وبعد قليل عاد الرسول وقد لطف لهجته وأشار إلى عماد الدين أن يدخل، فدخل من ذلك الباب تحت العقد الغليظ ومشى في ممر طويل متعرج سقفه معقود وأرضه من الصخر الخشن. وقد وقف إلى جانبيه الحراس بالحراب والسيوف كأنهم أصنام لا يتحركون. فهاله ذلك المنظر لكنه تشدد وتجلد وصمم على الصبر إلى النهاية.
سار في ذلك الممر مسافة وانتهى منه إلى منفذ يستطرق إلى ساحة حولها أبواب مغلقة، فأشار إليه الرسول أن يتبعه ففعل حتى وصل إلى باب منها فطرقه. ولما فتح تقدم الرسول إلى عماد الدين ودفع إليه كتاب التوصية، وتراجع وأشار إليه أن يدخل. فتقدم فرأى نفسه في حجرة ببابها حراس أشاروا إليه برءوس حراب بأيديهم أن يدخل فدخل. ثم وقف وتلفت فإذا هي غرفة واسعة قد فرشت بالسجاد وغطيت جدرانها بأنواع الأسلحة. وفي جوانبها ضروب من آلات العذاب كالقيود والأغلال. وحول جدرانها مقاعد من الحجر المنحوت في ذلك الصخر فوقها غطاء من جلد الدب والأسد. ولم يكن في تلك الحجرة حينئذ أحد غير الشيخ دبوس جالسا في صدر الحجرة على جانب من ذلك المقعد وعليه جبة تكسوه كله، وعلى رأسه عمامة خضراء كبيرة، فحياه عماد الدين وقال: «لعلي في حضرة الشيخ دبوس؟»
فأشار الشيخ برأسه أن «نعم.» وأومأ إليه أن يتقدم ويعطيه الكتاب ففعل، فتناوله وفضه وقرأه. ولما فرغ من قراءته أومأ إلى عماد الدين أن يجلس وهو يقول: «إن ولدنا عبد الرحيم يوصينا بك خيرا، تفضل يا عبد الجبار اقعد.»
فقعد على طرف المقعد وهو ينتظر ما يكون، فقال له دبوس: «يقول لنا عبد الرحيم إنك تطلب نعمة القربى من شيخنا وإمامنا راشد الدين.»
قال: «نعم يا سيدي، فهل هذا ميسور لي؟»
فأطرق يفكر ثم قال: «إنه ميسور على شروط.» قال: «وما هي يا سيدي؟» قال: «اعلم يا عبد الجبار أنك قبل كل شيء ينبغي أن تنقي قلبك وتصفي نيتك وتستسلم إلى هذا الأمر. هل أنت فاعل؟» قال: «نعم.»
قال: «احذر أن تخدع نفسك فإني لا أقدر أن أعرف خفايا قلبك، ولكن المولى الشيخ الأكبر لا تخفى عليه خافية. إنه فاحص القلوب، إذا نظر في عينيك عرف مكنونات قلبك. فإذا كنت في شك من نيتك واستسلامك فارجع من هنا ولا تعرض نفسك للخطر. إني أنصح لك بناء على ما قرأته في كتاب التوصية من الثناء على شجاعتك وصداقتك. وأما إذا كنت قد أوتيت النعمة وألهمت الانتظام في هذا السلك والحصول على العهد فقد ضمنت لنفسك الدنيا والآخرة. وأنا تاركك يوما كاملا تفحص فيه ضميرك وتخبرني بما يستقر عليه رأيك.»
فوقع كلام الشيخ من نفسه وقعا شديدا وغلب عليه التردد، وقام في اعتقاده صدق ما سمعه عن شيخ الجبل من استطلاع خفايا القلوب. ولكنه تجلد وأظهر الثبات في عزمه وقال: «إني على عزمي، وسأصبر يوما آخر على حسب أمرك وأجيبك.»
فهز رأسه استحسانا وقال له: «اخلع ما عليك من السلاح، وهات ما عندك من الأدوات أو النقود أو غيرها، تلك عادتنا في مثل هذه الحال، ولا يخامرك شك فيما أفعل فإن هذه الأشياء تبقى عندي باسمك.»
فعظم هذا الطلب عليه وعنده الجواهر. وقد شق عليه أن يفارق خنجره ويبقى أعزل فتوقف حينا ولم يجب.
অজানা পৃষ্ঠা