أم أحمد
صباح الورد
أسعد الله مساءك
أم أحمد
صباح الورد
أسعد الله مساءك
صباح الورد
صباح الورد
تأليف
نجيب محفوظ
أم أحمد
لو رجعت إلى الذاكرة ما وجدت إلا صورا متناثرة لا تعني شيئا؛ قمرا يطل من نافذة عالية، أقمارا ثلاثة يخرجن من تحت القبو صفا واحدا، حنطورا يتهادى في الميدان بامرأة كالمحمل. الزمن القديم في الحي العتيق، لم يبق من حياته الحافلة إلا ما تعيه الطفولة؛ مناظر غائمة، وأصوات غائبة، وحنين دائم، وقلب يخفق كلما حركته روائح الذكريات. ما كان أجدر ذلك كله أن يتلاشى في ظلمة الماضي، فلا يستطيع الحب أن يستنقذه من الموت، لولا خالدة الذكر أم أحمد! قوية، سمراء، متحدية، في ملاءتها اللف، ووجهها السافر، وشبشبها الرنان، وصوتها الغليظ النافذ، ولسانها الذي لا يهمد ولا يعرف الحرج، بيتها كان يقع ملاصقا للشرفة التاريخية لبيت القاضي، يصل إليه الزائر من ممر ضيق متصاعد مترب، في جانبه كارو قديمة مركونة مهملة، وأحيانا يرى حمارا واقفا يقتات التبن من مخلاة تطوق علاقتها عنقه، كان يشدني إلى مأواها العربة المهملة والأمل المثابر العنيد في الالتقاء بالحمار الهادئ العذب، وهناك أراها وهي تطهو الطعام أو تطعم الدجاج أو تتسلى بمشاجرة شفهية عابرة. في شبابها اليافع - الذي لم أشهده - كانت زوجة لمعلم كارو.
أنجبت منه بكريها أحمد وزينب وسيدة وسنية، ولعلي لمحت الرجل وابنه مرة أو مرات كشيئين من الأشياء التي يموج بها الميدان التاريخي، ميدان بيت القاضي، ولكني علمت مع الأيام أن المعلم قتل في معركة بأرض المماليك، وأن ابنه أحمد مات في السجن. ولم أشهد أم أحمد في حزنها، حتى حين لحقت زينب بأبيها وأخيها لمرض فتك بها في زمن متأخر نسبيا. كلا، لا أذكر أني رأيتها باكية أو مولولة أو شبه يائسة، ما عهدتها إلا متماسكة قوية ضاحكة أو محدثة، غارقة حتى قمة رأسها في أعمالها، ومشروعاتها، تعيش يومها وتبني للغد. وأذكر قول أمي عنها «لولا قوتها الخارقة لأهلكتها الأحزان.» وهو قول لم أع معناه تماما إلا فيما بعد، فعلمت أن أم أحمد التي عرفتها ما هي إلا الثمرة الأخيرة لصراع طويل مع الألم كتب لها فيه النصر؛ فمنذ وجدت نفسها وحيدة توثبت بهمة صلبة للكفاح في الحياة المتاحة، حتى ظفرت بوظيفتها المرموقة في الميدان والحارات المتفرعة عنه، فباتت أشهر شخصية دون منازع، هي الخاطبة والماشطة وإخصائية التجميل والسعادة الزوجية، وشقت طريقها إلى سرايات الحي جميعا وبيوت الطبقة الوسطى، إلى قيامها بمهام الصحافة والإذاعة والمخابرات، وتحسنت أحوالها، ثم توجت كفاحها بتشييد بيت لها من طابقين على كثب من قسم الجمالية. وألحقت سيدة بالمدارس فصارت معلمة، أما بنتها الصغرى، وكانت أجمل إنتاجها كله، فقد أحبها ابن الأسرة الساكنة في الطابق الأول من بيتها وتزوج منها، وأصبحوا فيما بعد من رجال التربية الكبار في مصر. المهم أن أم أحمد جذبتني بسحر حكاياتها عن الجيران، وخاصة أهل الطبقة العليا، وهي حكايات لا يعرف مدى الصدق فيها إلا الله، ولكنها تحرك الشهية دائما لدورانها حول أولئك السادة الممتازين. ولم تنقطع أم أحمد عن زيارتنا عقب انتقالنا إلى العباسية؛ فقد سبقنا أهل السرايات إلى العباسية الشرقية، فانتقل المجال الحيوي لأم أحمد من حي الحسين إلى العباسية تبعا لذلك، مؤصلة ممارسة وظائفها الساحرة. ولم تتوقف عن نشاطها حتى بعد أن تقدم بها العمر، أو بعد أن أدت فريضة الحج وأمست الحاجة أم أحمد، ولكنها اضطرت إلى لزوم دارها بعد أن زحف عليها العجز وضعف بصرها وقلت حركتها قبل رحيلها عن الدنيا في ختام الثمانينيات. ولا أزعم أنها أحسنت تعريفي بأفراد السادة والسيدات من أهل سرايات حارتنا، ولعلها هي نفسها لم يتح لها أن تعرف حقيقتهم، ولكنها اهتمت بعموميات لا بأس بها، وبشئون مما يتصل بعملها، وعلى أي حال فقد عرفت حقائق عن الأسر ككل، كما عرفت أشياء عن مصائرها. وهي في جملتها تعد ثروة هامشية تضاف إلى التجارب التي حصلها الإنسان بنفسه وحواسه وقلبه. ورغم ما عرفت به أم أحمد من صفات الغجر فقد حظيت بإعجابي لقوتها الذاتية وصلابتها وشجاعتها وذكائها وانتزاعها من الصخر الأصم مكانة مرموقة بين أرقى سيدات ذلك الزمان. ولن أنسى أيضا منظرها وهي واقفة فوق الكارو بين جارات لها في إحدى المظاهرات الوطنية تهتف بصوتها المدوي لسعد ومصر.
وحارة قرمز ذات جدران حجرية عالية، تغلق أبوابها على أسرارها، ولا تبوح بسر إلا لمن ينظر في داخلها، هناك يرى ربعا آهلا بالفقراء والمتسولين يجمعهم الفناء للعمل المنزلي وقضاء الحاجات، أو يرى جنة تغنى بالحديقة والسلاملك والحراملك، من نافذة صغيرة عالية قبيل القبو يلوح أحيانا وجه أبيض كالقمر، أراه من موقعي في نافذة بيتنا الصغير المطلة على الحارة فأهيم رغم طفولتي في سحر جماله، وقد أسمع صوته الرخيم وهو يبادل أمي التحية إذا خلت الحارة من المارة، فلعله بث في روحي حب الغناء، فاطمة العمري، حلم الطفولة المجهول، وموعد اللقاء النافذة، وإذا توارت يوما فإنما لتلقنني الألم قبل أوانه. وكلما غابت حدجت أمي بنظرة عتاب كأنما هي المسئولة عن غيابها، فتضحك طويلا وتحكي لأم أحمد عن العاشق الصغير فتتلقف الخبر لتزفه إلى فاطمة، ثم ترجع إلينا برسالة سعيدة أن أشد حيلي، وأنها ستنتظر عريس الهنا مهما يطل الانتظار، ثم تقول: ولكنك تعشق أمها أيضا، فما حكايتك؟
أمها؟! أراها أحيانا في الحنطور وهو يتهادى بها في الميدان، وعيناها الجميلتان تطلان علي فوق حافة البرقع الأبيض، وجسمها المتمادي في العظمة يملأ المقعد بتمامه. وتضحك أم أحمد ثم تقول لأمي: زينب هانم قالت لي إنها رأته «مشيرة إلي» وهو يتطلع إلى ما بين ساقيها المنفرجتين حتى اضطرت إلى ضمهما .. أيعجبك هذا؟!
من هؤلاء الناس الذين ليسوا كبقية الناس؟ العمري - والعهدة دائما على أم أحمد - رجل قد الدنيا، صاحب فابريكة النحاس ومحل بيع النحاس بالصالحية، أصلهم من القدس، والجد الكبير هاجر إلى مصر ليستثمر أمواله، أنشأ فابريكة في الخلاء قبالة الجبل، ويوم حملت الآلات من محطة مصر إلى الفابريكة محمولة على الكارو تجمع الأهالي ينظرون ويسبحون لله القادر على كل شيء، ومن يومها ما من عروس تزف إلا وتقتني نحاسها من محل العمري. وآل الخير كله لحسين بك العمري زوج زينب هانم، وشيد الرجل سراياه في درب قرمز، وأنجب فاطمة الجميلة وثلاثة ذكور.
وكانت زينب هانم وأمي يتبادلان الزيارة، فتجيء الهانم وحدها دون فاطمة وتذهب أمي وحدها بدوني رغم توسلاتي الباكية. وبقدر ما كانت تعجبني عينا زينب هانم إلا أن جسمها الضخم كان يخيفني. ومن عجب أن الحارة كانت أسرة كبيرة واحدة لا تعترف بالفوارق الطبقية. أجل، لم يكن التزاور ممكنا بين الربع والسراي، ولكن السرايات كانت تفتح أبوابها لأهل الربع في رمضان والأعياد، يجلسون في الحديقة، ويأخذون حظوظهم من اللحوم والكعك ويستمعون لتلاوة القرآن من كبار القارئين. وكشفت أم أحمد عن جانب من دورها في سراي آل العمري، فقالت إنه بفضلها استقرت الحياة الزوجية بين حسين بك وزينب هانم، وبفضل وصفاتها النادرة تمادت المرأة في العظمة حتى حاكت المحمل السلطاني، وقالت وهي تقهقه: وهي اليوم تضرب زوجها باليد والعصا!
وذهلت أمي فقالت أم أحمد مستدركة: بالدلال والحب!
ليس كالضرب الذي نستعمله! أي نوع من الضرب ذاك؟! - وهذا اللحم الأبيض الذي تغوص اليد بين طياته الطرية من صنع يدي!
مرة أمرت الحنطور أن يتوقف حيالي وأنا ألعب في الميدان، ومدت لي يدا بضة بذراع مطوقة بالأساور الذهبية لتهبني قطعة من الملبن بالقشدة، فتناولتها فرحا متلقيا في ذات الوقت مما ذقته من عبير جميل نافذ كأنه عصير مركز لحديقة ورد، وكم شغفتني زيارات الهوانم بهداياها اللطيفة اللذيذة! - ووددت أن أسرع في تسمين فاطمة، ولكن أمها أجلت إلى ما بعد الزواج.
وتساءلت أمي عما يؤخر زواج الجميلة رغم بلوغها الخامسة عشرة، فقالت أم أحمد: حسين بك مصمم على ألا يزوجها قبل الثامنة عشرة. - ولكنها سن متأخرة يا أم أحمد! - لحسين بك رأيه أيضا، ولكن الاختيار ينحصر في اثنين؛ أحدهما وكيل نيابة والآخر طبيب.
وأحسست على نحو ما بأن فاطمة ستمضي ذات يوم إلى بعيد مثل أخواتي وإخوتي، ولن يبقى منها في أحلامي إلا الشذا. حتى الطفولة المبكرة لم تخل من حسرات على أشياء جميلة ومحبوبة يترصدها الضياع والفناء . ودهمتنا ثورة 1919 ونحن ننعم بالهدوء النعسان. استيقظت بغتة على دوي الهتاف وفرقعة الرصاص ورأيت الألوف الغامضة، حتى أم أحمد رأيتها فوق الكارو تهتف. وزارتنا بعد أيام لتسأل إن كنا رأيناها، كانت تتيه دلالا بالعزة والنصر. - سينصرنا الله على الإنجليز ويتم لنا الإفراج عن سعد .. وهي التي أبلغتنا بعد ذلك باعتقال حسين بك العمري تمهيدا لتقديمه للمحكمة العسكرية الإنجليزية، ولكنه أفرج عنه فيمن أفرج عنهم عقب الإفراج عن سعد، فرجع إلى حارة قرمز رجوع الأبطال. فرشت أرضها بالأكمة وتناوحت في سمائها الثريات والأعلام، وزغردت النساء من وراء المشربيات، وتعالى هتاف الفقراء رغم ما فقدوا من أبناء، ووفت أم أحمد بنذرها، فرقصت أمام باب السراي وهي تنشد: «سلمى يا سلامة.» وحتى مأمور قسم الجمالية جاءه مهنئا، بعد أن اعتقد الجميع أن الإفراج عن سعد ما هو إلا مقدمة للاستقلال التام، وبعد فترة قصيرة حملت المرأة إلينا خبرا مزعجا وهو أن آل العمري استقر رأيهم على الانتقال إلى العباسية؛ حيث اشتروا أرضا فضاء لإقامة سراي كبرى. وتساءلت: أمي هل هان عليهم حقا أن يهجروا الحارة التي هي أصل الخير والبركة؟ فقالت أم أحمد بيقين: بعد عام أو عامين لن تجدي أسرة واحدة من أسر الأعيان في الحارة.
يا له من خبر! .. وكيف تكون الحارة إذا انطفأت أنوارهم؟! - الدنيا تتغير بسرعة، الأحياء الإفرنجية هي الموضة اليوم، والعباسية مترامية الأطراف، وفيها متسع للمستورين أمثالكم. - ونبعد عن الحسين؟! - سوارس تنقلك إليه في نصف ساعة.
وتحقق مع الزمن ما خطر لأم أحمد، فانتقل الأعيان إلى العباسية الشرقية وشيدوا قلاعهم العملاقة، كما انتقلت الطبقة الوسطى «المستورون» إلى العباسية الغربية، فسكن البعض بيوتا صغيرة واشترى البعض ما يناسبه. ولم تتواصل الرابطة القديمة بين الطرفين فسرعان ما تعرضت للوهن والتمزق. لأمر ما شغل كل فريق ببيئته الجديدة، وكأن شارع العباسية الذي يفصل بين الجانبين أصبح سدا لا يعبر إلا في الملمات وقد لا يعبر أبدا. عدنا غرباء أو كالغرباء، بل صرنا مع الزمن أعداء أو شبه أعداء، وحمل إلينا الزمن أفكارا جديدة تكرس العداوة والانفصام، وحتى الانتماء للحزب الواحد لم ينجح في محو تلك الغربة الزاحفة. واعتدت أن أجعل من العباسية الشرقية مرتادي ونزهتي خاصة في أصائل الصيف، أتمشى في شوارعها الواسعة وميادينها الأنيقة، أقلب النظر في القصور الشامخة والحدائق الغناء، وأتذكر أحيانا الجيرة القديمة الحميمة الصادقة التي تلاشت في الفضاء، وأتذكر الوجوه المليحة التي علمت القلب الحب قبل الأوان، أتساءل: ترى أين أنت الآن يا فاطمة؟ .. وهل خلق منك الزمن زينب هانم جديدة؟ وجاءتنا بالأنباء في حينها أم أحمد التي ظلت الرابطة الباقية بين الطبقتين المتباعدتين. حدثتنا طويلا عن تضخم ثروة حسين بك خاصة بعد الحرب، وعن إشراك أبنائه الثلاثة معه في المصنع والمحل، وإصهارهم الموفق إلى أسر من طبقة الباشوات، أما فاطمة فقد تزوجت من وكيل النيابة. ووجدتني قد نسيت صورتها تماما، فلم يبق في خيالي إلا نفحة من جمال مجرد وصدى صوت رخيم شديد التأبي والتمنع على الذاكرة. وعلمنا أيضا بإصابة زينب هانم بالسكر وكيف استفحل معها المرض لعجزها عن الانضباط أمام إغراء الحلوى. أجل، فقدت الهانم بصرها في الخمسينيات، ثم ماتت في الأسبوع الأول لقيام ثورة يوليو. والحق أن الثورة لم تمس آل العمري بسوء، ولعله كان من حسن حظ حسين بك أنه هجر الاشتغال بالسياسة عقب انشقاق السعديين عن الوفد، غير أنه شارك أبناء طبقته في خوفهم الثابت وقلقهم الدائم وشعورهم بإدبار الدنيا عنهم. وحديث أم أحمد عن السادة لم يخل أبدا من عطف رغم تعلقها بثورة يوليو وزعيمها. أحبت ثورة يوليو كما أحبت ثورة 1919، ولكن حبها لزبائنها القدامى لم يفتر أبدا، وهي التي قالت لنا يوما بجزع واضح: أما سمعتم عما حدث لزوج فاطمة هانم العمري؟
آه .. فاطمة الجميلة، ماذا حدث لزوجها؟
سافر المستشار في رحلة قصيرة إلى سويسرا، وهناك قابل أحد رفاق صباه وكان هاربا من عبد الناصر ولا يكف عن مهاجمته، ولما رجع المستشار إلى مصر دعي لسؤاله عن مقابلاته لصديقه القديم، ثم لم يظهر له أثر بعد ذلك. - لعله ما زال معتقلا؟ - أبدا .. قيل لهم إن سؤاله لم يستغرق إلا ساعة أطلق بعدها سراحه. - لعله وقعت له حادثة في الطريق؟ - وهل يصعب الاستدلال على شخصية مستشار قد الدنيا؟!
ويسود صمت، ثم تواصل أم أحمد: فاطمة هانم تؤكد أنهم قتلوه ودفنوه في أي خلاء وانتهى الأمر.
اليوم - وبعد رحيل أم أحمد عن الدنيا في الثمانينيات - لا أعرف شيئا عن آل العمري، ولعله لا يهمني أن أعرف شيئا، ولكني قرأت هذا العام نعي فاطمة الجميلة في الأهرام. ولم يمض الخبر بلا حزن ولكنه حزن من نوع خاص، لا كالحزن على الأقارب أو المعارف أو الأصدقاء. إنه حزن يتأدى كأنه شعيرة تتلى في محراب الوجود على لا شيء أو على كل شيء. ثم قرأت عنها رثاء جميلا في إحدى المجلات النسائية بوصفها من رائدات رعاية الطفولة، تلك الرعاية التي بدأتها بتلقائية معي، فحفرت أثرها الطيب في أعماق قلبي.
وآل سعادة بعد آل العمري يومضون في غياهب الماضي الجميل، تقوم دارهم كالقلعة فيما وراء القبو الأثري العتيق. هناك يطالعك جدار عال مركب من أحجار كبيرة تاريخية، أما مدخله فيفتح على عطفة جانبية. ورؤيتي لآل سعادة تتم عادة وأنا في الحارة عندما يخرجون من جوف القبو في طريقهم إلى ميدان بيت القاضي، تنطق وجوههم المشعة بأصولهم الشركسية. هذا عبد الحميد بك سعادة، رب الأسرة، بقامته العالية، وعوده النحيل، ووجهه الأبيض المشرب بحمرة، وعينيه الزرقاوين، وأنفه الحاد الطويل المقوس، يرفل في بذلة إفرنجية وعمامة بيضاء، متوكئا على عصا سوداء ذات مقبض ذهبي، صارم النظرة، متعالي الهيئة، ينظر أمامه، لا يعنى بما حوله. يبث حيث يسير الخوف فيستقبله الاحترام وتتبعه الكراهية، وهذا بكريه الشاب فاضل سعادة ينور المكان بلمعانه وبسحره، بأناقته وحسنه وثيابه الفاخرة. وهؤلاء بنات سعادة الثلاث، بين الطفولة والصبا، جميلات فاتنات ساحرات، يسرن صفا إلى الميدان لشراء الشيكولاتة والدندورمة، يذهبن بلا مرافق ويعدن بلا مرافق غير مباليات بتقاليد الأسر الكبيرة والمتوسطة، وجمالهن يشفع لهن عند الرأي العام الرافض لتعالي الأسرة وعزلتها. أما ربة الأسرة فلا ترى أبدا راكبة أو راجلة، دائما معتصمة بالقلعة وراء الجدران والستائر. كم ولعت عيناي بالجميلات الثلاث وخصوصا الصغرى، وكم حلمت بأن ألعب معهن تحت القبو أو فوق السطح ولكنهن كن يذهبن بسرعة الأحلام ويبقين في النفس بقوة الخيال. وآل سعادة يمثلون البطالة المستغنية عن العمل، المعتمدة في معيشتها على الأوقاف، يقضي الأب وقته بين الكلوب المصري والمقاهي الكبرى في وسط المدينة، ويقنع فاضل بالحصول على الابتدائية. ولا يشك أحد في ثرائهم الكبير، إلا أم أحمد التي تقول وتعيد: إنهم أصحاب أصل ولكن ثراءهم دون ما يظن الناس بكثير .. وعزلة ربة البيت ليست نتيجة للتقاليد أو الكبرياء وحدها، ولكنها ردة فعل لحزن عميق. - الحزن؟!
تتساءل أمي، فتقول أم أحمد: الرجل طول عمره عينه زائغة! .. وذوقه قذر لا كمظهره .. يجري وراء الخادمات والساقطات، وزوجه والحق يقال بنت ناس، وآية في الجمال! - وطبك المجرب يا أم أحمد؟ - منع الطلاق ولكنه لم ينج من القدر، وقد جربت سلطانة هانم الرشاقة ثم نفختها حتى فاقت زينب هانم في الحجم، ولكن المكتوب مكتوب.
وتفكر قليلا ثم تواصل: ولكنها انتقمت من الرجل وهو لا يدري، فخانته كما يخونها. - ولكنها لا تغادر القلعة أبدا!
فتقول أم أحمد مقهقهة: لا يتعذر على اللبان أن يتنكر في زي امرأة ويندس إلى الحريم.
وفاخرت أم أحمد بأنها الوحيدة في الحي التي تصافح عبد الحميد بك سعادة، والتي يقول لها دون تأفف: كيف حالك يا أم أحمد؟
ولعلها الأسرة الوحيدة التي شهدت ثورة 1919 من بعيد، دون اشتراك من أي نوع كان.
وبعد أشهر من قيام الثورة توفي عبد الحميد بك، ولم يشيع جنازته سوى نفر من ذوي القربى وشيخ الحارة، ولم يشترك رجل أو امرأة من حارتنا في العزاء. ولمحت البنات الثلاث وهن يبكين في نافذة ففاضت دموعي، وسرت وراء المشيعين القلائل حتى جامع الحسين. ولم يكن شيء يثير خيالي وأفكاري مثل الجنازات، وشهدت جنازات معدودة لشبان الحارة الذين استشهدوا في أوائل الثورة، وصدقت حرفيا الهتاف المعروف: «فلان حي لم يمت.» وكنت أتوقع أن أراه يعمل ويسير كما كان يفعل من قبل، وتساءلت عن ذلك دون جدوى. وعلى أي حال، حل فاضل مكان أبيه، وما لبث أن هاجر إلى العباسية، ولكنا سمعنا أن الأسرة اشترت بيتا فوق المتوسط بغمرة ولم تشيد قلعة جديدة في العباسية الشرقية، فتبين لنا صدق رأي أم أحمد في درجة ثرائهم. انتقلت الحارة إلى العباسية ولكن لتعيش في دويلات مستقلة. ولولا أم أحمد ما عرفنا بزواج فاضل من كريمة وكيل الداخلية.
رضي به زوجا لابنته، بعد أن رفض يد طبيب فلاح!
وتزوجت كبرى البنات من صائغ غني بالصاغة، والوسطى من وكيل نيابة، أما الصغرى وهي أحبهن إلى قلبي فقد عشقت موظفا بسيطا وأصرت على الزواج منه رغم معارضة الأم والأخ وبقية الأسرة، وقد أقامت معه في بين الجناين لا يفصلهما عن بيتنا إلا خطوات، وهي الوحيدة التي كنت أصادفها في الطريق فنتبادل نظرة عابرة ولكن مترعة بذكريات الماضي .. وقدر لي أن أرى بكريها الجميل وهو يلعب في الشارع أو في الحدائق التي تكتنف الحي وتسكب عليه عبيرها، وطبعا لم أتصور المستقبل المثير الذي كان ينتظره بمنحنى التاريخ. ولما قامت ثورة يوليو مرت بآل سعادة بسلام، بل حل الوقف وأصبحوا أحرارا في التصرف في أملاكهم. وعلمت أن الصبي الصغير ابن البنت الجميلة الصغرى من الضباط الأحرار، بل والمقربين. واختير لوظيفة في المخابرات وسرعان ما جرى اسمه على كل لسان، واكتسب سمعة مخيفة لا تكون إلا لشيطان! وجعلت أقارن بين ما يقال عنه من حقائق وأساطير وبين صورة صباه الجميلة الوديعة، وأتساءل وأتعجب. ورحت أسأل أم أحمد عن رأيها في ذلك فأرسلت قهقهتها العظيمة، وقالت: صدق من قال: إن الأتراك فيهم عرق جنون.
وكانت أسرته قد انتقلت بعد الثورة من بين الجناين إلى المعادي، ولم أعد أرى من أفرادها أحدا، ولكن أم أحمد حدثتنا عن استقالة الأب من الحكومة ليشغل وظيفة في شركة، وأنهم يتوغلون في العز والجاه بسرعة الإكسبريس. وعلى أي حال فقد اندمج آل سعادة أخيرا في الوطنية المصرية ، بل الوطنية الثورية!
إلى يسار قلعة آل سعادة، وعلى مبعدة خمسين مترا تقوم سراي آل البنان. أرى علي بك البنان كل يوم في دوكاره وابنه الصغير محمد صديقي وزميلي وربة السراي فردوس هانم حبيبة أمي وأقرب الجميع إلى قلبها> وعلي بك طويل القامة، غامق السمرة، ذو مظهر جذاب في جبته وعمامته البيضاء، يمضي به الدوكار كل صباح من السراي إلى الطاحونة في مرجوش. هو أتقى الأغنياء بالحارة وأبرهم بالفقراء وأجودهم بالابتسامة، وفي سراياه يقام ذكر كل أسبوع يؤمه جمع من أهل الطريقة الشاذلية، وتقول عنه أم أحمد: علي بك غني وما غني إلا الله.
ثم ترجع إلى التاريخ بصوت منخفض قائلة: كان أبوه يسرح بالبن على باب الكريم، وفتح دكانا صغيرا في الخرنفش، وقامت الحرب، فأمر الله بالثراء ولا راد لأمره. ومات الأب فأنشأ سي علي الطابونة، وشيد السراي، وتزوج من فردوس هانم بنت أكبر حلواني في الحي، وأنجب البنات كالأقمار، ثم جبر الله بخاطره فأنجب محمد على كبر.
أهل حارتنا لا فرق فيهم بين غني وفقير وهم يعترفون بفضل الله عليهم ولا يتنكرون لأصلهم، ودعك من آل سعادة فهم مجانين من ذرية مجانين!
