Sahih Al-Athar wa Jameel Al-Ibar min Seerat Khair Al-Bashar ﷺ
صحيح الأثر وجميل العبر من سيرة خير البشر ﷺ
প্রকাশক
مكتبة روائع المملكة
সংস্করণের সংখ্যা
الأولى
প্রকাশনার বছর
١٤٣١ هـ - ٢٠١٠ م
প্রকাশনার স্থান
جدة
জনগুলি
المملكة العربية السعودية
وزارة التعليم العالي
جامعة أم القرى
معهد البحوث العلمية
وإحياء التراث الإسلامي
صَحِيحُ الأثَر وجَمَيلُ العبر من سيرة خير البشر ﷺ
تأليف
د. محمد بن صامل السُّلَميُّ
أستاذ التاريخ الإسلامي المشارك
د. عبد الرحمن بن جميل قصَّاص
الأستاذ المشارك في قسم الدعوة
د. سعد بن موسى الموسى
أستاذ التاريخ الإسلامي المشارك
د. خالد بن محمد الغيث
أستاذ التاريخ الإسلامي المساعد
توزيع
مكتبة روائع المملكة
1 / 1
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
1 / 2
صَحِيحُ الأثَر وجَمَيلُ العَبر من سِيرَة خَيْر البَشَر ﷺ
1 / 3
جامعة أم القرى ١٤١٣هـ
فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية أثناء النشر
السلمي، محمَّد بن صامل
صحيح الأثر وجميل العبر من سيرة خير البشر ﷺ
محمَّد بن صامل السلمي- مكة المكرمة ١٤١٣هـ
٣٢٠ ص؛ ١٧×٢٤
ردمك: ٧ - ٩٥٢ - ٠٣ - ٩٩٦٠ - ٩٧٨
١ - السيرة النبوية
أ- العنوان
ديوي ٢٢٩
٦١٩٧/ ١٤٣١
رقم الإِيداع: ٦١٩٧/ ١٤٣١
ردمك: ٧ - ٩٥٢ - ٠٣ - ٩٩٦٠ - ٩٧٨
حقوق الطبع محفوظة
لمعهد البحوث العلمية وإحياء التراث الإسلامي
الطبعة الأولى
١٤٣١هـ- ٢٠١٠م
توزيع:
مكتبة روائع المملكة
المملكة العربية السعودية -جدة- ص. ب ١٩٨٠١ جدة ٢١٤١٤
تليفون: ٦٨٨٢٠١٣ - ٦٨٨٢٠١٧ فاكس: ٦٨٨٢٠١٨
البريد الإِلكتروني: rawaemamlaka@hotmail.com
1 / 4
راجع هذا الكتاب لجنة من أساتذة الجامعة هم:
١ - د. عابد بن محمَّد السفياني. عميد كلية الشريعة سابقا وعضو مجلس الشورى
٢ - د. عبد الله بن عمر الدميجي. عميد كلية الدعوة وأصول الدين سابقا
٣ - د. عبد الله بن حسين الشنبري رئيس قسم التاريخ والحضارة الإِسلامية
٤ - د. عبد العزيز بن عبد الله السلومي. أستاذ مشارك بقسم الدراسات العليا التاريخية
٥ - د. خالد بن عبد الله القرشي. رئيس قسم الدعوة سابقا
٦ - د. صالح بن عبد الله الفريح. وكيل كلية الدعوة وأصول الدين للدراسات العليا
1 / 5
المقدمة
الحمد لله رب العالمين الإِله الملك الحق المبين، والصلاة والسلام على إِمام المتقين وقدوة الناس أجمعين، رسول الله محمَّد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فهذا كتاب في السيرة النبوية وبيان أهميتها لحياة المسلمين، وحاجتهم بل وضرورتهم إِلى معرفتها والاهتداء بهدي صاحبها ﷺ، والاقتداء به وسلوك طريقته لبناء الجيل الذي يؤمل منه إِجادة صناعة الحياة الصحيحة، والعودة بالأمة إِلى سابق عهدها وسلفها الصالح، والخروج من المأزق الذي تعيشه.
