وأنا أسأل الله أن يقيك من هذا العمل المنكر، ولكن إذا لم يكن لا بد منه دفعا لتضحيتك بنفسك؛ فأسوغه لك، وما هو بالأمر المحرم في الدين. ومع ذلك نحن نفرض الآن فروضا يمكن ألا تصح، ولعل الأمر يظهر أهون مما نتخوف، فدعي التقادير تجري في أعنتها، وكل تدبير لحينه. - إني متوقعة كل صعوبة في هذه المسألة يا زينب. - اتكلي على الله، وهو يرى لك مخرجا من هذا المأذق، قاربت الشمس المغيب، فهلمي بنا.
الفصل الخامس عشر
في حي الإسماعيلية منزل فخيم، تحيط به جنة فيحاء من جوانبه الثلاثة وقفاه إلى الجنوب، والحديقة مسورة بجدار يرتفع عن الأرض ارتفاع خصر الرجل، وعلى الجدار سور من حديد قد تسلقت عليه النباتات المعرشة.
في هذا المنزل الأنيق أقام طاهر أفندي عفت لما جاء من أوروبا؛ بغية تمضية فصل الشتاء في مصر، والمنزل كبير عديد الغرف، وقد قسمته الهندسة إلى أربعة أقسام يفصلها بعضها عن بعض رواقان متقاطعان، كل منهما يشطر البناء شطرين، وفي الربع الغربي الجنوبي أقامت أيدا أو عائدة - فتاة طاهر أفندي - مستقلة بسكناها، تقيم معها وصيفة ومعلمة.
في ذات يوم من أيام دسمبر كان سالم أفندي رحيم ماثلا أمام طاهر أفندي عفت مثول العبد أمام مولاه يتلقى أوامره. - أظنك يسرك يا سالم أن ترى الطفلة التي استخرجتها من ملجأ اللقطاء في الإسكندرية استخراجا يشبه الشراء وأرسلتها إلي إلى فينا مع رابة نمساوية. - من غير بد يا مولاي. - أتذكر كم كان عمرها حينئذ؟ - نحو أربع سنين - على ما أظن.
وكان طاهر أفندي قد ضغط على زر الاستدعاء فدخل خادم نمساوي الجنسية فكلمه بلغته أن استدع عائدة، وفي هنيهة كانت عائدة في القاعة فجلست إلى جنب طاهر عند الزاوية، فكانت بينه وبين سالم، فقال لها طاهر بالعربية: أعرفك يا عائدة بأقرب الأصدقاء إليك وإلي.
فتفرست عائدة في سالم تتعرفه، فقال لها طاهر: هل تتذكرينه؟
فزادت تأملا فيه فقال سالم: يصعب عليها جدا أن تتذكر، فقال لها طاهر: هو سالم أفندي الذي أخرجك طفلة من الدير، وقد رويت لك تاريخ طفوليتك مرارا وكان اسمه يرد في الرواية كل مرة.
فقالت: أما الاسم فأذكره جيدا، وأما الملامح فجديدة في مخيلتي؛ لأني لم أره إلا مرة.
فقال سالم: صدقت يا سيدتي، وقد مر على ذلك العهد أكثر من عشرة أعوام صرت فيها - والحمد لله - صبية تفاخر الحور، زادك الله جمالا وبهجة وغبطة. - إني أشكر فضلك وعنايتك. - فعلت الواجب علي يا مولاتي. أراها تحسن العربية جيدا يا سيدي البك. - تنبه جيدا يا سالم فما أنا «بك» الآن اذكر جيدا أن اسمي طاهر أفندي عفت، لا تنس هذا الاسم، فإذا اضطررت يوما أن تفوه باسمي فإياك أن تذكر غير هذا الاسم. - سمعا وطاعة لست أثني الغلطة بعد يا مولاي طاهر أفندي عفت، وابتسم سالم مع هذا الكلام، فأجابه طاهر وعائدة بابتسامتين مؤنستين وطاهر عاد إلى الحديث. - لا بدع أن تستغرب أن عائدة تعرف العربية صحيحة فصيحة كما تعرف النمساوية والإفرنسية؛ لأني كنت أستاذها العربي حتى الآن، وقد بذلت جهدي في أن أطوع لسانها لهذه اللغة؛ لأني قدرت أن مستقبلها يكون في مسقط رأسها، أليس كذلك يا عائدة؟ - إرادتك يا أبي هي مسرتي العظمى، وحيثما تكون أكون.
অজানা পৃষ্ঠা