محمد الصغير كان قريني في اللعب في الميدان وفي قطف ذقن الباشا من أشجار البلخ. ودخلنا الكتاب معا فمكث فيه عامين أكثر مني لينقطع بعد ذلك عن التعليم ويمارس العمل في الطاحونة والمحل تحت رعاية أبيه، بدأ العمل في العاشرة، وقرر علي بك أن يشعره بالرجولة قبل مجيئها فألبسه الجبة والعمامة وعامله بجدية تفوق ما يحتمل عمره. وأذهب إلى مرجوش كلما سنحت فرصة لأشاهد صديقي من بعيد وهو يعمل، فنتبادل البسمات الخفية بعيدا عن أنظار أبيه. وعند فراغه من عمله يرتدي جلبابه ويهرع إلي في الميدان لنلهو بألعاب الصبيان. ولما قامت ثورة 1919 شارك علي بك فيها بماله وقلبه ولسانه، واعتقل في يوم واحد مع حسين بك العمري، ولكنه واصل نشاطه السياسي بعد ذلك حتى انتخب عضوا في أول مجلس نواب بعد الثورة، وحافظ على عضويته في جميع البرلمانات الوفدية حتى آخر برلمان قبل ثورة يوليو. وعقب الثورة انتقلت الأسرة إلى سراي جديدة بالعباسية الشرقية، وزوج الرجل ابنه محمد وهو ابن خمسة عشر عاما، وأحيا فرحه صالح عبد الحي وبمبة كشر.
ولم ينقطع ما بيننا وبين آل البنان بالسرعة التي انقطع بها ما بيننا وبين الآخرين، ولكنه انقطع على أي حال. والظاهر أن روح الألفة والتضامن المنبثة في الحارة تتلاشى في الأحياء المترامية. إلا تراث أم أحمد من الخدمات والأساطير فهو باق لا يقتلع من صدور الناس على اختلاف طبقاتهم. ويكتسب أهميته المتجددة من ينابيع الحب والجنس والأحلام الخالدة. وهي أم أحمد التي أخبرتنا على المدى بزيجات بنات البنان؛ واحدة من محام، والثانية من مهندس ري، والثالثة من وكيل وزارة، وأن الأولى شهد زفافها سعد زغلول كما شهد زفاف الأخريين خليفته مصطفى النحاس، ولكن المجتمع تغير في علاقاته وتياراته وأفكاره، واحتدم الجدل والخصام بين أجياله، حتى قامت ثورة يوليو لتواجه التناقضات الجديدة قبل أن تجتاحها ثورة شعبية جائحة. ووجد علي بك البنان نفسه في مرمى مدافع التغيير الثوري، وحمل من سراياه إلى أعماق السجون وهو لا يدري لذلك سببا، ثم وضع تحت الحراسة، فران على الأسرة ستار أسود من الحزن والغم، وانفجر شريان في رأس الرجل فرحل عن الدنيا مستعيذا بالله من الناس وشر الناس، على حين انزوى ابنه محمد في ذعر مقيم. وتصورت أم أحمد أن تلك الأحداث يدبرها رجال عبد الناصر من وراء ظهره وتمتمت متنهدة: عيني عليك يا علي بك يا أمير وعلى أيامك الحلوة.
ولحقت فردوس هانم بزوجها بعد رحيله بعام، ولكن محمد البنان استرد نشاطه في عهد الرئيس السادات، وعاونه الانفتاح فعوض خسائره وضاعف ثروته، بل وتردد اسمه في صحف المعارضة باعتباره من وحوش الانفتاح، فأي حياة وأي سخرية من عجائبها؟! •••
آل المرداني يشكلون الأسرة الرابعة من أعيان الحارة، وتقع سراياهم عند طرف الحارة الآخر المتصل بين القصرين. وتقسم أم أحمد أنها رأت أباه المرداني الكبير يتجول في الحارة حافيا. - ولكنه الحظ والشطارة والحرب!
على أي حال نشأ عباس بك المرداني من كبار تجار الجملة في العطارة، وهو الذي شيد السراي التي تعتبرها أم أحمد أجمل وأفخم سرايات قرمز! - أما زوجته فرحة هانم فهي من أصل مملوكي، جميلة، وما جميل إلا سيدنا محمد.
فتقول أمي: جميلة نعم، ولكنها لا تخلو من عنطزة! - المال كثير يا حبيبتي. - أهم أغنى من البنان؟ - عباس بك المرداني أغنى رجل في الحارة.
وتسكت مليا ثم تواصل: لم ينجب إلا ولدين وانقطعت الهانم عن الحبل لداء احتار الأطباء فيه! - وماذا فعلت أنت يا أم أحمد؟ - فعلت الكثير، ولكن إرادة الله فوق كل إرادة!
وكان عباس بك ضخم الرأس والوجه، غليظ القسمات، بدينا لحد الإفراط، ولكنه كان كريما محسنا وابن نكتة، وكان سلاملك سراياه صالونا للظرفاء وذوي الحناجر الطيبة من الهواة وصغار المحترفين. ولما قامت ثورة 1919 أيدها بماله، ولكنه لم يكن ذا استعداد للاشتراك في الشئون العامة مثل حسين بك العمري وعلي بك البنان. واقتحمت الثورة سراياه وهو لا يدري فانتزعت منه بكريه محمود الطالب بالزراعة العليا، حيث قتل في إحدى المظاهرات. وقالت أم أحمد: لم يبق له إلا شاكر، وكثيرون ينصحونه بالزواج من أخرى. - مسكينة فرحة هانم! - وحزنها فاق كل حد، ربنا يصبرها!
وانتقل عباس بك المرداني إلى العباسية الشرقية كآخر الأعيان المهاجرين، ولوعه الشديد بالهانم زوجته نبذ فكرة الزواج من أخرى، وكان أول من اقتنى سيارة .. «فيات» من الأعيان، وكانت تثير الخواطر إذا مرقت في شارع العباسية في ذلك الزمان بسحرها الخاص وأزيزها الذي يكدر الهدوء الشامل. وانتهت حياة عباس بك نهاية درامية مأساوية في الثلاثينيات وهو في غاية الصحة والعافية والحيوية. وكان يهم بدخول شيكوريل فأصابته رصاصة طائشة في معركة نشبت بين يونانيين فجرت مأساته على أوسع نطاق. وكان شاكر بك ابنه قد أصبح محاميا فصفى تجارة والده، وأخبرتنا أم أحمد أنه تزوج من فتاة بارعة الجمال تمت بصلة القربى للسلطان عبد الحميد.
وقد انضم شاكر بك إلى الوفد، وتجلى نشاطه في الصحافة والبرلمان، ولكنه انضم إلى السعديين عند انشقاقهم وتقلد الوزارة مرتين، ولما قامت ثورة يوليو اعتقل أكثر من مرة وفي مناسبات مختلفة، ثم وضع تحت الحراسة فهام على وجهه كالمجنون. وكانت أم أحمد ترثي لحاله وحال أسرته وأمه ولكني عرفت عنه أشياء .. من بعض الصحفيين، لم يكن من المستطاع أن تبلغ علم أم أحمد. قيل - والله أعلم - إنه عمل مرشدا للمخابرات، وقيل إنه وضع نفسه في خدمة بعض من العرب كقواد دون لبس أو إبهام، وإنه بهذا وذاك أمن المزيد من العسف وكون ثروة كبيرة. وكانت تلك الثروة دعامته في عهد الانفتاح، ليقفز إلى درجات خيالية من الثراء. اليوم الظاهرة الغالبة عليه هي التدين، وكأنما يكفر عن تناقضات حياته الحافلة بالألم والذكريات الأسيفة.
خطر لي ذات يوم أن أزور أم أحمد بعد انقطاع طويل. وجدتها في بيتها مع ابنتها المحالة إلى المعاش بعد خدمة كاملة في التعليم. كان بصرها قد كف وقدرتها على الحركة قد ولت. ولما عرفتني فتحت لي ذراعيها بحرارة وشوق، ثم جلست على كرسي جنب فراشها. لعل لسانها هو العضو الوحيد الذي بقي محافظا على حيويته، ورحنا نتذكر ونتذكر ونقلب صفحات الماضي البعيد والقريب. جلنا معا في جنبات عالم حافل بالأموات، ألا ما أكثر الراحلين! كأن الوجوه لم تشرق بالسناء والسنا في ظلمات الوجود، وكأن الثغور لم ترقص بالضحك، ها هي راوية الحكايات وطبيبة الحب والجنس والسعادة ملقاة على الفراش القديم تشكل عبئا يوميا على أقرب الناس إلى قلبها. وما قيمة الحكايات يا أم أحمد وهي تتكرر بصورة أو بأخرى قبل أن تلقى نفس المصير؟ وقد عبرت الحارة من أولها لآخرها وانغمست في العطر القديم. رأيت قلعة آل سعادة مغلقة مهجورة كالبيت المسكون، أما السرايات الأخر فقد صارت إحداها مدرسة، والثانية مستشفى، والثالثة مقرا للحزب الوطني. وتنبثق من الماضي أصوات وألوان ونبضات قلب، فأقول لها: لقد جمعتنا هذه الحارة ذات يوم ثم فرقت بيننا الأيام، فإلى اللقاء في المقر الأخير.
صباح الورد
لم يبق من شارع الرضوان القديم إلا موقعه ما بين شارعي العباسية وبين الجناين، ويحتفظ أيضا بميل سطحه الطبيعي من مرتفع الشرق إلى منخفض الغرب، غير أن بيوته قد انقلبت عمائر، وتحولت الحقول والحدائق إلى أرض فضاء تباع فيها الخردة ومخلفات السيارات. وحل سكان جدد لا يحصيهم العدد مكان سكانه القدامى الذين تشتتوا في الأحياء أو استقروا في جوف الأرض. كان يستكن في حضن الهدوء الشامل، محاذيا في حبور الحقول والحدائق، يثمل بمناجاة يومية مع أشجار الحناء والياسمين والتين والخضروات، وخرير السواقي، مزهوا ببيوته المهندمة ذات الحدائق الخلفية الصغيرة. في الشتاء تسقفه السحب وتتجهمه وجوهها المكفهرة، وحتى إذا أمطرت مطرة واحدة سال سطحه المائل بالمياه الجارية لتتجمع في شارع بين الجناين صانعة نهرا منه يفور بالزبد. وفي الصيف تلهبه الشمس فتنطلق من صنابير جدرانه خراطيم المياه ترش الأرض مهدهدة حرارتها الحامية. وينظر القادم من الحي الشعبي العتيق فيما حوله بدهشة وسرور، ولا يجد في قاموسه وصفا للشارع والبيوت والناس إلا أنه شارع إفرنجي وبيوت إفرنجية وأناس متفرنجون، لا ينقصه إلا القبعة واللغة الأجنبية. ومع ذلك فقد ترى القبعة فوق شعر مقصوص ألاجرسون، أو تسمع الفرنسية في حوار عابر، وقد نطق صبيانه بجملة: «أحبك وأعطني قبلة.» بالفرنسية قبل أن يتعلموها في المدارس بسنوات طويلة.
واستقرت أسرتي في بيت من البيوت في منتصف الجناح المطل على الحقول، أمي وأبي وأنا، أما الإخوة والأخوات فقد هاجروا هجرة دائمة إلى بيوت الزوجية. والنقلة من الجمالية إلى العباسية في ذلك الزمان تعتبر وثبة من القرون الوسطى إلى أعتاب العصر الحديث. توارت الحارة والأزقة بعبيرها العنبري ومصابيحها الغازية وعرباتها الكارو وملاءاتها اللف والجبب والقفاطين والعمم. وتلقانا الرضوان، ملتقى الريف والمدينة، بعصرية مقتحمة مهديا إلينا المياه والكهرباء والصرف الصحي، وسرعان ما استبدلت بالجلباب البيجاما، والكرة بالسيجة والجري وراء عربة الرش، كما كتب علي أن أرى السيقان والأعناق لتتفتح على إيقاعاتها مراهقتي. كنا أول من هاجر من الطبقة الوسطى الصغيرة، في إثر أعيان الحارة الذين سبقوا إلى العباسية الشرقية فشيدوا القلاع وغرسوا الحدائق. وكان والداي قد فارقا الشباب بعقد أو عقدين من السنين، والحق أن فرحتهما بالحياة الجديدة شابها اكتئاب وحنين، ولم يستطيعا التحرر من هيمنة الحي القديم على قلبيهما، من أجل ذلك لم ينقطع أبي عن حيه، أناسه ومقاهيه، وكذلك أمي واظبت على زيارة الحسين وجيران الزمان الأول، وربما سألت أبي في عتاب: لماذا هجرنا بيتنا القديم؟
أما أنا فقد انقسمت إلى اثنين، تكيفت مع الجديد وأصدقائه ومجالسه وعصريته، وكلما سنحت فرصة للرحلة للحي العتيق انتهزتها حتى جرفت معي الأصدقاء الجدد فاكتشفوا على يدي عالما غريبا، عشقوه، وأقبلوا عليه كالسائحين. على أي حال فلن يطول حديثي عن بيتنا أكثر من ذلك، ولي عودة إليه إن شاء الله في حينه. أما الآن، وسأقتنع بأن أكون ترجمان الرضوان فيما لديه من قصص. هو صاحب الحكايات الأول؛ فهو الذي ضم البيوت يمينا وشمالا، وعلى سطحه التقى الصبية ليبدءوا عهد صداقة دائمة، وفي أركانه ذهب الأبطال وجاءوا، وفي جنباته تطايرت الأخبار وانتشرت، ولو لم يصدق من رواياته إلا نصفها لكفى، بالإضافة إلى أن الزمن كان ينقيها من الشوائب ويسندها بالشواهد، والعبرة في النهاية بما يقال لا بما حدث، ورب كذبة أصدق من حقيقة، فاستمع إلى شارع الرضوان ولا تكن من المتشككين.
آل إسماعيل
يقوم بيتهم في آخر الشارع من ناحية بين الجناين، في الناحية المطلة على الحقول، وهو يماثل أكثر البيوت بهندسته الأنيقة وحديقته الخلفية، ولكنه بحكم موقعه يطل على الحقول وشارع بين الجناين وشارع الرضوان، ويمتاز بدرجة عالية نوعا بأثاثه واستخدامه لطاه مع الخادمة وهو ما يعد من الاستثناء النادر. وتتكون الأسرة من جمال بك إسماعيل - ولا أدري إن كانت رتبته رسمية أم بالشهرة - الموظف بوزارة الأوقاف، وزوجته كريمة هانم وذريته الجميلة مديحة وسامية وعثمان. أسرة ناجت وجداننا حتى نفذت إلى أعماقه. الأب ربعة كبير البطن كث الشارب، مهيب الطلعة، لامع الحذاء والعصا، إذا مر أوقفنا اللعب وتلقينا نظراته الغاضبة في سكون وامتثال. وربما صاح بنا: بدل اللعب والقرف روحوا سقفوا عقولكم!
ينطق «سقفوا» لا «ثقفوا»، فنغرق في الضحك بعد ذهابه ويقول قائلنا: ما هو إلا بغل فخم!
أما كريمة هانم فتسير مختالة بحسنها، متبخترة بلحمها الجسيم كالمحمل، وأما مديحة وسامية فما أجمل ما يشف عنه النقاب من جمالهما الغض، حتى عثمان تميز بالجمال ولكن رقته الأنثوية جرت عليه التعليقات الساخرة الحادة. وترفع عن صداقتنا لفارق عمر بسيط، وكم عبر بنا دون أن ينظر إلينا. واشتهرت كريمة هانم في أوساط الأسر بالخفة، وتمتعت في حياتها بقدر لا يستهان به من الحرية، فكانت تصاحب زوجها إلى المسرح والسينما، وتحكي للنساء عن منيرة المهدية ومسرحياتها الغنائية، وطالما قالت عنها والدتي: سيدة طروب ودمها شربات، ولا نهاية لنوادرها المسلية!
وكنا نرى مديحة وسامية كثيرا لدى عودتهما من مدرسة سان جوزيف بالعباسية الشرقية، كما كنا نعرف أن عثمان يتعلم في مدرسة الفرير. ووجد في شلتنا من ينتقد سلوك الأسرة ومنهجها في الحياة: جمال بك أسد علينا ولكنه نعامة أمام زوجته، فيرافقها إلى السينما والمسرح.
ونختلف على المدارس الإفرنجية التي ألحق بها أبناءه؛ فمنا من رأى في ذلك نقصا في الوطنية، ومنا من أثنى على التعليم في تلك المدارس، وكنا جميعا نشعر بدرجات متفاوتة من الغيرة وننفس عليهم طلاقتهم في التحدث بالفرنسية.
باختصار كانت الأسرة موضع إعجابنا واستفزازنا؛ لذلك رحبنا بأن نسمع عنها ما يسيء. ولعل صديقنا عبد الخالق كان مصدر الهمس الأول بحكم جوار بيته لبيت آل إسماعيل، قال ونحن مجتمعون عند رأس الشارع حيث ملتقاه بشارع العباسية: مديحة بنت جمال بك إسماعيل هربت!
وحدقنا به ذاهلين، وفي غاية من الانفعال: غير معقول! - حصل، هربت مع محام شاب!
حلق بنا الخبر في جو الأساطير وألف ليلة، وواصل عبد الخالق: ولكنه تزوج منها! - ليس خبرا ولكنه لغز! - لا أزيد عما سمعت حرفا.
الأسرة هي هي لم يتغير لها حال، الأب يمضي في مهابته والأم في دلالها وعثمان في رشاقته وغرابته، ولكن الشارع يتلقى التفاصيل والأسرار. قيل إنه تقدم لطلب يد البنت كثيرون وإنهم قوبلوا جميعا بالرفض، لم يملأ أحد منهم عين جمال بك .. هذا فقير، وذاك شهادته دون المستوى، الثالث أهله على غير ما يرام، الرابع أخلاقه كيت وكيت .. حتى يئست الجميلة من ناحية أبيها، فما إن مال قلبها إلى المحامي الشاب حتى اتفقا على الهرب والزواج. لم تقم حفلة للخطبة ولا للدخلة، ولم تقدم شبكة أو هدايا، ولم يتفق على مهر، ولكن الشاب أثث شقة صغيرة وبنى عشه. وبدا أول الأمر أن مديحة قد انفصلت نهائيا عن أسرتها، ولكن القطيعة لم تدم طويلا، وتوسط أهل الخير فرجعت الأمور إلى مستقرها، وخفقت القلوب بالحب والرضا.
وبعد انقضاء حوالي عام ما ندري إلا وعبد الخالق يقول ضاحكا: سامية بنت جمال بك هربت مع ضابط جيش!
وشاركناه الضحك هذه المرة. - البك الغبي لا يريد أن يتعلم! - إنه ولا شك مجنون.
وكررت حكاية سامية حكاية مديحة. الهرب والزواج وبناء العش والقطيعة، ثم الرجوع إلى المستقر والرضا كأنما كانت الأسرة تخلق تقاليد جديدة للحب والزواج. غير أن شائعة غريبة تمطت في الشارع، دعمها عبد الخالق وعم فرج بياع الدندورمة والحلوى، وصادفت هوى شاملا لتصديقها؛ قيل إن حوادث الهروب لم تقع مصادفة، ولكنها جاءت نتيجة تدبير حكيم من جمال بك إسماعيل، ليزوج كريمته دون أن ينفق مليما، لا عن بخل، ولكن لأنه كان ينفق مرتبه كله على رفاهية أسرته والمظاهر الجذابة دون أن يعمل حسابا لغد. لم يستطع أن يدخر نقودا أو يقتني ملكا، فدأب على رفض الخطاب حتى اضطر مديحة وسامية إلى الهرب وتم له ما أراد. كلام قيل وصدق، ولا يعز على التصديق خبر رديء، ثم إنه لا دخان بلا نار. وعلى أي حال كنا نعيش في جو يقطر كذبا وادعاء؛ كل فرد يروي الأساطير عن أسرته وتاريخها، كل أسرة يتسلل أصلها من منبع عريق كان له شنة ورنة على عهد محمد علي أو المماليك أو عهد الرسول نفسه. أما أكاذيب النساء فحدث عنها ولا حرج، وهي تقبل دون مناقشة وإن انحشرت في الحلق كالشوكة؛ ولذلك ما إن تنفجر إشاعة مسيئة كإشاعة زواج مديحة وسامية حتى تقابل بالتصديق والارتياح الخفي. أما نحن - المراهقين أو شبه المراهقين - فكان الجانب الجنسي هو الذي يثير اهتمامنا. انتهاء الهروب إلى الزواج خيب آمالنا وفتر خيالنا وشتت أحلامنا. وددنا لو تقلد الحياة الفن ولو مرة وأن نشهد تمثيلية من تمثيليات يوسف وهبي في شارع الرضوان. ويجري الحوار المحموم بيننا: هل تظن أنه لم يحدث شيء قبل مجيء المأذون؟ - البنت القادرة على الهرب قادرة على كل شيء! - تخيلوا ذلك الجمال النادر عندما تجرد من ملابسه.
وماذا نتخيل إن لم نتخيل ذلك؟! لم ينج أحد منا من سحر مديحة أو سامية أو كلتيهما معا. وكان غيابهما من شارع الرضوان مثل كسوف الشمس أو خسوف القمر، وهيهات أن يسلي عنه الخيال أو قراءة الأشعار الحزينة. لم يبق لنا من آل إسماعيل إلا كريمة هانم، وكان حجمها يخيفنا، وجمال بك الذي يتبادل معنا نفورا ثابتا، وأخيرا عثمان المثير لإعجابنا واستفزازنا وسخريتنا إذا وقفنا اللعب حتى يمر شكرنا قائلا: مرسي مسيو.
فيفجر بعد ذهابه عاصفة من السخرية، وكان يدعو أصدقاء متفرنجين مثله ويجتمع بهم في منظرة البيت. وكان بينهم عازف بيانو يتقن عزف المقطوعات الإفرنجية، فكان يترك في نفوسنا أسوأ الأثر والغضب. أجل كنا نتطلع إلى الفرنجة في نواح أخرى فنقرأ الأدب الغربي المترجم، بل حاولنا أن نتعلم الرقص وخاصة الشارلستون والطانجو، أما الموسيقى فلم يكن من الميسور هضمها. وفي رمضان لم يكن عثمان يبالي أن يسير والسيجارة في فمه! وقالت لي أمي: كريمة هانم لا تصوم أيضا! - وجمال بك؟ - لا أدري ولكن المعقول أنه يصوم.
وتذكرت مساحة بطنه التي تشبه خريطة آسيا فلم أصدق أنه يصوم.
المهم أنه في أوائل الثلاثينيات - وكنا في ختام المرحلة الثانوية - سافر عثمان في بعثة إلى فرنسا، وبعد أشهر دهمنا خبر فظيع وهو أنه اضطر إلى إطلاق الرصاص ليسترد نقوده التي خسرها على مائدة قمار، وأنه ألقي القبض عليه. لم نستطع أن نتصور تطور تلك الشخصية البالغة الرقة والتهذيب من العذوبة اللانهائية إلى الجريمة. وخفق قلب شارعنا رغم كل شيء، ثم وردت الأخبار بأنه قضي عليه بالسجن عشر سنوات في جزيرة الشيطان. يا للهول! .. عثمان جمال إسماعيل في جزيرة الشيطان! إنها الجحيم كما رأيناها في فيلم بسينما أوليمبيا، فكيف يتحملها الفتى الهش الرقيق؟ ولم تعد كريمة هانم ترى في الطريق. أما جمال بك إسماعيل فقد غامت نظرة عينيه البراقتين وثقلت خطاه بالهوان. وقيل إنه استشفع بإسماعيل صدقي رئيس الوزراء، ولكن ماذا تجدي الشفاعة أمام القانون الفرنسي؟! وسمعت أمي تقول ذات يوم بتأثر شديد وهي راجعة من زيارة آل إسماعيل: عيني عليك يا كريمة هانم .. ذبلت عيناك من البكاء!
ولكن المأساة لم تستمر كالجرح الذي لا بد أن يذبل فبلغت ذروتها بوفاة البطل السجين. وغيرت المأساة من حياة الزوجين، فكانت الوداع لحياة السرور والضحك. وما ندري يوما إلا وهما يسافران معا إلى الحجاز لأداء فريضة الحج. وفي أثناء الحرب العظمى الثانية رأيت كريمة هانم في مخبأ الشارع الذي كان يجمع بين أهل الحي كل ليلة. رأيتها في ملابس البيت وقد تخلى عنها لحمها ورواؤها، وعلتها أمارات الكبر .. وعند نهاية الحرب هاجرت الأسرة إلى مصر الجديدة فلم تقع عيني على أحدهما بعد ذلك حتى اليوم. وتتابعت الهجرات من شارعنا إلى الأحياء الأرقى، وشق شارع أحمد سعيد وسط الحقول، فسرعان ما اختفت الخضرة والأزهار وحلت محلها في الأرض الفضاء الخردة ومخلفات الحرب. وفي الخمسينيات - وأنا موظف بالأوقاف - رأيت ذات يوم سامية تمضي بصحبة كهل نحو حجرة مدير الأوقاف الأهلية. رأيت أمامي صورة طبق الأصل من كريمة هانم على عهد النضارة والجمال. وقد التقت عينانا في نظرة خاطفة، وأعتقد أن التذكر تبادل حوارا صامتا بين عينينا، ولكنه كان كافيا من ناحيتي لإحياء عشرة طويلة من الماضي الجميل.
