلى الوطن ، والأوب إلى العطن ، وأورد خلال ذلك من الطرائف المستظرفة ، والظرائف المستطرفة ما يروق النواظر ، ويجلو صدأ الخواطر ، وتقرط به المسامع ، ويطرب له الناظر والسامع. فإذ أشرق من أفق الكمال بدرها المنير ، وتفتق عن حجب الكمام زهرها النضير سميتها :
* «سلوة الغريب وأسوة الأريب»
ليطابق الاسم مسماه ، ويوافق اللفظ معناه ، وفيها أقول :
رحلتي المشتهاة تزري
بالروض عند الفتى الأريب
পৃষ্ঠা ১৬
فها هي كالمنية قد أنجحت لراجيها ، أو العروس قد أبرزت في ناديها ، فخذها بارك الله لك فيها.
مقدمة : فيما جاء في السفر والاغتراب من نثر ونظم ذما ومدحا ، والناس متفاوتون في التفضيل بين التغرب والإقامة ، فلنذكر من كل طرفا يعده الناظر طرفا.
أما ما جاء في الذم في ذلك فقد قال الله عز وجل ( ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل ) (1) فقرن جل اسمه الخروج من الوطن بقتل النفس.
وروي عن سيد البشر الشفيع المشفع في المحشر أنه قال صلى الله عليه وآله وسلم (السفر قطعة من العذاب ، يمنع أحدكم نومه وطعامه ، فإذا قضى أحدكم مهمته من وجهه فليعجل إلى أهله).
وقيل لبعضهم : إن السفر قطعة من العذاب ، فقال : بل العذاب قطعة من السفر ، ونظمه من قال :
كل العذاب قطعة من السفر
يا رب فارددني إلى ريف الحضر
وكان الحجاج بن يوسف (2) يقول : لولا فرحة الإياب لما عذبت أعدائي إلا بالسفر وقيل : السفر ، والسقم ، والقتال ، ثلاثة متقاربة. فالسفر سفينة الأذى ، والسقم حريق الجسد ، والقتال منبت المنايا.
وقال حكيم : في السفر خصال مذمومة منها مفارقة الإنسان من يألفه.
وعلى ذلك لعلي بن موسى بن سعيد المغربي (3):
عجبت ممن يبتغي بغية
عن حبه في نيلها يذهب
পৃষ্ঠা ১৭
ومنها مصاحبة الإنسان من لا يشاكله ، والمخاطرة بما يملكه ، ومخالفة العادة في أكله ونومه ، ومباشرة الحر والبرد بجسمه.
وقيل : السفر اغتنام لولا أنه اغتمام ، والغربة دربه لولا أنها كربة.
وقيل : شيئان لا يعرفهما إلا من ابتلي بهما : السفر الشاسع ، والبناء الواسع.
وقال محمد بن ظفر في السلوان (1): حروف الغربة مجموعة من أسماء دالة على محصول الغربة. فالغين من غرور ، وغبن ، وغلة وهي حرارة الحزن ، وغرة ، وغول وهي كل مهلكة ، والراء من روع ، وردى ، ورزء ، والباء من بلوى ، وبؤس ، وبرح وهي الداهية ، وبوار وهو الهلاك ، والهاء من هول ، وهون ، وهم ، وهلك.
وقيل : إذا كنت في بلد غيرك فلا تنس نصيبك من الذل.
وقيل : الغريب ميت الأحياء (كالغرس الذي زايل أرضه فهو ذاو لا يثمر وذابل لا ينضر) (2).
وقيل : الغريب كالوحش الذي غاب عن وطنه ، فهو لكل سبع فريسة ولكل رام رمية.
وقيل : عسرك في بلدك خير من يسرك في بلد غيرك وأنشدوا :
لقرب الدار في الإعسار خير
من العيش الموسع في اغتراب (3)
وقيل لبعض الحكماء : ما السرور؟ فقال : الكفاية في الأوطان ، والجلوس مع الاخوان.
