تمهيد
الصحافة قبل الدستور في العهد العثماني
الصحافة بعد الدستور
الصحافة في خلال الحرب العالمية الأولى
صحافة الثورة العراقية سنة 1920
الصحافة بعد تأسيس الحكومة العراقية
صحافة الأحزاب في العراق
صحافة الهزل والنقد
حرية الصحافة في العراق
ملاحق
تمهيد
الصحافة قبل الدستور في العهد العثماني
الصحافة بعد الدستور
الصحافة في خلال الحرب العالمية الأولى
صحافة الثورة العراقية سنة 1920
الصحافة بعد تأسيس الحكومة العراقية
صحافة الأحزاب في العراق
صحافة الهزل والنقد
حرية الصحافة في العراق
ملاحق
الصحافة في العراق
الصحافة في العراق
تأليف
رفائيل بطي
تمهيد
سأحاول في هذه المحاضرات أن ألم إلماما وافيا بنشأة الصحافة في العراق وتطورها، وما كان لها من الآثار في صفحات الحياة في العراق من سياسة واجتماع وأدب. وبديهي أن نتناول الموضوع من ناحية الاستعراض وسرد الوقائع بما يقتضيه البحث العلمي الصرف من حياد ودقة.
وتاريخ الصحافة لكل شعب يمثل جانبا من حياة ذلك الشعب في الحقبة التي وجدت فيه صحافته، وتتجلى أهمية هذا التاريخ في واقع الحركة التعليمية في العالم الذي سبقنا في هذا المضمار، حيث وجدت له صحافة؛ ففي أمريكا مثلا، وضعت مادة تاريخ الصحافة في منهج المدارس المعنية بهذه الشئون منذ سنة 1869، بينما أخذوا في تدريس الفن الصحفي في عهد متأخر ليس أبعد من سنة 1908 عندما أسست أول مدرسة للصحافة في كولومبيا.
وقد تكونت عندي فكرة منذ زمن بعيد، أن تاريخ الصحافة العربية يصور بعض مظاهر اليقظة ودرجات النهوض للعالم العربي.
هذه الحقيقة تنطبق على كل قطر عربي.
ينحصر نطاق بحثنا في محاضرات الفصل الدراسي الحالي في: نشوء الصحافة في العراق بظهور أول جريدة بمعناها الصحفي سنة 1869، وننظر بعدها في صحافة العهد العثماني؛ أي قبل أن ينفصل العراق عن تركية، ونحيط بطور الصحافة التي خلقها الجيش البريطاني المحتل، والصحف التي صدرت في ظل حكومة الاحتلال البريطانية.
ونجلو صحافة الثورة العراقية سنة 1920.
ثم نأخذ في استعراض حال الصحافة منذ تأسيس مملكة العراق الحديثة سنة 1921، ولا سيما صحف الأحزاب السياسية.
ونلتفت إلى تنوع الصحف الأدبية والعلمية وغيرها من المجلات المختصة بالعلوم والفنون وأساليب الكتابة الصحفية ومشاركة المرأة؛ إلى غير ذلك مما يتصل بموضوعنا. ولا بد من أن نصف العمل الصحفي وحالة الصحافة من وجوهها المهنية والمادية وصفا يوصلنا إلى إدراك المرحلة التي قطعها العراق في هذا الميدان.
كما أننا سنخص حرية الصحافة في وادي الرافدين ببحث واف. أما الفترة التي نتحدث عنها فتبتدئ بميلاد الصحافة في العراق وتنتهي بنشوب الحرب العالمية الثانية سنة 1939.
كنت أود، عملا بطريقة التعليم الجامعي، أن أفتتح محاضراتي باستعراض المراجع التي تستقون من ينابيعها متابعتكم هذه الأبحاث. ولكن المؤسف أن الموضوع بكر فيما يختص بصحافة العراق؛ فلم يتقدم أحد إلى معالجة هذه الناحية من نهضتنا الفكرية معاجلة علمية، والتوفر لدراستها بما تستحقه خطورتها. وغاية ما نجد بين أيدينا بضع مقالات ضئيلة المادة أذيعت في صحف ومجلات في العراق أو الخارج، اكتفى معظمها بسرد أسماء الصحف لبعض الفترات من الزمن، وأسماء أصحابها وهم في الغالب محرروها. وقد جمعت رسالة طبعت في بغداد سنة 1935 فهارس الصحافة التي ظهرت إلى ذلك اليوم. وكل ما نشر في هذا الباب لم يزد كثيرا على ما ورد عن العراق في الفهرس العام الذي جعله الفيكونت فيليب دي طرازي المجلد الرابع من كتابه «تاريخ الصحافة العربية» المطبوع سنة 1933.
أوائل الصحافة
اعتاد الذين يؤرخون للصحافة عند كل أمة أن يرجعوا تاريخ الصحافة إلى عهد سحيق جدا من العصور القديمة. وإني لأقتصر على الإلمام إلى ما يخص العراق منها.
سجل الباحث الفرنسي ده شامبور
A. De Chambure
في كتابه عن الصحافة، أثر العراق في هذا المجال، ذاكرا عن يوسيفوس المؤرخ يؤكد أنه قد كان للبابليين صحف تسجل فيها الحوادث يوما فيوما.
1
ولا بدع في هذا الرأي؛ فقد حدثنا التاريخ بأن الملك حموربي - العربي النجار في مذهب بعض المحققين - كان يذيع أوامر عماله وموظفي مملكته في الأقاليم بأن يحضروا إلى بابل احتفاء بموسم جز الغنم، وهو من أعيادهم، وصدف في إحدى السنوات أن الشهر القمري لم يوافق الموعد الشمسي المعين لجز الغنم، فأذاع الملك في ممثليه كلهم موعزا إليهم بأن يسموا الشهر المذكور أيلول الثاني، وهذا نوع من المراسيم الملكية قد نشرت عندئذ في لون من «الوقائع العراقية».
وإذا كان عماد العمل الصحفي في هذا العصر الدعاية للسياسات والأفكار والمبادئ، فقد وجدت في ودائع خزانة الإمبراطور آشور بانيبال في نينوى سجلات مفصلة ومنسقة بحسب تواريخها وحوادثها، ولا سيما ما اتصل بحروب الملوك وفتوحهم وما شيدوه وعمروه. ويرى المؤرخ بريستد أن معظم تلك الأخبار - كأكثر الأخبار الرسمية - كان يقصد بها إلى نشر دعوة أو ترويج لمبدأ، بحيث يفهم معاصروهم أن ليس هناك قوة تستطيع أن تقارعهم.
وهذا يقر في أذهاننا أن سكان العراق القدماء كانت لهم صحافتهم على تلك الطريقة. ونجد صحيفة من هذه الصحف الخالدة تحوي جانبا من «قصة الطوفان» مكتوبة على رقم الطين المشوي في المتحف البريطاني بلندن. وقد أخذت من المكتبة الإمبراطورية المشيدة قبل ما يزيد على الألفين والخمسمائة سنة.
ومن أحدث ما كشفت عنه مديرية الآثار في بغداد في أيامنا، وهي تنقب في أطلال عقر قوف، رقم من الطين المشوي مقسم إلى اثني عشر جدولا يبين أسماء الأشهر البابلية الاثني عشر مبتدئا بنيسان (أبريل) معرفا كل يوم من حيث السعد والنحس وما يجب على الشعب عمله، وهذا أشبه ما يكون بما تذيعه الصحف في هذه الأعوام من بلاغات وزراء الداخلية في تطبيق القوانين والمراسيم المختصة بالأمن وسلامة الدولة، أو بيانات وزراء الاقتصاد والتموين حول المواد المعاشية وبيعها وشرائها.
وللآشوريين في هذه الصحافة الحجرية أو الطينية سبق آخر، فهم أول من ابتدع الصحافة المصورة، فكانوا يرقمون حوادث انتصاراتهم وبجانب الرقم يصورون بالألوان صور الأسرى من ملوك ورعايا، بينها بعض مشاهد تصور التمثيل بهم، ويعرضونها في قصورهم وأبهائهم العامة وشوارعهم الكبرى، ويلقى المرء نماذج من هذه الرقم المصورة في متحفي بغداد ولندن.
وقد اجتازت الصحافة أطوارا قبل اختراع المطبعة، حيث كانت تلقى الأخبار والآراء مشافهة ثم طفق أصحابها ينسخون هذه الأحاديث، وهي مرحلة الصحف الخطية في تاريخ الصناعة، وللشعوب العربية ومنها العراق تاريخ طويل عريض في الرواية وتناقل الأشعار.
كما أن الصحافة السياسية والمصاولات الحزبية في أنهر الجرائد في هذا العصر قد تجسمت بشكل بارز فيما هدرت به ألسنة الشعراء من المفاخرة والمنابزة والهجاء والمنافحة عن القبائل والأسر، بل هناك من استخدم إنشاد الشعر العربي للإعلان التجاري.
وإذا كانت الصحافة الخطية قد شاعت في إيطاليا في القرن الخامس عشر فصناعة النسخ والوراقة قد ازدهرت كل الازدهار في العصور الوسطى في البصرة والكوفة وبغداد، وتعاطاها نبغاء ذوو مواهب فياضة، أذكر منهم واحدا هو أبو حيان التوحيدي. وأبو حيان لم يتفوق في نسخ الصحف فحسب، بل يصفه تاريخ الأدب على رأس الكتاب في أسلوب ابتكره وهو من صميم الفنون الصحفية؛ فقد تفرد بإبداعه في الصور القلمية للشخصيات التي عرفها وعاشرها، وفي وصف الحلقات والأندية في مجتمعه.
هذا استطراد لا مناص منه عند التطرق إلى الصحافة في التاريخ. وها نحن أولاء ندخل في موضوع الصحافة بمعناها الحديث، والتي عرفت بعد اختراع المطبعة.
أول جريدة عربية
زعم كثيرون ممن كتبوا في تاريخ الصحافة والثقافة في العالم العربي أن أول جريدة عربية ظهرت في بلاد العروبة هي جريدة «التنبيه» التي أصدرها الجنرال الفرنسي جاك منو، في حملة بونابرت على مصر، حتى قام الدكتور إبراهيم عبده صاحب المؤلفات في تاريخ الصحافة المصرية، فتوصل في أبحاثه إلى أن جريدة التنبيه هذه لم تبرز إلى عالم الوجود وإن صدر المرسوم بإنشائها، وأعدت المعدات لها وعين محرروها ومديروها.
2
لهذا تبقى اليد في إنشاء أول جريدة عربية لمحمد علي باشا في إيجاده الوقائع المصرية سنة 1828. أما في العراق فالثابت أن الوالي مدحت باشا هو مؤسس أول مطبعة بالحروف في بغداد ومنشئ أول جريدة باسم «الزوراء» سنة 1869. وقد ظلت الجريدة الرسمية لولاية بغداد إلى يوم احتل الجيش البريطاني بلد الرشيد سنة 1917 في خلال الحرب العالمية الأولى.
غير أن باحثا عراقيا هو رزوق عيسى، صاحب مجلة «المؤرخ» كتب مقالة في مجلة «النجم»
3
الموصلية، تعليقا على ما ورد في «تاريخ الصحابة العربية» في مجلده الرابع الذي ألمعت إليه من أن جريدة «الزوراء» أول جريدة عراقية ورد فيها قوله:
بيد أنه وردت في بعض أسفار رحالي الإفرنج ومنهم الإنجليز تلميحات وإشارات إلى أن أول صحيفة ظهرت في بغداد كانت تعرف باسم «جرنال العراق»، أنشأها داود باشا الكرجي - الوالي الشهير - عندما تسلم منصب الولاية سنة 1816، وكانت تطبع في مطبعة حجرية وتنشر في اللغتين العربية والتركية، وتذاع فيها وقائع القبائل، وأنباء القطر العراقي وأخبار الدولة العثمانية، وقوانين البلاد وأوامر الوالي ونواهيه، والإصلاحات الواجب إجراؤها، وأسماء الموظفين، مع غيرها من الحوادث الخارجية، وكانت توزع على قواد الجيش وكبار الموظفين وأعيان المدينة وأشرافها، وتعلق منها نسخ على جدران دار الإمارة ليطلع عليها من يهمه الوقوف على أخبار الدولة وتقدمها. هذا ما عثرت عليه في كتب الرحالين، ومنهم غروفس وفريزر وتيلر. وزاد عليهم سجل ألبوت المخطوط وحشر معهم أسفار رتش وبكنكهام وبورتر وروسو.
فإذا صح هذا النبأ الذي يفتقر إلى كثير من التحقيق والبرهنة، يكون العراق قد سبق مصر في تاريخ الصحافة العربية. وإن كان ناقل هذه الرواية لم يشر إلى مؤلف بالذات واسم كتابه ورقم الصفحة التي ورد فيها هذا الحادث الصحفي.
الصحافة قبل الدستور في العهد العثماني
نعود الآن إلى الظرف الذي وجدت فيه جريدة «الزوراء».
بعد أن انتشرت في منتصف القرن التاسع عشر في أوروبا الفكرة الجديدة التي غرست بذورها الثورة الفرنسية وإعلان حقوق الإنسان انبثق في الأفق العربي شعاع من حياة، بفضل تقدم العلوم واحتكاك الشرق بالغرب وتوارد البعوث التعليمية الأجنبية، فانزاحت بعض الشيء الغياهب التي نشرت الخمول على البلاد العثمانية وأخذت الفوضى في التبدد، وتزعزع جبروت الإقطاع وأخذت العصابات تنفك وتضعضعت سيطرة الجهل والخرافة غداة تغلب العقل المخترع على الحواجز الطبيعية.
وقد نال العراق نصيب من بادرة اليقظة الشرقية العربية في هذا الطور، بالرغم مما كان يضطرم فيه من الانتفاضات المحلية والغارات الأجنبية، ومطامع الحاكمين بأمرهم من باشوات بغداد، وموقفهم من مرجعهم حكومة إستانبول. وازدادت أهمية العراق في الوضع الدولي عندما التفت ساسة أوروبا إليه، بعد أن اتضح مركزه في طريق الهند، ونبتت في الرءوس مشروعات السكك الحديدية التي ربطت بين إنجلترا والهند، مارة بوادي الفرات. ولمع اسمه في العالم الحديث باللجان الدولية التي وفدت عليه لحسم مشاكل الحدود العراقية-الإيرانية، وعند توسع المبادلة التجارية بين العراق وبين العالم الخارجي، ونشوء المواصلات النهرية في دجلة والفرات، وشيوع الاتصال التليفوني، وتطلع الباحثين والمنقبين إلى الكنوز الأثرية المطمورة في أطلال بابل وآشور ومخلفات عصر العرب الذهبي، وحدوث التمثيل الأجنبي، ووجود «المقيم الإنجليزي» وما يحيطه من امتيازات عريضة الظل.
في هذا المعترك هب نسيم الإصلاح على السلطنة العثمانية، فقامت تريد تنظيم الإدارة وتقسيم الولايات، وإحلال الموظفين الأكفاء محل الباشوات القدماء من الولاة الطغاة، وظهرت الرغبة في تدريب الجيش تدريبا فنيا وتطبيق التجنيد الإلزامي.
الوالي مدحت باشا مؤسس الصحافة في العراق
وفي هذا الظرف عين أبو الأحرار مدحت باشا واليا على بغداد فجاءها في نيسان (أبريل) سنة 1869، فنظر المفكرون إلى تاريخ الرجل وشخصيته ودققوا في سلوكه في منصبه الجديد، فاستقر في روعهم أنه سيفتح صفحة جديدة في البلاد من الإصلاح والتجديد.
وقبل أن يقدم هذا الحاكم المصلح إلى العراق أقام مدة في العاصمة القسطنطينية يدرس ويتهيأ، وصحب معه جماعة من رجال الاختصاص لتشغيل جهاز حكومته الجديدة في أرض الرافدين. وقد وجدنا بينهم مدير مطبعة وصحفيا ومهندسا لآلات المطابع. فلم يلبث بعد أيام من وصوله أن أسس «مطبعة الولاية»، وهي أول مطبعة آلية في بغداد جلبها من باريس سنة 1869 فور تقلده زمام الأمر.
وبصدد تأسيس هذه المطبعة، يرى يعقوب سركيس
1 - الباحث العراقي الضليع - أن أول مطبعة آلية تدار بالبخار وجدت في بغداد «دار طباعة دار السلام» لصاحبها محمد باقر التفليسي، حيث طبع كتاب «دوحة الوزراء» في مطلع جمادى الأولى سنة 1246ه، ولكنه يعود فيتشكك إذا كانت مطبعة التفليسي قد أنشئت في تبريز، ثم طبع على الكتاب اسم بغداد تقربا للوالي في ذلك العهد أم أنها نصبت في بغداد.
وقد جدد مطبعة الولاية في مدينة الخلفاء حازم بك والي بغداد سنة 1905.
قلنا إن مدحت باشا أول من أسس مطبعة آلية في مدينة السلام؛ إذ إن الطباعة الحجرية سبقت مدحت باشا؛ فقد وجدت فيها «مطبعة كامل التبريزي» الحجرية المجلوبة من إيران سنة 1861، حيث طبعت بعض الكتب منها «سبائك الذهب في موقعة قبائل العرب» لمحمد أمين السويدي.
وقد جلب مدحت مع المطبعة الآلية مطبعة حجرية متقنة هي «المطبعة العسكرية» التي سميت ب «مطبعة الفيلق»؛ لتقوم بطبع ما يحتاج إليه الجيش، والمنشورات والأوامر والكتب الفنية والعسكرية، وكانت مطبوعاتها سرية لا يطلع عليها إلا كبار الضباط؛ خشية تسرب الأسرار العسكرية إلى الخارج. وهكذا أصدر مدحت باشا جريدة «الزوراء» أول جريدة رسمية في العراق باللغتين العربية والتركية.
لم تطل ولاية مدحت باشا للعراق أكثر من ثلاث سنوات، ولكنه في هذه المدة القصيرة حقق جانبا كبيرا من الإصلاحات وترك آثارا لا يزال بعضها ماثلا ينتفع به الشعب إلى اليوم؛ فهو فضلا عن نجاحه المحمود في إخماد الفتن بين القبائل وإخضاع إمارة نجد المتمردة للسلطة مد أسلاك البرق في البلاد العراقية وما جاورها، ونظم البريد، ومهد طريق المواصلات، ونفذ قانون التجنيد، وأصلح نظام الجباية لخزينة الدولة، وشيد مدرسة الصنائع ومستشفى الغرباء، وأسس المدارس العسكرية والإدارية، وأقام معملا للنسيج، وأوجد إدارة نهرية، وبدأ بتطهير نهري دجلة والفرات، وشرع في إنشاء الأسطول الأول للتجارة والنقل والقوة العسكرية، وأسس معملا للحديد، وجلب الأجهزة والأدوات لاستخراج النفط، ومد ترامواي الكاظمية، ووزع الأراضي الأميرية على الأهلين بثمن بخس، وبدأ بتنسيق دواوين الحكومة، وبكلمة نفخ روح التجديد في هذا الإقليم المترامي الأطراف.
بهذه النزعة الإصلاحية فكر مدحت باشا في خلق الصحافة العراقية، فوضع حجر الأساس فيها بجريدته «الزوراء»، وكان أهل العراق يومئذ لا يعرفون من الجرائد إلا النزر اليسير الذي يرد عليهم من الخارج، وبخاصة من إستانبول «عاصمة السلطنة»، حيث سبقت تركية في معرفة الصحافة، فظهرت فيها أول جريدة رسمية باللغة التركية سنة 1831 بأمر السلطان محمود، وقد أسماها «تقويم وقائع». ولعظم تفشي الأمية عهدئذ وندرة المتعلمين؛ كان أغلب قراء الصحف من الموظفين، وهؤلاء يعرفون التركية أكثر من العربية ، فكانت الجرائد التركية الواردة من قاعدة الخلافة هي التي يطالعها الناس. أما الصحف العربية فنادرة كل الندرة، يقرؤها الأدباء وهم قلة في الطبقة المهذبة. ولعل جريدة «الجوائب» لأحمد فارس الشدياق التي برزت في عالم الصحافة في الآستانة سنة 1860 كانت أكثر الجرائد العربية تداولا في أرض الرافدين؛ لأنني أجد في خزائن رجال الجيل الماضي من المتعلمين العراقيين طائفة من «مطبوعات الجوائب» العربية في الآداب والعلوم أكثر مما أرى من نتائج مطابع مصر والشام في تلك الحقبة.
جريدة الزوراء
جعل الوالي العظيم جريدته «الزوراء» لسان حال الولاية. ظهرت لأول مرة في ربيع الأول سنة 1286ه بثماني صفحات وباللغتين العربية والتركية؛ إذ التركية لغة الدولة الرسمية في العهد العثماني، وجاء في صدرها ما يأتي بحروفه:
هذه الغزتة تطبع في الأسبوع مرة يوم الثلاثاء، وهي حاوية لكل نوع من الأخبار والحوادث الداخلية والخارجية.
2
وقد نشرت في استهلالها «الفرمان العالي لمدحت باشا» بتوليته ولاية بغداد، وهذه بعض فقراته المترجمة إلى العربية بلغة ذلك العهد:
وزيري سمير الدراية مدحت باشا
توقيعي الهمايوني الرفيع إذا وصل يصير معلوماته من المستغني عن الوصف والبيان والإيضاح والتبيان. خطة ولاية بغداد الجسيمة من أعظم القطع المركبة من الممالك المحروسة من دولتي العلية ومن اقتضاء أرضها ووضعها، قابلة لكل نوع من الإعمار والترقي. وهذا شيء من المسلمات. وبناء على كل نوع لأجل استحصال أسباب إعمارها أعز الآمال والمطالب عند سلطتي الهمايونية اقتضى انتخاب وتعيين ذات مقتدر بمنه تعالى بإيصال الفعل إلى حيزه في رأس إدارة ذلك المحل وفق آمالي الهمايونية. وأنت إلى الآن بوقوفك ووجودك في خطوب سلطتي السنية مع اتصافك بالغيرة والإقدام والدراية وحسن إبراز خدماتك، إن شاء الله الملك المعين، تقتدر على إيفاء مطلبي المستصحب للميمنة والخير؛ فقد صدرت إرادتي السنية المزينة لسنوح المواهب إحالة وتفويض إدارة أمور ملكية وعسكرية الولاية المذكورة اعتبارا من اليوم الثاني من شهر ذي القعدة سنة ألف ومائتين وخمسة وثمانين لعهدة لياقتك.
وفي هذا العدد الأول بمكان المقالة خطاب الوالي مدحت باشا الذي ألقاه في الاحتفال بقراءة ذلك الفرمان العالي، وفيه يعلن رأيه في الإدارة ويذكر الأهلين بحالة أوروبا وتقدمها.
وفي العدد شذرات رنانة في مدح جلالة السلطان والثناء عليه والدعاء له.
كانت الزوراء تنشر شئون الولاية وأحوالها والقوانين والأنباء الرسمية والبراءات السلطانية ونصوص المعاهدات والوثائق وأخبار السلطنة والدول الأخرى.
قرأت في أعدادها الأولى مقالة موضوعها وعنوانها «أسباب تدني العراق ووسائل ترقيته»، كما حوت هذه الجريدة رسائل من أنحاء العراق، ولم تهمل السياسة الدولية؛ فقد اطلعت فيها على ملخص مقال مترجم عن جريدة «تايمس» اللندنية في قضية الفلمنك، فضلا عما تضمنته أعدادها من مقالات صحية وتعليمية وإدارية، ومنها حث على تعليم البنات وقرارات المحاكم في الآستانة.
ويرى البعض أن «الزوراء» بإدارة مدحت باشا كانت صريحة اللهجة تدون الوقائع بحرية وتصدع بالحق، ولكنها بعد ذهابه - وقد عاشت خلفه سبعة وأربعين عاما - تغيرت لهجتها، وأصابها ما أصاب الصحافة العثمانية في العهد الحميدي من الضغط والتشديد عليها وخنق حريتها. وعلى كل ففي سنواتها الأربعين الأولى احتوت صفحاتها من أخبار البلاد العراقية وسكانها ما لا يعثر عليه أو على أكثره في أي مرجع تاريخي آخر. وفي سنواتها الثلاث الطليعة سجلت بدقة ما قام به مدحت باشا من أعمال وإصلاحات، بحيث تعد خير مرجع لتاريخه في العراق. ولكن من المؤسف ألا نجد لهذه الصحيفة البكر مجموعة كاملة الآن.
قلت إن الزوراء كانت تكتب باللغتين العربية والتركية، فلما بزغ نور الدستور على العثمانيين سنة 1908 وظهرت في بغداد جرائد عربية، طوي قسمها العربي وصارت تكتب باللغة التركية فقط، فاحتج على ذلك فريق من الأهلين من ذوي النزعة القومية أو ممن لا يعرفون التركية ويريدون الوقوف على مضامين الجريدة الرسمية من أنباء وبيانات، فاقتنعت الحكومة لطلبهم وعادت تنشر باللغتين سنة 1913. وقد أصاب القسم العربي في جريدة «الزوراء» التباين في الأسلوب واللغة، فكانت ركيكة سخيفة أحيانا ومقبولة فصيحة أحيانا أخرى.
وثار الانتقاد لأسلوبها العربي من الأدباء في أقطار العروبة، فنعوا على جريدة تنشرها الحكومة في بغداد، مدينة الأدب العربي الخالدة، وتحمل اسم «الزوراء» تبدو بهذه الركاكة الفاضحة، تعج بالأغلاط المزرية، فأنصتت السلطة إلى هذا الانتقاد فتبين لها أن العلة في كون تحريرها مناطا ببعض موظفي الولاية ممن لا يحسنون العربية، فضلا عن الكتابة الفصيحة بها، فعهدت بتحرير القسم العربي منها إلى جماعة من رجال العلم والفضل.
وممن حرر فيها من الأدباء العراقيين في القرن الماضي ومطلع هذا القرن كتابة وترجمة عن التركية أحمد عزت باشا محمود الفاروقي الموصلي، وكان كاتب العربية في الولاية، وهو ناظم ناثر، وأخوه علي رضا، ومن الأدباء الشاويين عبد الحميد الشاوي وأحمد وعبد المجيد وطه الشواف من العلماء، ومحمود شكري الألوسي؛ وقد كتب فيها هذا الأستاذ مقالات علمية وأدبية كان لها أثرها في تحريك الجو الأدبي الراكد، ولا سيما ما عرضه على علماء بغداد من المسائل للمناقشة والمناظرة. ومن كبار محرريها فهمي المدرس، الذي ولي إدارة مطبعتها والتحرير فيها باللغتين العربية والتركية وعمره لم يتجاوز 21 سنة.
ويظهر أن هذه الجريدة الرسمية انحطت كثيرا في كتابتها من حيث المادة واللغة والبيان؛ فقد قال فيها الأب أنستاس ماري الكرملي في سلسلة مقالات نشرها عن «صحافة بغداد» في مجلة «المسرة»:
3
وأما مواضيع الزوراء فلا تستحق الذكر، وا أسفاه على ولاية بغداد أن تكون جريدتها الرسمية بهذه الصورة الدنيئة.
ثابرت جريدة «الزوراء» على الصدور إلى احتلال القوات البريطانية بغداد سنة 1917 فغابت عن الأنظار.
جريدة الموصل
ولما كنا بصدد الجرائد الرسمية، فلنتم بحثها في العهد العثماني.
بعد خمسة عشر عاما من ظهور جريدة «الزوراء» في بغداد أنشأت الحكومة جريدة «الموصل» في الموصل سنة 1885، تنشر مرة في الأسبوع باللغتين التركية والعربية، وأحيانا بالتركية وحدها، وتطبع في مطبعة ولاية الموصل التي أسست سنة 1875.
وهناك مصدر يؤرخ صدور جريدة «الموصل» بعام 1879.
ولم تكن «مطبعة الولاية» الموصلية أول مطبعة في تلك الحاضرة، كما هي الحال في «مطبعة الولاية» البغدادية التي تحدثنا عنها؛ فقد أسس «مبعث الآباء الدومينيكيين» من الأجانب المرسلين «مطبعتهم» في أم الربيعين سنة 1860.
وأسست «المطبعة الكلدانية» سنة 1863 أقامها الكلدان وهم من الأهلين المواطنين النصارى ينتمون إلى الكنيسة الكلدانية في السواد، بمعنى أن هاتين المطبعتين سبقتا مطبعة مدحت باشا في بغداد.
ولم تعمر «مطبعة الكلدان». أما «مطبعة الدومنيكان» فقد عاشت أكثر من خمسين سنة وطبعت كتبا ورسائل كثيرة باللغات العربية والأرمية والتركية والفرنسية واللاتينية، منها المدرسية ومنها الدينية، فكانت من عوامل النهضة الأدبية في شمال العراق، حتى إذا اشتعلت نيران الحرب العالمية الأولى صادرتها الحكومة العثمانية، ولم تقم لها بعدها قائمة.
وتاريخ جريدة «الموصل» في العهد العثماني غير واضح، ولم أعثر لها على أثر في الحياة الفكرية في بلدي، ويظهر أنها اقتصرت على نشر القوانين والأنظمة والبيانات، وأوامر الحكومة وإعلاناتها. وقد عاشت إلى احتلال الجيش البريطاني الموصل سنة 1918 فانقلبت إلى جريدة للمحتل، مما سأبحثه في محاضرة تالية.
هذا في حاضرة الشمال. أما في الجنوب فقد وجدت جريدة رسمية في الثغر العراقي، وادعى إبراهيم حلمي العمر في محاضرة له في أحد الأندية الأدبية أن مدحت باشا هو الذي أسسها بعد أن أنشأ «الزوراء» في بغداد، وقد أسماها «الفيحاء». ولكن المصادر الموثوقة التي بين يدي لا تؤيد هذا الزعم، بل على النقيض تؤكد أن البصرة لم تعرف الصحافة إلا بعد مغادرة مدحت باشا العراق بسنين.
إن أول مطبعة عرفتها البصرة أنشأها في ولاية هدايت باشا، موظف هناك بغدادي الموطن، كان يتولى رئاسة كتاب دائرة الأملاك السنية، ويدعى جلبي زاده محمد علي، أسس مطبعة وطبع فيها جريدة «البصرة». وقد كان نفسه صاحب امتيازها ومديرها المسئول، ظهرت سنة 1889 مكتوبة باللغتين العربية والتركية، وكانت لسان حال الولاية، فهي أقرب إلى الجريدة الرسمية. استمرت تصدر خمس سنوات حتى إذا نقل منشئها إلى وظيفة في بيروت، تبنت الحكومة المطبعة ووسعتها وعهدت بتحريرها إلى موظفين من ديوان أنشأته الولاية، فغدت جريدة رسمية صرفة.
لهذا يبدأ تاريخ جريدة «البصرة» الرسمية بكانون الثاني سنة 1895، وواصلت الجريدة الصدور أسبوعيا إلى احتلال القوات البريطانية مدينة البصرة في مطلع الحرب العظمى سنة 1914.
ويقول البعض: إن الصحفي اختلف مع الوالي الفريق حمدي باشا، فأسس هذا مطبعة أخرى وجديدة باسم جريدة «البصرة» سنة 1313.
وليس لدينا ما يؤثر عن هذه الجريدة الرسمية في الحياة الأدبية البصرية.
وتلاحظون أن الجرائد التي ذكرتها كلها جرائد رسمية تصدرها الحكومة؛ إذ ندر أن أذنت الحكومة قبل الدستور بإصدار جريدة سياسية أهلية في بلد ناء كالعراق، لم تعرف عنه درجة من الثقافة تقنع حكومة المركز باستعداده لإيجاد صحافة له، وإن كانت حتى الصحف الأدبية والعلمية والمطبوعات السائرة تخضع لرقابة صارمة في ظلام الاستبداد.
ويقول سليمان فيضي في مذكراته: ... كان هناك صحيفة واحدة في مركز كل ولاية من الأقاليم العثمانية يديرها موظف حكومة مسئول، تشغل معظم صفحاتها بمديح السلطان والدعاء له، وكانت الصفحات الأولى من هذه الصحف تبدأ بالدعاء الروتيني: «... أطال الله عمر مولانا أمير المؤمنين وخليفة رسول رب العالمين، خادم الحرمين الشريفين، وخاقان البرين والبحرين، السلطان ابن السلطان، والخاقان ابن الخاقان، عبد الحميد خان أدام الله عزه وأعز جنده وأسعد عهده ونشر على بلاد الأعداء راية نصره ... إلخ.»
ولم تكن الحكومة لتمنح امتيازا لأية صحيفة أخرى مهما كان نوعها. والتضييق على حرية الصحافة لم يكن قاصرا على عدم إصدار صحف إلا الصحف الرسمية، ولكن كان ممنوعا دخول الصحف من الخارج، حتى إن الشيخ مبارك الصباح أمير الكويت كان مشتركا بجريدة «الخلافة» التي أصدرها في لندن بعض أحرار الترك، وعندما وشى جاسوس بوكيله في البصرة عبد العزيز السالم البدر بأنه دفع اشتراك هذه الجريدة، وكبست داره وتحققوا من دفاتره، حكموا عليه بالنفي إلى ديار بكر عشر سنوات.
4
الصحافة بعد الدستور
ما انبثق نور الدستور في العالم العثماني سنة 1908 ورفع الحجر على الآراء حتى انطلقت الأقلام من عقالها، وخرج المفكرون إلى ساحة الحرية، وكانت الصحافة من مجالي بروز هذا الانقلاب في حياة الشعب، فأخذت الصحف تكتب ما كان يعز كتابته أو التطرق إليه في العهد البائد، فلبست الصحافة ثوبا زاهيا من المقالات الحرة والأقوال الصريحة والأخبار الطريفة؛ فعظم إقبال القراء عليها، وزاد انتشارها، وأقبل الكتاب والساسة ورجال الفكر على إصدار الصحف ولم يكتفوا بالجرائد اليومية أو الأسبوعية، بل أنشئوا المجلات والنشرات الدورية وسلاسل الكتب التي تفننوا في مضامينها.
يقول أحمد أمين بك، محرر جريدة «وطن» في إستانبول وأحد مؤرخي الصحافة التركية:
1
لم تمض أسابيع قليلة على إعلان الدستور حتى صعد عدد الصحف اليومية في الآستانة من 3 إلى 15، وفي الشهر الأول من العهد الدستوري بدأ في العاصمة لون جديد من الصحف الهزلية بلغت العشر، والتفت الصحفيون إلى تنويع هذه الصحف بين يومية وأسبوعية ومجلات مختصة، بل قد أفضى الأمر بأحد الكتاب إلى أن أصدر من ذلك اليوم جريدة تكاد تكون شيوعية باسم «اشتراك»، شعارها القول التركي المأثور: «إذا كان الواحد يأكل والثاني يتطلع إليه فقط عندئذ تقوم القيامة.» وكل جماعة أرادت في هذا الوضع أن تكون لها صحيفة بمثابة لسان حالها، بل قام أصحاب الأعمال والحرف الخاصة يصدرون مجلاتهم كالمعماريين والكيمائيين والأطباء والبياطرة والمحامين والممثلين والعمال والموظفين والمنفيين سابقا وطلاب الجامعة، ولكن لم يكتب لأكثر هذه الصحف الحياة، فمن عشرات الجرائد عاشت ثلاث يومية لا غير وبعض المجلات الأدبية والمصورة.
وهكذا عدت الصحافة أنشط عامل في التطور الدستوري الجديد فأحدثت تأثيرا جارفا في الرأي العام.
وكان نصيب العراق من البلاد العثمانية أن سرت إليه هذه الموجة، فهب المشتغلون بالسياسة والكتاب لإنشاء الصحف والمجلات يكتبونها باللغتين التركية والعربية، حتى بلغت هذه الصحف في بغداد وحدها في خلال سنتين خمسا وعشرين جريدة ومجلة، إلا أن صحفنا لم تسلم من الآفات التي بدت أعراضها في الصحف العثمانية قاطبة، فإن ازديادها الفاحش مع نقص الخبرة وإعواز الدربة عند محرريها جعلهم يشطون في كتاباتهم، ولا سيما في الجدل السياسي والحزبي، فظهرت في أنهرها مهاترات شخصية يندى لها الجبين، مما جعل الرجعيين يقعون على فريسة باردة فخرجوا من أوجارهم وطفقوا ينددون بحرية الصحافة التي خلعها الدستور على الأقلام غير المدربة والصحافيين الجدد الهوج. وقد بدا رد الفعل واضحا عندما نظر البرلمان العثماني في ذلك الوقت في قانون المطبوعات، فثارت في وجه الحكومة عاصفة من النقد اللاذع على هذه الحرية المتيسرة الممنوحة للصحافة.
ومن الناحية المادية لم يستطع منشئو الصحف في العراق أن ينهضوا بها على أساس مشروعات اقتصادية، كما هي الحال في الصحف الأوروبية والأمريكية والصحف المصرية في جيلنا؛ لهذا أخفق القسم الأعظم منها ولم يقو على الصمود ففارق الحياة من أول الشوط أو بعد خطوات قصار.
أصيبت الصحافة العراقية من مطلع حياتها بالأمراض الوبيلة التي تصاب بها الصحف في العالم من مخاتلة وكذب وزيغ، إلا أن هاتيك الصحف عند الأقوام تكون أقلية لا يؤبه بها بجانب الأكثرية الصحفية التي يستقيم سلوكها، فتتفوق الصحف المحترمة المفيدة على صحف المرتزقة التي تعيش طفيلية؛ لهذا لا تجد جريدة عراقية الآن علت بها السن ويرجع ميلادها إلى مطلع تاريخ صحافتنا. كما أن هذه الصحف في ظل العلم العثماني خلقتها ظروف وأوضاع وأغراض خاصة ذهبت بذهابها، وقضي عليها فور تغيير الحال، فضلا عن ندرة الصحافيين وحملة الأقلام في ذلك الطور ممن احتسبوا حياتهم للعمل الصحفي وخدمة الشعب بالقلب وما يسطرون من آراء ومبادئ.
جريدة بغداد
إن أول جريدة أهلية أو شعبية عرفتها عاصمتنا سميت «بغداد» أنشأها فرع «حزب الاتحاد والترقي» العثماني، الذي قام بالانقلاب الدستوري لتكون لسانه، وعهد بإدارة سياستها إلى رئيس هذا الفرع مراد بك سليمان أخي الفريق محمود شوكت باشا أحد رجال الانقلاب المذكور، صدرت ثلاث مرات في الأسبوع باللغتين العربية والتركية، ورأس تحرير قسمها العربي معروف الرصافي، وكتب فيها الأدباء البارزون عندئذ كالزهاوي وفهمي المدرس ويوسف غنيمة وكاظم الدجيلي، وانبرت تروج سياسة الحزب الحاكم، وتبث الأفكار المؤيدة للانقلاب الدستوري.
برز عددها الأول في 6 آب (أغسطس) سنة 1908 وكتب في ديباجتها أنها «جريدة سياسية علمية أدبية أسبوعية واسطة لنشر أفكار جمعية الاتحاد والترقي»، وعرفت بأنها أقوى جريدة في أيامها؛ حتى إن منتقد «الصحافة البغدادية» قال: «إن جريدة بغداد أحسن الجرائد التي ظهرت في بلدنا إلى ذلك الموعد (سنة 1911)، سواء من حيث الفكرة والمواضيع أو حسن التعبير، وقد نشرت مقالات حرة رفيعة المستوى مستقيمة المسلك نافعة للألفة والوطن، منقحة العبارة، مهذبة الألفاظ؛ مما جعلها في مقدمة صحف بغداد ومثالا يحتذى من بعدها .»
2
غير أن جريدة بغداد بعد أن ضعف الحزب الحاكم أخذت بالتضاؤل وتركها محررها العربي، فقرر الحزب إيقافها في سنتها الثانية، مع أنها في ازدهارها كانت من أوسع الصحف انتشارا، حتى ليذكر أنها ضربت الرقم القياسي في سعة الذيوع عندما وصفت حادثة 31 آذار الرجعية المعروفة في إسطنبول، وحركة الإنقاذ التي أعقبتها والتي قضت على الحكم الحميدي، وكان يقود حركة الإنقاذ محمود شوكت باشا. وقد بلغت نسخها المبيعة ذلك اليوم ثلاثة آلاف، بينما لم يكن في تلك الأيام يعلو أكبر عدد لأية جريدة عراقية مقروءة على ألف نسخة، والبقية تنحدر إلى خمسمائة فما دون ذلك.
ثم كثرت الصحف التي وصلت إلى تسع وستين جريدة وعشرين مجلة بين أسبوعية وشهرية، ولم تكن بين الصحف يومية غير جريدة «بغداد» هذه في بعض أشهرها، وجريدتي «الزهور» و«صدى الإسلام» في سني الحرب العالمية الأولى. أما البقية فتنشر في الغالب مرة أو مرتين أو ثلاث مرات في الأسبوع.
ويظهر أن الحكومة العثمانية بعد أن طغى سيل الصحف لديها ورأت اضطراب حياة أكثرها من الناحيتين المادية والأدبية، وضاقت ذرعا بالصحفيين الأجرئاء عمدت إلى طريقة لتصفية الصحف، فصدر أمر وزارة الداخلية في الآستانة سنة 1911 بأن الجرائد التي أخذ امتيازها ولم تنشر حتى 5 آذار (مارس) من تلك السنة، أو نشر بضعة أعداد منها ثم احتجبت إلى هذا التاريخ تلغى امتيازاتها. وهكذا قضى وزير الداخلية التركي بشطبة قلم على ثماني وثلاثين جريدة، فلم يبق في مدينة السلام غير خمس جرائد، بينها «الزوراء» الرسمية ومجلتان.
وقد وجد المفكرون العراقيون ورجال السياسة في الصحافة معوانا لهم على الدعاية لآرائهم، فكانت صحفهم في خلال الحكم العثماني تؤيد السلطة أو تقارعها، وتتحزب لهذا الحزب أو خصمه، ولكن الظاهرة التي تلفت نظر المتفحص وتدل على معان كبيرة أن أغلب صحف العراق في ذلك الزمن كانت معارضة للحزب الحاكم، ولم يقف بجانب هذا الحزب غير جريدتين. أما بقية الصحف في بغداد والبصرة والموصل فكانت تروج لسياسة «حزب الحرية والائتلاف» المعارض «لحزب الاتحاد والترقي»، أو أن تعبر هذه الصحف عن انتفاض الشعب تحت نير الحاكم الغريب ومحاولته الإفلات، وبينها جرائد دعت للفكرة القومية ومهدت للنهضة العربية بلسان صريح وإيمان قويم.
ويسجل تاريخ الصحافة في زمن الحكم الغابر مواقف مشهودة في هذا الميدان، كما أن الصراع كان عنيفا بين بعض الصحافيين والوالي، ومرجع الشكوى وزارة الداخلية في الآستانة، وقد انتصر في بعض الحادثات الصحافي العراقي على الوالي التركي الذي كثيرا ما تذرع بسلطان دكتاتوري مخيف، كما أن روح التمرد من الظلم ومحاسبة المسئولين تغلغل في الصحف في تلك الحقبة.
ولعل صحف الفكاهة والهزل على قلتها قد قامت بدور أعمق تأثيرا في هذا المجال، وإن كان النقد الساخر ينقلب عادة - في العراق وفي الشرق العربي عامة - إلى السب والقذف، فتغدو أقلام الكاتبين مقاريض أعراض وأبواق تشنيع، مما أدى في قضايا عديدة بالصحافيين إلى أقفاص الاتهام في المحاكم ودفع بهم إلى أعمال السجون.