آل مراد
يقوم بيتهم في نهاية الشارع من ناحية بين الجناين في ذيل الجانب الآخر من الشارع، فهو يواجه بيت آل إسماعيل. صديقنا من هذه الأسرة هو آخر عنقودها عبد الخالق، وكان يقيم في البيت مع أخت وأخوين. أما الشيخ مراد أبوه وكذلك أمه فقد توفيا منذ سنوات وهو ما زال طفلا. وبترتيب السن كان محمود هو الأكبر، ورتيبة تليه ثم أحمد، وتفصل سنوات غير قليلة بين أحمد وصديقي عبد الخالق، وكانت رتيبة تقوم في البيت بوظيفة الأم خير قيام. وقال لي عبد الخالق إن أخويه موظفان وإنهما قررا ألا يتزوجا حتى تتزوج أختهم رتيبة. ورغم بساطة الحال والمظهر لم أعرف في حياتي شخصا فخورا مثل عبد الخالق. يحدثنا كثيرا عن أبيه الشيخ مراد وكيف كان من شيوخ الأزهر الخالدين، وأمه سليلة مجد عريق، وأن أباها مذكور في تاريخ الجبرتي، وكان يذكر أخويه محمود أفندي وأحمد أفندي باعتبارهما من موظفي الدولة المهمين. وعرفت الحقيقة بفضل بقية الأصدقاء والزمن والشارع، وعرفت أن فخره لم يكن على غير أساس دائما. أجل كانت أسرته الغصن الوحيد العاري في شجرة مورقة بالمجد والثراء. عمه كان يوما مفتي الديار المصرية، وما زال وقتذاك عضوا في هيئة كبار العلماء، إلى مواقف مشهودة تذكر له في ثورة 1919، وخاله كان في تلك الأيام النائب العام، وما أدراك ما النائب العام؟! وثمة خال آخر يعد في الصفوة المختارة من تجار البلد. إذن ففخره لم يكن بلا أساس يعتمد عليه، ولكنه كان يغالي فيه لدرجة جرت عليه بعض السخرية. وكان ينتهز فرصة نشر أي نعي خاص بأسرته لكي يتلوه علينا بالأسماء المدوية المذكورة فيه، ولكننا لم نشهد يوما أحدا من أولئك الرجال العظام وهو يزور بيت صديقنا المنعزل في شارع الرضوان. وعرفت بعد ذلك حقيقة أخويه الموظفين، فإذا بهما من صغار الموظفين، محمود أفندي بالابتدائية، وأحمد أفندي بالكفاءة. وكان عبد الخالق ذا وجه مستدير وشعر أسود عميق السواد، وأنف أفطس، وعينين مستديرتين صغيرتين، وكان هو ومحمود أفندي ورتيبة ثلاث صور متقاربة لا تمت للجمال بأي صلة، بخلاف أحمد أفندي الذي انطلق بقامة ممشوقة ولون ضارب للبياض وقسمات متناسقة جذابة. وكان طبيعيا أن يؤجل الأخوان زواجهما حتى تتزوج رتيبة، وحتى ينتهي عبد الخالق من مراحل تعليمه التي تعثرت خطاه فيه ولم تبشر بأي فلاح مرموق. كان الفقر يخيم على الأسرة ويطمس معالم مستقبلها، وربما كانت رتيبة مشكلتها الأساسية لفقرها وجهلها وحرمانها القاسي من الجاذبية والجمال. ورغم ذلك فهي لم تستسلم للانزواء والانطواء، وترددت على أسر الشارع في زيارات انفرادية - متجنبة أيام الزيارات المعروفة - لتتفادى الوجود في مجتمعات السيدات بملابسها البسيطة المتواضعة، ولتلقاهن كذلك في بيتها منفردات فلا تكلفها الزائرة أكثر من فنجان القهوة. وكانت محور الخدمة في بيتها، فلم يشعروا بفقد الأم ولا بافتقاد الزوجة، وراحت تتقدم في السن عاما بعد عام في جو من الصمت والقلق. لا شك أن أحمد كان أسعد أعضاء الأسرة، يسير بالشارع تياها بمنظره فيجذب أنظار البنات والنساء، ويوزع نظراته على النوافذ والشرفات مغلقة بالحذر الواجب. جعل من فن الحب مهنته ولم يخب مسعاه فحرره الحب من البيت الكئيب بما يشبه المعجزة. أحبته أرملة غنية تماثله في السن وعرضت عليه زواجا يناسب حاله؛ أي بدون تكاليف تذكر. وانزعج أخوه الأكبر محمود، وقال له إنه سيتركه وحيدا في السفينة الجانحة ولكنه طمأنه ووعده بأنه سيفيض على أسرته مما سيفيض به الله عليه، وتزوج من الأرملة، وانتقلت به إلى المعادي، كأنما لتستأثر به بعيدا عن أهله. والحق أنه لم يستطع أن ينجز وعدا من وعوده الخلابة، وكاد ينقطع تماما عن أسرته تحاشيا للمشاحنات ووجع الدماغ. وساءت حال الأسرة أكثر وبلغ اليأس أقصى مداه بمحمود ورتيبة، أما عبد الخالق فنتيجة لفشله المتكرر في الدراسة التحق بالتجارة المتوسطة بالابتدائية، وانتهى من دراسته المتواضعة قبل أي واحد منا، وبوساطة عمه أو خاله التحق بوظيفة صغيرة بالمعارف. وبحلول الثلاثينيات نبذ محمود أفندي فكرة الزواج تماما يأسا وعجزا، ومضى ينحدر نحو سن المعاش، ورتيبة جاوزت الثلاثين بخمس واستسلمت لليأس، وآمن عبد الخالق بأنه يسير في نفس الطريق، ولكن كان ثمة مفاجأة في الغيب فقد جاء أولاد الحلال بعريس لرتيبة. في الخمسين من عمره، كان وحيدا وعلى شيء من الثراء والمرض، ولعله كان في حاجة إلى الخدمة أكثر من أي شيء آخر. هكذا تزوجت رتيبة قافزة فوق اليأس والظنون، واستقرت أيضا في بيتها الجديد، وأنجبت قبل فوات الفرصة ولدين أتيح لي أن أرى الأكبر ضابط شرطة والآخر ضابط جيش، وصادفتهما كثيرا في أطوار من العمر في بيت عبد الخالق فكانا يناديانني بقولهما: «يا خالي.» أسوة بخالهما عبد الخالق. والحق أن صداقتنا مع عبد الخالق صمدت للزمن قوية رغم اختلاف المشارب والمذاهب، يحفظها الشارع والمقهى والذكريات. واستقبلنا الحرب العظمى معا، وجمعنا المخبأ كل ليلة، وطالما ناقشنا التغيرات النامية حولنا في الناس والأحوال والأسعار. وكان من السهل ملاحظة الحب الجامح الذي يكنه صديقي لأهله عامة ولابني أخته خاصة، شأن الأعزب المحروم من ممارسة العواطف الحميمة، وأيضا لتطلعه الطبيعي الساذج نحو نفوذ الشرطة والجيش يغطي به هوانه كموظف صغير ضائع بلا مستقبل يعتد به، ولكن سوء الحظ كان يرصده من حيث لا يدري؛ ففي الفترة الحرجة التي أعقبت الحرب استولت مبادئ الإخوان على ضابط الشرطة، وفي خضم الصراع بين الإخوان والسلطة انكشف أمره في مطاردة مثيرة وقتل برصاص الشرطة! قتل الجنود ضابطهم، ولم أعرف هذه الحقيقة إلا من عبد الخالق نفسه، بخلاف ما نشر في الجرائد من أنه قتل برصاص الإخوان في المعركة. وأرسل عبد الخالق لنا كلمة مكتوبة يحذرنا فيها من شهود سرادق المأتم خوفا أن نجر بسبب ذلك التحقيق.
وقال لي فيما تلا ذلك من أيام: حتى بيتنا فتشوه!
وراح يتمتم بنبرة باكية: إنه حظي الأسود!
لم أعرف بين أصدقائي من كان يقارب عبد الخالق في عمق أحزانه أمام الموت، وكان يفوق في ذلك النساء أنفسهن، كما لم أعرف أحدا يماثله في شدة تعلقه بأسرته. أما خاصيته الأخرى فهي إدمانه لشراء أوراق اليانصيب وبخاصة يانصيب المواساة أو سباق الدربي العالمي. وكانت أسعد أوقاته هي ما تمضي بين شراء الورقة وظهور النتيجة، حينما يستسلم لعذوبة الأحلام، في مباهجها الأساسية؛ الفيلا، والسيارة، والمائدة، والعروس. وأحيانا يقول لي متحسرا: يا لخسارة النظرات الضائعة في الهواء!
فأسأله عما يعني فيقول: الجميلات في النوافذ!
ويحكي عن بنات العباسية، كيف يطاردهن بنظراته الجائعة، وكيف يستجبن بأدب منتظرات الخطوات التالية التي لا تجيء أبدا. - العين بصيرة واليد قصيرة!
فأقول ضاحكا: ربما يخبئ لك الدهر حظا كما خبأه لأخيك أحمد!
فيقول محتجا: لا تذكرني بالوغد!
كان عبد الخالق متدينا من نوع ما، يحافظ على صلاته وصيامه ويكثر من الدعاء لعل وعسى، ولكنه لا يتردد فيسكر ليلة الجمعة متجرعا أرخص أنواع الأنبذة بشارع محمد علي، ثم يذهب مترنحا إلى درب طياب. ويتغنى إذا سكر:
الحمد لعلام الغيب،
القادر على أن يملأ جيبي،
وآخذ من الدنيا نيبي،
وأتزوج بفرنسية.
وعلى نقيض شلتنا لم يعرف الانتماء إلى الحركة الوطنية، وبامتعاض يقول: كلهم مهرجون، ماذا فعلوا للبائسين؟!
وتحمل الأصوات على الاستعمار والأجانب، فيقول ساخرا: السياسيون يقاسمونهم الخيرات، ويضحكون علينا بالخطب!
ولا سبيل إلى تغيير رأيه، ولعله الوحيد - أو أحد اثنين - في شلتنا كلها الذي قبع في قوقعة محكمة من الأمية العقلية، فلم ينظر طوال حياته في كتاب أو مجلة - عدا المقررات المدرسية، ولم يستطع أن يفرق بين العقاد المفكر والعقاد التاجر بالسكة الحديد - واكتشفنا في زمن متأخر نسبيا أنه يعتقد أن النيل مرادف للنهر، فيوجد نيل في إنجلترا ونيل في العراق ... إلخ. وكان يغلب عليه الوجوم والكآبة فلا يضحك، ويغني ويرقص وينبسط إلا إذا سكر. وجرى الزمن حتى أقبلنا على الأربعين من عمرنا، وعند ذاك فاجأنا الجيش بانقلابه في يوليو 1952. ورحنا نضرب أخماسا في أسداس كما يقولون، وإذا بعبد الخالق يقول: أي حركة خير من الكرب الذي نعانيه.
وسرعان ما تبين له أن ابن أخته الباقي من ضباط الصف الثاني المقربين، وكاد يطير من الفرح، واهتم بالسياسة لأول مرة في حياته، وراح يقول لنا ضاحكا بغير سكر: إذا لم يقسم لنا أن نكون من الأمراء فنحن من النبلاء!
وآمن عبد الخالق بأن ورقة يانصيبه قد ربحت أخيرا، وأن الدنيا مقبلة على أجنحة الملائكة، وسألته: متى تجيء الترقية؟
فقال بحبور: قال لي - ابن أخته - إن الترقية في الوزارة كثيرة الصخب قليلة الثمرة، ولكنه سيبحث لي عن وظيفة في شركة وبمرتب خيالي .. ولم أعد أرى الضابط الشاب في شارعنا، ربما لانغماسه في واجباته الجديدة، وكان يزور خاليه أحيانا مستترا بالليل فيطمئن عليهما ويعدهما خيرا ثم يذهب دون أن يدري به أحد. وقد صادفته ذات صباح وأنا ذاهب إلى عملي وكان يغادر دار الإذاعة بشارع الشريفين إلى سيارة عسكرية تنتظره. هممت بالسلام ولكنه مضى وكأنما لم يرني، اندلق علي جردل ماء بارد. لا يمكن أن يتجاهلني، إنه في شغل شاغل بأفكاره فلم يرني، ولكن لشد ما تغير في أيام معدودة؛ تلبسته هيئة عظمة لا أدري من أين جاءته، ومضى وكأنه صاحب الأرض ومن عليها. وتذكرت بذهول تواضعه وبساطته وعذوبته وسذاجته الثقافية. وخطر لي خاطر أن أولئك الضباط في ثورتهم يمثلون مصر المقهورة في معاناة مشاعرها بالنقص، ولكن يخشى أن ينقلب الأمر في ذواتهم إلى مركب عظمة، ولا يجدوا من يمارسونه عليه إلا المصريين التعساء! المهم أن عبد الخالق كان يعيش في سراب. وبدأت المأساة بصداع متقطع ينتاب الضابط الشاب في رأسه، ثم يشتد ويستفحل، وينجلي الفحص عن اكتشاف ورم بالمخ. وسرعان ما حملته طائرة إلى إنجلترا لإجراء جراحة عاجلة وخطيرة، وبسرعة غير متوقعة أسلم الشاب الروح. أما الحزن الذي حاق بعبد الخالق فمما لا ينسى أبد الدهر، بكى ولطم كالنساء، وأغمي عليه مرتين في منظرة بيته ونحن نقدم له واجب العزاء. والحق أننا قدرنا حزنه وحاله فشاركناه ألمه من صميم قلوبنا. ومضى وقت طويل وهو عائش في مأساته، وكان يقول: أي حظ هذا؟! حدثت معجزة من أجلي فانظروا كيف انتهت!
ويشرد طويلا، ثم يواصل: انظروا إلى حظ الآخرين!
وراح يحصي المحظوظين .. من ضموه إلى لجنة جرد القصور الملكية وما أدراك ما الجرد، من رقي في وزارته وفاق نفوذه وكيل الوزارة، ومن ... ومن ... - حتى جاء دوري فحصل انقلاب للانقلاب!
ونصحناه بأن يستشفع بزملاء ابن أخته من الضباط، ولكن لم يسفر المسعى إلا عن ترقيته إلى الدرجة السابعة. وواصل حياته التعيسة برفقة أخيه الأتعس. ولما مات أخوه في الستينيات باع البيت، وتزوج بنصيبه أرملة في منتصف الخمسين كانت أما لفتاتين متزوجتين، وأقام معها في السكاكيني ولم ينجب. وهدأت أعصابه بعض الشيء بتقدم العمر وسلم بالأمر الواقع، وازداد تدينا وأملا في الآخرة، ولم ينقطع عن المقهى وأصدقائه قط. وفي الثمانينيات توفي بفشل كلوي وهو ابن سبعين بعد حياة مفعمة باللهفة والحسرة والإحباط، طاوية ذكرياتها الجميلة في ماض بعيد لم يكد يبقى من معالمه شيء.
آل القربي
تقوم سراي آل القربي فيما يلي بيت آل مراد، سراي كبيرة مترامية، ينطلق النخيل متجاوزا أسوارها العالية، وتشغل مساحة واسعة بطول شارعنا، وفي العمق المفضي إلى شارع أبو خودة. تلوذ بعزلة صارمة عما حولها، وتغوص في غموض شامل كأنها تاريخ قديم بلا وثائق؛ فلا أحد يعرف شيئا عن الأصل أو الأقارب، وأهل السراي لا يزورون ولا يزارون بخلاف أغلبية السكان الملتحمة بالجيرة والتزاور والمودة. ولم نر من أهلها سوى ربها إحسان بك القربي وابنه الصبي عمرو. كما كنا نرى البواب والحوذي والطاهي ومديرة السراي أمام الباب في العصاري. وكان البك يغادر السراي مرة واحدة يوميا عند الأصيل، على قدميه غالبا، وفي الحنطور نادرا، ثم يعبر شارع العباسية متجها نحو الشرق لقضاء سهرة في أحد القصور. كان بدينا مع ميل إلى القصر، ضخم الخلفية مثل امرأة، طويل الطربوش، ريان الوجه، ثقيل الملامح، يرى العالم من خلال نظارة كحلية اللون ويقبض على مذبة عاجية. كان بطيء الحركة، بارد النظرة، كأنه ناهض من نوم أو ماض إلى نوم، ويمضي غير منتبه لما حوله. وكان عمرو من سننا، ولكنه لم يشجع أحدا على التعرف به ولم يسع إلى التعرف بأحد، وكان يظهر أمام الباب قليلا، وأغلب فراغه يقضيه في الحديقة، وكان صورة مصغرة من أبيه لولا جحوظ في عينيه. وكنا نفضل جمال بك إسماعيل على إحسان بك رغم تأديبه المتلاحق لنا؛ فهو مثير وباعث على الضحك، ولا وجه للمقارنة بينه وبين هذه الكتلة اللحمية الباردة الصامتة، فضلا عن المكانة المرموقة التي استحقها جمال بك لإنجابه مديحة وسامية. ورغم ذلك فقد رسمنا للأسرة صورة، أمدنا الخيال ببعض خطوطها وعم فرج بالبعض الآخر. قال صديقنا عبد الخالق: اسم القربي فيه الكفاية، هو نسبة إلى القربة؛ فجدهم كان - ولا شك - سقاء، وبشرتهم كما ترون لا تشي بأصل شركسي أو تركي أو حتى شامي!
أما عم فرج بياع الدندورمة والحلوى فقد اقتحم بحديثه أسوار السراي إلى الداخل، وقال: ليس في السراي امرأة سوى نفوسة كبيرة الخدم.
وأكد لنا أن الهانم توفيت عقب ميلاد عمرو، وقبله بسنوات عديدة أنجبت موسى بك الذي يعمل اليوم في السلك السياسي. وتناسينا آل القربي بلا اكتراث حتى شدوا انتباهنا في الثلاثينيات بواقعة استفزازية خلقت لهم في القلوب كراهية ثابتة؛ فقد دعا البك إسماعيل باشا صدقي رئيس الوزراء في الثلاثينيات إلى مأدبة عشاء في سراياه. كان الباشا في ذلك الوقت دكتاتور مصر ومعذبها وأبغض خلق الله إلى قلبها. ومنذ عصر ذلك اليوم انتشر المخبرون في الشارع والحي كله، وصادروا أي تجمهر لأبناء الحي حتى اضطررت لمشاهدة ما يجري من نافذة بيتنا. وجاءت قوة من الشرطة واتخذت مواقعها في الشارع بكامل أسلحتها. ومضى المدعوون يحضرون في سياراتهم ويدخلون السراي تباعا. وأخيرا جاءت سيارة رئيس الوزراء، ووقف المدعوون وعلى رأسهم إحسان بك القربي لاستقبال الرجل، ولمحته وهو يغادر السيارة إلى السراي. وامتدت السهرة حتى نهاية الثلث الأول من الليل، ثم غادر الجمع السراي في مظاهرة من السيارات بين صفين من الجنود المسلحين. وانتشر الخبر في الحي كله كالنار المندلعة، وجرى اسم القربي على الألسنة مصحوبا باللعنات.
وتراجع البك إلى جحر عزلته وغموضه حتى شد انتباهنا مرة أخرى في تاريخ لاحق لم أعد قادرا على تحديده. ما ندري ذات نهار إلا ونفوسة كبيرة الخدم تغادر السراي ملتفة في ملاءتها اللف وهي تسب وتلعن قلة الحياء، ماذا حدث يا ترى؟ ومن يكون قليل الحياء؟
وعلق أحدنا قائلا: المرأة ليست شابة ولكن بها رمق ولا شك!
ورجعت المرأة بعد حين بصحبة شرطي فدخلا السراي معا، وبلغت بنا الأشواق منتهاها، واستخفنا السرور، وإذا بركب يخرج مكون من المرأة والشرطي وإحسان بك القربي، فيتحرك نحو قسم الوايلي. - يا ألطاف الله! .. البك نفسه؟! - لم لا؟ - وما دخل الشرطة؟ - طمعت المرأة في قرشين!
ولم نعرف مزيدا من الحقيقة حتى تكلم عم فرج. والله وحده هو المطلع؛ فلم أدر حتى اليوم أين يقف الخيال، وأين تبدأ الحقيقة. قال عم فرج إن البك فاجأ المرأة برغبات شاذة فغضبت لكرامتها وأبت إلا أن تشكوه في القسم. وقال الرجل: تحولت المسألة إلى قضية، وربنا يستر!
أشعلت القضية اهتمامنا، وأثارت خيالنا، وحركت مكامن الجنس في نفوسنا. وزاد عم فرج فقال إن العلاقة ساءت قديما بين البك والمرحومة زوجه لميوله الشاذة. ورأينا الرجل يرجع إلى أسلوب حياته اليومي؛ يذهب ويجيء دون مبالاة وكأن شيئا لم يكن. ماذا حدث؟ هل ينتظر محاكمة؟ .. هل عجزت المرأة عن إثبات التهمة؟ .. هل تم اتفاق من نوع ما؟ .. هل تدخلت جهات عليا لصالح البك؟ .. أفلتت الحقيقة منا تماما، وعادت الحياة إلى روتينها المألوف، وحلت خادم جديدة محل القديمة. وأتم عمرو تعليمه معنا على وجه التقريب في تاريخ واحد، وألحق كأخيه بالسلك السياسي. وبعد قيام الحرب العظمى بقليل غادر البك الحي إلى مكان آخر، فلم أسمع عنه أو عن ابنيه أي خبر، ولبثت السراي مغلقة حتى بيعت قبيل الخمسينيات، وشيدت مكانها أربع عمارات.
آل الجمحي
بيتهم يقع مباشرة لصق آل إسماعيل، وهو بيت عامر بالسكان .. عبد الرحيم بك رب الأسرة، وحسين ابنه وصديقنا، وزوجة وبنات لم يرهن أحد ولم يعرف عددهن أحد من شدة غلظ السياج المضروب حولهن. وعبد الرحيم بك الجمحي من عرب الفيوم وأعيانها، ولسبب ما عهد بأرضه إلى إخوته وهاجر إلى القاهرة، فشيد بيته في شارع الرضوان واستقر. لم ير وجه من حريمه في نافذة أو باب، ولا وجد حاجة لعرض بناته على الأسر؛ إذ كن مخطوبات منذ المهد لأبناء عمومتهن، ولم يسمح لزوجه بزيارة أسرة من الأسر إلا بعد التأكد من بعدها عن «الفرنجة»، فكان من حظي أن أرى زوجته وأنا في صباي الأول، وأتملى لونها الأبيض وقسماتها الجذابة ولهجتها العربية الريفية الممتعة، أما في المجيء والذهاب فكانت تتسربل بالسواد كأنها جوال فحم. وكان للرجل هيبة وعنجهية وصرامة وقوة عمل لها كل إنسان ألف حساب وحساب. كان قوي الجسم كمصارع محترف، غزير الشارب، غليظ القسمات، وبه حول شديد، منفر الصورة، يقبض في سيره على عصا غليظة أطول منه، ويضرب الأرض بقدم ثقيلة وهو يندفع بعباءته وعمامته. وذاع - ولا أدري كيف - أن الرجل قاتل له أكثر من ضحية في بلده. وخطر لنا ذات يوم أن نسأل حسين عن صحة ما يقال، فقال بأبهة: قتل أبي أربعين رجلا!
فرأيت فيه رمز الموت وشبحه وخفته بقدر ما كرهته، وآمنت بأن العدل لن يتحقق على الأرض حتى يقتل هذا الرجل.
وعلى أثر انصرافه من زيارة لأبي قلت لأبي: يقولون إنه قاتل.
فقال ببساطة: ولماذا نصدق ما يقال؟ .. الحق أنه شهم وجار أمين.
ونشأ حسين مثل أبيه في القوة والشراسة والصورة. إذا غضب ضرب، ولا يجرؤ أحد على مواجهته، ولكنه في حال الرضا كان مثال الكرم والمودة، وطالما دعانا للغداء وأتحفنا بالهدايا من الحلوى والفاكهة.
ورغم ثرائه كان تلميذا ناجحا، ويحب المطالعة والمناقشة غير أنه بدا من أول الأمر فخورا بالعرب والعروبة، معتزا بالطبقة؛ ولذلك احترم الملك وعدلي، ولم يخف استهانته بسعد زغلول. نظرته إلى الأمور من فوق إلى تحت، وهو لا يداريها أو يخفيها، يثير عاصفة من المناقشات، ولكننا أخذناه على علاته، بل آمنا بضرورة وجوده كممثل لمعارضة لا بد منها لتجديد حوارنا وإنعاشه. ولم نختلف معه في السياسة وحدها، ولكن أيضا حول المرأة والحضارة الغربية والأفكار الجديدة، ولعله كان الوحيد في شلتنا الذي يفضل الرافعي على العقاد، ولكنه اختلف أيضا مع عبد الخالق على ماشست وفانتوم، فأسفر ذلك الاختلاف عن شراسته. كان ماشست وفانتوم من أبطال الأفلام الذين يأسروننا بقوتهم وشجاعتهم. وفاز كل منهما بفريق من المتحمسين، فكان حسين مع ماشست وعبد الخالق مع فانتوم، واشتد النقاش بينهما عن ذلك حتى غضب حسين الجمحي، وإذا به يقبض على عنق عبد الخالق، ويقول: لو قبض ماشست على عنق فانتوم هكذا ، فماذا يستطيع فانتوم أن يفعل؟
وضغط على عنق عبد الخالق بحنق حتى احتقن وجهه بالدم وانحبس صوته، وخلصنا بينهما وعبد الخالق يلهث. وقاطع حسين فترة طويلة حتى صالحه بدعوة خاصة إلى الغداء. وكان بيت عبد الرحيم بك يواجه سراي آل القربي مباشرة، ولكن لم يحدث أن تبادلا التحية قط. كان إحسان بك يسير كالنائم غائبا عما حوله فيستفز عبد الرحيم بك بتجاهله غير المقصود. ودأب عبد الرحيم بك، كلما مر به الآخر، أن يبصق بصوت مسموع إعرابا عن ازدرائه واستيائه، فيمضي الآخر في طريقه دون أدنى التفات. وتوقعنا أن تحدث أمور أخطر من ذلك، ولكن الله سلم. واعتاد عبد الرحيم بك عند زواج أي بنت من بناته أن يقيم حفلين .. الأول في شارعنا عند كتب الكتاب، والآخر في الفيوم ليلة الدخلة. وكان الشارع كله تقريبا - طبعا لا محل لذكر القربي هنا - يدعى للحفل. وأردنا أن نسمع العالمة - ونرى الحريم - معتمدين على حداثة سننا، ولكن البك الجبار انتبه لتحركنا، واعترضنا غاضبا، وصاح بنا: يا شياطين، مكانكم في السرادق وإلا حطمت رءوسكم!
فهربنا كالفئران، وصورته المتوحشة تطاردنا، وحكيت الحكاية لأبي في اليوم التالي، فقال ضاحكا: إنه يعتبركم رجالا، وما أهمية العالمة ولديكم صالح عبد الحي في السرادق؟!
وظلت الأسرة محافظة على تقاليدها حتى اضطرتها الحرب العظمى إلى اللجوء إلى المخبأ مثل الآخرين. في ذلك الوقت كانت البنات قد تزوجن، وكان حسين قد أتم دراسته الزراعية وسافر في بعثة إلى أمريكا، ولم يبق في البيت إلا عبد الرحيم بك وحرمه. اضطر الرجل أن يجيء بها معه إلى المخبأ الذي يتساوى تحت سقفه عم فرج مع القربي بك. وكانت حرم الجمحي تجيء متلفعة بعباءة ولا يظهر من معالمها شيء. واشتدت الغارة ذات ليلة مشهورة، فتناثرت الأعصاب وصوتت النساء. وفقد عبد الرحيم بك أعصابه كذلك، واندفع يضرب سقف المخبأ بعصاه في حالة هستيرية، وصرخ في النساء بلا وعي: هس .. ستحطم عصاي رأس من أسمع صوتها!
ولم يعد يسمع إلا أصوات المتفجرات ودوي القنابل المضادة، ولم يفكر أحد في مؤاخذته أو معاتبته في تلك الليلة الليلاء.
ورجع حسين دكتورا في أوائل الحرب، وشغل وظيفة في وزارة الزراعة، وعاد إلى عهده القديم في صداقتنا وإن لم تغير الرحلة من موقفه في الحياة بصفة عامة، ظل على محافظته في كل شيء عدا ميل جديد نحو الحضارة الحديثة في مظاهرها المادية المتقدمة. وعند ذلك انتهت حياة أبيه نهاية غير متوقعة، أو غير متوقعة بالنسبة لنا. كان في زيارة للفيوم، وعلمنا عن طريق الرواة أنه زار جزارا من معارفه وجلسا سويا أمام الدكان قبيل المغرب، وكان الدكان في ميدان تتفرع منه شوارع، فلما آذنت الشمس بالمغيب وخلا الميدان من السابلة، انهال الرصاص فجأة ومن نواح متعددة وبكثرة على الرجل. وفي ثوان انتهى كل شيء؛ سقط عبد الرحيم بك قتيلا مضرجا بدمه واختفى الفاعلون. وكان للجريمة ردة فعل عنيفة في الأنفس بالنظر إلى مكانة الرجل وجبروته. وبدأ التحقيق مع الجزار ومع رجلين تصادف قربهما من موضع الحادثة، ولكن اتفقت الأقوال على أن الأمر وقع بسرعة مذهلة وأنهم لم يروا أحدا على الإطلاق. لم يسفر التحقيق عن شيء، وقيل - والله أعلم - إن الشهادة اتفقت على قول واحد رغبة في الانتقام من سفاح خطير أفلت من قبضة العدالة بلا وجه حق، بل قيل أكثر من ذلك إن الشرطة تهاونت في البحث، وكذلك النيابة لأن قلوبها كانت مع القتلة تلك المرة لا مع القانون!
