বইয়ের মধ্যে কাটানো ঘণ্টাগুলি

আব্বাস মাহমুদ আল-আক্কাদ d. 1383 AH
59

বইয়ের মধ্যে কাটানো ঘণ্টাগুলি

ساعات بين الكتب

জনগুলি

بهذه العقيدة في الحياة ما كان يرجى لرجل سعادة، وبتلك الطيبة الساذجة ما كان يرجى لأحد فلاح، وما كان أحوج بيتهوفن مع هذا الخلق إلى بيت يسكن إليه، ويسعد فيه بعطف الزوجة الصالحة، وقلب المرأة الشفيق، ولو وجد هذا البيت وأتيحت لمثله سعادة الأزواج والآباء لطابت نفسه، وخف عليه وقر أحزانه، وعذاب حرمانه، وسطوة العرف والعادات عليه، ولكنه فقد هذا مع ما فقد من حظوظ الحياة، وتعوض منه بيتا يركن فيه الخدم إلى الكسل والتبطل؛ لأنهم لا يجدون من يلاحقهم ويراقبهم و«المجنون الأصم» مشغول بكتبه وألحانه! وكانوا يأخذون الأوراق التي يدون فيها النوتة حيثما وجدوها ليمسحوا بها الآنية والأحذية، ويزيلوا بها وضر الدهن والتراب، وفي بعض مذكراته تقرأ عن هؤلاء الخدم: «نانسي أجهل من أن تصلح لتدبير منزل. إنها بهيمة!» ... «خدمي الموقرون جادون من الساعة السابعة إلى العاشرة في إشعال النار» ... «خرجت الطباخة! لقد رميتها بنصف دستة من كتب» ... «لا حساء اليوم ولا لحم ولا بيض. تبلغت أخيرا بلقمة من الخان» وهكذا وهكذا مما يصور لك الجحيم الذي كان يعده طريد الناس والقدر ساحته ومأواه!

إن بيتهوفن ولا شك قد ورث صعوبة الخلق عن أبيه، الذي أتلفته الفاقة والسكر، ووباء في طفولة قاسية شحيحة لا تنبض بفرح ولا رجاء، وربما كان جده على شيء من تلك الصعوبة إذا صح ما روته الأحاديث من أنه غاضب أهله وهجر «أنتويرب» حيث كانوا يعيشون ليقيم في «بون»، ولكنها بعد صعوبة خير من النذالة التي يغتفرها المجتمع، ويرضاها الأصحاب والعشراء، ولو كان الناس يقبلون النية الحسنة يغشاها الظاهر العسير، كما يقبلون الظاهر الأملس يغشى نية الكيد والجفاء، أو لو كانوا يغلون الذهب عليه الغبار كما يغلون القشرة المذهبة في باطنها التراب وما هو أقذر من التراب، لوجد بينهم بيتهوفن غير ما كان يجد وعرفوا منه غير ما كانوا يعرفون، ولكن الناس يشترون الرجال بسعر السوق الجارية، ولا يحسبون في الميزان حسابا للعبقرية منذ كانوا يأخذونها بغير ثمن فتسقط في الحساب! ولو أن النابغين استطاعوا أن يحسبوا على أبناء عصرهم، وعلى من يخلفهم ويتلو خلفاءهم إلى آخر الزمان ثمنا لعبقريتهم يتقاضونه من عواطفهم وعقولهم وما ملكت أيديهم، لضمن أجفاهم وأعنفهم سعادة لسعادة العمر آلافا مؤلفة، ولما مات بيتهوفن في سبع وخمسين وهو يرى كما يرى عارفوه أنه أشقى خلائق الله.

الموسيقى1

ما الموسيقى؟ هذا سؤال نود أن نسمع له جوابا بعدما قرأناه عن ذلك الموسيقي العظيم الذي تجاوب العالم بذكره في خلال هذين الأسبوعين، وقبل أن نجيب عنه نحصر ما نعنيه فنقول: إننا لا نقصد في المقال فن الموسيقى ولا ملكة الموسيقى، فإن الموسيقى قد وجدت قبل فنها وقد توجد مع غيره، وليست الملكة إلا وسيلة لتجويد الأداء تزيد وتنقص في بعض الناس، ولا تخلق هي ذلك الشيء الذي يحتاج إلى الملكة في إبرازه، فلا الموسيقى إذن من الوجهة الفنية ولا الموسيقى من حيث هي ملكة في بعض الطباع غرضنا من هذا المقال، وإنما نسأل عن الموسيقى من حيث هي باعث في النفوس تحرك بها إلى استنباط الفن وأدواته، وتجردت له الملكات التي تعينه على الظهور والإتقان، فما الموسيقى التي هذه صفتها أو ما هذا الشيء الذي قل أن يخلو منه فرد أو قبيل؟

