ولكن هذا لم يثن من عزم الرئيس وتمسكه بوضع أساس متين للسلام، فلما عقد مؤتمر الصلح اختلفت فيه وجهات النظر لاختلاف المذاهب؛ إذ كان المؤتمرون الأوروبيون يرمون إلى تحقيق نظريتهم المبنية على التعاون الدولي والمحالفات، بينما يرمي الأمريكيون إلى التعاون بين الدول مع الاحتفاظ بمذهب مونرو. ولما لم يؤخذ بإحدى هاتين الطريقتين بتمامها، نجح الرئيس ولسن في وضع عهد جمعية الأمم على أساس التعاون الدولي والتضامن بين الدول. بيد أن بقية المعاهدة لوحظ فيها من الموازنة الدولية شيء كثير.
وفي سنة 1925 عقدت الدول الغربية الأربع الكبرى معاهدة لوكارنو؛ لصيانة السلم على حدودها ونبذ الحرب. وفي سنة 1928 أمضت جل دول العالم «ميثاق بريان-كيلوج» الذي يقضي في مادته الأولى بنبذ الحرب كأداة للسياسة الوطنية في مختلف الدول، واعتبارها خارجة عن القانون
Hors la Loi ، ولكن بكل أسف نقضت بعض الدول معاهدة لوكارنو. ولم يكن حظ ميثاق «بريان-كيلوج» بأحسن من ذلك؛ فقد فسرته الدول الموقعة تفسيرا يذهب بكل قوة فعلية له. وما على الباحث إلا أن يقرأ مذكرات السير أوستن تشمبرلن في سنة 1928، وتقرير لجنة الشئون الخارجية بمجلس شيوخ الولايات المتحدة في يناير سنة 1929، فيجد فيهما الدليل القاطع على ذلك.
وهنا أتحاشى التعرض للدخول في شرح ماهية عصبة الأمم، وشروطها ومبادئها وأغراضها التي تحتاج إلى شرح طويل يخرج منه الإنسان صفر اليدين؛ لأنها بنيت على أساس تنفيذ معاهدة فرساي التي أملتها الأنانية والقوة. تلك المعاهدة التي محتها القوة كما أوجدتها. ويكفي أن نستشهد هنا على ضعفها ببعض ما جاء بخطبة المستر نيفل تشمبرلن التي ألقاها في 23 فبراير سنة 1938 بمجلس العموم حيث قال:
هل يظن أحد هنا أن عصبة الأمم بتكوينها الحالي يمكنها أن تضمن السلام العام؟ إذا كان الأمر كما أظن - وهو أن عصبة الأمم بتكوينها الحالي لا يمكنها أن تكفل لأحد الضمان المتبادل - فلا يجوز لنا أن نحاول خداع أنفسنا، وإيهام الدول الصغيرة بأن عصبة الأمم قادرة على حمايتها من الاعتداء، وأن تبقى تلك الدول على هذه العقيدة في الوقت الذي نعلم فيه أنه لا ينتظر شيء من هذا.
ثم قوله:
ما معنى هذه العبارة: إن السلام لا يمكن ضمانه إلا بالثقة المتبادلة بواسطة عصبة الأمم؟ أي بلد في أوروبا عندما يهدده جار أقوى منه يمكنه الاعتماد على عصبة الأمم لحمايته ضد الاعتداء؟! إني أتحدى أي عضو من المعارضين أن يجاوب على سؤالي هذا. إنه لا يمكن لأحدهم إلا أن يجاوب صراحة بأنه لا يوجد.
وعصبة الأمم في رأيي كشركة مساهمة أراد مؤسسوها أن يستأثروا بأرباحها ، فضعفت الثقة في أسهمها، وتدهورت أثمانها بسبب انسحاب رءوس الأموال منها، فأصبحت مهددة بالإفلاس، وهذا ما يؤسف له غاية الأسف. وقد كان من المستطاع بشيء من إنكار الذات والمساعدة البريئة أن تصبح عصبة الأمم بفضل الإخلاص المتبادل موردا للربح المعنوي الحلال.
سادتي وسيداتي
لا ننكر أن عصبة الأمم استطاعت في السنوات الأولى من تكوينها تسوية حوالي ثلاثين مشكلة دولية مختلفة، منها مسألة جزر «الندا» بين فنلندا والسويد، ومسألة كورفو، والنزاع البولوني اللتواتي، والنزاع اليوغوسلافي الألباني، والنزاع اليوناني البلغاري، والنزاع بين بوليفيا وبرجواي وغير ذلك. وأنها أدت خدمات إنسانية جليلة، ولكن بعض الدول العظمى التي أسستها لم تستطع كبح جماح مطامعها الاستعمارية، ولم تساعدها على الاستمرار في عملها الإنساني بخروجها على مواثيق العصبة، ومحاربة الدول الآمنة المطمئنة وانسحاب بعضها، مخالف بذلك العهود التي وقعها؛ فضعفت عصبة الأمم بخروجها منها، وقلت هيبتها فعجزت العصبة عن مد يد المعونة للدول التي استنجدت بها، كالصين والحبشة وإسبانيا وفلسطين. ومما يؤسف له ويحزن العالم أن الدول العظمى التي أدعت في البداية أنها إنما خاضت غمار الحرب للدفاع عن الضعيف، ولتحرير الشعوب المظلومة، هي هي بعينها التي نكثت العهود التي وقعتها وشجعت الدول الأخرى على خوض غمار الحرب. •••
অজানা পৃষ্ঠা