فما أحوج أمة الإِسلام اليوم إِلى بناء النخبة وثُلّة النصر التي تفهم الرسالة، وتدافع أقدار الله بأقدار الله، وتؤسس للنهضة الحضارية بمفهومها الشمولي الصحيح كما صنع أسلافها من أصحاب نبينا ﷺ.
إِن البناء العقدي الإِيماني المؤسس على الحقائق والبراهين هو القاعدة التي عمل النبي ﷺ على ترسيخها طيلة فترة الرسالة، وكان الوحي يتنزل عليه مرة تلو الأخرى مؤكدًا على هذه الحقيقة لأن العقيدة هي نبع التربية، وميزان السلوك، وحجر الزاوية في الفكر والتوجه.
وعلى أساس البناء العقدي كان البناء السلوكي الأخلاقي والاجتماعي والاقتصادي والإِداري بل والسياسي تسير جنبًا إِلى جنب متكاملة ومتوازية في نسق واحد، جَمعٌ لشتات النفس، وتوجيه الهمّ ليكون همًا واحدًا، وبذلك نَمَت الأمة وتكاملت شخصيتها واشتد عودها، وأثمرت علمًا وأدبًا وحضارة باسقة البناء وارفة الظلال، بسطت أشعتها
1 / 7
ونور هديها على البشرية، فأخرجتها من ظلمات الجهل والظلم والاستكبار إِلى نور الحق والرحمة والعدل في أصدق معانيها وأجلى صورها.
وإِن دراسة السيرة بهذه المعاني العميقة والنصوص الواضحة ستضفي على دارسها الأمن والطمأنينة وسعادة الحياة، والرغبة المستمرة في الدراسة والتأمل في دلائلها وفوائدها مما يدفع للاقتداء والتأسي.
ومادة السيرة النبوية مادة تربوية سلوكية قبل أن تكون معرفية، ولهذا أقرها مجلس جامعة أم القرى ضمن متطلبات الجامعة في كل التخصصات اعتبارًا من العام الدراسي ١٤١٦/ ١٤١٧هـ، وقد أوصى مجلس الجامعة بتأليف كتاب ليكون مقررًا في المادة يحقق أهداف تقريرها ويشمل مفرداتها، ومن ثم صدر قرار معالي مدير الجامعة المؤرخ في ٧/ ١٠ /١٤٢٥ هـ بتكليف عدد من المتخصصين في السيرة النبوية من قسم التاريخ والحضارة الإِسلامية بكلية الشريعة والدراسات الإِسلامية، والمتخصصين من قسم الدعوة في كلية الدعوة وأصول الدين بتأليف الكتاب، كما تضمن القرار تكليف لجنة لمراجعة الكتاب. وأتمت اللجنتان عملهما من تأليف الكتاب ومراجعته -ولله الحمد-.
وقد جرى تقسيم الكتاب إِلى تمهيد وخمسة فصول. عني التمهيد ببيان أهداف دراسة السيرة النبوية ومصادرها وأقسامها، وجملة من فوائد دراستها ذات الارتباط بمقاصد الشريعة وأحوال المتعبدين، عسى أن تكون مساعدة في البناء التربوي للأمة وإخراج الجيل الحاضر من مشكلاته وتوجهاته المتشعبة، والعودة به إِلى المصدر الحق والمنبع الصافي (الكتاب والسنة) وسيجد فيهما الهدى والشفاء لكل العلل والأمراض التي أصابته إِذا أخلص النية ووحّد المقصد، وارتفع عن الشهوات الهابطة وتحرر من الأفكار الوافدة، واهتم بمعالي الأمور، وما السيرة النبوية إِلا تطبيق عملي للوحي المنزل على رسول الله ﷺ.
1 / 8
كما تم الحديث في التمهيد -بإِيجاز- عن جغرافية جزيرة العرب وأقسامها وأحوالها قبيل البعثة النبوية، وعن حرمة مكة المكرمة وما أحاطها الله به من القداسة، وعن أصول العرب وقبائلهم وأحوالهم السياسية والدينية والاجتماعية.
أما الفصول الخمسة: فقد تتبعت السياق التاريخي لأحداث السيرة النبوية فيما قبل البعثة، ثم العهدين المكي والمدني بعد النبوة والرسالة بإِجمال في الأحداث واهتمام بالدروس والعبر. فكان الفصل الأول: عن الرسول ﷺ من مولده إِلى بعثته، حيث ختم الفصل ببيان بعض إِرهاصات النبوة وبشائر الخير التي وقعت قبل نزول الوحي عليه.