وبديهي عندما نستعرض تاريخ الصحافة في قطر من الأقطار في محاضرات كهذه، لا يمكن أن نسرد أسماء جميع الصحف وأحوالها، ولا سيما إذا كانت الواحدة لا تعيش أكثر من بضعة أعداد أو بضعة أشهر، كما هي حال صحفنا في العهد العثماني، بحيث صارت «اللازمة» لإحدى مجلاتنا العلمية عندما تقرظ جريدة جديدة أن تختم كلمتها بالدعاء لها بالحياة؛ لئلا تكون كغيرها تلتمع ولا تلبث أن تختفي بسرعة، فخليق بنا أن نبحث الجرائد ذات الشخصية والأثر في مجتمعها.
جريدة الرقيب
منها جريدة «الرقيب» لمنشئها عبد اللطيف ثنيان أحد الوجوه والأدباء، ظهرت في 28 كانون الثاني (يناير) سنة 1909، فكانت ثالث جريدة أهلية في قطرنا
3
شعارها أنها «جريدة عربية تركية خادمة لترقي الوطن بكمال الحرية»، صدرت أول الأمر مرة في الأسبوع، ثم صارت تبرز مرتين أسبوعيا، وكان قسمها التركي صغيرا، وأكثر أعمدتها بالعربية، وتميزت بأسلوبها الكتابي وسلاسة عبارتها ونقاء لغتها بالقياس إلى زميلاتها. وقد أجمعت الكلمة على أنها أجرأ صحف وقتها وأكثرها شعورا بالواجب، وكان صاحبها يقظا على تتبع سير الحكومة وأعمالها، فما كان منها حسنا أطراه وخطأ انتقده، بحيث صح له أن يطبق ما أعلنه في مستهل أعدادها وهو يبسط خطتها قوله:
جعلنا خطة «الرقيب» حرة إلى آخر درجة، تذكر المسيء وتقبح فعله مهما كان شريفا عالما فاضلا غنيا، وتذكر المحسن وتقدر إحسانه مهما كان خاملا فقيرا بلا فرق بينهما؛ إذ بدون ذلك تذهب مزية المحسن ضحية عدم شهرته وغناه، وذلك مما يخالف العقل؛ لأن الحسنة حسنة وإن كانت من بيت الإحسان فهي الأحسن، والسيئة سيئة وإن كانت من بيت الشرف فهي أسوأ.
عاشت هذه الجريدة ما يزيد على السنتين ولم تقصر همها على السياسة، بل جالت في ميدان الاجتماع جولات، وعالجت مشكلة التربية والتعليم وحثت على التهذيب وترقية الفكر، وتناولت مسائل لغوية طريفة في إرجاع أصل الألفاظ والتعابير والأمثال العامية العراقية إلى معانيها وأصولها الفصيحة، ولصاحبها مؤلف مخطوط ثمين في هذا الموضوع استعان في مباحثه بأصول السيد محمد سعيد آل مصطفى الخليل وضعها في هذه المسائل.
ومما انفردت به جريدة «الرقيب» أنها كانت تعلق على كثير من الشئون والقضايا تعليقا يتضمن رأي الجريدة في الموضوع الذي تعالجه، على خلاف ما كانت تفعله أكثرية الصحف من نقل مقالات الغير وآرائهم. وقد ساعد على قوة الجريدة وعلو شأنها وتأثيرها المركز الذي يتمتع به صاحبها في وطنه من وجاهة وفضل.
وعني ثنيان بتقصي أحوال القطر العراقي بأنحائه؛ فهو ينشر على الدوام رسائل من الأقاليم، وتسمى عندنا «الألوية»، ببحث شأن كل صقع وفق حاجاته.
وأخذت الرقيب على عاتقها انتقاد الوالي ناظم باشا عندما حظر تقديم العرائض إلى المراجع الحكومية باللغة العربية مريدا إياها باللغة التركية، مما أساء الرأي العام، فلم يكن من الوالي إلا أن استدعى الصحافي وهدده بأن يقصم ظهره إذا تعرض لانتقاد تصرف الحكومة، فاضطر عبد اللطيف إلى السكوت.
وقد كلفت صاحب «الرقيب» جرأته ثمنا غاليا؛ إذ أصبح بتحريض من السلطة والخصوم عرضة لتهجم ذوي الأقلام المأجورة وصحف المرتزقة مما ولد مشادة عنيفة بين الطرفين انجرت إلى أبواب المحاكم، واتخذها بعض من لا ضمير لهم أساليب دنيئة في مقاومة الرجل ومضايقته، ولكنه لم يبال بهذه التضحيات وظل مواصلا نهجه حتى اضطر إلى تعطيل جريدته، واستطاع أن يفلت من يد خصمه الوالي، فقصد إلى الشام فمصر وتوجه منها إلى الآستانة، وبقي هناك إلى حين عزل الوالي من منصبه.
جريدة بين النهرين
ومن الصحف البارزة جريدة «بين النهرين» صدرت في 6 كانون الأول (ديسمبر) سنة 1909 باللغتين العربية والتركية، وكانت أول أمرها للتاجر يعقوب العاني إخبارية صرفة ممالئة للحكومة، ثم تسلمها محمود الطبقجلي يحرر قسمها التركي، وأناط كتابة القسم العربي بقريبه كامل الطبقجلي، وهو تاجر ذكي عشق الكتابة وعلق بالنظم وهوي الصحافة وكان حاد القلم، وفي هذه الصحيفة بدأ الكاتب إبراهيم صالح شكر وخزاته الدامية.
وجد محمود الطبقجلي في العمل السياسي وقد انتخب رئيسا لفرع الحزب المعارض «الحرية والائتلاف»؛ إذ اشتد ساعد هذا الحزب وانضم إليه فريق من الشباب النابه، بينهم حمدي الباجه جي، فجعل جريدته لسان الحزب فأقبل عليها القراء، وذاع صيتها في العراق وخارجه وطفقت تظهر ثلاث مرات في الأسبوع بعد أن كانت أسبوعية.
وعنفت معارضة الجريدة بعد أن أقصى الفريق ناظم باشا والي بغداد عن منصبه، فعاد إلى إستانبول حيث قتل بيد خصومه، فوقفت للوالي الجديد جمال باشا بالمرصاد، مع أن جمال هذا سلك مع الصحافيين طريقا تؤدي إلى التفاهم، وأخذ يؤدب لهم المآدب، ويتحدث إليهم بأنه يعظم من شأن العرب ويكبر مدنيتهم ويعرف مكانتهم في الماضي والمستقبل؛ لهذا قال في مذكراته المنشورة بعد مصرعه أنه سبق أن درس «القضية العربية» عندما كان واليا في بغداد.
وتحسب «بين النهرين» أول جريدة انتصرت للفكرة العربية ونبهت إلى نزعة الطورانية التي تشربها زعماء الاتحاديين الترك. وقد اندفع صاحبها في هذا المضمار عقب أن تلقى من شكري العسلي مبعوث الشام كتابا يطلعه على ما يبيت الحاكمون في قسطنطينية من التفريق بين عنصري الأمة العرب والترك، بوضعهم إشارة على اسم كل ضابط عربي في الجيش العثماني أو موظف في الخدمة المدنية ليحولوا دون ترقيته، فانبرى الطبقجلي يحمل على الحكومة فاضحا خططها الجهنمية بلهجة قاسية، مما دفع الجيش إلى مقاضاته في المحاكم والحكم عليه غيابا.
وبعد أن عاشت الجريدة نحو ثلاث سنوات أوقفها صاحبها لما أحس بأن عصبة الوالي ستعمد إلى أساليب مروعة من اغتيال وفتك، فودع جريدته بكلمة مؤثرة قال فيها:
أما والحياة مهددة فلأختمن حياة الصحافة والنشر قبل أن تختم حياتي.
ولم يكتف صاحب الجريدة ومحرروها بتحطيم أقلامهم، بل هاجروا إلى البصرة حيث كان حزب المعارضة قويا وملجأ أمينا للمعارضين بزعامة السيد طالب باشا النقيب.
جريدة الرياض
وها أنني أنتقل إلى التحدث عن جريدة ذات لون خاص في الصحف العراقية، بل في الصحف العربية قاطبة في ذلك الجيل؛ فقد كان يقيم في الكرخ من بغداد وجيه نجدي هو الشيخ جار الله الدخيل من أهل القصيم، يتصل بوشيجة نسب بالأمراء آل سعود وآل الرشيد، ومع جار الله وكالة لابن الرشيد في الخطة العراقية، وله تجارة واسعة وهو يهيمن على طريق البادية وقوافلها، وبإمرته أهناد الإبل يشتغل بتجارتها ويستخدمها في المواصلات يوم لم تكن في البلاد سيارات ولا قطر ولا طائرات، ولهذا الزعيم مضيف يعج برواده من البدو والحضر، فأراد أن تكون له جريدة تعضد نفوذه وتوسعه وتخدم تلك الأصقاع المجهولة في عالم النشر يومئذ، وسهل مهمته ابن أخ له شاب نابه «سليمان الدخيل»، جاء من بغداد من القصيم ودرس على بعض الأساتذة منهم محمود شكري الألوسي، واتصل بالطبقة المفكرة والمشتغلين بالسياسة، فأصدر جريدة «الرياض» متخذا اسمها من قاعدة نجد، واستعان بطالب نجيب في المدرسة الإعدادية ذي موهبة كتابية اعتاد أن يترك مدرسته ويعيش في مكاتب الجرائد هو إبراهيم حلمي العمر.
ظهرت جريدة «الرياض» في 7 كانون الثاني (يناير) سنة 1910 أسبوعية عربية اللهجة أدبية المشرب، وإن لم تكن قويمة اللسان ولا مشرقة البيان، إلا أن صفتها التي انمازت بها هي العناية الفائقة بأخبار نجد وجزيرة العرب وإمارات الخليج العربي.
ويجب أن نعترف ونحن نحلل تسرب الفكرة العربية إلى الأذهان في حكم الترك الذين لم يكونوا يريدون للنزعة القومية انتشارا، بأن «الرياض» خدمت «القضية العربية» بما أحدثت من كثرة الضجيج والكتابة عن قلب الجزيرة وينبوع العروبة؛ فقد أذاعت الأحاديث عن العرب المعاصرين وقبائلهم ومنازلهم ومنازعاتهم وغزواتهم وحربهم وسلمهم بنطاق واسع، أثر على العقول ولفتها إلى هذه الرقعة من العالم العربي.
وليس عليكم بعد ذلك أن تدققوا أو تلحفوا في تمحيص صحة ما ترويه صحيفة «الرياض» من أخبار الإمارات العربية وسلطات الخليج وزعامات البوادي، فالمبالغة بادية عليها، ولكن هذا لا يهم الكاتب أو الناشر، إنما المهم أن أكثر مروياتها تشيع في عالم الصحافة، فتتناقلها الجرائد في العراق والشام ومصر. وقد تشغل بعض مروياتها من هذا اللون أسلاك البرق ودواوين الدولة العثمانية أياما بل أشهرا، بينما يكون الحادث من أساسه من مبتدعات خيال مدير «الرياض» أو محررها.
ولم يقف سليمان الدخيل عند الصحافة السياسية والأسبوعية، بل أنشأ مجلة «الحياة»، شهرية وأسس دار طبع ونشر، فنشر موجز «عنوان المجد في تاريخ نجد» لابن بشر، وألف ونشر «العقد المتلألئ في حساب اللآلئ» عن صناعة الغوص على اللؤلؤ في الخليج وقيمته، ومن أعجب حوادث نشر هذه الدار أنها طبعت كتاب «حساب الجفر» منسوبا إلى «ابن العربي» فتلقفته الأيدي وذاع بين القراء ودر على الدار أرباحا، وحقيقة الكتاب من نتاج مكتب تحرير «الرياض» أوحته قريحة سليمان أو إبراهيم أو أحدهما.
جريدة مصباح الشرق
ومن الجرائد التي ساهمت في خدمة النهضة القومية على ضفاف دجلة والفرات «مصباح الشرق»، أنشأها عبد الحسين الأزري الذي أصدر أول الأمر جريدة «الروضة» أدبية، ثم «مصباح الشرق» «فالمصباح» «فالمصباح الأغر»، صحف سياسية تتعطل الواحدة فيقيم الأخرى مكانها، وهي جريدة باللسان العربي وحده، أسبوعية بدا نورها في غرة آب (أغسطس) سنة 1910، وكان انتقادها ذا وقع أليم على السلطة، فصارت تتربص بصاحبها حتى إذا سبق غيره من الصحافيين في إذاعة مصرع فريد بك والي البصرة في اغتياله السياسي المعروف بتأثير حزب المعارضة هناك اتهمته بأن له ضلعا في معرفة المؤامرة مقدما، وحاكمته وحكمت عليه بغرامة، واستمرت الجريدة تصدر إلى أن اعتقل منشئها في الحرب العظمى الأولى وصودرت مطبعته.
جريدة الرصافة
ومن الصحف الجريئة «الرصافة » لصاحبها صادق الأعرجي، ظهرت في 17 حزيران (يونيو) سنة 1910، فلما عطلتها الحكومة بعد عام استعاض عنها بجريدة «الصاعقة» التي كان قد بدأ ينشرها مؤسسها عبد الكريم الشخلي في 8 حزيران (يونيو) سنة 1911. وقد غضب الوالي مما نشرته في عددها الجديد بعد هذا التحايل، فأوعز إلى أحدهم من الدهماء بشكوى الأعرجي إلى المحاكم بتهمة ملفقة، فأوقف الكاتب في السجن، فأهاج هذا الظلم إحساس الناس، فتجمهر خلق كثير في سراي الحكومة احتجاجا على اعتقال الكاتب المقدام. وقد شجع هذه الحركة الوجيهة عيسى الجميل الذي يتمتع بزعامة شعبية، فأبرق بالمضابط إلى قاعدة السلطنة «إستانبول» فصدر أمر وزارة الداخلية بالإفراج عن الصحفي المضطهد.
جريدة النهضة
وتفاقمت النعرة القومي عند أهل بغداد، ولا سيما بعد انعقاد «المؤتمر العربي الأول» في باريس سنة 1913، وكثرت الجمعيات السياسية السرية والعلنية في أنحاء الإمبراطورية، وقوي ساعد المطالبين باللامركزية وإبراز شخصية الأمة العربية وكيانها، فنهض فريق من الشباب المتوثب فأسس «النادي العلمي الوطني» ببغداد، وتقدم أكثر العاملين فيه حماسة مزاحم الأمين الباجه جي، فأصدر جريدة «النهضة» في 3 تشرين الأول (أكتوبر) سنة 1913، فإذا هي الصحيفة القومية الفذة بين زميلاتها، جهيرة الصوت بليغة التعبير في محاسبة الحكومة العثمانية، والمناداة بحقوق العرب، وعهد بتحريرها إلى إبراهيم حلمي العمر محرر جريدة «الرياض»، فتجلت فيها مواهبه الكتابية وطارت شهرته، إلا أن الحكومة لم تتحمل لهجتها النارية فعطلت بعد عددها الحادي عشر، وهرب مؤسسها ومحررها إلى البصرة لاجئين إلى طالب باشا النقيب، حيث اجتمع نفر من حملة الأقلام والصحفيين البغداديين منهم غير من ذكرنا رشيد الهاشمي الشاعر الكاتب وصادق الأعرجي ومحيي الدين الكيلاني صاحب جريدة «النور».
جريدة الإيقاظ
ولم يقتصر الجهاد الصحفي على بغداد في تلك الأيام، بل شاركتها بعض الحواضر منها البصرة، فأول صحيفة أهلية فيها جريدة «الإيقاظ» التي أصدرها المحامي سليمان فيضي الموصلي في 2 أيار (مايو) سنة 1909، وهي جريدة أدبية إخبارية وطنية كما كتب عليها: تنشر مرة في الأسبوع بأربع صفحات بالعربية والتركية. وكان مديرها المسئول ومحرر القسم التركي فيها مكتوبي زاده عمر فوزي المحامي.
كتبت في العدد الأول بعنوان «سبب النشر وبيان المسلك» كلمة جاء فيها:
حيث إن البصرة دون سائر البلاد العثمانية خالية من جريدة تحرك همم ساكنيها وتنشر جميل ذكرها، غير جريدة الولاية «بصرة»، وهي لانشغالها بالأمور الرسمية لا تلتفت إلى شيء من ذلك، بادرنا لإصدار جريدة عربية أسبوعية معنونة باسم «الإيقاظ» تفاؤلا بإيقاظها الوطن من غفلة رقاده وإنهاضا له من حضيض وهاده.
وقد التزمنا من أن يكون مسلك جريدتنا هذه نصرة المظلوم والأخذ بيد المحروم ونشر أعمال المحسنين، وشهرة أفعال المسيئين والحفظ لحقوق الوطن وأبنائه والمبادرة إلى كل ما يعود بترقيته وإعلائه، سالكين في كل ذلك منهج الحق باذلين الجهد في توخي الصدق، قابلين لنشر المقالات الواردة إلى محل إدارتنا من داخل الولاية، أو خارجها سياسية كانت أو أدبية أو فكاهية، بشرط أن تكون خالية من الدسائس النفسانية والأغراض الشخصية ... إلخ.
وقد قال في العدد البكر بعنوان «البدء بالمشروع» بعد الديباجة والدعاء:
فهي جريدة أدبية إخبارية وطنية، ولا يخفى وجه التسمية الإيقاظ على من له في العربية أدنى إلمام، بل هو بقرب مأخذه موضوع على طرف الثمام ... إلخ.
ملاحظة : كثيرا ما كان يستخدم الصحفيون في العهد التركي عبارة «وطنية» تمييزا لجرائدهم من الصحف الموالية للحكومة، وانتقلت هذه العدوى إلى بعض الصحف التي صدرت بعد الاحتلال البريطاني، وإلا فهل الصحف الأخرى «خائنة» حتى تنعت هذه بالوطنية بلسان الجريدة نفسها.
وطبيعي أن هذه الجريدة رغما عن مبدأها الحر، كانت تسبح بحمد السلطان وتذيع أخبار الحزب الحاكم، واهتمت بالأخلاق العامة والآداب الإسلامية، ودققت في نشر أخبار إقليم البصرة.
ومن فنون الكتابة فيها حوار قصير بعنوان «مصاحبة» - وهو اصطلاح تركي - يتناول بالنقد والتنبيه أمورا اجتماعية أو نواقص في الدوائر الرسمية. وقد هاجمت جريدة «إقدام» التركية في الآستانة لطعنها في «العنصر العربي».
وحث سليمان فيضي في جريدته على التعليم، وطالب بمجانيته وبخاصة التعليم الصناعي، وكتب في ذلك سلسلة مقالات إصلاحية داعيا إلى العمل والنهوض حول «معنى الإيقاظ» اسم الجريدة، ودافع عن نشر اللغة العربية في الدواوين ومعاهد التعليم، وحلى بعض الأعداد بصور كاريكاتورية، ولكنها بدائية من حيث فن التصوير.
يقول صاحبها في «مذكراته»: إنه أوقفها في أواخر تشرين الأول (أكتوبر) سنة 1910 بسبب سفره إلى الحجاز لأداء فريضة الحج، مع أن الجريدة لقيت رواجا في داخل البلاد العراقية، وكان لها مشتركون في إمارات الخليج والحجاز والهند وسنغافورة.
جريدة التهذيب
وهنالك جريدة بصرية أخرى هي «التهذيب» أنشأها محمد أمين عالي باش أعيان، سياسية علمية أدبية أخلاقية، تنشر مرة في الأسبوع باللغتين العربية والتركية، برز عددها الأول في 1 حزيران (يونيو) سنة 1909. وقد كتبت مقالات افتتاحية عدة في تشجيع تعليم المرأة وتهذيبها، وطالبت بتعريق شركة الملاحة الإنكليزية «لنج»، كما ألحت على وجوب تأليف مجلس الإدارة لولاية البصرة، وحث القوم على التبرع للأسطول العثماني.
وكان إنشاؤها ركيكا، وكثير من افتتاحياتها مقتبسة من صحف مصر والشام. وقد عطلها صاحبها في شهر آزار (مارس) سنة 1910.
جريدة الدستور
ومن الصحف جليلة الخطر في البصرة جريدة «الدستور» التي أسسها أولا عبد الله الزهير في 22 كانون الثاني (يناير) سنة 1912، فلما أصبح عضوا في مجلس النواب العثماني انتقل امتيازها إلى عبد الوهاب الطباطبائي فنفخ فيها روحا جديدا، وتضافر على الكتابة فيها نخبة من أدباء الثغر، منهم أخواه عبد المحسن وعبد العزيز الطباطبائي وإسماعيل السامرائي، وكانت لسان الحزب المعارض. وقد جلب لها الحزب مطبعة من أوروبا مما لم يفعله حزب سياسي آخر في عراقنا، وغدت دار الجريدة ندوة لأحرار الكتاب والسياسيين من البصريين، أو من كان يهرب إلى البصرة من البغداديين فرارا من إرهاق الحكومة وضغطها.
ولما عطلت «الدستور» صدرت باسم «صدى الدستور»، وبقيت مثابرة على خدمة النهضة الفكرية، ومن مقالاتها الرنانة التي كتبها أحد محرريها سليمان فيضي صاحب جريدة «الإيقاظ» التي تحدثنا عنها بعنوان: «الجاسوسية في عهد الحرية» وقد هزت السلطة هزا، وكان لكتاباتها تأثير عميق في الرأي العام، وبقيت تنشر إلى احتلال البريطانيين البصرة في كانون الأول (ديسمبر) سنة 1914.
لما زار الشيخ محمد النبهاني البصرة وتفقد أحوالها قال عن الصحافة فيها:
أنشئ في البصرة بعد إعلان الدستور العثماني نحو إحدى عشرة جريدة أرقاها «المنير» ثم «آتي» ثم «التهذيب» ثم «الفيحاء».
4
جريدة نينوى
وما عرفت الموصل الصحافة الأهلية قبل جريدة «نينوى» التي صدرت في تموز (يوليو) سنة 1909 لصاحبها فتح الله رسم ومديرها المسئول محمد أمين الفخري، وكان يكتب فيها علي حكمت، وهي علمية أدبية سياسية تصدر مرة في الأسبوع باللغتين العربية والتركية. وقد عرفت باعتدالها في سياستها وتحاشي إغضاب الحكومة.
جريدة النجاح
فلما أسس فرع «حزب الحرية والائتلاف» المعارض في الحدباء أصدر جريدة «النجاح» صاحب امتيازها محمد توفيق، وكان يكتب فيها «خير الدين العمري»، ظهرت في 12 تشرين الثاني (نوفمبر) سنة 1910 (1328ه) وبقيت تصدر سنة ونصف سنة ثم أوقفها صاحبها. •••
يلاحظ مما تقدم أن معظم الجرائد التي صدرت في العراق في العهد العثماني تكتب باللغتين العربية والتركية - لغة الدولة الرسمية - وبعضها تركية بحتة، وبينها جرائد باللغة الفارسية.
ولغة هذه الصحافة في فجر حياتها تشوبها العجمة، وأسلوب الكتابة فيها ضعيف مهلهل وعباراتها مشحونة بالأغلاط اللغوية والنحوية، بحيث اهتاج عالم لغوي عراقي كبير، فقال في وصف لغة الصحافة في الحكم التركي:
كانت لغة جرائد بغداد في العهد العثماني خليطا من جميع اللغات التي بها متكلمون في الزوراء، فترى فيها التركية والكردية والفرنسية والإنكليزية والهندية والفارسية، ولغة مؤلفة حروف ألفاظها من كل هذه اللغات معا أو من بعض منها.
هذا من حيث اللغة والأسلوب. أما من ناحية الموضوعات، فمن البداهة بمكان أن شيوع الأمية شيوعا مريعا في ذلك العهد، والتخلف الثقافي جعلا وجود الكتاب نادرا جدا، والصحافة صناعة خاصة لا يخوض غمارها إلا من يتمتع بموهبة لمعالجة الكتابة السياسية ونحوها، ولم يكن يقدم على الكتابة في الصحف في الفترة التي نبحث عنها حملة العلوم الدينية وأشياخ التدريس والفقهاء؛ إذ إن الكثيرين منهم كانوا يرون الكتابة في الجرائد السيارة مزريا بصاحبها، وبعضهم يعتقد أن هذه الصحف لا تنشر إلا الأكاذيب، فهم يربئون بأنفسهم أن يساهموا في التحرير فيها.
كما أن خصاصة أصحاب الصحف جعلتهم عاجزين عن أن يدفعوا أجورا للكاتبين إذا وجدوا، فتجد الواحد منهم يجمع في شخصه بين المالك للجريدة ورئيس التحرير والمخبر ومدير الإدارة. وقد يكون الموزع أيضا.
عزا باحث في مجلة «دار السلام» تأخر الكتابة الصحفية في العراق إلى سببين:
5
الأول:
تعهد الحكومة العثمانية في المدارس إهمال تعليم اللغة العربية، فيخرج الطالب منها لا يعرف لغته نافرا منها.
الثاني:
أن الانقلاب الدستوري العثماني بإفساحه الحرية للصحافة سهل للعوام الصرف إنشاء صحف عامية في العراق، جعلوها واسطة تعيش واتجار، فتمكن الأغبياء من التطاول إلى مقامات العلماء، وتسلق مقاعد الكتاب والأدباء، فأخذت تلك الصحف الساقطة تمثل ملاك الأمة الأدبي بما لا يزيد عليه من السقوط، ولا غرو إذا كان موضع سخرية الأمم الراقية، وذلك هو الذي منع جماعة كتابنا من ترويجها واعتضادها، مع أن في زوايا العراق ثلة من كبار الكتاب وقد عرفوا بآثارهم في صحف مصر والشام.
والغريب أن هؤلاء الأدباء الذين يشير إليهم الكاتب كمحمد حبيب العبيدي والزهاوي والرصافي والشبيبي كانوا ينشرون قصائدهم ومقالاتهم في صحف الخارج فتنقلها صحف بغداد عنها.
ولكنني رأيت خير الدين العمري يقول في مذكراته «المخطوطة»
6
وهو ممن زاولوا الكتابة والصحافة في العهد العثماني، واشتغلوا بالسياسة والإدارة بعدها:
لم يكن في العراق من أرباب القلم شيء يذكر، بل كان هناك شعراء يقومون مقام الصحف في المدح والقدح.
ثم قال في موضع آخر من هذه المذكرات:
7 «حاولت الصحف في العراق أن تنهض بشيء من العمل النافع، فلم تفلح؛ لأن القراء كانوا قليلين فلم تنجح الصحافة العراقية في الدور العثماني أي نجاح.»
كذلك فقد ساد الفترة اللاحقة على الحرب توتر العلاقات الدولية؛ الذي انتهى إلى وقوع الحرب الكورية. وقد كان من آثارها زيادة الطلب فترة ما على القطن المصري وغيره من المواد الأولية. وقد استمر ذلك التوتر حتى بعد انتهاء تلك الحرب، وانقسم العالم أساسا إلى كتلتين: الشرقية والغربية، وكان ذلك سببا في تزايد اهتمام الكتلة الغربية ببلاد الشرق الأوسط، بما فيها مصر بالطبع، وذلك لوجود منابع الزيت في هذه المنطقة، ولما لها من أهمية حربية ، ويمكن أن نجد لكل ذلك صدى فيما قدمته أمريكا أحيانا إلى مصر وبعض البلاد العربية الأخرى من إعانات مالية أو فنية.
أما في الحقل الاجتماعي فقلما ناصرت هاتيك الصحف الأفكار المتطرفة، ويكفي أن ألمح إلى موقف بعض الصحف والمجلات في الحملة على «جميل صدقي الزهاوي» لمقالته في جريدة «المؤيد» المصرية في «الانتصار لحقوق المرأة»، مما اضطر بعض الكتاب المصريين أمثال ولي الدين يكن والدكتور شبلي شميل إلى أن ينتصروا له.
وأما تلك الصحف من ناحية الإخراج ورداءة الطبع فحدث ولا حرج؛ لأن الطباعة كانت بدائية، والمواصلات قليلة والورق عزيز المنال في الأسواق، وليس بين ممن اضطلعوا بالعمل الصحفي من فكر في جلب الورق من أوروبا لقلة المطبوع من جريدته.
فإذا أضفنا إلى كل هذه النواقص في الوسائل والأدوات الجو الخانق الذي كان يعيش فيه الصحفيون في تلك المرحلة والعسف والاضطهاد، مما سنتبسط فيه عند البحث عن حرية الصحافة؛ أدركنا عوامل تأخر الصحافة في أول نشوئها في العراق.
الصحافة في خلال الحرب العالمية الأولى
(1) في ظل الحكم العثماني
لما كانت معظم الصحف العراقية قد أيدت المعارضة للحزب الحاكم - الاتحاد والترقي - في الدور العثماني؛ فقد انتهز الحاكمون من هذا الحزب غمة الحرب العالمية سنة 1914 فرصة للإيقاع بالصحفيين المعارضين والتنكيل بهم.
وسبق ظلام الحرب قيام الحكومة العثمانية بتعديل «قانون المطبوعات» لزيادة التشديد على الصحافيين الأحرار واضطهادهم، فأقيمت على بعض الكتاب وأرباب الصحف الدعاوى في المحاكم، بحيث بلغت 48 دعوى في غضون خمس سنوات خرجوا من أكثرها أبرياء وغرموا في بعض القضايا.
وكانت إدارة الحكم ثنائية بين السلطة العسكرية والسلطة المدنية للعثمانيين فإذا تعرضت جريدة للجيش أو الشرطة تحفزت السلطة العسكرية للتنكيل بالصحفي والحكم عليه، وفي بعض الأحيان وجدنا هاتين السلطتين تصطدمان ببعضهما بعضا كما جرى لصاحب جريدة «الإيقاظ» سليمان فيضي عندما انتقد «الدرك»، فهم قائد الجيش في البصرة بحبسه، ولم تفد حماية وكيل الوالي له إلا أن قوة المعارضة الأهلية تجمعت فأطلقته من الموقف.
نشرت جريدة «الرياض» قصيدة «لمحمد الهاشمي» عرض فيها بالطغاة في إيران والظلم اللاحق بالمسلمين في تونس والجزائر، وما يعانيه أهل القفقاس من ذل، ودعا الشاعر على قيصر الروسية بمنقلب الظالمين، فما كان من الحكومة التركية في بغداد إلا أن قاضت الصحافي والشاعر، فحكمت المحكمة على كل منهما بالسجن ثلاثة أشهر.
ولم يكن الوالي العسوف يتورع من أن يضرب الصحافي بيده، كما حدث لإبراهيم حلمي العمر، الذي كتب في جريدة مصرية مقالا حمل فيه على الاتحاديين والوالي يومئذ في العراق جاويد بك، وبيده قيادة الجيش أيضا بعد أن أعلنت الحرب فحبس الوالي الكاتب أولا ثم جاء به إلى ردهة استقباله في ديوانه وصار يضربه ضربا مبرحا بعصاه على مرأى ومسمع من الجمهور، فتشفع له زميل هو صادق الأعرجي صاحب جريدة «الرصافة» الذي أصبح عضوا في مجلس الولاية بعد اعتزاله الصحافة، فأنقذه من مخالبه.
ولما وجدت الحكومة أن صحف البصرة تتمتع بنوع من الحصانة مكتسبة من هيبة زعيم المعارضة هناك «طالب باشا النقيب»، وتأثيره على السلطة مما يجرئ هذه الجرائد على الإمعان في النقد والمقاومة، أوفدت وزارة الداخلية في إستانبول إلى والي البصرة في أخريات سنة 1913 بإقفال جميع الصحف الموجودة في الثغر والإمساك عن منح امتياز أية جريدة جديدة.
وما أن احتلت الجنود الإنكليزية البصرة بعد اندلاع نيران الحرب الأولى حتى شددت الحكومة العثمانية الخناق على الصحافيين وطاردتهم بحجة ظروف الحرب الاستثنائية، فعطلت الجرائد الأهلية كلها ولم تبق إلا جريدة واحدة «الزهور» لصاحبها «محمد رشيد الصفار» لموالاتها للحكومة وتأييدها سياسة الحاكمين. وقد ثبت الرجل على خطته ولم يتحول عنها حتى إذا انسحب العثمانيون من بغداد إزاء زحف القوات البريطانية التحق بهم، واستأنف عمله الصحفي في الموصل بعد أن جعل جريدته الجديدة باسم «دعوة الحق».
ورأى العثمانيون في سحابة الحرب أن يستعينوا بالصحافة في بث الدعاية لهم والتشنيع لمحاربيهم، فأسسوا في بغداد جريدة يومية دعوها «صدى الإسلام» باللغتين العربية والتركية، يشرف على نشرها الجيش برئاسة قائده العام في هذه المنطقة نور الدين بك الذي عرف بعد ذلك في تاريخ النهضة الكمالية باسم نور الدين باشا «فاتح أزمير»، وناطوا إدارة سياستها برئيس بلدية بغداد رءوف الجادرجي.
وعني حزب الاتحاد والترقي بهذه الصحيفة عناية كبرى، فاختار لها خيرة الكتاب في اللغتين، فكتب فيها من الترك الدكتور حكمت ثريا بك بالتركية، كما كتب فيها بالعربية من العراقيين محمود الوادي وعطا الخطيب الأديب الشاعر وإبراهيم حلمي العمر، وخيري الهنداوي الشاعر، وعبد الرحمن البناء الشاعر، والزهاوي وبعض أدباء النجف الأشرف، وقد نشرت مقالات بلهجة حادة في تدعيم سياسة الاتحاديين وتنفيد بعض ما تنشره جريدة القوات الإنكليزية الممثلة في البصرة المسماة «الأوقات العراقية». وقد نشر «فائز الغصين» في كتابه «المظالم في سورية والعراق والحجاز»
1
رسالة منقولة عن «المقطم»، وردت من بغداد تصف هاتين الجريدتين «الزهور وصدى الإسلام» بأن «شأنهما الدفاع عن الاتحاديين وإطراؤهم وقلب الحقائق ونشر الأضاليل».
ولم يكتف المتحكمون بتعطيل الصحف المعارضة، بل لاحقوا الصحفيين المعارضين أو ذوي النزعة القومية العربية، فنفوا كلا من عبد الحسين الأزري صاحب «المصباح»، ورزوق داود من شباب النادي العلمي الوطني، وداود صليوا صاحب جريدة «صدى بابل»، والأب أنستاس ماري الكرملي صاحب «لغة العرب»، إلى قيري من بلاد الأناضول، حيث قضوا في منفاهم السحيق بعض سني الحرب، كما نفوا إبراهيم صالح شكر صاحب مجلة «الرياحين» وعبد اللطيف ثنيان صاحب «الرقيب» إلى الموصل، وإبراهيم حلمي العمر إلى بتليس، وفر سليمان الدخيل صاحب «الرياض» إلى نجد.
ولم يقتصر أذى الصحفيين على النفي في غياهب الحرب، بل ساق جمال باشا قائد الفيلق الرابع اثنين منهما إلى «ديوان الحرب العرفي» في عاليه؛ أولهما: أحمد عزة الأعظمي، وقد كان يصدر مجلة شهرية باسم «لسان العرب» في فروق تنافح عن الفكرة العربية وتبشر بالرسالة التحريرية بلهجة عنيفة وأسلوب فصيح. وقد غير صاحبها اسمها في سنتها الثانية، فجعلها «المنتدى الأدبي»؛ إذ غدت لسان هذه الجمعية السياسية العربية التي ضمت شباب العرب في العاصمة العثمانية.
سيق هذا الصحافي إلى المحكمة العرفية حيث قضى ثلاثة أشهر في حبس يتجرع العذاب ولم تسفر محاكمته عن اتهامه؛ إذ لم يجدوا بين أيديهم وثيقة تدينه ولم يشهد عليه غير شاهد واحد ولا اعترف هو بكلمة بما عمله أو من عرفه رغما عن تعذيبه وإرهابه، كما أن فطنته أنقذت الكثيرين من إخوانه وزملائه المجاهدين من التهلكة، بل الموت المحتم، فإنه كان يقيم في الآستانة لما كشر الحزب المسيطر عن أنيابه نحو العرب وخاصة المشتغلين بالسياسة الاستقلالية، فقبل أن يلقى القبض عليه أتلف كل ما كان لديه من كتب ومنشورات لجمعيات قومية سرية وشخصيات تعمل للإنقاذ في السر والعلن، ولا سيما أن «المنتدى الأدبي» المذكور كان ملتقى هؤلاء الرجال ومباءة نشاطهم، كما كانت مجلته ينبوعا لكثير مما يذاع في الموضوع في المجلة وغيرها أو عن طريقه.
ورد في الكتاب الأحمر الذي نشره القائد العام جمال باشا يدافع عن محاكمة أحرار العرب وشنقهم ونفيهم وسجنهم، المعنون ب «إيضاحات عن المسائل السياسية التي جرى تدقيقها في ديوان الحزب العرفي المشكل بعاليه» شيء كثير عن أحمد عزة الأعظمي ومجلته ومما تضمن:
كان يجمع «المنتدى الأدبي» كل الطلاب العرب، ويبث فيهم الفكرة القومية ونهضة العرب بأية واسطة كانت، وكلما انتهى فريق منهم بدروسه، حمل الأفكار وبثها حيث يعين في الوظيفة في البلاد العربية، وأن النشرات التي تحرض العرب على الثورة وقتل الترك كانت ترد إلى الشباب العرب في ضمن الجرائد المرسلة إلى مدير مجلة المنتدى الأدبي ومحررها أحمد عزة الأعظمي، فيقرءونها كلهم ويشترك معه في توزيعها عاصم بسيسو، وكان هذا الصحفي يجمع الشباب العربي من مدارسهم الملكية والعسكرية في إدارة مجلة «لسان العرب» ويقرأ عليهم تلك النشرات.
أما الصحافي الثاني المرسل إلى الديوان العرفي في عاليه فهو إبراهيم حلمي العمر، الذي لم تفده مشاركته في تحرير جريدة «صدى الإسلام» التي ألمعنا إليها.
إلا أن الحظ أنجده فإنه وصل المحكمة العرفية في لبنان بعد أن نفذ حكم الإعدام في قوافل الشهداء الثلاث، ثم نشبت «الثورة العربية الكبرى» في الحجاز، فخطأ الكثيرون من حكام إستانبول سلوك جمال باشا وسياسته الانتقامية في بر الشام وحملوه تبعة إغاظة الأمة العربية وتعجيل انفجار نقمتها، فأوعزت إليه الحكومة المركزية بفض الديوان العرفي في عاليه. وهكذا نجا إبراهيم حلمي العمر من حبل المشنقة بعد أن توسط له جماعة من وجوه الشام وأدبائهم بينهم محمد كرد علي منشئ «المقتبس» الجريدة والمجلة، وكان إبراهيم من مراسليها في بغداد.
ويظهر أن كرد علي لم يكتف بالشفاعة للكاتب العراقي عند جمال باشا فينقذه من الأذى، بل أوجد له رزقا بضمه إلى محرري جريدة «الشرق» التي أصدرها القائد المذكور، وحشد لها كبار العلماء والأدباء محمد كرد علي وشكيب أرسلان ومحمد حبيب العبيدي الموصلي وتاج الدين الحسيني وغيرهم. (2) في ظل الاحتلال البريطاني
هذا ما كان من أمر الصحافة في العراق في ظل الحكم العثماني.
وننتقل الآن إلى صفحة جديدة من الحياة العراقية عندما احتل الإنكليز بلادنا في خلال الحرب العالمية الأولى.
أغار الإنكليز على البصرة فاحتلوها في كانون الأول (ديسمبر) سنة 1914، فالتفتوا إلى الصحافة يستعينون بها على توطيد سلطانهم وترسيخ سياستهم وللصحف مقامها في نظر القوم، وفي حياتهم العامة ومجالي إمبراطوريتهم، بحيث ذهبت كلمة لويد جورج داهيتهم، في أعقاب تلك الحرب: «إنما كسبنا الحرب بواسطة الصحافة.» قولا مأثورا يتيه به الصحافيون.
جريدة الأوقات البصرية
فكان أول ما فعلوه بعد استيلائهم على «مطبعة الولاية» الرسمية بالبصرة ابتياعهم المطابع الأهلية الثلاث التي كانت في المدينة، فطفقوا يطبعون بها نشرة يومية باللغتين العربية والإنكليزية تحمل برقيات رويتر، وجلها أخبار حربية تنقل إلى القراء ما يجري في ميادين القتال المختلفة.
ثم تطورت هذه النشرة فأصبحت جريدة يومية باسم «الأوقات البصرية»، وهو طراز من الأسلوب الإنكليزي التقليدي في تسمية الصحف
Basrah Times
درج عليها أكثر من أنشأ منهم صحفا بالإنكليزية في كل صقع من أصقاع الغرب والشرق، فهم يقرنون تعبير «تايمس» إلى اسم القطر أو البلد الذي تظهر فيه الجريدة.
برزت «الأوقات البصرية» مكتوبة باللغات الأربع العربية والتركية والفارسية والإنكليزية، وحرر فيها المستر جون فلبي - وهو بعد ذلك الحاج عبد الله فلبي المستشرق السياسي الإنكليزي.
ولا شك في أن هذه الصحيفة قد أنشئت لتخدم أغراض السلطة المحتلة، وتروج لسياسة الحلفاء وتذيع مبادئهم التي يعلنونها للناس، فضلا عن استغراق أكثر أعمدتها بأخبار الحرب ومراحلها.
وقد أصدر الجيش المحتل بجانب هذه الصحيفة اليومية مجلة أسبوعية مصورة بعنوان: «العراق في زمن الحرب»، حوت صورا للوقائع الحربية في العراق مع صور الشخصيات العراقية - من الفريق الموالي طبعا - ولا سيما شيوخ القبائل ومناظر ومشاهد لهذه البلاد.
فلما وصلت القوات البريطانية بغداد واحتلتها، وانتقلت بهذه المرحلة حكومة الاحتلال المركزية إلى بغداد سنة 1917، تولى سليمان الزهير أحد وجوه البصرة جريدة «الأوقات البصرية» بطريقة الالتزام من الجيش، وعني بأن يجعلها جريدة أهلية واستقدم لها محررا من مصر هو «عطا عوم»، صحافي مصري مخضرم من الزملاء الأوائل لتوفيق حبيب «الصحافي العجوز» في تحرير مجلة «فرعون»، وعاشت الجريدة بعهدة المالك الجديد أو الملتزم إلى سنة 1921 عند تأسيس دولة العراق الحديثة، فلم يبق معنى لوجودها فغابت عن الأنظار.
جريدة العرب
أما في بغداد فبعد أن استتب للمحتلين الأمر أرادوا خلق جريدة قوية تخدم أغراضهم وتنشر خططهم وتطلع الجماهير على سياستهم الظاهرة، وبخاصة بعد أن بلغت الحرب هذا الشوط واستولى الإنكليز على قسم كبير من الأراضي العراقية، ولا تزال جيوشهم تقاتل للاستيلاء على بقية الأقسام، فوضعوا نصب أعينهم مشروع جريدة يومية، فلم تمض عليهم ثلاثة أشهر حتى استطاعوا أن يطلعوا على الناس بهذه الجريدة. وقد دعوها «العرب».
