وسئلت على انفراد عن رأيي فأجبت: إني أشعر بإعجاب وامتعاض.
ويمكن اعتبار سامح من مدرسة عزت ورأفت مع اندفاع بلا حدود. ومع اتجاهه إلى الدراسات العلمية في المدرسة والتخصص فإنه برع في الموسيقى وعشق المسرح والثقافة، ودعا بكل قوة إلى العصر الحديث علما وصناعة وحضارة، واستمد رؤيته في الحياة من رغبة الخديو إسماعيل في جعل مصر قطعة من أوروبا.
وعزت ورأفت يشاركانه الإعجاب بالعصر ولكن في اعتدال، ومع الاهتمام بحضارتنا القديمة الفرعونية والإسلامية. ولم يكن ممن يعتبرون الحضارة الغربية حضارة غريبة عنا، وهي لم تسم باسم خاص إلا بسبب البيئة التي نشأت فيها، ولكنها في الواقع الثمرة الأخيرة في شجرة الحضارات الإنسانية التي أسهم البشر جميعا في غرسها. - فلا علم اليوم إلا علمها، ولا أدب إلا أدبها، ولا فن إلا فنها، ولا فلسفة إلا فلسفتها.
فقال له الجمحي: أموت قبل أن أتذوق موسيقاها، هذا على سبيل المثال لا الحصر. - المسألة مسألة تدريب ليس إلا، أما التراث فلا معنى له، كان ذات يوم حضارة حية متقدمة ثم تجاوزه الزمن فأمسى خرقا بالية!
إنه خواجة بلا قبعة؛ بسبب جو أسرته وقراءاته والمراكز الثقافية والأجنبية، وصداقاته المتعددة للإنجليز والفرنسيين، أما انتماؤه الوطني فكان دون المتوسط رغم اندلاع الحركة الوطنية، ولا أذكر أنه اكترث يوما لخلافاتنا الحزبية. وبالرغم مما أثاره من اعتراضات وانتقادات فلم يحفل أبدا بآراء الآخرين، ولم أشهد له نظيرا في شجاعته. وقد تخرج في كلية العلوم واشتغل مدرسا في المدارس الثانوية، وسرعان ما تزوج من مدرسة متخرجة في كلية الآداب تماثله في السن على أحسن الظنون، واتخذ مسكنا في شارع العباسية. ولم تفتر علاقته بنا ولا لقاءاته معنا في المقهى. وأصبح صالونه منتدى لنخبة من الزملاء ممن كانوا على شاكلته بالإضافة إلى بعض الأجانب. وكان يضرب على البيانو بامتياز، ويلقي محاضرات في الجمعيات التقدمية أو يعلق على بعض الأفلام، ولكن مواهبه لم تتجاوز به ذلك القدر من النشاط.
ولما قامت ثورة يوليو راقبها بحذر، ومضى يميل إليها مثنيا على اندفاعها في طريق التصنيع، واعتبر ذلك حجر الأساس في التحول نحو الحضارة الحديثة. وفي أثناء ذلك أنجب من البنات أربعا وختم بعد فترة انقطاع بولد. أما البنات فقد تعلمن وتوظفن وتزوجن، وأما الولد فقد التحق بكلية الطب مع إحالة سامح إلى المعاش في السبعينيات، وكان يدخر له مفاجأة أو مشكلة لم تجر لأحد في بال. وها أنا أرويها نقلا عنه كما رواها على فترات متقطعة تبعا لحدوثها.
كان اسم الولد شكري كجده، وكان وسيما رياضي الجسم ومتقدما في الدراسة، وكان سامح يحبه حبا فاق حبه أي شيء. ولاحظ بعينيه المحبة أن الشاب لم يعد كسابق العهد به؛ فتر مرحه، ومال إلى الانطواء، ورمق والديه بنظرات غريبة حائرة لعلها أزمة من أزمات المراهقة، أو قصة حب خائب، وإذا بأمه تسأله: ما لشكري يا سامح؟ .. إنه لا يعجبني. - ولا أنا، فلنعترف أنه جيل مجهول رغم أي ادعاء آخر. - ولكننا ربيناه على الحرية والصراحة! - حلمك وصبرك، إنه جيل يعاني من ذكريات الهزيمة والغلاء والمستقبل المسدود! - عليك أن تستدرجه إلى الكلام. - إني أتوقع أن يتكلم هو!
وتكلم، غادر حجرته الحاوية لفراشه ومكتبه إلى حجرة المعيشة حيث يجلس والداه أمام التليفزيون. ضغط على مفتاح التليفزيون فأسكته، وجاء بكرسي صغير فجلس أمام والديه، وهو يقول: ثمة سؤال يشغل بالي.
فقال سامح بشيء من الجدية: ولكنك أغلقت التليفزيون دون استئذان! - آسف، ولي عذر في الهم الذي يركبني. - ليكن، وإن كنت لا أوافق على هذا الأسلوب، ماذا لديك؟ - لماذا لا تصليان؟
ذهلا للمفاجأة، وخيم صمت فاندفع فيه زفيف رياح خريفية تهب في الخارج، أي سؤال لم يتوقعا أن يسمعاه أبد؟! - ولم تصوما رمضان قط؟
অজানা পৃষ্ঠা