أما الفصل الثاني: فخصص للحديث؛ عن العهد المكي: من البعثة والرسالة إِلى الهجرة إِلى المدينة النبوية.
والفصل الثالث: كان الحديث فيه عن الهجرة النبوية إِلى المدينة، وترتيب أوضاع المدينة، وبناء المؤسسات، وتنظيم أحوال المجتمع.
وخصص الفصل الرابع: للحديث عن الجهاد النبوي المتمثل في المواجهة مع المشركين من خلال السرايا وعقد المعاهدات والغزوات وما تخللها من مواقف.
وكان الفصل الخامس: عن انتشار الإِسلام ودخول الناس في دين الله أفواجا بفتح مكة وتتابع الوفود من قبائل العرب على رسول الله ﷺ في المدينة وخاصة في العام التاسع وما تبع ذلك من أحداث ثم حجة الوداع ووفاة النبي ﷺ، وختم الفصل بصفات النبي ﷺ وأخلاقه وشمائله، وتعريف موجز بزوجاته أمهات المؤمنين الطاهرات، وحكمة تعددهن.
وقد كتب التمهيد والفصل الأول وبعض الفصل الثاني حتى الجهر بالدعوة، الدكتور: محمَّد بن صامل السلمي، وكتب بقية الفصل الثاني والفصل الثالث الدكتور:
1 / 9
عبد الرحمن بن جميل قصاص، وكتب الفصل الرابع الدكتور: خالد بن محمَّد الغيث، وكتب الفصل الخامس الدكتور: سعد بن موسى الموسى.
هذا وقد قامت لجنة المراجعة بعملها حيث قدم كل عضو تقريرا منفصلًا، وقد أخذت لجنة التأليف بملاحظاتهم القيمة وتصويباتهم.
ولقد حرصنا في هذا الكتاب على الاستشهاد بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية الصحيحة، والروايات المعتمدة في أحداث السيرة النبوية لأن البناء العلمي والتربوي لا بد أن يكون مؤسسًا على نصوص صحيحة، ومصادر موثوقة حتى يصح التأسي والاقتداء.
ونسأل الله ﷾ أن ينفع بهذا الكتاب وأن يجعله من العمل الخالص لوجهه إِنه سميع مجيب.
المؤلفون
ربيع الأول ١٤٢٨ هـ
1 / 10
قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ سورة الأحزاب آية ٢١.
عن أبي هريرة ﵁ أن رسول الله ﷺ قال: ... وددتُ أنا قد رأينا إِخواننا، قالوا: أو لسنا إِخوانك يا رسول الله؟ قال: أنتم أصحابي، وإِخوانُنا الذين لم يأتوا بعد ... الحديث.
(رواه مسلم في صحيحه كتاب الطهارة، باب استحباب إِطالة الغرة ح ٢٤٩).
عن أبي هريرة ﵁ عن النبي ﷺ قال: وليأتين على أحدكم زمان لأن يراني أحب إِليه من أن يكون له مثل أهله وماله.
(صحيح البخاري، كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإِسلام ح ٣٥٨٩).
1 / 11
التمهيد
تعريف السيرة النبوية
السيرة لغة
السيرة: الطريقة يقال سار بهم سيرة حسنة. والسيرة الهيئة وفي التنزيل الكريم: ﴿سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى﴾ (١). وسَيّر سِيرة: حدّث أحاديث الأوائل (٢).
السيرة اصطلاحًا
في الاصطلاح: لها دلالات متنوعة، فقد تكون مرادفة لمعنى السُّنة عند علماء الحديث، وهو ما أضيف إِلى النبي ﷺ من قول أو فعل أو تقرير أو صفة.
كما تعني السنة طريقة النبي ﷺ وهديه عند علماء العقيدة وأصول الدين، وهو من معاني السيرة. أما علماء التاريخ؛ فالسيرة عندهم هي: أخباره ومغازيه ﷺ.
وهذه الدلالات والمعاني ليست متضادة إِنما هي متنوعة ومتكاملة وبهذا نستطيع أن نقول في تعريف السيرة النبوية اصطلاحًا: في دراسة حياة النبي ﷺ وأخبار أصحابه على الجملة، وبيان أخلاقه وصفاته وخصائصه ودلائل نبوته، وأحوال عصره.
