বইয়ের মধ্যে কাটানো ঘণ্টাগুলি
ساعات بين الكتب
জনগুলি
وقد يظن أن القوانين والعقوبات هي التي تحجر على الفكر، وتجبر المفكرين على السكوت. كلا! فلا يحجر على الفكر غير الفكر، ولا قوة تصد العقيدة غير العقيدة. ففي الزمن الذي كان البابوات فيه والملوك يحرقون من يقول بدوران الأرض، من ذا الذي كان يساعدهم على ذلك الطغيان ويمد لهم في تلك الجهالة؟ ليست هي الجيوش ولا السجون؛ لأن الجيوش اليوم والسجون أكبر وأضخم مما كانت في كل زمان، ولكنها عقيدة الناس أن القول بدوران الأرض بلاء يجر عليهم غضب الله، ويحرمهم رحمة السماء، فهذه العقيدة هي التي حجرت على العقائد التي كانت تخالفها وتشذ عنها، فلما بطلت لم يقدر كل بابوات الأرض وملوكها على أن يهدروا في سبيلها شعرة واحدة من تلك الرءوس التي كانت تطيح في كل مكان بغير حساب، وليس في قوانين العالم اليوم نص يلزمك أن تلف رقبتك برباط لا فائدة له، وليس هو بأجمل ما تزان به الرقاب؛ ولكن هب رجلا عزم على أن يخلعه ولا يعود إليه، فماذا تظن هذا الرجل ملاقيا من الناس؟ الفاقة والازدراء، فهو لا يقبل في الوظائف، ولا ينال رتب الدولة، ولا يدعى إلى البيوت، ولا يقابله الناس مقابلة الجد والاعتناء، وإذا لج في أمره نسبوه إلى الجنون، وعاملوه معاملة المخلوعين المهدرين ، وقد يكون به شيء من الجنون أو لوثة من الشذوذ، ولكن ليس لأنه خلع رباط الرقبة الذي يفيده، ولا يجمل في عينه، بل لأنه استهدف لتلك المحنة، وصبر عليها من أجل شيء لا يضير.
قلنا إننا نريد أن نكون أحرارا في طلب الحرية لئلا نطلبها كما يطلبها العبيد المسخرون فمن تلك الحرية التي نريدها، أن نعرف حدود «حرية الفكر» نفسها، وأن نفهم أنها ضرورة عجز لا تستحب لو كان الناس قادرين على الإنصاف في منع الأفكار السخيفة الشائهة، وإطلاق الأفكار الصائبة الجميلة، فليست إباحة الحرية الفكرية لكل إنسان إلا ضرورة ألجأنا إليها علمنا بعجزنا عن التمييز، وقلة إنصافنا للمعارضين، وإلا فلو فرضنا أن اختراعا ظهر اليوم فعرفنا به كل فكرة تستحق أن تذاع، وكل فكرة تستحق أن تمنع لا خوف من الغلو والتفريط، أو من الإجحاف والمحاباة؛ فمن ذا الذي يدعو إلى إطلاق الحرية الفكرية لكل من أرادها، إلا أن يكون متهوسا أو جاهلا بمعنى ما يقول؟ فنحن حين نأذن لكل فكرة بالظهور كمن يقبل جبلا من التراب لئلا يخسر جوهرا قد يكون مخبوءا فيه، أو كمن يغربل آكاما من الهشيم؛ طمعا في كيلة من الحبوب، وفي ذلك إسراف لا يسوغه إلا العلم بأن الحجر المطلق على الأفكار إسراف شر منه وأقرب إلى المجازفة والفقدان.