পৃষ্ঠা ১৮
طريفة : قال القاضي أبو الحسن الجرجاني (1) كان الصاحب بن عباد (2) يقسم لي من إقباله وإكرامه بجرجان أكثر مما يتلقاني به في سائر البلدان فاستعفيته يوما من فرط تحفيته بي ، وتواضعه لي فأنشدني :
أكرم أخاك بأرض مولده
وأمده من فعلك الحسن
الأعشى (3):
ومن يغترب عن قومه لم يزل يرى
مصارع مظلوم مجرا ومسحبا (4)
وقال آخر :
ومن ينأ عن دار العشيرة لا تزل
عليه رعود جمة وبروق
وقال آخر :
وإن اغتراب المرء من غير خلة
ولا همة يسمو بها لعجيب
وأنشد أبو منصور الثعالبي (5) في يواقيت المواقيت (6) قال : أنشدني أبو
পৃষ্ঠা ১৯
الفتح البستي (1) لنفسه :
لا يعدم المرء كنا يستكن به
وصفة بين أهليه وأصحابه (2)
ناصر الدين ابن النقيب (3):
ليس من بات معتقا من أماني
ه كمن بات للأماني رقا
وأما ما جاء من المدح في ذلك :
فقد مدح الله جل اسمه المسافرين فقال ( وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله ) (4).
وفي الحديث (سافروا تصحوا وتغنموا).
وفي التوراة (ابن آدم أحدث سفرا أحدث لك رزقا).
وقيل : إنما سمي السفر سفرا لأنه يسفر عن آيات الله ، وقيل : لأنه يسفر عن أخلاق الرجال.
ومن كلامهم : السفر ميزان الأخلاق. السفر مرآة الأعاجيب. ربما أسفر
পৃষ্ঠা ২০
السفر عن الظفر ، وتعذر في الوطن قضاء الوطر. السفر أحد أسباب المعيشة التي بها قوامها ، أو نظامها ، لأن الله لم يجمع منافع الدنيا بأرض بل فرقها ، وأحوج بعضها إلى بعضها. الحركة ولود ، والسكون عاقر. الحركة بركة والتواني هلكة ، والسكون شؤم. ليس بينك وبين بلد نسب ، فخير البلاد ما حملك. أوحش أهلك إذا كان في إيحاشهم أنسك ، واهجر وطنك إذا نبت عنه نفسك.
[قال] سهل بن هارون : لست ممن يقطع نفسه في صلة وطنه. وقيل : لا تجزع لفراق الأهل مع لقاء اليسار ، فإن الفقر أوحش من الغربة ، والغربة آنس من الوطن ، وأنشدوا :
الفقر في أوطاننا غربة
والمال في الغربة أوطان
وللإمام الشافعي رضياللهعنه (1):
سافر تجد عوضا عمن تفارقه
وانصب فإن لذيذ العيش في النصب
ابن قلاقس (3):
نقل ركابك في الفلا
ودع الغواني في القصور (4)
أبو تمام حبيب بن أوس الطائي (5):
পৃষ্ঠা ২১
الوأواء الدمشقي (1):
لا تقعدن بأرض قد ربيت بها
فليس تقطع في أغمادها القضب
قيل : والحق التفصيل في التفضيل ، فإنه إن توفرت الأسباب المحتاج إليها في أمر الكفاية وتكميل النفس وتزكيتها مع الإقامة فهي أفضل ، وإلا فالتغرب كما قيل (2):
ولا يقيم على ضيم يراد به
إلا الأذلان عير الحي والوتد (3)
الحريري (*) وهو من شعره في المقامات (5):
لا تقعدن على ضيم ومسغبة
لكي يقال عزيز النفس مصطبر (6)
পৃষ্ঠা ২২
ابراهيم بن العباس (1)، أو غيره (2):
لا يمنعنك خفض العيش في دعة
نزوع نفس إلى أهل وأوطان
السراج الوراق (3):
إذا كنت في أرض يهينك أهلها
وإن كنت مشغوفا بها فتغرب
مهذب [الدين] ابن منير (4):
وإذا الكريم رأى الخمول نزيله
في منزل فالحزم أن يترحلا
الأديب أبو محمد غانم (6):
পৃষ্ঠা ২৩
وسئل الزيادة عليهما فقال :
لا يرتضي حر بمنزل ذلة
لو لم يجد في الخافقين مقيلا
ومن لطائف ما حكاه الأصمعى قال : مررت برجل يكسح كنيفا وهو يقول :
واياك والسكنى بدار مذلة
تعد مسيئا بعد ما كنت محسنا
فقلت له والله ما بقي من الهوان شيء إلا وقد أهنت به نفسك ، فكيف تأمر بإكرام النفس ولا تكرمها؟ فقال : بلى والله من الهوان ما هو أعظم مما أنا فيه. فقلت له : وما هو؟ قال : الوقوف على سفلة مثلك ، فانصرفت عنه وأنا أخزى الناس.