فالسيرة النبوية تشمل كل ما يتعلق بالنبي ﷺ، وأحوال عصره، وأخبار أصحابه، لأن السيرة هي: فعله- ﷺ وإِقراره لفعل أصحابه ﵃ (٣).
_________
(١) سورة طه، آية (٢١).
(٢) لسان العرب، مادة سير ٤/ ٣٩٠.
(٣) ابن تيمية، مجموع الفتاوى ٧/ ١٨.
1 / 12
أهداف ومقاصد دراسة السيرة النبوية
إِن دراسة السيرة النبوية ليست كدراسة سيرة بطل من الأبطال فحسب- وإن كان هو ﷺ بطل الأبطال- فلا تُقْرأ وتتعلم لأجل المعرفة وإشباع رغبة حب الاستطلاع وزيادة الرصيد المعرفي فقط وإِنما تدرس لأهداف ومقاصد عظيمة نشير إِلى بعضها:
١ - معرفة مقاصد الشريعة وأحوال المتعبدين
وذلك للبحث فيها عن الهدى والصراط المستقيم ومرضاة رب العالمين، لأن السيرة مصدر من مصادر التشريع ومنهج لحياة كل مسلم ومسلمة، ولابد أن يدرك القارئ للسيرة النبوية أهميتها التربوية والتشريعية والاجتماعية والإِدارية والسياسية، لأنها تطبيق عملي لنصوص الوحي في كافة مناحي الحياة ألإِنسانية.
٢ - تحصيل الدروس والعبر
إِن السيرة العطرة مليئة بالدروس والعبر التي لا يدركها إِلا من تعلمها بقصد الاتباع لصاحبها ﵊، والتربية على مقاصدها وعبرها، فهي مادة تربوية سلوكية تبني الشخصية السوية المتكاملة وتقوِّم السلوك المعوج.
ولذا فإِنه يجب على العلماء والمربين الاعتناء بدراسة السيرة النبوية، والحرص على ما صح من أخبارها حتى يحصل التأسي والمتابعة على الوجه الصحيح. وإِن المناهج التربوية والدعوات الإِصلاحية يجب أن تقتبس من هدي المصطفى ﷺ، وتلتزم به اعتقادًا وسلوكًا ومنهج تفكير، وتأخذ من التجارب الناجحة ما لا يتعارض مع الأدلة الشرعية.
٣ - الاطلاع على مآثر جيل الصحابة وكيف تحققت لهم السيادة والريادة
السيرة النبوية معين لا ينضب وتراث لا يبلى لكل من رجع إِليها وتأدب بأدبها واقتبس من مشكاتها وقد فقه الصحابة ﵃ هذه المعاني في السيرة، وأدركوا أهميتها، فكانت مع القرآن الكريم هي منهج التربية للأجيال ومادة البناء الفكري والسلوكي،
1 / 13
ومحط الاهتمام والعناية. يقول علي بن الحسين زين العابدين (١): كنا نعلّم مغازي رسول الله ﷺ كما نُعلّم السورة من القرآن (٢) وكان إِسماعيل بن محمَّد بن سعد بن أبي وقاص يُحَفِّظ أبناءه مغازي رسول الله ﷺ وَيَعُدّها عليهم، ويقول: "هذه مآثر آبائكم فلا تضيعوا ذكرها" (٣).
وبهذا المنهج العالي كان جيل الصحابة رضوان الله عليهم، ثم التابعون، أرقى أجيال الأمة وأقواها علمًا وعملًا وأثرًا في واقع الحياة وبناء الحضارة، فكانوا قادة وسادة، معتزين بمنهجهم، مؤثرين في غيرهم غير متأثرين، فقد حققت السيرة النبوية للجيل الأُول السيادة والريادة في كل الميادين الخيرة النافعة، ونشروا العدل والأُمن والإِسلام في كل بلد وصلوا إِليه، وانتشر فيه نور الحق.