ومن الطريف أن نترجم فقرات من إحدى «رسائل كرترودبيل» إلى والدها وهي مؤرخة في 29 حزيران (يونيو) سنة 1917، وفيها تنبئه بميلاد هذه الجريدة الجديدة. وقد اضطلعت الكاتبة وهي في منصبها في الحكومة المحتلة بأوفر نصيب من العمل الصحفي التأسيسي، قالت «الخاتون» وهو اللقب الذي أطلقه عليها الأهلون عندنا:
تتخذ التدابير لإصدار جريدة محلية عربية، وهي الجريدة التي طال تشوقنا إلى صدورها، ولم يعقنا عن ذلك إلى الآن إلا فقدان الورق، فبعد إجراءات رسمية عديدة توصلنا إلى تحقيق هذه الرغبة. وقد عهد بإدارة سياستها وتحريرها إلى المستر جون فيلبي - ممن ولي مناصب مهمة في حكومة الاحتلال في قطرنا - أما هيئة تحريرها فقد ألفناها من أصدقائي الأقربين - الأصدقاء العرب - ونتوقع أن نحتفل بصدور عددها الأول في غرة تموز (يوليو)، وسنجعلها جريدة ذات شأن وسميناها «العرب»؛ لأنها أول جريدة تصدر في العهد الجديد من حرية العرب - على حد تعبيرها.
هذا ما قالته الخاتون في كتابها إلى أبيها، غير أن الأب أنستاس ماري الكرملي الذي تصدر ديوان الإنشاء في جريدة العرب سنوات قال لي:
كان القوم يرون تسميتها ب «الأوقات البغدادية»، ثم على طلب الخاتون استشرت في هذه التسمية محمود شكري الألوسي فاقترح أن تدعى «العرب» فاستحسن السر برسي كوكس الحاكم العام هذه التسمية فكانت جريدة «العرب».
وذكر ريدلي
M. R. Rideley
في كتابه عن الخاتون
Gertrude Bell
عندما تعرض لاشتغالها في جريدة «العرب»:
كانت رغبتها في أن تعطى هذه الجريدة صبغة محلية أكثر باستخدامها مراسلين لها في الأقاليم، ومحررا يكتب الأخبار المحلية، وشعرت بحق أن الجمهور الذي أصدرت له الصحيفة، وبإثارة اهتمامه فقط تستطيع الجريدة أن تؤدي خدمة مفيدة، هذا الجمهور يحس بأن الحرب في أوروبا تبعد عنه كثيرا كبعد القمر، وأن فهمه لهذه الحرب صعب كصعوبة فهم القمر، وأن هؤلاء الناس يهمهم أن يسمعوا أن فلانا ابن فلان قد وقع في قبضة العدالة، وأنه غرم لتجوله بعد أن أسدل الظلام ستوره من غير أن يحمل مصباحا، يهمهم هذا أكثر من سماعهم أن قرية في الفلاندر قصفت من الجو؛ لهذا ارتأت الخاتون أن الأخبار المحلية مهما ضؤل شأنها فمن الضروري أن يتعود العرب منها على قراءة الجريدة؛ ليتسنى إعداد الأهلين لقراءة الجرائد عندما يحين لصحافتهم الوقت في أن تعالج البحوث الحيوية المختصة بمستقبل بلادهم.
ويظهر أن الخاتون تولت إدارة سياسة الجريدة بعد أن تركها فيلبي؛ إذ وجدتها تكاتب أباها في هذا وتصف له كثرة المهام الملقاة على عاتقها وكيف يحمل إليها الأب أنستاس مسودات مقالات «العرب» الرئيسية، فتقضي بعض الوقت في مناقشته في موضوعاتها إلى غيرها من الشئون الصحفية.
برز العدد الأول من «العرب» في 4 تموز (يوليو) سنة 1917 بصفحتين بادئ ذي بدء تنشران بين يوم ويوم، وبعد شهر أصبحت يومية وفي العام الجديد غدت بأربع صفحات يوميا. وقد كتب على صدرها أنها «جريدة سياسة إخبارية تاريخية أدبية عمرانية عربية المبدأ والغرض، ينشئها في بغداد عرب للعرب.» وهذه النزعة تنسجم تماما مع السياسة البريطانية في خلال تلك الحرب، حيث تهدف إلى التقرب إلى العرب وتنفيرهم من الترك، بل إثارتهم عليهم.
وقالت الجريدة في كلمتها الأولى:
إنها ستكون وسيلة لنشر آراء العرب وتعميم علومهم وآدابهم وترقية شئونهم وعمرانهم.
والمعالم البارزة لهذه الجريدة الرسمية لحكومة الاحتلال، غير أخبار الحرب الدائرة والدعوة لقضية الحلفاء وخدمة السياسة البريطانية، أنها أول جريدة حكومية صدرت في بغداد باللغة العربية الصرف، لغتها سليمة فصيحة ونزعتها عربية وصارت تبشر بالفكرة العربية وتذيع في العراقيين فضل البيت الهاشمي رائد النهضة القومية، وقامت بدعاية نشيطة للثورة العربية بزعامة ملك العرب جلالة الحسين بن علي، شريف مكة المكرمة، ولم تكن تغفل النواحي الاجتماعية والتاريخية والأدبية مع نشرها أخبار الحرب ومنها حرب العراق، فضلا عن بلاغات القيادة العامة لجيش الاحتلال الذي يواصل الزحف في الأراضي العراقية، وبيانات الحكومة المحتلة وإعلاناتها للشعب. وقد أخذت في سنتها الثانية تزين صفحتها الأخيرة بصور حربية، إلا أن النقص في الزنكغراف والفن الطباعي كان بادي الأثر في هذه الصور؛ لهذا عنيت فترة من الزمن بنشر ملحق مصور مستقل عنها يطبع على ورق صقيل وبصور واضحة، وكله دعاية حربية وتصوير لمشاهد محلية وأشخاص عراقيين.
وكانت جريدة «العرب» تنشر ملاحق صغيرة نادرا لبعض الأخبار الحربية الخطيرة، ولعل أروع ملحق نشرته لعددها 591 يوم 30 حزيران (يونيو) سنة 1919، وهو متوج بلفظة «الصلح» بحروف ضخمة وتحتها هذه العبارة:
وفي البلاغ الآتي من ديوان الحرب يوم السبت بعد الظهر في 28 حزيران (يونيو) وهو مؤرخ في ذلك اليوم:
وقع على الصلح اليوم في الساعة الرابعة زوالية بعد الظهر.
واستمرت جريدة المحتلين العربية تصدر أربع سنوات إلى أن أعلنت يوم 31 أيار (مايو) سنة 1920 أنها ستحتجب. وقد ودعت قراءها وشكرتهم على إقبالهم على قراءتها ومؤازرتهم إياها منذ إنشائها إلى ذلك الوقت.
أما محررو هذه الجريدة وكتابها؛ فقد كانوا نخبة رجال العلم والأدب في بلاد الرافدين، ألفت قلوبهم سلطة الاحتلال وأغرتهم بأنها جريدتهم لبث الفكرة العربية وخدمة اللغة وتثقيف الشعب، وأجزلت لهم أجور الكتابة ولعلها المرة الأولى في عراقنا تناول الأدباء والكتاب أجورا محترمة على نتاج أقلامهم، فحرر فيها شكري الفضيلي وكاظم الدجيلي وعبد الحسين الأزري ومحمد مهدي البصير وعطا أمين، والظاهرة التي تلفت النظر أن الصحيفة كانت تعمل في خواتيم مقالاتها تواقيع مستعارة عديدة لصنوف كتابها، بينها «ابن العراق» و«ابن الفراتين» و«ابن ماء السماء» و«ابن جلا» و«ابن ذي الكنيتين» و«ابن بابل» و«مطالع».
ولا تسألوا عن الداعي إلى هذا التنكر والتستر، فأنتم مدركوه بداهة، والظرف ظرف حرب والمهيمنون على الجريدة والمنفقون عليها الإنكليز المحتلون، ولكن ما أعلنت الهدنة ووضعت الحرب أوزارها حتى انكشفت الأقنعة فأخذنا نقرأ اسم الكاتب في ذيل مقالته، وكان جميل الزهاوي يطرف قراء العرب بنفحات أدبه ويمتعهم بمختارات من «عيون الشعر» العربي في عصوره الخالية، كما كان شكري الفضلي يكتب أغلب افتتاحياتها وهو من أدباء العراق وكتابه السياسيين.
والطريف أنه كان بين هؤلاء المحررين كاتب عرف في المجتمع باسم «نجيب السوري»، وهو الدكتور نجيب الأرمنازي وزير سورية المفوض في مصر اليوم، وجد في بغداد ضابطا في الجيش التركي فترك الجيش واتصلت مودته الأدبية بالأب أنستاس الكرملي فحسن له هذا الاشتغال بالأدب والكتابة، وترجم باقتراحه كتابا عن اللغة التركية لأبي حكمت سليمان السياسي العراقي في تاريخ العراق في العصور الأخيرة، وكتب في صحيفة «العرب».
ولم تكتف حكومة الاحتلال بالجريدة اليومية، بل أنشأت مجلة نصف شهرية للعلم والأدب دعتها «دار السلام»، سنتحدث عنها عند بحث الصحافة الأدبية والمجلات المختصة بالعلوم والفنون في محاضرة آتية.
جريدة الوقائع العراقية
وبقي العراق عامين خلوا من جريدة رسمية بعد غياب «العرب»، فلما وضعت قواعد المملكة العراقية بدت الحاجة إلى صحيفة رسمية لنشر القوانين والأنظمة وشئون الدولة بما يقتضيه نظام الحكم في التشريع، فأنشأت أول الأمر وزارة العدلية مجلة دعتها «مجلة العدلية»؛ لنشر بيانات الحكومة وقرارات المحاكم وبعض الإعلانات ونحوها، وكان يحررها كاظم الدجيلي، ثم رئي إيقافها والاستعاضة عنها بجريدة رسمية أنشأتها الحكومة باسم «الوقائع العراقية».
وقد احتفظت حكومتنا بتعبير «الوقائع» في الشرق لجريدتي السلطان محمود العثماني ومحمد علي باشا خديوي مصر، برز العدد الأول من «الوقائع العراقية» في كانون الأول (ديسمبر) سنة 1923، على أن تظهر ثلاث مرات في الأسبوع لنشر القوانين والأنظمة والتعليمات والمراسيم والإرادات الملكية والبيانات الوزارية وإعلانات الحكومة، وتدون ذيلا لها محاضر مجلس النواب والأعيان المؤلف منهما البرلمان العراقي، وخطر لمؤسسيها من كبار موظفي وزارة الداخلية أن يجعلوها لأول وهلة جامعة لمباحث في السياسة والعلم والأدب والأخبار الخارجية إلى جانب الشئون الرسمية، كما كان شأن الوقائع المصرية في بدء حياتها؛ لذلك جعلوها بشكل مجلة في أعدادها الأولى، وفاوضوا أحد محرري الصحف - رفائيل بطي - لتولي تحريرها، بل صدر أمر وزارة الداخلية بتعيينه لهذه المهمة، فاعتذر فأوكل تحريرها إلى كاظم الدجيلي، واقتصر بعد تجربة قصيرة فاشلة على إلباسها الثوب الرسمي فحسب. وهكذا كان ولا تزال تنشر إلى اليوم.
جريدة الموصل
رأينا كيف أنشأ الإنكليز المحتلون جريدة في البصرة وجريدة في بغداد، فلما أتيح لهم أن يبلغوا مدينة الموصل فاحتلوها في خريف سنة 1918، ودخل جيشهم المدينة فعلا بعد إعلان الهدنة، مما كان له تاريخ وحديث بين الدول الكبرى، وفي مؤتمر الصلح بفرساي اهتموا فيما اهتموا به بجريدة «الموصل» الرسمية فاستأنفوا نشرها باللغة العربية وحدها ثلاث مرات في الأسبوع، ولم يكن من السهل إيجاد أديب قدير يجيد الكتابة العربية وهو ملم بالعمل الصحفي، فاستعانوا باثنين من أساتذة التعليم هما سليم حسون والقس سليمان الصائغ، حتى تسنى لهم استقدام أديب صحافي لبناني هو «أنيس صيداوي» لهذا الغرض، وهو من خريجي الجامعة الأمريكية ببيروت. وقد زاول الصحافة بعد حصوله على درجتها العلمية، فزامل جرجي عطية الأديب البيروتي في جريدته الأسبوعية «المراقب»، فأحست الحلقات الصحفية والأدبية بأثر هذا الكاتب في تحسين مادة «المراقب» فلما قضت محنة الحرب على الجريدة طوحت بالصيداوي إلى الترجمة ونحوها في الجيش البريطاني، فخلع هذا الأديب على جريدة «الموصل» ثوبا بهيا من الفكر المثقف ثقافة حديثة، والأسلوب العربي المبين مع احتفاظها بالزي الرسمي، ويلقى فيها متصفحها الآن مقالات وشذرات فذة في الحياة الصحفية العراقية في ذلك الطور، كما أن أنيسا هذا عوض عن قيود الجريدة الحكومية الرسمية في الموضوعات السياسية بإفساح المجال للأدب والاجتماع فيها، فصور الحياة الأدبية في مدينة أبي تمام تصويرا باسما في فجر السلام بعد فواجع الحرب المدلهمة التي كابد في خلالها بلدي الويلات، ومن بعضها القحط حيث مات كثيرون جوعا وأكل البعض لحوم البشر. وقد رأيت بأم رأسي جماعة من المهاجرين الذين رحلوا إلى الموصل من بعض المدن التركية يتكالبون على تقطيع أشلاء بغل نافق جروه من الشارع إلى أكواخهم.
وبدأت جريدة الموصل تشيد بالأدباء الموصليين وتبرز آثارهم، وفيهم من لم يعرفهم عالم الطبع والنشر قبل ذلك نظير أحمد الفخري الشاعر، ومع أن «الموصل» لم تحتفظ بهذا الرونق الأدبي، بعد أن تركها محررها عائدا إلى بلده بيروت محتفظا بذكريات طيبة واطلاع على أحوال العراق، نثره في مقالات مفيدة في «الهلال» ومجلة الكلية البيروتية وغيرهما؛ فقد عاشت حتى إذا أنشئت جرائد أهلية في تلك الحاضرة، ووجدت جريدة الدولة الرسمية «الوقائع العراقية» التي تكفلت سهولة المواصلات الحديثة بتوزيعها في أنحاء القطر في وقت قصير، لم تجد الحكومة مبررا لبقاء جريدة رسمية خاصة في الموصل فأوقفتها سنة 1934.
في حلكة الحكم العسكري لقوات الاحتلال خنقت الحرية الفكرية، وحالت دون صدور أية جريدة سياسية غير الجرائد الرسمية، ويعتبر محمد مهدي البصير في كتابه «تاريخ القضية العراقية» هذه الظاهرة من أخطاء حكومة الاحتلال. وقد حلل هذا الخطر «بأن مصادرة حرية الصحافة في العراق وجه رغبة العراقيين إلى قراءة الصحف السورية والمصرية الحرة، وكانت حافلة يومئذ بالحملات على سياسة أوروبا، مفعمة بأنباء التطورات السياسية في مصر والشام فعادت هذه السياسة على حكومة الاحتلال بالخسران، بينما أرادت بعملها الكسب السياسي.»
ثم هبت على الشعب العراقي نشوة انتعاش وتطلع بعد أن انفض مؤتمر الصلح في باريس عن «معاهدة فرساي». وقد حركت أفكارهم وعود الحلفاء وعهودهم وخطب رجالاتهم ومناشيرهم، وفي مقدمتها منشور الجنرال مود على أهل بغداد عند فتحها بجنوده الملونين، وينص فيه على أنهم جاءوا محررين لا فاتحين، ودعوة الرئيس ولسن الأمريكي التحريرية ومواده الأربع عشر المزعوم أنها وضعت لتخليص الإنسانية من الاستعباد، كما طفق الضباط العراقيون يعودون إلى مواطنهم وبينهم من اشترك في الثورة العربية، وكانت تلهب الأذهان على شطآن دجلة والفرات الصحف العربية التي تحملها برد الجيش البريطاني نفسه وتوزعها هنا وهناك في بغداد والحواضر، بينها جريدة «القبلة» لسان الملك المنقذ في الحجاز المتدفق بالحماسة للثورة، و«المقطم» و«الكوكب»، وكان «المكتب العربي» الذي أنشأه الإنكليز في القاهرة يغذيهما بالمقالات الرنانة في تحبيذ ثورة الحجاز، ووصف مظالم العثمانيين والإشادة بيقظة العرب وحقوقهم في الحرية والاستقلال، دعاية صاخبة منظمة حشدت لها الرءوس المفكرة في سبيلها، وأنفقت الأموال الضخمة.
يضاف إلى هذه البواعث قيام الحكومة العربية في الشام بعد أن احتلها جيش الخلاص بقيادة الأمير فيصل بن الحسين. وقد تولى الكثيرون من الضباط والمثقفين العراقيين مناصب خطيرة في حكومة الشام الجديدة، فلما كان يفد العشرات من هؤلاء الضباط والمدنيين على مسقط رءوسهم في أحياء بغداد ومرابع الموصل، كانت حقائبهم حافلة بصحف دمشق وهي تلتهب بوهج البعث القومي، في هذا الغليان السياسي أرادت حكمة إنكلترة أن تطوي صفحة الحكم العسكري الاحتلالي بحكم مدني بريطاني أيضا، ولكنها تلكأت في منح «حرية الصحافة» لأبناء الرافدين، فعند توقف جريدة «العرب» صدرت جريدة باسم «العراق»، ومنحت الحكومة الاحتلالية امتيازين آخرين لجريدتين؛ الأولى بعنوان «الاستقلال» والثانية باسم «الشرق». أما وجريدة الاستقلال من ألسنة الثورة التي سنتحدث عنها في المحاضرة الخاصة بصحافة «الثورة العراقية» فلأنجز بحث الصحافة في العهد الاحتلالي بعرض حياة الصحيفتين الأخيرتين، وهما جريدتان أهليتان مستقلتان.
جريدة العراق
إن جريدة «العراق» أقدم جريدة أهلية بعد الحرب الأولى، عاشت سنين وأشغلت حيزا في تاريخ الصحافة؛ فقد أذاعت جريدة العرب في العدد الأخير منها يوم 31 أيار (مايو) سنة 1920 هذا الخبر بعنوان «جريدة يومية جديدة»:
يصدر غدا العدد الأول من جريدة «العراق» وهي جريدة يومية تبحث في السياسة والأدب والاقتصاد، لصاحبها الوحيد رزوق داود غنام، وهذا العدد من جريدة العرب هو العدد الأخير ...
وحيث لم يكن ميسورا الحصول فورا على مطبعة جديدة عهدئذ فقد ساعدت الحكومة هذا الصحافي مؤقتا بالمطبعة التي كانت تطبع لها «العرب»، وهي في أصلها مطبعة جريدة «الزهور» التي صادرها الجيش المحتل، ولا سيما أن مؤسس العراق كان يشتغل في قسمي الإدارة والتحرير في جريدة «العرب»، وهو ممن اعتنقوا الفكرة القومية في العهد العثماني وعملوا في «النادي العلمي الوطني» في بغداد، فتعرض لغضب العثمانيين فنفي في خلال الحرب كما ذكرت.
برزت «العراق» في 1 حزيران (يونيو) سنة 1920 تعالج السياسة والاقتصاد والأدب بلسان عربي فصيح، وأخذت في خدمة الصحافة بالتحسين الذي تؤاتيه الظروف، ومع أنها كانت تؤيد السياسة البريطانية بوجه عام فلم تكن تهمل واجبها كجريدة تشعر بالضمير الصحافي، وتعزز النزعة الوطنية بطريقة إيجابية معتدلة مما أكسبها رضا كثير من السياسيين، بحيث صاح محمد مهدي البصير «لتحي جريدة العراق»، بينما كان يخطب في أحد المهرجانات الثورية في جامع الحيدرخانة في ليلة من ليالي بغداد البيض، تحت سماء الكفاح النبيل، وفاضت أنهر العراق من بدايتها ببحث الشئون العربية لجميع أقطارها وأيدت دعوة الملك حسين وأنجاله، وشادت بزعامة البيت الهاشمي بلهجة حارة واهتمت بالأمور الاقتصادية، ومهدت في مقالاتها وتنوع أبوابها لأن تقوم المملكة على كيان مكين في مفهوم الدول العصرية.
ومع أنها تنشر بأربع صفحات؛ فقد عنيت بالنواحي الثقافية والاجتماعية إلى حد كبير، وصدرت أعداد سنوية ممتازة في مطلع حياتها، فجاء علمها في ذلك الحين نواة النهضة الأدبية التي انعقدت براعيها في الحقل العراقي بعد الحرب. وقد كتب فيها غير محررها رفائيل بطي وشكري الفضلي وحسن غصيبة وعطا أمين وسلمان الشيخ داود ومحمد عبد الحسين وعطا عوم وغيرهم، وحاولت مرة في عهدها الأخير أن تجعل صفحة باللغة الإنكليزية فيها فلم تنجح فكرتها فأقلعت عنها، وبقيت تصدر إلى أن أوقفها صاحبها باختياره قبل ما يزيد على عشر سنوات.
جريدة الشرق
أما الجريدة الثانية «الشرق» فنهض لنشرها رجل فلسطيني ممن تزودوا ثقافتهم من الجامعة الأمريكية في بيروت، وأتم دراسته العالية في جامعة كمبردج مختصا بالاقتصاد السياسي، وهو «حسين أفنان».
وكان في زمن الحرب معاون آمر المعتقل للأسرى الضباط العراقيين والعرب في سمربور، ثم أسند إليه منصب كبير في ديوان الحاكم البريطاني العام في بغداد بعد الهدنة.
صدر عددها الأول في 30 آب (أغسطس) سنة 1920، وقال صاحبها في مقدمتها:
نرى أمامنا بلادا عم فيها الاضطراب وكثر الويل. وقد أخذنا في هذا البحران على عاتقنا مسئولية إنشاء جريدة يومية سياسية عالمة بهول الموقف ومصير الأمور.
إلى أن قال:
فالشرق جريدة حرة معتدلة مبدؤها خدمة البلاد، وغرضها نشر الأفكار الحرة والمبادئ القومية وبث روح السياسة المسالمة ونشر الحقائق الناصعة، ولا ندعي بأن الحق في جانبنا فيما نقوله في جميع الأحيان، غير أننا سنتحراه بلا تردد ولا تأخذنا فيه لومة لائم.
لم تكن الشرق في حجمها وتبويبها وتحريرها تلفت النظر. وقد كتب فيها شكري الفضلي ونشر على صفحاتها بعض الأدباء الناشئين مقالات ونتفا، منهم الكاتب القصصي محمود أحمد المدرس وأذاع فيها الزهاوي بعض رباعياته.
وهي في مشربها تدعم السياسة الإنكليزية بقوة، وأحسبها الجريدة الوحيدة في قطرنا التي جرأت فكتبت مقالات تحسن مذهب «الانتداب» في سياسة الشعوب، ونشرت مضابط في تأييد الوصاية البريطانية أو الانتداب البريطاني على العراق من بعض شيوخ العشائر في لواء ديالي، حتى إذا ما بدا موضوع تأسيس دولة العراق الجديدة قامت «الشرق» بدعاية وزعامة طالب باشا النقيب وترشيحه لعرش العراق، وأضفت عليه الأماديح نظما ونثرا، بينما زميلتها «العراق» دعت بحرارة لآل البيت الهاشمي وللأمير فيصل بوجه خاص.
ثم كتبت صحيفة «الشرق» في عددها ال 25 مقالا بعنوان: «شكل الحكومات اليوم»، تطرقت فيه إلى الموضوع الدائر في الإذاعات الرسمية الإنكليزية عن مستقبل العراق بين إنشاء إمارة أو إقامة وصاية أو انتداب، وختمت مقالتها: إن الأجدى بالحكومة العراقية أن تكتفي بالتأسيسات الحكومية وتكون لا ملوكية ولا إمارة ولا جمهورية ...
وبعد شهرين من حياة الجريدة أبطلها صاحبها في 17 تشرين الثاني (نوفمبر) سنة 20 عندما وظف سكرتيرا لمجلس الوزراء العراقي.
صحافة الثورة العراقية سنة 1920
مجلة اللسان
إن المجاهدين العراقيين من أصحاب العقيدة في القضية القومية وتوجيهها نحو استقلال العرب لم يثنهم إمساك السلطة الاحتلالية البريطانية عن الإذن بإصدار صحف سياسية يومية، فداوروا بعد أن وقعت معاهدة الصلح في باريس في خلق أداة تعينهم على ذيوع فكرتهم وتعليم الرأي العام في بلاد الرافدين فلسفة النهضة العربية، فحصلوا على امتياز بمجلة شهرية صدرت في تموز سنة 1919 لتكون في مظهرها مجلة «تاريخية اجتماعية علمية أدبية مصورة»، ولكنها في حقيقتها تخدم النهضة السياسية بأسلوب علمي أدبي، وجعلوا اسمها «اللسان» رمزا «للسان العرب» التي كانت تنشر في إستانبول، ومحررها هو نفسه أحمد عزة الأعظمي، وإن خلا غلافها من اسمه واكتفى بأن اتخذ اسمي صديقين له تسترا عن أعين حكومة الاحتلال، فجعل صاحبها «علي رضا الغزالي» ومديرها المسئول «أنطون لوقا»، فكانت أول صحيفة أهلية من صحف الدعوة للنهوض، ومواصلة المطالبة بحقوق الأمة في الحياة والمجد، قالت في عددها الأول بعنوان «أمل وبيان»:
إن من ينظر في أحوال المجتمع العراقي الاجتماعية والأدبية، ويفكر فيما آل إليه أمره، لا بد وأن تضطرب حواسه ويضيع صوابه، كيف لا وقد أصاب العراق في السنين الأخيرة أمراض كثيرة ينوء بحملها؛ ضعف في الأخلاق، خلل في النظام، فساد في التربية، فوضى في الاجتماع ... فغاية «اللسان» التي ترمي إليها ترتيل محاسن المدنية العربية التي لعبت بها يد الأهوال منذ قرون على مسامع أبناء العراق الأعزاء، وتذكيرهم بما كان لأمتهم من المكانة السامية بين الأمم والمنزلة العليا من التمدن.
1
وقد واصلت هذه الصحيفة الدعوة العربية ونشرت ما يحرك المشاعر ويثبت الرشد إلى تدهور الحال، منتهزة كل فرصة حتى الفرص الأدبية، فعندما نشرت مجلة «الهلال» سينية أحمد شوقي «الأندلسية» جعلتها مجلة «اللسان» افتتاحية، علقت عليها بما يلهب العواطف الوطنية.
وكانت إدارة المجلة ندوة يلتقي فيها العاملون في الجماعات السياسية الوطنية والعائدون من الثورة العربية، والراجعون من المنافي والسجون ومواطن التشريد البعيدة، وظلت تنشر ما يزيد على العام حتى إذا قررت الأحزاب السرية إصدار جريدة يومية وحصلت على امتيازها سكت «اللسان» وسافر منشئوه إلى بعض أقطار العروبة.
جريدة العقاب
في خلال الحرب العالمية الأولى انقسم المنتمون إلى «حزب العهد» السري الذي أسسه شباب العرب في الآستانة إلى شطرين؛ يعمل أحدهما لتحرير سورية، ويجاهد الآخر لتحرير العراق، وقد كان مركز «حزب العهد العراقي» دمشق وأسس له فروعا في أنحاء العراق، وأنشط هذه الفروع فرع الموصل، فطفق من أول إنشائه يهيمن على جريدة «العقاب»، وهي الصحيفة التي أنشأها الأحرار العراقيون في سورية ويحررها أسعد داغر، وكان مكي الشربتي عاملا قويا فيها، فأصبحت لسان حال هذا الحزب، واهتمت فروع الحزب في بلاد الرافدين بنشرها في أرجاء القطر العراقي، فترسل كميات كبيرة منها إلى المثقفين في الرافدين وزعماء القبائل. •••
ويظهر أن السياسة البريطانية في العراق لم تكن قد استقرت بعد على خطة واضحة بشأن الصحافة، بينما كانت رغبات الشعب ملحة في طلب الحرية للصحافة، فعندما اشتدت الحركة التي أولدت ثورة سنة 1920 كانت «حرية الصحافة» مطلبا أساسيا في مطالب الشعب الثائر؛ ففي أعنف المظاهرات التي سبقت تلك الثورة انتخب المتظاهرون وفدا من وجوهه إلى الحاكم العام الإنكليزي، وجمع الوفد صفوة أحرار بغداد والكاظمية قابلوا الحاكم العام في مكتبه يوم 2 حزيران (يونيو) سنة 1920، وقدموا إليه «مذكرة بمطالب الشعب»، فكان «المطلب الثاني منها»:
منح الحرية للمطبوعات ليتمكن الشعب من الإفصاح عن رغائبه وأفكاره.
وبعد أن اندلع لهيب الثورة نشر الشيخ حبيب الخيزران رئيس قبائل العزة كتابا مفتوحا إلى الممثل البريطاني الذي أوفدته حكومته للتفاهم مع الثوار، بسط فيه مطالب الأمة جازما بأن إعطاء الأمة هذه الأمور يكون السبب الوحيد لحل المشاكل حلا مرضيا - على حد تعبيره - فكانت «النقطة الخامسة» من هذه المطالب:
إعطاء الأهالي حرية الاجتماع والصحافة ...
وفي وسط هذا المعمعان السياسي، والثورة متقدة، تذيع الصحيفة التي تنطق بلسان الأحزاب الوطنية «مطالب الأمة السبعة» وفي رأس قائمة هذه المطالب:
إطلاق حرية الصحافة وتطبيق قانون المطبوعات العثماني إلى أن يسن غيره وفقا لنظامات الاحتلال.
بذل الشعب كثيرا في ميدان ثورته سنة 1920 التي اعتبرها حربا استقلالية مقدسة، كما قرر الباحثون في أحوال العراق، حتى من الأجانب أنفسهم، نظير فيليب آيرلند الأمريكي في كتابه الثمين «العراق، درس في التطور السياسي»، وهو من خير ما كتب عن بلادنا في النهضة الحديثة. وقد تذرع الشعب بشتى الوسائل لإنجاح الثورة وتحقيق الأهداف العليا التي قصدت إليها من إظهار شخصيته شعبا حيا أبيا، فكانت الصحافة من هذه الوسائل ولا غرو فقد فطن العراقيون إلى هذه الآلة الفعالة في كفاحهم السياسي قبل هذه المرحلة، فاستعانوا بها في بعث الحركة القومية قبل الحرب العالمية الأولى - كما رأينا في المحاضرات السابقة - يوم وقفوا في وجه السلطنة العثمانية مطالبين بالتحرر من الحكم التركي. هكذا كانت لنا صحافة ثورة سنة 1920، ولهذه الصحافة تاريخ وضيء على قصره بليغ في مراميه ومدلولاته.
جريدة الاستقلال في بغداد
قرر فرع «حزب العهد» العراقي بالاشتراك مع بقية الأحزاب الوطنية السرية وهم يتدابرون الخطط للثورة على المحتل الغاصب - بريطانية - إصدار جريدة تتابع حركة الإيقاظ، وألحوا على حكومة الاحتلال في طلب الإذن للجريدة باسم «الاستقلال» فمنحتهم امتيازها بعد تردد ومماطلة. وقد أخذ الامتياز باسم أحد أعضاء الحزب «عبد الغفور البدري» من الضباط السابقين المشتغلين بالقضية العربية.
برزت جريدة الاستقلال في 28 أيلول (سبتمبر) سنة 1920 وقد رسم على صدرها أنها «جريدة يومية عربية حرة»، ولكنها بسبب ندرة الورق ومصاعب الطباعة جعلت أسبوعية مؤقتة، وإننا لندرك نزعتها القومية الواسعة الشمول من اسمها، فهي تعمل لما يهم العرب عامة والعراقيين خاصة.
وقد بسطت الجريدة سياستها في عددها الأول، فقالت بعد تمهيد طويل في قيمة الجرائد الحرة والصحف الوطنية بالقياس إلى غيرها:
الاستقلال منشور وطني حر يخدم أفكار العرب عامة والعراقيين خاصة يدافع عما يدافعون ويطلب ما يطلبون، ولا يبالي إذا انزعج منه الخائنون، ولا ينتسب إلا إلى الوطنية الصادقة، ولا يتكلم إلا بما يطابق أفكار الشعب، خطته الاعتدال والتبسط في حالتي العسر واليسر، واجتناب الشتم والقدح والذم وغيره من النقائص التي تشين الصحافة وتعيبها، كما أنه سيبذل قصارى جهده في تقويم المعوج وإصلاح الفاسد، فيقابل الاقتراح النافع بكل ارتياح ويصغي لنداء الوطنيين بملء أذنيه، ويقرع طنبوبه لمن يستصرخه لنصرة الأمة ضالته مسماه «أي الاستقلال» وأمنية الشعب هي غاية ما يتمناه، ثابت في عزيمته مثابر على مسلكه لا يقعقع له بالشنان ولا تزلزل أركانه الأراجيف.
تولى تحير «الاستقلال» قاسم العلوي، كما كتب فيه الكثيرون من رجال الأحزاب الوطنية غفلا من التواقيع، وساهم في كتابته بأسمائهم محمد مهدي البصير من مشهوري خطباء الثورة التي نحن بصددها، وسلمان الشيخ داود.
وأعظم ما صرفت إليه الجريدة جهدها المقال الافتتاحي، وكان العهد عهد مقالات فكان في الغالب يعالج القضية العراقية ويطالب بفسح لمجال الحرية، ويبرهن على استعداد الشعب للاستقلال. وقد عنيت الجريدة بمشروع الحكومة العراقية المؤقتة التي كونتها سلطة الاحتلال البريطانية تخلصا من أزمة الثورة، وتمهيدا لتأسيس دولة العراق.
ناصرت «الاستقلال» أول ما ظهرت سياسة البيت الهاشمي في النهضة، وعضدت حركة الملك فيصل في دفاعه عن سورية وبقية بلاد العرب، وكتبت تعليقات تؤيد ثبات هذا الزعيم في موقفه.
وما قدم السر برسي كوكس مندوبا ساميا لبريطانيا في العراق ومبعوثا خاصا لتنفيذ سياستها الجديدة في بلاد الرافدين حتى هرع إليه مدير صحيفة الاستقلال، وحصل على حديث سياسي منه، وفي ذلك الحديث بيان واضح عن السياسة التي اختطها السر برسي لمعالجة الوضع العراقي قال:
إن بالإمكان عقد الاجتماعات السلمية، وإصدار الصحف بعد الحصول على إذن الحاكم العسكري - البريطاني - وأنه يود إخماد الثورة بالتفاهم، وسيأتي وقت بعد انعقاد المجلس التأسيسي وقيام حكومة العراق الدائمة التي تنشئ الجيش الوطني يتسنى فيه سحب معظم القوات البريطانية لتحل محلها القوات الوطنية. وقد رحب بكل وفد يتوسط بين زعماء الثورة والحكومة الإنكليزية ويسعى لإخماد نار الحركة.
وقد جاهدت «الاستقلال» في شرح أسباب الثورة، وهي مشتعلة الأوار، وتحليل عوامل الاستياء والنقمة من حكومة الاحتلال، ومما تذرعت به شعر حماسي تنشر أبياته يوميا، وهو من نظم محمد مهدي البصير، وطالبت الحكومة المحتلة بحرية الصحافة وكتبت في فوائد الأحزاب، وتولت تنفيذ ما ورد على ألسنة بعض الرجال البريطانيين في مجلس العموم وغيره، ومزقت أراجيف بعض صحف الخارج عن العراق التي شاءت أن تشوه جهاده الوطني.
وكان المرء يحس وهو في إدارة هذه الجريدة أنه مؤسسة شعبية وطنية وناد سياسي مكتظ بالمكافحين، حركة نشيطة يشترك فيها جماعات من الأهلين من طبقات الشعب، هذا يتبرع بالمال وذاك يكتب وآخرون يتبرعون بتسيير إدارة الجريدة، وذلك يبدي الأفكار ويوجه، وتلف الجميع حماسة جارفة، ويجب ألا ننسى أن العمل الصحافي لم يكن معروفا في بلادنا في تلك الأيام على الطريقة الفنية الحديثة، وكان كل ما في الجريدة وإدارتها يرمز إلى هدف الاستقلال العربي، حتى إن «لافتة» الجريدة على باب الإدارة كتبت بالألوان المربعة «الأبيض والأسود والأخضر والأحمر»، وهي ألوان العلم العربي الذي حمل إبان الثورة في الحجاز، قبل أن يرفرف في سماء السواد علم عراقي.
وهناك حقيقة يحسن تسجيلها: أن صدر حكومة الاحتلال الإنجليزية كان رحبا إزاء ما تكتبه جريدة الاستقلال، فأفسحت مجالا لا بأس به من حرية الصحافة مما لم نجده بعد ذلك مراعى دائما في عهد الاستقلال.
ومن آيات خدمة هذه الصحيفة مقالاتها في التسامح والإخاء بين أهل العراق على اختلاف أديانهم ومذاهبهم وتوثيقها عرى الاتحاد الوطني بينهم.
ولم تكن الجريدة تهمل الناحيتين الأدبية والاجتماعية، إلا أن الصفة السياسية كانت الغالبة حتى على القصائد التي تنشرها.
وأسلوب الكتابة فيها متين، ولكنه غير مقسم بالجدة في التعبير العصري في غالبه، كما أن مواد الجريدة الأخرى وأخبارها الخارجية كانت كلها مفرغة في قالب المعارضة ووصف الحركات الثورية وإرهاق الاستعمار لبعض أقطار الشرق.
كل أولئك أثر في إقبال القراء على جريدة الاستقلال بعد أن وجدوها تعبر عن إحساسهم وتفيض بآرائهم وتنطق بأمانيهم.
فلما كان يوم 9 شباط (فبراير) سنة 1921. وقد عاد بعض المنفيين الوطنيين إلى بغداد صدر عدد خاص من «الاستقلال» يحمل التهنئة للأمة بعودة رجال الجهاد، ويؤكد إعلان البرنامج السياسي للكفاح بعناوين كبيرة وحروف ضخمة بارزة في صدر الصحيفة وهذا نصه:
نهنئ الأمة العراقية بقدوم منفيينا الكرام، ونطلب إرجاع جميع المنفيين بلا استثناء ، كما أننا نواصل الطلب في تنفيذ سائر المواد السبع وهي: (1)
إطلاق حرية الصحافة وتطبيق قانون المطبوعات العثماني إلى أن يسن غيره وفقا لنظامات الاحتلال. (2)
إطلاق حرية الاجتماعات وتشكيل أندية سياسية رسمية. (3)
إصدار العفو العام الخالي من كل قيد وشرط عن جميع المجرمين السياسيين وإطلاق سراح المسجونين. (4)
إرجاع المبعدين والمنفيين والسماح للمشتتين بالرجوع إلى أوطانهم. (5)
رفع الإدارة العرفية العسكرية والأحكام الكيفية التي أناخت على الشعب العراقي منذ الاحتلال حتى الآن؛ لتتمكن الأمة من التفاهم مع السلطات بكل حرية واطمئنان. (6)
رفع المحاكم العسكرية والقضاة العسكريين والقوانين التي رتبت أخيرا، وتطبيق القوانين الجزائية والحقوقية السابقة «بمقتضى نظامات الاحتلال أيضا.» (7)
الإسراع في الانتخاب الحر وتشكيل المؤتمر العام من دون مداخلة رجال الاحتلال، وبدون أي تضييق على أفكار الأهالي بخصوص الانتخابات، هذا ما طلبه الشعب العراقي وسيواصل الطلب بكل إلحاح؛ لأنه يعتقد أنه لا يمكن أي مفاوضة تؤدي إلى التفاهم ما لم تنفذ هذه المواد السبع.
فلما صدر هذا العدد وكان له تأثيره المدوي في المجتمع والشعب في هزة من عودة المنفيين الأحرار عطلتها السلطة، ولم تتجاوز العدد السادس والأربعين بعد، وهذه مرحلة فذة في تاريخ جريدة «الاستقلال» قامت عليها شهرتها ومنزلتها بعد ذلك، ولم تكتف إرادة المحتلين بتعطيل الصحيفة، بل أوقف مديرها وأحد عشر رجلا آخر بينهم محررها وزملاؤه، وبعد مدة قصيرة أطلق سبعة من هؤلاء الموقوفين ونفي اثنان منهم، وحكمت المحكمة على الباقين وهم: صاحب الجريدة عبد الغفور البدري بالسجن لمدة سنة ورئيس تحريرها قاسم العلوي بالحبس ستة أشهر ومحمد مهدي البصير من محرريها بالسجن تسعة أشهر، كما قررت المحكمة تعطيل الجريدة سنة كاملة.
وقد عبرت كرترود بيل في رسالتها إلى أبيها المؤرخة في 13 شباط (فبراير) سنة 1921 عن انهماك السلطة الإنكليزية في بغداد ذلك الأسبوع وتعبها في هذا الحدث، واعتبرت القائمين بجريدة «الاستقلال» مهيجين، وروت أن قد حصل نقاش في موضوع تعطيل الجريدة، وارتأى السر برسي كوكس أن تقوم وزارة الداخلية - في الحكومة العراقية المؤقتة - بذلك، وعدت العملية قد نجحت نجاحا تاما.
هذه هي الجريدة البغدادية التي غذت حركة الثورة في العاصمة والمدن الأخرى، وكانت مؤثرة في الأفكار العامة. وهكذا استطاعت الأحزاب الوطنية التي تعمل في الخفاء أن تنجح في مشروعها الصحفي الأول.
جريدة الفرات
أما في ميدان الثورة نفسها، وفي مركز قيادتها النجف الأشرف، فسبق لباقر الشبيبي الكاتب الشاعر ومن الساسة المشتغلين بالقضايا الوطنية والقومية أن أنشأ جريدة باسم «الفرات»، بمعنى أنها تصدر في البقعة التي تتقد فيها الثورة.
وكان القائمون بالثورة ومنظموها أرادوا أن يتوسلوا بالصحافة لبث روح التآلف وتشجيع الثوار ونشر أخبارهم وإرسال النصائح والإرشاد إليهم، كما تقوم صحفهم بنشر مساوئ الاستعمار وأعمال البريطانيين في العراق.
شرعت «الفرات» في أداء واجبها في 15 أيلول (سبتمبر) 1920 غرة محرم 1339ه مطبوعة في إحدى مطابع النجف. أما ورقها فمما سيطرت عليه حكومة الثورة من الطاغية المعدة لطبع الكتب هناك، اعتبرت «الفرات» لسان الثوار تفصح عن آرائهم وتشرح تعاليم الحركة الاستقلالية، ولم تقتصر على آراء رجال السياسة وشيوخ القبائل، بل عدت مجالا لنشر آراء العلماء المجتهدين من أقطاب الدين وفتاواهم وخطبهم في اليوم الأحمر، وبدت الجريدة بلهجة صارخة وكتبت بدم القلب لا بحبر القلم، وحصرت بحثها في الشئون السياسية وكتابة المقالات الاستفزازية وإذاعة الخطب التي تلقى في محافل الثورة في القرى، بينها خطب الحاج الشيخ عبد الواحد سكر وغيره من الزعماء.
يضاف إلى ذلك التعليمات عن القتال والحركات الحربية في ميادين الثورة، ولا سيما حسن معاملة الأسرى والعناية بالجرحى.