ياقوت الرومي (3):
وقفت وقوف الشك ثم استمر بي
يقيني بأن الموت خير من الفقر
পৃষ্ঠা ২৪
ثم السعي لا يؤثر في التقدير والإرادة ، وإنما هو من الأسباب التي جرت بها العادة كما قيل :
(للرزق أسباب ومن أسبابه
إعمال ناجية وشد حزام (1)
وقال آخر :
ألم تر أن الله أوحى لمريم
وهزي إليك الجذع يساقط الرطب
وحاصل الأمر أن السعي إنما هو لتحصيل ما أراده الله سبحانه ، وحض عليه في كتابه العظيم بقوله عز اسمه ( هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه ) (2) فإن بالحركات تنزل البركات ، وعدم حصول المرام أمر وراء ذلك كما قيل) (3).
على المرء أن يسعى لما فيه نفعه
وليس عليه أن يساعده الدهر (4)
ابن عنين (5):
فإما مقام يضرب المجد حوله
سرادقه أو باكيا لحمام (6)
(أنوار الربيع 1 / 238 و239).
পৃষ্ঠা ২৫
وقال آخر (1):
سأضرب في بطون الأرض ضربا
وأركب في العلى غرر الليالي (2)
وليكن هذا آخر المقدمة وفيه كفاية لمن لحظته العناية. وأما أنا فأقول : إذ كنت في غنى عن هذا المنقول :
لقد ظلمتني واستطالت يد النوى
وقد طمعت في جانبي أي مطمع
وكان السبب في تجرع مرارات النوى ، وتحمل حرارات الجوى ، وفراق الأهل والوطن ، والبعد عن السوح المحترم والحرم المؤتمن ، أن قضى الله على الوالد بفراقه لتلك المواطن واغترابه عن هاتيك المنازل والمعاطن ، مدعوا إلى الدكن من الديار الهندية ، مجلوا على السكن في ظلالها الندية ، ففارقنا والحال حويلة ، والبحر دجيلة ، والفصال لم يبلغ حده ، والوصال قد ثلم البين حده ، وذلك عام أربعة وخمسين وألف من الهجرة النبوية على صاحبها الصلاة والسلام والتحية.
وكان قد استدعاه إلى تلك الديار مليكها الأعظم ومالكها السلطان المعظم ، الملك الذي انعقدت كلمة الإجماع على شوكة سلطانه ، وتلت الخلائق سور عدله وإحسانه ، وأصبحت الأملاك خاضعة لدولته وعزة شأنه ، مستسلمة لأقضية صولته ، وأحكام سيفه وسنانه ، ذو الصفات التي أشرق بها بدر الملك وشمس الخلافة ، والحكم الذي جرى القضاء على طبقه فلم يستطع أحد خلافه. والهمم التي أضحت الأماني دون منتهاها صرعى ، ورجعت
পৃষ্ঠা ২৬
الأوهام عن تخييل أدناها ضائقة به ذرعا ، والبسالة التي وقفت الفرسان عندها ، والإيالة التي عم ذكرها البلاد هندها وسندها ، فما الغيث الوابل إلا مكتسب من بعض هباته ، وما الليث الصائل إلا منتسب إلى وثباته وثباته.
سل عنه وانطق به وانظر إليه تجد
ملء المسامع والأفواه والمقل (1)
ظل الله سبحانه على عباده ، وأمينه الذي دارت الأفلاك على مدار مراده.
ملك إذا ازدحم الملوك بمورد
ونحاه لا يردون حتى يصدرا
حاوي الخلافة كابرا عن كابر ، فخر المفاخر والمآثر والمنابر ، الإمام العادل والهمام الباذل ، الواثق والمعتضد بالله شاهنشاه عبد الله بن محمد قطب شاه.
في كل يوم مجده عجب
وكل ليل لنا من ذكره سمر
لا زال النصر محدقا بأعلامه المنيفة في كل حين ، والظفر تاليا على مسامعه الشريفة آيات الفتح المبين.
