وفي اليوم التالي عادت أمي من دار الباشا، ودفعت لي الرواية قائلة إنها منذ يومين انتهت من قراءتها ونسيت أن تردها، وسألتها عما إذا كانت تريد سواها فأجابت أنها تنتظر غيرها منك - بالشكر.
وفي الحال تناولت الرواية، وجعلت أتصفحها؛ لأرى فيها كلمة من خط نعيمة فلم أجد، فخاب فألي واقتنعت بسخافة عقلي وغروري، ولكن الحب يرى الغرور ثقة والخيبة أملا واليأس رجاء، فتناولت رواية صغيرة وجعلت أتصفحها وأرسم تحت بعض العبارات خطوطا؛ إشارة لإعجابي بها - كما يفعل بعض القراء المتبحرين - وكتبت بإزاء بعض الجمل عبارات صغيرة تدل على شدة تأثري أو عظيم استحساني. وأكثر تلك الجمل التي استوجهت النظر إليها غزلية ووصفية ونحو ذلك. فعلت كذلك على أمل أن نعيمة تنتبه إلى أني أعني بالإشارة إلى تلك الجمل: حبي لها وانشغالي بها؛ فلعلها ترد لي صدى معناي بمثل هذه الطريقة.
ولما عاد الكتاب من عندها تصفحته، فلم أجد فيه قطرة من قلمها، فقلت في نفسي: إنها لم تدرك قصدي. ففكرت مليا بطريقة أوضح - ولكنها خفية أيضا - حتى إذا كانت نعيمة ذات شغل بي انتبهت وأدركت قصدي؛ فربما تجاوبني، فأخذت رواية أخرى صغيرة وجعلت أرسم خطوطا تحت بعض الكلمات المتفرقة في الصفحة الأولى منها فقط، بحيث إنها لو قرأت تلك الكلمات وحدها كانت جملة قائمة بذاتها معناها: «لقد أصبحت موضوع افتكاري وملتقى آمالي ومصدر سروري.» ولما عاد الكتاب إلي تصفحته فلم أجد فيه دليلا على أنها فهمت سر رسالتي لها، فقلت في نفسي: لا بد أن تكون قد فهمت، ولكن ما معنى سكوتها عن الإجابة بهذه اللغة السرية، فتناولت رواية أخرى ورسمت تحت بضع كلمات متفرقة في صفحتين كان مجموعها معا على التوالي ما معناه بالعربية: «إني مشغوف بك وقلق لسكوتك، فأخبريني عما في ضميرك بالإشارة.» ولما ردت الرواية إلي تصفحتها جيدا فعثرت في وسطها على كلمتين في صفحتين متظاهرتين تحت كل منهما خط، ومعناهما: «إني كذلك.» فتأملتهما جيدا خافق الفؤاد، وكنت تارة أتأكد أنهما الجواب لما عنيت وتارة أغالط نفسي؛ لأن الخطوط كثيفة ولكن النفس الطموع أقنعتني بصدق ظني، فكنت أمشي مرحا في ذلك النهار.
وكنت في خلال هذه المراسلة الرمزية أتجنب أن أرى نعيمة؛ لئلا أقابلها وقد اكتشفت سر بغيتي فتغضب مني إن لم يكن عندها من الوجد ما عندي. فقضيت عدة أيام قلق القلب والجسم، سوداوي المزاج لا أعرف أن أبش لأحد من أهلي، وهم لا يعلمون سر ما بي سوى انشغالي بالمطالعة.
ولكني لما علمت أن نعيمة فهمت رسائلي الرمزية لها، وأقرت بأنها مثلي في الهوى صرت أشوق أن أراها وانفرد بها هنيهة لكي أبث لها ما في قلبي من الحب العظيم وآخذ منها ميثاقا على حبنا المتبادل.
حاولت أن أجد طريقة للاجتماع بها - ولو بضع دقائق - فلم أفز، فخطر لي أن أكتب إليها رسالة أرسلها في رواية أبعث بها إليها، فخفت أن تقع الرواية بين يدي أمها قبل أن تصل إليها فتعثر على الرسالة؛ ذلك لأن أمها اعتادت أن تقف على كل أمر يخصها. فلجأت إلى طريقة المراسلة الرمزية التي أستنبطها، فأخذت رواية انتقيت من بعض صفحاتها الأولى بعض كلمات متفرقة، ورسمت تحتها خطوطا وكان معناها: «أود أن أراك لحظة على حدة، فكيف السبيل؟» فردت لي الرواية وقد أشارت في بعض صفحاتها الأخيرة إلى كلمات مفادها هكذا: «غدا مساء عند باب الحديقة الخلفي .»
الفصل الثالث
ولا أقدر أن أعبر لك عن مقدار سروري حينئذ، فإني لم أنم في ذلك الليل؛ إذ كنت أتخيل رفيقة صباي واقفة إلى جنبي ويدها بيدي نستعيد خلاصة ودادنا أيام كنا كالملاكين نتماشى ونتلاعب في الدار، وكروحين تتجاولان في فضاء ضيق.
فكرت كثيرا في ذلك اليوم، استعددت لكلام كثير، وهيأت أساليب متنوعة؛ لبث غرامي، ولإثارة أشجانها، وتحريك كوامن فؤادها، وإضرام نيران الحب فيه.
ولا يخفى عليك أن الحديقة المكتنفة قصر حسين باشا عدلي معظمها إلى جهتي الجنوب والغرب من القصر، وفي سورها الجنوبي باب صغير ويخرج منه إلى خرائب قديمة، ومنه يدخل البستاني بلوازم الحديقة من سماد وغيره.
অজানা পৃষ্ঠা