وربما كان ما سمعنا مجرد أسطورة ابتدعت، فإن صح ذلك فلا شك أن بعض الأساطير تتفوق على الوقائع بصدقها وجمالها، وحزن حسين على أبيه حزنا كبيرا، وجعل يقول لنا: أود أن أنتقم لأبي، ولكن ممن؟
ويتنهد بغيظ دفين. ولما قامت ثورة يوليو تقوض بنيان عالمه كله، وأصبح بين يوم وليلة غريبا في دنياه .. وبدا أحرص مما كنت أتصور، فعرف منذ اللحظة الأولى كيف يضبط لسانه ويسيطر على انفعالاته، وتزوج من ابنة عم له، ومضى يبيع أرضه أو ما تبقى منها. وأقام في بيت العباسية وارتضى مستوى من المعيشة دون إمكانياته بكثير. وأقلع عن حديث السياسة حتى مع أخص خواصه، أصبح شخصا جديدا لا يهمه من الدنيا إلا شئون أسرته ووظيفته. لبث كذلك دهرا حتى دهمتنا الهزيمة في 5 يونيو فتعذر عليه أحيانا أن يكتم فرحه، وربما مال على محدثه، وهمس: هل سمعت آخر نكتة؟!
ويروي النكتة بعد النكتة، غير أنه لم يسفر عن وجهه الحقيقي إلا بعد وفاة عبد الناصر، أو على وجه التحديد، بعد السماح بنقد عهده. هناك لمست مدى الحقد الذي تنطوي عليه جوانحه نحو الرجل وثورته. وما كان يمكن أن يزيد حقده لو أنه تعرض لما تعرض له غيره من الاعتقال أو الحراسة أو المصادرة؛ ذلك أن الحقد لم يترك في جوفه زيادة لمستزيد. ولا تتصور طربه عندما انتشرت إشاعة - لعلها لم تقم على أساس - بأن مياه المجاري تسربت إلى قبر الزعيم. كان يرقص طربا، واقترح أن يعلقوا الجثة على باب زويلة حتى تجف! ورغم ثقافته وتعلمه في الداخل والخارج فإنه لم ير في ثورة يوليو إلا أنها انقلاب دبرته عصابة من اللصوص لنهب البلد باسم الوطنية ثم تركتها خرابا شاملا، وتغير حاله في عهد السادات، وازدهر وتألق في الانفتاح، فاستقال من وظيفته واشتغل بالاستيراد وغيره، وأثرى ثراء فاحشا، وشيد لأسرته قصرا في مصر الجديدة وعاش عيشة الملوك. وفي العهد الثالث للثورة - عقب اغتيال السادات - تكشفت له حقائق الأمور كما لم تتكشف من قبل، ولم يتبع الإصلاح الجديد بالتفاؤل الجدير به، وكان آخر ما سمعت من قوله: أشك جدا في أنه يمكن إنقاذ السفينة من الغرق، وسوف يستوي من عنده مال ومن لا مال له؛ ولذلك فإني أفكر في هجرة بلا رجعة، وهي نهاية منطقية لحركة عبد الناصر!
آل مكي
وهذا بيت صابر مكي التالي لآل الجمحي مباشرة. مطرب غير مجهول الاسم، ويقيم في البيت هو وزوجته وابنه يسري وابنته وداد. وداد تماثلني في السن، أما يسري ففي المرحلة الثانوية. وكانت أم وداد وبنتها يزوراننا كثيرا، فعرفتهما معرفة جيدة. وبقي في ذاكرتي من تلك الأيام جمال البنت وضعف الأم وشكواها المتكررة من قلة الرزق وسلوك صابر. كانت تقول: كلما رزقه ربنا بقرشين أنفقها على أصحابه، يولم الوليمة ويدعو إليها كل من هب ودب، ثم نعيش بعد ذلك على باب الله!
وكان في وجهها جاذبية، ولكن يطغى عليه الشحوب والضعف. وفي ليالي الصيف كان صابر مكي يقوم بتدريباته الغنائية في الحديقة الصغيرة الخلفية، فتترامى إلينا الأنغام مخترقة فضاء الحقول. كان صوتا حسنا ولكن صوت وداد كان أحسن. كنا ندعوها للغناء فتغني:
ارخي الستارة اللي في ريحنا،
لحسن جيرانا تجرحنا،
يا مبسوطين بالقوي يا احنا.
وتقول لها أمي في انشراح: بنت الوز عوامة!
والأم فخورة بابنتها، وتقول حالمة: ستكون مطربة وربنا يعوض صبري خيرا.
أما الابن يسري فولد ذكي وهو يحلم بأن يكون طبيبا. ونراه كثيرا في الشارع ولكنه يترفع عن صحبتنا لانتسابه لجيل آخر، وكان صديقا لأحمد أفندي مراد شقيق صديقنا عبد الخالق. وأيضا كان يزورنا صابر مكي ويجالس أبي طويلا في حديقتنا الصغيرة، وسمعته مرة يقول لأبي: صالح عبد الحي رجل غريب الشأن، لماذا يلقب نفسه بعبد الحي؟! دجال يتمحك باسم خاله عبد الحي حلمي ويتبرأ من أبيه، وبهذا الدجل تفوق علينا في الطرب دون جدارة ذاتية!
ولم يكف عن الحنق على صالح، ونفس عليه نجاحه المبكر المكتسح، ومرة أخرى قال: جميع الأمور منحرفة في بلادنا حتى الطرب، وها هو الشيخ علي محمود يحب صوتي حب خبير، ولكننا لا نحصل على اللقمة إلا بطلوع الروح! - فيقول له أبي: صوتك مليح، والأرزاق بيد الله. لكنك تدخن كثيرا يا صابر أفندي.
فيرد باستهانة: ولا يهمك!
وقد سجل عددا من الأسطوانات، وأحيا بعض الأفراح، ولكنه لم يذق طعم الثراء الذي يحلم به، ثم هبت عليه رياح الأحزان فضاعفت من تعاسته، بدأت بوفاة زوجته في ولادة عسيرة. ولعلها كانت أول جنازة أشهدها في الشارع الجديد .. ولما رأيت الأستاذ صابر وابنه يسري يبكيان بكيت، وخيمت على خيالي صورتها وهي تتحدث أو تضحك، فتطلعت إلى نعشها متمنيا الاطلاع على ما آل إليه حالها. وآلمني صراخ وداد فكرهت من أجلها الدنيا. ورأيت جميع رجال الشارع في الجنازة عدا إحسان بك القربي، وكثيرين من رجال الفن. وفي الأيام المتعاقبة جعلت أرقب صابر ويسري باهتمام، وكلما لمحت ابتسامة في وجهيهما قلت لنفسي باستغراب: ها هم ينسون. ولم تكن وفاة الزوجة خاتمة الأحزان كما تمنى المشيعون وهم يقدمون العزاء لصابر؛ ففي الثلاثينيات تعرض يسري - كطالب في كلية الطب - لهجمة شرسة من الشرطة ضمن مظاهرة كبيرة، ونقل إلى مستشفى قصر العيني مصابا برصاصة في بطنه، وسرعان ما أسلم الروح. وقصم استشهاده ظهر صابر، ويوم خرجت جنازته ودعته شرفات البيوت بالصوات والعويل، وتضاعف السخط على آل القربي لوقوع الوفاة بعد إقامة الوليمة للباشا بأسابيع قلائل. لم يبق لصابر إلا وداد، وراحت مع الأيام تنضج وتحلو ويعذب صوتها، فتهفو لها القلوب والأبصار والأسماع. وعلى عهد الإذاعات الأهلية فاجأتنا بإذاعة أغنية من أغاني سيد درويش في راديو سابو. طربت وفرحت كأنما أنا الذي نجحت. وقلنا إنه نجاح يجيء في وقته تماما؛ إذ كان صابر يمضي من سيئ إلى أسوأ في الصحة والعمل. وقررا هجر الشارع فما ندري يوما إلا والعربة تحمل أثاث البيت البسيط وتذهب إلى المجهول.
كان يوما من الأيام الكئيبة في العمر وخيل إلي أن شارعنا فقد ابتسامة مشرقة لا تعوض وذكريات لا تنسى. واعتزل صابر الطرب حتى إننا لم نعلم بوفاته في حينها، ولكن وداد لم تغب عنا بروحها وإن غابت تماما بجسمها. مضت تشق طريقها كمطربة ناشئة في الراديو وعالم الأسطوانات. وكان المعجبون بها يزدادون يوما بعد يوم. وكنت أتساءل: ترى أين تعيش؟ وكيف تتعامل مع وحدتها؟ وهل نسيت أحزانها؟ وكيف استوى جمالها الباهر؟ .. حتى رأيت صورتها في إعلان عن فيلم قادم تتقاسم بطولته مع محمد عبد المطلب. قلت من أعماق قلبي: ها هي لؤلؤة شارع الرضوان تتألق وتندفع في دنيا النجاح ذات السناء والسنا. وذكرت بأسى المرحوم صابر المكي في أحزانه وسوء حظه وعسر رزقه. وذكرت قوله لأبي مرة: هذه البنت ستخلف أم كلثوم على عرش الغناء !
وتمادت قرينة صباي في النجاح حتى اعتلت قمة شعبية لا ترام بين جماهير الحرب العظمى الثانية، وفرحت أمي لها كثيرا وأنشأت تقول: ألف رحمة ونور عليك يا أم وداد.
ولكن البنت الحلوة نسيت الشارع الذي ولدت فيه والجيران الذين كانوا أول جمهورها.
وفي الخمسينيات وأنا في زيارة لاستديو مصر كانت وداد تعمل في تصوير منظر خارجي بفناء الاستديو. كان الوقت ليلا والمصابيح تصب أنوارها على المنظر، ووداد تقف في ثوب عرس، لتمثل الهروب من زفاف فرض عليها دون إرادتها. رأيتها في ثوب العرس كالفلة المتفتحة تشع ضياء وجمالا، الأرض والناس والعمال مأخوذون بنجوميتها المبهرة. ولما انتهوا من تصوير اللقطة وراحوا يعدون الكاميرا للقطة جديدة تراجعت وداد إلى الوراء قليلا بصحبة المخرج وآخرين. أمست على مبعدة يسيرة من موقفي، ولكنني لم أتحرك ولم أفكر في التحرك ولم أتصور أن تتذكرني أبدا. وفي لفتة تلقائية تلاقت عينانا. وعبرتني كأنها لم ترني ولكنها رجعت إلي مركزة البصر. ولعلي في اضطرابي ابتسمت، وإذ بها تمرق من بين الجماعة منطلقة نحوي هاتفة في بساطة: أنت .. حقا الدنيا حلقة .. كيف حال تيزة؟!
تصافحنا بحرارة، واندفعت تسأل عن المعارف والجيران، وأجيب بما أعلم؛ فهؤلاء انتقلوا إلى مصر الجديدة، وهذه تزوجت، وفلان البقية في حياتك وهكذا، وقالت: حركت ذكرياتي، الله يسامحك، يجب أن تزورني، وعند أول فرصة سأزور شارعنا القديم.
لم يحدث شيء من ذلك، لا زرتها ولا زارتنا. كانت دفعة هواء مترعة بالطيب، ولكنها لم تهب إلا مرة واحدة، ولكنها بفنها كانت تعايشنا الأيام والليالي، ويدور الزمن دورة أخرى، ويجيء الخريف بعد الربيع والصيف، وتتكرر المأساة التي يظن صاحبها أنه أول من يعانيها، وقد امتد بها العمر حتى الثمانينيات، وحظيت بصحة حسنة ومال وفير ولكن لا حيلة مع الشيخوخة وتنكر وغول النسيان.
آل قيسون
ولصق سراي القربي يقوم بيت صغير لموظف في شركة المياه يدعى حسن قيسون. كان نساء الشارع يطلقن عليه - لرثاثة منظره - زبال أفندي. وسمعت مرة كريمة هانم - حرم جمال بك إسماعيل - تقول عنه ضاحكة إنه شحاذ إفرنجي. بدلة عتيقة مهلهلة، حذاء غليظ كأحذية الجنود، وطربوش متهدل حائل اللون، ونظرة ثقيلة زاهدة، وقسمات متنافرة. أرمل تخدمه قريبة طاعنة في السن، ولكنه أنجب ولدين عزت ورأفت يماثلاننا في السن ويكبراننا بالعقل. وليست رثاثته عن فقر ولكنها وليدة انضباط شديد وحرص أشد، غير أنه لم يضن على ابنيه بما يضفي عليهما المظهر اللائق. لا يزور ولا يزار ولا يرحب بتوثيق العلاقات الاجتماعية، ولكنه لا يتأخر عن أداء واجب، فيشيع الجنازة ويعود المريض ويترك بطاقته لدى التهنئة. عزت ورأفت كانا نجمين متألقين في شارعنا، في غاية من التفوق الدراسي، وقمة من البراعة الرياضية، ومكانة فريدة في الاطلاع والثقافة، وإلى ذلك كان عزت عازف ناي ممتازا. ومن عجب - ورغم تقارب السن - كانا يلعبان في حياتنا دور المرشد والمربي والحامي. وعزت بالذات مغرم بتقليد «شجيع» السينما في أفلام رعاة البقر في شجاعته وشهامته، فإذا تحرش بنا حرافيش الوايلي انبرى لهم وانهال عليهم باللكمات حتى يطلقوا سيقانهم للريح. وكانت طبقية حسين الجمحي تصطدم بآراء عزت ورأفت الديمقراطية، وكذلك تفاخر عبد الخالق بالأصول والأقارب. وكان عزت خاصة قوي الحجة آسر المنطق، وحتى من ناحية القوة فإن حسين نفسه على قوته تجنب الدخول معه في معركة مجهولة النتائج. وقال لنا عزت ذات يوم: لا يكفي التفوق في الدراسة، ولا الانتماء في الوطنية، وليست الوطنية هي يحيا سعد، ولكن يجب أن تكون أنت أيضا مثل سعد.
وحدقنا به في دهشة، فواصل: الرياضة .. الفن .. الثقافة .. العمل .. هذا هو مستقبل وطننا الحقيقي.
لم أصادف في حياتي أحدا يقارب عزت ورأفت تفوقا وتطلعا للجديد مع الاستقامة وسمو الأخلاق. وكان لهما أثر وأي أثر في تعلقنا بالقراءة والرياضة والفن والتطلع للمثاليات في القيم. وكم قال لنا عزت: أعداؤنا ليسوا الإنجليز والملك فقط، ولكن أيضا الجهل والخرافات.
ولا أشك اليوم في أن حسن أفندي قيسون انطوى على مرب فاضل وإنسان ممتاز رغم قذارة منظره، بل حذرتنا الأيام من التمادي برميه بالبخل والتقتير؛ فإنما كان يقتر على نفسه ليهيئ لابنيه ما يتطلعان إليه من اقتناء الكتب والمجلات والهوايات الأخر، بالإضافة إلى حسن المظهر، وهو ما مكنه أخيرا من إلحاقهما بالطب والهندسة رغم تعذر ذلك على أبناء غير القادرين من الشعب؛ ففي منتصف الثلاثينيات تخرج عزت طبيبا ورأفت مهندسا. وعقب ذلك بعام توفي حسن أفندي قيسون مع تحقيق رسالته وحلمه، وسافر عزت ورأفت في بعثة إلى إنجلترا فأغلق البيت الصغير أبوابه، وانقطعت الصلة بيننا وبينهما فلم نعد نلتقط من أخبارهما إلا ما يجود به الرأي العام. وعن ذلك السبيل سمعنا عن تقدم عزت في مجال الطب حتى صار من أساطين الطب الباطني، أما رأفت فقد تبوأ عمادة كلية الهندسة. وفي الستينيات اضطررت إلى استشارة طبية، فعقدت العزم على زيارة صديقي القديم عزت قيسون. وسرعان ما عرفني فاستقبلني بالأحضان، وخصني بعناية فائقة وغمرني بإحساس إنساني شامل، وتبسط معي في الحديث عن الماضي، عن شارع الرضوان وإخوان الزمان الأول، فتتابعت ذكريات الأحياء والأموات. ومما لاحظته أيضا أن وفديته العريقة حالت بينه وبين التفاهم الكامل مع ثورة يوليو، فاعترف بإيجابياتها ولمس بخفة السلبيات، ثم قال: ولكن أين الشعب؟ .. إنه يخسر كل يوم بعضا من إيجابياته.
فقلت ببراءة: كأنما أصبحنا دولة عظمى.
فقال باسما: دولة عظمى بلا شعب تساوي صغرى!
وقد رأيته مرة أخرى من بعيد في جنازة مصطفى النحاس، ثم قرأت نعيه المفاجئ في نهاية عام الهزيمة المشئومة، أما رأفت فلا أدري اليوم عنه شيئا.
آل حسب الله وفرج
البيت الصغير الثاني في الشارع يلاصق آل مكي، دوره الأرضي فرن بلدي، والثاني شقة صغيرة، والثالث نصف شقة تفتح على نصف سطح مظلل بتكعيبة لبلاب. أما صاحب المبنى كله فهو المعلم حسب الله، ولا أعرف له لقبا أو كنية - وهو صاحب الفرن ومديره - ومسكنه في الشقة الثانية هو وزوجته وبلا ذرية على الإطلاق. وليست صورته مما يعفي عليها الزمن، قصير، مفرط البدانة، ثقيل النظرة والصوت، يكحل عينيه دائما وأبدا، ولم ير أحد امرأته. يتعامل مع عماله بكفه القوية فالعمل يسير كالساعة. وعمله ينحصر في خبز عجين السكان من شارعنا والشوارع القريبة مثل بين الجناين وأبو خودة؛ استجابة لتقاليد ذلك الزمن التي قضت بأن تعجن الأسر في بيوتها ثم ترسل العجين إلى الفرن فيرجع إليها خبزا ساخنا مورد الخدين نافذ الرائحة، كما ترسل إليه في العيد الكعك والغريبة، وفي المواسم الفطير رحمة القرافة المعروفة. وعرف عن عم حسب الله أنه يتعاطى المخدرات، ولكنه كان فرانا ذا سمعة طيبة جدا. ومن عجب أنه لم ير أبدا خارج بيته. ومات في أوائل الحرب، فأغلقت الفرن وتغيرت التقاليد، فجعلنا نشتري الخبز من البقالين والكعك من محال الحلوى.
وأما نصف الشقة فوق السطح فكان يسكنه عم فرج بياع الحلوى والدندورمة وزوجته، وقد أنجب ذكورا وبنتا واحدة ولكن لم يبق له إلا البنت. وكان رجلا خفيف الروح يعلن عن سلعته بالأغاني كعادة كثيرين من باعة ذلك الزمان، ويدعي أنه يعرف تاريخ الشارع وأهله، ويروي الحكايات عن النساء والرجال. وقد زعم أن مبنى الفرن كان أول مبنى يشيد في الشارع عندما كان متر الأرض بمليم! وكان ضحوكا بشوشا ويتعامل مع كل أسرة كأنما هو من صميم أهلها. وقد مات عم فرج قبيل الحرب فحلت ابنته بسيمة محله في إدارة العربة. وكانت تجمع بين القوة وشيء من الأنوثة والحسن، فتزوجت من بياع فاكهة سريح. ولا أدري كيف امتد نشاطها إلى تجارة الخردة أيام الحرب. ولما راجت تجارتها هجرت عربة الحلوى والدندورمة واكترت جراجا صغيرا في الشارع جعلته مركزا لنشاطها وضمت زوجها لمعاونتها. وأقبلت الأيام عليها فاكترت مكانا جديدا في الأرض الفضاء التي حلت محل الحقول، وملأته بمخلفات الجيش البريطاني، وأصبحت معلمة بكل معنى الكلمة. ومضت تتوسع في الإثراء والتملك فاشترت مبنى الفرن وشيدت مكانه عمارة، وكررت ذلك مع بيت آل جمال إسماعيل وبيت الجمحي أخيرا، أما هي فأقامت في شقة حديثة في شارع العباسية نفسه. وعاصرت الثورة ثم الانفتاح الذي بلغ نشاطها فيه الغاية. وإنها اليوم عجوز ثرية، وأم لرجال ناجحين، وبالنظر إلى قوتها وحزمها ونجاحها فإن أصدقاءنا في العباسية يطلقون عليها «مسز تاتشر»!
آل شكري بهجت
وفيما يلي بيت حسن قيسون يوجد بيت آل شكري بهجت، والأسرة تتكون من شكري أفندي ونعمات هانم وسامح وأمينة؛ سامح يماثلنا في العمر ويبادلنا الصداقة. وللأسرة صفة مميزة هي الثورة على التقاليد والتمرد على الزمن وإن لم يتضمن ذلك أي انحراف عن القيم الأخلاقية الحقيقية. وشكري ونعمات يكونان رابطة تعتبر مثالا للحب والتوفيق، وهو موظف بالداخلية وهي حاصلة على الابتدائية، والرجل وسيم مهيب وهي تنافس في جمالها حرم جمال بك إسماعيل. لعلها أول امرأة في العباسية تظهر في الطريق سافرة بموافقة زوجها، وتقول لأمي ضاحكة: زعيم الأمة نفسه يوافق على السفور، وعلينا أن نسير مع الزمن .. أما أمينة فلم تستعمل النقاب قط، تمضي مع أسرتها سافرة أو وحدها إذا زارت هذا البيت أو ذاك. ولما خطبت وهي في المرحلة الثانوية صاحبت خطيبها في رحلات انفرادية، ولم تكترث الأسرة لتعليقات الناس، ولم تعتد أن تكترث لأقوال الآخرين.
ويقول لنا سامح لدى كل مناسبة: الناس؟! .. ما أغبى الناس!
جملة مأثورة يرددها كلما ترامى إليه رأي لأحد في سلوكهم. - نحن نعيش في نسيج عنكبوتي من التقاليد السخيفة.
ثم يخاطب حسين الجمحي وعبد الخالق مراد خاصة: الفارق بيننا حيال بعض التقاليد السخيفة هو أنكم تمارسونها رغم عجزكم عن الدفاع عنها، أما نحن فنرميها بكل شجاعة في صندوق القمامة .. وقد تزوجت أمينة عقب حصولها على البكالوريا. كان من رأيه أن تتم تعليمها في الجامعة، ولكنها آثرت بمحض اختيارها الحب والزوجية. على ذلك كله كان شكري أفندي متدينا، ويرى كثيرا أيام الجمع وهو يغادر جامع البيومي بعد صلاة الجمعة. وفي أوائل الثلاثينيات أدى فريضة الحج، واستقبلت زوجته عودته بالزينات وأقامت سرادقا أمام البيت أحيت به ليلة للإنشاد والأذكار، وأطرب الشهود الشيخ علي محمود بصوته الجميل في سهرة امتدت حتى طلوع الفجر. ومن أسف أن الرجل توفي في نفس العام عقب مرض لم يمهله إلا أياما معدودات، ونشرت الأسرة نعيه معلنة الاقتصار على تشييع الجنازة. لم يكن ذلك شيئا مألوفا في ذلك الزمان ، ولم يكن يصرف الأهل والأصدقاء عن زيارة البيت والاستماع إلى ترتيل القرآن. وذهب الجيران للعزاء فوجدوا البيت مغلقا وخاليا من أهله. ودهش الناس لحد الانزعاج، وعجزوا عن التوفيق بين ذلك السلوك وبين ما عرف عن الزوجين من حب وتوفيق، وارتفع النقد تلك المرة حتى بلغ كبد السماء. ولما اجتمعنا كالعادة نحن الأصدقاء قال سامح: الحزن في القلب لا في السرادق، نحن لا نؤمن بهذه التقاليد، وماذا يفعل المعزون سوى أن يتسامروا كأنهم في مقهى؟! .. من أجل ذلك غادرنا البيت وانفردنا بحزننا في وقار ودون طقوس أو تمثيل .. ورغم إعجاب عزت قيسون بالمبادرات الجديدة، إلا أنه قال في شيء من الحذر: لم يكن من بأس في أن نجالسك ذلك المساء؛ فلا سخف في ذلك فيما أعتقد. على أنه استدرك بعد ذلك قائلا: على أنني لا ألومك ولا ألوم أحدا.
أما عبد الخالق فقد همس في أذني: أسرة مجانين!
وحسين الجمحي همس أيضا: عليهم اللعنة، ضنوا بإنفاق قرشين تحية لذكرى الرجل!
أما المفاجأة المذهلة فقد وقعت بعد وفاة الرجل بعامين أو ثلاثة. كان سامح قد تخرج وتوظف وتزوج زواجه المبكر، فما المفاجأة؟ ذاع وتأكد أن نعمات هانم تزوجت من رجل يماثلها في السن أو يقل عنها! إنها تقترب من الخمسين، ومسلم به أنه ما زالت في صحة كاملة وجمال غير منكور، ولكن هل يسوغ ذلك الزواج مرة أخرى؟! ويبدو أنها لم تجد من يدافع عن سلوكها في البيوت كلها، بين المتزوجات مثلما بين المطلقات والأرامل، وكأنما فقد الزواج شريعته الدينية المطلقة. أما نحن معشر الأصدقاء فقد اتفق رأينا على تجاهل الموضوع رحمة بصديقنا العزيز غير أنه كان هو الفاتح له، قال ببساطته المستفزة: العريس فاتحني أنا أولا مستأذنا، والحق أنني رحبت به.
فهتف حسين الجمحي: رحبت به؟! - لم يهن علي أن أتركها وحيدة في بيتنا، ولم لا؟ إنها جميلة وعلى أكمل صحة وعافية، لعلي وجدت صعوبة بعض الشيء في إقناعها، ولكنني قلت إنه العقل والشرع!
فتساءل عبد الخالق: والمرحوم؟ .. ألا شأن له في الموضوع؟! - المرحوم في قلوبنا، ولم يعد له شأن بحياتنا، ونحن لم نخلق الموت، ولكننا مطالبون باحترام الحياة.
وسئلت على انفراد عن رأيي فأجبت: إني أشعر بإعجاب وامتعاض.
