فضيق عينيه، وقال: أخبرتني أنه كان يقيم معها في عمارة واحدة؟ - نعم.
فقال بخبث: كان يحبها من قديم ورب الكعبة!
فقلت بصراحة: خطر ذلك ببالي أيضا. - إنه ثعلب!
قلت بحرارة: لم يخطئ في حقي قط، وظل لآخر يوم في حياته صديقي الأول. - وهل وفقا في الزواج؟ - كأحسن ما يكون التوفيق.
وأضفت من عندي: أنجب منها ولدين نابهين ولكنهما - مثل أبيهما - اندفعا في النشاط العام، وبخلاف الأب اندمجا في الإخوان، واضطرا إلى الهجرة إلى السعودية فتزوجا وأقاما هناك بصفة نهائية، وأنا أعتقد أن ملك تعيش اليوم عيشة ميسورة بفضلهما. - ومتى ترملت؟ - منذ عشر سنوات تقريبا، مات صديقي في عز قوته بالسرطان، عاش كريما نبيلا حتى آخر يوم من حياته.
تلقت أسرتي خبر زواج ملك بوجوم، وتضاعف شعورهن بالذنب فازداد البيت كآبة. وشهدت الزواج مع صديقي العريس وهنأت ملك، كأن ما كان لم يكن، وعجبت للعواطف وخداعها العابث. ولأوهام الصبا وأحلام الشباب، وغثاءة الواقع وصدقه ومرارته. وعلى أي حال فعلي يوسف شخص ممتاز، ودخله من المحاماة يفوق دخلي من الوظيفة عشر مرات، وقد هيأ لملك حياة ناعمة وربى ابنيه أحسن تربية وتاه بتفوقهما. أجل أزعجه نشاطهما السياسي لا لمخالفته لميوله الوفدية فحسب، ولكن للخطر المهدد لأمنهما من ناحية الحكومة. ولعله سعد بهجرتهما إلى السعودية ولكنه سرعان ما عذبه الشوق الدائم لهما وبخاصة وأنه كان فياض الأبوة. وهيهات أن أنسى حربه القصيرة مع سرطان المثانة، ولا عذاب أيامه الأخيرة، ولا رحيله الذي خلف وراءه فراغا في قلبي لا يملأ بحال من الأحوال. ولم يكن لي من عزاء تلك الأيام إلا في تقدمي في الوزارة وعلاقتي السرية بأم عبده، وسلمت بالواقع المتجسد في نسوة ثلاث متوترات الأعصاب منعمات بالسخط كأنهن الرمز الحي للزمن الموغل دوما في الغلاء والتناقضات وسوء الحال. وعقب قيام الثورة ساءت صحة أمي وتدهورت الحالة النفسية لأختي زينب فدهمتني مصروفات جديدة للعلاج والدواء. واعتدت العزوبة ولازمتني تطلعاتي القديمة نحو الزواج والإنجاب كحلم حزين دائم لا سبيل إلى تحقيقه. وجعلت أتساءل في ضيق: متى يتاح لي التخلص من هذا الكهف المليء بالنفايات؟ وربما أحزنني وسرني معا استباقهن إلى خدمتي وتوفير الراحة لي، ليست هذه الراحة العفنة هي ما أنشد. إنهن يكبلنني بالحديد والعمر ينطلق ساخرا. وكانت أم عبده أولى الراحلات، أما أمي وفكرية وزينب فلم يرحلن إلا في آخر عام لي في الخدمة؛ سبقت أمي في قمة الشيخوخة، وتبعتها بعد أشهر فكرية في السبعين، ثم زينب في الثامنة والستين. وكل جنازة كلفتني الشيء الفلاني حتى اضطررت إلى الاقتراض، ثم وجدت نفسي وحيدا في الستين في عالم جن جنونه وانقلبت موازينه وأصبحت الليمونة فيه بعشرة قروش. ويقول لي حمادة الطرطوشي: لن أسمح لك بالاستسلام لليأس، إن يكن مسكنك كريها فثمة آلاف من سكان المدافن يحسدونك، بيدك أيضا أن تعمل في شركة استثمار وتحسن مرتبك، وتوجد سيدة وحيدة مثلك فلم لا تزورها؟
ويقول الرجل أيضا وهو يضحك: صحتك والحمد لله ممتازة، وخواطرك الجنسية تبشر بكل خير.
وقلت له ذات مساء: قررت التحدي والقيام بالمغامرة.
فهنأني العجوز على شجاعتي. وضاع أكثر يومي الثاني في الاستعداد للمساء؛ حلقت شعر رأسي وذقني، أسلمت جسدي للدش طويلا، ارتديت أحسن ما عندي من بنطلونات وقمصان، انتظرت المساء طلبا للستر ثم عبرت الشارع العمومي للضفة الشرقية، خطر لي علي يوسف، قلت إنه لم يخني ولا أخونه. وقلت أيضا لنفسي إنه لعار أن يرتبك شخص في مثل سني. وقفت أمام باب الشقة في الدور الثالث في ظلام تام ضغطت على الجرس. سمعت أقداما آتية، وفتحت الشراعة، وتساءل الصوت القديم: من؟
أضاءت المصابيح في أعلى الباب فتجلى وجهي، لم تصدق عينيها، هتفت: أنت!
অজানা পৃষ্ঠা