ومن الناس من ينصرون كل حديث على كل قديم؛ مخافة الاتهام بالرجعة والجمود، ومن تسألهم ما رأيكم في الديمقراطية، أو في محاكاة الأوربيين، أو في المساواة بين الرجال والنساء في جميع الحقوق، أو في وصف الصحراء والإبل في الشعر الحديث، أو في غير ذلك من الأمور التي يكثر فيها الجدل بين الجامدين والمجددين، فتلفيهم من أنصار كل جديد وأعداء كل قديم، وما كان عن علم ذلك الانتصار أو ذلك العداء، ولكنه عن مجاراة كمجاراة الجامدين لحكم العادة وآراء الشواذ، فهذه الحرية ضرب آخر من الجمود، ولا نريدها لمصر ولا نفضلها على عبادة القديم الذي ننعاه على المقلدين، ولسنا أحرارا حين ندور مع الأفكار الطارئة كما يدور طلاب الأزياء مع كل عارضة تروج، وكل خاطرة تعن في الأذهان، فلنكن جريئين على الجديد جرأتنا على القديم، ولنتعود أن تنقد الحضارة الأوربية كما ننقد ما سلف من حضارات طويت الآن بالحسن فيها والقبيح، والمرضي فيها والمغضوب عليه، ونرجو أن تكون رسالة الأديب سلامة موسى خطوة من خطوات هذه الحرية التي لا تتقيد بقديم أو حديث، ثم نلاحظ عليه أنه يفرط أحيانا في مطالبة الحرية بما لا طاقة لها به، وذلك حيث يقول:
إن العلوم والفنون التي تملصت من قيود الحرية - كذا - تقدمت وأثمرت كما نرى الآن في الكيمياء والطبيعة والطب والميكانيكيات، فإن تقدم الصناعة إنما يعزى إلى تقدم هذه العلوم، كما أن رقي الحضارة نفسها يرجع إليها، وقد يكون هناك مجال للشكوى من سرعة تقدم هذه لا من تأخرها، ولكن العلوم العمرانية والأخلاقية والشرعية والدينية كلها لا تزال متأخرة؛ لأن الناس ليسوا أحرارا في الكلام عنها ومناقشتها، فنحن إذا قابلنا علم الكيمياء اليوم بما كان عليه أيام سليمان الحكيم لوجدنا فرقا هائلا يكاد يكون كالفرق بين الطفل الذي يلعب بالنار وبين معارف مهندس يدير قاطرة، ولكن الفرق بيننا وبين سليمان الحكيم في الآراء الدينية أو الأخلاقية أو حتى العمرانية لا يزال صغيرا جدا، وقد لا يكون هناك فرق أصلا.
فسلامة أفندي يطلب هنا من الحرية الفكرية ما لا طاقة لها به، ولو أنه قال: إن الطب لم يتقدم قط عما كان عليه قبل عشرة آلاف عام؛ لأن أجسامنا لا تزال تشبه أجسام الأقدمين لما كان قوله هنا أغرب من القول بأن طبائعنا وأخلاقنا باقية على ما كانت عليه في عهد سليمان الحكيم؛ لأننا لا نتكلم في الطبائع والأخلاق بحرية العالم في الكلام عن العلم، والصانع في الكلام عن الصناعة! أفكان سلامة أفندي يرجو أن تكون النسبة بين نفوسنا ونفوس آبائنا كالنسبة بين الطيارة المحلقة والمركبة التي تجرها الخيول؟ أم كان يرجو أن ترتقي الأخلاق كما ارتقت الكتابة من النسخ إلى الطباعة؟ إن حرية الفكر لن تصنع هذه المعجزات ، وإنما نحن نحكي الذين عاصروا سليمان في الآداب والأخلاق؛ لأن طبائع النفوس لا تتحول في أيدي الزمن كما تتحول الآلات في أيدي الصناع والمخترعين، ولو انطلقنا في الكلام على العقائد إلى النهاية من الطلاقة لماء جاء اليوم الذي يتحول فيه الأدب النفسي كما تتحول المخترعات التي يخلقها الإنسان.
الفصيحة والعامية1
ترى هل يأتي يوم تصبح فيه لكل أمة لهجة واحدة من لغتها، يتكلم بها عليتها أو سوادها ويكتب بها أدباؤها ويتحدث سوقتها؟ نحن نقول: لا نظن، ويقول أناس: بل هذا الذي يحدث يوما بعد يوم حتى تزول اللهجات الفصحى، ويقل التفاوت بين ما يتكلم به الأثرياء في مجالسهم ومؤلفاتهم، وما يتكلم به الغوغاء في السوق وفي الطريق، ويستدلون بهذا التحريف الذي لا يزال يدخل في كل لغة فصيحة فينزل بها إلى اللهجة الدارجة، أو يرتفع باللهجة الدارجة إليها، ثم يقولون: وما عسى أن يكون مصير ذلك إلا أن تنعدم الفوارق، وتتوحد الأساليب ويتساوى العلية والسوقة في الكتابة وفي الكلام؟
