الفصل الرابع والعشرون
بينما كان عزيز باشا يكايد زوجته زينب هانم كان حسين باشا وزوجته عصمت هانم يحاولان إقناع نعيمة، بأن ترضى خليل بك مجدي - أخا عزيز باشا - بعلا لها، اتخذا كل أساليب الإقناع تارة بالوعود، وطورا بالوعيد فلم يفلحا وأخيرا صمم حسين باشا أن يرغمها إرغاما على ذلك؛ لأنه حسب أن خليل عريس موافق لها، وهيهات أن يطلبها ند له، فأحب أن يغتنم هذه الفرصة، ولم يكن حسين باشا مطلعا على شيء من دخائل عزيز باشا وأخيه ولا كان عارفا بما لحقهما من الخسائر في البورصة؛ لأنهما كانا يبالغان في كتمه.
وفي عصر يوم من تلك الأيام كان حسين باشا في غرفته ونعيمة جالسة أمامه فقال لها: «لقد كل لساني من الكلام معك في ذاك الموضوع يا نعيمة وأنت مصرة على الرفض فحتى متى أصبر عليك وأنت تجهلين مصلحتك؟ ولذلك أرى أن لا أكترث برضاك؛ لأنك صغيرة العقل جاهلة وسأفعل ما أراه موافقا لك، ولسوف تعلمين أني فعلت خيرا فتندمين على عنادك.» - ويلاه، ماذا تعني يا أبتاه؟ - أني أعقد عقد زواجك على خليل بك. - بالله، هل تفعل ذلك بالرغم مني؟ - ما حيلتي فيك؟ - بربك، ارحمني. - بماذا أظلمك حتى تطلبي الرحمة؟ - لا أريد أن أتزوج خليل بك.
فقال بنزق: إذن من تريدين؟ - لا أريد أحدا. - هذا لا يكون فإن العادة أن تتزوج الفتاة متى طلبها طالب كفء. - رحماك، لا أريد خليل. - قولي لي: لماذا؟ وإلا فيجب أن تقبليه بعلا.
فتنهدت وأنت، وقالت: آه يا أبتاه، أنت لا تدري كم تتعذب زينب ابنة عمي في ذلك البيت؟ - اصمتي، أتذكرين زينب بفمك، أتذكرين تلك الخبيثة، إنها تستحق كل عذاب، أهي قالت لك أن ترفضي خليل؟
فهلع قلب نعيمة لانتهار أبيها وجعلت ترتجف من شدة الخوف، فعاد يقول لها: أظنك تعاشرين هذه الشقية، وهي التي أفسدت أخلاقك. - معاذ الله يا أبي أن يفسد أحد تربيتك لي. - بل أرى أن تربيتي لك ذاهبة عبثا؛ فما كنت أظنك تخالفين رغبتي. - لا أود مخالفة رغبتك، ولكن قلبي وجل من هذا الزواج يا أبي، فبالله أمهلني لعلي بعد حين أميل ميلك إلى خليل بك. - إلى متى؟ - إلى عام أو عامين. - تريدين أن تراوغيني؟ فاعلمي أني ما اجتمعت بك في هذا العصر لكي أقنعك بصواب هذا الزواج فقد شرحت لك كل محاسنه، ولكنك كالولد الصغير العقل لا تفهمين الخير من الشر، وإذا تركتك على هواك رميت نفسك في هاوية الشقاء، وما دمت أنا ولي أمرك فأشعر أني مسئول عنك. وإنما اجتمعت بك الآن لكي أخبرك أن المأذون سيحضر في هذا المساء لكي يكتب كتابك على خليل بك، فيجب أن تجاوبي بنعم متى سئلت عن رغبتك؟ - رحماك يا أبي لا أقدر أن أجيب بنعم. - اصمتى يا وقحة، كذا قلت وكذا يجب أن يكون، يلوح لي أن طول أناتي أطمعتك بتسامحي وجرأتك على القحة. - بربك يا أبي لا تحملني على أن أخالف ضميري وأقهر قلبي، ويلاه، أليس للمرأة حرية التصرف بشخصيتها على الأقل؟ - كلا، كلا، ليس للمرأة شيء من الحرية ألا تعلمين أن المرأة تحت إمرة الرجل، فهي في طاعة أبيها عذراء وفي طاعة زوجها متزوجة، ولكن واأسفاه إن العلم الذي تعلمته لسم ناقع أفسد تربيتك القويمة، فإني آكل أصابعي ندما على وضعك في مدارس الإفرنج التي استقيت منها هذا التعليم الفاسد بشأن حرية المرأة. - ليس هذا التعليم فاسدا يا أبي، بل هو حق، والدين يعلمنا أيضا أن الله خلق المرأة مساوية للرجل في العقل والضمير والمسئولية، وبالتالي خلقها حرة فيما يخص نفسها على الأقل، أفليس للمرأة حرية أن ترفض طالبا لا تهواه؟ - كلا، كلا، لا تناقشيني، قلت لك: إن المأذون سيأتي في هذا المساء ويكتب كتابك. - بالله، أمهلني يا أبي. - أمهلك ما تشاءين بعد كتابة الكتاب ولا تزفين قبل نصف عام. - بل أرجو منك يا أبي وأتضرع إليك أن تؤجل كتابة الكتاب سنة واحدة فقط. - وماذا تنتظرين أن تفعلي في هذه السنة. - أحاسب ضميري وأسائل قلبي ... - بل تحاولين أن تلحقي بي عارا - على ما أظن. - معاذ الله يا أبي. - أتريدين أن تدبري حيلة للخلاص من تحت ولايتي. - كلا يا أبي، إني أبقى تحت قدميك.