ويمكن اعتبار سامح من مدرسة عزت ورأفت مع اندفاع بلا حدود. ومع اتجاهه إلى الدراسات العلمية في المدرسة والتخصص فإنه برع في الموسيقى وعشق المسرح والثقافة، ودعا بكل قوة إلى العصر الحديث علما وصناعة وحضارة، واستمد رؤيته في الحياة من رغبة الخديو إسماعيل في جعل مصر قطعة من أوروبا.
وعزت ورأفت يشاركانه الإعجاب بالعصر ولكن في اعتدال، ومع الاهتمام بحضارتنا القديمة الفرعونية والإسلامية. ولم يكن ممن يعتبرون الحضارة الغربية حضارة غريبة عنا، وهي لم تسم باسم خاص إلا بسبب البيئة التي نشأت فيها، ولكنها في الواقع الثمرة الأخيرة في شجرة الحضارات الإنسانية التي أسهم البشر جميعا في غرسها. - فلا علم اليوم إلا علمها، ولا أدب إلا أدبها، ولا فن إلا فنها، ولا فلسفة إلا فلسفتها.
فقال له الجمحي: أموت قبل أن أتذوق موسيقاها، هذا على سبيل المثال لا الحصر. - المسألة مسألة تدريب ليس إلا، أما التراث فلا معنى له، كان ذات يوم حضارة حية متقدمة ثم تجاوزه الزمن فأمسى خرقا بالية!
إنه خواجة بلا قبعة؛ بسبب جو أسرته وقراءاته والمراكز الثقافية والأجنبية، وصداقاته المتعددة للإنجليز والفرنسيين، أما انتماؤه الوطني فكان دون المتوسط رغم اندلاع الحركة الوطنية، ولا أذكر أنه اكترث يوما لخلافاتنا الحزبية. وبالرغم مما أثاره من اعتراضات وانتقادات فلم يحفل أبدا بآراء الآخرين، ولم أشهد له نظيرا في شجاعته. وقد تخرج في كلية العلوم واشتغل مدرسا في المدارس الثانوية، وسرعان ما تزوج من مدرسة متخرجة في كلية الآداب تماثله في السن على أحسن الظنون، واتخذ مسكنا في شارع العباسية. ولم تفتر علاقته بنا ولا لقاءاته معنا في المقهى. وأصبح صالونه منتدى لنخبة من الزملاء ممن كانوا على شاكلته بالإضافة إلى بعض الأجانب. وكان يضرب على البيانو بامتياز، ويلقي محاضرات في الجمعيات التقدمية أو يعلق على بعض الأفلام، ولكن مواهبه لم تتجاوز به ذلك القدر من النشاط.
ولما قامت ثورة يوليو راقبها بحذر، ومضى يميل إليها مثنيا على اندفاعها في طريق التصنيع، واعتبر ذلك حجر الأساس في التحول نحو الحضارة الحديثة. وفي أثناء ذلك أنجب من البنات أربعا وختم بعد فترة انقطاع بولد. أما البنات فقد تعلمن وتوظفن وتزوجن، وأما الولد فقد التحق بكلية الطب مع إحالة سامح إلى المعاش في السبعينيات، وكان يدخر له مفاجأة أو مشكلة لم تجر لأحد في بال. وها أنا أرويها نقلا عنه كما رواها على فترات متقطعة تبعا لحدوثها.
كان اسم الولد شكري كجده، وكان وسيما رياضي الجسم ومتقدما في الدراسة، وكان سامح يحبه حبا فاق حبه أي شيء. ولاحظ بعينيه المحبة أن الشاب لم يعد كسابق العهد به؛ فتر مرحه، ومال إلى الانطواء، ورمق والديه بنظرات غريبة حائرة لعلها أزمة من أزمات المراهقة، أو قصة حب خائب، وإذا بأمه تسأله: ما لشكري يا سامح؟ .. إنه لا يعجبني. - ولا أنا، فلنعترف أنه جيل مجهول رغم أي ادعاء آخر. - ولكننا ربيناه على الحرية والصراحة! - حلمك وصبرك، إنه جيل يعاني من ذكريات الهزيمة والغلاء والمستقبل المسدود! - عليك أن تستدرجه إلى الكلام. - إني أتوقع أن يتكلم هو!
وتكلم، غادر حجرته الحاوية لفراشه ومكتبه إلى حجرة المعيشة حيث يجلس والداه أمام التليفزيون. ضغط على مفتاح التليفزيون فأسكته، وجاء بكرسي صغير فجلس أمام والديه، وهو يقول: ثمة سؤال يشغل بالي.
فقال سامح بشيء من الجدية: ولكنك أغلقت التليفزيون دون استئذان! - آسف، ولي عذر في الهم الذي يركبني. - ليكن، وإن كنت لا أوافق على هذا الأسلوب، ماذا لديك؟ - لماذا لا تصليان؟
ذهلا للمفاجأة، وخيم صمت فاندفع فيه زفيف رياح خريفية تهب في الخارج، أي سؤال لم يتوقعا أن يسمعاه أبد؟! - ولم تصوما رمضان قط؟
ثم بنبرة أعلى: ولدى كل سهرة في الصالون تقدمان الخمر وتشربانها!
كيف يجيبان؟ ليسا متدينين ولا دينيين، لا يضمران للدين شرا ولا خيرا، لا يشغل لهما بالا. ولا فلسفة وراء ذلك، ولا يتصوران أن الله يكترث لشرب الخمر أو الامتناع عنها. الأمور تجري بلا تفكير ولا مشكلات. إنهما لا يؤذيان أحدا ولا يسمحان لأحد بالتدخل في شئونهما الخاصة، ولكن المتدخل هو ابنهما الوحيد، وهو يطرح سؤاله في حرية كاملة ولكن لا حرية لهما في الإجابة بل يشعران بأن الإجابة يجب أن تلتزم حدودا معينة. وتبادلا نظرة؛ نظرة حيرة واستغاثة. ولما طال الصمت تساءل الشاب: ألستما مسلمين؟
فقال سامح: طبعا. - المسلم ليس مجرد اسم، ولكنه عقيدة وسلوك.
فقال سامح بضيق: المسلم مسلم في جميع الأحوال.
فقال شكري بأسى: كلا .. إما أن تكون مسلما أو لا. - هذا رأيك؟ - نعم .. مذ هداني الله إلى طريقه.
فتساءلت أمه بقلق: هل انضممت إلى التيارات التي يتحدثون عنها؟ - هداني الله إلى طريقه! - إنه طريق شديد الخطورة. - هو طريق الله، ولا يهم ما عدا ذلك.
فقال سامح باستياء: لم تحدثنا من قبل بهذه اللهجة؟ - كنت في غيبوبة الجاهلية! - لا أقبل أن تخاطبني بهذا الأسلوب. - انظر! طالما شجعتني على الصدق والصراحة، ها أنت تضيق بمن يخالف رأيك! - فليمض كل في حياته كما يرضاها!
فقال الشاب بتصميم: غير ممكن، قال الرسول عليه الصلاة والسلام: من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وهو أضعف الإيمان.
لم يسمعا بالحديث من قبل فوجما وهما يتفكران فيه، ثم سأله سامح متهكما: وماذا اخترت؟
فقال بتأثر: إني حائر بين الواجب وبين البر بكما.
وتنهد سامح، ثم قال لينهي الحديث الأليم: شكري، احصر انتباهك الآن في دراستك الصعبة، ولما تقف على قدميك افعل بنفسك ما تشاء، أسرتنا لم تقم يوما على الإكراه أو العسف.
وظن أنه تحاشى الزلزال كي يسترد أنفاسه، ولما انفرد لزوجه قال: إنه يتكلم مستندا إلى الدين والتراث، فكيف نناقشه؟
فقالت بحيرة: لن تستطيع أن تقول له إنه مخطئ، أو نقنعه بأننا على صواب. - هذه هي المشكلة!
وضايقه موقفه المتخاذل، فقال مدافعا عن كرامته أمام نفسه وأمام زوجته: لو أن لي رأيا محددا في الدين لألقيت به في وجهه!
وانبثق سؤال من عدم لم يطرح من قبل: ترى ما الرأي في الدين؟! خيل إليه أنه مؤمن بالله ومؤمن أيضا بأنه لا شأن لله بحريته الشخصية، وأن الفرائض لا معنى لها، والخمر مفيدة وممتعة ما احتملتها الصحة، ولكنه مقتنع تماما بأنه لا يستطيع أن يصارح ابنه بذلك، ولم يتصور من قبل أنه سيواجه هذا الموقف الحرج.
وقال لزوجته: إنه يطالبنا بالتخلي عن أجمل ما في حياتنا!
فحركت رأسها بالموافقة دون أن تنبس، فتساءل: كيف نستطيع أن نواصلها دون متاعب؟!
كيف يمارسان حياتهما المألوفة تحت سمعه وبصره؟!
وضاعف من همهما أنه دأب على تجنبهما تماما؛ فهو إما في الكلية أو في جامع الحي، أو في حجرته؛ طعامه يتناوله في المطبخ، إنها مقاطعة مطلقة .. هما نفسهما فضلا ذلك - مع الألم والأسف - على مواجهة أخرى أليمة. إن يكن استطاع أن يتحدى ناقديه طوال حياته بلا مبالاة كاملة فإنه لا يستطيع أن يفعل ذلك في بيته ومع ابنه.. إنها مصيبة لا تخف بمرور الزمن ولكنها تتعقد وتستفحل وتنذر بشر العواقب. - كدرت صفوي، عليك اللعنة!
واضطر أخيرا إلى إحياء سهراته في بيوت أصدقائه بعيدا عن ابنه، وخوفا من أن يقدم على تصرف أحمق يحرجه أمام المدعوين. وحنق على تلك التيارات المتطرفة، واعتبرها غريمه الأول في الحياة. ومضت الحياة في ذلك الجو الكدر حتى قذفته بالمفاجأة الأخيرة، فما يدري ذات يوم إلا وشكري يلقى القبض عليه في أعقاب معركة دامية مع الشرطة بتهمة القتل. أدرك سامح أنه خسر ابنه الوحيد الذي عقد به آماله، وانطلق يبحث عن محام قدير ويدبر له المال اللازم من مدخراته وبيع بعض حلي زوجته. ورفض الشاب مقابلة والديه وأنكرهما، وفسد مذاق الحياة تماما، ومرت الأشهر السابقة للمحاكمة كأسوأ ما تكون الأيام. وتمت المحاكمة وقضي على الشاب بالشنق، ونفذ الحكم، وأسدل الستار على المأساة الدامية.
ماذا حدث لصديقي بعد ذلك؟
إنه يبذل قوته كلها كي لا يغلبه الحزن أمام الناس، يتظاهر بالتسليم بالأمر الواقع والارتفاع فوقه، ويأبى أن يرجع عن رأي من آرائه المأثورة، ولكني شعرت طوال الوقت بأنه يغالب ألما دفينا حادا وباقيا كالظل. ويوما قال لي بنبرة ساخرة: الولية بدأت تصلي وتصوم وتتعلم أصول الدين في كتاب الديانة للمدارس الابتدائية!
ولأول مرة في أثناء ذلك العمر الطويل أشعر بأنه يكتم عنا أشياء تحاوره في أعماقه، وأنه على أي حال لم يعد الشخص الذي كان.
آل السناوي
الشيخ السناوي هو الجار المباشر لآل شكري بهجت، إمام جامع الكومي، ولشيخوخته وورعه ذاع صيته كمصدر من مصادر البركة والخير. وكان يعيش في بيته مع زوجة طاعنة في السن أيضا وابن وحيد يدعى محمد وهو صديقنا. وعرفنا أن أم محمد هي الزوجة الثانية للشيخ. تزوج منها على كبر بعد أن فقد الأولى وذريتها بصبر المؤمن المسلم أمره لله. محمد إذن وحيد أبويه مركز الرعاية والحب، ومدلل الأسرة رغم كل شيء. أقول رغم كل شيء لأنه إذا قيمناه بوجهه فهو توءم قرد. ومع أن شهادة ميلاده تقرر أنه يماثلنا في سنه إلا أن مظهره يضيف إلى سنه الحقيقية عشر سنوات على الأقل. ورغم أن التربية الدينية تدين من يسخر من آخر لعاهة فيه أو دمامة باعتباره على أي حال من صنع الله القدير إلا أننا خرقنا القاعدة واستسلمنا لإغراء السخرية من دمامته بإفراط ملحوظ، وشجعنا على ذلك تسامحه الطيب وسعة صدره وقدرته الفذة على مقابلة السخرية بالسخرية. واحترنا في تعليل قبحه؛ إذ إن الشيخ السناوي كان على قدر مقبول من القبول، وأجمعنا على اتهام أمه التي لم نرها وتحميلها المسئولية الكاملة. وحظه في الحياة شابه وجهه، فالرزق محدود، وضاق أكثر عقب وفاة أبيه، واستعداده للدراسة في حكم المعدوم، فلم يوفق إلى الحصول على الابتدائية، ومن نوادر سقوطه أنه سقط مرة في امتحان الخط، وكان لاعب كرة فاشلا، غير أنه توهم دائما أنه عبقري زمانه.
نقول له: ولكنك لم تجرب النجاح أبدا!
فيرد هازئا: وأي علاقة بين هذا وبين الذكاء؟! .. ألا تنجحون جميعا رغم غبائكم؟!
وسعى له أصدقاء أبيه حتى ألحقوه بوظيفة صغيرة بالأوقاف خارج الكادر. ولما شعرت أمه بدنو الأجل زوجته من قريبة لها عانس، قدرنا جميعا أنها تكبره حتى لو قسناه بعمره المفترض لا عمره الحقيقي، ولكنه وفق في زواجه، وفاخرنا بفحولته الفذة، وقنع بالحد الأدنى من المعيشة صابرا، وأكرمه الله بولد قبل أن تنقطع المرأة عن الحبل. وباختلافه إلى المقهى معنا عرف إحباطات جديدة في خيبته القوية في ألعاب الشطرنج والدومينو والنرد، ولكنه لم يعترف أبدا بقصوره وعلق هزائمه بالحظ وحده، فالحظ السيئ هو القدر الوحيد الذي لم يكابر في الاعتراف به. على ذلك كله كان أكثرنا ضحكا وتهريجا وانبساطا. ومضت الحياة ممكنة دون يسر حتى قامت الحرب العظمى الثانية وهبت علينا رياح التغيير وأمواج الغلاء المتتابعة. هنالك اقتحمته المرارة فصب غضبه على كل شيء، شابه في ذلك عبد الخالق مراد، ولكن على حين كان عبد الخالق رافضا لجميع الساسة فإن محمد ركز هجومه على الحكام فكان دائما وأبدا في صف المعارضة. اليوم وفدي وغدا ملكي، لا يهم، ضرباته دائما وأبدا مسددة نحو الجالسين على كرسي الحكم، وقال قولته المشهورة التي أثرت عنه لتكرارها: ستجري الدماء حتى تبلغ الركب!
مبشرا بثورة دموية يموج بها خياله لتجتث الأغنياء والحكام من جذورهم. ولما اشتدت الغارات الجوية وأخذ المخبأ يجمعنا ليلة بعد أخرى، قلنا له: ستتحقق نبوءتك وتجري الدماء ولكنها ستكون دماءنا نحن لا الأغنياء والحكام.
ونجده مشغولا عن تعليقاتنا بتلاوة آية الكرسي مستعيذا ببركتها، كما علمه أبوه في الزمان الأول. ولا أنسى انشراحه عقب حريق القاهرة وقوله باسما عن أسنانه المثرمة: أول الغيث قطر!
ولذلك فعندما قامت ثورة يوليو، وأحدثت إنجازاتها الاجتماعية الرائعة، اعتبرت معجزة مرسلة من أجل عيون محمد، وارتفعت روحه المعنوية إلى أعلى درجة.
وسأله حسين الجمحي: أي فائدة جنيتها أنت يا عم محمد؟
على أي حال قبل ابنه - محمد محمد السناوي - طالبا بالكلية الحربية؛ الأمر الذي يعتبر معجزة في ذاته. وتخرج ملازما، وأصبح عم محمد والدا لضابط في الجيش، واقتحمت الاصطلاحات العسكرية حديثه حتى اعترفنا به عضوا في هيئة أركان حرب. وسافر محمد - محمد الثاني كما عرف بيننا - ضمن حملة اليمن، وتساءلنا ترى هل يقسو عليه القضاء ويتلاشى الحلم؟ والحق لقد دعونا للولد بالسلامة إكراما لأبيه سيئ الحظ، ووضح لنا مدى حبنا لذاك الصديق القديم، ولكن الله سلم، وتحسنت أحوال الابن، وسرى اليسر إلى الأب وأسرته. وبحكم الأبوة عرف محمد الانتماء لأول مرة في حياته، وكان في مقدمة المصابين بهزيمة 5 يونيو المشئومة، فحزن حزنا بالغا، وكان من حسن حظه أن ابنه لم يشترك فيها لوصول فرقته إلى مصر بعد انتهاء المعركة. وفي السبعينيات أحيل محمد إلى المعاش وتفرغ للمقهى. واشترك ابنه في العبور في 6 أكتوبر، نجا من الموت، وحظي بوسام الشجاعة، وارتفع بأبيه إلى ذروة السعادة. اليوم يشغل الابن مركزا عسكريا مرموقا، وينعم الأب بشيخوخة هادئة وعافية يغبط عليها. وقد أصابته نزوة مما تصيب بعض المحالين على المعاش، فقال لنا يوما: ما رأيكم؟ .. لقد ألفت زجلا!
ودهشنا لأننا طيلة عهدنا به لم نلمس لديه ميلا لأي فن، وسحب ورقة من جيبه وراح يلقي علينا زجله. وإذا بتعليق ينفجر مصحوبا بقهقهة: اسمع يا عم محمد، لقد عاشرنا قبحك وجنونك، بل من أجل حبك أحببناهما، ولكن لكل شيء حد، فارجع عن غيك واستعذ بالله من الشيطان الرجيم!
فقهقه بدوره قائلا: هذا حظ من يسبق زمنه!
آل الفنجري
فيما يلي الفرن يقوم بيت آل الفنجري. وأسرة الفنجري تتكون من زوجة، وابنة تزوجت من قبل أن تنتقل إلى الشارع، وولدين هما حسن وحسين الصديقان. والفنجري ترزي إفرنجي يقع محله في وسط شارع العباسية، ميسور الحال، ويملك عمارتين. وحسن وحسين متقاربان في الشبه، لهما نفس اللون الفاتح، والقسمات المتناسقة، والقامة الطويلة الممشوقة، وفيما عدا ذلك فهما نقيضان تماما. حسين وهو الأصغر مثال طيب للاجتهاد والجدية والتفوق. وبتلقائية توثقت علاقته بعزت ورأفت وسامح، جاراهم في الثقافة والرؤية مع انتماء أشد إلى الوطنية أهله ليكون رئيسا للجنة الطلبة الوفدية بالوايلي .. والتحق بكلية الطب في أول الثلاثينيات وتخصص في الجراحة وصار مع الزمن من كبار الجراحين، وبحكم عمله انقطع عنا فيما عدا المناسبات. أما حسن فكأنما خلق ليكون مهرجا محترفا. شخصيته عجيبة لم يقف أحد على سرها الدفين. لا أذكره إلا غارقا في الضحك، يضحك إذا سمع نكتة أو أطلق نكتة، يضحك في مواقف الهزل كما يضحك في مواقف الجد، في الأفراح يزيط ويجلجل، في الجنازات يتحين الغفلات ليسخر من مظاهر الحزن أو يروي النكات عن الموت والأموات، وفي المآتم نتجنب الجلوس في مجاله. لم أعرفه جادا على الإطلاق ولو مرة واحدة، خفة؟ استهتار؟ مرض؟ .. الله أعلم. وأخوه حسين كثيرا ما يضيق بأقواله وأفعاله، وربما وجه إليه كلمات حادة عما يليق وعما لا يليق، فكان يسدد نحوه رشاش نكاته حتى يجعل منه أضحوكة لنا. ويحتكم حسين إلى أبيه ولكنه لا فائدة ولا عائدة. الفنجري يئس تماما من حسن، ورغم ذلك - أو بسبب ذلك - خصه بعطف كبير. ولما التحق الأصغر بكلية الطب، وترنح الآخر وهوى أكثر من مرة أمام حاجز البكالوريا، قرر الرجل أن يرسله إلى فرنسا في بعثة خاصة.
قال له: ارجع بأي شهادة!
وودعنا الصديق المرح في ليلة تذكر، وسافر إلى فرنسا. وعلمنا منه فيما بعد كيف انقضى وقته في باريس كالأعيان، في نطاق خمسة عشر جنيها شهريا، وكانت كافية لمعيشة حسنة في الشارع والملهى وبيت الدعارة. وترامت إلينا أخبار غريبة عنه، وهي أنه اختير للغناء في بعض الملاهي الليلية. الحق أنه لم يعرف له أي استعداد للغناء، فلم ندر كيف استجابت حنجرته للنغم الفرنسي وكيف وجد من يعترف به مطربا أو من يستمع إليه. وكم وددت أن أشهده وهو يغني، وهو يتعامل مع مدير الملهى والزملاء!
وهل استطاع أن يمسك عن الضحك في وقت العمل؟! على أنه كان حتما مطربا عاديا وإلا لشق لحياته طريقا آخر، ولكنه رجع إلى مصر عندما أنذرت الحوادث باندلاع الحرب. رجع كما ذهب يا مولاي كما خلقتني، لا شهادة ولا مال، حتى معرفته بالفرنسية كانت معرفة شوارع. وواصل حياته القديمة معنا، المهرج الخفيف اللطيف المرح الذي لا يحمل هما أو يتعثر في مشكلة، وانقطعت صلته بأخيه تماما دون أسف من الجانبين. ومضت حياته بين المقهى والملاهي تحت ظلال الخمر والمخدرات. وفي أثناء الحرب تعرض لتجربة قاسية في إحدى صالات العرض السينمائي؛ ساقه حظه إلى الجلوس إلى جانب فتاة بصحبة أسرتها، وحاول أن يعبث في الظلام، وخرج في عبثه عن الحدود حتى صرخت البنت وكانت الفضيحة. وانتهت الواقعة بإلقائه في السجن عاما أو عامين لا أذكر، ومات الفنجري وهو في السجن. وغادر حسين السجن ليرث ثروة تضمن له حياة ميسرة، ولم يغير السجن من شخصيته شيئا. وراح يحكي لنا الواقعة وكيف وقعت في الظلام وهو لا يتمالك نفسه من الضحك، وكيف سعى أبوه إلى التوفيق مقترحا أن يتزوج حسين من البنت ولكن الأب رفض بإباء. وحكى لنا كثيرا عن السجن ونوادره وكأنما كان راجعا من مسرح الريحاني .. وواصل حياته، المهرج، الخفيف، المرح، اللامبالي، السكير، الحشاش، حتى أصابته أزمة قلبية في الخمسينيات وهو يشرب في البارزيانا، فحمل إلى البيت وأسلم الروح عند منتصف الليل.
أذهلنا الخبر كأنما لم نصدق أن أمثاله يموتون، وذكرنا آلاف الضحكات التي أطلقها من صدورنا فخيم علينا حزن ثقيل.
آل الكاشف
فيما يلي آل الفنجري يقع بيت آل الكاشف، ولدى انضمامنا إلى سكان الشارع لم يكن بقي من أهل البيت فيه إلا رب الأسرة والابن الأصغر عبد المنعم وهو صديقنا. الكاشف بك في الحلقة السادسة، من كبار مهندسي الري، وذو مظهر عسكري صارم. وله بعيدا عن شارعنا ابن وهو البكري، وابنته تليه في العمر، أما صديقنا فقد ولد عقب فترة انقطاع غير قصيرة. ويعتبر البكري من نوابغ عصره، دكتور في الكيمياء من إنجلترا، وفي طليعة الرجال الذين بسطوا العلم ونشروا ثقافته بين عامة المثقفين، وامتاز بأسلوب أدبي سلس وبليغ يسلكه في نطاق بلغاء العصر من الأدباء المحترفين دون مبالغة. ولا تقل الأخت نبوغا عن أخيها، وقد نالت الدكتوراه من إنجلترا أيضا في الرياضة وتألقت في عالم التربية والتعليم. عرفت الأسرة بالذكاء والتفوق، وهي تدين في تفوقها أيضا بجدية الأب الإسبرطية وحرصه الدائب على تأهيل أولاده للبروز في البيئة العلمية. صديقنا عبد المنعم نشأ في جو مختلف، ترعرع في أحضان الإسبرطية ولكنه فقد منذ طفولته حنان الأم ورعايتها. ولم توجد مشكلة في الدراسة فقد كان يحفظ دروسه وينجح، ولكن الكاشف بك يعتبر النجاح المدرسي أولى الخطوات فحسب، ويطالب أبناءه إلى ذلك بالثقافة والاطلاع والاستقامة في السلوك والطباع داخل البيت وخارجه، وخيب عبد المنعم تطلعات أبيه في ذلك كله. عدا النجاح والانتماء الوطني المتوسط أيضا لم يكترث بشيء. كره البيت فهو لا يلزمه إلا عند المذاكرة، وانتمى للشارع بكل جوارحه، يهيم على وجهه هنا وهناك، ويقتبس قاموسه الخاص مما يلقى على سمعه، منجذبا انجذابا خاصا إلى الشواذ والغرائب. وانفجر بينه وبين أبيه خصام لا ينتهي، وكان يتحمل التأديب الشفوي واليدوي بقوة خارقة، لا يتراجع عن أهوائه أبدا. وفي العطلة راح أبوه يخفي أحذيته في صوانه الخاص ويغلقه ليضطره إلى البقاء في البيت مع الكتب، فكان ينطلق إلى الطريق منتعلا قبقاب الحمام دون مبالاة، ويحرمه من المصروف اليومي فيبيع ما يختاره من تحف البيت وأوانيه، ويأكل كل علقة وأختها صابرا متصبرا، حتى جفت ينابيع الحب بينه وبين أبيه، وكم يتمنى موته جهرا وكم نذر لذلك النذور! واشتهر بحب أطعمة السوق الشعبية مثل لحمة الرأس والكشري والطعمية والفول والعدس والفسيخ، ولم يكن يشارك أباه المائدة، ويستعمل الشوكة والسكين إلا في نادر النادر، قال عنه حسن الفنجري: إنه صاحب أعظم معدة شعبية.
وفي تجواله حفظ الكثير من نواح النادبات، وكان يطربه أكثر من أغاني أم كلثوم وعبد الوهاب، وفي ليالي السمر يسمعنا ما لا نحب مثل:
عيني عليك ياللي تموتي عازبة
أو:
يا شابة يا صبية يا قد المعدية
وكثيرا ما كان ينشد مراثيه ونحن نخترق الحسينية في طريقنا إلى حي الحسين، ونردد وراءه المقاطع المكررة، فيتطلع إلينا الأهالي متوقعين أن يشهدوا جنازة، ولما تتكشف لهم الحقيقة ينهالون علينا بالشتائم والدعوات الطالحات!