وقد تحققت السيادة والريادة للجيل الأول عندما صدق في التأسي والمتابعة للرسول ﷺ، فتمكن من التطبيق الواقعي لنصوص القرآن والسنة، ولا بد لاستئناف الحياة الإِسلامية الصحيحة من تمثل السيرة النبوية في الواقع المعاش على مختلف المستويات، وفي كل المواقع والنواحي، وأن تكون دراستنا للسيرة النبوية بهذه المعاني العميقة، والنظرة الشاملة، والفقه الواعي، حتى نصنع جيل النهضة، وثلة النصر، وقاعدة التمكين للأمة.
٤ - تحصيل القدوة والتأسي بالنبي ﷺ
جعل الله في سيرته وتصرفاته ﷺ تنوعًا وشمولًا لكل جانب من جوانب الحياة
_________
(١) علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، كان مع والده الحسين ﵁ يوم قتل بكربلاء، شابًا، مريضًا، ولذلك لم يقتل، له ترجمة حافلة في الطبقات الكبرى (٥/ ٢١١) وقال: كان ثقة مأمونًا كثير الحديث عاليًا رفيعًا ورعًا، مات بالمدينة سنة ٩٤ هـ ودفن بالبقيع.
(٢) ابن كثير، البداية والنهاية ٣/ ٢٤٢.
(٣) الخطيب البغدادي، الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع ٢/ ١٩٥.
1 / 14
ومواقفها المتغيرة، لتكون مساحة الاقتداء والتأسي واسعة وشاملة لكافة القدرات البشرية بفروقها الفردية وسجاياها الفطرية.
فالرسول ﷺ قدوة لكل المسلمين على مختلف عصورهم، وتعدد مواقعهم الجغرافية، وأحوالهم العلمية، ومراكزهم الإِدارية. قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (٢١) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا﴾ (١).
قال الحافظ ابن كثير (٢): هذه الآية أصل كبير في التأسي برسول الله ﷺ في أقواله وأفعاله وأحواله، ولهذا أُمِر الناس بالتأسي بالنبي ﷺ يوم الأحزاب، في صبره ومصابرته ومرابطته ومجاهدته وانتظاره الفرج من الله ﷿، قال تعالى- للدَّين تقلقلوا وتضجروا وتزلزلوا واضطربوا- في أمرهم يوم الأحزاب- ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ أي: هلا اقتديتم به وتأسيتم بشمائله؟
ثم قال ﷿ مخبرًا عن عباده المؤمنين المصدقين بموعود الله لهم، وجعله العاقبة حاصلة لهم في الدنيا والآخرة-: ﴿وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ﴾ (٣) أي هذا ما وعدنا الله ورسوله من الابتلاء والاختبار والامتحان الذي يعقبه النصر القريب، والمراد كما قال ابن عباس ﵄، وقتادة: قوله تعالى في سورة البقرة: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ (٤).
_________
(١) سورة الأحزاب، آية ٢١ - ٢٢.
(٢) تفسير القرآن العظيم ٦/ ٣٩١.
(٣) سورة الأحزاب آية ٢٢.
(٤) سورة البقرة آية (٢١٤).
1 / 15
فالآية الآمرة بالتأسي بالرسول ﷺ نزلت بمناسبة غزوة الأحزاب حين رمى أهل الشرك والكفر المسلمين عن قوس واحدة وتحزبوا عليهم، حيث زلزلت النفوس وبلغت القلوب الحناجر، وكاد أن يهتز الاقتداء لتأخر النصر، فجاءت لتؤكد أن الاقتداء يكون في مواطن الشدة والصبر، والبأس والضيق، ومؤشرات فوت الحياة الدنيا كما يكون في اليسر، وتبين أن الارتباط بالآخرة هو سبيل الصمود والحماية من السقوط، فالاقتداء يكون في اليسر والعسر وعلى كل الأحوال.
وإِن قيمة الاقتداء وفائدته وعطاءه، وعظيم ثوابه إِنما يكون في العزائم والقضايا الكبيرة التي قد يُمتحن صاحبها في صدق إِيمانه وقوة يقينه، فتفوته بعض النتائج في الدنيا ويخسر المعركة، لكن الاقتداء يحميه ويحول بينه وبين السقوط، ويرتفع به من الوقوف عند النتائج القريبة إِلى إِبصار العواقب والمآلات، ذلك أن نقطة الارتكاز في الاقتداء هي رجاء اليوم الآخر، واستمرار ذكر الله الذي يُجَلِّي هذه الحقيقة ويؤكد حضورها واستمرارها (١).
