قال: «إذا أطلعتني على شيء يخفف قلقي ضاعفت فضلك ولا يعلم به أحد، أعاهدك على ذلك.»
قال وهو يخفض صوته: «متى رضيت الدخول فإنهم يمتحنونك بأشياء لا يصبر عليها إلا الشجاع ثابت الجأش وأنت كذلك. لكنني أحببت أن أزيدك اطمئنانا، إن ما يظهر لك من تلك التجارب خطرا أو مستحيلا ليس هو في الحقيقة إلا ظاهرة لا طائل تحتها. وإنما يراد بها امتحان شجاعة الطالب. فمهما يطلب منك أن تعمله فاعمله ولا تخف. لا أقدر أن أفصح لك أكثر من ذلك.»
فقال عماد الدين: «يمتحنون شجاعتي؟ فليمتحنوا لأنني لا أبالي وأنت تعلم ذلك، ولكنني أحب أن أعرف شيئا آخر. هل تطلعني على حقيقته؟»
قال: «قل ما تريد لعلي أستطيع؟» قال: «كل ما أعرفه من أمر هذه الطائفة أن زعيمها راشد الدين رجل حكيم ذو كرامات، وأن أتباعه يطيعونه طاعة عمياء ويبذلون أنفسهم في طاعته. لكنني لا أعلم ما يناله أولئك الأتباع من المكافأة. وهل هم درجة واحدة أو درجات، فقد رأيت بعضهم كالخدم أو الجند وآخرين كالأمراء، وهذا دبوس كالملك، فما هو نظام هذه الطائفة أو الدولة؟ إنها غريبة في بابها!»
قال: «صدقت، إن نظامها غريب لم ينسج على منواله، ولا بأس من أن أقص عليك خبر هذا النظام باختصار. اعلم يا عبد الجبار أن جماعتنا هذه التي أرعبت العالم بتدبيرها وبسالة شبانها مؤلفة من طبقتين: الفدائيين، والمستنيرين. وفوقهما الزعماء وأصحاب الأسرار الحقيقية. وأول ما يدخل الإسماعيلي يكون فدائيا، فإذا استحق الرقي صار مستنيرا. أنا لا أزال إلى اليوم من الفدائيين (الفداوية).»
فقطع كلامه قائلا: «إذا دخلت أنا غدا، هل أكون مثلك؟»
قال: «نعم. لكنني الآن مرشح لنيل العهد فأصير مستنيرا عن قريب؛ لأن مهمتي التي ذهبت بها إلى بيت المقدس كانت آخر تجربة في سبيل الترقي، وقد جئت إلى هنا لكي أتلقى السر الجديد في طبقة المستنيرين.»
قال: «بماذا استحققت هذا الترقي؟»
قال: «استحققته بصدق الخدمة في مصلحة الجماعة وبذل النفس في سبيل الطاعة. ولا بد لكل فدائي أن يفعل ذلك قبل أن يصير مستنيرا. وأما أنت فأرجو أن يسرع ترقيك لأنك أهل لذلك بما فطرت عليه من المروءة وعلو الهمة. وليس في طلاب الانتظام كثيرون مثلك؛ ولذلك أرجو أن ترتقي على عجل.»
فأطرق عماد الدين (أو عبد الجبار) حينا يفكر في أمره وفي أصل مهمته وما خلفه وراءه في مصر من البواعث التي تقضي بسرعة عودته ولا سيما سيدة الملك. فإنها أصبحت منذ رجوع رسوله من عندها لا تبرح من باله. لكنه اطمأن عليها وهي في كنف صلاح الدين. ولحظ عبد الرحيم تفكيره فقال له: «لا حاجة إلى التردد، إن دخولك في هذا السلك أصبح أمرا مقضيا ولا بأس عليك منه. لكنني أحب أن تؤخره إلى مجيء المرسوم من دمشق بموت السلطان نور الدين وتتأكد كرامة إمامنا. وكن مطمئنا إلى أنك إذا عدلت عن الدخول فلن يصيبك أذى، ومولانا الشيخ الأكبر لا يقبل كل من يطلب الانضمام، وإذا شئت أن تتحقق قولي فتعال لأريك جماعة من أولئك الطلاب.» قال ذلك ونهض فتبعه عماد الدين وسارا إلى ساحة سمعا فيها عربدة وغوغاء بلغات مختلفة وغنات متفاوتة. ثم مشى به حتى أطل من وراء حائط على بقعة ازدحم فيها الرجال جماعات بين جلوس يتسامرون أو وقوف يتخاصمون. فقال عبد الرحيم: «انظر يا أخي. هؤلاء هم طلاب الدخول وأنت ترى الوحشية والعربدة وسفك الدماء في ملامحهم. وقد اشتهرت جماعتنا هذه بالفتك، فكل من يهون عليه قتل الأبرياء ويضيق به الرزق يأتي إلينا. ولكن غرضنا أسمى من ذلك وإن كنت إلى الساعة لم أطلع على سره الحقيقي. فهؤلاء يعدون بالعشرات كما ترى. وهم هنا منذ أيام لم يحفل الشيخ دبوس بهم.»
অজানা পৃষ্ঠা