وهو قوي الجسم، عملاق القامة، شعبي الملامح، مرح رغم همومه، طيب القلب. وليس من النادر - إذا طرده أبوه إثر احتدام خصام - أن يبيت في الحقول وحده. ومن عجب أن لم يبد أي اهتمام بالجنس الآخر، ولا تأثر يوما بالجمال. ما من فرد من شلتنا إلا عشق، وتشكى آلام العشق والحرمان، حتى محمد السناوي، أما عبد المنعم فربما كانت أكلة كرشة أهم عنده من أجمل امرأة في العباسية. ولي معه واقعة عرضني فيها للموت لولا لطف الله؛ حدث ذلك في الثلاثينيات وفي تجمع شعبي خطير قام لاستقبال مكرم عبيد حال عودته من رحلة سياسية ناجحة في الخارج. وكانت دكتاتورية محمد محمود تلفظ أنفاسها، فسمحت الداخلية بالمظاهرة، وأمرت رجالها بالمحافظة على الأمن مع عدم التعرض للمتظاهرين. لأول مرة نرى رجال الأمن وهم يتفرجون علينا في دعة وسلام. ومر موكب سكرتير الوفد يشق طريقه في بحر زاخر بالهاتفين، وسرنا وراءه بأمل أن نستمع إلى الخطب في بيت الأمة. وفي مكان ما من الطريق صادفنا مأمورا في ملابسه الرسمية يقف وسط التيار بلا سلاح وفيما يشبه المودة والتشجيع. وفجأة انقض عليه عبد المنعم ووجه إلى بطنه لكمة عنيفة غير متوقعة انقلب على أثرها على وجهه وهو يخور. تلفت فيما حولي في فزع فرأيت فارسا على بعد يتطلع إلى الحادث بغضب ويحاول الاندفاع نحونا. وجرينا بالسرعة التي يسمح بها الزحام، ونحن نعلم أن الموت يطاردنا، وكلما قطعنا شوطا نظرنا خلفنا فنرى الفارس وقد لحق به نفر من الفرسان وهم يشقون طريقهم بصعوبة وأعينهم لا تتحول عنا، وما زلنا نجري حتى لذنا ببيت الأمة ونحن نرجو ألا يكونوا قد تابعوا لواذنا، وقبعنا فيه والخطب تلقى والهتاف يتصاعد. ولم أصدق ليلتها أنني نجوت وأنني رجعت إلى بيتي سالما، وأسأله بحنق: لماذا فعلت ما فعلت بلا أي موجب؟
فيقول ضاحكا: أي اعتداء على الشرطة حلال!
ورغم مرحه الغالب كان الاكتئاب يزوره من حين لآخر فيلوح كالمريض. ربما لقامة أبيه التي تظله وتطارده، وربما لتفوق أخيه وأخته وضآلته بالقياس إليهما. وفي لحظة من لحظات الاكتئاب أقدم على الانتحار؛ دأب على ذكر الانتحار في حديثه باعتباره أمل اليائسين ولم نأخذ حديثه مأخذ الجد، بل حاول أن يصحبني معه، فسألني يوما: لماذا لا تفكر جديا في الانتحار؟
فقلت هازئا: امنحني فرصة للتفكير، ولكن لماذا أنتحر؟
فقال جادا: لقد أرهقك الحب كما أرهقتني الكراهية، ألا يكفي ذلك؟
ولكنني لم آخذ قوله مأخذ الجد. وجلسنا ذات أصيل في المقهى نستعد للعب النرد وإذا به يقوم قائلا: عن إذنك دقيقة.
وغاب خارج المقهى وجلست أنتظر وإذا بصراخ ينفجر كالعواء. هرعت إلى مدخل المقهى فرأيت عبد المنعم يتمرغ عند أصل شجرة مغروسة أمام المقهى، ويعض جذعها من شدة الألم. وتجمع الناس، واتصل من اتصل بالإسعاف، وقال بعضهم: واضح أنه انتحار.
وجاءت سيارة الإسعاف فحملته وقد شملنا الفزع والذهول. وعرفت أنه شرب كمية من حمض الفنيك ولحق بي في المقهى، وأسعفوه في الوقت المناسب. واستدعوا الكاشف بك لسؤاله فأدلى بأقواله وذهب دون أن يلقي نظرة على ابنه. ورجع كما ذهب لم يعن بزيارته سوانا، وتأثرنا جميعا غاية التأثير، وأبى عزت إلا أن يفعل شيئا؛ قابل الكاشف بك، وخاطبه بالأسلوب التقليدي قائلا: «يا عمي»، وقال له: عبد المنعم في حاجة إلى عطفك حاجته إلى حزمك!
ولم ينبس الرجل بكلمة، وظل طيلة الوقت متجهم الوجه، حتى غادر عزت البيت دون أن يقدم له فنجان قهوة.
ولما حصل عبد المنعم على البكالوريا قرر أن يلتحق بالكلية الحربية، ولم يعترض الكاشف بك يأسا منه فقال: في ألف داهية.
ونجح بعد ذلك في الالتحاق بكلية الطيران الجديدة، وأظهر تفوقا فسافر في بعثة إلى إنجلترا، ولدى رجوعه فاجأنا بزواجه! لا ندري كيف انتبه فجأة إلى وجود الجنس الآخر وأنجب ابنه الوحيد. وألحق بخدمة الملك فاروق ياورا فصار من المقربين، وعلق حسين الجمحي على ذلك بقوله: من الكرشة ولحمة الرأس إلى سراي عابدين، يا لها من وثبة خرافية!
ومنعته تقاليد وظيفته الجديدة من مجالستنا في المقهى. ربما تسلل إلينا في بعض الليالي إطفاء للشوق ثم يذهب في حذر. أخلاقه لم تتغير ولكن تقاليد حياته لا تعرف الرحمة. ولاحظت أنه أصبح ملكيا ونسي الوفد تماما وانتحلت له الأعذار. وذاع عن الحاشية ما ذاع ولكن لم تحم حوله شبهة أبدا. ولما قامت ثورة يوليو حاول أن يهرب الملك ولكنه فشل، وجرى معه تحقيق، واكتفي بإحالته إلى المعاش دون محاكمة، مما قطع بنقاء سلوكه. غير أن أقران ابنه في المدرسة عيروه بأبيه حين التحقيق معه وبعد إحالته على المعاش، وأبوا أن يعترفوا ببراءته. وناضل الولد ما استطاع عن سمعة أبيه حتى أصيب بانهيار عصبي، وتكالبت عليه المضاعفات حتى تقرر إدخاله مستشفى الأمراض العقلية وما زال مقيما به حتى الساعة.
ورجع عبد المنعم بعد المعاش إلى سابق عهده بنا، لم يكن الشخص القديم، ومن منا كان؟ وبدا متماسكا بعد فقدان وحيده أكثر مما توقعنا، وسرعان ما فسدت حياته الزوجية لأسباب لم يعلنها وربما لم يكن من المستحيل تصورها، وانتهى الأمر بينهما بالطلاق. وما لبث أن تزوج من امرأة ألمانية، فهيأت له حياة مستقرة لم يعرفها من قبل، وعاش حياته سعيدا أو كالسعيد ما بين مصر وألمانيا. ومن العجيب أن حديثه شهد على ما اكتسبه في حياته من نضج وحكمة وثقافة جعلت منه شخصا جديدا بالغ الروعة. لم يكن من أنصار الثورة ولكنه أيضا لم يكن من أعدائها المتعصبين وحسبه ذلك. وحظي بمستوى معيشة حسن بفضل معاشه وميراثه. وقد تجلى إخلاصه في حزنه الشديد في أعقاب هزيمة 5 يونيو، وانتعاش روحه عقب حرب 6 أكتوبر. وكان يجب أن تتوقف دراما حياته عن إفراز المفاجآت ولكن زوجته الألمانية أهدت إليه آخر المفاجآت؛ فبعد المعاشرة الطويلة والإيغال في الشيخوخة إذا بها تتمرد فجأة على حياتها الزوجية واستمرار الحياة في مصر، وانفصلت عنه راجعة إلى ألمانيا تاركة إياه في وحدة وشيخوخة، وقال: هجرتني الولية المجنونة في سن لا تسمح بعلاج لوحدتها!
ولكنه خلق حمالا للهموم والمصائب، وظل يمتعنا بمعاشرته العذبة حتى طلع علينا «الأهرام» ذات صباح بنعيه، وانضم ركب من الذكريات الحميمة إلى القافلة التي لا تتوقف عن السير.
آل ضرغام
ويجيء بعد آل الكاشف بيت آل ضرغام، ويقيم في البيت ، ربه ضرغام الهندي وبكريته صافيناز وابنه الأصغر - صديقنا - سيد، أما الأم فقد رحلت عن دنيانا من قبل انتقالنا إلى شارع الرضوان بأعوام ثلاثة. الأب متوسط القامة، قمحي اللون، واضح الملامح، صلب القسمات، يوحي منظره بالحدة والجدية والتجهم. يملك محل رهونات بباب الخلق يستأثر بكل وقته من طلعة الصبح حتى هبوط المساء. وعدا الاشتراك في واجب العزاء فلم يعرف واجبا من واجبات الجيرة. وعم فرج يقول عنه في غياب سيد طبعا: غضب ربنا مطبوع على وجهه!
وخيل إلينا أننا نرى أثر الغضب الإلهي في وجهه الجامع بين الحسن والصرامة، ولكن عم فرج كان يعرض بمهنة الرجل الحقيقية وهي الإقراض بالربا رغم إسلامه الرسمي، بل وصفه كثيرون من أهل شارعنا بالملعون، ولم يخف ذلك عن سيد، ولم يبد أنه اكترث له أو اغتم. وكانت صافيناز على جمال ورشاقة فعشقها يهودي من سكان السكاكيني وتزوج منها بعد إشهار إسلامه، وسمعنا أنه تاجر أقمشة، وعلى درجة حسنة من الثراء، كما كان من المتعاملين مع ضرغام في حقل العمل. وصديقنا سيد صبوح الوجه، رشيق، ضحوك، مطبوع على اللامبالاة، وكنا نحبه لجاذبيته وصراحته وذكائه، كما نجد في لامبالاته موضعا دائما للإثارة. وما أشبهه بسامح في موقفه من التقاليد! ولكنه من نوع آخر ولأسباب مختلفة، وقد زاملنا في المدرسة الابتدائية ثم تحول منها إلى التجارة المتوسطة رغم استعداده الطيب للنجاح؛ إذ إن أباه ضرغام أفندي هندي نجح في أن يصبه في قالبه، فقال له: لا أهمية للتعليم إلا كتمهيد للعمل، فلا تهتم بالشهادات.
كان يعده ليحل محله في محل الرهونات والإقراض بالربا. ولم يمهله حتى يرشد فقرر أن يؤقلمه بجو العمل وعبادة المال من صباه. الأول جعل منه المحصل الأمين لأقساط قروضه ليمارس ويتدرب ويندمج، ومضى يتردد على المقترضين بدفتر الإيصالات ويحصل الأقساط ويرجع بها إلى أبيه سعيدا فخورا نظير نسبة من الأرباح. وتعلم منذ تلك السن المبكرة أن يربح وأن يدخر وأن يعرف لكل مليم قيمته، ويقول لنا ضاحكا: كلما أقبلت على رجل منهم فر الدم من وجهه!
فيقول له حسن الفنجري: أهلا بعفريت الرجال!
وتأدب بآداب أبيه في تقديس القرش وعبادته، ولم يكن يصرف مليما إلا لضرورة مقنعة. وتعود منذ صغره أن يسمع الغمز واللمز يقرضان سمعة أسرته، وتهم الشح والكفر تنهال عليها، فنشأ بكل بساطة مزدريا للدين والتقاليد والأخلاق التي تدين أباه وعمله. كان وثنيا وكأنه من مواليد الغابة مثل طرزان، بلا دين ولا وطن، ثم قرر أن يعيش بلا أسرة أيضا؛ يسخر دائما من الزواج والأبوة، ولم يخف دهشته من المجانين الذين يتزوجون، ولم ينتم لأي مبدأ أو رأي أو شرق أو غرب. ولعله من أعجب الأمور أن تجمع شلتنا كل تلك المتناقضات وأن تحافظ في ذات الوقت على المودة والحب بين أفرادها! وفي الثلاثينيات توفي ضرغام أفندي هندي بالسكتة القلبية، وافته المنية في بيت من بيوت الدعارة الرخيصة! لم يتزوج الرجل بعد وفاة أم سيد. لعل حرصه على المال هو الذي صده عن طريق الزواج، ولم يعرف عنه في حياته كلها أنه ممن يستجيبون إلى قلوبهم في قول أو فعل؛ ولذلك فإن مخاوف صديقنا سيد من تلك الناحية كانت وهمية ونتيجة لسوء ظن في غير محله بأبيه. كلا، عاش الرجل أمينا مع نفسه تماما، وكان كلما ثقلت عليه الوحدة روح عن صدره بزيارة سرية لبيت من بيوت الدعارة. وشاء سوء حظه أن تفيض روحه في آخر مغامرة من مغامراته؛ لذلك كثرت نوادرنا حوله، وجعل منه حسن الفنجري شخصية أسطورية مثل جحا، وكان سيد يشاركنا في المزاح ويسبقنا في الضحك. كان يباهي بكل ما يؤخذ عليه من البخل والإقراض الربوي والوثنية ونوادر أبيه. وبموت أبيه حل محله في دكانه وعمله وورث نصيبه من أمواله المكنوزة في البنوك، وبات من أغنى الأغنياء بكل معنى الكلمة. وكان بخلاف أبيه لا يضن على نفسه بمتعة، فجدد البيت بناء وأثاثا، واقتنى سيارة فورد، وقال ملخصا فلسفته: سأعيش طيلة عمري عزبا، حسن! يجب أن تكون العيشة محترمة، مسكنا وملبسا وطعاما وجنسا، ولا مليم وراء ذلك إلا بحساب!
لا مليم وراء ذلك. وأذكر أنه أثار مرة ضجة لخلاف حول مليم في حساب مشترك بينه وبين سامح، وأراد سامح أن يغالطه على سبيل المزاح ولكنه اضطر إلى التسليم إيثارا لراحة الدماغ. ومن صفاته البارزة بعده الكلي عن الفن والثقافة وجهله الكامل للحب؛ لم تحركه أي فتاة، ولم يخفق قلبه أبدا بغرام، وكان للمرأة وقت محدد في جدوله الأسبوعي، وقد يختارها من الملاهي ويؤدي لها ثمنها المرتفع ثم يمضي إلى حال سبيله. ومرت بوطنه أحداث وأحداث وهو ينظر إليها من بعيد أو لا ينظر إليها على الإطلاق. وراح الزمن يتقدم وهو يكبر ولا يتغير ضاربا المثل الحي للرجل الناجح السعيد. وأسأله أحيانا: ألا تشعر بالوحدة؟ ألا تحن إلى الأبوة؟ ألا تندم على شيء فاتك؟
فيقول ضاحكا ساخرا: إنك تسأل عن أوهام بدافع من أوهام! - قد يضعف الإنسان في شيخوخته؟ - لم يفتني الاستعداد لذلك! - كيف؟ - إني أحتفظ للظروف السيئة بسم يقتل في ثوان!
نظرت إليه ذاهلا، فقال: قد ترى حياتي سخفا، ولكني هكذا أرى حياتكم! - على أي حال لن تأخذ المال معك إلى قبرك؟ - المهم أن يسند ظهري في هذه الحياة.
طالما أحنقني لتمرده على نظرياتي. طالما توقعت أن يقع في حب ليخلقه من جديد ولكنه لم يقع في حب. طالما تصورت أنه سيندم في شيخوخته على ما فاته في شبابه ولكنه لم يندم. أصر على أسلوبه في جمع المال، وشرب الوسكي الفاخر، وتناول الطعام اللذيذ، والزيارة العابرة للغانية الأثيرة، والبعد الكلي عما يكدر الصفو من شئون الدنيا والآخرة. ومرة على الأقل تنبه إلى أن راقصة تعامله بحنان خاص، وتلاحقه بالتليفونات، وتفاجئه بالهدايا، وترجم ذلك باللغة الوحيدة التي يتقنها، وهي أنها ترمي شباكها لتغتال ماله، وقطع علاقته بها دون مقدمات، ولديه جرأة على ذلك لا تبارى. واقتحمت عليه مجلسه في الأوبرج ذات ليلة لتصارحه بأنه بلا قلب، فقال لها ساخرا كعادته: أعرف للقلب وظائف كثيرة ليس بينها الحب!
وتشفعت المرأة إليه ببعض معارفه، فقال: الكرم نفسه أقرب إلي من الحب!
فإذا سئل عن سر الحب الذي وقع فيه كثيرون من شلتنا قال: إنه الحرمان، هذيان الحرمان وخيالاته.
فسألته متحديا: وملك إنجلترا الذي تنازل عن العرش من أجل امرأة مطلقة؟ - الجنون حقيقة موجودة، يجب أن نسلم بهذا!
غير أنه اعترف في شيخوخته بأن الجنس الميكانيكي يضعف ويدركه الخمود.
ولعله لم يعرف الخوف إلا بعد قيام ثورة يوليو. أجل، لم يكن من ملاك الأراضي ولا من رجال السياسة، ولكنه على أي حال ينتمي إلى الطبقة الغنية التي ترمقها الثورة بريبة وعداء. ومن أجل ذلك، وبمعاونة بعض أصدقائه من اليهود، هرب بعض أمواله إلى الخارج. ومضى يهتم بالسياسة وأخبارها لأول مرة في حياته، وجعل يقول لنا صراحة: جلا الإنجليز عن البلاد وأخذوا معهم القانون والأمن!
وتعالت الاعتراضات في ركن المقهى، فقال بإصرار: نحن لا نصلح لحكم أنفسنا، وإذا لم يكن بد من أن يحكمنا جيش فمن الأفضل أن يحكمنا جيش متحضر.
لذلك اعتبر يوم 5 يونيو عيدا في حياته، ومضى يقول شامتا ساخرا: المسألة أن الجيش لا يجوز أن يحارب في جبهتين، وقد انتصر الجيش علينا في الداخل فله العذر إذا انهزم في الخارج!
وجاء الانفتاح فكان عيدا آخر، وتنوعت أعماله وتضاعفت أرباحه، وكان يقول: يقولون إننا نرتمي باختيارنا في حضن الاستعمار الأمريكي، فاللهم بارك خطانا!
وهو اليوم في الخامسة والسبعين، قل نشاطه ولم ينعدم، صحته حسنة، ومزاجه رائق، وضحكته عالية. وقد اكترى شقة على النيل في طريق المعادي في الدور الخامس عشر، ويقسم لياليه بين ملاهي الهرم ومقهى العباسية.
آل العلوي
جيران السناوي. ولبيتهم ميزاته من الضخامة النسبية وجمال الأثاث والرياش، فضلا عن أن جدرانه معرض وطني لزعماء الوفد. وآل العلوي أسرة عريقة في الثراء والجاه، وجدهم مذكور في تاريخ الجبرتي بين النخبة الوطنية المصرية، وعندما انتقلت إلى شارع الرضوان وتوثقت عرى الصداقة بيني وبين ابنهم الأصغر جميل، كان رب الأسرة قد لزم الفراش طريحا مفلوجا، وكانت الأم تقوم بواجبات الوالدين معا. وإلى ذلك كان له أخوان من أهل العلم والخبرة يشغلان وظائف مرموقة في الحكومة، وأختان متزوجتان من موظفين كبيرين، والأم سيدة ممتازة حقا ممن سبقن إلى التعليم في أعلى درجاته المتاحة، وشاركن في الحركة الوطنية، واحتلت مركزا رفيعا في لجنة السيدات الوفديات، هو بإيجاز بيت علم وجاه ومال ووطنية. ولما مات الأب شهد شارعنا جنازة كبرى سار في مقدمتها سعد زغلول ومصطفى النحاس ومكرم عبيد وماهر والنقراشي وغيرهم من أساطين الثورة المصرية. وجميل مشرق الوجه، رياضي الجسم، نبيل المظهر، ولكنه انحرف عن سبيل أسرته فوهب نفسه للرياضة واللهو، ولم يحقق في حياته المدرسية النجاح المتوقع، فحصل على الابتدائية بطلوع الروح، وغلب الحب أمه فلم تعامله بالحزم الواجب. جل كان يطلع على المجلات والكتب، وكان ذكاؤه أكبر من همته فلم يطبع بطابع التفاهة أو السطحية أبدا، ولم يفتر اهتمامه بالشئون العامة. وأصيبت أمه بمرض عضال لم يمهلها طويلا فلحقت بزوجها، ووجد صديقنا نفسه وحيدا في بيت الذكريات مع الطاهي وخادم عجوز. وتسلم تركته الوفيرة في وقته فاقتنى سيارة فيات وعاش عيشة الأعيان منذ شبابه الباكر. إنه مثال نادر الوجود في نبل أخلاقه ونقاء سريرته وشهامته وخفة ظله وخالص مودته، فضلا عن انتمائه القلبي إلى وطنه. ولا شك أنه تنبه بعد فوات الفرصة إلى فداحة الخسارة التي حاقت به بإهماله الدراسة، وإلى الفوارق التي باعدت بينه وبين أفراد أسرته والناجحين من أصدقائه، ولكن ذلك لم يوغر صدره على أحد، ولم يرسب في أعماقه عقدة من عقد النقص أو العظمة الكاذبة، فظلت العلاقة بينه وبين إخوته وأصدقائه على أتم ما يكون من الصفاء والمرح، ولكنه من ناحية أخرى انغمس في ملاهي الشباب، فعشق النساء وشرب الخمر وجرب المخدرات. وربما شابه سيد ضرغام في استهتاره أو سامحا في تمرده على التقاليد، ولكن ذلك اقتصر على السطح دون الأعماق. كان صاحب عقيدة دينية ومبادئ أخلاقية ووطنية، ولكن بقدر ما امتلأ قلبه بالأنوار بدا سلوكه منحرفا مستهترا متمردا، يؤمن بالله ودينه ولكن لا يؤدي فريضة ولا يحترم طقسا، ويتأجج قلبه بالوطنية ولكنه لا يترجم ذلك إلى سلوك أو فعل ، فلم يتفق قلبه وسلوكه إلا في المعاملة، معاملة الأصدقاء بصفة خاصة والناس بصفة عامة. ومضى في حياة اللهو ما بين القاهرة والإسكندرية حتى فكرت أختاه في تزويجه من بنت الحلال المناسبة. ولما فاتحتاه في ذلك، قال بهدوء حازم: لن أتزوج، إنه قرار قديم ولكنه أبدي!
ودهشنا لما سمعنا. وكان عبد الخالق - الملهوف على الزواج والمحروم منه لفقره - أشدنا دهشة وقال له: تستطيع أن تتزوج من أحسن بنت في البلد!
ولكنه كان يفكر تفكيرا مختلفا، الزواج الذي تقترحه أختاه زواج الكفاءة، والأسرة والعرائس في طبقته يتطلعن إلى المركز والشهادة مع المال أو قبل المال. وهو يتحمل أي شيء إلا أن يرفض لتعليمه الرسمي المحدود أو بطالته! فتحت إشراقة الوجه وسماحة الخلق ولطافة المعشر كمنت الكبرياء كقوة لا تعرف الوسط، قلت له: توجد ولا شك من ترحب بك.
فقال باسما: لست شحاذا!
ورغم كل ما قلت عنه فإن قصته الحقيقية لم تبدأ بعد، ألم تبدأ وتنته مع القمار؟ أجل، إنه متعدد الهوايات؛ فهناك الصداقة والحب العابث والشراب والقراءة والسينما، ولكن كل أولئك لا تمثل إلا هامش حياته فقط، أما اللب والجوهر والماهية فهو القمار، بدأ لعبه هواية، تسلية، وتمكن واستفحل حتى صار جوهر الحياة ومعناها ونبضها وحلمها وكل شيء فيها، صار قلبه وعقله وخياله وأعصابه، قلنا إنه القمار والقمار هو. النرد والبصرة، البوكر، الكونكان في المقهى، في البيت، في النادي، ثم بعد التحريم في بيوت القمار السرية. وكان له وقت معين وللأشياء وقتها، ثم التهم الليل كله حتى مطلع الصبح، وأصبح لكل شيء سواه وقت يخطف خطفا، وأصبح المحور وكل شيء يدور من حوله. المائدة هي الأصل، وقد يشرب وهو جالس إليها، أو يتناول طعام عمل، أو يعشق امرأة مقامرة. كل لذة باتت ثانوية بالقياس إلى القمار، حتى الحب نفسه. كأن الكون لم ينفجر، والأرض لم تولد، والحياة لم توجد، إلا كي يتمخض عن ذلك كله الكوتشينة الملونة المزركشة برموزها وأعدادها المقررة للمصائر. ولم تؤثر المقامرة في صفاء أخلاقه؛ فلم يقارب الغش ، ولا التآمر، ولا الحقد أو الغضب، حتى لو تبين له أنه كان ضحية اغتيال واحتيال، وجرت الحياة على منوال واحد حتى بلغ الخمسين من العمر، وعقب استيقاظه من نوم النهار، ذات يوم من الأيام، ما يدري إلا ويد تقبض على عنقه، وتضغط بغلظة على جهازه التنفسي، وتمزق حنايا صدره. ويخف إليه طبيب الحي ليعلن عن مجيء الذبحة الصدرية، ويصف العلاج والرجيم ويوصي بالتزام الفراش شهرا على الأقل، لم يصدق ولم يستسلم. أبى أن ينضم إلى زمرة العاجزين أو شبه العاجزين، أبى أن يحرم نفسه من طيبات الحياة من أجل ضربة عابرة. وما كاد يشعر بتحسن مع دخول الليل حتى نهض فارتدى بدلته وذهب إلى سهرته! ورجع إلى بيته في الصباح الباكر ليتلقى الضربة الثانية. ولم يصدق الطبيب ما حصل، وقال: إنه الجنون نفسه!
وأدرك على رغمه أن الحال تقتضي جدية وصبرا فاستكن. ولما استرد صحته فكر في الأمر مليا. إنه مطالب بتناول الدواء بصفة مستمرة، والحرمان من لذيذ الطعام، وتجنب الانفعالات أو القمار بمعنى آخر. وبمعنى آخر أيضا إذا أراد الحياة فليقنع منها بأن يكون جثة محنطة، ليستمر نبضه وتنفسه عددا من السنين. كلا، ليس هو ممن يختارون هذه الحياة، إنه لا يخاف الموت ولا تزعجه فكرته، وما تهمه إلا الساعة التي هو فيها. والموت آت على أي حال سواء سبق بالفوضى أم بالنظام، بالاستهتار أم الحرص، فاحي حياتك وليكن ما يكون. ومارس حياته كأن لم تعترضها ذبحة أو طبيب أو إرشادات طبية. ويراقبه الأصدقاء بقلق، ولا يضنون عليه بالموعظة والإرشاد. ويشيدون بفضيلة الاعتدال، تذكر ما وهبك الله من مال وحرية وعقل، توجد فرص كثيرة للحياة الطيبة الطويلة، ولكننا ننهزم حيال ابتسامته الحلوة الساخرة الملخصة لفلسفته في الحياة بلا كلام، بل إنه اعترف لنا ذات يوم قائلا: الدهن الحيواني محرم علي كما تعلمون، ولكنني لا أرضى بأقل من ست كعكات من كعك العيد!
