فرأى في إطرائها إشارة إلى حبها، لكنه كذب نفسه وعاد إلى الإنكار فقال: «أما شعوري فهو أني وأنا في خدمة مولاي السلطان صلاح الدين، وقد أمرنا أن نكف عن رمي النفط، وقع بصري على زجاجة نفط سقطت في هذه الدار وأنا على يقين أنها ليست من عندنا فاستغربت وقوعها. ثم رأيت نذلا ملثما اغتنم اشتغال أهل القصر بأنفسهم ودخل كالذئب الكاسر ومعه أناس أرادوا القبض عليك، فلم أتمالك عن الوثوب عليهم، ولم أكن أعلم أنهم يريدونك ولا أنك سيدة الملك أخت الخليفة. فلما اتجه نظري إليك ورأيت هذا الشعر الذهبي علمت أنك هي. وكانت تلك الخصلة في جيبي فدفعتها إليك.»
فلما سمعت اسم صلاح الدين أجفلت، لكنها مالت إلى معرفة قصة خصلة الشعر فقالت: «من أين وصلت هذه الخصلة إليك؟»
فتوقف عن الجواب حتى خاف أن ترتاب فيه ثم قال: «أتيت بها من دار السلطان نور الدين صاحب دمشق. ما لنا ولهذا؟ وقد سألتني عن شعوري في تلك الساعة فهو أني شعرت بحمية لم أستطع دفعها ووثبت لمقاومة أولئك الأشرار وأنا لا أعرفهم ولا أعرف على من هم واثبون. فلا فضل لي على سيدة الملك؛ لأني لم أكن أعرف أنها هي المقصودة بالأذى وإنما فعلت ما فعلته مدفوعا بالمروءة.»
وكان يتكلم وهي تنظر إليه وتكاد تتلقفه بعينيها، فلما وصل إلى ذكر المروءة صاحت فيه: «من أجل هذه المروءة شعرت بهذا الشعور ورغبت في استقدامك لأعترف بجميلك.»
فخجل من هذا الإطراء وقال: «العفو يا سيدتي، إن مثلي لا يستحق هذا الإطراء من أخت أمير المؤمنين؛ لأننا عبيد ويجب علينا التفاني في الدفاع عن صاحب هذا المقام السامي.»
قالت: «اسمع يا عماد الدين، لست عبدا، ولو أنك اندفعت إلى هذه المنقبة لأجل أخت الخليفة لقلنا إنك فعلت ذلك تقربا من أمير المؤمنين. ولكنك إنما دفعك إليها نفس أبية وهمة عالية وأريحية ومروءة لا نعهد مثلها فيمن نعرفهم بين أظهرنا من الأمراء وأبناء الخلفاء. فهذه الخصال رفعت قدرك وجعلتك في مصاف الملوك ... لا تقل إنك عبد، معاذ الله! بل أنت أمير من أعظم الأمراء، وستكون كذلك قريبا إذا شئت.» وظهر في عينيها معنى لم يترك لعماد الدين سبيلا للتجاهل، وأعجبه قولها إنه سيكون أميرا وهو في ذلك اليوم أوشك أن يصير من الأمراء بما آنسه من إعجاب نجم الدين وتقديمه. وتذكر المهمة التي هو ذاهب فيها وما وعده به نجم الدين إذا فاز بها. فتفاءل من مطابقة قولها قول نجم الدين إنه أمير وسيصير أميرا عن قريب. ثم انتبه فجأة إلى أنه قد مضى هزيع من الليل فخاف أن يطول الكلام في تلك الجلسة، ولم تعجبه مقدمات الحديث؛ لعلمه بما طلبه صلاح الدين من أخيها. وخيل له أنها استقدمته لأمر يتعلق بذلك الطلب؛ إذ لا يزال يستبعد أن يكون هو المقصود به، فأراد أن يتحقق ظنه فقال: «إذا صرت شيئا مذكورا فإنما يكون الفضل فيه لمولاتي سيدة الملك؛ لأنها أحسنت الظن بعبدها فقدمه مولاه السلطان صلاح الدين في مساء أمس حتى جعله أقرب أعوانه إليه.»
فلما سمعت ذكر صلاح الدين للمرة الثانية أجفلت وانقبضت نفسها وتذكرت ما جرى لها بسببه ولم يعجبها اقتران اسمها باسمه في هذا الموضوع، لكنها سرت لقوله إن صلاح الدين قدمه فقالت: «لا غرابة في تقديمك، فأنت أهل لأكثر من ذلك. إنك أمير وسيد وستنال مقاما لم ينله صلاح الدين ولن يناله هو ولا غيره من السلاطين أو الأمراء. هذا إذا شئت.» وتلعثم لسانها وغلبت على أمرها وأبرقت عيناها وبان الحياء في محياها، فأطرقت وكأنها ندمت على ما فرط منها، فجعلت تتشاغل بتثنية طرف جديلتها المرسلة على صدرها من تحت النقاب.
أما هو فلم يبق عنده شك فيما تعنيه، واستعظمه منها وهاجت عواطفه وأحس بانعطاف جديد نحوها بعد أن سمع تصريحها أنها تحبه وأنها تفضله على صلاح الدين. لكنه تذكر أن مولاه صلاح الدين يريدها مع أنه لا يرجو أن ترضى به فاستنكف أن يقوم مقامه أو يقف في سبيله أو يعتدي عليه وهو صنيعته وقد صمم أن يفتديه بروحه. فلم يتمالك عن النهوض وقال: «إن سيدتي بالغت في إطراء عبدها كثيرا، فأنا صنيعة مولاي السلطان، ولا أخفي أني ذاهب الليلة في مهمة تخصه وأخاف أن أتأخر عنها إذا أطلت المقام هنا.»
فأمسكت بيده وأقعدته وقد بانت أنفة الملوك في وجهها وقالت بصيغة الأمر: «لا. لست عبدا لأحد ولا صنيعة أحد، وقد قلت لك إنك أمير وسيد. لا، لا ينبغي أن تذهب في خدمة أحد إني في حاجة إليك وقد استصرختك. أين حميتك ومروءتك؟»
فلما قبضت على يده سرت الرعشة في أعضائه وقعد بالرغم منه. لكنه لما سمع كلامها خاف أن يغلب على أمره فقال وهو يتحفز للنهوض: «إن هذه المروءة نفسها تحملني على الذهاب الآن؛ لأني تعهدت بأمر لا بد من الذهاب فيه وهو يخص مولاي صلاح الدين. وإذا كانت مولاتي ترى في هذه المناقب وأنا صنيعة صلاح الدين وخادمه، فكيف لو عرفته هو؟»
অজানা পৃষ্ঠা