وأما أخبار الثورة ووقائعها اليومية في ساحاتها المنوعة فقد خصصت لها «الفرات» ملاحق تنشرها علاوة على أعدادها، وهي الجريدة العراقية الوحيدة التي نشرت «قرار المؤتمر العراقي» المنعقد في دار البلدية في دمشق في 7 آذار (مارس) سنة 1920، ونودي فيه باستقلال العراق - يوم نودي باستقلال سورية وملكية فيصل عليها - وقد أرسل هذا القرار إلى الجريدة مع رسول خاص من الشام، كما حملت خطب الملك فيصل في عاصمته دمشق وبثت رسالة البيت الهاشمي في بعث الأمة بعثا سياسيا منظورا.
ويلوح أن الجريدة توقفت مدة قصيرة ثم استأنفت الصدور بعددها الخامس وقد جاء فيه :
تعود «الفرات» إلى الصدور بإيجاب من الهيئة العلمية وزعماء النهضة العربية، والأمل أن أولياء الأمور الذين قاموا بنشر هذه الصحيفة الحرة واهتموا بإظهارها وصمموا على استمرار إصدارها سوف يستمرون على القيام بشئونها وضمانة حياتها؛ لتعيش كما تعيش الصحف الراقية ذات المبدأ الصحيح، فيكون لها مكان عال وشأن في العالم رفيع.
نعم، إن الهيئة العلمية لن تنفك عن العناية بأمر الصحافة، وسوف تخلد ذكرا مجيدا لها في تاريخ النهضة العراقية بإصدار الفرات. وقد بشرتنا باهتمامها وتصدي القائمين بها من رجال الفضل بتوسيع حجمها وإصدارها مرتين في الأسبوع، وسيكون ذلك في القريب، كما سيطرد تحسينها مع ملاءمة الظروف والأحوال، فالفرات تعود اليوم كما كانت في البدء بتحتيم كبار الأمة.
وكانت الأيدي تتخاطف جريدة الثورة هذه ويقرؤها الناس بلهفة في سائر البلاد، ولا سيما في مسرح الثورة وصفوف المقاتلين، كما أنها كانت ترسل إلى خارج العراق، فتبلغ سدة ملك العرب في الحجاز، جلالة الحسين بن علي فيعنى بتتبعها بدقة، وتصل بلاط الملك فيصل في الشام وتنتهي إلى سائر المهتمين بالحركة القومية في سورية وغيرها.
غير أنه بعد أن خفتت الثورة بعض الشيء، وتفرق كثير من زعمائها في أنحاء غير متقاربة، توقفت عن الصدور غير متجاوزة العدد الخامس.
وها أنا أورد مثالا من منشورات «الفرات»:
إن الوطن الذي ألزم كل فرد منكم بالدفاع عنه يلزمكم أيضا بأن تراعوا الشروط الآتية: (1)
يجب على كل رئيس قبيلة أن يفهم كافة أفرادها بأن المقصود من هذه النهضة إنما هو طلب الاستقلال التام. (2)
أن يهتف للاستقلال كل من في ميادين القتال. (3)
يجب تأمين الطرق وحفظ المواصلات بينكم وبين مناطق الثورة في البلاد. (4)
يلزم التمسك بالنظام وتدبير الحركات ومنع الاعتداءات، فلا نهب ولا سلب ولا ضغائن قديمة ولا أحقاد. (5)
من الواجب بذل الهمة لحفظ الرصاص، فلا يجوز إطلاقه في الهواء بدون فائدة. (6)
يجب الاعتناء بالأسرى ضباطا أو جنودا إنجليزا أو هنودا. (7)
يجب إبقاء أدوات التلغراف والتليفون وحفظ الأعمدة، فإن في حفظها منافع عظيمة للأمة، نعم يجب قطع الأسلاك البرقية إلى حد تنقطع معه مخابرات الحكومة المحتلة. (8)
يجب الاهتمام بقلع السكك الحديدية، ولا سيما نسف الجسور والقناطر التي يمر منها القطار. (9)
يجب الاحتفاظ بما يقع تحت أيديكم من عربات النقل والسيارات والمراكب. (10)
يجب حفظ المدافع والرشاشات، ولا يجوز تخريب آلاتها وتفريقها مطلقا؛ لأنها من أكبر وسائط الفوز وأعظم وسائل النصر. (11)
يلزم حفظ الذخيرة المغتنمة كالرصاص والقذائف والقنابل وسائر أنواع البارود. (12)
لا تهدموا محلات الحكومة وأبنيتها إلا إذا كانت معقلا ولا تتلفوا أثاثها لاحتياجكم إليها في المستقبل. (13)
إذا أسقطتم مدينة أو قرية فلا تتركوها منحلة، بل الواجب ترتيب حكومتها المؤقتة. (14)
حافظوا على المستشفيات وكافة أدواتها وأجزائها. (15)
ارفقوا بجرحى خصومكم الساقطين في الحرب، فلا شيء يستحق الرفق والعطف مثل الجريح الذي يعاني من ألم جراحه ما يدمي القلوب ويبكي العيون.
وهذا مثال مما كتبه باقر الشبيبي في «الفرات» في العدد 5 المؤرخ في 3 محرم الحرام سنة 1339ه، قال بعد تمهيد يتصل بالجريدة واستئنافها الصدور:
رأي الأمة وكتاب الحاكم العام
وقفنا على صورة كتاب الحاكم العام إلى المقام الروحاني المنتشر في جريدة العراق المؤرخة في 30 آب (أغسطس)/17 ذو الحجة سنة 1338، وفي منشورات مستقلة وزعتها الطيارات، فشكرنا تودده للمقام العالي، ولما كان مشتملا على أشياء لا تتفق مع مراده، بل كانت على العكس نقيضا للغرض الذي أفاض فيه رأينا إيقافه على جلية الأمر، وإطلاعه على رأي الأمة الأخير، فينكشف لعدل الدول من ضلل الناس وطوح بالبلاد والعباد، ثم نسأل الدول بعد ذلك أن تحكم على مسبب المصائب في العراق لينال لعنة العالم المتمدن.
هون عليك يا ممثل الدولة الإنكليزية، إن الأمة التي ناصبتها العداء وحكمت فيها السيف فأرقت دماءها وأزهقت أرواحها عداء محضا وتحكما صرفا، بلا خوف من الحق ولا وجل من العدل، ستقف وإياك أمام محكمة التاريخ ليعلم من هو المجرم الذي أتلف النفوس وجنى على البشرية بلا رحمة ولا عطف، فالويل لمن صبغ الأرض بدماء أبرياء.
يا ممثل الدولة الإنكليزية، ماذا صنعت أمة العراق المظلومة حتى تستحق من ضباط الاحتلال هذا الفتك الذريع والتمثيل الشنيع والهتك الفظيع! أفعال تخجل منها العصور الأولى، وتشمئز من فجايعها قرون الظلمة والظلم، ويل لكم يا ضباط الاحتلال من ظلامة أمة كان جواب مطالبها الشرعية حز الرءوس وتوصيل الأعضاء وحرق الجثث والتمثيل بالنفوس المحترمة، ليت الذين رفعوا مقامكم في العراق لتغرسوا محبتهم في القلوب يشهدون ماذا أنتم تعملون وتقترفون، ليت الذين بعثوكم للحرية والمساواة يشهدون فصلا واحدا من المأساة التي قمتم بها بظلمكم وتضليلكم، فالمحنة التي أوجدتموها في العراق سوف تبقى آثارها بالمقام الرفيع.
يا ممثل الحكومة الإنكليزية، أنت بسياستك الرشيدة، بسلوكك العجيب، بحزمك الغريب، بحصافة رأيك، برصانة عقلك، أنت بتدبيرك الحكيم أفسدت على حكومتك سياسة أجيال في الشرق كله لا في العراق وحده، فأنت وحدك المسئول أمام الله وأمام العدل والقانون عن الجرائم التي ارتكبتها في العراق من المظالم التي أنزلتها بالأمة حتى امتلأت فيها دوائر ظلمك وغصت بها زوايا جورك، فأنت وحدك بإظهارك العداء، وبإعلانك سفك الدماء، شوهت محاسن المدنية الإنكليزية، وكتبت لثلاثة ملايين من أبرياء العراق أن تزول ثقتهم من كل بريطاني، وإن كان مثالا صحيحا للعفة وطهارة الوجدان، فيا مسبب مصائب العراق، يا سفاح الإنكليز، لقد جنيت على حكومتك الموقرة جناية ما روى التاريخ نظيرها لسفاح قبلك، أهكذا يكون جزاء الذين رفعوا مقعد حكمك وأجلسوك على منصة لست لها وليست لك، هي للسياسي المحنك، للحاكم الرشيد، للمدير القدير، منصة يتربع عليها العدل والإنصاف لا الظلم والاعتساف، فويل لمن أقامك تمثالا للقسوة والغلظة.
يا ممثل الدولة الإنكليزية، أتعزي المقام الروحاني ومنك الرزية، أتعزيه بقولك إن المقام يستوجب التعزية والتسليه لا التبريك والتهنئة في هذه الأيام التي انتابت العراق وسائر الممالك، فيا حضرة الحاكم العام إن ما نزل بالأمة فمن المصائب التي هيأت أنت أسبابها، فالأمة بريئة وأنت المذنب، ألست الذي سحقت الحقوق ودست القانون فخنقت الأمة بما أعددته من الجيش المجهز بالنار ووسائل الخراب والدمار، فأجهزت به على النساء والأطفال، على الشيوخ والكهول، ولوثت البلاد الطاهرة بالشرور، كل ذلك لأن الأمة أبت أن تعترف بوصايتكم، أبت أن تعيش في ظل حمايتكم؟ وأغرب من ذلك يا حضرة الحاكم أنك نسبت المصائب إلى فقيد الإسلام بقولك: وكان هذا من آراء سلفكم، آل الله. أي الاعتداءات تغفرها لك الأمة؟ أتعزيتك لشيخ الإسلام بما أنزلته من الرزايا على العرب والإسلام؟ أم نسبتك المصائب إلى الفقيد الذي طالما حذرك من الغرور وألفتك إلى عواقب الأمور، ونبهك إلى نتائج الاستهتار في ممانعة الأمة المظلومة، وعدم تمكينها من حقوقها المهضومة، وإعطائها الاستقلال التام، وكم أراك في كتابه الأبيض فجر هذا اليوم الأسود؟
والله يا حضرة الحاكم العام! كيف تطاولت إلى ذلك المقام فتحاملت على عصمته وتجاوزت على كرامته غاضا طرفك عما تركته في مهج المسلمين وأحشاء العراقيين من الجروح التي هيهات أن تلتئم، ألم يكفك إذ قتلت نفسه الكريمة بجرائر جيشك وجرائم أفعالك حتى بريت سهام تهمك إلى نزاهته، بهذا تريد أن تمكن صداقتك مع الأمة، أهذه هي السياسة الرشيدة التي تنسب إلى الفقيد مصائب أحدثها عقوقك وغرورك؟ أهذا هو السلوك وأنت مع هذا تقول في كتابك: «إنه - أي الفقيد - عبر في إحدى مفاوضاته أنه يريد الصلح بين الحكومة والملة واجتناب سفك الدماء وإزهاق النفوس.» فما هذا التناقض الغريب؟ نعم إنه طيب مثواه أرادك أن تلين فاستعصمت، وسألك أن تضع حدا للظلم والاعتداء بإعطاء الأمة الاستقلال فأغضيت وثابرت على إنزال العقاب والعذاب والأمة ساكتة، وأنت لم تسمع نصائح الفقيد ومواعظه البليغة، فكيف تريد أن تبرر أعمالك؟
ثم بعد ذلك تقول: «إن الحكومة كما هو المعلوم في أقطار العالم قد اعتمدت دائما على الأركان الثلاثة وهي الرحمة والعدل والتسامح الديني.» فحبذا هذه الأركان فإنها شعار الدولة الحرة، ولو صح باعتمادك عليها لما فر العراق من وحشيتك وفر أبناؤه من وجه مظالمك، قد تظن بأن حكومتك الموقرة شادت على هذه الدعائم فخامتها، ولكنك هدمتها بمقالع جورك وقسوتك وتعصبك، فويل لكم يا ضباط الاحتلال.
أما الرحمة، وأينها منك يا قساة الرحمة! فضيلة تنحت عن قلوبكم وابتعدت عن ضمائركم، الرحمة إحدى مميزات الإنسانية التي لا تعرفون معناها ، هي اسم عندكم ومسماها ليس عندكم، وتشهد على ذلك قلوبكم بالقسوة ونياتكم بطحن العالم، فقد خلقتم من بعضه تاريخا لشدتكم مكتوبا بالدماء المراقة «في الرميثة والحمزة» وفي عرائس الفقراء، فكم بيت أوقدتم على من فيه النار فأصبح الرضيع ملتهبا، والشيخ الفاني بجنب الأعمى وقودا لنيرانكم، لا يتميزون إلا بعد أن نجمع أوصالهم التي وزعتها سيوفكم؟ وعلى هذا الحال استمرت رحمتكم «في الجربوعية وبابل» حرقا تستغيث منه النار وقتلا أظهرتم فيه ضروب التمثيل، أهذي هي الرحمة التي بنيتم عليها دولتكم، وأقمتم عليها سياستكم؟ إذن صفوا لنا قسوتكم حتى نهيئ للعراق على حدوده محلا في الجو تجاور به النسور، فإنها أرحم منكم وأرأف! هل نقابل بين رحمتنا ورحمتكم، فهي عندكم تبعيد الأبرياء من العلماء وأولاد الفقراء والزعماء، وتعذيب المنفيين، والأسراء يئنون تحت القيود الثقيلة والأغلال المؤثرة، قيود لا تصبر عليها أعناق الفهود. أما عندنا فلطف بالأسير وبر به، ونظر إلى الأجنبي ملؤه العطف فنتفقد شئونه ونرعى أحواله ونسهر لترويحه ونحرص على حياته، فالأسير عندنا غير أسير، والأجنبي كالوطني نساويه في الحقوق ونواسيه في كل شيء، أخلاق أخذناها من شريعتنا وفضائل تلقيناها من مدنيتنا، فأين مدنيتكم يا أدعياء التمدن ها فانظروا إلى رحمة رجالنا وكبارنا، واقرءوا رسائل علمائنا في الرفق بأسرائكم، والرحمة بمرضاكم، انظروا كيف أوكل المقام الروحاني أمره إلى من لزمه بذلك من المشاهير، فكتب إليه الرسالة الآتية:
بسم الله الرحمن الرحيم
سلام عليك وثناء على إخلاصك، وبعد؛ فغير خفي على نباهتك أن للأسرى في الشريعة الإسلامية مكانة عالية، فالعناية بهم فرض، والتوجه إلى إكرامهم حتم، وإني أوصيك أطال الله حياتك بتعهدهم على الاتصال، وتفقد أحوال صحتهم ومعاشهم، ما داموا وديعة مقدسة وأمانة محترمة، فيلزمك البذل لهم والتوفير عليهم، ويجب تصديك لتحقيق راحتهم أكثر من الأيام الماضية، وإني قوي الأمل بأنك تنشط إلى هذا التكليف؛ لأنه شرعي مدني إنساني، فواظب على الإنفاق عليهم حتى يتعين إلى نفقاتهم مورد خاص؛ فقد اعتمدتك وأوكلت ذلك إلى عهدتك وألزمتك به ولا عذر لك، ودم مؤيدا .
شيخ الشريعة الأصبهاني
هذا مثال صغير من رحمتنا، فهل أظهرتم لنا شيئا من رحمتكم؟ نعم كفى باستمراركم على الفتك بالأمة وغصب حقوقها الطبيعية شاهدا على رحمتكم وصدق لهجتكم.
وأما عدلكم فقد تبيناه منذ تسلمتم أزمة البلاد التي أصبحت تئن من ظلمكم، فيا حضرة الحاكم العام، لقد هدمتم هذا الركن بمقالع من السياسة التي أهلكت الحرث والنسل وأتت على الأخضر واليابس، فتراب كل منطقة يشهد بأنكم سلبتم الحب حتى من منقار الطائر، واستخرجتم المخ من العظم وضاعفتم الخراج أضعافا على الزراع فأصبحوا يسألون الناس إلحافا، وأنتم تسألونهم فوق الجهد وتكلفون نفوسهم فوق الوسع، أهذا عدلكم؟ نعم إن السجون والمنافي والديوان العرقي شهود على عدلكم وبراهين على صدقكم، فأين العدل الذي تزعمون؟ أوفيتم بوعد أو ثبتم على عهد؟ أين البيانات الرسمية؟ أين القطوع الدولية؟ أين عهود الطائف؟ أين الاستقلال؟ أين الإدارات الوطنية؟ أين منشور «مود» وأين وثائق «مكماهون»؟ أكان من العدل يا حضرة الحاكم أن تكموا الأفواه التي طالبت بالحق وتدفعوا طلاب الاستقلال إلى المنفى؟ عقاب صارم وعذاب دائم وجرائر وجرائم، ثم تريدون الالتئام مع الأمة وأنتم تريدون نفوسها للقتل وأموالها للاغتنام وأعراضها للفتك وأوطانها للاستيلاء، أهذه هي العدالة؟ سلام الله على ظلم الفراعنة.
وأما التسامح الديني أو الدعامة الثالثة التي قام عليها بناء حكومتكم فدعوى كاذبة تشهد عليها المعابد والمساجد وقبور الأئمة المقدسة، ولئن تقادم عهد حادثة النجف، فحادثة مسجد الكوفة غضبة في أول النهضة. أما صيرتم ساحته هدفا لمقذوفات الطيارات؟ أما خلطتم ترابها بلحوم المترهبين والمترهبات؟ أما داخلتم رءوس الأطفال بصدور الأمهات؟ ألم تمنعوا مجالس المواليد وسائر الشعائر؟ أكان من التسامح في الدين رمي جوامع المسلمين وحصر مجامعهم ومنع أعيادهم ومراسيمهم؟ هل الاستيلاء على الأوقاف الإسلامية تسامح وتساهل؟ إذا كان هذا هو التسامح، إذن ما هي معاني التعصب الأعمى؟ تحية على غلادستون، وثناء على الحروب الصليبية.
يا ممثل الدولة الإنكليزية، إن الأركان التي اعتمدتم عليها لا تقوم عليها بيوت العناكب، فكيف تشيدون على أساسها الواهي دولة لا تدول وحكومة لا تزول؟ لقد أوجبت أركانكم هذه أن يصافح العراقيون مدافعكم، ويعانقوا بنادقكم، ويستعرضوا الكتائب من جيشكم، حتى يكتب الله انهدامها ويقيم على أنقاضها دولة عربية قانونها القرآن وشعارها محبة الإنسان.
يا ممثل الدولة الإنكليزية، غريب منك وأنت على كرسي الحكم المؤقت، عجيب منك وأنت ضيف ثقيل على البلاد أن تصف في كتابك شوكة الحكومة البريطانية وثروتها بقولك: «ومن قبل أن تقع الحرب العظمى كان للدولة الإنكليزية التي شعارها المسالمة جيش صغير للدفاع عن نفسها، فلما شرع الألمان والأتراك من تلقاء أنفسهم ... إلخ.»
فيا حضرة الحاكم إنا في غنى عن الإسهاب في بيان قوة الحكومة؛ فإنا نعرف ذلك كما تعرفه أنت، نحن لا ننكر عظيم قوتها فإنها أم العدد والعدد، وذات الحول والطول والقوة والاستعداد، إنها تستطيع أن تحشد نفس العدد الذي ألفته لقتال أعدائها، وهي أم النقود التي تدلي بها من بحر بعيد العمق، ولكن العراقيين يا أيها الحاكم قد تكاتفوا وتكافلوا وتعاضدوا وتساندوا، وقاموا للدفاع عن حياتهم وتطهير بلادهم، لا يبالون بعددكم، ولا يكترثون بعددكم، تكاتفت نياتهم وتوحدت غاياتهم، لا يتزايلون عن موقف ربضوا فيه كالأسود وثبتوا عليه كالجبال للوصول إلى الغاية وأخذ الاستقلال، فإما للحياة وإما للموت، فالموت سعادة في هذا السبيل، وحياة في الدفاع عن الحق.
يا حضرة الحاكم العام، لقد حشدت حكومتك الجيش الجرار، فحارب عن الحرية ودافع عن المدنية وأنت تريد محو الأمة وإتلاف البلاد، تهدد بالفتح والاستعمار، وتهدد بحشد جديد لإكراه العراقيين أم لتصديق «جئنا محررين لا فاتحين».
ثناء على حريتك وسياستك. أما قولك: «فأهل العراق قبلوا الدولة الإنكليزية وكانوا مسرورين من إبقاء جيوشها في هذه البلاد لما غلبت الأتراك.» فرية على أهل العراق، متى قبلوا بدولتكم وأصبحوا مسرورين من بقاء جيشكم؟ هذه وثائق الانتخاب أدلة واضحة على استيائهم منكم ورفضهم بقاءكم رجالهم وأطفالهم كبارهم وصغارهم، كلهم سواء لا يقبلون بكم ولا يميلون إليكم، وأنت تعرف ذلك حتى من الآحاد الذين اصطنعتهم لخدمتك واستعملتهم لأغراضك، فيا حضرة الحاكم العام، كيف تفتري على أهل العراق؟ ألم تطلع نفسك على رغباتهم التي تقف على تصريحاتهم؟ اذكر موقفك في النجف إذ جئت تعمل لتبديل الوثائق الموقعة من السادات والعلماء والأشراف من الرؤساء وسائر الطبقات، ألم يطلبوا فيها جلاءكم عن العراق ليؤلفوا حكومة عربية لا دخل لأجنبي فيها؟ اذكر طوافك في الأنحاء وبماذا قابلك الأعيان والزعماء؟ طالع يا حضرة الحاكم العام صحائف فشلك في العراق، فهل رأيت قبولا من الأمة أو ميلا صادقا إليكم؟ أم تجابهك بالرد؟ أم تقابلك بالتصريح؟ فمن أي القلوب تحققت القبول وفي أي الوجوه طالعت السرور؟ تخرص وتلفيق إلى هذا الحد ... أهذه هي المدنية؟
وأما قولك: «ولكن لما رأى بعض المفسدين والمغرضين.» فقول مجرد عن الصدق، بعيد عن الحق بين التحامل، واضح العداء، نسألك يا حضرة الحاكم العام بصلاحك المعروف وإصلاحك المشهور، نسألك بحق الاستعمار والاستعباد، بحق الظلم والاستبداد نسألك من هم المفسدون؟ نعم هم زعماء النهضة هم طلاب الاستقلال هم رؤساء الدين هم أئمة المسلمين!
عجيب يا أيها الحاكم تحاملك الشديد على العلماء وقادة الرأي العام، زعمت أنهم مفسدون، وبرهانك مطالبتهم بحقوقهم ودفاعهم عن حياتهم، أجوز لك القانون أن تسمي المدافعين عصاة والعلماء مفسدين والأئمة مضللين؟ أهذه هي الأخلاق الإنكليزية؟ سلام على علمك الواسع الغزير!
أما الحالة التي عبرت بأنها توجب الأسف، فإنها من نتائج تهوسكم وتجاوزكم من قلة تدبيركم وتدبركم، فلو كنتم بالعهود وفيتم، وعملتم طبق العهود، فحققتم رغائب الشعب المظلوم لحفظتم مكانتكم وثبتم في القلوب صداقتكم، ولكنك يا حضرة الحاكم أنت دفعت الأمة إلى القتال، أنت أسلمتها إلى هذه الحال، أنت أتعبت جيشك بلا دعوى، فأنت المسئول عن هذه الوقائع!
فيا حضرة الحاكم العام، إن المجلس العرفي الذي أمر حنانك بتأليفه لإعدام الوطنيين، ونفي الشبان المخلصين، وسجن الأبرياء والمظلومين، جدير بأعضائه العسكر أن يحاكموك، ومن أولى منك بالمحاكمة إذا كان للمجرمين وإذا أعد للمذنبين؟
يا أيها الحاكم العام، لقد قامت قيامتكم على القيصر غليوم، فأوجبتم محاكمته؛ لأنكم نسبتم إليه جناية الحرب؛ فهو مجرم عندكم؛ لأنه مثير الثوائر بزعمكم، فإن كانت شرائع الدول توجب قصاص المجرمين فأنت أولى بأن تقاصص وتعاقب؛ لأنك أكبر مجرم على الإنسانية، أكبر مجرم على الحكومة البريطانية!
يا ممثل الدولة الإنكليزية، إن اعترافك بقوة الأمة العراقية يناقض استدراكك العليل بقولك: «ولكن عددهم قليل وليس لهم من الدراهم إلا القليل.» فيا أيها الحاكم إن الأمة قد اعتمدت في دفاعها على ثلاثة أركان: القومية والوطنية والشريعة الإسلامية، فعندها الثبات إزاء اختراع الآلات، والعناية الإلهية بدل المساعدة الخارجية، والقناعة عوض الزراعة، فالأمة صابرة على النزال حتى تنزلوا على حكم الحق، مستمرة على النضال حتى تسترد الحاكمية. أما قولك: «ها قد بذل العرب حتى الآن كل ما في وسعهم من الجهد، ولا يمكنهم أن يأتوا بعمل فوق ما عملوا.» فيا حضرة الحاكم، إن العرب لم يبذلوا إلى الآن عشر ما أعدوه، ولم يعملوا بعض ما يريدون أن يعملوه، فقوتهم في زيادة وأعمالهم إلى نشاط، ها قد جاء الخريف وانتهى موسم الحصاد، وفرغ العرب من المشاغل الزراعية وأقبلوا على الحرب الدفاعية بشوق عجيب وميل قوي، فازدادت جموعهم أضعاف ما كانت، وأما تهديدك بوصول العساكر، فالأمة على علم من قوتكم ومعداتكم واستعدادكم للقتل والسفك، وليس بها حاجة إلى إرسال معتمد يكشف لها ما هيأتموه من الوسائل الحربية! الله يا حضرة الحاكم، ما هذه المضمرات العدائية؟ بهذا تستجلب نفوس العراقيين؟ ما أبعدك عن الحكمة والصواب، كأن الوسائل الحربية وسائل للقضاء على الاستقلال والحرية، أتطلب معتمدا لهذه الغاية، للاطلاع على الفظائع العسكرية، فأين الإنسانية؟!
وأما قولك: «فبناء على أن النتيجة النهائية هي معلومة فلم يدوم سفك الدماء؟» إنا نسألك ما هي النتيجة المعلومة، من جواز الحكم من المجهولات، هل تيقنت أنها في جانبكم باعتمادكم على القوات العسكرية التي طوحتم بها ومزقتم أوصالها؟ إنا لا نريد إطالة سفك الدماء، ولكنك تريد ذلك فضع حدا لاتهامك وإيهامك، فإن الأمة قد كشفت نياتك السود، ووقفت على حقيقة أحوالك، ثم ما أغرب قولك: «إن الحكومة الإنجليزية عملا بقواعدها ستجازي بعض الشيوخ وغيرهم الذين ضللوا بالناس، وأسماؤهم معلومة عندي.» الله أيها الحاكم ، كيف نسيت قولك في صدر الكتاب: «إن الحكومة الإنجليزية قد اعتمدت دائما على الأركان الثلاثة.» أكان من الأركان الثلاثة أنها ستنتقم من المشايخ الذين أحرقت بيوتهم ونهبت أموالهم وذبحت أطفالهم؛ لأنهم طالبوك بالاستقلال؟ ليسمع المشايخ نصيحتك هذه، ليقفوا على حقيقة إخلاصك وماذا تعد لهم!
أيها الحاكم العادل! هل وراء ما يشهدونه كل يوم من ضروب الظلم وأنواع الاعتساف، هل وراء التعذيب والانتقام شيء آخر من العذاب؟ ليطمئن بال «المشايخ وغيرهم» فهذا عدلك وهذه رحمتك. أما طلب المفاوضة وتعيينك لها «حضرة الكولونيل هاول»، فإن ذلك يعود إلى رأي المشايخ وأقطاب الأمة الذين قلت: إن الحكومة الإنكليزية ستجازيهم عملا بقواعدها! فيا أيها الحاكم، إن الأمة عملا بقواعدها الإنسانية، واعتمادها على أصول المدنية، لا تمتنع عن المفاوضات الدولية، ولكنها لا تدخل في المفاوضة معكم إلا على الشروط الآتية: (1)
سحب الجيش من البلاد. (2)
إرجاع المنفيين. (3)
حضور قناصل الدول في مجلس المفاوضة.
وخلاصة القول: «إن الأمة لا تريد إلا الاستقلال التام للعراق بحدوده المعروفة، وهي لا تدخل في المفاوضة إلا على تلك الشروط.»
جريدة الاستقلال في النجف
وارتأى فريق من الثوار أن يؤسسوا «مكتبا للدعاية والأخبار» خاصا بالثورة وإصدار جريدة تعاون أغراضها، وكان محمد عبد الحسين قد جاء النجف الأشرف من بغداد بنية المساهمة بالثورة عن طريق الصحافة، فقدم يوم 15 أيلول (سبتمبر) سنة 1920 طلبا إلى قائمقام النجف الذي نصبه المجاهدون السيد نور عزيز الياسري بأنه يروم إصدار جريدة باسم «الاستقلال»، وصفاتها جريدة سياسية اجتماعية تنشر أربع مرات في الأسبوع، وهو يرجو منحه الامتياز بذلك.
فأجابه القائمقام بأنه: «اجتمع «المجلس البلدي» وتذاكر مع «المجلس العلمي» - وهما من تشكيلات حكومة الثورة - فقررا في 18 أيلول (سبتمبر) سنة 1920 الموافقة على طلبكم على أن لا تخالف جريدتكم مبادئ الثورة المقدسة.»
وكان الشيخ علوان الحاج سعدون من أقطاب الثورة قد اقترح على عبد الحسين تسمية جريدته «الثورة»؛ لأنه اسم تاريخي، ولا يستطيع صحافي أن يحصل عليه إلا في هذه الظروف، ولكنه رفض هذا الاقتراح؛ لأنه عندما كان في بغداد وابتدأت المفاوضات السلمية تقدم بطلب إلى حكومة الاحتلال بالاشتراك مع عبد الغفور البدري بإصدار جريدة باسم «الاستقلال» فرفضت السلطة المذكورة طلبه، فجاء النجف مصمما على تحقيق رغبته من رجال الثورة الوطنيين.
2
ولما فاوض الصحافي صادق الكتبي ليطبع «الاستقلال» في مطبعته رفض رغما عما أغراه به من الأجور الحسنة، فراجع صاحب الجريدة القائمقام، فأوعز هذا بوضع اليد على المطبعة حالا لحاجة الثورة إليها في أغراضها، فصارت تطبع الجريدة.
ظهرت جريدة «الاستقلال» في 3 تشرين الأول (أكتوبر) في النجف كما أناطت قيادة الثورة بمنشئها إدارة «مكتب الدعاية والأخبار» الذي أسسته، وعين رجلان من أنشط الضباط لتتبع شئون الثورة وأخبارها، وتزويد مكتب الجريدة بها، وهما «ناجي حسين» و«جميل قبطان»، وكان من حسن حظ المكتب أن ظفر بغنيمة باردة أطلعته على الشيء الكثير من خطط العدو؛ وذلك أن الطائرة التي ألقت البريد على فصائل الجيش الإنكليزي المحصورة في نقطة الكوفة لم تستطع أن تلقيه على مكان هذه القوة بالضبط، بل وقع قريبا منها فاستولى عليه الأهلون فحملوه إلى مكتب الجريدة والدعاية، فأمدهم بمعلومات كانوا يحتاجون إليها.
واستعداد المطبعة وقلة الورق لم يمكنا جريدة «الاستقلال» من الظهور أربع مرات في الأسبوع كما أرادت، وكتب الجانب الأكبر منها صاحبها ومدير سياستها يعاونه عبد الرزاق الهاشمي، وهو من محرري مجلة «اللسان» التي ذكرتها آنفا.
كتبت في افتتاحية عددها الأول:
لقد آلمنا خلو البلاد من الصحف الوطنية وعدم اهتمام الكتاب وحملة الأقلام بها في هذه الأيام الحرجة، فدفعتنا الوطنية إلى إصدار جريدة «الاستقلال» لترد أضاليل المحتلين وتهمهم وتنشر مظالمهم البربرية، وترفع الستار عن حقيقتهم، وتوضح مطالب الأمة المشروعة لدى العالم وتنشر أنباء المعارك والحوادث المحلية، وتوقف الأمة على الحالة السياسية التي يتبدل مجراها كل حين، وتريها مستقبلها الذي يتراءى من خلال الحوادث الجارية، وتوضح لها السبل التي يتحتم سلوكها لبلوغ الغاية المقدسة، وتنقد أعمالها لتوقفها على النافع منها والضار شأن الجرائد الكبرى الحرة في البلاد الراقية، ولكن كيف يتأتى ذلك ونحن على ما نحن عليه من قلة العدة والوسائل؟
وقد قاسى محررو جريدة «الاستقلال» بعض ما يعانيه صحفيو أوروبا وغيرهم في خلال الحروب، حيث كانوا يكتبون أحيانا تحت أزيز القنابل التي ضربت النجف.
وتعرضوا لمراقبة حكومة الثورة وإنذار ممثلها والي كربلاء السيد محسن أبو طبيخ؛ إذ كتب يوما مقالا افتتاحيا عنوانه: «الشتاء على الأبواب ماذا أعددنا لتطمين حاجة الثوار في ميدان القتال؟» ومما ورد فيه:
ها قد حل الخريف وبدت طلائع جيش الشتاء قارس، وتلبدت الغيوم فما هو واجبنا؟ وما عسانا عاملين؟ إذا هاجمتنا الرياح والعواصف وصبت السماء رحمتها، ونحن لم نتخذ وسيلة تحمي الجيوش العربية المرابطة أمام العدو من برد الشتاء، ولم نبد اهتماما كبيرا لما سيحيط بها في هذا الفصل، ونحن في وضع يستلزم الاهتمام في أمر المجاهدين وتهيئة أسباب راحتهم.
فلم يكن من والي كربلاء المذكور إلا أن وجه إلى الجريدة بعد اطلاعه على هذا المقال هذا الإنذار مؤرخا في 8 تشرين الثاني (نوفمبر) سنة 1920:
إلى صاحب جريدة الاستقلال
إن مقالكم المنشور في جريدتكم تحت عنوان: «الشتاء على الأبواب»، مما يثبط عزم المجاهدين ويقلل من معنوياتهم، كما يعطي للعدو إحساسا بضعف الثوار، وعليه ننذركم بهذا بلزوم عدم نشر كل ما يوحي بالضعف أو يدل على ذلك.
ونقل إلى صاحب الجريدة محمد عبد الحسين أن الهيئة المشرفة على شئون الثورة لم تشايع والي كربلاء في رأيه فاعترضت عليه بكتاب رسمي.
وإليكم نموذجا من وصف جريدة الاستقلال لحصار الجيش الإنكليزي في الكوفة وعنوانه «الحصار في الكوفة أو مقبرة الأعداء»:
لا يخفى أن جيش الأعداء المحصور في الكوفة قد اضمحل أكثره وتلاشى جوعا وقتلا، رغما عن اتخاذه لكل وسائل الاحتفاظ، وتأكد بأنه استولى على البقية الباقية منه الضعف والوهن، كما استولى عليه القنوط واليأس فأصبح وهو أسوأ حالا من ذي قبل.
ضاقت دائرة حصاره واشتد عليه الخناق فبات وهو في دائرة أضيق من جحر الضب، هي محل سكناه ومقبرة أصحابه وإصطبل خيله وبغاله، وتتخللها الرياح من جيف قتلاه المتصاعدة من أشلائهم الخبيثة. وقد استعد للموت فشق في أطراف تلك الدائرة أخدودا يلتجئ إليها ويحتمي بها من القذائف، ومن مرميات مدافعنا الضخمة التي ما برحت تصب عليه العذاب صبا، وإذا أمعنت النظر في تلك الملاجئ التي اتخذها العدو ترى أن زعيم هذا الحصار قد اختار له ولأصحابه محل الحصار مقبرة يقبر بها تلك الجثث الأثيمة، ولقد جنى على نفسه وعلى جيشه المحصور جناية لا تغتفر.
قام المدافعون عن حقوقهم والناهضون في طلب استقلالهم فشددوا عليه الحصار حتى نفد ما عنده من مواد الغذاء، وانقطع رجاؤه من كل نجدة أو سبب يخلصه من تلك الورطة التي وقع بها.
وأي نجدة تنقذه وقد تقلص نفوذ حكومته الجائرة من العراق حتى أصبحت أشغل من ذات النحيين بسبب ما انتابها من رجال النهضة وزعمائها، التي انتقضت عليها من كل مكان ومن كل جهة تطالب بحقها الصريح، وتدافع بنفوسها ونفسها عن استقلالها الطبيعي بشعور يتوقد غيرة وحماسا، يمثل الشدة والبأس، ويظهر للملأ الحمية العربية وكيف تدافع عن وطنها المحبوس، فتفديه بأرواحها.
أكرم بهذا الشعور الحساس الذي أدهش العالم الأوروبي، وأكرم بتلك الهمم الشماء.
ولقد ارتأى الزعماء المحترمين الناهضين لتطهير بلادهم من رجس الاحتلال بأن ينظموا جيشا من المتطوعين، ويؤلفوا قوة نظامية على قواعد مخصوصة. وقد خصصوا بذلك كل ما يقتضي من اللوازم والمعدات وقرروا بتشكيل قوة الدرك في النجف والكوفة، وستظهر إلى حين الوجود على أحسن طرز.
ثم خمدت الثورة بعد قليل فتعطل «الاستقلال»، ولم يفت العدد الثامن وهو رقم صغير، ولكن عمل الجريدة وأثرها كبيران في تاريخ الكفاح والاستقلال.
الصحافة بعد تأسيس الحكومة العراقية
انقضت على خمود الثورة العراقية فترة، وتوصل السر برسي كوكس المندوب السامي البريطاني إلى شيء من إقرار الحالة، وسارت الحكومة المؤقتة التي ألفها برئاسة عبد الرحمن النقيب شوطا في الأعمال التمهيدية لتأسيس مملكة العراق، وأسفر «مؤتمر القاهرة» الذي عقده الإنكليز في آذار (مارس) سنة 1921 عن تقرير السياسة البريطانية في العراق بإنشاء دولة عراقية عربية، يرأسها أمير من البيت الهاشمي مقيدة بالقانون، وعاد من الخارج كثير من الضباط العراقيين والمنفيين بعد صدور العفو العام، فتجمع في قلب الوطن الذين شردتهم الحرب أو سياسة الاحتلال، وساعد الجو السياسي على جمع الكلمة وتوحيد الصفوف، وانبعث الروح الوطني على وجه إيجابي بعد أن سكن لهيب الثورة، وتوجهت الأفكار نحو بناء الدولة الناشئة.
في هذه المرحلة بدت الحاجة إلى صحافة نشيطة تنسجم مع الوضع، وتقوم بواجبها القومي في تهيئة الأذهان للحدث الجديد، فنبتت الرغبة في إصدار الصحف، فسارعت الحكومة في منح الأذون بها، وبعد أن كانت بغداد العاصمة محرومة من الصحافة إلا جريدة يومية واحدة هي «العراق» كما رأينا، برزت في وقت واحد أربع جرائد جديدة هي «الفلاح» و«لسان العرب» و«دجلة» و«الرافدان»، وطفقت أقلام البلد كلها تدعو إلى استقبال الصفحة الجديدة من حياة العراق بعودة الملك إلى أهله الشرعيين، وقيام العرش العراقي على ضفاف دجلة بعد أن أضاعه العراقيون منذ سبعمائة عام، ففاضت أنهر الصحف الأربع المذكورة مع جريدة «العراق» بالمقالات والأبحاث عن الدولة في فجر تأسيسها، والتاج الجديد والعرش العتيد والمرشح للجلوس عليه، ومع أنه سبق للعراقيين يوم نادى السوريون بملكهم العربي الأول في عصر اليقظة، أن نادى الاستقلاليون الذين تكلموا باسمهم في دمشق بذكر مرشح للعرش العراقي، فإن صحافتنا في المرحلة التي نتحدث عنها قد اجتمعت على أن الأمير فيصل بن الحسين هو مرشح الشعب لعرشه المفدى.
جريدة الفلاح
استهلت جريدة «الفلاح» كتاباتها بأنها تسعى للاستقلال التام بتأسيس حكومة دستورية ملكية نيابية، ودعوة الأمير فيصل للجلوس على عرش العراق، و«الفلاح» جريدة سياسية أنشأها في بغداد عبد اللطيف الفلاحي، ومع أنه من خريجي الكلية العسكرية في إستانبول فقد انصرف إلى العلم والتعليم، فأنشأ في العهد العثماني مجلة «مكتب» - يعني مدرسة في اللغة التركية باللغتين العربية والتركية - وأصدر في العهد الفيصلي في الشام مجلة «العلوم» شهرية.
لهذا عنون جريدته «الفلاح» يوم ظهرت في 20 حزيران (يونيو) سنة 1921 بأنها «جريدة سياسية علمية»، ولم يشأ أن يوقفها على السياسة، بل خص كثيرا من أعمدتها بالعلم والأدب، ومما جاء بصدد خطتها حول المرشح للعرش:
أن يكون الرجل الذي نملكه علينا موضع ثقة الأمة، جامعا للصفات التي تؤهله أن يكون ملكا عليها، وأن يكون عربي النزعة، شريف النجار ...
إلى أن قال:
فإن جاهرت الأمة بالدعوة للأمير فيصل فما ذلك إلا لأنها تراه جامعا للصفات المذكورة، وتعترف بما سبق له على الأمة العربية من الأيادي الطائلة بالذب عن حريمها والذود عن حياتها، وشهره السيف للمطالبة بحقوقها وإحياء مجدها القديم، عدا ما اكتسبه من التجارب السياسية في طول احتكاكه بساسة الغرب، وما حصل عليه من المكانة الرفيعة عند أهل الحل والعقد.
ثم انثنى صاحب «الفلاح» إلى نزعته العلمية فقال:
غير أن الفلاح ليست جريدة سياسية محضة، بل لها فوق غايتها السياسية أغراض عالية علمية، ترمي إليها، ومقاصد شريفة أدبية تسعى نحوها ... إلخ.
وفعلا كانت هذه الجريدة على صغر حجمها حافلة بالبحوث الثقافية والفوائد، وتفننت في نشر شذراتها العلمية في جوانب من العدد وبطريقة متسلسلة محكمة الطبع، بحيث يستطيع القارئ أن يقتطعها ويجعل منها كتيبا كلما أنجز مبحث خاص منها، كما تناولت الصحيفة من أول عهدها موضوع البعثات العلمية وتأسيس مجمع علمي في العراق وغيرها من الأبحاث الفنية والعلمية، وحفلت أعدادها بأخبار مقدم الأمير فيصل ووصف مهرجانات استقباله وحفلات تكريمه ومجالس مبايعته بالملك، مثبتة خطبه وأقواله في هذه المواقف.