٥ - التكامل والشمول في فهم النصوص الشرعية واحترام نصوصها الصحيحة الثابتة
لقد يسر الله لهذه السيرة من يقوم على حفظها والعناية بأدق تفاصيلها حتى كأنك تنظر إِلى صاحبها ﷺ وأحواله رأي العين، والتاريخ شاهد على أنه لا توجد سيرة في الدنيا مثل سيرته ﷺ من الوضوح والكمال والصدق.
يقول الأستاذ سليمان الندوي: إِن حياة العظيم الذي يجدر بالناس أن يتخذوا منها قدوة لهم في الحياة ينبغي أن تتوافر فيها أربع خصال:
_________
(١) عمر عبيد حسنة، مقدمة السيرة النبوية قراءه لجوانب الحذر والحماية ص ٣١.
1 / 16
(١) أن تكون تاريخية، أي أن التاريخ الصحيح الممحص يصدقها ويشهد لها.
(٢) أن تكون جامعة، أي محيطة بأطوار الحياة ومناحيها وجميع شؤونها.
(٣) أن تكون كاملة، أي متسلسلة لا ينقص فيها شيء من حلقات الحياة لذلك العظيم.
(٤) أن تكون عملية، أي أن الدعوة إِلى الفضائل والمبادئ والواجبات بعمل الداعي وأخلاقه لا بمجرد قوله، وأن يكون كل ما دعا إِليه بلسانه قد حققه بسيرته، وعمل به في حياته الشخصية والعائلية والاجتماعية، وبهذا تكون أعماله مُثلًا عُليا للناس يتأسون بها (١).
٦ - اتخاذ السيرة النبوية منهجًا معياريًا
إِن السيرة النبوية ليست مجرد حوادث تاريخية تؤخذ منها العبر والعظات فحسب، وإِنما هي فوق هذا كله، تجسيد عملي للوحي الذي يُقتدى به، وهي منهج واضح يهتدى بهداه، وصراط مستقيم يُسلك ويُتبع، لأنها منهج معياري غير خاضع لحدود الزمان والمكان وإِنما تقاس إِليه الأعمال والمواقف، وتُعَاير عليه الاجتهادات والآراء وتوزن بميزانه الحق.
يقول الدكتور فاروق حمادة: السيرة النبوية تجسيد حي لتعاليم الإِسلام كما أرادها الله تعالى أن تطبق في عالم الواقع، فتعاليم الإِسلام لم تنزل لتحصر بين جدران المساجد وداخل أروقة بيوت العلم الشرعي وكلياته، بل تنزلت من الحكيم العليم لتكون سلوكًا إِنسانيًا ومنهجًا حياتيًا يعيشها الفرد المسلم في نفسه وشخصه، ويدركها في واقعه ومجتمعه، وَيَشِبُ عليها فتصبح جزءًا لا يتجزأ من كيانه، ويتصرف على هديها في كل صغيرة وكبيرة، وفي كل موقف وشأن.
_________
(١) سليمان الندوي، الرسالة المحمدية ص ٦٨
1 / 17
فالمبدأ النظري يُرى ماثلًا قائمًا في شخص صاحبه، وهذا ما نجده في السيرة النبوية، حيث كان رسول ﷺ يُجسِّد تعاليم الإِسلام كما أرادها الله تعالى أن تطبق في عالم الأحياء والبشر، وذلك في جميع أحواله وظروفه، نومًا ويقظة، سِلْمًا وحربًا، جِدًا ومداعبة، غَضَبًا ورضا، فردًا وجماعة (١).
