وحتى في أيامنا الأخيرة كان الفتوات الوضيعون مصدرا للشهامة والنجدة لمن يستنجد بهم، وحماية المرأة والإغداق على الأصحاب إلى غير ذلك. بل كانوا هم الدعاة إلى الوطنية والحماة للبلاد، فقد أقلقوا الفرنسيين مدة احتلالهم، وكانوا لهم مصدر قلق واضطراب كما ذكرنا قبل وخصوصا حي الحسينية، فلما اجتمع عليهم الاضطراب في الداخل وحرب الإنجليز لهم في الخارج اضطروا إلى الخروج، ولذلك تعلم الإنجليز هذا الدرس، فكان من برنامجهم القضاء على الفتوات، حتى لا يكونوا مصدر قلق لهم، ولم يرضوا منهم أن يتسلحوا حتى بالسكاكين والحجارة، وضيقوا عليهم كل المسالك، وأذلوهم بجميع أنواع الذل، حتى زالت هيبتهم. •••
هذا شأن الفتوة. أما شأن الصعلكة فقد أفادت كثيرا من ناحية تخفيف ويلات الفقر في الجاهلية. فقد كان الجاهليون ينقسمون إلى شيوخ قبائل ينعمون بالغنى والترف، هم ومن اتصل بهم، والباقون هم رعاع لا يجدون ما يأكلون، وأفراد القبيلة يحاربون ويقاتلون ويقتلون ويجرحون حتى إذا غنموا فخير الغنائم لشيخ القبيلة، ولها اسم خاص وهي الصفايا. أما أفراد القبيلة فلهم فتات الموائد. وهي حال بائسة تعسة. وربما كان من أقرب الأمثلة لذلك اليوم ما هو حادث في قبائل العراق. فقد وضع ثلاثة مشايخ أيديهم على نحو ثلاثة ملايين من الأفدنة، يزرعها لهم أفراد القبيلة، ثم الثروة كلها لهم. وباقي القبيلة همج رعاع فقراء تعساء. قلما يجدون ما يأكلون. ويقع هذا تحت سمع الإنجليز وبصرهم، فيرضون عن هذا النظام ويشجعون علما منهم بأن وضع ثلاثة من الرءوس تحت أيديهم وإرضاءهم بالمال الوفير أسهل من إخضاع ملايين الناس ممن لا يجدون ما يأكلون.
ولا تخلو جماعة من هذه الجماعات البدوية الجاهلية من رقة الشعور ، خصوصا من سموا الشعراء كعروة بن الورد، والشنفرى. فهؤلاء لما رأوا هذه الحال؛ حال منغمس في الترف لا إلى حد، ومنغمس في الفقر لا إلى حد لم يرضوا عنها، وآلوا على أنفسهم أن يأخذوا من الظالم للمظلوم، وأن يقربوا مسافة الخلف بين الطائفتين، ولذلك تركوا من كان غنيا كريما لأنه يؤدي ما عليه للفقراء، ونقموا على الأغنياء الأشحاء، فكانوا يهجمون عليهم هم وأتباعهم من رجال الحرب الشجعان، ويسلبونهم نوقهم وسائر أموالهم، ثم يقسمونها على الفقراء قسمة عادلة من غير محاباة.
ويتمدحون بسلبهم أموال البخيل وإطعامهم الطعام للفقير. وماذا كانوا يفعلون غير هذا، وهم يرون قوما في السماء، وقوما في الأرض، قوما يموتون تخمة، وقوما يموتون جوعا، ففعلوا بذلك فعل الاشتراكية اليوم، وزادوا عليها أنهم كانوا يأخذون ما يأخذون بالقوة إذ ليس هناك حكومة تنفذ ذلك بالضرائب.
وروى المؤرخون كثيرا من هذه الأحداث وخلقوا بجانب ذلك أدبا رائعا كالذي نراه في ديوان عروة وديوان الشنفرى. ومن أجل ذلك لم يكن اسم الصعلوك منفرا ولا مكروها، بل كان الرجل يفتخر بأنه صعلوك لأن معناه محقق العدل بالقوة، وكان عملهم في السلب والنهب ليس غريبا، لأن السلب والنهب وإغارة القبيلة على القبيلة كان شائعا مألوفا، حتى قال قائلهم في الإغارة:
وأحيانا على بكر أخينا
إذا ما لم نجد إلا أخانا
وقد ضعف شأن الصعلكة في الإسلام، ولم يكن شأنها في الإسلام شأن الفتوة لسببين:
أولهما أن نظام الإسلام في أوله وزع الثروة بالزكاة أولا، والإحسان بما هو فوق الزكاة، ثم بتوزيع الميراث على الأبناء والأقارب. حتى كان الميراث نصيب عدد كبير. وثانيا لوجود الحكومة التي تأخذ بيدها على يدي الغاصب السالب والناهب، وقد جعلت عقوبة شديدة لمن يقطع الطريق فقال القرآن الكريم:
إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم
অজানা পৃষ্ঠা