ولم تستطع بوسائلها الطباعية أن تظهر يوميا، بل ثلاث مرات في الأسبوع، ولم تكن واسعة الانتشار، إنما امتازت فوق عنايتها بشئون الثقافة عامة بنزاهة الكتابة وعفة القلم، منعكسة عليها أخلاق صاحبها الرفيعة، فما كتبت كلمة نابية أو تعبيرا قارصا، ولم تعمر طويلا؛ إذ نشر آخر عدد منها في 22 كانون الثاني (يناير) سنة 1922، مع أن مؤسسها أعد لها مطبعة خاصة، ولكنه كف عن إصدارها فوظف مديرا للشرطة، ثم اشتغل بتدريس التاريخ في بعض المعاهد العالية، وألف كتبا في موضوعات دروسه، وانتخب نائبا في المجلس النيابي، وكتب في حياته البرلمانية مقالات تربوية في جريدة حزبه، بينما أشرف على سير الجريدة وطبعها.
جريدة لسان العرب
أما «لسان العرب» فجريدة «إبراهيم حلمي العمر» الذي ورد ذكره مرات في هذه المحاضرات، فعندما سقطت دمشق بأيدي الجيش العربي في الحرب العالمية كان يحرر في جريدة «الشرق» كما ذكرنا، فأصدر في عهد سورية الفيصلي جريدة بدمشق باسم «لسان العرب» سنة 1918. وقد شاركه في أشغاله الصحافية فترة خير الدين الزركلي، فلما تبدلت الحال في العراق نقل «لسان العرب» إلى بغداد حتى إنه في أول الأمر جعل عددها متسلسلا مع تلك 401، كما حسب سنتها (الرابعة)، ولكنه عاد في العدد الخامس فجعل رقمها وسنتها جديدين، ومع أن لسان إبراهيم حلمي هذا في دمشق بعد أن حطمت قوة الاستعمار الغادر العرش الفيصلي قد انطلق بما لا يرضي العرب، نراه أقبل إلى بلده يساهم في التمهيد لوضع التاج العراقي على مفرق فيصل الهاشمي، وكتب في رأس «لسان العرب» الذي ظهر في 23 حزيران (يونيو) سنة 1921 أنها «جريدة يومية سياسية حرة»، واتخذ لها بعد ذلك شعارا في صدرها، غايتها خدمة الأمة العربية، وها أنني أورد فقرات من خطته السياسية التي أعلنها، ومنها تدركون الطرق المتمعجة التي سلكها الكاتب قال:
إن الخطة التي تجري عليها هذه الصحيفة هي الخطة التي نشأنا عليها وأيدناها، وهي الخطة العربية المثلى بخدمة العرب عامة والعراق خاصة، على أن الناس يجب ألا ينتظروا منا الميل إلى حزب والانحياز إلى فريق، إن جريدتنا عامة شعبية، لا تعبر عن رأي أصحابها فقط، ولا عن حزب تنتسب إليه، بل هي حقل لآراء أبناء الأمة.
وفي العدد الأول مقال عن الأمير فيصل بمناسبة وصوله البصرة، والمقالات الافتتاحية في «لسان العرب» مكتوبة بأسلوب كتابي بارع عز نظيره في صحف العراق عهدئذ، لمران منشئها وكفاءته الكتابية. أما بقية مواد كل عدد فليست ذات شأن في الفن الصحفي.
ونشأ صاحب الجريدة منذ العدد الثالث يتحدث عن «الصحافة البائسة» والسبب الذي حدا به إلى جعل ثمن النسخة من جريدته آنتين - وكانت العملة الهندية هي المتداولة في العراق - بينما تباع الصحف الأخرى بآنة واحدة، وتطرق إلى سخاء كرام الوطن وجودهم في مؤازرة المشاريع الوطنية.
ثم اصطدم في سنته الثانية بشعور الجمهور في قضية غير سياسية، مما اضطر إلى أن يوقف صحيفته أسابيع استأنف بعدها نشرها باسم جديد هو «المفيد» في 11 نيسان (أبريل) سنة 1922، وقد اختاره لها؛ لأنه اسم أول جريدة عربية دافعت في بيروت عن حقوق الشعب العربي في العهد العثماني عندما أصدرها فؤاد حنتس والشهيد عبد الغني العريسي، وكان للكاتب العراقي هذا في «المفيد» البيروتي مقالات وجولات، وتاريخ هذا الصحفي مليء بالتساهل والانتقال من حال إلى حال، فسرعان ما غير لهجة جريدته «المفيد» وصار ينتقد سياسة الانتداب البريطاني، وظاهر الحركة الوطنية، وتحدث عن المعاهدات والعهود بأنها «قصاصات ورق»، وكتب افتتاحية عن «عصبة الأمم» تقدح شررا عنوانها: «سوق النخاسة في جنيف»، اهتزت لها الأندية السياسية، وأخذ يناقش بعض الكتاب والنواب الإنكليز في السياسة العراقية والقضية العربية، وأيدت جريدة «المفيد» حركة المقاومة لسياسة الانتداب، وكتبت مقالات عنيفة، ونشرت في 23 آب (أغسطس) سنة 1922 منشور الحزبين المتضامنين «الحزب الوطني» و«حزب النهضة» في وصف وضع البلاد المضطرب، فصدر قرار المندوب السامي البريطاني - وقد تسلم السلطة في ذلك الظرف لمرض الملك - بتعطيل الجريدة والقبض على صاحبها وإبعاده في ضمن قراره بإقفال الحزبين المذكورين واعتقال زعمائهما، فلم يكن من إبراهيم إلا أن اختفى عن الأنظار، ثم فر إلى إيران، وعاد إلى إصدار «المفيد» في 25 أيار «مايو» سنة 1924 بعد أن قاسى سنتي هجرة وتشريد وحرمان.
وفي أحد مواقف المعارضة للوزارة القائمة كتب صاحب جريدة «المفيد» مقالة بعنوان: «المستقبل المظلم»، يوم 14 كانون الثاني (يناير) سنة 1926 عير فيها الذين في دست الحكم بأنهم كانوا ضد دولة الخلافة في أيام الثورة العربية، وهم يسلكون اليوم هذا المسلك، «يريد عقد المعاهدة التركية لسنة 1926»، وختمها بهذه العبارات:
قد أضاعوا المنطق، ونخشى أن يكونوا أضاعوا معه كل شيء. حتى المقدسات الوطنية، بل حتى الارتباط بأمجاد التاريخ، ولكن ما قيمتهم في نظر أمة صممت على اتباع واحد من أمرين:
إما أن تموت في سبيل أمنيتها الوطنية، وإما أن تظفر بغاياتها القومية الكبرى، والمستقبل كشاف؛ لأن سواد الليل لا يدوم فلا بد من فجر ينبثق في هذه الديار الظامئة إلى حريتها واستقلالها.
فغضبت الحكومة على الصحافي لحملاته المتكررة، فألغت امتياز جريدته بحجة أن صاحبها وهو من هو في براعة الكتابة الصحافية لا يحمل شهادة مدرسية عالية، المفروضة قانونا في المدير المسئول للجريدة السياسية، وبهذه الخاتمة انتهت حياة جريدة «المفيد».
جريدة دجلة
وجريدة «دجلة» أصدرها المحامي داود السعدي - وهي جريدة عربية سياسية اجتماعية حرة - في 25 حزيران (يونيو) سنة 1921، تولى تحريرها بادئ ذي بدء حسن الغصيبة، ولكنه تركها بعد بضعة أعداد؛ فحل محله رشيد الهاشمي.
ومع أن الشبهات قد حامت حول سياسة هذه الجريدة تجاه قضية البلاد الكبرى، وهي نصب العرش العراقي وإجلاس الأمير فيصل عليه؛ فقد قالت في فاتحة عددها الأول:
كل غايتنا التي نرمي إليها استقلال البلاد استقلالا تاما، وتأسيس حكومة دستورية ذات ملك مقيد بقوانين توافق روح البلاد، وتلائم مصلحة الشعب، وتأليف مجلس تشريعي له سلطة واسعة يؤلف ممن يعتمد الشعب عليهم ويثق بصدق وطنيتهم.
ورغما عن هذا العهد الذي قطعته الصحيفة لقرائها؛ فقد كانت ديباجة دجلة تختلف عن زميلاتها في القضية الأساسية، بحيث اضطر صاحبها تجاه التيار القوي ضد الجريدة إلى أن ينشر مقالا افتتاحيا بتوقيعه في العدد التاسع عنوانه: «نحن والمغالون»، تبرأ فيه مما يلصقه به البعض من أن جريدة «دجلة» ترمي إلى فكرة جمهورية في نوع نظام الحكم للعراق، أو أنها تريد تتويج عراقي على المملكة العراقية حتى رموه بأنه يقاوم الأمير فيصل، فأوضح في مقاله هذا «بأنه يؤيد ترشيح أحد أنجال الملك حسين بن علي، ولكنه يقاوم فكرة التتويج قبل اجتماع المؤتمر العام» - يقصد المجلس التأسيسي - إلى أن قال:
نريد أن يكون الملك مقيدا بقيود يكون وضعها في صالح البلاد، نريد أن نقيده قبل أن يستبد بالشعب.
ولكن كل هذه الإيضاحات لم تفد، وظل الناس ينظرون إلى «دجلة» نظرا خاصا فيما يتصل بهذه المسألة، وأذيع في حينه أن لمستشار وزارة الداخلية المستر جون فلبي ضلعا في هذه السياسة، ومع أن «مذكرات فلبي» عن هذه الحقبة في كتابه
Arabian Days
لم تبرئه من بعض المحاولات، وأنه كان يضطلع مع طالب باشا النقيب، فيعزو بعض المطلعين على بواطن الأمور أن جريدة «دجلة» كانت تعبر عن هوى بعض السياسيين وفي مقدمتهم عبد الجيد الشاوي.
ويفهم عنف التيار الذي لقيه هذا الصحفي من تكرار الهجوم في جريدته على الدساسين، بل بلغ الأمر بالصحيفة أن كتبت يوما مقالا افتتاحيا عنوانه: «الحر ممتحن بأولاد الزنا»، مما يشير إلى الحدة أو العصبية التي استولت على صاحبها من نهش الدعايات له.
لم يكن في دجلة تفنن صحفي، اللهم إلا شروعها في نشر ترجمة مذكرات الجنرال طاوسند الإنكليزي متسلسلة، الذي أسره الترك العثمانيون في الكوت عن «حملة العراق» البريطانية.
وختمت الجريدة حياتها في عامها الثاني بالعدد المنشور في 26 تشرين الأول (أكتوبر) سنة 1922.
جريدة الرافدان
أما «الرافدان» فجريدة أنشأها «سامي خوندة» أحد الشبان المنغمرين في الحركة السياسية للأحزاب الوطنية السرية، كان يعمل في جريدة «الاستقلال» التي سبق بحثها في المحاضرة المتقدمة، صدر العدد الأول منها في 26 أيلول (سبتمبر) سنة 1921، وكانت لها صلة برجال الأحزاب، والصفة البارزة «للرافدان» نزعتها الحرة وكتاباتها الصارمة واهتمامها بنشر ما يغذي الشعور الوطني، بحيث عطلت في خلال السنة الواحدة من حياتها ست مرات، حتى كان يوم 23 آب (أغسطس) سنة 1922 فنشرت منشور الحزبين المنوه بذكرهما آنفا فعطلت بقرار المندوب السامي المشار إليه، واعتقل صاحبها مع من اعتقل ونفي إلى هنجام، ولم يرغب بعد أن أطلق سراحه وعاد إلى بلده أن يحترف الصحافة، بل فضل عليا التوظف في الحكومة.
نشرت «الرافدان» في مطلع حياتها ثلاث مرات في الأسبوع، ثم أصبحت يومية، ولم تأت بجديد في عالم الصحافة من الناحية الفنية إلا فتح باب النقد الاجتماعي بأسلوب هزلي برز فيه كاتب جديد يوقع «كناس الشوارع» في مقالات قصيرة، مما سنتحدث عنه في بحث صحافة الهزل.
على هذا المنوال سارت الصحافة تواكب سياسة البلد إلى أن شيد العرش واعتلاه الملك فيصل الأول في 23 آب (أغسطس) سنة 1921، ودخلت البلاد في طور جديد يصح أن نسميه طور التأسيس والبناء ، عقدت في خلاله المعاهدة العراقية البريطانية الأولى، واجتمع المجلس التأسيسي، فأبرم هذه المعاهدة وشرع «الدستور العراقي» وتبع ذلك الشروع في تكوين الجيش الوطني.
في غمرة هذا النشاط الرسمي، اشتد النشاط الأهلي في معالجة القضايا الوطنية، وتوالى عقد الاجتماعات السياسية، تلقى فيها الخطب النازية وتعاقب المظاهرات في الشوارع والميادين العامة، واستقر رأي العاملين في الحقل السياسي على الأخذ بنظام الأحزاب، فتألف حزبان وطنيان معارضان هما «الحزب الوطني» و«حزب النهضة»، وقام بجانبهما حزب معتدل يساند الحكومة القائمة هو «الحزب الحر». وهكذا ولدت الأحزاب العلنية في العراق الجديدة، وبنشوء الأحزاب لا بد من وجود صحف حزبية تكون ألسنتها الناطقة، وتعبر عن آرائها في القضايا الراهنة وتبث مبادئها.
جريدة العاصمة
تقدم «الحزب الحر العراقي» غيره من الأحزاب إلى إصدار صحيفة خاصة به، ولا سيما أن الفقرة «ب» من المادة الثانية من منهاجه الأساسي تنص على «أن الحزب يصدر جرائد ومجلات تستمد وتستعين من الأفكار الحرة العالمة بمصالح الأمة والمخلصة لها في جميع شئونها السياسية والإدارية والاقتصادية والعلمية التي يسعى الحزب لتعزيزها وتأييدها.»
نشأ هذا الحزب في ظل حكومة عبد الرحمن النقيب بوزارتيها قبل التتويج وبعده، فدعمها وأيد مسالكها وبخاصة في السياسة الخارجية، أسسه جماعة من الرجال، عرفوا باعتناق السياسة الإيجابية التي تريد التفاهم من الإنكليز، ومن أقطابه ومؤسسيه بعد زعيمه عبد الرحمن النقيب، ولده محمود النقيب. وقد ترأس الحزب - وبتعبير أدق - ناب عن أبيه في رئاسته، فتح الحزب أبوابه في 3 أيلول (سبتمبر سنة 1922) فخف لنشر جريدة، وعهد إلى أحد أعضائه بتحريرها وإدارتها هو حسن الغصيبة من خريجي «مدرسة العشائر» في الآستانة ومن ضباط الثورة العربية، ومسجل في السنة الأخيرة من «كلية الحقوق»، وسموها «العاصمة»، بدأت يومية منذ 5 تشرين الثاني (نوفمبر) سنة 1922 بأربع صفحات، وأثبت في فاتحة عهدها ما يأتي:
تبدأ جريدة «العاصمة» الصدور حاملة في صدرها للشعب العراقي والشرق العربي عاطفة إخلاص عظيم وأماني رقي مستمر؛ لتكون هذه البلاد بقعة نبرة في وسط الكرة الأرضية، وهذه الأمة خير أمة أخرجت للناس. لا تدعي جريدة «العاصمة» بما ليس فيها ولا تحاول اتخاذ عواطف الجمهور هزءا أو سخرية - وكأنها بهذا التعبير تعرض ببعض الصحف الأخرى - تقوم بواجبها السياسي خير قيام، وهي في هذا الباب ترجح الاختفاء والاضمحلال على تحبيذ فكرة التهور واتباع الأهواء أو الميل إلى خطة الاستسلام والتفريط في حقوق الأمة والبلاد، وستكون العاصمة عامة في مواضيعها تطرق السياسة للدفاع عن حقوق البلاد السياسية، وشرح واجبات الأمة الوطنية للاحتفاظ بالاستقلال الذي به يثبت مجتمعنا القومي، وتشتغل بالمسائل الاقتصادية لإيصال نصيب الأهلين من مرافق البلاد إلى الحد الأقصى، وتعنى بالأدب العربي أملا بعودة دولة الأدب العباسي إلى العراق بصورة تتفق مع حالة العصر العشرين الفكرية؛ لتتمكن من الانتفاع من عبقرية أدبائنا الكبار وكثير من هم، ونستطيع أن نسمو بمستوى الفكر العربي إلى درجة تضطر الملأ الغربي إلى اعتبارنا نظراء أكفاء في الأفكار والآداب والحضارة.
بهذه الخطة طلعت «العاصمة» على قرائها، وأذاعت في العدد الأول منها «نظام الحزب الداخلي»، ودعت الناس إلى الانخراط في سلكه، كما حملت رسائل التأييد التي وردت على الحزب من أنحاء القطر، وتقول بعض المصادر عن هذه الرسائل: إن موظفي الألوية ولا سيما المفتشين الإداريين الإنكليز يومئذ كانوا يدفعون الأهلين إلى الانضمام إلى الحزب والإبراق إلى الصحف بتأييده.
عرفت مقالات حسن غصيبة رئيس تحرير «العاصمة» الافتتاحية بأنها من أحسن المقالات الصحفية في يومها، بل من أحسن المقالات في الصحافة العراقية، مكتوبة بأسلوب فصيح معتدلة اللهجة، ناضجة التفكير، والجريدة كلها بالقياس إلى زميلاتها البغداديات من الصحف المعتبرة، طابعها البارز الجد والترفع عن منابزة الآخرين، أو التعرض للأشخاص عندما كانت تناقش الصحف أو الكتاب، فهي تناقشهم بالقول العفيف والمنطق السديد، وممن كتب في الجريدة من أعضاء الحزب يوسف غنيمة ورشيد الهاشمي، كما نشرت في موضوعات أدبية لمحمود أحمد الكاتب القصصي.
ومما يؤثر عن صحيفة «العاصمة» وقفتها إزاء «مسألة الخلافة» عندما أصدر الترك الكماليون «قانون أنقرة»، يبعدون فيه السلطان أو الخليفة عن الحكم ويحصرون السلطة العليا بيد المجلس الوطني التركي، فحملت «العاصمة» عليهم في مقالات كثيرة واتهمتهم بأنهم يعتنقون الشيوعية .
وقد سجلت جريدة الحزب الحر لها موقفا مشرفا في دفاعها عن «الحرية الفكرية» وعن كرامة الصحافة والصحافيين وحريتهم الحيوية؛ إذ انتصرت «العاصمة» لحرية الفكر لما نشبت قضية كتاب «ماهية النفس» الذي ألفه ميخائيل تيسي في بغداد، وبحث فيه عن النفس الإنسانية قبل الولادة وبعد الموت، فاهتاج لمضامينه رجال الدين المسيحي أولا في مجلتهم «نشرة الأحد»، ثم راجعوا وزارة العدل بعد أن انضم إليهم بعض رجال الدين الإسلامي، فرفع «المدعي العام» بعد درسه الكتاب قضية على المؤلف في المحاكم، فأصدر حاكم جزاء بغداد حكمه بمصادرة الكتاب وتغريم مؤلفه ألف روبية، فانبرى منشئ العاصمة يدافع عنه ويبين أنه لم يهتك الآداب الدينية، ويقول: «يجدر بمن أقاموا الضجة حول الكتاب أن يكتبوا رسالة يوضحون فيها خطأ الكاتب وضلاله.» ويجب أن نسجل أن هذا الصحافي الحر لم يؤيد ما جاء في مضامين الكتاب من حجج وآراء، وإنما انتصر لحرية الفكر فقط، وبين حسن القضية في مقاله محكمة الاستئناف إلى أن الحرية الفكرية سوف تتلاشى وتضمحل إذا لم تفرق المحاكم بين المسائل الفكرية البحتة والإجرام، وأكد أن الرقي الفكري الذي نشاهده اليوم لم يأت إلا بتعاقب الأغلاط وتصحيحها بالتدريج.
ثم شاركت صحف أخرى في طليعتها العراق في الانتصار للمؤلف في هذه القضية، فصدر قرار محكمة الاستئناف بفسخ الحكم.
أما الدفاع عن كرامة الصحافة والصحفيين فقد وقفته العاصمة يوم اعتدى البعض بالضرب في الشارع على الكاتب الجريء إبراهيم صالح شكر، صاحب جريدة «الناشئة» الانتقادية.
وبعد ذهاب وزارة النقيب، وقفت جريدة «العاصمة» موقفا يغاير رأي حزبها في موضوع الانتخابات «للمجلس التأسيسي»، فمنذ أن برزت للوجود أخذت على عاتقها الدعوة للانتخابات ووجوب ممارسة الأمة حقوقها، ثم اعترض «الحزب الحر» على بعض حوادث هذه الانتخابات واحتج عليها وأظهر استعداده لعدم خوض غمارها، فلم يفتر هذا من عزم محرر الجريدة في المطالبة بمواصلة عملية الانتخاب، فظهر المحرر مستقلا برأيه عن الحزب في هذه المسألة، يسانده بعض أقطاب حزبه، ولم يزل يعالج الموضوع حتى انصاع الحزب للرأي المصيب، فقررت لجنته المركزية الاشتراك في الانتخابات ببيان أذاعته على الشعب. ولا بد من القول بأن التيار السياسي الموجه من الوزارة والبلاط الملكي كان من أقوى الدوافع للحزب على موقفه الأخير، وليس منطق الصحافي وحده.
ولم يكتب «للعاصمة» حياة طويلة، فانحلال حزبها قد عجل في موتها مأسوفا عليها من العقلاء فلم تعمر إلا حوالي سنة واحدة آخرها في 24 آب (أغسطس) سنة 1923، ووظف محررها رئيسا لديوان الإنشاء في المجلس التأسيسي، وانتقل بعدها إلى السلك الإداري في وظائف الدولة.
هذه جريدة «الحزب الحر». أما الحزبان الوطنيان اللذان نزلا إلى ميدان العمل السياسي فلم يصدرا جرائد، ولا سيما أنهما أقفلا بأمر المندوب السامي البريطاني ولما تمض على فتحهما مدة كافية.
ولما عادا إلى الحياة السياسية لم تكن لهما صحف تعرف فعلا أنها ألسنة لهما، ومع أن عبد الغفور البدري صاحب جريدة «الاستقلال» أحد مؤسسي «الحزب الوطني» إلا أن جريدته كانت تعضد الحزب وتروج لسياسته ومبادئه حينا، وتخالف الحزب وتنفرد بالرأي أحيانا أخرى، نظير موقفها من الانتخابات للمجلس التأسيسي؛ فقد دعت جريدة «الاستقلال» للاشتراك في الانتخابات وأبدت نشاطا ملحوظا في هذا المجال، وقارعت «الحزب الحر» لما تظاهر بالميل لمقاطعة الانتخابات حتى وصفها أحدهم بأنها كانت «لسان حال الانتخابات»، مع أن جماعة كبيرة في «الحزب الوطني» قررت مقاطعة هذه الانتخابات، وأكثر من ذلك أنها احتفلت بافتتاح «المجلس التأسيسي» بإصدار عدد خاص بثماني صفحات بهذه المناسبة التاريخية.
و«حزب النهضة» هو الآخر لم تكن له جريدة في هذا الوقت.
صحافة الأحزاب في العراق
اجتمع «المجلس التأسيسي» يوم 27 آذار (مارس) سنة 1924 وعرضت عليه المعاهدة العراقية الإنكليزية لسنة 1922، ولكي تتصوروا أهمية هذا الموقف أنقل لكم جانبا من خطاب ناجي السويدي من الساسة البارزين في المجلس بصدد ما نحن فيه قال:
نحن الآن قد وصلنا إلى النقطة الحيوية المتعلقة بحياة البلاد أو مماتها، شقاؤها أو سعادتها، فليس أعظم من هذا الموقف فيما مضى على البلاد العراقية من قبل الحرب الكبرى إلى يومنا هذا، جهادنا العظيم، وفي مطالبتنا بحقوقنا المشروعة التي أيدتها الأمم كافة .
وبعد أن واصل ناجي السويدي الكلام في هذا المنحنى اقترح توزيع نصوص المعاهدة على النواب وأوجب إعلانها للشعب قائلا:
الشعب الذي هو المرجع الوحيد للبت فيها، ونحن مضطرون إلى العمل برأي الشعب.
المعارضة والصحافة
في هذا الموقف قامت في البلد حركة سياسية في الحملة على المعاهدة وطلب تعديلها، أو رفضها، وصارت الصحف تصور وجهات نظرها في هذه القضية الحيوية، فأخذت جريدة «العراق» تؤيد المعاهدة وتدعو المجلس لإبرامها، وممن كتب في هذا الموضوع غير مقالات الجريدة التحريرية، سلمان الشيخ داود، بينما وقفت جريدة «الاستقلال» من المعاهدة موقف المنتقد؛ فكتب محررها قاسم العلوي كثيرا في هذا الباب، ونشرت الصحيفة مقالات لكتاب آخرين من معارضي المعاهدة بينهم علي محمود الشيخ علي.
جريدة العالم العربي
في هذا الظرف ظهرت في عالم الصحافة جريدة جديدة هي «العالم العربي» - صحيفة يومية سياسية عامة - أصدرتها «شركة حسون ومراد وشركاؤهما»، يدير سياستها ويرأس تحريرها سليم حسون؛ ممن اشتغل بالتعليم والتأليف في العلوم العربية والثقافة سنين في الموصل، وقد تخيرت يوم افتتاح المجلس التأسيسي موعدا لصدورها وقالت في مفتتح كتابتها:
ظهرت صحيفة «العالم العربي» ظهور البشير بالتوفيق، وها هي ذي نازلة على هدى الله مع المجاهدين في سبيل المصلحة العامة، قاطعة للأمة عهود الإخلاص والأمانة ومؤملة منها الثقة والمناصرة. وقد اعتمدت على اتباع خطة الصراحة فيها، وإن تهالكت على تقوية «قلب الشعب» وإراحة أفكاره، فلا ترضى أن يلتهي بالآمال ويبقى نائما «نوم الأطفال الأبرار» باسما للأحلام الذهبية وراكنا إلى عناية المرضع ورحمتها، أو يؤمن إيمان الساذج بكل ما يسمع فتفوته الحقائق الراهنة والفرص الثمينة ... ولما كانت جريدة «العالم العربي» من الشعب وللشعب فقد تعهدت بإفادته بكل ما يهم حياته السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأدبية، وتحريضه على إبراز «شخصيته» في كل موقف، وأخذ ما يحق «لذاتيته» من الاحترام، ولكلمته من النفوذ، ولحالته من الإصلاح والتجدد والرقي.
ثم ذكرت: «وقد توفرت عليها وسائل الطبع والنشر في مطبعتها المعروفة «بدار الطباعة الحديثة» المجهزة بأكمل وأحدث الآلات واللوازم الطباعية والليتوغرافية، وإنا ساعون إلى توسيع نطاق الجريدة ومؤملون أن نلحق بها في القريب العاجل أعدادا أسبوعية ممتازة مصورة بالألوان على الطراز العصري.» وإن لم تستطع أن تحقق برنامجها الصحافي هذا.
كان موقف «العالم العربي» من المعاهدة معتدلا مع ميل إلى المعارضة في الأمور الجوهرية. وقد ناقشت الصحف العراقية المتخوفة من المصير فيما لو رفض المجلس المعاهدة أو الصحف الأجنبية التي حاولت أن تنال من العراق أو اتجاهاته الوطنية، فقالت في معرض ردها على جريدة «العراق»:
وهنا نعود إلى رأينا طالبين من الحكومة والمجلس أن يبرزا في هذا الموقف الفريد كل ما عندهما من المقدرة والشخصية والخبرة السياسية، ويتفقان والحليفة على شروط أنسب للمصلحة الوطنية ولإراحة قلوب الشعب العراقي المحبوب.
هذه فقرة تبين أسلوب الجريدة في التفكير والتعبير:
عاشت «العالم العربي» سنين وتجلى فيها نشاط صحفي، وعرفت مقالات «ريبورتاج» لمحررها كتبت بتفنن ولباقة، فإذا ما أرادت أن تنتقد أفرغت انتقادها في قالب غير مثير لشواعر الحاكمين، كما عنيت بترجمة ونقل معظم ما نشر عن العراق في الصحافة الأجنبية، وفي المؤسسات الدولية، وظلت تتمتع بهذه الميزات حتى برزت صحف أخرى حوت ألوانا من التجديد الفني.
ومما يسجل لهذه الجريدة دفاعها عن حق العرب في فلسطين ومكافحتها للصهيونية بلهجة لا هوادة فيها تكبدت في سبيلها تضحيات مادية. •••
ومن الجرائد التي أيدت المعاهدة وطالبت بإبرامها صحيفة «المفيد» التي ذكرتها في محاضرة سابقة. وقد تطرف صاحبها في اندفاعه في تأييد المعاهدة إلى درجة أنه علق يوما على خطاب الدكتور داود الجلبي عضو المجلس التأسيسي في معارضة المعاهدة، علق مذكرا الناس بحوادث الشام المؤلمة التي كان العناد والاندفاع الوطني من عوامل وقوع تلك المأساة وضياع العرش العربي على ضفاف بردي.
ولا بد من القول أن هذا الصحافي «إبراهيم حلمي العمر» لم يكن ممن بكوا العرش المحطم في حينه.
جريدة الشعب
إن معارضة الصحف للمعاهدة إلى جانب خطب بعض النواب في المجلس خلق جوا من الصخب في المجتمع على المعاهدة، فهاجت بغداد وماجت، ونزل إلى الميدان الصحفي محمد عبد الحسين أحمد صحافي «الثورة العراقية سنة 1920» كما مر بنا، فأصدر في 10 نيسان (أبريل) سنة 1924 جريدة باسم «الشعب» أوقفها على مناقشة المعاهدة والدفاع عن وجهة نظر المعارضين لها، وكانت شديدة الوطأة في مقالاتها وبحوثها السياسية.
وتفاقمت حركة المعارضة واشتد التوتر السياسي. وقد أراد المعارضون الضغط على «المجلس التأسيسي» ليرفض المعاهدة، وتوالى عقد الاجتماعات العامة التي تلقى فيها الخطب الحماسية ويثار الشعور الوطني حتى أفضى الأمر إلى أن تصدى شخص متطرف لإطلاق النار على شيخين من شيوخ القبائل وعضوي المجلس التأسيسي هما عداي الجربان وسلمان البراك. وقد ظهر منهما تأييد قوي للمعاهدة، فكان للحادث دويه، فهبت الحكومة لقمع الحركة، فاعتقلت بعض المحامين الذين عقدوا اجتماعا سياسيا عاما للحملة على المعاهدة، وعطلت جريدتي «الشعب» و«الاستقلال» للهجتهما الصارخة في نقد المعاهدة واعتقلت صاحبيهما.
ولما اشتد الأخذ والرد في المجلس التأسيسي حول المعاهدة وتباطأ المجلس بعض الشيء في البت فيها، خرجت جريدة «بغداد تايمس» التي يصدرها الإنكليز في بغداد عن حدود الرزانة، فكتبت مقالا شديدا في الموضوع، ونقلت في عين العدد مقالا في هذا الباب عن «التايمس» اللندنية، ويحسن بنا أن نثبت ترجمة المقالين ونحن نؤرخ لصحافة العراق وسياستها في هذا الطور:
كلام «بغداد تايمس»
كاد أن ينقضي شهران على المجلس التأسيسي وهو ينظر في المعاهدة العراقية- البريطانية، ونسمع الآن بإعداد تقارير ضافية الذيول وبمناقشات طويلة عريضة في أمر رفض المعاهدة أو تعديلها أو قبولها بشروط ترمي إلى تعديلها في المستقبل.
ولكن ما فائدة هذا الكلام كله؛ فقد وضح لأقل الناس إدراكا وضوح الشمس في رائعة النهار أن البلاد لا تريد المعاهدة على ما تفسرها ذيولها، وعليه فليقدم أعضاء المجلس التأسيسي على إبداء آرائهم ويرفضوا المعاهدة ويقضوا عليها القضاء المبرم، وليعلموا أن البريطانيين أنفسهم لا يريدون المعاهدة، فلو أتيح لهم المكث في البلاد وهم مشمولون بالصداقة والمحبة بغية معاونتها في السير في سبيل النجاح لرضوا بالبقاء عن طيبة خاطر، ولكن ذلك لحلم قد انقضى؛ فقد حل الشك محل الصداقة، فلماذا إذن يبقى البريطانيون في هذه البلاد؟ فإن الأوفق لسياسة بريطانيا في تركية وفارس والهند أن يخرج البريطانيون من العراق من غير قيل وقال، وبذلك يزيلون عنهم بالكلية ظنون المطامع الإمبراطورية، والذي نتساءل عنه الآن هل يخرج البريطانيون من العراق إذا ما قلب لهم أهلوه ظهر المجن كما يبدو على موقفهم الحالي؟ إن التجارة في العراق لا يعبأ بها، وقمح العراق وجلده وصوفه أردأ قمح وجلد وصوف في الدنيا، والشركات البريطانية في العراق لا تربح شيئا، ويحتمل أن يزرع القطن هنا في المستقبل، ولكنه دون القطن الذي يزرع في السودان والمستعمرات الأفريقية، ويحتمل كذلك أن تعثر الشركات على النفط، ولكننا نستطيع الحصول عليه في بلدان أخرى من غير أن نخاطر برءوس أموالنا، فلا فائدة لإمبراطوريتنا من البقاء في العراق.
فليتشجع أعضاء المجلس التأسيسي ويسرعوا في التصويت طبق رغبة الشعب؛ فقد آن لنا أن نتخلص من الدسائس والمراوغات، فإذا كان العراقيون غير قابلين بالمعاهدة وذيولها فليصرحوا بذلك، وليخرج البريطانيون من هذه البلاد، ونقول قولا أكيدا أن ما من أمة مثل الأمة البريطانية يسرها التخلص من مشاكل بلاد منحطة وشعب يستحيل إرضاؤه بشيء.
مقال «التيمس» اللندنية
تنحصر مطالب العراقيين المفكرين في الأمور التالية على وجه الإجمال:
أولا:
أن تساعد بريطانيا العراق مساعدة عسكرية وسياسية ومالية في السنين الأربع أو الست المقبلة، بينما تسعى هذه الدولة في تثبيت كيانها.
ثانيا:
أن تصرح بريطانيا تصريحا جليا بأنها لا تنوي بسط سيطرتها على العراق مدة 40 سنة أو 10 سنوات كما فعلت في مصر.
وليعلم الناس في إنكلترة أن جانبا من التحريض على رفض المعاهدة ناشئ عن تضارب المرامي في السياسة المحلية؛ ففي كل مجلس نيابي نرى مطامع الأشخاص غير المتقلدين زمام الأمر تسوقهم إلى السير على منهج لا ينطوي على الحكمة والعقل على ما يظهر، وهنالك فريق كبير يرى أن إثارة الرأي العام قد تحمل الحكومة البريطانية على الموافقة على تعديل بعض شروط المعاهدة، ويعتقد هؤلاء أن رفض المعاهدة رفضا مؤقتا قد يحمل بريطانيا على التساهل في شروطها كما فعلت في أيرلندا ومصر.
فعلى الحكومة البريطانية أن لا تتوقع أن العراق قد بلغ شأنا بعيدا في الرأي، فإن الحكم الديمقراطي الذي أنشئ في العراق جاء سابقا لأوانه بالنظر إلى الأحوال المحلية، وعلى المرء أن لا يتوقع العظائم من أناس صغار ينوبون عن مناطق يغلب فيها الجهل، ولا يسعنا إلا الاعتراف بأن الموقف يوجب الحيرة حتى البريطانيين، وأصعب من ذلك العراقيين الذين نظامهم في الحياة مبني على الإيثار - الغيرة - وهو رائدهم في السياسة، فلماذا تظل إنكلترا في العراق وتنفق كل سنة ملايين الليرات على تلك البلاد، فالعراق لا ينوي أن يمنح طلاب الامتيازات الاقتصادية من البريطانيين شروطا أسهل من الشروط التي يعطيها لغيرهم من الأجانب، والمسائل السياسية الأسيوية أبعد من إدراكه؛ لأنه ما من عراقي يعتقد بأن بريطانيا تنوي الخروج من العراق، وكل ما قيل في هذا الشأن يحسبه محض إيهام لحمل المجلس التأسيسي والشعب على قبول المعاهدة. وقد أدى هذا الاعتقاد إلى إثارة الخواطر بقصد تعديل المعاهدة، حتى إن في بغداد بعض التجار يعضدون فكرة رفض المعاهدة؛ لأنهم يعتقدون أن البريطانيين يظلون في العراق على صورة دائمة إذا رفضت المعاهدة.
فلإزالة الشكوك يستحسن نشر بلاغ يبسط فيه ما تناله بريطانيا العظمى من بقائها في العراق، وما تنوي الحكومة البريطانية عمله إذا لم يبرم المجلس التأسيسي المعاهدة. أما العراقيون فإنهم يتصورون في الوقت الحاضر أن باستطاعتهم تهييج الخواطر على ما يشاءون، وليس حجة من الحجج التي يدلي بها أصدقاؤهم البريطانيون تقنعهم بأن ما يعتقدونه أضغاث أحلام، فليت شعري ماذا يتمكن خصوم المعاهدة من تقديمه بدلا منها وقد وقف للعراق بالمرصاد على حدوده ابن السعود والفرس ومصطفى كمال وفرنسة في سوريا وشرق الأردن، فإذا جلت بريطانيا العظمى عن العراق تسابق هؤلاء الجيران المكتشفون بالعراق والفوضى الداخلية لافتراس الفريسة، فتذهب أتعاب العشر سنوات ومشقاتها أدراج الرياح.
وقد انبرت جريدة «العالم العربي» للرد على «بغداد تيمس» بمقالات دافعت فيها عن الرأي العام العراقي وحقوق الشعب، حتى جريدة «العراق» التي كانت تؤيد المعاهدة وتدعو لإبرامها استنكرت موقف «بغداد تيمس » فيما كتبته ونقلته عن «لندن».
ثم أبرم المجلس التأسيسي هذه المعاهدة في إحدى الليالي بعد تأزم سياسي في البلد ومظاهرات وهزات الجماهير يقابلها عنف في إجراءات الحكومة، وطفق المجلس ينظر في مشروع الدستور العراقي، وعندما أنجزه أبرم بعده مشروع قانون الانتخاب لمجلس النواب.
ويلاحظ متتبع الحال في الصحافة العراقية أنها لم تبد اهتماما يذكر بمناقشة الدستور الذي شرعه المجلس التأسيسي شأنها في اهتمامها بالمعاهدة، ومرجع ذلك إلى أن الثقافة القانونية الدستورية كانت ضعيفة في العراق في ذلك الوقت، وليست الحال على هذا المنوال لما وضع «الدستور المصري»؛ فقد قابلته الصحافة المصرية بسيل من المقالات والدراسات؛ لأن الفقه الدستوري والثقافة القانونية راسخان في وادي النيل من عهد بعيد، كما أننا اعتدنا أن نشغل أنفسنا بالحس السياسي وتحريك العواطف الوطنية. أما الأسس والتعمق إلى الأغوار في أحوالنا وسياستنا، فنهملهما غالبا إبان اشتداد الحركة.
بعد انفضاض «المجلس التأسيسي» وقد أنجز المهام المودعة إليه، أخذت الدولة في السير لاستكمال وسائل الحكم والتشريع، فقامت وزارة قوية برئاسة عميد المعارضة في المجلس ياسين باشا الهاشمي، فاختار أعضاءها من شخصيات لها منزلتها وكفايتها، وصارت الوزارة تنجز الأعمال بسرعة، فنشر الدستور وقانون انتخاب النواب ووضعا موضع التنفيذ، ونشر قانون الجنسية العراقية وبدئ العمل بانتخاب المجلس النيابي الأول.
جريدة حزب الاستقلال في الموصل
في هذه المرحلة الخطيرة من حياة البلاد، وصلت إلى العراق «اللجنة الأممية» التي قررت «عصبة الأمم» إيفادها لتدقيق «قضية الموصل» والفصل في أي المطالبين أحق بأن تبقى له العراق أم تركية؟ فكانت أول بادرة للنشاط السياسي قيام جماعة من المشتغلين بالسياسة والمعنيين بالمصلحة الوطنية بتكوين حزب سياسي في الموصل دعوه «حزب الاستقلال». وقد نص منهج هذا الحزب في مواده الأولية على الاستقلال التام للقطر العراقي بحدوده الطبيعية، وتنشيط حركة الوحدة العربية في الخارج ...
ولهذا الحزب يد تذكر في الدفاع عن قضية الموصل عندما زارت اللجنة الأممية يرأسها المسيو دوفرسن الأسوجي تلك الأصقاع، ومما استعان به الحزب على النجاح في أعماله إصداره جريدة باسم «العهد»، وهو الاسم التاريخ المحبب عند العاملين في الكفاح الاستقلالي - جريدة يومية عربية - ظهرت في الموصل في 20 كانون (يناير) سنة 1925 على أن تنشر ثلاث مرات في الأسبوع مؤقتا. وقد حررها كاتب سوري من أحرار العرب «عثمان قاسم»، وكان طريد الحكم الفرنسي في الشام، وتوفر لفيف من الأدباء الموصليين، وبخاصة أعضاء الحزب على تغذية الجريدة بالأفكار والكتابات، بحيث تخرج على الجمهور قطعة متوهجة من إيمان وطني وعواطف صادقة وروح حي، ولم تسلم «العهد» من غضب الحكومة، فعطلتها، فأصدر الحزب بدلها جريدة «فتى العراق» حصل على امتيازها أولا متى سرسم، ثم انتقلت إلى عهدة المحامي سعد الدين زيادة ومنه إلى غيره.
جريدة حزب الشعب
وبعد أن افتتح المجلس النيابي الأول يوم 16 تموز (يوليو) سنة 1925 وجد في داخل المجلس حزبان: حزب مؤيد للحكومة القائمة أطلق عليه «حزب التقدم» يرأسه عبد المحسن السعدون، وحزب معارض دعي «حزب الشعب» يتزعمه ياسين الهاشمي، وتأهب حزب الشعب لنشر جريدة يومية بأربع صفحات. وقد حاولت أن تصدر بست صفحات، فلم يمكنها إعوازها إلى مطبعة خاصة من الاستمرار في ذلك، فعادت إلى الصفحات الأربع بعد بضعة أيام.
المهم أنها أول جريدة في البلاد كتب على صدرها «لسان حزب الشعب العراقي»، بحيث صارت كل كلمة تكتب فيها يسأل عنها الحزب وتعد معبرة عن رأيه. وقد ساهم جميع أعضاء الحزب في تكاليفها ونفقاتها إلى آخر عمرها غير الطويل، ومما قالته الجريدة في عددها الأول ومنه تتبينون روحها:
ها قد مست الحاجة إلى إصدار هذه الجريدة، وتقديمها إلى الشعب العراقي الكريم لتكون ناطقة بالخطة التي وطن «حزب الشعب» نفسه على القيام بها والسير عليها؛ لإيصال البلاد بالطرق المشروعة والوسائل الشريفة إلى ما تصبو إليه وتتوق من حرية كاملة واستقلال تام لا شائبة فيه ولا مغمز.
إن منهاج الحزب لا يحتوي على كثير من الكلمات، لا سيما وقد وطد الحزب العزم على العمل أكثر من القول ...
وستتحاشى هذه الجريدة كل ما يتعلق بالأمور الشخصية بقدر المستطاع.
أما تحريرها فقد أناطوه بإبراهيم حلمي العمر - وكانت جريدته معطلة - إلا أن رئيس الحزب والأعضاء خفوا للكتابة فيها، ومن بينهم نصرت الفارسي ورضا الشبيبي وإبراهيم كمال ومحمود رامز وعبد اللطيف الفلاحي، وكان الرئيس ياسين الهاشمي إما يكتب المقالة الأولى بتمامها من غير توقيع صريح أو يهيئ «رءوس أقلام» للمقال الافتتاحي يدفعه لمحررها.