وتظهر شخصية النبي ﷺ من خلال السيرة النبوية في الصورة المشرقة للإِنسان الذي يمارس إِنسانيته بكل أبعادها، ويتفاعل مع الواقع بكل معطياته. وندرك أن محمدًا ﷺ الإِنسان -بكل نوازع الإِنسان- قد تربع قمة التسامي الإِنساني وهو المثل الأعلى الحق للبشرية جميعًا. كما يدرك الدارس للسيرة النبوية التلازم والتطابق الذي لا ينفصم بين القول والعمل، والمبدأ والسلوك في شخصيته ﷺ، فلا يأمر الناس بالبر وينسى نفسه، بل هو أول ملتزم ومطبق للأمر ولو كان وحده، ولقد اهتدى بهذه السيرة الكريمة العطرة واستدل بها على صدق نبوته ورسالته عدد غير قليل في حياته وبعد وفاته ﷺ من العظماء والكبراء، وآحاد الناس وعامتهم، ومنهم الجُلندَى ملك عُمان (٢)، فقد قال لعمرو بن العاص عندما جاءه برسالة من النبي ﷺ: والله لقد دلني على صدق هذا النبي الأمي أنه لا يأمر بخير إِلا كان أول آخذ به، ولا ينهى عن شيء إِلا كان أول تارك له، وأنه يَغلِبُ فلا يَبطر، ويُغلَب فلا يهجر، ويفي بالعهد، وينجز الوعد، وأشهد أنه نبي (٣).
فهذه القمة الرفيعة من الإِنسانية في شخص محمد ﷺ، والتي كانت تدرج على الأرض، وتسير في فجاجها، عندما تقدم للإِنسان على اختلاف زمانه ومكانه، ودينه
_________
(١) مصادر السيرة النبوية وتقويمها ص ٢٠
(٢) الجلندي- بضم أوله وفتح اللام وسكون النون وفتح الدال- ابن عبد جمل الأزدي ملك عمان زمن البعثة النبوية، وخلفه من بعده ابنه جيفر (انظر ترجمته في الإِصابة لابن حجر ١/ ٥٣٨)
(٣) المصدر نفسه ١/ ٥٣٨ ونسبه عن وثيمة في كتاب الردة عن ابن إسحاق.
1 / 18
ولغته، تقديمًا صحيحًا غير مشوبة بأساطير وخرافات المحبين الجاهلين، وغير مشوهة بتحليلات الجاحدين والمنكرين، بل تقدم حَيّةً نابضة يراها القارئ وكأنه يعيش أحداثها دون حجب التعصب، أو غشاوة العاطفة الجاهلة، لا شك أنها ستستهوي القلوب، ويرى فيها أي شخص إِنسانيته التي يحن إِليها، لأن النفوس السليمة جبلت على التسامي والتعلق بالمثل الأعلى، وقد كان في قدر الله أن يكون محمَّد ﷺ مظهرًا للكمال الإِنساني، وطُلِب من الناس أن يسعوا إِليه ويحاولوا التخلق بأخلاقه، ومحاكاة سلوكه لأن هذه هي الأخلاق المرضية الكاملة عند الله تعالى (١).
النطاق الزماني للسيرة النبوية
البعثة المحمدية هي خاتمة الرسالات كما قال تعالى: ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّين .... الآية﴾ (٢).
ورسالته عامة لجميع الإِنس والجن، كما أن شريعته ناسخة لجميع شرائع الرسل فلا يقبل الله من أحد غير شريعته ﷺ، وهي تأتي حسب التسلسل التاريخي آخر النبوات.
والسيرة النبوية في نطاقها الزماني هي من ولادته ﷺ عام الفيل وحتى وفاته في الثاني عشر من شهر ربيع الأول من السنة الحادية عشرة من الهجرة النبوية، وجملتها ثلاث وستون سنة قمرية ويوافقها في التاريخ الميلادي من «٥٧١ م- ٦٣٢ م» (٣)
والنبوات جميعًا تمثل وحدة تاريخية ذات حلقات متعددة، والأنبياء وأتباعهم أمة واحدة، لها سمات مشتركة، والتاريخ الإِسلامي بهذا المفهوم ليست بدايته من بعثة محمَّد ﷺ كما قد يظن البعض، وإِنما بدايته الحقيقية من هبوط آدم وحواء إِلى هذه
_________
(١) انظر: مصادر السيرة النبوية وتقويمها ص ٢١ - ٢٣ (بتصرف يسير)
(٢) سورة الأحزاب، آية٤٠.
(٣) راجع: "التقويمان الهجري والميلادي"، تأليف فريمان، وجرنفيل، ترجمة حسام الدين القدسي.
1 / 19
الأرض مسلمين لله رب العالمين فإِن آدم أبا البشر ﵊ "نبي مكلم (١) " واستمرت ذريته عشرة قرون كلهم على التوحيد، كما ثبت بذلك الخبر عن ابن عباس ﵄ (٢).
