وعلى إثر هذه المقدمة جعلت دليلة تتردد إلى منزل عزيز باشا، وتعرض على زينب أنواع الأقمشة ونماذج الحلي ونحو ذلك، وفي زيارتين أو ثلاث أصبحتا صديقتين، وما أقرب تصادق النساء، ولا سيما إذا كن محجوبات فاجتمعن، استأنست زينب بدليلة وأنست بعشرتها جدا وارتاحت إلى حديثها، ولما وثقت دليلة من ظفرها بقلب زينب عمدت إلى القيام بمشروعها فعلا، فمهدت المحادثة إلى الحديث الآتي:
ألاحظ يا عزيزتي زينب أنك سجينة في هذا المنزل، ومهما كنت كتومة فقد أدركت أنك وعزيز باشا لستما على وفاق بل أنك معذبة في عشرته وتودين الخلاص من هذه العشرة.
فارتعشت زينب لهذا الحديث، وقالت نافرة: من قال لك هذا القول؟ - لم يقل لي أحد، ولكني لست جاهلة، بل بالعكس أستنتج أدق الأمور من أبسط البسائط، فلا تحاولي أن تنكري يا عزيزتي زينب؛ فإني أعرف ما بك من وجد على عزيز باشا؛ لما تقاسينه في عشرته، أعرف ذلك، وإن كانت تربيتك الحسنة تأبى عليك أن يعرف أحد ما بينك وبين زوجك. - أرجوك يا ست دليلة أن تطوي هذا الحديث؛ فإني لا أريد نشره بل يسوءني التمادي فيه. - ما أنا غريبة عنك يا ست زينب، أنت تعرفين كم أحبك وأعزك، فأشفق عليك من كربك هذا وأتمنى لك الفرج. - وما قصدك من هذا الحديث يا ست دليلة، أود أن تقصري عنه؛ فقد قلت لك: إنه يسوءني. - لي قصد عظيم يهمك يا زينب، وهو خلاصك.
فتنبهت زينب لهذا الكلام، وقالت: ماذا تعنين؟
فدنت دليلة منها وهمست في أذنها قائلة: ما أنا دلالة الآن كما ترين وإنما أنا رسول إليك من قبل صديق لك. - من هو صديقي هذا؟ - لا أظنك نسيت تلك الليلة الهائلة التي أكرهت فيها على إمضاء حجة فانقض ثلاثة خطفوا الحجة وتهددوا المؤتمرين عليك. - يا الله! كيف عرفت ذلك، من قاله لك؟ - الشخص الذي يسعى إلى خلاصك من جور عزيز باشا. - من هو هذا الشخص؟ - بالطبع هو أحد أولئك الثلاثة، وهو الذي قبض على الحجة والاثنان الآخران معاونان له. - لقد أرعبتني يا دليلة بما تقولين. - بل يجب أن ترتاحي إلى كلامي؛ لأنه باب الفرج ومفتاح له، فثقي بي يا ست زينب، واسمعي ما أقول لك، ونحن الآن في خلوة ولا رقيب. - من هذا الذي يسعى إلى خلاصي، وما قصده؟ - قصده مجرد خلاصك فقط؛ لأن له أعمالا كثيرة خيرية وحسنة كهذا العمل، وبما أن قصده محض عمل الخير فلا يريد أن يعلن اسمه. - هل هو أرسلك إلي؟ - نعم، نعم. - وما بغيته؟ - أرسلني إليك لكي أقنعك بأن تقابليه - ولو نصف ساعة فقط؛ لكي يرشدك إلى الوسائل الكافلة لخلاصك. - معاذ الله أن تخرج ابنة حمدي باشا رفعت من منزلها وتقابل - سرا - رجلا لا تعرفه. - لا تخافي يا ست زينب، حسبك برهانا على إخلاصه وحسن نيته أنه سعى إلى اختطاف الحجة التي كادت تفقدك نصف ثروتك من غير أن يسعى إلى إبلاغك من هو، وستلتقين به ويرشدك إلى ما فيه مصلحتك ولا يخبرك من هو ولا تعرفينه، وإذا شئت أن يكلمك من وراء حجاب؛ لكيلا ترتاعي أو تخجلي فيفعل. - كيف عرف بتلك الدسيسة قبل حصولها حتى سعى إلى خلاصي منها؟ - إن لهذا الرجل أسلوبا غريبا عجيبا في اكتشاف الدسائس والمكايد، وكل يوم يطلع على مكيدة أو أكثر، ويخلص منها الذين على شفا الوقوع فيها. - عجيب ما بغية هذا الرجل من هذه الأعمال؟ - الذي أظنه أنه يكفر بهذه الأعمال الصالحة عن ذنوب ماضية، وهو ذو غنى طائل، فتشجعي يا عزيزتي زينب، ولا تخافي، صممي على أن تقابليه والفرج يأتيك على يده.