وصاح به حسن الفنجري: إنها تتخم مدينة صغيرة لا معدة فرد من بني آدم!
وواصل سهره مع القمار إلى الصبح، وخطر لي يوما أن أسأله عما يجذبه بكل تلك القوة إلى مائدة القمار. توقعت أن يقول الفراغ أو الضجر أو اليأس ولكنه أجابني مرة في لحظة صدق: المائدة تجمعني بنخبة من الأكابر، لا على أساس من المساواة فحسب، ولكنها تمنحني السيادة أيضا في كثير من الأحايين، ولا تنس لذتها الجنونية!
ويئست من تقويمه، وتوقعت مصرعه بين يوم وآخر. سنخسر صديقا من أنبل من عرفنا في حياتنا، صديق الذكريات الطيبة التي لا تشوبها شائبة. ولم تصدق مخاوفي، بل خيل لي أن الذبحة تناسته كما يتناساها، وأنه أحرز انتصارا على قوانين الطبيعة، وفاجأنا وهو يقترب من الستين بقوله: أريد أن أتزوج!
أعلن رغبته بعد انقضاء عامين على وفاة امرأة عاشرها طويلا، عرفها في بيت قمار، واتخذها خليلة، وجمعت بينهما ألفة كالزوجية أو أشد، وطالما ألحت عليه أن يتزوج منها وأن يتوب عن القمار ولكنه جاد بكل شيء إلا الزواج. وماتت فجأة، ولأول مرة أراه يبكي بحرارة، لأول مرة يكشف عن قلبه الذي يخفق بالحب كما يخفق بالحزن، كأنما أرى شخصا جديدا تماما، أجل شهدت حزنه يوم وفاة مصطفى النحاس، ولكنه مر سريعا، وحسبته تحية قلبية لذكرى والديه. أما هذه المرة فقد بكى بكاء مرا وسلم نفسه لنوبته بلا حرص، ولم يعد الرجل الذي يتحدى الموت ليله ونهاره. وبعد انقضاء عامين حن إلى الزواج، ولم يبذل من ناحيته أي جهد لتحقيق رغبته ولكنه أعلنها لنا وانتظر. وتحاورنا في حيرة، حقا إنه رجل ثري وجيه وابن أسرة كريمة، ولكنه في الستين من عمره ومدمن قمار ذائع الصيت، لن ترضى به امرأة إلا بعيب فيها أو طمعا في أن ترثه بعد موته. وشعر بأننا نحرث في بحر كما يقولون فتجاهل رغبته، وطواها في صدره، وواصل حياته المنعمة بالعنف والتحدي واللامبالاة.
وأخيرا جاءت النهاية، جاءت الذبحة، ربما متأخرة عن توقعاتنا، ولكن مضاعفة لدهشتنا وانزعاجنا. وكنا معه على موعد، ولكن حيل بينه وبين الوفاء به في هذه الدنيا.
آل كناشة
في جوار آل ضرغام يقوم بيت آل كناشة وهو الأخير في هذا الجناح. ربه الشيخ محمد كناشة، قارئ القرآن الكريم، لا هو من المشاهير مثل علي محمود وإسماعيل ندا، ولا هو أيضا من قراء المواسم في القرافة ولكنه في منزلة متوسطة ضمنت له رزقا لا بأس به، وزوجته فلاحة ودودة لا تخلو من وسامة. للأسرة ذرية مباركة، مكونة من سبع بنات متزوجات، وولدين إبراهيم وزكي وهما من أصدقاء صبانا. وقد حصلا على الابتدائية وأمضيا سنوات عقيمة في الثانوية. كانا مشغوفين بالغناء، ويسترسلان فيه كلما وجدا فرصة أو تشجيعا منا. وإبراهيم قصير القامة، قوي البنية، لا قبح في وجهه ولا جمال، وزكي، رشيق، مليح، ورث عن أمه خير ما فيها. وربما شاركانا بعض الشيء في اهتماماتنا الوطنية، على حين اقتصرت ثقافتهما على حفظ الأدوار والتواشيح القديمة ثم مضيا مع الزمن يحفظان أغاني أم كلثوم وعبد الوهاب. ومع الأيام تميز كل منهما باتجاه فني خاص، فمال إبراهيم إلى الأغاني الجادة، وفي حين تبلورت موهبة زكي في أداء الطقاطيق والمونولوجات حتى أطلق عليه حسن الفنجري «الرقيع ابن الشيخ». ومالا معا إلى الالتحاق بمعهد الموسيقى الشرقي، واعترض الشيخ محمد بادئ الأمر، ولما يئس من نجاحهما في الثانوية، وافق فالتحقا بالمعهد، وبعد التخرج اشتغل إبراهيم مطربا بصالة نعيمة الضباطي، وضمنت له حنجرته حياة عادية، فتزوج وأعاد من جديد حياة أبيه مع اختلاف المضمون. أما زكي فعمل «مونولوجست» في صالة ببا، ولم تبشر حياته بقفزات غير متوقعة، لولا أن أحبته سيدة غنية. ودفعت به قصة الحب إلى أغلفة المجلات الفنية، وزكى منظره الحسن نجاحه المثير. توجت قصة الحب بزواج شرعي، وأتاح له ثراء زوجته أن ينشئ «الفونتانا» أجمل ملاهي شارع الألفي في وقتها. قام مبناه من طابقين؛ الأول كافيتريا حديثة والأعلى ملهى ليلي للغناء والرقص، وأحاطت بالمبنى حديقة جميلة بارعة الجمال. وأصبح زكي مدير المحل، بالإضافة إلى بعض المونولوجات يلقيها آخر الليل من مختارات ألفت لأجله ولحنت بإشرافه، وقد نجحت وذاعت على ألسنة السكارى وأهل الانبساط من الجنسين. ولم يقسم له أن ينجب كأخيه إبراهيم فركز عنايته بذاته، وسهرنا نحن الأصدقاء في الملهى ورأينا صاحبنا وقد خلق من جديد في صورة غاية في الجمال والأناقة، قال حسن الفنجري: انظروا إلى مفعول الغذاء الطيب!
وعند انتهاء الحرب العالمية الثانية توفيت زوجته فأصبح من كبار أغنياء البلد، وقال صديقنا عبد الخالق: صدق من قال: قيراط حظ ولا فدان شطارة! وكان تنكره لأسرته؛ والديه المسنين وأخيه إبراهيم، وصمة في جبينه لا تمحى أبد الدهر. ليس كتنكر أحمد شقيق عبد الخالق لأسرته؛ فأحمد كان في الواقع فقيرا وكانت زوجته هي الغنية وشاءت أن تستأثر به وأن تكره أسرته من أول يوم. أما زكي فقد آلت إليه ثروة خيالية وظل تنكره لغزا ووصمة. وما لبث أن عشق راقصة اشتهرت بجمالها فتزوج منها، وبدا سعيدا مرحا رغم أنه لم ينجب، وشيد في الهرم قصرا ضرب بجماله المثل وعاش عيشة الملوك. ولم يجد جديد من ناحيته حتى ترامت إلينا أنباء غامضة عن مرض ألم به، وتأكد الخبر لما سافر إلى الخارج للعلاج. ورجع بمرضه دون شفاء، ولم يجئ ذكر للمرض صراحة ولكنه كان يوصف تارة بالخطير وأخرى بالخبيث. وأخبرنا إبراهيم بأنه - أخاه - حرم من أحب الأشياء في الدنيا إلى نفسه؛ الجنس والطعام! قال إبراهيم بشماتة: غير مسموح له إلا بمرقة النابت!
ولم تتحمل زوجته الجميلة عشرته طويلا فاضطر إلى تطليقها، وأصبح وحيدا بلا عزاء. وفي تلك الأيام رأيته مرة في «الفونتانا» وهو يشرف على إدارتها كنوع من التسلية. والحق أني فزعت لمرآه؛ لم أر رجلا ولكني رأيت جثة محنطة، جثة محنطة تلتوي شفتها راسمة امتعاضا أبديا احتجاجا على عبث الأقدار به. له من المال ما يمكنه من امتلاك أي شيء، وليس له من الصحة ما يمكنه من الاستمتاع بأي شيء. وانساق مع حظه إلى الهدف الوحيد الباقي له وهو الجنون!
فقد حصر كل اهتمامه بقبره، نعم قبره، حتى لو استنفد ذلك ثروته الطائلة. اشترى أرضا في مدافن الخفير لعلها أكبر أرض خصصت لمدفن في مصر، وغرس بها حديقة غناء تصلح أن تكون حديقة عامة. أما القبر نفسه فقد شيد ظاهره وشواهده من الرخام النفيس المنقوش بآيات الرحمن، وبلغ اتساع منامته حجرة استقبال واسعة، وطعمت جدرانه بالرخام وغطيت بالسجاجيد الفارسية، وركبت فيه أنابيب للإنارة تستمد طاقتها من مولد كهربائي وأوقف على المدفن وخدماته مالا يفي بالإنفاق عليه أبد الدهر. قلنا إنه لا ينقصه إلا أن يحنط جثته ويدفن معها متاعه من الجواهر والطعام والثياب! أراد ألا يرثه أحد من الشامتين، ولا أدري مدى توفيقه في ذلك. وفي الخمسينيات مات زكي كناشة فلم يحزن لموته أحد، وقال صديق: لم أعرف في حياتي من هو أقسى منه!
فأجاب صوت: الحياة نفسها تبدو أحيانا أقسى وأمر.
آل عديلة الحرة
آخر بيت في الجانب الآخر فيما يلي آل العلوي. عرف البيت باسم صاحبته عديلة الحرة، أما اسمها فعديلة، وأما لقب الحرة فأضيف إليها على سبيل المدح المقصود به الذم. ويقيم في البيت عديلة ربته وابنتاها نبيلة وسناء. ويروي عم فرج تاريخ الست فيقول: إنها كانت زوجة لرجل يدعى عبد الله سنان، كون ثروة لا بأس بها من السمسرة، فشيد لها هذا البيت وكتبه باسمها، وأنجب منها نبيلة وسناء. وقبيل انتقالنا إلى الشارع بعام واحد سافر الرجل إلى بر الشام لشأن من شئونه، وهو من سلالة شامية، ثم لم يعد وانقطعت أخباره. ويفسر عم فرج اختفاء الرجل بأن عديلة كانت فائقة الجمال والدلال، وأن سلوكها لم يكن فوق الشبهات، وعجز زوجها عن كبحها فهرب! - تجنب مواجهتها بالطلاق خوفا من طول لسانها، والظاهر أنها كانت تعرف من أسراره ما لا يحب أن يعرف.
على أي حال اختطت لنفسها طريقا جديدا غير معهود في شارعنا، فانطلقت في تحررها إلى آخر المدى. وأصبح بيتها مع الزمن ملتقى الأعيان من العباسية الشرقية، يتسللون إليه بليل كالزنابير محملين بالهدايا، فيقضون فيه أطيب الأوقات مع ربة البيت ثم معها ومع ابنتيها الجميلتين. وكنا نراها أحيانا تسير في الشارع بمفردها أو بصحبة نبيلة وسناء، في هالة من التبرج الفاقع، فينتزعن الأعين من المحاجر ويثرن عواصف من الأقاويل. وكنا نحملق في نبيلة وسناء بأعين مترعة بالجنون ولكنهما لم تعيرانا أدنى التفات. وعلى ذلك تساءلنا: أين الشرطة؟ .. ألا تعلم بما يجري في هذا البيت؟! وقيل لنا إن الشرطة تعلم أكثر مما نعلم، وإن حماية الأعيان مبسوطة على البيت ومن فيه، بل وقيل إن الباشا وكيل الداخلية - وهو من سكان العباسية الشرقية - من عشاق البنت الصغرى رغم فارق السن الهائل بينهما. وطرح الموضوع للمناقشة فيما بيننا فتساءل عبد الخالق: هل يليق بنا أن نقبل هذا الوضع الشائن في شارعنا؟
فقال عزت بشهامته المعهودة: إذا تناومت الشرطة فنحن الشرطة.
ورحنا نقذف البيت بالطوب فنكدر صفو سهراته الخيالية. وجاء رد الفعل سريعا فتولى حراسة البيت نفر من حرافيش الوايلي لا قبل لنا بهم، ولم يكن في مقدور عزت التصدي لهم. وعلى ذلك تجاهلنا بيت الحرة على مضض مشاركين سكان الشارع سخطهم الصامت. وفي أواسط الثلاثينيات غادرت الأسرة بيتها كأنما قد ضاق عن نشاطها المتصاعد، فارتاحت الأنفس لذلك، واعتبر يوم رحيلهم من أيام السعد. ولم نعد نسمع عنهم خيرا أو شرا، حتى رأيت سناء في تاريخ لاحق بانتهاء الحرب العظمى الثانية، في حديقة لبتون بصحبة ضابط جيش. لم تبد في مظهرها القديم ولكنها رفلت في احتشام أضفى على صحبتها للرجل روح الزوجية. وقد عجبت لذلك وتحيرت، ولكن الأيام أيدت ظني، وعرفت من أكثر من مصدر أنها تزوجت من الضابط بعد قصة حب، ثم علمنا بعد قيام ثورة يوليو أن ذلك الضابط كان من القلة التي قررت الثورة محاكمتها، وقد قبض عليه وهو يحاول الهرب إلى الخارج وقدم للمحاكمة وقضي عليه بالسجن. وظل البيت يعرف ببيت عديلة الحرة كأنما هي تسمية تاريخية كرسها التاريخ. وحافظ على اسمه حتى بعد أن أقام فيه الشيخ الذهبي مدرس اللغة العربية والدين بمدرسة فؤاد الأول. وهو فلاح محافظ وزوجته فلاحة لم يغير انتقالها إلى العاصمة من طباعها أي تغيير. وعرف الشيخ الاسم الذي اشتهر به بيته بالمصادفة؛ فقد جاءه زائر من البلد وسأل عنه في شارع العباسية فأشاروا إلى موقع البيت ورددوا على مسمعيه اسمه، وأخبر الزائر الشيخ الذهبي ببراءة، وتحرى الشيخ عن الأمر حتى ألم بأطرافه وثار غضبه، ويوما دخل الشيخ الفصل فوجد أن مجهولا من الطلبة قد كتب على السبورة بأصبع الطباشير وبالخط الفارسي: «عديلة الحرة». واحتقن وجه الشيخ بالغضب وكان شديد الغضب، والتفت نحو الطلبة متسائلا في تحد: من ابن العاهرة الذي كتب هذا الاسم؟
ولم ينبس أحد، فقال ودفقات غضبه في تصاعد: قد تكون عديلة امرأة سوء ولكنها يقينا أشرف من أم من كتب هذا!
وبدأ الدرس.
وقد عاصرت من ألوان الفساد بألوانه وطبقاته وأنواعه ما يجعلني أذكر عديلة وابنتيها كما أذكر أحيانا مكتشف النار في تاريخ الحضارة بالمقارنة بغزاة الفضاء.
إذ شدني الحنين اليوم إلى زيارة العباسية فسرعان ما تتكشف لي عن عالم غريب لا عهد لي به؛ لا الشرقية شرقية ولا الغربية غربية، اندثرت الحقول والحدائق وتوارى اللون الأخضر، عمارات متراصة متلاصقة تنوء بأثقالها بلا لياقة أو جمال، شوارع جانبية مكتظة بالأطفال والصبيان، مختلف أنواع المركبات في سباق جنوني، ضجيج هائل يقتحم الفضاء مغلفا بالغبار، أكوام القمامة تترامى كالتلال في الأركان، المواقع الواطئة غريقة في مياه المجاري، الغضب والعنف والسباب ينفجر في الآذان، ولا أعرف أحدا ولا أحد يعرفني، وأتساءل، وأتساءل في حيرة بالغة: أين المغاني التي شهدت أعذب المودات وأجمل قصص الحب؟!
وإنها لنقمة أن تكون لنا ذاكرة، ولكنها أيضا النعمة الباقية.
أسعد الله مساءك
اليوم أبدأ حياة أخرى، حياة التقاعد؛ عمر طويل تقضى في خدمة الحكومة أفنى شبابي وكهولتي وأطل بي على الشيخوخة. وأظلني بولاء لملك وأربعة رؤساء فلم يشعر أحدهم لي بوجود، لا يخالجني أسى كبير لأني ما انتقلت إلا من درجة من الضجر إلى أخرى أسوأ وأشد. الذاكرة تعذبني والخيال، فلعله من حسن حظ الحشرة الهائمة في القمامة ألا يكون لها ذاكرة أو خيال، بل الأغلب أن الحشرة تهنأ بالقمامة، بالقياس إلي لا فارق يذكر بين مسكني البالي وبين القمامة. إنه لظلم وأي ظلم ألا أكون اليوم في بيئة جديدة تزهو بالنقاء والنضارة، وألا أكون شجرة تنعم بالأوراق والأزهار والثمار. وأذكر أسرتي فينقبض وجهي من المرارة والسخط، على أن وقت المحاسبة قد مضى وانقضى. لا أريد أن أصدق أنني عايشت هذه الحجرة منذ عهد التلمذة وحتى عهد التقاعد، هيئتها ومحتوياتها لم تكد تتغير إلا قليلا، هذا السرير الخشبي ما أصلبه! سرير معمر لم تنل السنون من صحته وقوة احتماله، لا يحظى أثاث هذا العصر بمثل هذه القوة المتحدية. وصوان متوسط الحجم ذو ضلفة واحدة تشغلها مرآة من أعلاها إلى أسفلها، طراز منقرض تماما، ومكتب صغير قائم بين النافذتين متين القوائم مقشر السطح راجعت فوقه دروسي الابتدائية والثانوية والجامعية، وكنبة تركية طويلة جديرة بالمتاحف، وسجادة فارسية - هدية البكالوريا - هي المتاع الوحيد المحافظ على رونقه. لم تعد هندسة البناء الحديثة حجرات بهذا الاتساع، ولا أسقف بهذا الارتفاع، ولا أرضية مركبة من البلاط المعصراني. العمارة نفسها آن لها أن تحال إلى التقاعد، وشارع أبو خودة لم يعد له من مضمون الشارع إلا اسمه. نفايات الدهر الغليظ تتوارى في أركانها المظلمة أجمل الذكريات، ولا جديد ألبتة إلا السكان الجدد ينفثون الغربة والابتذال والاستفزاز. وحيد في شقة كبيرة، من حجرات أربع وصالة تتكون، يغزوها التراب، وتقطنها معي الصراصير والفئران. أتصدى لكل شيء دون جدوى، للغزاة والوحشة والكآبة، وللذكريات الحلوة أيضا، وألعن الذاكرة والخيال، أقول لنفسي - خاصة وأنا أنظف حجرتي وأرتب فراشي - إنني كنت يوما مناط الأمل وقطب العناية المركزة في تلك الأسرة الغابرة، وكنت أيضا الضوء الذي ترف حوله فراشات جميلة؛ إي والله في غاية الجمال والعذوبة والجنس. وحلمي كان حلما متواضعا في متناول كل شاب؛ أن أتزوج وأستقر في أسرة بين أبناء. لم يناوشني طموح كبير فأشقى به أو له، عرفت الطموح عند أصدقاء وزملاء، منهم من وصل وتألق، ولم يكن حلمي إلا الخطوة الأولى في طريقهم الطويلة فكيف خاب السعي وانقلب الهدف، كيف أجدني اليوم وحيدا بين يدي التقاعد، لا أنيس لي إلا الراديو والتليفزيون والذكريات المعذبة، والحوار الذي يدور مرارا وتكرارا بيني وبين أشباح أسرتي الزائلة، أقول لهم لولاكم لكنت وكنت فيقولون لي ولولا الحظ لكنا وكنا، هل أصر على الغضب؟ هل أسلم للشفقة والرحمة؟ ولا أجد أخيرا ما ألعنه إلا الحظ. ومع العصر وشدة الحر ناداني المقهى؛ أي منطلق فهو خير من سجن هذه الشقة المنفرة. لم يبق لي أحد من أهل الزمان الأول؛ فمن مات مات، والقلة الباقية تغيرت مشاربها ومواقعها في المدينة الكبيرة. أما الطريق بين أبو خودة ومقهى النجاح في ميدان الجيش فقد رسخت هيئته الحديثة بطواره المحطم وتياره البشري المصطخب وأصوانه المرعدة المزمجرة ومركباته المتنوعة المتلاصقة المتدفقة وغباره المنتشر، رسخت هذه الهيئة فجعلت من أناقته القديمة وسماحته الزائلة وهدوئه الشامل حلما من أحلام اليقظة. وأجد حمادة الطرطوشي في مجلسه على رصيف المقهى في انتظاري. سبقني إلى التقاعد بخمس سنوات، وأغرانا بالتعارف تقارب السن والوحدة، وهو ذو شيخوخة متجعدة متفجرة تمادت في احتلال القسمات والصوت حتى ليبدو أكبر من سنه، رأس أبيض كالشمع، وحاجبان ساقطان على جفنيه كالأسلاك، ونظرة منطفئة ذابلة مع ثرثرة ومرح. ووحدته قاصرة على الأصحاب، عدا ذلك فهو رب أسرة وأب لرجال ناجحين ينتشرون في شتى الوزارات، فلم يعد يشاركه بيته بشارع الشرفا إلا زوجته. استقبلني بابتسامة فضحت خواء فمه ونمت عن حرارة المودة التي تجمعنا وتمتم: أهلا، هذا أول أيام التقاعد، ربنا يطول عمرك.
فقلت متصبرا: كآبة عابرة ليس إلا. - بالصراحة كان وقعه علي أشد. - ألا ترى أن هموم الحياة اليومية تغطي على ترف العواطف الرومانتيكية؟
فلوح بيده المدبوغة، وقال: صدقت يا عم حليم، والمعاش على أي حال أقل من المرتب. - والمرتب لم يكن يكفي، وبين أصحاب المعاشات وضحايا المجاعة في إثيوبيا خطوة أو خطوتان!
ضحك ضحكة صامتة، وتساءل بنبرة جديدة: هل أطلب النرد؟
فقلت دون حماس: الوقت أمامنا طويل طويل!
فقال بعطف: مشكلتك الحقيقية هي الوحدة! - أي نعم، كانت الوزارة تشغل نصف العمر. - اسمع نصيحتي، لا تمكث في البيت إلا للضرورة القصوى.
فقلت متفكرا : الوحدة ليست في البيت فقط، إنها هنا أيضا!
وأشرت إلى صدري .. فقال باسما: أنت لا تسلو أبدا عن حلم الزواج القديم!
فتساءلت بأسى: هل فاتت الفرصة؟ - الفرص بيد الله سبحانه، ولكن هل فيك الرمق المطلوب؟
فقلت بحرارة: يجمعون على أن حالتي العامة أصغر من سني بكثير، وأحيانا يخيل إلي أني رددت إلى فترة المراهقة، نجوت حتى اليوم من الأمراض المزمنة المتداولة، لم أخبر من الأمراض إلا نزلات البرد، أسناني كاملة ومتينة رغم حشو أربعة ضروس، ولم أحتج إلى نظارة رؤية أو قراءة علما بأن ولعي بالقراءة هبط إلى حد أدنى في السنين الأخيرة، وما زال السواد له الغلبة في السيطرة على رأسي، ولكنني لا أحب التمويه بذلك كثيرا خوفا من الحسد؛ فالحق أن الثقافة لم تقتلع من باطني بعض الرواسب القديمة، وقال حمادة الطرطوشي: إن وجدت فرصة فأهلا وسهلا، وإن لم تجد فارض بالمقسوم، وإن تكن تحسد المتزوجين أمثالي فهم أيضا قد يحسدونك، والله ما هد حيلنا وقصر عمرنا إلا الحياة الزوجية والثانوية العامة!
ما أكثر ما سمعت ذلك! يدخل في أذن ويخرج من الأخرى؛ أجل لم أحمل هما من تلك الهموم. وإلى ذلك كله عشت منذ رحيل الأسرة بلا مطبخ؛ بالسندوتش والمعلبات، ومع الراديو والتليفزيون، ولكني لم أكف أبدا عن التوق إلى الزوجة والأولاد، حتى الساعة لم أكف، وأخيرا وجدت الخلاص في النرد. وتظل ساعة الرجوع إلى العمارة المتهرئة بشارع أبو خودة أثقل الأوقات كآبة، على مدى صلتي بحمادة الطرطوشي اطلع على الكثير من خفايا حياتي. ولما حكيت له حكاية ملك سألني: ما عمرها اليوم؟ - تصغرني بعام أو عامين على الأكثر. - وحالها كامرأة؟ - رأيتها مرات من بعيد وأنا ماض إلى المقهى في شرفة شقتها، يخيل إلي أنها ما زالت امرأة!
فقال جادا: أرملة، ابناها في السعودية بصفة دائمة، وحيدة مثلك وقريبة لك، زرها يا أخي وجس النبض!
ضحكت لغرابة الفكرة ولكنها عششت في رأسي مذ اقترحها، وتخيلت عنها كل ما يستطيعه الخيال. وقبل ذلك لم تكن تغيب عن خواطري وخاصة عند اشتداد أزماتي الجنسية، تزورني وأنا أتأهب لاستقبال النوم، ويدور الحوار وتحدث الأفعال ولكن مع الفتاة القديمة، فتاة القلب والأحلام الزوجة التي أعدتها الطبيعة لي وأعدتني لها فيا للخسارة! لا أقول إنه حب فذ تحدى جميع تلك الأعوام؛ مات الحب في وقته، شهدت زفافها كالغريب، ولكنها الوحدة والجوع. وألعن تقلبات الزمن التي اجتاحت وطني والعالم وغزتني في عقر داري، وأصب لعناتي على موطني بين أبو خودة وميدان الجيش. وأتساءل من قبلي ولد، ونشأ وتقاعد في حي واحد وشارع واحد وشقة واحدة بل وحجرة واحدة، كلما هم بالتحرك قبضت عليه الأحداث. وعداوتي تتصاعد بصفة خاصة نحو مدخل العمارة القديمة، واسع مظلم نهارا وليلا وبئر السلم مكتظ بالنفايات، السلم متآكل ذو لون كآبي مستمد من القذارة، عمارة بلا بواب، وشقق بلا خدم، رغم شقائي بالتنظيف والترتيب فرائحة ترابية تقتحم خياشيم الداخل، ووراء ذلك كله يجثم التضخم والانفتاح والحروب والنظام الاقتصادي العالمي، وما كان لي من طموح أكثر من أن أتزوج من ملك ابنة قريبي بهاء أفندي عثمان. قال لي حمادة الطرطوشي ذات مرة: لا أتصور أن الوطن سيخرج بسلام من أزمته.