فلم يسع الوالد إلا امتثال أمره المطاع ، والانقياد لحكمه الذي لا يطاق رده ولا يستطاع. فدخل الديار الهندية في السنة المقدم ذكرها ، وزفت إليه من المعالي عوانها وبكرها ، وقابله مولانا بمزيد الاحترام ، وأكرمه بما هو أهله من
পৃষ্ঠা ২৭
الإجلال والإكرام. فمهد له في فنائه موضعا ، وأحله من سمائه مطلعا ، ولم يزل يلحظه بعين عناياته ، وينشر عليه من العز أرفع راياته ، ويفصل له من الشأن مجمله ، وينجح له من المعالي ما أمله ، حتى اختاره لمصاهرته ، واجتباه لمؤازرته ، فأملكه ابنته الطاهرة ، وملكه نعمه الباهرة الزاهرة ، فأصبح وقد مد العز عليه رواقه ، وألقى شراشره (1) وأوراقه ، وأثمر غصن أمله بنجحه ، وتبلج أفق مرامه بصبحه ، وكان عرسا (2) أظهر مولانا السلطان به أيده ، وأبدى فيه ما لم يبده المهدي في أعراس الرشيد بزبيدة ، ولم يكتحل مدته جفن بوسن ، ولم يحتفل احتفاله المأمون لبوران بنت الحسن. حشر له البادي والحاضر ، وأشرقت به المحافل والمحاضر ، فقال الأديب الشيخ جابر الجوازري (3) مؤرخا هذا الزواج الميمون الازدواج :
أقبل السعد يهني
سيدا من خير آل
استطراد :
ذكر صاحب تحفة العروس (5) قال : أخبرنا أبو ياسر البغدادي قال :
পৃষ্ঠা ২৮
وليمتان في الاسلام لم يكن مثلهما ولا يكون. فالأولى وليمة الرشيد عند دخوله بزبيدة بنت جعفر بن أبي جعفر المنصور ، كانت أواني الذهب تملأ من الفضة ، وأواني الفضة تملأ من الدنانير وتدفع إلى وجوه الناس.
ويقال إن العود الهندي إنما فضل على العود القماري في هذه الوليمة لأنهما امتحنا فوجد الهندي أطيب وأبقى في الثوب.
قال أبو ياسر : كانت النفقة في هذه الوليمة من بيت خاصة المهدي سوى ما أنفقه الرشيد خمسين ألف ألف دينار.
والثانية وليمة المأمون على بوران بنت الحسن بن سهل. قال أبو الفرج : لما خطبها المأمون استعد لها استعدادا يجل عن الوصف ، وخرج المأمون إلى فم الصلح (1) في سنة عشر ومائتين فأملك بها ، وفعل الحسن في هذه الوليمة ما لم يفعله ملك في الجاهلية ولا الإسلام :
نثر على الهاشميين والقواد والكتاب بنادق مسك فيها رقاع بأسماء ضياع ، وأسماء جوار ، وتعيين صلات وغير ذلك من كل شيء نفيس. فكان إذا وقع شيء من ذلك في يد من نثر عليه فتحه وتوجه فاستوفى قبض ما فيه. ثم نثر بعد ذلك على عامة الناس الدنانير والدراهم ، ونوافج المسك ، وقطع العنبر ، وأقام الوظائف والنفقات لجميع ما اشتمل عليه عسكر المأمون لكل رجل على قدره. ويقال : إن العسكر اشتمل على ستة وثلاثين ألف ملاح.
قال أبو الفرج : لما جليت بوران فرش لها حصير من ذهب ، وجيء بإناء مملوء درا فنثر على الحصير ، وكان فيمن حضر من النساء زبيدة بنت جعفر ، وحمدونه بنت الرشيد وغيرهما من بنات الخلفاء ، فلم تلقط واحدة منهن شيئا من الدر. فقال المأمون : أكرمنها بالتقاطكن ، فمدت كل واحدة يدها وأخذت واحدة ، وبقي الدر على الحصير الذهب ، فقال المأمون : قاتل الله الحسن ابن
পৃষ্ঠা ২৯
هاني (1) كأنه كان حاضرا حيث قال في صفة الخمر :
قامت تريني وأمر الليل مجتمع
صبحا تولد بين الماء والعنب
قال أبو ياسر : وأوقد تلك الليلة شمعة عنبر وزنها ثمانون رطلا ، فأنكر المأمون ذلك وقال : هذا سرف ، فأمرت زبيدة برفعها وقالت : هاتوا الشمع المستعمل. قال : وسأل المأمون زبيدة عما أنفقه الحسن فقالت : بين خمسة وثلاثين ألف ألف إلى سبعة وثلاثين ، فبلغ ذلك الحسن فقال : أو كانت النفقة على يدها؟ والله لقد حصرتها فكانت ثمانين ألف ألف.
قال : وأقامت البغال وعدتها أربعة آلاف تنقل الحطب قبل الوليمة أربعة أشهر ، وفي أثناء الوليمة أحوجهم الحطب فكانوا يوقدون الكتان عوضا عن الحطب.