كانت زينب تسمع كلام دليلة وفي ضميرها يتردد خيال ذلك الطارق الذي قدم إليها في منتصف الليل وحذرها من شراء طلاقها بنصف ثروتها، ووعدها أن يسعى بخلاصها فلا تشك بصدق كلام دليلة ولا سيما أن ذلك المخلص قد نفذ شيئا من وعده في اختطاف الحجة التي أكرهت على التوقيع عليها، وفي تهديده المؤتمرين ووعيده إياهم بالثبور إذا كرروا هذا الإكراه؛ ولذلك مالت إلى مقابلته ولم تشعر بإجفال قلبها عنه، فقالت لدليلة: يكاد يستحيل علي الخروج من هذا البيت إلا إلى بيت عمي حسين باشا عدلي. - لا تهتمي بكيفية خروجك؛ فأنا لي دالة كبرى على عزيز باشا، وهو يعتقد بي الفضل، فإذا التمست منه أن يأذن لك بزيارتي فلا يرفض. - إذن أراه عندك؟ - إما عندي أو في منزل أسرة صديقة لي. سأستدعي عزيز باشا إلى هنا وألتمس منه هذا الالتماس أمامك؛ لكي تطمئني في خروجك.
وعند ذلك أطلت دليلة من باب الغرفة ونادت إحدى الخادمات، وقالت لها: اسألي سعادة الباشا أن يشرف إلى هنا لأجل كلمة.
وفي هنيهة كان عزيز باشا في غرفة زوجته فبادرته دليلة قائلة: لا يتسنى لي أن آتي بكل العينات التي عندي إلى هنا؛ لكي تراها زينب هانم فلا أظن أن هناك مانعا من تشريفها إلى منزلي؛ لكي ترى فيه جميع ما عندي وتنتقي ما يعجبها منها. - كلا كلا، لا مانع البتة، وإذا كانت زينب هانم لا تزور أحدا فإياك تزور.
ثم التفت إلى زينب، وقال: لك يا عزيزتي أن تزوري الست دليلة متى شئت؛ لأنها سيدة فاضلة وجميع البرنسيسات يزرنها لرؤية العينات عندها.
وعند ذلك خرج عزيز باشا، فقالت دليلة: إذن تشرفين غدا. - متى؟ - الساعة الخامسة أكون منتظرتك في البيت حتما. - الساعة الخامسة تغرب الشمس، فلا أود أن أعود في الليل. - لست أفرغ من أشغالي قبل الخامسة، فلا بأس اذهبي وأعود معك. - أين منزلك؟ - في شارع المناخ نمرة ... أي حوذي تسميني له في الشارع والنمرة يأتي بك إلى أمام باب المنزل، وهو منزل فخيم تقولين للبواب: «دليلة الدلالة» فيرشدك إلي في الحال، أنتظرك في تلك الساعة من غير بد، إلى اللقاء. - إلى اللقاء.
অজানা পৃষ্ঠা