والذي عليه الإجماع أن جريدة حزب الشعب ظهرت بنضج في التفكير السياسي كما هي مثال للأدب والابتعاد عن المهاترات الشخصية، مع أنها في القراع الحزبي قوية جهيرة الصوت، بل عرفت فاتكة في حملاتها.
ولهذه الصحيفة مواقفها في القضايا المهمة، من ذلك مناقشة المعاهدة الجديدة بين العراق وبريطانيا التي مددت أجل المعاهدة الأولى إلى خمس وعشرين سنة. وقد غادر أعضاء «حزب الشعب» قاعة المجلس لما لم يستجب طلبهم بالتريث في إبرام هذه المعاهدة في جلسة واحدة، كما اقترحت الحكومة.
وأول ما علا صوت «نداء الشعب» اشتبكت في نزاع حزبي مع بعض الصحف الموالية للحكومة أو جبهة اليمين في المجلس النيابي في مقدمتها جريدة «العراق» التي وقفت «لحزب الشعب» ورئيسه بالمرصاد، وشددت عليه النكير وظلت تهاجمه بأقسى التعابير، وثابرت «نداء الشعب» على المنافحة عن السياسة الوطنية ومناقشة سياسة الانتداب بحجج دامغة، منتقدة كل ما ترى فيه مغمزا من أعمال الحكومة، كما نشرت مقالات كثيرة لتثقيف الجمهور تثقيفا سياسيا، ولم تكتف بمقارعة جريدة «العراق» وغيرها من صحف اليمين، بل ردت تهجم بعض الصحف الأجنبية على حزب الشعب نظير «بغداد تايمس» وصحيفة
Near East
اللندنية، ودافعت عن حرية الصحافة بلهجة حارة لما عطلت الحكومة بعض الصحف المعارضة. وقد أقبل عليها الشعب إقبالا عظيما في كل ناحية في القطر.
واستنفدت هذه الجريدة جهدها كله في السياسة، فتفرغت لمعالجة أمورها وقليلا ما كانت تعالج شئون الاقتصاد أو الاجتماع. أما الأدب فلم تعن به اللهم إلا بعض قصائد نشرتها لجميل الزهاوي لرابطة الود التي جمعت بين رئيس الحزب والشاعر.
ولما اشترك «حزب الشعب» في الحكم في وزارة جعفر العسكري المؤتلفة في 21 تشرين الثاني (نوفمبر) سنة 1926 أصبحت جريدته حكومية تحبذ أعمال الوزارة القائمة ، إلا أن صوتها في التأييد يناقض لهجتها في المعارضة؛ إذ هنا خفت نبراتها، كما تصدع «حزب الشعب» نفسه لاشتراكه في الوزارة، فقل الإقبال على الجريدة وتفرق أكثر المشتغلين بتحريرها وإدارتها من الموظفين فيها، فعين محررها كاتبا في مجلس الوزراء، ولفظت أنفاسها في 6 تموز (يوليو) سنة 1927، وإن استخدم امتيازها للصدور بمكان جريدة «البلاد» المعطلة فترة من الوقت بعد ذلك.
جريدة حزب التقدم
هذا ما كان من أمر «حزب الشعب» المعارض وجريدته. أما «حزب التقدم» فقد ألفته وزارة عبد المحسن السعدون فور توليها مقاليد الحكم، وبقي مقتصرا على العمل في داخل البرلمان ورئيسه هو عبد المحسن السعدون نفسه، وعجز غيره عن أن يحل محله في زعامة الحزب.
ومن أعضائه البارزين ناجي السويدي وصبيح نشأت وحكمت سلمان ومحمد أمين زكي ونوري السعيد، وفي منهج الحزب ما يشير إلى إنفاذ المعاهدة العراقية الإنكليزية، والسعي لإجراء التعديل الذي نوه به المجلس التأسيسي، وإدخال العراق عصبة الأمم والاحتفاظ بالوحدة العراقية بحدودها الطبيعية، والحصول على الاستقلال التام وتأييد روابط المودة مع الحليفة بريطانية، وإيجاد صلات ودية مع الدول كافة، هذا عدا عن الخطط المرسومة في المنهاج للسياسة الداخلية، وكلها ترمي إلى رفع مستوى الشعب وتقدمه أدبيا وماديا.
وإذا رجعنا إلى «حزب التقدم» وصحافته طالعتنا رحابة صدر تحلت بها الوزارات التي كان يرأسها عبد المحسن السعدون مهما بلغت لهجة الصحف المعارضة من القسوة أحيانا، مثاله ما ورد في مقال لكاتب في جريدة «الاستقلال» يعرض بالمسئولين في مناقشة سياسية: «لهم وجوه القردة وجلود الخنازير.»
ولم يكن حزب التقدم في أول أمره يحس بالحاجة إلى جريدة خاصة تشد أزره؛ إذ كانت أكثر الصحف المنشورة عهدئذ تواليه وتؤيده في معظم المواقف بينها «العراق» و«العالم العربي»، ولكنه رأى بعد ثلاث سنوات من حياته أن تكون له جريدة خاصة أسوة ببعض الأحزاب الأخرى، فأنشأ أولا جريدة باسم «اللواء» تنشر ثلاث مرات في الأسبوع يديرها ويحررها محمد سعيد العزاوي، ظهرت في 20 آيار (مايو) سنة 1928، ولم تكتب لها الحياة أكثر من أيام معدودة.
واهتم بعدها بتأسيس جريدة قوية ينفق عليها بسخاء ويعضدها بنفوذه هي جريدة «التقدم» مختارا ابن أحد الوزراء من أعضاء الحزب لإدارتها وتحريرها «سلمان الشيخ داود»، برز عددها الأول في 16 تشرين الأول أكتوبر سنة 1928 يومية، قالت في كلمتها الافتتاحية:
نريد بكلمتنا أن نبسط منهاجنا وخطتنا بصراحة ووضوح، غير ملتجئين إلى الأساليب الغامضة والجمل الفارغة بغية الإغواء والتلاعب بالعواطف، ذلك منهج ينهجه من يروم الاصطياد في الماء العكر، ومن يتخذ قلمه وصحيفته واسطة من وسائط الاتجار - وليلاحظ السامع أن في هذه الفقرات من جريدة التقدم تعريض صريح بالصحف المعارضة والحزبية.
إن جريدتنا حزبية قبل كل شيء آخر، فهي لسان حزب التقدم، حزب الأكثرية في البرلمان، فمبدؤها مستقى من مبادئ الحزب، وغايتها بث الدعاية لمبادئ الحزب، تلك المبادئ الواضحة التي ترمي إلى إعلاء شأن هذه البلاد ورفع مكانتها؛ فلذا ليست هذه الجريدة بجريدة شخص تستغويه العواطف الجياشة وتستهويه الظواهر الكاذبة، إنما هي جريدة حزب له خطته الرضية ومنهاجه الصريح، حزب يضم بين مجموعه خيرة رجال هذا القطر من حيث الإخلاص والعلم والثقافة ... ومبادئ الحزب هي المبادئ القويمة التي ترفع مكانة هذه البلاد وتوصلها إلى ضالتها ومبتغاها واستقلال ناجز تام وحرية مطلقة وكيان محترم ورخاء فياض بالسعادة والهناء، وقد رأى الحزب أن الوقت قد حان ليوسع نطاق أعماله ويوطد أركانه ويذيع مبادئه، فكانت هذه الجريدة الخطوة الأولى فيما عزم على القيام به من الأعمال المفيدة لهذا الوطن.
ثم بسطت جريدة التقدم خطتها من أنها ستعالج السياسة الخارجية والداخلية بصراحة ووضوح لا تشوبهما شائبة التمويه، وتترفع عن الشخصيات وتحترم الخصوم السياسيين وآراءهم، ودحض ما يجب دحضه بالأدب والحكمة والحجة الناصعة والسعي لطرق الموضوعات الاجتماعية والدعاية للتجديد واقتباس أنوار التمدن الحديث، ونشر ثقافة اليوم وحث الحكومة على مساعدة الفلاح والعناية بالزراعة، وأنها ترحب بالانتقاد النزيه وشعارها «التقدم إلى الأمام»، وغايتها السعي إلى استقلال البلاد استقلالا ناجزا بالطرق والأساليب الحكيمة التي لجأت إليها الأمم الرشيدة في كفاحها وجهادها القومي.
كانت «التقدم» حزبية بكل ما في هذه الكلمة من معنى، تحسن في مقالاتها وكتاباتها أعمال الحكومة وتدعو لسياستها. وقد اشتبكت في هذا السبيل في جدال ومناوشات مع الصحف الأخرى، فناقشت جريدة «الاستقلال» وهاجمت جريدة «النهضة»، وقست في الحملة على جريدة «العراق» التي وقفت في الظرف الذي نحن بصدده ضد الحكومة وحزبها في بعض القضايا، فكانت التقدم تشنع في وصف جريدة «العراق» وتنبزها بالتعابير الغليظة، ويمكن أن نحسب نعتها لها «بالصحيفة الاستعمارية» أخف نعت وجهته إليها، مع أن الجريدة ذكرت وهي تعرض خطتها أنها ستترفع عن الأمور الشخصية.
وإذا نظرنا إلى جريدة «التقدم» من النواحي الصحفية رأيناها راقية في مقالاتها الافتتاحية وبعض بحوثها وفصولها، إلا أنها لم تكن على شيء من التفنن الصحفي والأسلوب الجذاب في العرض والتبويب والتنسيق. وقد انصرفت عنايتها إلى السياسة والاقتصاد، أما الأدب والفن فلم تحفل بهما.
وبعد أشهر من صدورها تبدلت وزارة السعدون وألف توفيق السويدي وزارته في 28 نيسان (أبريل) سنة 1929، وهي وزارة من حزب «التقدم» أيضا، ومن الطريف أن نذكر أن محرر «التقدم» سلمان الشيخ داود كتب كلمة مسهبة في جريدة الحزب يجيب فيها على من سأله: هل سيستمر على تولي تحرير الجريدة وإدارتها بعد أن لم يشترك والده في الوزارة الجديدة؟ قائلا:
إن المسألة سياسة مبادئ لا سياسة أشخاص، وإنه سيبقى ذائدا عن حزب التقدم ولن يتخلى عن جريدة «التقدم».
ولكن يظهر أنه أراد شيئا وأرادت الأقدار شيئا آخر؛ فقد توقفت الجريدة عن الصدور بعد 5 أيار (مايو) سنة 1929؛ أي بعد أربعة أيام فقط من اليوم الذي عاهد المحرر الناس على مواصلة العمل. وهكذا عاشت الجريدة أقل من سنة ولم تقم لها قائمة بعد، ولا سيما أن الحزب نفسه ذهبت ريحه بعد انتحار رئيسه في خريف سنة 1929. وقد استعانت جريدة «البلاد» بامتياز جريدة «التقدم» في بعض عهود المحن والتعطيل الذي أصيبت به، فأصدرتها سنة 1930، ثم بدلت اسمها بعد عددين من «التقدم» إلى «الجهاد»، وأصابها التعطيل بعد زمن قصير
جريدة حزب النهضة
ومن الصحف الحزبية ذات الأثر جريدة «النهضة العراقية» لحزب النهضة، وهو حزب تألف في 19 آب (أغسطس) سنة 1922، ومن أركانه أمين الجرجفجي وأحمد الظاهر وآصف وفائي ومهدي البير ومحمد حسن كبه.
ومع أن الحزب أثبت في نظامه الأساسي أنه سيصدر صحيفة سياسية ومجلة علمية تخدمان مبدأه، فلم يقم بذلك إلا بعد أربع سنوات من نزوله إلى ميدان الخدمة العامة، فنشر في 10 آب (أغسطس) سنة 1927 جريدة «النهضة العراقية». وقد رسم صدرها بأنها «لسان حال حزب النهضة العراقية»، وكانت تصدر ثلاث مرات في الأسبوع، ثم جعلت يومية، ويجب أن نذكر أن عميد الحزب أمين الجرجفجي أنفق على الحزب والجريدة من ماله الخاص شيئا كثيرا.
قالت الجريدة في مستهل كلامها بعنوان «العهد الجديد»:
يستقبل العراق اليوم عهدا جديدا نأمل أن يكون ميمونا، ويجتاز ظروفا صعبة نرجو أن تكون مباركة، ويعبر في طريقه أحداثا خطيرة الشأن، فواجب الأمة وواجب أحزابها وجماعاتها وصحافتها أن توحد صفوفها، وتقف قوية حيال مشاكلها الكثيرة، وتكون رشيدة إزاء مواقفها الدقيقة، لذلك بعث «حزب النهضة» نفسه وهب للجهاد، ولذلك نهض معلنا خطته في معالجة قضايانا السياسية وحل ما يمكن حله منها، وقد وضع نصب عينيه المسائل التالية: ...
وصارت جريدة حزب النهضة تذكر القضايا الراهنة، قضية قضية، مبتدئة بالمفاوضات الدائرة بين ممثلي الحكومتين العراقية والبريطانية في لندن، فانتقدت «النهضة» كتمان هذه المفاوضات وإخفاء الوزارة العراقية أسس تعديل المعاهدة التي يتفاوض بشأنها، وأسمت كل ذلك تخرصات، وقالت: إن سياسة الحزب تجاهها الصمت والحذر والانتباه، وزعمت أن الوزارة القائمة واهنة وتحتاج إلى الثقة، فكيف تقوم بالمفاوضة وقد ألحفت مطالبة الحكومة بنشر بيان يعرب عن الأسس التي تدور حولها المفاوضة ليطمئن الشعب.
أما قضية الجيش والتجنيد الإجباري فقد صرحت برأي حزبها فقالت: «إن مبدأ الحزب أن الاستقلال الموفور الكرامة إنما يحميه جيش لجب يحمل شرف الدفاع، ولكن الوضع السياسي الحاضر جعل مقدرات جيشنا كسائر مقدرات البلاد بين يدي ظروف قاسية، وهذا الوضع الاستثنائي وهذه الأحوال الشاذة هي التي صيرتنا نشك كثيرا ونرتاب كثيرا في النتائج التي يلتمسها الشعب من جيشه، فما دامت المؤثرات الخارجية هي الحاكمة المهيمنة، وما دامت الأهواء والأغراض تلعب في المصالح العامة، فلا يمكن تطبيق «الجندية الإجبارية».»
ومما يلاحظ أن جريدة «حزب النهضة» ثابرت على معالجة موضوع «التجنيد الإجباري» بهذه النزعة، مما سلم لخصوم تكوين الجيش الوطني سلاحا يشهرونه في وجه طالبي التجنيد الإجباري.
وكان سير الجريدة ينم عن اعتناق مبادئ تتصل بحرية الفكر والمطالب الاستقلالية؛ لأننا وجدناها تحمل على الحكومة حملة شعواء لتعطيلها جريدة إبراهيم صالح شكري المسماة «الزمان»، مع أن «الزمان» وقفت من «النهضة» موقف المخاصم؛ لما تكتبه عن المفاوضات الدائرة حول المعاهدة في لندن. وقد وصفت الجريدة «الزمان»، وهي خصيمتها بأنها «شيخة الصحف الوطنية» في عاصمة الرشيد ولسان الأحرار الناطق في الرافدين.
ولم يكن للنهضة رئيس تحرير معلن اسمه في ديباجته، إلا أن جماعة من الكتاب القديرين كتبوا فيها، بينهم باقر الشبيبي ومحمد عبد الحسين وعلي الشرقي ويوسف رجيب، ومن نماذج كتابتها التي توضح أسلوبها قولها في مقال عنوانه «يفتضحون»:
1 ... جاز عندهم الكذب فكذبوا على الله وكذبوا على الحقيقة والتاريخ. ... تاهوا فلم يحسبوا للمستقبل حسابه، ولم يلتفتوا لما أضمرته الأيام للمارق الخئون، وما حملته بين طياتها من النقمة والعذاب، وخالوا أن ساعة الحساب بعيدة، وأن روح التساهل الذي تلبس به الشعب وخلوده إلى السكينة كفيلان باجتياز هذه السبل بسلام وطمأنينة. وقد جهلوا نفسية الأقوام وروحية الشعوب إذا تمخض فيها الغضب، وإذا تصاعد من قرارها حب الانتقام والتشفي من الظالمين القساة.
وقد تعرضت صحيفة «حزب النهضة» لنقمة الحكومة في قيامها بواجبها الحزبي والصحافي، وبسبب جرأتها وصراحتها، فسيقت إلى المحاكم مرات وحكم على مديرها المسئول ومحررها بالغرامات، فلم تنثن عن المضي في سبيلها عالية الصوت.
ومن مأثور مواقفها الحملات العنيفة على الوهابيين في حوادث فيصل الدويش، وتمزيقها تهاويل المستر فلبي في جريدة «الديلي نيوز»، ومهاجمتها الحركة الانفصالية التي أثارها بعض المسيرين من الأجنبي في البصرة، ناعتة فعلتهم «بالخيانة العظمى»، وقاومت «امتياز اللطيفة» الزراعي لما عرض على مجلس الأمة.
وآزرت الهيئة الوطنية في مصر سنة 1928 في ضجة الشعب المصري لوأد الدستور، كما تفوقت في الدفاع عن عروبة فلسطين.
ودافعت عن عرب خوزستان في مقالات أحدثت صدى في الأوساط العراقية والإيرانية والأجنبية.
ولما عطلت الحكومة «النهضة العراقية» في مطلع أيلول (سبتمبر) 1929 لحملتها على الإنكليز في الشرق عامة وفي العراق خاصة، أصدر الحزب مكانها «صوت العراق» لصاحب امتيازها مزاحم الأمين الباجه جي - ولما تكن قد نشرت بعد - التي أصيبت هي الأخرى بنكبة التعطيل الإداري من الحكومة.
جريدة الحزب الوطني
و«الحزب الوطني» المؤسس في 2 آب (أغسطس) سنة 1922 عرف بأنه من أصلب الأحزاب الوطنية عودا وأشدها مراسا في الكفاح السياسي، ولا سيما في معارضة سياسة الانتداب، ومن رجاله غير رئيسه جعفر أبو التمن، بهجة زينل، ومحمد مهدي البصير، وحمدي الباجه جي، ونوري فتاح باشا، وعلي محمود الشيخ علي.
دون الحزب في المادة 3 من منهجه أن «غاية السياسة هي المحافظة على استقلال العراق التام بحدوده الطبيعية ومؤازرة حكومته الملوكية الدستورية النيابية، والذب عن كيان الأمة العراقية، والنهوض بها إلى مصاف الأمم الراقية ماديا وأدبيا، وتحسين الصلات بين العراق والأمم الراقية؛ للسعي وراء المشاريع المفيدة، وتنشيط الفكرة الوطنية للوحدة العراقية، واتخاذ الوسائل المشروعة لردع من يتصدى لنشر وإذاعة ما يوقع الشقاق والتفريق بدعاية الدين والجنس بين العراقيين.»
ولم يعن الحزب في السنوات الثماني الأولى من حياته بإصدار جريدة خاصة به، ولعله اكتفى بجريدة أحد أعضائه عبد الغفور البدري «الاستقلال»، وكان هذا الصحافي جريئا يواجه النكبات الصحفية بصدر رحب، فتتعرض جريدته للتعطيل المتواصل، فينشر بمكانها جرائد أخرى، ولكن الحزب اعتزم إصدار جريدة تكون لسانه، فظهرت جريدة «صدى الاستقلال» يومية، أثبت في رأسها أنها «لسان حال الحزب الوطني العراقي»، وتولى سياستها علي محمود الشيخ علي الذي طالما حملت صحيفة «الاستقلال» أو الصحف التي نشرتها إدارتها مكانها مقالاته الضافية في القضايا الراهنة. وقد اتسمت هذه المقالات بطول النفس وصرامة التعبير.
برزت الجريدة للوجود يوم 15 أيلول (سبتمبر) سنة 1930، ونشأت تخدم أغراض الحزب الوطني، فلم تتحمل الحكومة لاذع انتقادها فعطلتها ولما يمض على نشرها شهر واحد، فاستعاض الحزب عنها بجريدة أخذ أحد أعضاء الحزب «محمود رامز» على عاتقه مسئوليتها. «صدى الوطن» ظهرت في 25 تشرين الثاني (نوفمبر) سنة 1930، فكان نصيب جريدة الحزب الوطني الجديدة نصيب أخواتها، فعطلت بعد شهر ونصف من عمرها، فلم يهرب أعضاء الحزب من ميدان المعارضة من منبر الصحافة، بل صعدوا للقراع فحصل «محمود رامز» على امتياز جريدة جديدة باسم «الثبات» بدأت خدمتها في 30 كانون الأول (ديسمبر) سنة 1931، فعطلتها الحكومة في 7 شباط (فبراير) سنة 1932.
وبعد أن أعلن عميد الحزب «جعفر أبو التمن» اعتزاله السياسة سنة 1934 وأصاب الحزب التضعضع أراد بقية أركانه أن ينشطوا للعمل، ويبدوا حيوية تلفت النظر إلى حزبهم، وحيث لم تكن له جريدة تذيع رسالته، وكان صاحب جريدة «الاستقلال» عبد الغفور البدري هو الآخر قد سبق فاستقال من الحزب بتحريض من رئيس الوزراء الذي كون المجلس النيابي سنة 1933؛ ليضمن كرسيا له في المجلس، فاندفع «محمود رامز» فاستأنف إصدار جريدة «الثبات» تنشر مرتين في الأسبوع، وعهد بتحريرها إلى «أحمد عزت الأعظمي» من صحافي الثورة الذين تحدثنا عنهم في محاضرات فائتة. وقد قال صاحب «الثبات» في العدد الأول من عهدها الجديد بعنوان «الله والوطن»:
أصدرت قبل عامين جريدة «الوطن»، فقامت بما حتمه عليها الواجب وقضت به المبادئ والكرامة، فذهبت شهيدة فيهما ضحية لهما بالتعطيل مرتين ثم الاختفاء الأخير، وعز علينا أن نستسلم للأمرين خائفين لا نبدي حراكا ولا نأتي عملا، فيبقى الحزب الوطني من غير صحيفة تعمل بمبادئه، وإن قامت بعض الصحف بتمثيل رأي الحزب حينا من الأحايين، فكلف الحزب أحد أعضائه وهو مدير هذه الجريدة باستحصال إذن بإصدار «الثبات»، فصدرت وظلت تناضل عاما كاملا حتى قضي عليها بالتعطيل مرتين، وها هي اليوم تعود إلى الميدان حاملة لأمتها علم الإخلاص في الكفاح، قوية في إيمانها، ماضية في خطتها، مبشرة بمبادئها، مستمدة قواها وروحها من روح هذه الأمة، ملهمة في الدفاع عنها من الله وإرادة الأمة، أجل وها هي اليوم تعود إلى ميدان الجهاد والتضحية في سبيل هذا الوطن المنكود الذي تفاقمت عليه الأرزاء والمحن من كل جانب، وتضافرت عليه الأطماع والأهواء وشتى أسباب التنكيل به، إن هذه الصحيفة تريد أن تعمل في توحيد الصفوف وجمع الكلمة والتقريب بين المخلصين، وخلق وحدة قوية منهم؛ ليتم العمل المشترك في إنهاض هذه البلاد وإنماء روح الشعور القومي، وتقضي على كل فرد مشعوذ يريد القضاء على هذه الوحدة المقدسة ...
غير أنها لم يظهر منها أكثر من 13 عددا؛ إذ قرر الحزب إيقاف أعماله وأذاع قراره في الناس في نصف عدد من جريدته «الثبات» - أي بورقة واحدة - يوم 20 نيسان (أبريل) 1934، تحمل قرار الحزب بغلق أبوابه وتعطيل جريدته.
أرادت الوزارة التي ألفها نوري السعيد سنة 1930 أن يكون لها حزب في مجلس النواب يعضدها ويبرم لها بأكثرية المشروعات التي تريد أن تمضي فيها، وفي مقدمتها المعاهدة العراقية البريطانية الجديدة.
جريدة حزب العهد
ولما كان نوري قد اختار معظم زملائه في المسئولية ممن يرتبط بهم بتاريخ ماض في عهد الدراسة في إستانبول وفي ميدان الثورة العربية، فإنه أوعز إلى جماعة من السياسيين الشباب ممن يرتبطون معه بصلة تفاهم، بينهم المحامون والأطباء، فكونوا حزبا، واختار السعيد له اسما براقا في ذاكرة القوميين فدعاه «حزب العهد»، وإن كان مؤسسه يعلم قبل غيره أن الكراسي النيابية هي الرابطة الوثقى بين أعضاء هذا الحزب، فإذا حلت وزارة أخرى هذا المجلس انفرط عقد الحزب حالا، ويمكننا أن نذكر من الأشخاص الذين قام الحزب على عواتقهم الدكتور فائق شاكر، وثابت عبد النور، وإبراهيم الواعظ، وأغلب الأشخاص الذين انضموا إلى الحزب الحكومي الجديد بعد أن أصبحوا نوابا ممن سبق لهم أن كانوا أعضاء مؤمنين في «حزب التقدم» الحكومي.
أذنت وزارة الداخلية بتأسيس «حزب العهد» يوم 12 تشرين الأول (أكتوبر) سنة 1930، ونصت مادة منهاجه (الثانية) «على أن غاية الحزب تحقيق استقلال العراق التام وإسعاده بإنماء القوى الوطنية وتنظيم أمور الإدارة والاقتصاد والمعارف والصحة والزراعة والجيش، وبث روح التجدد وإصلاح الأنظمة والقوانين بروح الثقافة العصرية.»
اشتدت المعارضة «للوزارة العهدية» ونشطت الحركة الوطنية، فهب «الحزب الوطني» للعمل الجاد وتأسس «حزب الإخاء الوطني»، وتآخى الحزبان على وثيقة سياسية للعمل المشترك، وقوي التطاحن بين حزب الحكومة وأحزاب المعارضة.
ولقد رافق حزب العهد كثيرا من الضغط والتشديد، واتخذت الحكومة تدابير قاسية ضد معارضيها، ووقع اضطهاد مرير على الأحرار، وعانت الصحافة الوطنية الأمرين في هذا الطور، وتعددت محاكمة الصحافيين والكتاب، وعمرت بهم السجون والمنافي، ويقتضي الإنصاف أن نذكر أن هذه المشادة بين الحكومة والمعارضة لم تحرم البلد من صحافة جريئة صريحة، فقد كانت الحكومة تعطل الجريدة ثم لا تلبث أن تمنح امتيازا جديدا بجريدة تحل محل الجريدة المعطلة بتأثير قوة الأحزاب ورعاية البلاط الملكي؛ لممارسة الشعب حقوقه الدستورية.
ولم يكتف «حزب العهد» النيابي بصحيفة أحد أعضائه «العراق»، بل أنشأ جريدة خاصة به هي «صدى العهد» يومية ظهرت في 7 آب (أغسطس) سنة 1930. وقد منح امتيازها لعبد الرزاق الحصان من الباحثين في التاريخ القومي.
ولم تشأ صحيفة «صدى العهد» أن تذيع خطة أو تنشر سياستها في أول ظهورها، بل انتهزت ذكرى المولد النبوي المجيدة، فاحتفلت بهذا العيد في مفتتح كلامها:
تيمنا باسم النبي الكريم، واتباعا لخطته القويمة أصدرنا جريدتنا في يوم الولادة الجليل.
وحفلت أعداد الجريدة الأولى بالمقالات في الشئون القومية يكتبها رئيس تحريرها، وبدأت تروج للمعاهدة العراقية البريطانية الجديدة من مبدأ حياتها.
وكثر الأخذ والرد بينها وبين الصحف المعارضة؛ فحدثت مناوشات حادة بين «صدى العهد» وبين جريدة «البلاد» وجريدة «صدى الاستقلال».
والمعروف في ميداني الصحافة والسياسة أن المعارضة هي التي توصف بطول اللسان والجرأة في الكتابة. أما الحكومة وألسنة الحكومة الصحفية فاللياقة تقضي بأن تتحرج في كتاباتها وتتزن في أقوالها، غير أن «صدى العهد» خالفت هذا العرف أحيانا، فسبت وقذفت في خصوم سياستها والمعارضين لحزبها، من ذلك قولها في عددها يوم 15 تشرين الأول (أكتوبر) سنة 1930:
استقبل بعض المغرضين حزب العهد العراقي بشيء كثير من التهجم والدناءة، ونشروا شيئا من سخائم نفوسهم حول هذا الحزب، وهم أفراد يعدون على الأصابع، ولو تأملت قليلا في ماضيهم وحاضرهم وما انطوت عليه نفوسهم من الخبث واللؤم والشهوات والأغراض، لتجلى لك خطر هؤلاء المهازيل على الوطن وآماله وأمانيه.
هذا نموذج من تعابيرها ولم تتورع في هذا المقال من أن تنعت خصومها «بالزعانف» و«العلوج».
وقد تكون «صدى العهد» أول جريدة عراقية طالبت بتضييق الخناق على الصحافة وطعنت في «قانون المطبوعات» النافذ وحسنت تعديله؛ لأنه يمنح حرية واسعة للصحف!
والمتصفح لجريدة «صدى العهد» في أشهرها الأولى يجدها تحبذ بحماسة الهتلرية، وتتمدح الروح الجرماني، وتدعو إلى إرسال البعثات العلمية إلى ألمانيا، وتطنب في الثناء على موسوليني وتكبر الفاشستية.
كما أن صحيفة «حزب العهد» خدمت الفكرة القومية، وقامت بنشر تعاليم النهضة العربية بزعامة البيت الهاشمي، وكان لها في تأييد «مشروع توحيد العرشين» بين العراق وسوريا كتابات كثيرة.
وقد ترك عبد الرزاق الحصان الجريدة بعد 19 كانون الأول (ديسمبر) سنة 1930، فانتقل امتيازها إلى عبد الهادي الجلبي واشتغل في التحرير فيها توفيق السمعاني، واهتم الحزب بتأسيس مطبعة خاصة لجريدته.
وشغلت «صدى العهد» نفسها بالحملات العنيفة على الحزبين «الحزب الوطني» و«حزب الإخاء الوطني» تعاونها جريدة «العراق» في هذا المجال، واستمرت الجريدة على الصدور حتى بعد سقوط الوزارة السعيدية وتأليف ناجي شوكة وزارة جديدة يوم 3 تشرين الثاني (نوفمبر) سنة 1932 وقيام هذه الوزارة بحل المجلس النيابي وتكوين مجلس جديد، إلا أنها في خلال عملية الانتخابات النيابية لم تتعرض للحكومة بسوء، إنما واصلت تهجمها على «حزب الإخاء الوطني»، ولكنها بعد أن أسفرت نتيجة الانتخابات عمدت «جريدة حزب العهد» إلى معارضة الوزارة الشوكتية فعطلتها الحكومة.
وما لبثت إدارة «صدى العهد» أن أصدرت جريدة أخرى بمكان جريدتها المعطلة باسم «الطريق»، ظهر عددها الأول في 6 آذار (مارس) سنة 1933، وقالت في تمهيدها:
تصدر هذه الجريدة في ظرف عصيب وفي أوقات حرجة، نجد الجرائد أمامنا مصروعة؛ فمنها معطلة، ومنها منذرة، ومنها متخذة طريقها إلى المتاجرة واقتناص الفرص لجر المغانم بعد حوادث سياسية يعرفها الناس جميعا.
طريقنا في إصدار هذه الجريدة هو الحق وتقديسه والاعتصام به، وتأييد الجهة التي تنطق به بغض النظر عن شكلها وصبغتها.
ونحن سنبتعد عن التعرض للأمور الشخصية التي لا علاقة لها بالمصلحة العامة، فنحن لا نصدر هذه الجريدة لأجل امتهان كرامة أحد إذا لم يبد في تصرفاته ما يضر المصلحة العامة.
فلما ذهبت الوزارة الشوكتية وتسلمت الوزارة الجديدة مقاليد الحكم برئاسة رشيد عالي الكيلاني في 20 آذار (مارس) سنة 1933 اندفعت «جريدة حزب العهد» في معارضة الوزارة الكيلانية، مع أن رئيس الحزب «نوري السعيد» وبعض أقطابه أعضاء في هذه الوزارة المؤلفة.
والحق أن جريدة حزب العهد - «الطريق» - تذبذبت بعد ذلك، فصارت تؤيد الوزارة التي ألفها جميل المدفعي التي خلفت الوزارة الكيلانية، ووقفت موقفا فاترا من غير لون في عهد الوزارة التي ألفها علي جودة الأيوبي، فلما اضطلع ياسين الهاشمي بتأليف وزارته القومية الكبرى سنة 1935 أيدت صحيفة «الطريق» الوزارة ورئيس حزب العهد مساهم في مسئوليتها.
وعند حدوث الانقلاب العسكري الأول الذي أنجزه الفريق بكر صدقي العسكري، ونصب الانقلاب وزارة جديدة برئاسة حكمت سليمان، أظهرت جريدة «الطريق» تحزبها لنوري السعيد، ونشرت ما أغاظت به الوزارة القائمة فعطلتها في 23 تشرين الثاني (نوفمبر) سنة 1936، فصفى الباقون من فلول الحزب «المطبعة» وانتهت حياة جريدتهم.
جريدة حزب الإخاء الوطني
بعد أن تضامنت المعارضة وأملت الظروف على المتفاهمين في سياستهم وجوب التساند انعقدت الخناصر على تأليف حزب سياسي كبير، فأعلن للملأ تأسيس «حزب الإخاء الوطني»، أجازته وزارة الداخلية يوم 25 تشرين الثاني (نوفمبر) سنة 1930. وقد اجتمع فيه من الشخصيات السياسية ياسين الهاشمي، وناجي السويدي، ورشيد عالي الكيلاني، وعلي جودة الأيوبي، وحكمة سليماني، ومحمد زكي، ويوسف غنيمة، ورضا الشبيبي، والسيد عبد المهدي، وغيرهم ...
اجتمعت هذه الكتلة القوية من السياسيين البارزين بزعامة ياسين الهاشمي، وأوجز الحزب منهاجه بهذه الأسس: (1)
بذل الجهود لتنبيه الشعب العراقي إلى الأخطار المحدقة به من الوجهات السياسية والإدارية والاقتصادية، ومقاومة التصرفات الشخصية التي لا تأتلف والمصلحة العامة. (2)
العمل على تأليف رأي عراقي عام لمكافحة كل ما من شأنه أن يشوب استقلال البلاد بأية شائبة، أو يخل بالوحدة العراقية أو ينافي أحكام القوانين. (3)
العمل على صيانة حقوق العراق في مرافقه الاقتصادية وحماية وترويج منتجات البلاد واستثمار مواردها لخير أبنائها.
وتآخى «حزب الإخاء الوطني» مع «الحزب الوطني» فور تأليف الأول، واتخذا موضوع الساعة المعاهدة العراقية-البريطانية الجديدة هدفا لكفاحهم السياسي ومقاومة الوزارة السعيدية التي عقدتها، فأذاعوا في الصحف آراءهم في تسفيه المعاهدة مبينين أنها تخل بالاستقلال التام، وتثلم سيادة الشعب، فكان لهذه الدعاية تأثيرها العميق في الرأي العام، فنجح الحزبان في تأليب الجماهير على الوزارة واستنكار مشروعاتها.
ولقد كان «لحزب الإخاء الوطني» اهتمام كبير بالدعاية في الصحافة، ووقفت جريدة «البلاد»
2
لمنشئها رفائيل بطي «صاحب هذه المحاضرات» تؤازر عميد الحزب ياسين الهاشمي، وتسانده بحماسة قبل أن يتكون الحزب، مناصرة في هذا السبيل الحركة الوطنية بما أوتيت من نشاط، يسعفها مركز الجريدة وتفوقها على الصحف قاطبة في سعة الانتشار. وقد أصيبت جريدة «البلاد» من جراء مبدئها وصمودها للنضال بالتعطيل المتواصل، فكانت تصدر جرائد بمكان كل جريدة تعطلها الحكومة، ولقي صاحب الجريدة الاضطهاد من سجن ونفي، وأصيب بخسائر فادحة، فلما تأسس الحزب انخرط صاحب جريدة «البلاد» في سلكه وصار يواصل أداء واجبه من غير أن يكلف الحزب فلسا واحدا.
وهذه أسماء الصحف التي أصدرتها جريدة «البلاد» بمكانها في خلال فترات تعطيلها المتعددة: «صوت العراق»، «الجهاد»، «الشعب»، «الزمان»، «نداء الشعب».
وقد افتتح الزعيم ياسين الهاشمي بنفسه العدد الجديد من «نداء الشعب» لما حلت محل «البلاد» بمقال عنوانه «اليمين» جاء فيه: ... مرت بخاطري مناظر الانتخابات ومهازل الاستفتاء التي أنستنا حينا من الزمن الدستور والقانون، وألهتنا عن خدمة الأمة والوطن في ساعات المحنة، فصرنا نهدد هذا ونغمط حق ذاك، ونكره القريب، ونغري البعيد باسم الدستور، وتحت ستار الخدمة للوطن والأمة، والناس عنا لاهون.
إذا كانت القلوب لا تخفق بحب هذا الوطن الصريع، والسواعد لا تدافع عن حياض الدستور المنيع؛ فلا يمين تنفع ولا قانون يردع، فبئس العقبى وبئس المصير.
فهل من البر باليمين أن نمنع الاجتماعات ونسد الصحف ونكم الأفواه، وحرية إبداء الرأي مكفولة بالدستور ...
فطريق الخدمة يا قوم ليست التي نمشي عليها، وما كانت الجهود التي بذلناها والضحايا التي قدمناها لأجل أن نزج بالوطن في هذا السجن الرهيب.
فلما عطلت «نداء الشعب» أصدرت البلاد «السياسة» عوضا عنها.
واشتهرت الصحف التي أصدرتها «جريدة البلاد » في خلال غيابها بتعطيل الحكومة لها، وفي ظل «حزب الإخاء الوطني» باللهجة الشديدة والتفكير السديد وقوة الحجة، كما كان لانتشار هذه الجرائد المريع في أنحاء القطر كافة وصوتها الداوي صداها في المجتمع العراقي، بحيث تجسمت قوة الصحافة كأداة حزبية في نشر الدعوة وتلقين الشعب وهز عواطف الجماهير، وأهم القضايا التي عالجتها صحافة الحزب في هذه الفترة، مقاومة معاهدة التحالف بين العراق وبريطانيا سنة 1930 و«اتفاقية النفط» الجديدة.
وتضافر فريق من كبار الساسة والكتاب في معالجة هذه القضايا الحيوية والكتابة فيها مع هيئة تحرير جريدة «البلاد»، وبخاصة فهمي المدرس، وباقر الشيبي، مقالات صادعة تثير طبقات الشعب وتحرك مشاعر الناس، فتعمد الحكومة إلى تعطيل الجريدة تخلصا من تأثيرها، وتمعن أحيانا في إرهابها فتسوق الكاتب والمدير المسئول إلى القضاء أو تنفيهما إلى مكان بعيد.
هذه أهم الصحف الحزبية التي وجدت في الفترة التي نتحدث عنها من تاريخ الصحافة، ويمكننا أن نضيف إليها جريدة «الأهالي» والصحف التي صدرت في محلها خلال تعطيلها، وهي تمثل رأي فريق من الشباب معتنقي الأفكار اليسارية تكتلوا فيما بينهم أول الأمر في حلقات من الأندية الأدبية والاجتماعية نظير «نادي بغداد» وأرادوا أن يظهروا في جماعة رسمية مستفيدين من عضوية بعضهم في الوزارة في عهد الانقلاب العسكري الأول سنة 1936، وأعلنوا أنهم سيؤلفون «جمعية الإصلاح الشعبي»، إلا أن بطل الانقلاب الفريق بكر صدقي العسكري لم يساندهم؛ فعجزوا عن أن يكونوا لهم حزبا سياسيا، أو أن يبرزوا أية قوة في ذلك العهد.
ويضيق وقت المحاضرة من التبسط أكثر في العوامل التي كونت هذا التكتل في داخل المجالس النيابية وخارجها، والنتائج التي توصلت إليها وانعكاسها في الرأي العام مما يتطلب تفصيلا لا يتسع له مجال هذه المحاضرات.
صحافة الهزل والنقد
إن حظ صحافة العراق من الهزل والكاريكاتور ضئيل، ولذلك عوامل؛ أولها: أن العراقي جاد بعيد عن روح الفكاهة والهزل في هذا الزمان، بخلاف المصري مثلا، الذي تخالج فكرته النكتة، ويفعم قلبه مرحا على الدوام.
كما أن الكتابة الفنية الهزلية والكاريكاتورية بمعناها العصري في الصحف شيء جديد في بلاد الرافدين، وإذا رجعنا إلى الصحافة العراقية في العهد العثماني رأينا ما كان يسمى هزلا قطعا وشذرات تافهة، أو تعريضا سمجا يتناول الأعراض والشتيمة والسباب بوجه عام، وليس هناك الكتاب المتفننون الذين يبدعون في وصف بعض الحالات أو الشخصيات بأسلوب هازل.
وقد أراد بعض أرباب الصحف القليلة في ذلك العهد تقليد صحافة إستانبول في هذا فأخفقوا؛ لأن فن الكاريكاتور كان قد تقدم في تركية تقدما لا بأس به بعد أن طعم بثقافة أدبية وفنية أوروبية، وليست الحال على هذا المنوال في العراق، فالأكثرية ممن عالج الصحافة قبل الحرب العالمية الأولى ثقافته عربية بحتة، وندر فيهم من يجيد لغة أوروبية، وكان أغلب أصحاب الصحف عندنا إذا ما أرادوا إيراد فكاهات أو نحوها اقتبسوها من الصحف العربية للبلاد الأخرى، أو ترجموها عن التركية.
كناس الشوارع
وأول كاتب هزلي لفت نظر القراء بعد الحرب العالمية الأولى عرف باسم «كناس الشوارع»، وهو شاب تخرج من مدرسة الآباء الكرمليين ببغداد، وفيه نزعة مرح وخفة روح مع ثقل جسم، وهما صفتان متلازمتان غالبا.
سألته يوما لماذا اخترت «كناس الشوارع» اسما قلميا لك؟ فأجابني: أردت أن أختار شخصية آدمية كثيرة التجوال في شرايين المدينة وقلبها دوارة تقترب من الأبواب، وتدخل البيوت، بيوت الفقراء وقصور الأغنياء، فلم أجد خيرا من «كناس الشوارع»، ثم وددت وإني أعتزم الانتقاد والحملة على العادات والنواقص في الناس والمجتمع أن أختار اسما يوافقه حمل سلاح للتهويش والضرب، ولسميي مكنسة مشهرة دائما، يحملها على كتفه ويكنس بها وينظف. وقد يستخدمها للضرب والدفاع عن النفس عند الحاجة.
هكذا طلع على الناس «ميخائيل تيسي» في جريدة «الرافدان» أولا وفي «دجلة» بعدها، يتستر وراء توقيع «كناس الشوارع» في مقالات قصيرة يتحدث فيها في الشئون اليومية بلهجة بسيطة يتخللها الكثير من الألفاظ والتعابير العامية، ينقد بعض العادات والأخلاق والأوضاع الاجتماعية غير السياسية، فصادفت هوى من نفوس القراء أكثر مما كان ينتظره الكاتب نفسه.