قال الطبري : ودخل بها الليلة الثالثة من وصوله فم الصلح ، فلما جلس معها نثرت عليهما جدتها ألف درة ، فأمر المأمون بجمع الدر وقال : كم هو؟ فقالت ألف حبة ، فأخذه ووضعه في حجرها وقال : هذا نحلتك وسلي حوائجك ، فقالت لها جدتها : كلمك سيدك فكلميه فقد أذن لك ، فسألته الرضا عن ابراهيم بن المهدي (3) لأدبه ، فقال : قد فعلت.
ويقال : أنه لما أدخلت عليه وأراد غشيانها حاضت فقالت «أتى أمر الله فلا تستعجلوه» (4) فنام في فراش آخر ، فلما قعد للناس من الغد ، دخل عليه
পৃষ্ঠা ৩০
[أحمد بن يوسف] الكاتب (1) وقال : يا أمير المؤمنين هناك الله بما أخذت من الأمر باليمن والبركة ، وشدة الحركة ، والظفر في المعركة ، فأنشده المأمون (2):
فارس ماض بحربته
صادق بالطعن في الظلم
وأكثرت الشعراء في هذا الإملاك ، وأستطرف منها قول [ابن] حازم الباهلي (3)
بارك الله للحسن
ولبوران في الختن
فلما نمى إلى المأمون قال : والله ما ندري أخيرا أراد أم شرا.
وكان اسحاق يقول : ما رأيت في الملوك مثل المأمون ، ولا شاهدت امرأة تقارب بوران فهما وعقلا وأدبا وفضلا ، وما أظن أحدا وقف من العلوم على ما وقفت عليه ، ولم تزل في صحبة المأمون إلى أن توفي عنها سنة ثمان عشرة ومائتين ، وعاشت بعده إلى سنة إحدى وسبعين ومائتين وعمرها ثمانون سنة.
ويحكى أن المأمون خلا بها يوما فقال لها : غني ، فغنت :
جعلتك مشتكى حزني
ومعتصري على الزمن (4)
পৃষ্ঠা ৩১
تريد ما كان من غدر المأمون بعمها الفضل ، فقال المأمون : قد كنت عن هذا غنيا لولا شقائي.
وعلى ذلك مما يذكر من عظيم حلم المأمون ، أن الحسن بن سهل شرب معه يوما فقال له المأمون : يا أبا محمد لعلكم تتوهمون أني قتلت الفضل بن سهل! والله ما قتلته ، فقال الحسن : بلى والله لقد قتلته ، فقال : والله ما قتلته ، فقال : بلى والله لقد قتلته ، (فقالها ثلاثا والحسن يرد عليه) (1) فقام المأمون من مجلسه فقال : أف لك ، وانصرف الحسن إلى منزله ، فاتصل الخبر بمعلى بن أيوب ، وغسان بن عباد فصارا إلى الحسن وعذلاه على ما كان منه وقالا : اركب فاعتذر إليه ، قال : والله لا ركبت إليه أو يبعث إلي ، فصارا إلى المأمون فقال له غسان : يا أمير المؤمنين نحن عبيدك ، وصنائعك ، بك عرفنا وبخدمتك شرفنا ، كنا أذلاء فرفعتنا ، وكنا عامة فخصصتنا ، وكنا فقراء فأغنيتنا ، فاغفر خطيئة مسيئنا بمحسننا ، فقال : ويلك ما أصنع به؟ حلفت له بالله ثلاثا فكذبني ثلاثا ، فقال المعلى : يا أمير المؤمنين آنسته فأنس ، وساقيته فانتشى ، فاغفر له هفوة نشوته فقال المأمون : يا غلام صر إلى أبي محمد فقل له : إما أن تجيئنا ، أو نجيئك. وللمأمون نوادر في الحلم والعفو ، ومن كلامه : حبب إلي العفو حتى خشيت أن لا أثاب عليه.
وهذا وإن كان خارجا عن وضع الكتاب وغرضه لكن لا بد لكل واضع كتاب ، ومؤلف معنى من اعتنان (2) شيء ليس من جنس ما قصد له ولا مما أراد ، بل يراه يحسن ذكره فيذكره ثم يعود ، فلنعد إلى ما نحن بصدده.
وفي سنة ست وخمسين قلد مولانا السلطان خلد الله ملكه الوالد منصب عين الملك فأحله من علوه في فلك ، ومن تياره في فلك ، فجنح الوالد إلى الإقامة بتلك الديار واستيطانها ، والانتظام في سلك سكانها وقطانها ، فمكث ثلاث عشرة سنة متبوئا من العيش أرغده وأحسنه ، ثم رأى أن العود إلى
পৃষ্ঠা ৩২