ثم لما وقع الانحراف في التوحيد وظهر الشرك في البشرية، بعث الله نوحًا ﵊ ليجدد معالم التوحيد، ويعيد المشركين إِلى الحق، ثم تتابعت الرسل والأنبياء يدعون إلى عبادة الله وحده واجتناب الطاغوت كما قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ (٣)
فأصل الدين واحد، وهو التوحيد الذي هو إِفراد الله بالعبادة، أما الشرائع فهي متنوعة كما قال ﵊ "أنا أولى الأنبياء بعيسى بن مريم في الأولى والآخرة، والأنبياء إِخوة من عَلّات، أمهاتهم شتى، ودينهم واحد، وليس بيننا نبي" (٤) ومنذ وقوع الشرك في القوم الذين بُعث إِليهم نوح ﵊ انقسمت البشرية من حيث العقيدة إِلى أمتين اثنتين:
- أمة مسلمة مُوحِّدة.
- أمة كافرة مُشْرِكة.
وكل الذين صَدّقوا الرسل واتبعوهم من آدم ﵊ إِلى محمَّد ﷺ
_________
(١) الخطيب التبريزي، مشكاة المصابيح ٣/ ١٢٧٥ ح رقم ٥٧٣٧ وقال رواه أحمد. وصححه الشيخ الألباني في تعليقه على الشكاة.
(٢) رواه ابن جرير في التفسير ٤/ ٢٧٥ والحاكم في المستدرك ٢/ ٥٤٦ وصححه، وانظر تفسير ابن كثير عند قوله تعالى: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ﴾ (١/ ٣٦٤).
(٣) سورة النحل، آية ٣٦.
(٤) صحيح البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، ح رقم ٣٤٤٣ والإِخوة من عَلاّت: هم أبناء الرجل الواحد من نساء شتى.
1 / 20
هم المسلمون، ويمثلون أمة واحدة، وإِن اختلفت أوطانهم ولغاتهم وتباعدت أزمانهم واختلفت شرائعهم، كما قال تعالى بعد ذكر جملة من الأنبياء: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾ (١) فأتباع الرسل أمة واحدة، وهي أمة التوحيد، وحزب الرحمن، وأهل الحق والأِيمان، وهم المسلمون.
أما الذين كذبوا الرسل فهم أمة الكفر والضلال، وهم حزب الشيطان، وهم أمة واحدة مهما اختلفت أوطانهم ومذاهبهم وأزمانهم، فإِن السَّمة الجامعة لهم هي الشرك وعبادة غير الله.
وهذا المفهوم يوضح منزلة السيرة النبوية بين سير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وإِن كان نطاقها الزماني محدودًا بحياة النبي ﷺ من الولادة حتى الوفاة، فهي امتداد لسير الأنبياء قبله، واستمرار لتاريخ أمة الإِسلام المهتدين بهديه من بعده حتى قيام الساعة.
النطاق المكاني للسيرة النبوية
بُعث النبي ﷺ في مكة بلد الله الحرام، وفيها بيته المعظم الذي رفع قواعده إِبراهيم الخليل وابنه إِسماعيل جَدُّ العرب، والنبي ﷺ من أهلها وقد ولد ونشأ فيها، ومكة يومئذ حاضرة الجزيرة العربية الكبرى، ولها مكانة دينية عندهم حيث يحجون إِليها كل عام، ثم هاجر ﷺ إِلى المدينة النبوية بعد ثلاث عشرة سنة من النبوة، وفيها أسس بناء دولة الإِسلام، وابتدأ الجهاد حتى فتح مكة وما حولها، ثم أتته الوفود مُسْلِمة ومستسلمة في العام التاسع من الهجرة، ولم ينتقل إِلى الرفيق الأعلى حتى كانت الجزيرة كلها خاضعة لسلطان الإِسلام، وأهلها إِما مسلمون، وإِما معاهدون مسالمون، والرسول ﷺ هو أول من جمع الجزيرة العربية بكاملها في وحدة واحدة، وحدة فكرية عقدية، ووحدة سياسية
_________
(١) سورة الأنبِياء آية ٩٢.
1 / 21