يقولون: إن الموسيقى هي اللغة العامة: وهذا قول حق ولكنه أجدر أن يكون وصفا لخاصة من خواص الموسيقى هي تلك الخاصة التي جعلتها لغة الناس أجمعين، يفهمونها على اختلاف اللغات بسليقة فيهم ليست بالقومية ولا بالإقليمية ولكنها سليقة «الإنسان» في كل موطن وزمان، وأحق من هذا أن نقول: إن الموسيقى «تعبير» يترجم عن حالات نفسية لا يقصد بها أن تكون لغة عامة أو خاصة، ولكنها هي لغة عامة بغير قصد من الهاتفين بها والسامعين، ومن رأي هربرت سبنسر أن الموسيقى هي الموازنة بين حركات الرقص والأصوات التي تشفع تلك الحركات، وأن الإنسان إذا ثارت بنفسه خالجة قوية دفعته إلى الحركة والصياح فيجيء الصياح موازنا للحركة، وتصبح كل صيحة مقرونة بحركتها، فيهتز الجسم لوقع الصيحة إذا وردت على السمع فإذا هو يتحرك حركتها الملازمة لها من حيث لا يشعر، أو يطرب الإنسان وينشط فتتحرك أعضاؤه فإذا هو يهتف بتلك الصيحة التي توازنها! وغير عجيب أن يكون هذا رأي سبنسر أو أي عالم غيره من علماء النشوئيين؛ لأنهم ألفوا في تعريف الأشياء أن يرجعوا بها إلى عهود الهمجيات الأولى وأن يردوها إلى بساطتها المجردة؛ لتكون أقرب إلى الفهم وأبعد من التراكب والتعقيد، فإذا بحثوا عن معنى الموسيقى رجعوا إلى أصلها بين قبائل الهمج ونظروا إلى صورتها التي ظهرت بها في أقدم العصور، فخلطوا بين الشيء في صورته الأولى وبين الشيء في جوره ولبابه، فإذا كان الهمج يرقصون ويصيحون ويضربون بأرجلهم ضربا يوازن الرقص والصياح، فالموسيقى إذن هي ضربة الرجل على الأرض، ثم هي دقات الطبل التي تحاكي ضربات الأقدام، ثم هي نفخ المزمار ودق الأوتار على مثل الإيقاع!

وهكذا تسألهم عن الموسيقى فيجيبونك عن درجاتها التي ترقت عليها، أو عن الآلات التي تعين على تمثيلها، وينسون أن كل مركب قد كان بسيطا في يوم من الأيام، وأن العلم بهذا وإيراد الأمثلة التي تؤيده واستعراض المراحل التي درجت عليها البساطة إلى التركيب لا يحل الإشكال، ولا يخرج بنا عن تحصيل الحاصل وعن توسيع الحقيقة المجملة التي تقول: إن المركب يرجع إلى البسيط؛ فهب أن الهمج لم يضربوا بأقدامهم على الأرض حين كانوا يرقصون ويهزجون أيكون هذا إذن قضاء على الموسيقى كالقضاء على الجنين الذي لم يدفعه الرحم إلى وجود؟ أنسكت الطير عن الإنشاد وتبطل دلالة الأصداء في النفوس؟ أنستغنى نحن عن التعبير الموسيقى؛ لأن آباءنا استغنوا عن الضربة بالأقدام والصيحة بالأفواه؟ ولعمري إن الاندفاع إلى الرقص نفسه لهو اندفاع موسيقي يحرك الفكر والجسم واللسان في آن، ويسبق الهيئة التي يظهر بها طرب الأعضاء وصياح الألسن والتصفيق بالأيدي والضرب على الأقدام، فالطبيعة الموسيقية هي التي تخلق الرقص، وتخلق ما يصاحبه من الحركات والأصوات، والرغبة في «الموازنة» هي التي تجمع بين هذه المظاهر في حالة الهمجية، وهي التي جمعت بين ما يشابهها من أطوار الطير والحيوان قبل أن تنشأ في همجية الإنسان، وإنما الأصل في كل ذلك أن تقوم بالنفس فتعبر عنها كل جارحة بما تستطيع من الموسيقية التي تتوازن في الجميع، ولو لم يكن الإنسان موسيقيا لما نقصت الموسيقية التي في هذه الدنيا، ولا بطل ما فيها من التوافق والانسجام، فما الموسيقية في الإنسان إلا صدى ذلك التوافق والانسجام الذي في الوجود، وإلا دليلا على أنها بعض مظاهرهما وليست كل المظاهر في جميع الحالات، ولقد غنى الإنسان؛ لأنه يريد أن يغني لا لأنه يريد أن يرقص، فقد يوجد الغناء في الحيوان غير مقرون بالرقص، وقد يوجد الرقص في الحيوان غير مقرون بالغناء، فلو لم يكن الرقص لكانت الموسيقى في نشأة غير تلك النشأة وأسلوب غير ذلك الأسلوب، ولو لم تكن الآلات مبدوءة بتصفيق الأكف ودقة الأقدام، لبدأت الموسيقى بآلات أخرى، وظهرت في هيئة غير تلك الهيئة؛ لأنها موجودة بغير وجود تلك الهيئات والآلات.