ويبدو أن الطبقة المستنيرة قد استحسنت هي الأخرى «نقدات كناس الشوارع » حتى استحقت أن يسجل محرر جريدة «العاصمة» في مقال افتتاحي له قوله:
1
والحق يقال: إن «كناس الشوارع» أجاد في بعض نقداته؛ لأنه قد انتقد بعض الشئون التي أوجبت تأخرنا الاجتماعي، بتصوير حسن وأسلوب جيد، فاستحسن الجمهور تلك الملاحظات وأعجب بها.
وتدور أكثر ملاحظاته حول النظافة ووجوبها، والتشنيع بحركات الآخرين وأصواتهم المزعجة، وفضح حيل الباعة والدوارين، ثم تنبيه بعض الدوائر الحكومة، ولا سيما البلديات إلى ما هو من واجباتها من تنظيف وإنارة الطرق وتجفيف البرك في الشوارع.
ويعمد «كناس الشوارع» أحيانا إلى النقد الأخلاقي أو الاجتماعي فيعرض بالعادات السيئة والطبع اللئيم، ويصف أمراض الحياة والبيئة ومساخرها وحيل النسوان وبلادة الرجال - وبتعبير محكم - الأزواج.
وكتابات هذا الكاتب الهزلي طراز لتفكير طبقة كبيرة ممن أصابوا حظا من التعليم، ومع أنه يجيد الفرنسية ويحسن الإنكليزية فلم يعن بأن يسلك طريقة أحد الكتاب الفرنسيين أو الإنكليز الهزالين، بل اهتم بأن يفكر ويستوحي من الجو المحلي، وهذا سر إقبال الجمهور على قراءته، بل إن الجريدة السياسية اليومية التي كان يكتب فيها هذه النقدات راجت بسببها بعد خمول، وصار القارئون يتطلبونها لقراءة «نقدات الكناس».
وبعد أن ابتسم لميخائيل تيسي الرواج فيما يكتب، شجعه هذا على إصدار جريدة أسبوعية هزلية باسم «كناس الشوارع» ظهر عددها الأول في 1 نيسان (أبريل) 1925، قال فيه بعنوان «خطتي» ومن هذا المقال تعرفون ديباجته الكتابية:
خطتي معلومة واضحة كالشمس في خامسة الليل، أحمل مكنستي وآخذ أتجول في الطرق والأزقة، فحيثما رأيت أحدا يأتي أمرا مخالفا للذوق والشم والنظام والقانون والكمنجة ضربته بمكنسة كافرة على رأسه، فإن انكسرت المكنسة راحت من كيسي، وإن انكسر رأسه راح من كيسه.
هذا؛ وقد بلغني بأن هناك بعض الناس لا يعرفون قدر أنفسهم ويتطاولون إلى ما ليس من شأنهم، ويمدون أرجلهم إلى ما وراء بساطهم؛ وعليه فليكن مجهولا لدى العموم بأني قد بثثت العيون والحواجب في كل محل من المحلات، وأطلقت رجال الخفية والظاهرية في كل مكان، فالويل لمن تأتي على يده الشكوك، خير لذلك الإنسان لو لم يولد ، فجميع مكانس العراق أكسرها بالمفردات وبالجملة على رأسه ولا أبالي، أنا رجل عصبي كسكين ودموي شاور، فإذا غضبت فإن جميع كازوزخانات العراق ومعامل الثلج لا تبرد غضبي.
أنا أبو حمد الضراب المثلث
متى تقلدت مكنستي تعرفوني
فليحذر الحاذرون وليتأهب المتأهبون، فإنهم سوف لا يعلمون حتى ومن أية جهة سيكنسون.
وقد ملأ الصحفي الهازل صحيفته دعابة وتفكهة، لا تجد فيها مقالة واحدة جدية، حتى الأخبار المحلية يكتبها في قالب المزح. وقد راجت رواجا كبيرا.
ومن أساليبه في التفنن في التهكم أن كان زار العراق أمين الريحاني فيلسوف الفريكة اللبنانية، وألقى في بعض أندية بغداد الأدبية قصائد من «شعره المنثور»، فسرعان ما نسج «كناس الشوارع» على منواله «قصيدة» على طريقة الشعر المنثور، وناعتا إياه «بالشعر المنتوف» واصفا بغداد المدينة منتقدا حالتها الصحية والعمرانية، منها هذه المقطوعة:
اللازمة
زينة البلدان
عجائب الزمان
عدوة الشيوخ
عشيقة الصبيان
عجائب خرائب
غرائب مصائب
أنواع وأشكال
أرناك وألوان
مزابل وأوساخ
وأقذار وأوحال
مبعثرة مكدسة
مكومة في كل مكان •••
منازل وبيوت
بالهواء واقفات
جدران مهدمة
وحيطان مهشمات
بعضها داخلات
وبعضها طالعات
متداعيات فمايلات
برحمة الله واقفات
وقد عرض في إحدى هذه المقطوعات بالانتخابات النيابية والمرشح الذي سخر منه بقوله:
أجناس وأشكال
للترشيح يتقدمون
الطابوق نائمون
والشكنك قائمون
كل شيء بالكوة
والعفترة يريدون ... وزانها وضاع
حساب الحاسبون
ولم يستمر «كناس الشوارع» في عمله الصحفي بعد أن وقع له حادث مفاجئ بإطلاق مجهول عليه رصاصات من مسدسه وهو جالس في صيدلية فلم تصب منه مقتلا، بل جرحته جروحا خفيفة، فمنعه أهله من مواصلة كتابته بعد أن فسر هذا الاعتداء بتحريض من بعض من أصابهم رشاش قلمه - أو سيان مكنسته - وخطر لميخائيل تيسي أن يعاود الكتابة والصحافة وهو موظف - حينما لم يكن محظورا على الموظف في بلادنا الاشتغال بالصحافة غير السياسية - فاتفق مع زميل له في ديوان الحكومة «حسين الرحال»، فأنشأ جريدة عنوانها «سينما الحياة»، ظهرت في 17 كانون الأول (ديسمبر) سنة 1926، وكتب في صدرها أنها جريدة أدبية اجتماعية نصف هزلية تصدر مرة في الأسبوع، قال في استهلالها:
اعتزمت أنا وزميلي «حسين بك الرحال» إصدارها بناء على طلب الجمهور وإلحاحهم، وستكون طبعا جريدة اشتراكية بمعنى كونها جريدة شعبية من الشعب وللشعب.
وعليه فستكون وقفا لخدمة العموم وصوالحهم، اشتراكية بمعنى أن للجميع حق الاشتراك في تحريرها وإبداء آرائهم فيها مهما تناقضت المبادئ واختلفت المرامي في خدمة الشعب، اشتراكية بمعنى حقولها مفلوحة ومفتوحة لبذور أقلام الأدباء وبنات أفكارهم؛ فهي إذن كالبستان يمكن أن تزرع بها طماطم وباذنجان وقرنابيط وفجل وعرموط، إن الطماطمة تختلف عن الباذنجان، والباذنجان يختلف عن القرنابيط ... إلخ. ولكن هذا الاختلاف لا يهم، ما زال كله نافعا لغذاء الإنسان وضروريا لقوته وحياته.
وقال عن اشتراكية الجريدة:
إن مبدئي ومشربي مثلا يختلفان في كثير من الأمور عن مبدأ الرحال بك ومشربه، ومع ذلك فقد اتفقنا على إصدار سينما الحياة بلا تردد، ماذا يهمني إذا كان الرحال يخالفني رأيا ومبدأ، وماذا يهم الرحال إذا كنت أخالفه كذلك، فله حقله ولي حقلي، له إمضاؤه ولي إمضائي، فما صدر بتوقيعه فهو له، وما صدر بتوقيعي فهو لي.
ومن مفارقات جريدة «سينما الحياة» أن شريك «الكناس» الرحال كان يكتب ويترجم فيها بجانب كناساته مقالات جدية وعويصة عن «التطور الاقتصادي» و«ذهنية الماضي»، وكله من مراجع تقدمية في الكتب والمجلات.
ولم تعمر «سينما الحياة» طويلا؛ إذ أوعزت الدائرة الرسمية التي يشتغل فيها صاحباها بأن يكفا عن نشرها.
حاول الكاتب بعد سنين مزاولة الصحافة الأسبوعية، فنشر جريدة جديدة باسم «الناقد» برزت للقراء يوم 6 أيار «مايو» سنة 1936، ولكنه في هذه المرة مال إلى الجد بجانب فصول الهزل، واحتوت جريدته مقالات ترمي إلى الإصلاح الاجتماعي والأخلاقي، وعني بأبواب فيها للمسرح والسينما ونقدهما، ثم سئم الصحافي هذه الحياة وفضل عليها التوظف في الحكومة، فتوقفت جريدته في 26 شباط (فبراير) سنة 1939.
حبزبوز
وقد نبغ في العراق في الفترة بين الحربين العالميتين كاتب فكه منتقد نادر المثال عرف بتوقيع «حبزبوز»، وهي محرفة عن «أ. حبزبز» أي أحمد حبزبز «أحد المتبطلين المشهورين في الجيل الماضي»، وأستميحكم عذرا إذا ذكرت أنني اكتشفت مواهب هذا الكاتب؛ فقد كان «نوري ثابت» من رجال التعليم جمعتني به مجالس الأصدقاء مرات عديدة، فوجدته خفيف الروح مليح النكتة، ثم قرأت في جريدة «الكرخ» لصاحبها الشاعر العامي «عبود الكرخي» وصفا رائعا لمجالس نساء بغداد من الطبقة الشعبية ذوات العقلية المحافظة والطابع العامي، فسألت صاحب الجريدة عن الكاتب المتستر وراء توقيع «خجه خان»، فعلمت منه أنه صاحبنا «ثابت»، ولم يكن يحوم حول السياسة، إنما هو قاصر همه على النقد الاجتماعي بأسلوبه الخاص، فلما أنشأت جريدتي «البلاد» سنة 1929 دعوته لكتابة باب «الهزل والتفكهة» في الجريدة، وأطلقت لقلمه الحرية الكاملة وبمسئوليتي طبعا، وأغريته بثمن حسن لمقالاته في سوق الصحافة في العراق، فاستعظم أول وهلة أن يكتب يوميا مقالا هزليا في جريدة سياسية، كما لم يتوسم بعض أصدقائه وإخوانه له نجاحا في هذه المهمة، ولكنني أصررت على رأيي فاندفع يكتب من العدد الأول من جريدة «البلاد» وصدر الصحيفة رحب في تقبل ما يريد أن يكتب مع اقتراح الموضوع عليه أحيانا، فلم ينقض عليه في هذه الكتابة شهر واحد حتى شغل القراء وحظي باستحسان واشتهر في المحافل، بحيث قال فيه الزعيم السياسي ياسين الهاشمي: «إنه خير من يصف أخلاق المجتمع وأهله وصفا فيه الإجادة كلها والعبرة البالغة.»
وما مرت أسابيع إلا وعدت وظيفته على حرية فكره وصراحته في النقد، فأنذرته دائرته الرسمية، فانقطع عن الكتابة بضعة أيام ثم عاودها باسم قلمي «أ. حبزبوز»، وبهذا عرف ونبه ذكره في بلده.
وحبزبوز كاتب خفيف الظل، أسلوبه محبب إلى النفوس، تمازجه تعابير دارجة عند الدهماء، مطعمة بالأمثال السائرة على ألسنة الناس على اختلاف طبقاتهم، وتحليها حكايات ونوادر مما يتناقله الجمهور من «عهد العثمانيين»، ويختزن الكاتب في ذاكرته منها محصولا وافرا.
وعندما عزل من وظيفته في الحكومة لأسباب ليست كلها صحفية اعتمد على سمعته الكتابية، فأسس جريدة أسبوعية باسم «حبزبوز»، لكن التجربة أثبتت أن أحسن كتاباته وأشدها جرأة تلك التي كتبها في جريدة «البلاد» لذيوع الجريدة ومركزها الممتاز من ناحية، وللجو الطليق الذي خلقته له آخذة على نفسها ما يكتب من ناحية ثانية، فلم يكن يهمه أن يرضي فلان أو يغضب علان، ولا أن يكسب مشتركا في جريدته، أو تحرم الجريدة من إعلان كما صار شأنه بعد أن أصبح صحفيا.
ظهرت جريدة «حبزبوز» يوم 29 أيلول «سبتمبر» سنة 1931 وقد قدمها للجمهور بهذه المقدمة، وهي تصور أسلوبه وتفكيره:
باسمك اللهم
من «أ. حبزبوز» إلى الشعب العراقي الكريم
الحمد لله، والصلاة على خير خلقه، وبعد؛ يعلم القراء أنني أكاتب الصحف العراقية منذ بضع سنوات بأسماء مستعارة مختلفة، فكان للأخير منها اسم «أحبزبز»، ومن بعد أن ضايقتني الجهات المعلومة - وهي محقة بذلك - تقلص هذا الاسم فصار (أ. حبزبوز) وهو الذي - على ما أعلم
2 - قضى على حياتي في الوظيفة، ومن أجل ذلك اتخذته عنوانا لصحيفتي هذه، وكنت منذ زمن بعيد أشعر بالرغبة عن حياة التوظيف راغبا في الصحافة، ولا سيما الفكاهية منها، والحمد لله على الخاتمة.
خطتي:
إن هذه الصحيفة فكاهية أدبية فنية بحتة - على طول! - لا علاقة لها - توبة أستغفر الله العظيم! - بالسياسة والأحزاب مطلقا.
تختلف الظنون على مبدئي وتحوم الشكوك حول نزعتي! لذا وددت أن أزيح الستار وأقدم نفسي - بريزنته - إلى القراء.
يراني البعض كثير الاتصال بأشخاص الوزارة الحاليين معجبا برئيسهم الشاب النبيل، فيظنني «عهدي»، وفي الحقيقة أني أقسم لكم بقضبان الحديد في «البالكون المعهود»
3
على أنني لست ذاك.
ويراني البعض أكتب في جريدة الإخاء الوطني «البلاد» وشديد الإعجاب بأدمغة الإخائيين فيظنني «إخائي»، وأنا أقسم لكم بالبيت «الهاشمي»
4
الرفيع، وبتربة «الكيلاني»
5
المقدسة، وبكل «جادر»
6
ينصب في أيام الزيارات على أنني لست هذا.
ويذهب البعض مذهبا آخر فيظنني «تقدمي» لصلة قرابة تجمعني مع بعض رجال هذا الحزب، فأنا أقسم لكم «بالمسناية مال خضر الياس»،
7
وأقسم لكم بمسيحة معالي القصاب
8
على أنني لست كذلك.
ويراني البعض أتظاهر بالوطنية المتطرفة، وأدغدع أحيانا محلة الكريملت
9
فيظنني من «الحزب الوطني»، فأنا أقسم لكم بجبة معالي جعفر أبو التمن
10
وأقبل الأيادي «العضبة» لكل من محمود رامز والأخ البدري
11
فأقول: إنني مو منهم.
ويذهب فريق آخر مذهبا بعيدا نحو الماضي، فيظنني من «الحزب الحر العراقي» المرحوم، والكل يعلم أنني ما ضربت لكمة في الترجمانية،
12
ولا تناولت طعام الإفطار في ليالي رمضان في «الدركاء»
13
المعلوم.
إذن لم يبق إلا شيء واحد وهو أنني لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء؛ أي بلا حزب يعني «حزب سز»، وهنا أقسم لكم - وهو القسم الأخير بحياة الشيخ - على أنني لست كذلك.
إذن من أنا وما هي نزعتي؟
أنا حبزبوز، وحبزبوز فقط، خادم الجميع وساع وراء تحسين صحيفتي التي ستكون فكاهية فنية فقط؛ لعلي أصل بها إلى حد الصحف المصرية والسورية مثل «الفكاهة» و«الكشكول» و«الدبور» و«المضحك المبكي» ... إلخ.
وعلى الله وحده اتكالي وهو خير معين ونصير.
أ. حبزبوز
حاول «حبزبوز» أن يستخدم الكاريكاتور في كل عدد فلم يفلح في ابتكار كاريكاتورات متقنة.
من مقالات هذا الكاتب الفكه التي تمثل أسلوبه المقال التالي بعنوان: «نحن المخضرمون: إلى أبناء السقوط
14
المحترمين»، يصف بعض حديثي النعمة وشبان اليوم.
15
حاسر الرأس صيفا وشتاء، فالشعر ممشط ومدهون يلمع تحت أشعة الشمس كأنه قطعة من الروغان! وقد أطال قذاله «الزلوف» حتى استعار خمس سنتيمترات من اللحية، فأضافها إلى الزلف مورد الخدين ببياض وحمرة اصطناعية. وقد لا يرى بأسا من تحمير الشفاه بالحمرة أو «الديرم» كما تفعل مبتذلات النساء.
قبة الثوب - الباخة - طويلة مدلاة حتى الصدر، كأنها أذني حمار تربطها ربطة عريضة جدا «مثل البشطمال»؛ لأن الأفندي أحد أعضاء هواة التمثيل، الجاكيت ضيق وقصير جدا حتى لا يكاد يغطي العجز من الوراء.
أما البنطول فعريض وفضفاض جدا - جارلستون - فهو يكفي لأن يجمع فخذين وأكثر من أفخاذ «أبو حمد».
هو نموذج - أتيب - من نماذج القسم الأول من أولاد السقوط صورناه لكم باختصار، أما القسم الثاني الذين «نبعوا» بعد السقوط فهم الآن يشغلون المناصب العالية، ويمتلكون القصور الفخمة والسيارات الضخمة، ذو منصب عال. وقد كان لا يحلم بأن يكون «جاويش بلدية».
صاحب هذا القصر الفخم الذي تسمع منه أنغام «البيانو» كان يقطن دارا حقيرة في إحدى محلات بغداد الحقيرة، وليست أثاث الدار سوى «الجاون والميجنة والتنور والكوارة ودولاب الغزل والمرفع»، وهذا الذي يجتاز شارع الرشيد بسيارته ذات القمارة، وهو مختال فخور، ينظر إلى الناس كأنهم الذباب، لم يكن سوى ذلك الذي كان يتحسر على «الدشداشة الزركة»، ويشماثه يحتوي على الدهن ما يكفي إلى قدر من التمن، وقدميه الحافيتين كانت تتحسر على زوج يمني من سوق الأسكجية.
وهذا الذي تراه يتناول البيفتيك بالشوكة والسكين في «أوتيل متروبول»، ويكرع أقداح الويسكي والبيرة لم يكن سوى صاحبنا الذي كان يأكل طعام الغداء بشاهيتين من «مخوخ» سوق الغزل.
نالت هذه الجريدة الفكاهية رواجا في البلد، وكان لها تأثيرها في الأوساط المسرحية والملاهي والفنادق.
وهي الجريدة العراقية الوحيدة التي أصدرت عددا خاصا عن «مصايف لبنان»، وبوفاة الكاتب سنة 1938 غابت جريدته إلى الأبد.
كتاب هزلون آخرون
وقد عالج الكتابة الهزلية كتاب آخرون بينهم من كان يتحلى بثقافة وأدب نظير «خلف شوقي الداوودي» صاحب مجلة «شط العرب» في البصرة، واسمه المستعار «ملا ناصر الدين»، ولكنهم لم يبلغوا مكانة «حبزبوز» ومنهم «عبد القادر المميز» الذي كان يوقع «أبو حمد»، وتسنى له أن يصدر جريدة بهذا الاسم فترة من الوقت.
ووجد شاعر عامي ذو شخصية في أزجاله يصف مجتمعه وجيله بما لم يبلغه الشعراء الفصحاء في عهده، بلهجة عامية وبتعابير وأمثال عامية أيضا، هو «المنلا عبود الكرخي».
ولما رأى أن لشعره العامي تأثيره في طبقات الشعب احترف الصحافة وأصدر جريدة باسم «الكرخ» في 10 كانون الثاني (يناير) سنة 1927، أفضل ما كان فيها قصائده، وأسس مطبعة خاصة لجريدته، مما عجز عنه بعض الكتاب والصحفيين الجديين، ولكنه لم يحسن إدارة المطبعة، ولا استطاع أن يثبت في عالم الصحافة مع أن جريدته كانت تصور الطبقة العامة أدق تصوير، سواء بما ينشره فيها من قصائده بالمناسبات أو بمقالات اجتماعية ووصفية أخرى بلهجة عامية.
إبراهيم صالح شكر
وهناك كاتب فذ في لهجته وأسلوبه أشغل حيزا بارزا في عالم الصحافة أو الكتابة الصحفية في العراق ، وإن لم تكن له جريدة يومية كبرى، هو إبراهيم صالح شكر، لم يكن هزلا في مقالاته، بل ساخرا ومتهكما، ثم منتقدا لاذعا ومصورا بارعا، خلق موهوبا في فنه الكتابي، تتلمذ في أول نشأته على قراءاته لبعض بلغاء الكتاب والناقدين المصريين أمثال أحمد فؤاد «صاحب الصاعقة» وفهيم قنديل «صاحب عكاظ»، ومال إلى دراسة روائع الأدب العربي القديم، وأولع بالأسلوب الرصين والألفاظ المجلجلة، واقتبس فصحاء المنشئين القدماء والمحدثين، فأصبح كاتبا بليغا ومنشئا مبدعا.
تمرس أول ما شدا في جريدة «بين النهرين» و«النوادر» و«النور» كما قربنا، واستقل بجريدة أسماها «شمس المعارف»، وقال: إنها تختلف عن صحف العراق بما فيها من ذوق أدبي وفوائد، إلا أنها لم تعش غير بضعة أعداد فقط.
وشارك إبراهيم صالح شكر الشاعر إبراهيم منيب الباجه جي، فأصدرا معا في بغداد مجلة «الرياحين» شهرية نورت براعمها في 27 آذار (مارس) سنة 1914، وما عتمت سموم الحرب الكبرى أن صوحتها.
وما انجابت ظلمات تلك الحرب حتى حن إبراهيم إلى الصحافة فنشر مجلة شهرية «الناشئة»، حفلت على صغر حجمها بالأدب والنقد الاجتماعي، وعاشت أشهرا بين عامي 1921 و1922.
واستأنف الأديب العمل الصحفي بجريدة «أسبوعية» دعاها «الناشئة الجديدة» في 27 كانون الأول (ديسمبر) سنة 1922، فكانت حدثا في صحافتنا الأسبوعية، تفنن صاحبها في أبوابها ومقالاتها وشذراتها، يعاونه بعض الكتاب من الشباب الطالع.
وها نحن أولاء نورد مثالا من أسلوب الكاتب في باب استحدثه «معرض المشاهير» قال بعنوان: «أحد العظماء» عارضا صورة قلمية «للسيد عبد الرحمن النقيب»، نقيب الأشراف ورئيس الحكومة يومئذ:
فإذا صوب الداخل نظره إلى صدر البهو رأى شيخا في الثمانين من عمره جالسا على سرير فاخر، تنبعث منه كهرباء المهابة والجلال، وتلوح على محياه أمارات العظمة والإمارة.
فإذا جلس رأى من حسن الاستقبال وجمال الحديث ما يمثل أمام عينيه أدب النفس وحسن البيان.
فإن ولج معه باب السياسة، خيل إليه أنه يحدث أكبر الرجال عقلا وأعظم الوزراء رأيا ومعرفة بحوادث الغير، ووقائع العبر.
وإذا عطف ذمام الحديث إلى المحاضرة حسب نفسه بحضرة الصاحب بن عباد أو السيد الشريف الرضي، حيث يسمع من الأدب الرائع والبيان ما يعبر عنه بالسحر والحلال.
وإذا دخل معه باب البحث في الفلسفة وما تحويه مجالس العلماء ونوادي الأمراء جرى على لسانه:
من مخبر الأعراب أني بعدهم
شاهدت رسطاليس والإسكندرا
ورأيت فضل الفاضلين كأنما
رد الإله ذكاهما والأعصرا
16
ثم يرى أثناء ذلك ضيوف الزائرين على اختلاف الطبقات من شاعر أديب وعالم فاضل ووجيه كبير وأمير جليل.
وبعد أن كانت تغلب على الجريدة صبغة الأدب والاجتماعيات تحولت إلى السياسة واندفعت تكافح في ميدانها الوعر المسالك، وصار رجال السياسة الأذكياء يعزون الصحفي الكاتب ويوجهونه وفق ما يشتهون، ومع أنه لم تثبت لجريدة «الناشئة الجديدة» شخصية سياسية معينة، ولكن القلوب تعلقت بصحيفة الكاتب المجيد، فزاده الإقبال والتقدير مضاء في براعته الكتابية على حد القول المأثور: «اللهم تفتح اللهاة»، فأوجد في صحافة العراق الصور القلمية لرجال السياسة والمجتمع في إطار أنيق من الوصف المحكم والتعبير الجميل واللفظ الأرن، مما لم يكن لهذه الصحافة به عهد قبله وأغرم القراء، ولا سيما الشبان بهذه الصحيفة الفذة وتهافتوا على قراءتها.
وصمم بعد مدة أن يستغل مواهبه الكتابية وشهرة قلمه في إصدار جريدة سياسية قوية أذاعها باسم «الزمان» يوم 11 تموز (يوليو)، وفيها مقدمة عنوانها «مني وإلي» من شذراتها هذه تستشفون روح منشئها وطريقته الكتابية:
تصدر هذه الجريدة وليست وجهتها «خدمة الوطن» أو الأمة أو القضية أو الاستقلال أو العلم أو الفن، وإنما وجهتها خدمتي أنا.
ولما كنت «اشتراكيا» في عقيدتي الاجتماعية، فإني أبيح للجمهور حق الاشتراك فيما أكتبه لنفسي، وفيما أملكه من هذه الجريدة.
إنني من «حملة المعاول»، وسوف أجعل من هذه الجريدة معولا أهدم به وأحطم، لا لأن الهدم والتحطيم مما تحتاجه البلاد أو الأمة، وإنما لأني ولوع بالهدم شغف بالتحطيم.
وليس ذلك فقط، وإنما أنا رجل أفيض بالنقمة على عبادة الأصنام، وسوف أتعمد في هذه الجريدة امتهان الأصنام وعبادتها، لا لأن ذلك يرضي الله ويستوجب المثوبة، وإنما لأني أحتقر الأصنام وأسخر من عبادتها.
لست إلا رجلا صريحا أخاطب الناس بما تجيش به نفسي، فأحمل بوق الحق لأطرب روحي بسماعها، وإن اصطكت منه الأسماع وذعرت منه النفوس.
وفي المجتمع مضللون لهم صحف يضيق بها الحصر، وفي البلاد دجالون ماهرون لا يحصى لهم عد، وفي الوطن نصابون بارعون في النصب والاحتيال، إذن فالجمهور لا يحتاج لأن أجعل هذه الجريدة وسيلة إلى التضليل أو التدجيل أو الاحتيال ما دمت لست ماهرا في هذه «الأخلاق المألوفة»، وإذن فإني معذور إذا لم أنشر في هذه الجريدة ما اعتاد الناس مطالعته في الصحف «المرتزقة»، وإذن فهذه الجريدة «مني وإلي».
ومع أن الامتياز بأن تكون جريدة «الزمان» يومية، فلم يقو على نشرها إلا مرتين في الأسبوع، وتلقف الجمهور الصحيفة بلهفة، وعظم شأنها في الأوساط السياسية والأدبية، ولكن الجرأة النادرة التي تحلى بها صاحبها اصطدمت بأهواء السياسة، فصرعت الصحيفة وعطلت مرات، مما اضطر الكاتب الحساس إلى ترك ميدان الصحافة والانزواء في حجرة ضيقة من دواوين الحكومة، تاركا السواد يلهجون ببراعته الكتابية، وتحرر جريدته ودوي صوتها في الدفاع عن حقوق الوطن في مواقف معروفة.
ولا يزال الفتيان والكهول يترنمون بمقالات «إبراهيم صالح شكر» التي عنوانها «قلم وزير»؛ إذ كتبها «بقلم مداد» أهداه إليه الوزير «علي جودة الأيوبي»، وعالج فيها صفحات من تاريخ القضية العربية في عهد الثورة الكبرى بأسلوب يحلل الحوادث ويلقي ضوءا على بعض الشخصيات العربية ... وتنطوي على تفسيرات للأحداث وأوصاف للأشخاص غير ما عرف بين الناس عنها وعنهم.
إيضاح
إن الوقت المخصص لموضوعنا لا يمكن أن يتسع مع الأسف لتصوير صورة كاملة لحالة الصحافة العراقية في الفترة التي نتحدث عنها، ولا سيما أن هناك ألوانا من الصحف والمجلات الأدبية والاختصاصية ونواحي من الحياة الصحافية بصفة كونها صناعة أو فنا لم ينفسح المجال لبحثها؛ إذ أراني مضطرا بهذه المحاضرة السابعة إلى أن أقف عند هذا الحد، بعد أن خصصنا المحاضرة الثامنة «لحرية الصحافة».
حرية الصحافة في العراق
أما والأصل في الصحافة أنها الوسيلة التي تترجم عن رغبات الجمهور والواسطة لتبادل الآراء بين أفراد الأمة وطبقاتها، وبين الهيئة الحاكمة والجماعات المحكومة ؛ فقد أصبحت مسألة حريتها أم المسائل، فلا صحافة بدون حرية؛ إذ كيف يراد من المعبر عن الرأي العام ونزعات الكافة أن يكون مقيدا غير طليق؛ فهو إذن لا يؤدي مهمة هذا التعبير على وجهها الصحيح،
1
لذلك حق «لمدام ده ستايل» أن تقول:
إن حرية الصحافة لهي الحرية الوحيدة المعلقة عليها سائر الحريات.
ويقول الأستاذ لطفي السيد: «خير ما تفعل الحكومات لنفسها وللأمة التي تحكمها أن تكون مع الصحافة على غاية من التسامح، فلا تقف في طريق رقيها؛ لأن ذلك وقوف في طريق حرية الرأي العام ومصادرة لاعتقاده، لا يأتي إلا بنتيجة عكسية؛ لأن الرأي العام بطبعه عنيد تزيده طرائق العنف تشبثا بمعتقده، وتشعل مصادرة الحرية في صدره لهب الحرية المستوقد وضوءها الساطع، وسرعان ما يتسرب إليه سوء الظن بالحكومة التي تريده على أن يفل من غرب حدته مهما حسنت نيتها وأرادت له الخير وخافت عليه من الوقوع في شر نفسه.
خير ما تفعل الحكومة أن يكون اتكالها في الحكم على رغبة الناس لا على إرهابهم.»
أما الحرية بذاتها فهي الحق المقدس الطبيعي الذي وجد مع الإنسان في فجر خليقته ونشأ معه، ولا يصح أن تعبث به قوة ما، ولقد صدقت الجمعية العمومية الفرنسية التي أعلنت «حقوق الإنسان» في 4 آب 1779 في تقريرها: «بأن ما يحيق بالمجتمع الإنساني من المصائب والشقاء، وفساد الحكومات، يرجع إلى سبب واحد هو جهل حقوق الإنسان أو تجاهلها أو العبث بها.»
لذلك نصت الفقرة 11 من إعلان هذه الحقوق على القاعدة التالية:
بما أن حرية تبادل الآراء والمعتقدات هي من أثمن حقوق الإنسان، فكل فرد يستطيع أن يتكلم ويكتب وينشر ما يشاء بحرية، بشرط أن يكون مسئولا عن إساءة استعمال هذه الحرية في الأحوال المعينة في القانون.
وقد درجت فرنسة من ثورتها الكبرى التي أعلنت فيها للبشر حقوقهم على تقديس حرية الصحافة واحترام الرأي المعلن فيها، بحيث وجدت لدى زيارتي «جناح الصحافة» الفرنسية في معرض باريس سنة 1937 صفحة من أحد السجلات معروضة في لوحة كبيرة على الحائط ما ترجمته:
حمدا لحرية الصحافة التي ترعاها دائما حكومة الجمهورية الفرنسية، فبفضل هذه الحرية تزداد صفحنا سعة في الانتشار يوما بعد يوم، فتتكاثر النسخ المطبوعة منها.
هذا في فرنسة. أما في إنكلترا فتتمتع الصحافة الإنكليزية بحرية وسعة النطاق جدا، بعيدة عن كل إشراف أو رقابة، وليست هناك قوانين تفرض طلب الإذن بإصدار جريدة، حتى إن الصحف البريطانية تنشر أحيانا مواد فيها الطعن والسب أو أمور غير لائقة، إنما تفعل ذلك على مسئوليتها نفسها، ومرجع الفصل دائما في القضايا الناشئة عن هذه الحال المحاكم والحكم للقانون.
وبديهي عندما نتحدث عن حرية الصحافة لا نتعدى في بحثنا إلى حرية الرأي إطلاقا، فحرية الرأي تعني أن كل إنسان حر في إبداء رأيه سواء أكان خطأ أم صوابا، وإلا لما وجدت حرية الرأي. أما حرية الصحافة فتشمل حرية الرأي، ولكن بشرط ألا يكون إبداء هذا الرأي على وجه يضر بالمجموع، كما أن في حرية الصحافة بعض الحقوق والواجبات التي تنص عليها قوانين الصحافة والمطبوعات في كل بلد.
هذا في بلاد الناس. أما عندنا في العراق فكما أن الصحافة شيء جديد ناشئ فحريتها أيضا وليدة قاصرة، وللحرية الصحافية في بلدنا مفهوم خاص لا نعتقد أن هناك دولة حديثة من الدول الدستورية الديمقراطية تفهم هذه الحرية على الوجه الذي يفهمه القائمون بالأمر فينا.
في العهد العثماني
لم يكن في القطر العراقي في العهد العثماني قبل الدستور غير صحف رسمية حكومية ثلاث في بغداد والموصل والبصرة، وكانت الزوراء التي أسسها الوالي مدحت باشا في بغداد سنة 1869، كما مر في المحاضرات السابقة، تتفوق على زميلتيها ليس من ناحية القدم فحسب، بل في تاريخها الحافل؛ إذ إنها في عهد منشئها مدحت باشا أدت الواجب الصحافي رغما عن كونها صحيفة رسمية، فبحثت في أحوال الولاية وشئونها المختلفة بشيء من الحرية ملتزمة جادة الحق، فلما ذهب مؤسسها من هذه الديار بعد ثلاث سنوات تبدلت لهجتها، ولا سيما عندما شدد العهد الحميدي الخناق على الصحف وأخرس ألسنتها الناطقة وحطم أقلام الكتاب.
ومن الطريف أن نورد ونحن بصدد الصحافة في العراق بعض القيود التي كانت مفروضة في عهد السلطان عبد الحميد على صحف البلاد العثمانية ومنها العراق.
2
تعليمات إلى الصحف: (1)
قبل كل شيء يجب تنوير الشعب عن صحة جلالة مولانا الملك الغالية، ثم البحث عن المحصولات الزراعية وعن تقدم التجارة والصناعة في المملكة. (2)
محظور على الصحف نشر أي شيء لم يقترن بمصادقة «صاحب الدولة» وزير المعارف، عدا ما لا يرى دولته مانعا من نشره من الوجهة الأخلاقية. (3)
محظور على الصحف نشر أبحاث مطولة مهما كان نوعها، أدبية كانت أم فنية، بحيث لا يتسنى للصحيفة أو المجلة نشرها مرة واحدة، ولا يجوز مطلقا استعمال كلمة «يتبع» أو غيرها من التعابير التي تدل على أن للبحث صلة. (4)
لما كان ترك الفراغ أو وضع نقط متتابعة في المقال مما يسبب التشويش ويترك المجال لتقولات وفرضيات لا طائل تحتها، فلا نسمح باستعمال ذلك في المقال مطلقا. (5)
يجب أن لا يعطى أي مجال للطعن في الشخصيات، وإذا أسندت تهمة السرقة أو الرشوة أو القتل إلى أحد الولاة أو إلى أحد المتصرفين، فينبغي كتمانها بسبب عدم إمكان إثبات صحة تلك التهم؛ لذلك ينبغي عدم إفساح المجال مطلقا لنشر أمثال هذه الأمور في الصحف. (6)
محظور على الصحف نشر ظلامة أي أو أية جماعة من الشعب تشير إلى سوء تصرفات موظفي الدولة، كما أنه محظور على الصحف الإشارة إلى أن شكاوى من هذا القبيل طرقت مسامع الذات الملكية المقدسة. (7)
ممنوع على الصحف بصورة قطعية ذكر كلمة «أرمنستان» وما ماثلها من الكلمات الجغرافية والتاريخية. (8)
بما أن شعبنا الصادق الآمن يجب أن لا يطلع على أي خبر يتعلق بمحاولات الاغتيال التي قد تقع ضد الملوك في البلاد الأجنبية، أو على أية مشاغبة أو مظاهرة يقوم بها المفسدون في تلك الممالك، فمن الضروري الحيلولة دون تسرب أمثال هذه الأخبار إلى الشعب بصورة مطلقة. (9)
بما أن البحث عن هذه التعليمات أو التطرق إليها في الصحف يؤدي إلى أن يستغلها بعض الانتهازيين، فيجب منع نشر أي شيء يتعلق بها.
فلما انزاح ظلام الاستبداد وأشرقت شمس الحرية، وأعلن الدستور العثماني سنة 1908 استبشر الناس خيرا وطفقوا ينشئون الصحف في عراقنا شأنهم شأن سائر البلاد العثمانية في ذلك الطور، ونعمت الصحافة العثمانية بحرية فترة من حياتها، وانطلقت الأقلام من عقالها، وأخذت تصول في ميادين النقد والبحث، ومعاجلة الموضوعات في جو فسيح، وتكتب ما يعن للكاتب من الأفكار الإصلاحية والمطالب التي يرى فيها فائدة لبني قومه، مستظلا بظل الدستور وقانون المطبوعات الصادر في 16 تموز سنة 1336 (رومية).
ولكن الحكومة العثمانية بعد برهة قصيرة لم تتحمل حتى في العهد الدستوري الصحف الحرة والجرأة التي بدت على أقلام الأدباء والكتاب، فأخذت تعدل في هذا القانون، وشرعت لذلك خمسة قوانين معدلة أحكام القانون الأول، مما كان له ضجيج في بلاد السلطنة العثمانية، وقوبل بصخب شديد في البرلمان (مجلس المبعوثان) بالآستانة، وانبرى بعض النواب العراقيين ينددون بالتشديد على الصحف وخنق حريتها بهذا التشريع الجديد.
ومما قاله «سليمان فيضي» نائب البصرة في هذا الموقف:
تريد الحكومة أن تعامل أبناء الأمة الذين استنارت أذهانهم بالعلم والمعرفة بأشد مما تعامل به المجرمين والقتلة، إننا نقتل أذكى كتابنا ونخرس الأقلام ونسلب الناس حرية الكلام، ثم ندعي أننا نعيش في بلاد دستورية حرة، فما هذا المنطق؟ لماذا تشدد الحكومة هذا التشديد على أرباب الأقلام والمنورين منا، فإذا كانت الحكومة تريد من سن هذا القانون اتقاء القدح والذم في الصحف، فلماذا ترجح حقوق هؤلاء الناس على حقوق الآخرين، لتوضح لنا الأسباب التي حملتها على تقييد حرية الصحافة تقييدا لا ينطبق على القواعد الدستورية.
أود أن أسأل الحكومة ومقرر اللجنة الحقوقية، لماذا لا تشدد الحكومة هذا التشديد على المجرمين والقتلة بدل الكتاب القديرين وأرباب الأقلام الحرة.
إن هذا القانون الذي يضيق الخناق على حرية النشر والصحافة يتعارض مع الدستور تعارضا واضحا، وإذا كان غرض الحكومة من تشريعه اتقاء القدح والانتقاد على صفحات الجرائد والمجلات، فمعنى ذلك أنها ترمي إلى إخماد الأذهان وتكسير الأقلام ومحو الحريات، ثم تتشدق بعد ذلك بحمايتها للدستور وتمسكها بروحه .
ومما قاله جميل صدقي الزهاوي «نائب بغداد» في هذه الجلسة من «مجلس المبعوثان» العثماني:
لقد أثبت تاريخ الأمم أنه كلما اشتد تضييق الخناق على أصحاب الأقلام والأفكار كلما كان الانفجار عظيما وسريعا، وها نحن اليوم نشرع قانونا يرمي إلى محاكمة الكتاب والمفكرين قبل محاكمة المجرمين واللصوص.
وقد كان لموقف النواب العراقيين وغيرهم من نواب البلاد العربية في مقاومة هذا القانون صداه البعيد في الصحافتين التركية والعربية في ذلك الوقت، فأطرت حريتهم وشجاعتهم، منها جريدة «صباح» التركية التي قالت:
3
إن التاريخ سيحفظ لهؤلاء النواب الأحرار هذا الموقف، وسيكون تذكارا لأبناء الأمة في المستقبل، فيه درس وعبرة.
في عهد الاحتلال البريطاني
وبعد أن تقلص ظل الحكم العثماني واحتل الجيش البريطاني العراق، ثم تغير الحكم العسكري البريطاني في العراق إلى حكم مدني بريطاني، وقبل نشوب الثورة العراقية سنة 1920 عوملت الصحف القليلة التي صدرت على ضفاف الرافدين في خلال هذه المدة القصيرة معاملة فيها الكثير من التساهل، وإفساح المجال لإبداء الرأي على صفحاتها، مع أن الشعب الواعي لم يكن راضيا عن تلك الحالة أيضا، وكان يطالب بإطلاق حرية الصحافة، كما جاء في بيان «المندوبين الخمسة عشر» الذين قابلوا الحاكم الملكي العام السر أرنولد ولسن في دائرته ببغداد يوم 2 حزيران (يونيو) سنة 1920؛ فقد سلموه مذكرة «بمطالب الشعب» من سلطة الاحتلال، تدور حول ثلاث مسائل جوهرية لا بأس من إيرادها بنصها؛ لتعرف مقدار شعور العراقيين بقيمة الحرية الصحافية من ذلك اليوم: (1)
الإسراع في تأليف مؤتمر يمثل الأمة العراقية ليعين مصيرها فيقرر شكل إدارتها في الداخل ونوع علاقاتها بالخارج. (2)
منح الحرية للمطبوعات ليتمكن الشعب من الإفصاح عن رغائبه وأفكاره. (3)
رفع الحواجز الموضوعة في طريق البريد والبرق بين أنحاء القطر أولا: وبينه وبين الأقطار المجاورة له والممالك الأخرى ثانيا: ليتمكن الناس هنا من التفاهم مع بعضهم ومن الاطلاع على سير السياسة الراهنة في العالم.
ولم تر سلطة الاحتلال بدا تجاه هذا الإصرار من منح امتياز لجريدة أصدرها القائمون بالحركة الوطنية يومئذ هي جريدة «الاستقلال»، كما تبسطنا في محاضرة سابقة. وقد كتبت مقالات عنيفة، ندر أن ساعدت الحكومة بعد ذلك وفي سني الاستقلال على أن تجاريها صحفنا العراقية من حيث شدة اللهجة وصرامة الانتقاد.
فلما تألفت الحكومة المؤقتة وأسست الدولة العراقية اتخذ المبدأ العام الذي أقره الدستور أو «القانون الأساسي العراقي» بعد ذلك، وهو أن جميع القوانين العثمانية التي كانت قد نشرت قبل تاريخ 5 تشرين الثاني (نوفمبر) سنة 1914 والقوانين التي نشرت في ذلك التاريخ أو بعده وبقيت مرعية في العراق إلى حين نشر «القانون الأساسي العراقي»، تبقى نافذة فيه إلى أن تبدلها أو تلغيها السلطة التشريعية. وهكذا أخذت حكومة العراق تنفذ قانون المطبوعات العثماني المعدل على الصحافة العراقية، وفي هذا القانون تشديد ليس بالقليل كما ألمعنا آنفا.
