وأخيرا لم أعد أطيق الصبر عن الاجتماع بها ولا سيما؛ لأني أحسست أنها لم تعد تهتم بأن تراني من خدرها إذ أكون في بعض رحبات القصر التي تشرف عليها مقصورتها، فاغتنمت ذات يوم فرصة خروجها مع أمها إلى النزهة وقابلتهما في باب الدار، وغافلت أمها وقلت لها بالإفرنسية: «أود أن أراك غدا في الملتقى المعهود.» فلم تجب، فعذرتها، ولكني رجحت أنها توافيني في الميعاد فانتظرتها في اليوم التالي أمام الباب حسب المعتاد.
لم تخلف ظني فقد وافت وفتحت الباب، وهي تتلفت؛ خوف مفاجأة أحد، ثم قالت: بربك يا حسن لا تغرر بي، فإني أشعر أني أفعل منكرا بهذه المقابلة السرية، وما أتيت تلبية لطلبك بل لكي أقول لك أن تتجنب أقل صلة بي. - اعذريني يا نعيمة إن وجدي يجد بي، ولا أستطيع الصبر عن لقائك ولو لحظة لكي أقول لك من صميم قلبي: إني أحبك حبا لا نهاية له، إني مستسلم للتقادير في هواك. فامتقع لون وجهها وبالجهد استطاعت أن تقول لي: لا تزد من هذا الحديث يا حسن أفندي فإنه غير لائق بي ولا بك ولا لزوم له.
فشعرت أن نبلة عبرت في قلبي فشقته شطرين، وجعلت ذراعاي ترتجفان فقلت لها: رحماك يا نعيمة هل تغير قلبك علي؟ لا أقدر أن أعيش هنيهة بغير روح حبك، إن كنت عدلت عن محبتي فها أنا مائت. أموت حقيقة فارحميني يا نعيمة، وطفر الدمع من عيني وأنا أسند الجدار وأكاد أقع على قدميها.
فنظرت إلي ولمحات الرقة والانعطاف والإشفاق تتموج على سحنتها ثم قالت: إن حبنا لعقيم يا حسن، فالأفضل لنا أن نقتصر عنه قبل أن يبلغ أشده ويتعذر علينا الخلاص منه، ويؤدي بنا أخيرا إلى عقدة صعبة الحل، أو إلى ما لا تحمد مغبته. - بالله، ألم يبلغ أشده بعد يا نعيمة. بربك لا تجرحي فؤادي بمثل هذه النصال، لقد أصبحت في بحر من الحب عميق القرار وليس لي منه خلاص، فبحقك لا تصادمي قلبي بهذا النهي عن الحب؛ فلم يعد في وسعي التخلص منه ، وإن كنت لا تحبينني فحسبي أن ترضي عن حبي لك.
فتنهدت وقالت: آه يا حسن لماذا تغرر بي وأنت لا تجهل أن بيننا حجابا كثيفا؟ - إني تعس جدا. أنا لا أجهل أن مقامي دون مقامك جدا، ودون الحصول على يدك خرط القتاد ولكن قولي لي لو كنت الآن في مقام يساوي مقام أبيك فهل يكون لي حظ منك يا نعيمة؟ - أتريد بهذا السؤال أن تختبر درجة حبي لك يا حسن؟ الأفضل أن تقصر هذا الحديث لئلا يورطنا في حب عقيم لا ننال منه غير العذاب. - أحب أن أتأكد يا نعيمة ما إذا كنت حاصلا على نعمة في عينيك. - آه يا حسن فكرت كثيرا في أمر حبنا، فرأيت أنه يكون وبالا علينا إذا تمادينا فيه؛ إذ لا نهاية صالحة له. - أعلم ذلك جيدا يا نعيمة، فما أنا إلا نموذج البائسين. - إذن لماذا نتمادى بهذا الحب؟
ففكرت هنيهة ثم قلت: أما من وسيلة لحصولي على يدك يا نعيمة؟ - لو رجع الأمر إلي لما كان شيء أسهل من ذلك، ولكن أنت تعلم أن أبي ممن يبالغون في اعتبار الأصل والجاه، فإذا لم يطلب يدي ذو وجاهة ومال طائل؛ أبقاني أبي في خدري حتى أقضي نحبي فيه.
ففكرت نحو دقيقة ثم قلت: نعيمة هبي أني صرت ذا ثروة طائلة ومقام سام، فهل أنال نعمة في عيني أبيك؟ الحصول على المال والجاه في مقدور الإنسان، ومجال السعي أمامي فسيح؛ فقد أستطيع أن أرقى حتى أبلغ ذروة العلى فهل أرضي أباك إذا بلغت إلى مقام يساوي مقامه؟
فتأملت قليلا، وقالت: إذا كانت لك هذه الهمة القعساء، والعزيمة الصادقة حتى تبلغ مقاما جديرا بأن يعتبر، فإذا شاء أبي أن يعرقل أمورنا؛ نفكر في ذلك الحين بطريقة لاجتياز هذه العقبة. - إذن ثقي يا نعيمة بأني إذا لم أبلغ في إبان شبابي المقام الذي يرضيك؛ أنصرف من هذا العالم الفاني. - ماذا تعني أن تفعل؟ - سأخبرك بعد حين. عيني لي موعدا آخر للقائنا وفيه نقرر أمرنا ونفترق على اتفاق. - غدا هنا كالعادة.
وعند ذلك افترقنا منتعشين، ولا أطيل عليك الحديث؛ فإننا التقينا في اليوم التالي في الموعد المعين بعد أن قضيت ليلي ونهاري أفتكر في مستقبلي افتكار الكهل الذي أحدقت به هموم الدنيا، وإليك نتيجة ما افتكرته مستخلصا من حديثنا التالي.
الفصل الرابع
অজানা পৃষ্ঠা