هذا رأي لأصحابه يسهل عليك تمحيصه بسؤال تسأله وهو: هل وجدت قط قبل الآن أمة ذات حضارة وعمران كانت تنطق بلهجة واحدة في الكتابة والكلام؟ أو لعلك تذكرهم خطل هذا الرأي إذا سألتهم: وكيف وجدت اللهجات الفصيحة في الأمم أو كيف وجدت القواعد والمحسنات في كل لسان قديم أو حديث؟ أيرون أنها نجمت لتستعرض ساعة ثم تزول؟ أو أنها نجمت مصادفة واتفاقا بغير أسباب داعية إلى ظهورها، وتثبيتها وتأصيل قواعدها، وإذا كانت السنة الغالبة في كل شيء هي أن تنتقل الأشياء من التوحد إلى التعدد، ومن التماثل إلى التنوع، فلماذا تشذ اللغات عنها فتنشأ متوحدة ثم تتفرق، ثم تعود إلى توحدها القديم، فالذي نشاهده ونحققه بالتجربة والاستقراء أن الناس ما تكلموا ولا يتكلمون الآن جميعا بأسلوب واحد ولهجة واحدة، وسبب ذلك بسيط مفهوم، وهو أنهم لا يفكرون ولا يحسون على نمط واحد، ولا مناص من الاختلاف في التعبير إذا اختلف الناس في الفكر والإحساس، بل لا مناص من اختلاف الرجل الواحد في النطق بالعبارة الواحدة إذا اختلف موقعها من فكره وإحساسه بين ساعة وساعة، وبين موضوع وموضوع، وليس هذا شأن التعبير دون غيره، فإنه هو شأنهم كذلك في اللباس والسكن وأدوات الطعام والشراب، وسائر ما يشتركون فيه من مرافق الحياة، فكيف تريدهم مختلفين في أساليب الطعام الذي يكاد يتساوى فيه جميع الأحياء، ولا ترى أنهم يختلفون في اللهجات والعبارات وهي أولى أن تتشعب وتفترق على حسب ما بينهم من تشعب في الذوق والشعور والفكر والمعرفة والمقام؟ فلو أنك أتيت بلغة مصطلح عليها لا تفاوت بين لهجاتها وأساليبها ثم تركتها لأناس يرتضونها على حسب حظهم من الفهم والإحساس، لما مضى على ذلك حين حتى تكون هناك لهجة مهذبة ولهجة مبتذلة، وعبارات تستعمل في التوضيح العلمي والسياق الشعري، وأخرى تستعمل في مساومات الأسواق ومحادثات الطرقات، ولن يتكلم الناس على أسلوب واحد ولو كان كلامهم مقصورا على معاني السوق والطريق، فكيف وهم يتناولون من المعاني ما تضيق به رحاب العلوم والفنون، وتتمثل أغراضه في معارض شتى من الفلسفة، والدين، والأدب، والسياسة، والصناعة، وسائر المعارف والأغراض.
ويقول أصحاب هذا الرأي: ما لنا لا نكتب باللغة التي نتكلم بها في البيت، ونقضي بها مصالحنا في السوق، وكأن هذا أوجه ما يحتجون به للعامية على الفصيحة، وأظهر ما يظهرون به فضل اللغة التي لا قواعد لها على لغة القواعد والأساليب، ولو سألتهم: ما لنا لا نلبس الجلابيب في الأندية ومراكز الأعمال، أو ما لنا لا نخلع كل لباس في حمارة القيظ، ولا حاجة لأكثرنا باللباس في وقدة الحر الشديد؟ لو سألتهم هذا السؤال لتذكروا أن ما يصنع في البيت ليس من الضروري أن يصنع في كل مكان، وليس من اللازم المتفق عليه أن يكون هو أصل التقاليد وقسطاس المعاملات. فما كان البيت بيتا إلا ليجوز فيه من دعة الجسد والفكر، ما ليس يجوز في الديوان والدكان، فضلا عن المدرسة والنادي، ومحافل البحث والظهور، وما كانت النفس لتستحضر جميع مواقف الحياة، وهي في حالة التبذل والراحة، أو حالة الاضطرار ومعالجة مطالب الأجسام. •••
وقد تسمع من هؤلاء من يبشر باللغة العامية، ويحب أن تكتب بها روايات المسارح، وتبسط بها مواقف الروعة والإحساس، وحجته في هذه الدعوة أننا نحكي الطبيعة في التمثيل، ونريد أن نتكلم على المسرح كما نتكلم في كل مكان! ولكنك تراه يذهب إلى دار التمثيل فلا يفوته أن يلبس رداءها الخاص الذي اصطلح القوم على لبسه في هذه الدور، ولا ينسى أن ينبذ عنه عاداته التي تعودها في مجالسه وأشغاله ورياضاته، فما باله يا ترى لا يلبس في دار التمثيل كما يلبس في كل مكان؟ وما باله يذكر «الزينة» في الردهة وينساها حيث تجب الزينة على معرض الفن والتجميل؟ بل لماذا يبرز لنا الممثل على المسرح وقد طلى وجهه بالمساحيق، وصبغ جفونه بالكحل، ولا يتراءى لنا بوجهه وجفنه كما خلقهما الله، وكما نراهما في القهوة وغرف الاستقبال!
অজানা পৃষ্ঠা