في عهد المملكة العراقية
ومع ذلك فلم يرق للحكومة أن تبقى صحافتنا خاضعة لقانون المطبوعات المذكور، بل سنت غيره هو قانون المطبوعات العراقي رقم 82) لسنة1931. وقد شددت الحكومة في قانونها الجديد على الصحافة وفرضت قيودا حادة لم تكن في القانون العثماني، بشأن الشروط المطلوب توفرها في المدير المسئول للجريدة أو المجلة، وفيما يتعلق بانتقاد أعمال الموظفين والمسئولين في الحكومة، وأبقت مسألة التعطيل الإداري للصحف بيد الوزير أو مجلس الوزراء للمدد الطويلة أو لأجل غير مسمى.
وعدل هذا القانون أيضا في خلال سنتين فقط بقانون رقم 56 لسنة 1932، وزيدت فيه القيود والحدود، وإذا كان الحزبان الوطنيان «الحزب الوطني» و«حزب الإخاء الوطني» قد عارضا كثيرا عندما شرع قانون المطبوعات هذا أو القانون المعدل له، وطالبا في مناسبات عديدة بمنح الصحافة الحرية التامة لتضطلع بمهمتها، فلما تولت الحكم الوزارة القومية التي أكثريتها من «حزب الإخاء الوطني» سنة 1932 برئاسة رشيد عالي الكيلاني اهتمت بحرية الصحافة والنشر، فسنت قانونا جديدا للمطبوعات رقم 57 لسنة 1933 تضمن إلغاء كثير من القيود والعراقيل التي كان قد فرضها القانون السابق وتعديله، ولكنه في الوقت نفسه لم يقض على التعطيل الإداري أيضا، إلا أنه حدد مدته فمنح وزير الداخلية حق التعطيل لمدة لا تزيد على عشرة أيام ، ولمجلس الوزراء بناء على اقتراح وزير الداخلية حق التعطيل للجريدة أو المجلة لمدة لا تزيد على شهر واحد، فإذا تكررت المخالفة من الجريدة بعد انتهاء مدة التعطيل، فلوزير الداخلية أن يودع القضية إلى المحكمة، وللمحكمة أن تقرر تعطيل المطبوع مؤقتا أو مؤبدا.
إلا أن الحكومة التي تلت هذه الوزارة
4
بعد بضعة أشهر لم تكد تستقر في دست حكمها حتى عمدت إلى تعديل قانون المطبوعات الجديد، مرجعة إليه كثيرا من القيود والأحكام الصارمة، ولا سيما ما اختص بالتعطيل الإداري، فشرعت قانون التعديل لقانون المطبوعات رقم 33 لسنة 1934، ولكن حسنة واحدة قد تضمنها هذا التشريع المستحدث في «مادته العاشرة» وهي: ليس للحكومة أن تعطل صحيفة سياسية حزبية معلن فيها أنها لسان حزب سياسي مجاز قانونا إلا بحكم المحكمة.
وأهم الانتقادات الموجهة إلى «قانون المطبوعات» النافذة في الفترة التي نتحدث عنها:
أولا:
أخذه بنظام الإجازة بإصدار الجريدة أو المجلة أو النشرة، وهذا الفرض لا وجود له في البلاد الراسخة في نظمها الديمقراطية؛ إذ يمكن الحكومة من التحكم في الأمر، فلا تمنح إجازة لشخص أو جماعة أو هيئة تخالفها في الرأي السياسي أو الفكرة أو العقيدة، أو تشكك في مخالفتهم لها، وهذا يعني أن الحكومة تسد الطريق في وجه المعارضين لها، وهو تعسف يناقض مبدأ المساواة بين أفراد الشعب أمام القانون الذي نص عليه دستور البلاد أو «قانونها الأساسي».
ثانيا:
عرض قانون الصحف والمجلات والنشرات للإنذار والتعطيل والإلغاء الإداري، وفي هذا ما فيه من التشديد والإرهاب، ولا سيما أن المشرع لم يوكل تعطيل المطبوع جريدة كانت أو مجلة أو نشرة إلى القضاء ليكون الحكم أو التدبير قضائيا، بل جعله بيد وزير الداخلية أو مجلس الوزراء؛ أي بيد السلطة التنفيذية (الإدارة)، ولا يطمأن دائما وفي جميع الأحوال على عدالة تصرفات الوزارة الإدارية وسلامتها من النزوات الشخصية والدوافع الحزبية، كما أن هذه الصلاحيات الواسعة المعطاة للإدارة في تعطيل الصحف وإلغائها لأسباب تبررها السلطة الإدارية نفسها، تجعل الصحافة عرضة في كل وقت لأن تعطل الصحيفة أو تلغى لمجرد انتقاد الحكومة أو الدعوى لفكرة أو رأي لا يروقها، وهذه الحالة تنافي الحرية الكاملة المفروض توافرها في الجو الصحافي، لتستطيع الصحف أن تؤدي واجباتها على الوجه الأكمل.
ثالثا:
جعل القانون الصحف والمجلات والنشرات الدورية معرضة للمصادرة بأمر وزير الداخلية، وليس بقرار من المحكمة؛ أي السلطة القضائية.
وهذا سيف آخر مسلط على رقبة الصحافة يكفل للحكومة أن تقضي على أية جريدة أو مجلة أو نشرة دورية قبل ظهورها أمام أعين القراء، ولو نيط أمر المصادرة بالقضاء لهان الأمر بعض الشيء.
رابعا:
وقد أخذ القانون العراقي باستيفاء التأمينات النقدية من الصحافي عند الإذن له بإصدار صحيفة، يعين مقادير هذه التأمينات بالنسبة إلى مواعيد صدور المطبوع، وهو نوع من العرقلة شدد عليه النكير نقاد قوانين المطبوعات في أوروبا عندما شرعت في بلادهم، وأجمعوا على أنها مقيدة للحريات الصحفية.
ويجب أن نضيف إلى هذه القيود الثقيلة التي احتواها قانون المطبوعات العراقي ما جاء في «قانون العقوبات البغدادي» من أحكام صارمة تتصل «بجرائم الرأي»، وهي الجرائم الخاصة بالفكر والعقيدة سياسية كانت أم اقتصادية أم فلسفية.
كما أن هناك قانون مرسوم الأحكام العرفية رقم 18 لسنة 1935، الذي يبيح لقائد القوات العسكرية عند إعلان الأحكام العرفية في منطقة ما من مناطق البلاد أن يفرض الرقابة فيها على الصحف والنشرات الدورية قبل نشرها، وإيقاف نشرها من غير إخطار سابق.
وبهذه الوسيلة تعطل حرية الصحافة تعطيلا تاما فلا تعود أية صحيفة تنشر إلا ما ترضى عنه الحكومة القائمة المعلنة في عهدها هذه الأحكام العرفية.
ومما يجعل حرية الصحافة مهددة في بلاد الرافدين وبحكم المفقودة في أغلب الأحيان، أن أعمال الوزراء في الإدارة قطعية، وليس هناك مجلس دولة أو محكمة إدارية تستأنف عندها أحكامهم.
ملاحظة مهمة
هذه محاضرات ثمان قصد بها بناء على دعوة المعهد إلقاء نظرات خاطفة على قدر ما تسمح به المحاضرة، على طلاب معهد الدراسات العربية العالية، التابع لجامعة الدولة العربية، في موضوع «نشوء الصحافة العراقية وتطورها منذ أول ظهورها إلى نشوب الحرب العالمية الثانية».
أما الإسهاب والاستقصاء وتراجم الشخصيات الصحفية البارزة في العراق فمظانها في التاريخ المفصل الذي أشتغل بكتابته منذ زمن، ولم أترك أمرا يخص الصحف والصحافة في بلاد الرافدين إلا ذكرته في مطاويه، وآمل أن يتاح لي إنجازه ونشره قريبا.
المحاضر
ملاحق
(1) قانون المطبوعات رقم 57 لسنة 1933 المعدل بقانون تعديل قانون المطبوعات رقم 33 لسنة 1934
نحن ملك العراق:
بموافقة مجلس الأعيان والنواب، أمرنا بوضع القانون الآتي:
الفصل الأول: في شرائط المطبوع
المادة الأولى:
يقصد في هذا القانون بتعبير «المطبوع» كل صحيفة أو مجلة أو رسالة أو نشرة تصدر في أوقات معينة أو مختلفة، ويستثنى من ذلك النشرات التجارية والخيرية.
المادة الثانية:
يجب أن يكون لكل مطبوع مدير مسئول، ويشترط أن يكون: (1)
عراقيا. (2)
مكملا سن ال 25 من العمر. (3)
غير محكوم عليه بجناية غير سياسية أو جنحة مخلة بالشرف. (4)
مأذونا من مدرسة عالية ومن ذوي السمعة الحسنة، وللمطبوعات الدينية الإسلامية أن يكون مجازا بالدرس. (5)
غير موظف وغير عضو في مجلس الأمة. (6)
له محل إقامة يعينه في المحل الذي يصدر فيه المطبوع.
يجوز لصاحب المطبوع أن يكون مديرا مسئولا عن مطبوعه إذا كان مستجمعا الشروط المبينة في هذه المادة.
ولا يجوز أن يكون أحد مديرا مسئولا لأكثر من مطبوع واحد، كما لا يجوز أن يكون المدير المسئول لمطبوع معطل مديرا مسئولا لمطبوع آخر في خلال هذا التعطيل.
1
المادة الثالثة:
على من يريد إصدار مطبوع أن يقدم بيانا إلى وزارة الداخلية يتضمن الإيضاحات التالية، ويستحصل إجازة بإصدار المطبوع: (1)
اسم الطالب وشهرته وعمره ومحل إقامته وجنسيته. (2)
اسم المطبوع واللغة التي سيصدر بها. (3)
المكان الذي ينشر فيه والمكتب المعين لإدارته. (4)
نوعه من حيث إنه أدبي أو فني أو علمي أو سياسي. (5)
أوقات نشره. (6)
اسم المدير المسئول وشهرته ودرجته العلمية وعمره ومحل إقامته وجنسيته. (7)
إذا كان القائمون بإدارة المطبوع شركة مساهمة يجب ربط شهادة التسجيل وصورة من مقاولة الشركة ونظامها الداخلي، مع بيان اسم ممثلها أو مديرها المسئول عن إدارة شئونها، وكذلك أسماء أعضاء إدارتها وأعمارهم ومحل إقامتهم وجنسيتهم ومهنهم. (8)
إذا كان المطبوع يعود إلى جمعية يجب بيان أسماء أعضاء الهيئة الإدارية ورئيسها المسئول عن إدارة شئونها، وأعمارهم ومحل إقامتهم وجنسيتهم ومهنهم.
المادة الرابعة: (1) على صاحب المطبوع أن يقدم عن استحصاله الإجازة تأمينات نقدية خلال شهر من تاريخ تقديم البيان على الوجه الآتي: (أ)
إذا كان المطبوع لا يصدر أكثر من مرة في كل 15 يوما فتكون التأمينات 30 دينارا. (ب)
إذا كان المطبوع لا يصدر أكثر من مرة في الأسبوع فتكون التأمينات 75 دينارا. (ج)
إذا كان المطبوع يصدر أكثر من مرة في الأسبوع فتكون التأمينات 100 دينار. (د)
تعفى من التأمينات المطبوعات الدينية والعلمية والفنية والأدبية. (2) يجوز لصاحب المطبوع أن يودع مبلغ التأمينات إلى أحد البنوك باسم وزارة الداخلية للانتفاع من ربحه، على أن لا يحق له التصرف فيه دون موافقة الوزارة المذكورة. (3) كل مطبوع لم ينشر لمدة ستة أشهر منذ إعطاء التأمينات يصبح ملغيا.
المادة الخامسة:
لا تطبق أحكام هذا القانون على المطبوعات التي تصدرها دوائر الحكومة أو البلديات.
المادة السادسة: (1) يكون المطبوع ملكا لصاحبه، ويجوز تمليكه لآخر على أن يخبر وزير الداخلية بذلك. (2) إذا توفي صاحب المطبوع فينتقل المطبوع لورثته وفقا للأحكام المرعية. (3) إذا كان صاحب المطبوع قد تعهد بالقيام بوظيفة المدير المسئول فعند وفاته يمكن الاستمرار على النشر، بشرط الحصول على مدير مسئول مستجمع الأوصاف القانونية.
المادة السابعة:
لا يسوغ لغير صاحب المطبوع استعمال اسم المطبوع عينا أو بوجه يدعو إلى الالتباس.
المادة الثامنة: (1) إذا أراد صاحب المطبوع تغييرا في المواد التي يشتمل عليها الطلب المبين في المادة 3 فعليه أن يعدل الطلب المذكور، بإخباره وزير الداخلية. أما عندما يقصد تغيير أوقات النشر فيقتضي إكمال التأمينات أيضا بموجب المادة 4 من هذا القانون. (2) إذا زالت إحدى صفات المدير المسئول فيجب إيقاف نشر المطبوع حالا وإخبار وزير الداخلية بذلك. (3) لا يجوز لصاحب المطبوع أن يصدر أي ملحق بمطبوعه من دون موافقة وزير الداخلية إلا إذا كان مطبوعه يصدر أكثر من مرة في الأسبوع. (4) على صاحب المطبوع أن يخبر وزير الداخلية في العاصمة أو متصرف اللواء في الألوية عن كل تبديل يقع في الأحوال المبينة في الفقرتين ال 7 وال 8 من المادة الثالثة من هذا القانون، وذلك خلال ثلاثة أيام من وقوع التبديل.
المادة التاسعة:
إذا أراد صاحب المطبوع التخلي عن حقه في المطبوع فله أن يخبر وزير الداخلية بذلك، وعندئذ يلغى المطبوع وتعاد له التأمينات إذا لم يكن مانع من الإعادة وفق المادة 15 من هذا القانون.
المادة العاشرة: (1) على المدير المسئول أن يطبع اسمه واسم المطبعة التي يطبع فيها المطبوع إما في أول الطبع أو آخره. (2) أن يرسل نسختين من كل عدد إلى كل من وزير الداخلية والمدعي العام في العاصمة، وفي غيرها إلى أكبر موظف إداري والمدعي العام أو نائبه، ولوزير الداخلية أن يقرر إرسال ما لا يتجاوز الخمس نسخ إلى الموظفين المكلفين بمراقبة المطبوعات.
المادة الحادية عشرة:
على بائع المطبوع أن يخبر مدير شرطة المحل الذي هو فيه بهويته ومحل إقامته ليقيده في الدفتر الخاص ويعطيه بيانا بذلك مجانا، وليس للبائع أن ينادي إلا باسم المطبوع الذي يبيعه.
الفصل الثاني: في التعطيل والإلغاء
المادة الثانية عشرة:
لوزير الداخلية أن ينذر المدير المسئول إذا نشر في المطبوع: (1)
ما يخل بأمن الدولة الداخلي أو الخارجي. (2)
ما يسبب الكراهية والبغضاء بين أفراد الشعب وطبقاته بصورة تخل في الأمن. (3)
ما يؤثر على الصلات الودية بين العراق والدول الأجنبية. (4)
ما يخالف الحقيقة بقصد إثارة الرأي العام. (5)
ما يخل بالآداب والأخلاق العامة. (6)
ما يسبب كراهية الحكومة أو يمس كرامتها.
2
المادة الثالثة عشرة: (أ) إذا أنذر المدير المسئول وفق المادة السابقة مرة واحدة ونشر ثانية مما هو مبين في المادة المذكورة في خلال ثلاثين يوما من تاريخ تبليغ الإنذار، فلوزير الداخلية أن يصدر قرارا بالتعطيل لمدة لا تزيد على ثلاثين يوما.
3 (ب) أما إذا ذكر في المطبوع ما يمس كرامة الأشخاص أو حيثياتهم بدون أن يسند إليهم مخالفة قانونية، أو بدون أن ينتقد لهم عملا معينا، أو - إذا كانوا من الموظفين - بدون أن يذكر في المطبوع ما له مساس بمسلكهم أو واجباتهم في الدولة، فلوزير الداخلية أن يعطل المطبوع لمدة عشرة أيام دون سبق إنذار، إذا كان المطبوع يوميا، أما إذا كان غير يومي فيعطل نشره خمس مرات باعتبار مواعيد النشر.
4 (ج) إذا عطل المطبوع بموجب الفقرة «أ» ثم نشر فيه مما هو مبين في المادة السابقة بعد انتهاء التعطيل بمدة تقل عن السنة، فلوزير الداخلية أن يعرض المسألة على مجلس الوزراء، وللمجلس أن يصدر قرارا بالتعطيل لمدة لا تزيد على الثلاثة أشهر.
5 (د) إذا نشر في مطبوع شيء فيه خطر على الأمن العام أو سلامة الدولة فلمجلس الوزراء بناء على اقتراح وزير الداخلية أن يصدر قرارا بتعطيل المطبوع لمدة لا تزيد عن السنة الواحدة. (ه) لوزير الداخلية أن يلغي إجازة أي مطبوع أدبي أو علمي يخرج عن حدود إجازته.
6
المادة الرابعة عشرة:
إذا عطل المطبوع بقرار من مجلس الوزراء، ثم نشر فيه شيء مما هو مذكور في المادة 12 بعد انتهاء التعطيل، فلوزير الداخلية أن يودع القضية إلى المحكمة، وللمحكمة أن تقرر تعطيل المطبوع لمدة لا تزيد على السنة أو إلغاء إجازته.
7
المادة العاشرة:
ليس للحكومة أن تعطل صحيفة سياسية حزبية معلن فيها أنها لسان حزب سياسي مجاز قانونا إلا بحكم من المحكمة.
8
المادة الخامسة عشرة: (1) إذا عطل مطبوع مؤقتا فليس لصاحبه أن يطلب إعادة التأمينات أو تحويلها إلى شخص آخر خلال مدة التعطيل. (2) إذا ألغي مطبوع بقرار من المحكمة فليس لصاحبه أن يطلب إعادة التأمينات أو تحويلها إلى شخص آخر إلا بعد مضي شهر من تاريخ الإلغاء. (3) إذا قيست دعوى على المدير المسئول من جراء محتويات المطبوع، فللمحكمة أن تأمر بالحجز على تأمينات ذلك المطبوع.
الفصل الثالث: في منح الإجازة للأجانب
المادة السادسة عشرة:
يجوز أن يكون الأجنبي صاحب مطبوع بقرار من مجلس الوزراء، على أن يكون من رعايا إحدى الدول المتحابة مع العراق، وأن يراعى في ذلك المعاملة المتقابلة بين الدول، ويطبق عليه أحكام هذا القانون علاوة على ما يرد في هذا الفصل.
المادة السابعة عشرة:
على صاحب المطبوع الأجنبي : (1)
أن يقدم شهادة من ممثل حكومته السياسي أو قنصل حكومته عن سيرته وسلوكه الشخصي. (2)
أن لا يجعل مطبوعه لسان حال أحد الأحزاب السياسية في العراق. (3)
أن يقدم مديرا مسئولا عراقيا توافرت فيه الشروط المدرجة في المادة 2 من هذا القانون. (4)
أن يودع لدى وزارة الداخلية ضمانة نقدية قدرها 75 دينارا.
المادة الثامنة عشرة:
لوزير الداخلية أن يعطل مطبوع الأجنبي لمدة لا تزيد على ثلاثة أشهر إذا: (أ)
عاضد أو هاجم أحد الأحزاب السياسية. (ب)
عارض سياسة الحكومة العراقية. (ج)
نشر شيئا مما يمس بكرامة العراق أو الشعب العراقي. (د)
نشر شيئا مما جاء في المادة 12 من هذا القانون.
المادة التاسعة عشرة:
لمجلس الوزراء بناء على اقتراح وزير الداخلية أن يلغي المطبوع الأجنبي في ظروف وأحوال خاصة تجعل الإلغاء من مقتضى المصلحة العامة.
الفصل الرابع: في المخالفات والعقوبات
المادة العشرون: (1) يعاقب بغرامة لا تزيد على 5 دنانير، وعند التكرار يعاقب بغرامة لا تزيد على 10 دنانير أو بالحبس لمدة لا تزيد على الشهر، كل من أصدر مطبوعات: (أ)
قبل تقديمه التأمينات القانونية واستحصال الإجازة أو بعد إلغائه أو في مدة تعطيله أو خلافا للأمور المدرجة في المادتين 3 و8 من هذا القانون، ولوزير الداخلية أن يأمر بمصادرة المطبوع وإيقافه عن النشر. (2) إن المعاقبة بموجب هذه المادة لا تمنع فرض العقوبة القانونية الأخرى إذا كان في المطبوع ما يستلزم ذلك.
المادة الحادية والعشرون:
يعاقب بغرامة لا تزيد على 3 دنانير: (1)
المدير المسئول إذا خالف أحكام المادة 10 من هذا القانون. (2)
البائع إذا خالف أحكام المادة 11 من هذا القانون.
المادة الثانية والعشرون: (1) يجوز نشر المحاكمات ومذكرات المجالس التشريعية والمجالس الإدارية والبلدية والمجالس الرسمية الأخرى في المطبوع. (2) لا يجوز أن ينشر محضر محكمة أو هيئة رسمية مجتمعة بصورة سرية وفق قانون أو أي معاملات أمرت المحكمة أو الهيئة بمنع نشرها كلا أو بعضا. (3) لا يجوز نشر الشكاوى والمحاكمات المتعلقة بقضايا القذف والسب الذي لا يجوز إثباته قانونا. (4) لا يجوز المناقشة أو إبداء الرأي في القضايا المعروضة على المحاكم قبل صدور القرار النهائي فيها. (5) لا يجوز نشر الأخبار المتعلقة بتشكيلات الجيش وحركاته من دون موافقة وزير الدفاع أو من يخوله ذلك، ومن يخالف ذلك يعاقب بغرامة لا تتجاوز 15 دينارا. (6) لا يجوز نشر أخبار تتعلق بشئون الحكومة ودوائرها إلا بعد استقائها من منبع رسمي.
9
المادة الثالثة والعشرون:
لا يجوز نشر القوانين والأنظمة قبل إعلانها في الجريدة الرسمية، ومن يخالف ذلك يعاقب بغرامة لا تزيد على 7 دنانير، على أنه ليس في هذه المادة ما يمنع نشر اللوائح القانونية.
المادة الرابعة والعشرون:
لا يجوز نشر الأخبار والشئون اليومية المجاز أخذها وفق المادة «4» من قانون حق التأليف العثماني المؤرخ في 8 مارس 1326، بشرط بيان مأخذها إلا بعد مضي 24 ساعة على نشرها على الأقل، ومن يخالف ذلك يعاقب بغرامة لا تزيد على 7 دنانير.
المادة الخامسة والعشرون: (1) يعاقب بالحبس لمدة لا تتجاوز الثلاث سنوات أو بغرامة لا تزيد على مائتي دينار أو بكلتيهما كل من نشر في مطبوع ما من شأنه أن يثير شعور عدم الإخلاص إلى الملك أو يتضمن إهانة للذات الملكية أو الملكة أو ولي العهد أو نائب الملك. (2) أما إذا كانت الإهانة موجهة إلى أحد أعضاء العائلة المالكة المعينة في القانون أو إلى أي ملك من ملوك إحدى الدول المتحابة مع الدولة العراقية أو رئيس حكومتها، فيعاقب بالحبس لمدة لا تزيد على السنة الواحدة أو بغرامة لا تزيد على 75 دينارا.
المادة السادسة والعشرون:
يعاقب بالحبس لمدة لا تزيد على ستة أشهر أو بغرامة لا تزيد على 50 دينارا كل من نشر في مطبوع إهانة بالكتابة أو التصوير لهيئة الوزراء أو مجلس الأمة أو أحد أعضائه، أو للجيش أو لإحدى الهيئات الرسمية أو لأحد موظفي الدولة أو لقسم منهم، بسبب قيامهم بالواجبات المودعة إليهم، دون أن يذكر أسماء، أو أن يخصص مادة معينة بكيفية تدعو إلى المساس بشرفهم أو شرف أحدهم.
المادة السابعة والعشرون:
يعاقب بالحبس لمدة لا تزيد على ثلاثة أشهر أو بغرامة لا تزيد على 25 دينارا كل من نشر في مطبوع إهانة لشخص أو أفشى سرا بواسطة النشر، تعرض فيه بكرامة شخص أو شرفه أو أضر بشهرته أو ثروته، أو نشر بكيفية أخرى أمرا تعرض فيه بشرفه أو حيثيته، أو لقصد تهديده للحصول على مال أو أجرة الإعلانات الصادرة بمطبوعه خلاف الأجور المقررة أو ما يعادلها أو ما يشابه ذلك من المنافع، سواء كان لنفسه أو لمنفعة شخص آخر.
وأما القذف والسب فيعاقب ناشرها وفق قانون العقوبات.
المادة الثامنة والعشرون:
يعاقب بالحبس لمدة لا تزيد على سنة واحدة أو بغرامة لا تزيد على 75 دينارا كل من نشر في مطبوع أمرا من الأمور الرسمية المتعلقة بحركات الجيش أو أية معاملة عسكرية كانت أو مدنية، مع علمه بأن اطلاعه على ذلك الأمر كان بصورة غير مشروعة أو بناء على إفشاء صدر من شخص آخر، خلافا للقانون أو إهانة للجيش، وإذا كان يعلم أن النشر مما يضر بمصالح الدولة أو مما يؤدي إلى ذلك، فيعاقب بالحبس لمدة لا تزيد على ثلاث سنوات أو بغرامة لا تزيد على 200 دينار.
المادة التاسعة والعشرون: (1) على صاحب المطبوع أن يدرج مجانا، وفي عين المحل الذي نشر فيه القذف أو الإهانة بحق شخص ما، أن ينشر الجواب الوارد إليه من الشخص نفسه أو وكيله أو من أولاده أو أحفاده، إن كان النشر يتعلق بمتوفى، على أن يكون الجواب من حيث مقداره مناسبا بصورة معقولة مع النشر. (2) يجب أن تدرج الردود التي ترسلها الحكومة على النشريات التي تراها مخالفة للحقيقة. (3) على صاحب المطبوع الذي نشرت فيه محاكمات تتعلق بشخص أن ينشر الحكم الذي صدر في نتيجة المحاكمة، إذا طلب النشر ذلك الشخص. (4) على صاحب المطبوع أن ينشر ما ذكر في الفقت 1، 2، 3 من هذه المادة بعين الحروف وفي عين العمود من أول عدد يصدر من المطبوع، ومن يخالف ذلك يعاقب بغرامة لا تزيد على 20 دينارا.
المادة الثلاثون: (1) يعتبر كل من الأشخاص المذكورين أدناه ناشرا بالنظر لأحكام هذا القانون.
المدير المسئول على كل حال، وصاحب المقال الموجب للمعاقبة إن كان له إمضاء، وصاحب المطبعة، والبائع عند عدم معرفة المدير المسئول وصاحب المقال أو عدم العثور عليهما. (2) أما تضمين الأضرار الأدبية والمادية فيترتب على صاحب المقال - إن كان - وعلى المدير المسئول وصاحب المطبوع بالتكافل.
المادة الحادية والثلاثون:
يقيم المدعي العام الدعاوى المتكونة عن مخالفة أحكام هذا القانون، ومن دعاوى الإهانة بموجب المادتين 25، 26 من هذا القانون، وبموجب المادة 29 فيما إذا كانت الإهانة أو القذف والسب موجهة إلى سفير أو ممثل إحدى الدول الموجودة في العراق، وأما الإهانة والقذف والسب الموجهة إلى شخص آخر فيقيم الدعوى عنها المدعي الشخصي أو ورثته إن كان ميتا.
المادة الثانية والثلاثون:
لوزير الداخلية أن يأمر بمصادرة أعداد المطبوع في الأحوال الآتية: (1)
إذا اشتمل على أمر يستلزم تطبيق الأحكام الواردة في الفصل التالي من هذا القانون. (2)
إذا اشتمل على إهانة أو قذف أو سب يكون المدعي العام هو المكلف بإقامة الدعوى عنها بموجب هذا القانون. (3)
إذا صدر خلافا للمادة 20 من هذا القانون.
المادة الثالثة والثلاثون: (1) لمن يعد نفسه متضررا مادة ومعنى من النشريات الواقعة في المطبوع أن يراجع المحكمة ويقيم الدعوى على الأشخاص المسئولين بموجب المادة 30، وله أن يدعي بالضرر والخسارة، وللمحكمة أن تحكم بالتضمين المناسب، علاوة على الحكم بعقوبة الحبس أو الغرامة أو تعطيل المطبوع وفقا لأحكام هذا القانون والقوانين الأخرى. (2) على المدير المسئول أن ينشر الحكم الصادر وفق الفقرة الأولى في أول عدد يصدر من المطبوع بعد تبليغه، وعند تعذره ففي العدد الثاني، وإذا خالف ذلك يعاقب بغرامة لا تزيد على 20 دينارا. (3) للمحكمة أن تنشر الحكم في مطبوع آخر على أن يؤدي المحكوم عليه نفقات النشر فيما إذا تعذر نشره في المطبوع نفسه.
المادة الرابعة والثلاثون: (1) لا تسمع الدعوى عن جرائم المطبوعات ما لم ترفع خلال ثلاثة أشهر اعتبارا من تاريخ النشر بصرف النظر عن تاريخ الاطلاع. (2) تسقط الدعوى إذا تركت ثلاثة أشهر بعد إقامتها.
المادة الخامسة والثلاثون:
تبلغ الإنذارات والمخابرات من دوائر الحكومة إلى المطبوعات بتسليمها إلى المدير المسئول أو صاحب الامتياز في محل إدارة المطبوع، وإذا لم يوجد أحد منهما في المحل المذكور فبإلصاقها على باب المحل بواسطة مأمور التبليغ، وبالطريقة التي تبلغ بها أوراق المحاكم.
10
المادة السادسة والثلاثون:
للحكومة أن تصدر أنظمة تتعلق بكيفية تأسيس نقابة المطبوعات.
المادة السابعة والثلاثون:
يلغى قانون المطبوعات رقم 82 لسنة 1931 وتعديله رقم 56 لسنة 1932.
المادة الثامنة والثلاثون:
ينفذ هذا القانون اعتبارا من تاريخ نشره في الجريدة الرسمية.
11
المادة التاسعة والثلاثون:
على وزير الداخلية والعدلية تنفيذ هذا القانون. (2) نماذج من مقالات الجرائد العراقية في العهد العثماني
جريدة الرقيب، مقال افتتاحي في العدد 17 المؤرخ في 22 ربيع الآخر سنة 1327ه
تأثير المشروطية والاشتراك فيه
لا يخفى على عموم إخواننا العثمانيين ما كنا نلاقية في الدور السالف المنصرم من أنواع الظلم والتعدي والاستبداد والاستعباد، وما كنا نئن تحت ثقله، ولا يمكننا التشكي مما أثقل كواهلنا حتى في خلواتنا؛ لأن على كل منا حسب اعتقاده وظنه ألف جاسوس ينقل عنه ما يقوله، حتى صار البعض يعتقد أن الخليفة المخلوع كالحاكم بأمره الفاطمي، وحتى كاد يدعي علم الغيب لتسلطه على العموم بواسطة جواسيسه المنتشرين على وجه القطعة العثمانية كالجراد، حتى قيض الله سبحانه لهذه الملة المظلومة من قام بنصرتها، وهم جمعية الاتحاد والترقي الذين طالما ذكرنا فضلهم على الأمة ونوهنا بذكرهم وحمدنا لله عز وجل على أنهم تمكنوا بمعونته تعالى من قلب ذلك الدور النحس بلا إراقة دم ولا إثارة حرب، ولكن أبى الله عز وجل تغيير سنته في أن الانقلاب لا يكون سلميا، وأن الحرية لا يمكن أخذها بغير أليف، وإذا أراد الله أمرا هيأ أسبابه، فقام جماعة ممن ختم الله على قلوبهم وحبب إليهم الظلم وحب الجاه، فأرادوا معاكسة الجمعية وهم يعلمون أن أعظم معاكسة لها إحباط مساعيها - ولا أهم وأعظم على الجمعية من إعادة الدور السالف، ولو أدى الأمر بسفك دماء الألوف - وإعادة عموم الرعايا إلى العبودية بعد الحرية، وإلى ترفع البعض على بعضهم بعد المساواة وإلى الظلم والجور بعد العدالة وإلى الضغائن والعداوة بعد الأخوة، فقاموا متسترين بالدين المبين، ويعلم الله أنهم أعداؤه، حتى أغروا الخاقان المخلوع أو أغراهم بأن من السهل إعادة ذلك الدور، ولم يعلموا أن عموم الأمة العثمانية على اختلاف مللهم وافتراق أهوائهم متفقون قلبا وقالبا كلهم يد واحدة في الذب عن ما يراد سلبه منهم، وحيث إنا نعتقد أن الذب عن هذا الأمر هو الفريضة الوحيدة على كل ذي عقل ودين ووجدان، نقول: إن إخواننا المجاهدين قد قاموا وأعانهم من هم بالقرب منهم، وهم أهالي الفيالق الثاني والثالث بقيادة حضرة وطنينا الشهم المغوار والفارس الكرار الذي حاز شرف اسم «الفاتح الثاني» للقسطنطينية، الذي منح الأمة العثمانية عموما شرف الحرية بعد أن أراد الظالمون اغتيال هذا الشرف منهم، وهو من يحق للعراق الافتخار بترداد اسمه وتكراره، حضرة الفريق الأول «محمود شوكت باشا».
وقد قلنا: إن الحرب في سبيل دوام نعمة الدستور فرض عين، وهو على أبناء العراق أفرض من غيره؛ لأن القائم بهذا الأمر من بني جلدتهم ومولود أرضهم، وقد منحهم هذا الفخر إلى آخر الأبد، وهم لم يتمكنوا من القيام معه والمفاداة بالأرواح والنفوس، فليس لهم إذن ما يبرهنون به على اتحادهم مع أولئك المنقادين لوطنيهم سوى مفاداتهم في دفع الإعانة التي ستقوم بإعانة، بل إغاثة أولاد أولئك الشهداء الذين اشتروا لهم الحرية والعدالة بدمائهم، وقد حاذوا أجر الشهادة، فلا نظن أن ذي غيرة أو حمية أو شرف يتأخر عن المسابقة في دفع ما يمكنه دفعه من العرض الزائل، وكل منا ليقول في نفسه أن لو كانت مملكتنا قرب الآستانة هلا كنا نفادي بأنفسنا وأموالنا في سبيل هذا الجهاد الشريف؟ فمن كان ذو غيرة وشرف وحمية وشهامة، ويقول: نعم كنت أفادي بنفسي، نقول له: لا أقل من أن تدفع لهذه الإعانة قيمة نفسك، ومن شاء فليقوم نفسه أو ولده بما شاء، وهناك يعلم شريف الهمة من وضيعها، ومن قال: إنه لو كان قرب الواقعة لم يكن ليقوم بهذه الخدمة الجليلة، فنقول له: تبا لك وسحقا، والأمة العثمانية ومجاهديها الأبطال وأنجالهم غنيون عن ما تريد أن تدفعه غرامة، وليس بهم حاجة لما تعطيه حياء أو جبرا وعسى الله أن يقيض لك أمرا تدفع له المال والروح وإلى جهنم وساءت مصيرا.
جريدة التهذيب، مقال افتتاحي في العدد 23 المؤرخ في 22 شوال سنة 1237ه
استنهاض الهمة
ما لنا لا نرى لدعاء الجرائد التي هي لسان الأمة برمتها ملبيا ولا مجيبا كأنها تنادي أجسادا بالية أو أشباحا عن الأرواح خالية، ليت شعري هل تقاصرت الهمم أو فترت العزائم أو تقاعست الألسن عن دعاء الخير، أم أحجمت النفوس عن أعمال البر، فلا تستطيع الإقدام على ترك ما اعتادت عليه من المظالم، بلى إن النفوس إذا اعتادت شيئا ما يكون لها بالضرورة طبيعة ثانوية.
والطبع والروح ممزوجان في جسد لا يخرج الطبع حتى تخرج الروح، فلقد كل القلم عن تسطير الاستلفات ولا التفات، وضاقت الصحف باستنهاض الهمم وهيهات، فإلى متى يقوم هذا السبات، وإلى متى لا تمتاز الأحياء عن الأموات، سئمت والله نفوسنا عن تذكير أولياء الأمور الذي هم المسئولون عند الله وعند الأمة، واستعطاف همتهم على أشياء يسيرة لا تصعب على ذي أدنى همة وأقل عزيمة، تنتج رفاه الفقراء والغرباء ومحافظة نفوس الملة من المعاطب وتأمين راحتها من المتاعب، فلم نر منهم من يقول «ها أنا ذلك الرجل»، بل الكل عن التذكير في إضراب وصحائفنا تمر عليهم مر السحاب.
نعم، ذكرنا رئيس البلدية في عددنا السالف عن معاملات الباعة من الخبازين والقصابين وغيرهم، وأسهبنا بيان كيفية بيعهم بالأثمان الباهظة وعدم إصغائهم لتنبيهات الرياسة وأخطارها، كأنهم فوضى لا سراة لهم ولا يسألون عما يفعلون، بل ولا يعبئون بأمر آمر، ولا يكترثون له، وما ذاك إلا من أمن العقوبة؛ إذ لو لم يأمنوا العقوبة لما أساءوا الأدب، مع أن الآمر الذي بيده أزمة الأمور يلزم أن يكون على تنفيذها أشد حرصا من كل أحد، واستلفتنا أنظار أولياء الأمور في أعدادنا السالفة أيضا إلى بث الأوامر الشديدة إلى أصحاب العربات على منع تسييرهن بالسرعة القوية؛ لكيلا يحصل منهن الضرر لأحد من أفراد الملة، ولم نعلم هل سمحوا بذلك أم لا، ونظن أنهم لم ينظروا تلك النقطة المهمة الجالية للدقة والاعتماد بعين المقول؛ ولذا نرى العربات على أسرع سير من سيرهن الأول، ولا سيما إذا سرن في الأسواق والأزقة الضيقة الغاصة بأفراد الملة؛ صغير وكبير وأعمى وأصم وعليل، والحال:
إلى الماء يسعى من يغص بلقمة
إلى أين يسعى من يغص بماء
ونختم الكلام على بحث تطهير العشار الذي بقي منذ أيام في حجر التراخي لا الصحي، مع أن الأغلب من ضعفاء الناس وفقرائهم احتاجت بيوتهم أكثر الأيام إلى شربة ماء، إلا أن الأمل وطيد بهمة «أبو شعيب» الملتزم «وسلمان جبر» الكفيل أن ينقذ الفقراء من ما هم فيه من الضيق العسير ببذل الاجتهاد في تسريع ما التزماه وعهدا به، فنستلفت أنظارهما لإجراء ذلك الأمر المهم راجين أن لا يجعل «أبو شعيب» أملنا به كأمل أشعب والسلام.
جريدة الإيقاظ، مقال افتتاحي للعدد 15 المؤرخ في 8 آب 1909
معنى الحرية
الحرية أن يكون كل فرد من أفراد العثمانيين حرا بتشكيل كل نوع من أنواع الشركات المتعلقة بالتجارة والصناعة والزراعة، وليس لأحد حق المعارضة؛ ذلك لأن القصد من نشر القانون الأساسي استحصال رفاهية الجميع وتزييد ثروتهم، وهكذا لا يمكن إلا بزيادة الاشتغال بأنواع التجارات والاجتهاد باختراع الصنايع، وبذل الهمة بتوفير وتكثير الزراعة.
الحرية أن يكون كل فرد من أفراد العثمانيين مفوضا على فتح مكتب باسم التدريس خصوصيا كان أو عموميا، بشرط مطابقته للقانون، يعني في العلوم التي لا تخل بالديانة ولا بعقيدة المتعلمين؛ ففي الأمثال الجيدة «إذا كثرت المدارس استراح السجان».
الحرية هي إطاعة الملة جمعاء للحضرة السلطانية؛ لأن هذه الطاعة فرض على كل مسلم بقوله تعالى:
أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ، وواجب على كل عثماني؛ لأن حضرة السلطان هو أمير المؤمنين وخليفة رسول رب العالمين وحامي بيضة العثمانيين.
الحرية هي كما يلزم على الأمة من الإطاعة التامة للحضرة الملوكية، كذلك واجب عليها الإطاعة والانقياد لأوامر الحكام والمأمورين العادلين وهيئة الحكومة المجموعة؛ لأنه لو تحققنا أساس هؤلاء لوجدنا جميعهم وكلاء الحضرة السلطانية، وذلك مثلا أن الوالي والمتصرف والقائمقام والمدير هم وكلاء السلطان في أماكن وظيفتهم، من حيث الضبط والربط، وأما النواب فكذلك وكلاء عن حضرة جلالته في أمر الأحكام الشرعية، وأما رؤساء المحاكم وأعضاؤها فهم كذلك؛ لأجل تنفيذ الأحكام الشرعية والقانونية بإذنه. وهكذا الإطاعة لهؤلاء الجميع والامتثال لأوامرهم.
الحرية انقياد العساكر وإطاعتهم لجميع قوادهم ومحافظتهم على الضبط والربط.
الحرية هي توجب رفق الحكومة بالرعية، وتستوجب محافظة حقوقها، وذلك اتباعا على «كلكم راع و...» والاعتناء بالأسباب الموجبة لرفاهها، ولحفظ مالها ولتزييد ثروتها، والإصغاء التام لأفرادها عند شكاياتهم أو عرض مظالمهم أو بيان الإفادات لاستخلاصهم من الأذى والمظالم.
الحرية بالنسبة إلى فكري القاصر ورأيي الفاتر هي هذه، لا كما يذهب أسرى الأغراض وحب الذات ويؤولونها خلاف حقيقتها، وإن كان ند عن فكرنا مما يدخل تحت هذه الموضوع فليكمله ذوو الأفكار الذين يحبون الإتيان على تمام الموضوع.
المساواة هي أن يكون الغني والفقير والكبير والصغير والوزير والحقير والمسلم وغير المسلم في الحقوق الشخصية سواء، لا فرق بينهما وفي سائر الأحوال بمقتضى التطبيق لأصول التربية والآداب والعرف العام، مثل احترام الصغير للكبير، ورعاية الكبير للصغير، والتجنب عن الخطوات المغايرة للآداب المشروعة والنظامات الموضوعة، ويلزم أن يعرف كل واحد مقامه.
الأخوة أن يكون جميع العثمانيين متحدين يدا واحدة يتعاونون على جلب منافع الدولة والملة وإكمال نواقص الوطن، ويتركوا النفاق والشقاق وغيره، وأن يعامل بعضهم بعضا معاملة الأخ لأخيه بصورة حسنة، ولا يفرقوا بين المسلم وغيره في الأحوال الدنيوية؛ لكي يحصل الاتحاد في أسباب ترقي الوطن.
العدالة هي نمو شجرة اسمها الحرية، وأغصانها المساواة وورقها الاتحاد وأصلها مغروس في أرض الأخوة، تشرب من ماء لطيف نابع من العين المسماة بالقانون الأساسي، محتاجة إلى أناس تقتطف أثمارها «ومن الله التوفيق».
س. فيضي
অজানা পৃষ্ঠা