والسمع ولا ريب هو سبيل الألحان إلى النفس، وعدة الموسيقى في الشعور بالأصوات؛ ولكنه - ولا ريب كذلك - ليس بالسبيل الفذ الذي تنقطع الموسيقى عن النفس إذا انقطعت موارده، ويمتنع الطرب إذا امتنعت رسائله، فللعالم أصداء كثيرة في النفس الإنسانية، ليس السمع برسولها الفرد ولا هو خير الرسل التي تحملها إلى السريرة؛ وفي عبقرية بيتهوفن شاهد بهذا يدل على مبلغ الحاجة إلى السمع في توليد الألحان. فهي حاجة ماسة ولا بد منها في بعض أدوار الدراسة، ولكن الصمم مع هذا لم يمنع بيتهوفن أن يخرج خير ألحانه وأكمل أدواره وهو محجوب الأذن منقطع عن عالم الأصوات، ويلوح لنا أن الإحساس الموسيقي ليس بالإحساس الذي تزوده الموارد الخارجية بالشيء الكثير، ولا هو بالمتوقف على الخبرة والمراس، كما هو شأن الإحساس في نفس الشاعر والفيلسوف والحكيم، فهو كالحقائق الرياضية التي تدركها البداهة ويضؤل فيها أثر الخبرة والمشاهدة، ولهذا ينبغ الموسيقيون كما ينبغ الرياضيون في سن الشباب بل في سن الطفولة، ونسمع عن الأطفال الذي يحلون المسائل والأقيسة، وعن الأطفال الذين يحكمون الإيقاع على الآلات في العاشرة أو ما دون العاشرة، ولا نسمع عن هذه الأعاجيب في غير الموسيقى والرياضة من الفنون والعلوم، ولهذا يتشابه الموسيقيون والرياضيون في الملامح والصفات، ويكثر الملحنون بين علماء الفلك والرياضة كما لاحظنا ذلك في مقال لنا عن الخيام.

فالتعبير الموسيقي يصدر عن النفس بمعونة قليلة من الخبرة الدنيوية والمعارف العقلية، وهو فيها صدى التوافق الذي يشمل قوانين الوجود، ويضبط نسبته الملحنون والرياضيون، ولسنا نعجب أن يتصدى الموسيقيون للتعبير الفلسفي، والإفصاح عن المعاني البديهية بأداتهم من الألحان والآلات، فإن هذه الأداة لقادرة على أن تلهمنا «الإدراك اللدني» الذي يعيا الفيلسوف بالتعبير عنه وإفراغه في قالب الألفاظ والأفكار، وليس الجانب الذي تحده الألفاظ حدا يتساوى فيه جميع الفاهمين إلا جانبا قريب الغور في نفس الإنسان، أما ما وراء ذلك من الضمائر المغلقة والمعاني الرفيعة والبدائه الملهمة فليست حصة الموسيقي فيها بأقل من حصة الفيلسوف ولا نصيب اللفظ منها بأجزل من نصيب الأصوات. بل لعل الموسيقي أقدر على إلهامك بعض معانيه من الفيلسوف على نقل إلهامه إليك بالكلام الواضح والتعبير الفصيح.

غير أن الذي نعجب له وننكره على الموسيقيين أن يدعوا ترجمة الكلام بالألحان أو ترجمة الألحان بالكلام، وأن يزعم أحدهم أن يسمعك القصة منغومة كما يسمعها إياك منظومة أو منثورة، بتفصيل كتفصيل الصور والكلمات، فهذه الدعوى تنزل بالموسيقى ولا ترفعها وتعلقها بالتعبير الكلامي، ولا تجعلها مستقلة بتعبيرها الذي فيه الكفاية والغنى عن غيره من أساليب التعبير، وحسب الموسيقي أنه صاحب رسالة يبلغها بوسيلته، وصاحب ملكة لا تفتقر إلى ملكات غيره.

إن المعنى الواحد ليكتبه العربي ويكتبه الفرنسي فيبلغان ما يرومان من الإفصاح والإقناع، ولكن إذا ادعى الفرنسي أنه يكتب الفرنسية بأسلوب يردها مفهومة بالعربية، أو ادعى العربي أنه يكتب العربية بأسلوب يردها مفهومة بالفرنسية، فهذا هو الغلو الذي تتنزه عنه البلاغة القويمة والرأي السديد، وكذلك المعنى النفسي قد يعبر عنه الفيلسوف، ويعبر عنه الموسيقي فينقله كلاهما إلى النفس، ويودعها مقصده من الفكر والشعور، ولكن إذا ادعى الفيلسوف أنه يكتب قولا يفهمه القارئ ألحانا، أو ادعى الموسيقي أنه ينظم صوتا يفهمه السامع كلاما، فذلك هو الشطط الذي لا يزيد الموسيقى فضلا، ولا يدل على اعتزاز صحيح بمزايا ذلك الفن الجليل. •••

অজানা পৃষ্ঠা