وارتمت نعيمة على قدمي أبيها تقبلهما وتسكب الدموع عليهما فأنهضها قائلا لها: لا تتسلحي بسلاح المرأة؛ فإنه لا يقطع في، قلت لك إن المأذون سيجيء إلى هنا في السهرة، فإن أظهرت الإباءة جنيت على نفسك. - ويلاه، أقسرا تزوجني؟ - قسرا.
وعند ذلك خرج أبوها وتركها تنحب وتندب سوء حظها، وبعد هنيهة عادت إلى غرفتها وفؤادها في بحر من الأسى طام، وأول ما خطر لها أن تكتب على ورقة صغيرة هكذا: «في هذا المساء يكتب الكتاب، فتدبر، خلصني» ولما جلست إلى مكتبها رأت الساعة قد تجاوزت النصف بعد الخامسة وانتبهت إلى أن الأنوار قد أضيئت في البيت؛ لأن الشمس أفلت، فخرجت إلى الشرفة وفتحت النافذة، فرأت أن نور النهار مول، والليل قد جعل يرخي سدوله، نظرت إلى الطريق فوجدت فيه بعض المارة ولم تسمع فيه دوي عربة فخارت قواها، فات موعد مشاهدة حسن، مر حسن من تحت الشرفة بمركبته ولم يرها ولم تره.
من يبلغ حسن خبر الويل القادم عليها؛ عساه يبحث عن طريقة لخلاصها، عساه يسعى لدى أبيها فيؤخر كتابة الكتاب، دخلت إلى غرفتها، خرجت إلى الرحبة، عادت إلى الشرفة وهي لا تدري ماذا تفعل؟ فكرت جدا، خطر لها أن تلتمس من أحد الخدم أن يبلغ رسالتها إلى حسن، وأن ترشيه؛ لكيلا يطلع أباها على سرها، فراعها الظن بأن يخونها الخادم ويخبر أباها، لم تعتد نعيمة أن تسار الخدم في أمورها؛ ولذلك لم تصمم على إنفاذ هذا الفكر إلى حيز الفعل، ماذا تفعل؟ أتخبر أباها أنها تحب حسنا؟ الويل لها إذا قالت! يقتلها. طار صوابها ضاع لبها، ضاق ذرعها، عدمت الحيلة، ماذا تفعل؟ لا تدري.
مرت الدقائق والليل يهجم بجيوش الهم على صدر نعيمة، استولى عليها اليأس، طلبها الخدم للأكل إلى المائدة فاعتذرت بأن لا شهية عندها للطعام، حانت الساعة الثامنة فقدم عزيز باشا وأخوه خليل بك وصديقان لهما، ثم قدم بعض أقرباء حسين باشا، بلغ ذلك إلى نعيمة فهلع فؤادها وجعلت تنحب، فدخلت عليها أمها وأخذت تقبلها وتلاطفها وتقول لها: «لا تبكي يا بنيتي ستكونين سعيدة، ستكونين ملكة في بيتك الجديد، أنت غلطانة برفض خليل بك مع أنه أفضل الشبان وأجملهم شكلا وأعدلهم قامة.» إلى غير ذلك من الكلام المرغب المحبب ولكن كانت كل كلمة منها وخزة في قلب نعيمة، فلم تجب ببنت شفة بل بقيت مسترسلة ببكائها، ولما حانت الساعة التاسعة وافى المأذون الشرعي، وكانت إحدى الخادمات تدخل على نعيمة كل هنيهة وتخبرها بقدوم القادمين، فلما أخبرتها أن المأذون وافى لطمت خديها ولولا الحياء لولوت، على أنها صممت تمام التصميم أن لا تجيب المأذون حين يسألها عن وكيلها، وقالت في نفسها: «فليكن ما يكون.»
অজানা পৃষ্ঠা