وكان أبو الحسن نازلا في دار الأضياف على مقربة من القصر الغربي، وهي دار كبيرة كانت في الأصل قصرا للمظفر بن أمير الجيوش أقام بها حتى توفي، فجعلت دارا لأضياف الأمراء والوافدين من قبل الملوك، ويتولاها نائب يسمى عدي الملك ينوب عن صاحب الباب في لقاء هؤلاء الضيوف وينزل كلا منهم في دار تصلح له ويقيم له من يقوم بخدمته. ثم صار صاحب دار الأضياف يسمى في الدولة التركية «المهمندار».
وكان عدي الملك كثير العناية بابن الحسن لما رأى من تقربه إلى الخليفة ومنزلته عنده، فأفرد له دارا خاصة وأمر الغلمان بخدمته. وكان أبو الحسن قد سحره بمظاهراته وبما يقصه عليه من اقتداره وعلو منزلته. والدولة في أواخر أيامها تروج فيها السفاسف والمظاهرات ويتعلق أصحابها بالأوهام دون الحقائق وبالقشور دون اللب. ويشتغل كل منهم بنفسه ويصبح همه الاحتفاظ برزقه ورزق أهله وهو يتوقع زوال الدولة فلا يرجو ضمان ذلك فيها، فتطيش آماله وتتعلق بأضعف الأسباب وأوهى المواعيد. والإنسان إذا تولاه اليأس في أمر صدق كل قول يعيد إليه الأمل ولو كان ذلك القول من المستحيلات. ويتكاثر أهل الدسائس في مثل هذه الحال للاصطياد في الماء فيزينون القول ويزوقون الأعمال فيصبح أكثر معول الناس على الظواهر.
وكان أبو الحسن من أولئك الصيادين، وهو من أهل الدهاء والذكاء قوي الحجة لا يبالي بما قد يرتكب في سبيل الوصول إلى غرضه من قتل أو كذب أو تملق أو تزلف. والذكي الداهية إذا أغضى عن مراعاة الذمة وصدق النية لا يعجزه الوصول إلى ما يبغيه من الأغراض. وكان أبو الحسن طامعا في الخلافة أو ولاية العهد على الأقل كما تبين لك من حديث الجليس الشريف. فاتخذ كل وسيلة تؤديه إلى ذلك الغرض. ومن جملة ذلك طلبه التزوج بسيدة الملك؛ لعلمه بنفوذها على أخيها ولأن انتسابه إلى العلويين يتأيد بزواجها. حتى إنه يفضل التزوج بها أولا فيسهل عليه كل ما يبغيه. لكنها لم تكن تحبه ولا تخلص له ولا كانت تعتقد صحة نسبه.
وفي الصباح التالي بكر الجليس إلى أبي الحسن في دار الأضياف قبل أن يطلبه الخليفة لمجالسته. وكان أبو الحسن في انتظاره على مثل الجمر لكنه حالما جاءه الغلام ينبئه بمجيئه نهض لاستقباله ورحب به وأظهر أنه لم يكن يتوقع مجيئه واهتمامه إلى هذا الحد، فابتدره بالسؤال عن صحة الخليفة فقال: «فارقته مساء أمس أحسن حالا.» قال: «أرجو أن يكون العارض قد زال بحول الله بزوال السبب.»
فأدرك الجليس غرضه فقال: «أرجو أن يزول السبب تماما، وعند ذلك نتحقق زوال المسبب.» قال: «إن السبب لا بد من زواله بإذن الله. وهل تظنني أرجع عن هذا الأمر؟ إني أفعل ذلك لمصلحة أمير المؤمنين. وأنا أحبه وأحترمه لا لغرض يهمني.»
فأعجب الجليس بطيب عنصره وازداد خجلا من التصريح له بما جرى أمس. ولحظ أبو الحسن سبب ارتباكه؛ لأنه كان يتوقع رفض الخليفة طلبه، ويعلم أن سيدة الملك لا تقبل خطبته من أول طلب، فتجاهل ونظر إلى الجليس وهو يظهر السذاجة وسلامة النية وقال: «إنما أرجو أن يطمئن مولانا أمير المؤمنين منذ الآن أنه ناج من كل شر ليرتاح خاطره ويسترجع صحته. هل أقنعته بذلك؟»
قال: «أكدت له عزمك وهو يعتقد اقتدارك على هذا الأمر لكنه.» وتشاغل بحك لحيته وقد ارتج عليه.
فابتدره أبو الحسن قائلا: «أود أنك لم تفاتحه بما كنا تحادثنا به البارحة من حيث ولاية العهد؛ لئلا يظنني أعلق أهمية على هذا الشرط. إني لم أعن اشتراطه، ولا جعلت نجاة الخليفة متوقفة على إنفاذه لكنني متى وفقت إلى إنقاذه لا أظنه إلا فاعلا ذلك من نفسه.»
فلم يصبر الجليس إلى إتمام كلامه فقاطعه قائلا: «بارك الله فيك، وهذا ما كنت أتوقعه من أريحيتك ولكنني صرحت بالأمر، و...»
فأسرع أبو الحسن قائلا: «ولا شك أن الأمر شق عليه؛ لأنه غريب على خاطره. ولكن هل ذكرت ذلك في جلسة سرية؟»
অজানা পৃষ্ঠা