فقلت له وأنا من القرف في نهاية: دعنا في أزمتنا نحن! .. عمرنا يحسب باليوم وعمر الوطن بالقرون!
إنه محب للأحاديث العامة على حين أن همومي الشخصية دفنتني تماما، وأنظر إلى أطلال الشقة وأتساءل أحقا كانت هذه الأطلال مهد الدفء والحنان والكرامة؟! أمي بعد إنجاب فكرية وزينب أنجبت ستة ذكور ماتوا جميعا في الطفولة ثم أنجبتني أنا، مجدد الأبوة والأمومة ولعبة القلبين .. بل لعبة أربعة قلوب، وهل أنسى حب فكرية وزينب؟ يشتركن جميعا في إعدادي لصحبة أبي إلى المقهى للتسلية والفرجة، أمي تمشط شعري، فكرية تلبسني بدلة البحار، زينب تلمع لي الحذاء، يخرج أبي من حجرته متأنقا غاية الأناقة، بدلة آخر موضة، رائحة زكية يقطرها له الحلاق، عصا ذات مقبض عاجي، يلقي علي نظرة استحسان من نظارته المؤطرة بالذهب، ويقول لي باسما: تفضل يا حليم بك!
اسمه عبد القوي البيه، والبيه في الحقيقة اسم لا لقب ولكنه يضيفه علي لقبا، رغم أن جدي البيه كان فطاطريا في شارع الشيخ قمر. وفي المقهى يطلب لي الدندورمة، ويحدث أصحابه عن ذكائي المبكر، ويقول: له صورة تذكرني بسعد زغلول في صباه!
الحق أن لي عينين تريان أكثر مما ينبغي، تجمعنا المائدة جميعا، ها هي الأسرة بكامل هيئتها، الأب والأم وفكرية وزينب، أحب الجميع ولكن لي عليهم ملاحظات وتحفظات؛ وجه أبي لا يعجبني وبخاصة إذا نزع نظارته المذهبة، وجه نحيل ممطوط مجوف بعض الشيء، صغير الأنف بصورة مضحكة، ضيق العينين كأنهما مشروع عينين، بارز الجبهة، صورة منفرة. أمي صغيرة الجسم حسنة الطلعة، ذات عينين واسعتين جميلتين وشعر ناعم وأنف دقيق مستقيم، وإن اعتور صوتها خنف ونبرة احتجاج دائمة. أما سوء الحظ فقد تركز في فكرية وزينب اللتين خلقتا صورة طبق الأصل من وجه أبي الدميم. ودون أي فائدة ورثت أنا وجه أمي المليح، ومن ذلك التكوين المتنافر تربع سوء الحظ على عرش أسرتنا دون منازع، أنا السعيد الوحيد ولكن زحف الكدر. تبدى القلق واضحا في سلوك أمي وكلامها، متشائمة دائما من ناحية المستقبل، يتفجر قلقها مع مرور الأيام.
تقول لأبي: كان يجب أن يتعلما في المدارس!
فيقول: لتجر مشيئة الله كيفما شاء، أما أنا فلا أبتذل كرامتي .. علاقة أبي وأمي حسنة جدا، وعلاقة فكرية وزينب بأبي على أحسن حال، أما الأم وفكرية وزينب فلا يصفو بينهن جو إلا فيما ندر. كل واحدة منهن على حدة غارقة في مخاوفها، وينعكس ذلك توترا دائما فيما بينهن وخصاما لغير ما سبب، نقار دائم وكدر شامل واتهامات مكبوتة.
ويوما ما يقول لي صديقي علي يوسف - زميلي وجار - بثقة ويقين: أبوك غني يا بختك!
فأسأله بدهشة: لماذا؟ - منظره يؤكد ذلك، إنه أوجه أب في شارعنا.
صدقت ذلك بعد مقارنة سريعة بين أبي ويوسف أفندي والد صديقي، وقال علي مواصلا: ومصروفك اليومي يا عم!
مصروف أقراني لا يتجاوز نصف القرش أما مصروفي فقرش كامل. أبي يصحبني معه أحيانا إلى المقهى أو السينما، فأنا ابن عز كما يقول صديقي علي. وعمارتنا - في ذلك الزمان - في طور الشباب وهي أحدث من عمارة علي يوسف وبهاء عثمان والد ملك. يسعدني والله أن أكون ابن عز ومن الأغنياء، وهل في الدنيا ما هو أجمل من الثراء؟ وأقول لأمي: نحن أغنياء؟
فتقول لي بصوت لعله العنصر الوحيد القبيح فيها: لا ينقصنا شيء والحمد لله. - لنا أملاك؟
فتضحك قائلة: لا أملاك لنا. - إذن من أين يجيء ثراء أبي؟ - من ستر ربنا يا ابني.
الظاهر أن الأثرياء لا يطلعون الأبناء على حقيقة ثرائهم قبل سن معينة. حسبي أننا نأكل ما نشتهي، وفي رمضان يمتلئ الكرار بالنقل، وبالكعك في عيد الفطر، ونستضيف فيه الخروف في عيد الأضحى.
أبي غني دون أدنى شك. ومن مزاياه أيضا أنه القارئ الوحيد في أسرتنا، يداوم على قراءة الجريدة اليومية والمجلة الأسبوعية المصورة. وعنه عشقت القراءة، وبعد أن شبعت من مجلة الأولاد طالبته بشراء القصص المترجمة. ها هي عادة جديدة تزف إلى حياتي، أن أعيش حياتين؛ حياة الواقع اليومي بين المدرسة ونقار النساء في الأسرة، وحياة الخيال مع الأبطال من النساء والرجال.
ويسألني أبي: ألا يلهيك ذلك عن المذاكرة؟ - ولكني أنجح يا بابا!
فيقول لي بإغراء: عليك بالشهادة العليا. - هل حصلت عليها يا بابا؟
فيقول ضاحكا: على أيامنا كانت الابتدائية هي العليا، ورغم ذلك حصلت على الكفاءة أيضا، الفرص على أيامكم أكثر، ماذا تريد أن تكون؟ - أريد أن أكون مثلك. - ماذا تعني؟ - أن يكون لي مثل بدلتك ونقودك وأن يكون لي بيت!
فيضحك عاليا ويقول: أنتظر مع الأيام إجابة أفضل!
ومثله أؤدي الصلاة والصيام، النساء يكتفين بالصيام ولكني رجل. أبي لطيف حنون ويحب الدعابة، عندما يغضب يغلق عليه حجرته أو يرتدي ملابسه ويذهب إلى المقهى. تولت تلك الحياة وغاب أبطالها، في باب النصر يرقدون في قبر واحد نصفه للرجال والآخر للنساء. حجرتي كما كانت، وحجرة أبي الملاصقة لها معدة للمعيشة يزينها التليفزيون والراديو والمكتبة، وفي الصالة السفرة وأربعة مقاعد خشبية ودولاب شبه خال، بيع الأثاث القديم بأبخس الأثمان، وتعرت الحجرتان الأخريان تماما، لا مطبخ لي بالمعنى المفهوم لهذه الكلمة، ثمة موقد غازي صغير أعد فوقه القهوة أو الشاي وأحيانا الكراوية، وأغتذي على الفول والطعمية وبعض المعلبات والبيض أحيانا، وهو غذاء الحكماء في هذا الزمن الناري.
الوحدة تتحداني وأنا دائب على مقاومتها بالمقهى والتليفزيون، ندرت قراءاتي للحد الأدنى في أعقاب معايشة طويلة لعمالقة الفكر في وطننا ونخبة من المترجمات الممتازة. اكتسبت سعة في الأفق واستنارة لا بأس بها، ولكن لم يؤثر شيء في عقيدتي الأساسية، أو لم يؤثر فيها لدرجة التخلي عنها، ما أزال أصلي وأصوم، وأنتظر النهاية بالرغم من أنني لم أضف إلى الحياة جديدا ولم أحدث فيها شيئا ذا بال. وأعاني كثيرا من الملل والكآبة، وأضيق بالمكان لحد الموت، وتطاردني مخاوف كثيرة من المرض والموت، أخاف أن تدركني علة فلا أجد من يأخذ بيدي، أو أن يوافيني الأجل فأترك في مكاني حتى تنم عني رائحتي. أقول لنفسي اطرد عنك الوساوس فمن الغباء أن تحمل الهم قبل وقوع القضاء. الطرطوشي يراني أهلا للحسد، الماكر الأزرق يخزي العين عن حسده، أبناؤه غاية في الروعة، يمدونه بالعون أول كل شهر، وعندما يجيء أجله سيزدحم بيته بالنساء والرجال ويلعلع الصوات فيترامى إلى أنحاء العباسية، وينشر نعيه في الأهرام،
يا أيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربك راضية مرضية ، انتقل إلى جوار الله المربي الفاضل. وتمضي وراء نعشه جنازة محترمة يشترك فيها أصدقاء الأبناء والأصهار، فيفوز الرجل الطيب التافه بجنازة من الدرجة الأولى. حليم بك لن ينشر له نعي على الإطلاق، سينشر نعيك في صفحة الحوادث. دع حمادة يحسدك كيف شاء، إنه لا يعرف الوحدة، ولم يشم رائحة التراب في مأواه، ويتغذى باللحوم رغم تساقط أسنانه، نسي الفراش البارد المحروم من دفء الزوجة، لا يعرف حرمان الجنس والأبوة، لولا أنه لم يبق لي من أنيس غيرك لدعوت عليك. التليفزيون أنيس أيضا وأي أنيس، عالم السحر والخيال والنساء، حتى الإعلانات موجعة لقلب المحروم! حياة تافهة ولكني لست بالتافه، حتى أمس كنت المراقب العام للعلاقات العامة بوزارة التربية والتعليم، كان من الممكن أن أحقق أحلامي ولكن في ظروف أخرى، ما جدوى ارتفاع المرتب قيراطين إذا ارتفع التضخم أربعة؟! ليست الأسرة وحدها المسئولة ولكن العالم كله باقتصاده وسياسته. تجنبت العالم ولكنه أبى أن يتركني وشأني. أين السباك ليصلح صنبور الحمام؟ ترى ما أجرته اليوم؟ أكون سعيدا لو نمت نصف اليوم ولكنني لا أنام أكثر من خمس ساعات، كي أريح نفسي من التفكير فيك يا ملك، مناجاتي الجنسية لك لا تنقطع، إحساس ما يلهمني بأنك ما زلت صالحة، كلانا وحيد يا ملك، لم لا نفعل ما حرمنا سوء الحظ من فعله في الزمان الأول؟ حرك الطرطوشي خاطر اللقاء وتركني فريسة في قبضته، تسلمه الخيال بشهوة جامحة، أن تضغط جرس الباب وتنتظر، تفتح الشراعة وتنظر، أنت .. ياه .. تفضل، كيف ذكرتنا؟ كنت مارا فقلت لنفسي .. أهلا وحديث عن الجهات الأربع. وأدور وأناور وعيني مركزة على حلم الجسد، وهي تقرأ وتفهم فتصدر عنها إشارة خفية للعمل، وأنتقل إلى جوارها كالأيام الخالية، وتدعوني أكثر بالمقاومة الواهنة، ونهوي بقبضة الجنس الناعمة على الكآبة الغاشية، وتتراكم الأفعال الجميلة الشائنة، آه لو تحقق الأحلام يا ملك! ثمة أخريات ألقاهن اليوم في جنبات الحي معطرات بأريج الماضي الجميل، غيرهن الزمن بلا رحمة ولم يبق ماضيهن إلا الاسم، بتن غرباء رغم ابتسامة عابرة، فضليات وأمهات، لولا الظروف العاتية لاتخذت إحداهن زوجة صالحة، ذهب الشعر واختلت أوزانه. اليوم أغير الملابس الداخلية مرة واحدة في الأسبوع توفيرا للغسيل والكي، لا أتناول الكباب إلا في المناسبات. ينسى المتقاعد في تقاعده كما ينسى الميت في موته. في الزمن المجيد سرت اختيالا بجناحي الشباب المورق، الأمهات قلن لأمي حليم لملك، حليم لبثينة، حليم لرباب، حليم لبيسة، أمي غارقة في مأساة ابنتيها، السنون تمضي بلا أمل، جميع البنات يتزوجن إلا فكرية وزينب، لا الغرباء ولا الأقارب يقتربون منهما. أقول لنفسي مستغربا: ما أكثر الزوجات الدميمات! ألا يكفي ثراء أبي لسد الثغرة؟
وأنفض عن نفسي نكد الأسرة وأسير اختيالا بجناحي الشباب المورق، وتهل على بيتنا في شتى المناسبات ملك وبثينة ورباب وبيسة كالأقمار في صحبة أمهاتهن، وتتفجر في كآبة شقتنا بروق الإغراء والدلال، وتتجاذب نظرات الرغبة والأشواق، ولا يخلو الأمر من كلمة عذبة أو لمسة لطيفة أو خطف قبلة في غفلة من الرقباء، حب مشاع لا يعرف التخصص، في حضرة كل واحدة أتناسى الأخريات، ولكن ملك تمتاز أيضا بقوة الشخصية والذكاء. ويوما سألتني أمي وأنا في المرحلة الثانوية أو الجامعية لا أذكر: من تعجبك منهن؟
فتفكرت مليا، ثم قلت: لا أدري! - ولكن لا بد من واحدة تتفوق بطريقة ما؟
فقلت وأنا أفكر في ملك: إنهن متساويات لدرجة كبيرة.
فضحكت وقالت: أعز أمنية عندي أن أرى ذريتك، ربنا يسهل لفكرية وزينب حتى يخلو لك الجو!
وكانت الأحداث قليلة، فمرة قابلت بثينة في العباسية الشرقية وتبادلنا قبلة سريعة، وهدايا رمزية تبادلتها مع رباب، وبعض الرسائل التي تدس في اليد مع بيسة، أما مع ملك فالنظرات تغني عن الهدايا والرسائل. أسعدني أن أكون محورا ويدرن حولي، آه لو أجمعهن في حريم واحد! ولكن ملك تزحف في هوادة وعلى مهل فتغيب أضواء النجوم في رحاب الشمس المشرقة، صورتها لا تبرح مخيلتي وهي واقفة في حجرة الحريم بترام العباسية كعمود من نور في فستانها الأبيض، طويلة القامة مكتنزة الجسد في غير إفراط، ثرية الصدر بيضاء اللون فاحمة الشعر جذابة العينين، حائزة على البكالوريا ومتقنة لفن البيت. ومن الكلام المليح بين الأهل وتبادل الزيارات وترددي على بيتها باتت خطوبتنا حقيقة معترفا بها دون إعلان. من أجل ذلك عزف الخطاب عنها فتزوجت أخواتها وبقيت هي تنتظر، هي زوجتي وأنا زوجها وانحصر حلمي - بعد إتمام التعليم والتوظف - في الزواج منها. وأخلو كثيرا إليها في بيتها، أنا مثل وعاء على نار يرتعش غطاؤه بقوة البخار المحتدم في باطنه، وهي ترنو إلي بعينين يقطر منهما الشوق والحلم، تبادلني القبل وتصدني عن العبث، وتقول بلطف: لكل شيء حدود.
وأركز نظري على فتنة الحاضر ولكنها تمد نظرها إلى المستقبل فتصارحني: عليك بعد التوظف أن توفر من مرتبك مائة جنيه فينتهي كل شيء على خير.
فأقول متفائلا: لن يضن بها بابا علي. - والدك موظف كما كان أبي!
فأبتسم في ثقة قائلا: بل أكثر من ذلك!
قصة حبنا معروفة في الشارع كله، يمتلئ بها والداي كما يداعبني بها علي يوسف، ولولا مأساة فكرية وزينب لتضاعف رضاهما، ولما كان ذلك التحفظ الذي قليلا ما يلوح على أبي وقليلا ما يخفى عند والدتي، ما الحيلة؟ ليس الحب وحده هو ما يستحوذ علي، ولكنني خلقت للحلال وحده. للحلال وحده يا للذكريات! الحلال والأبوة. اليوم حمادة الطرطوشي يلاعبني النرد مراهنا على ثمن القهوة، غلبته وربحت وسرعان ما تلاشى الحماس. ننظر الآن إلى ميدان الجيش تحت أضواء المصابيح القوية العالية، ما أكثر النساء والرجال والأطفال! تاريخ الحضارة ممثل في وسائل المواصلات من عربات اليد والكارو والبصات والترام. الأصوات من كافة الأنواع من حوار ومشادة وصراخ وغناء. يمضي حمادة قائلا: البلد!
ويشرح وجهة نظره الشاكية الساخطة على كل شيء، يثقل عليه هدوئي فيقول: لا يهمك شيء!
فأقول ساخرا: في ما يكفيني. - ولكنك شاهدت عصورا وأحداثا وحروبا ورجالا. - يعني! - لا يهمك إلا نفسك. - هي أسوأ حالا من البلد. - ولكنك مثقف. - طظ.
فضحك عاليا، وضحكته أقوى ما فيه، ويقول: ابدأ حياتك الجديدة. - ماذا تعني؟ - أتقنت الإنجليزية ودرست الإدارة والسكرتارية في المعهد الليلي، بوحي من الانفتاح طبعا، فما عليك إلا أن تبدأ من جديد. - يلزمني فاصل من الراحة. - أخاف أن تعتاد التقاعد. - لا تخف علي.
الإعلانات عن الوظائف الحرة كثيرة ومرتباتها فيما أسمع كبيرة، لكنها لن تكفي لتغيير حياتي.
هيهات أن تمكنني من دفع خلو للانتقال إلى مسكن جديد في حي جديد، لكن مائدتي المقفرة ستثرى بالطعام الساخن.
قلت: صبرك وسوف ترى ما يسرك.
فضحك قائلا: عليك أن ترفع رأس المتقاعدين عاليا.
أعطيت الصحة وحرمت من ثمارها، ولكن علي أن أحمد الله وأشكره على فضله دون تحفظ. هو المطلع على حرماني الطويل ووحدتي وهو الرحمن الرحيم. وقلت: لو كنت أعمق إيمانا لكنت أسعد حالا. - الإنسان إما يكون مؤمنا أو غير مؤمن ولا وسط.
قلت بحدة: لا تكن حادا مثل سكين المطبخ.
فقال مقهقها: أنا لا أعترف بإيمان المثقفين.
أمسكت عنه، إنه ينثر سخطه يمنة ويسرة وينام ملء جفنيه، لكنه أيضا هو كل ما بقي لي في هذا الزمن الأغبر، أين الأصحاب؟ أين الأحباب؟ من حجرتي سمعت أمي وهي تخاطب أم رباب أو بثينة، لا أذكر: لا يجوز أن يرتبط حليم قبل أن يكمل تعليمه.
المنطق سليم ولكنه أحنقني، وخفف من وقعه أن الكلام لا يوجه إلى أم ملك. وقبل ذلك سألتني ملك: متى نعلن خطوبتنا؟
وكان الجواب: جو بيتنا لا يسمح بذلك قبل إتمام الدراسة.
واقتنعت بتسليم، وسلمت أمها بالواقع دون اقتناع. وعلى أي حال تزوجت بثينة ورباب وبيسة في أثناء دراستي الجامعية، ولم تخل نفسي من هزة تودع بها كل عروس ولكنها كانت عابرة واهنة وبلا أثر باق، الزواج أقوى من الحب وسحره خير وأبقى، وسرعان ما تتلاشى أحلام الصبا الوردية مثل رائحة زكية تعبر بها امرأة مسرعة. ولن أنسى ما حييت قول ملك في ساعة تجل: لو تقدم لي أمير لرفضته، ليس لي سواك.
تبدت لي صادقة راسخة أقوى من أي حقيقة في الوجود، كان حبا صادقا عظيما ويا للخسارة! وقد أحرز انتصاره في يوم بهيج لا ينسى.
فمن نافذة سكنها رأتني وأنا أتبادل الإشارات مع بثينة.
وعند أول زيارة لنا مع أمها اقتحمت حجرتي، ثم سألتني في حياء: هل أهنئ؟
فسألت بدوري في دهشة: على ماذا؟ - بثينة؟!
خجلت. نظرت إليها طويلا وهي تحدق في بشجاعة وإصرار. ما أجملها وهي تطوي غيرتها في قبضة كبريائها!
وتمتمت في صدق وسعادة: لا أحد سواك يا ملك.
فرفعت صوتها لتسمع من في الخارج: أعرني كتابا من كتبك. - قرأت مجدولين؟ - نعم. - إليك آلام فرتر.
فقالت باسمة: هاتها.
منذ تلك اللحظة بدأت أنفض عن وجداني فتنة الأخريات، وتركز حلمي في الزواج، خلقت للحلال وحده، لست مثل صديقي علي يوسف وبقية الصحاب، ذات ليلة قالوا فلنغامر ، ليكن لنا نصيب، أجل فلنغامر وليكن لنا نصيب! ذلك تاريخ قديم. اليوم وأنا سائر إلى المقهى أتساءل: هل كتب علي هذا المشوار المدوخ بين أبو خودة وميدان الجيش؟ لا حول ولا قوة إلا بالله. وأتخيل رجوعي عقب انتهاء السهرة فيبوخ سروري الوقتي المصاحب لي في الذهاب. العباسية كتكوين عام تقرفني مثل وجه كريه. يقولون مع ذلك
إن الحياة تبدأ بعد الستين، حقا؟ شد ما أتوق إلى منظر جديد! جو نقي، موقع تكتنفه الأشجار، والحسان يخطرن مع الأصيل، وأحن إلى ناد حافل بالمعارف والتسلية، إلى دفء يشغل المرء عن هواجس المرض والموت. الشباب والمال هذه هي الدنيا، يتحدثون عن الإثراء المتفجر في كل مكان، عن السهرات في الشقق المفروشة، عن الأفراح الذهبية في الفنادق، أين الطريق المفضية إلى هذه الدنيا؟ وتوجد قلة من الرفاق على قيد الحياة، فأين هم؟ التقيت مرة بالدكتور حازم صبري أمام الأميركين، تصافحنا، تبادلنا كلمتين على عجل، وافترقنا! من يصدق أننا كنا لا نفترق على مدى الطفولة والمرحلتين الابتدائية والثانوية؟ وانتخب الموت الآخرين؛ لم يبق إلا العجوز الطيب الذي يلوح لي بيده من مجلسه في المقهى. واستقبلني بجدية غير عادية، وقال: أعرف ما بكر بك اليوم!
فجلست وأنا أتساءل: ما هو؟ - أزمة الجنيه والدولار!
فضحكت من قلبي ونادرا ما يحدث ذلك، وقلت له: الله يخيبك يا عجوز!
فقال باهتمام: حلمت لك حلما غريبا! - حقا؟ - رأيتك تركب حمارا وعلى رأسك بقجة كبيرة، ثم طرحت بالبقجة في الهواء وحثثت الحمار على الإسراع بكعبي قدميك فسألتك عن وجهتك فقلت لي إنك ذاهب لأداء العمرة! - ألديك تفسير؟ - طبعا .. أمامك خير، ولكن عليك أن تطرح أفكار السوء أرضا!
على أي حال أحببته تلك الليلة كما أحببته ليلة اقترح علي زيارة ملك.
أعترف بأنه يؤنس وحشتي، وأنه لولاه لجننت من طول ما أحدث نفسي، وقالوا فلنغامر وليكن لنا نصيب، وقصدنا تافرنا، تعشينا على أنغام المندلين، ولأول مرة أشرب قدحا من النبيذ، طارت بي نشوة لم أعهدها في حياتي من قبل، الخطوة الأولى المخاتلة الساحرة في حياتنا بادرتنا بالنشوة الهازجة، انطلق الضحك من حناجرنا بلا سبب بين يدي فرحة الحياة المتدفقة. أزعجنا من حولنا من السكيرة القارحين، ولأول مرة أيضا نقتحم الدرب إياه، ومضى كل مع امرأة مستوردة، تعرت بحركة روتينية قبل أن أغلق الباب ورائي، وقفت مذهولا وقد هرب قلبي في أعماقي. انغمست في برميل من الثلج، ورمت تجمدي بنظرة شرسة، وقالت: «لست ممرضة يا أنت.» ولما خرجت إلى الهواء الطلق المعبق بالبخور هاجت معدتي وماجت وقذفت بما فيها. وحدس أحدهم أن المرة الأولى لا تنجو من عواقب سيئة، ولكن الثانية لم تكن أفضل. قلت لا حظ مع الخمر ولا مع أولئك النسوة، أين النار التي تستعر في حضرة ملك؟ ويئس علي يوسف مني، فقال لي: معدتك إسلامية وكذلك غريزتك!
وآمنت بأنه لا أمل لي إلا في الحلال والزواج، حقا إنه أمل متواضع ولكن تحقيقه يسير، الوظيفة والزواج، أي طموح آخر سرعان ما يتلاشى، كالحلم الذي ينسى عقب الاستيقاظ. الأصدقاء يحلمون بعوالم أخرى؛ الزعامة أو القيادة أو التفوق في المهنة، منهم أيضا من ينتمون إلى الأحزاب ويجلسون إلى الزعماء. أما أنا فلم أجاوز أعتاب وظيفة توفر الرزق وزوجة صالحة وأبوة، وفي خضم العراك السياسي يقول لي أبي: نحن الموظفين موالي الحاكم.
فأنقل إليه ما يقرع أذني عن إخلاص زعماء وتهاون زعماء، فيقول: كلهم خنازير يتناطحون في سبيل الحكم، وإنه لمجنون الذي يخسر حياته أو مستقبله في معركة زائفة!
حديثه المفضل يدور دائما عن الوظيفة والموظفين والكادر، سواء في المقهى أم في البيت. وأنا أجتهد وأذاكر وأنجح ولكن دون إفراط، لا أعذب نفسي بالتفوق وبلوغ المراكز المتقدمة، وأقرأ وألعب وأحب. وكل صديق شهد لحبيبتي بالجمال والاستقامة، وحبها يزداد مع الأيام قوة وعمقا، أحوم حولها كالمجنون بحب راسخ ورغبة جنونية، وتقطب في بعض المواقف وتهمس: إذا تماديت فضحتنا!
فأهمس متشكيا: إني أتعذب حتى الموت.
فتقول برجاء: لا يعجبني اندفاعك أحيانا، الحب بطبعه مهذب، كن لي مثلما أنا لك.
أهدت إلي صورتها فاحتفظت بها فوق قلبي . عشت أسعد الأزمان في رحاب حبها، لكني عذبني فيض الشباب، وبخلاف علي يوسف فشلت في ترويضه. إنه أحب الأصدقاء إلي، نذاكر معا، في بيته مرة وفي بيتي مرة، أقصر مني في القامة وأجمل مني في الوجه، وأذكى فهو يشرح لي أحيانا ما يغمض علي، ويفوقني في الاطلاع، والانتماء السياسي. يقول بحرارة: سأعيش حتى أرى حياة جديدة لا الملك فيها ولا الإنجليز.
ويحدثني عن تيارات جديدة كالإخوان والماركسيين ومصر الفتاة ولكنه لم يتخل عن الوفد. وأحب بنتا يهودية فترة طويلة من العمر ولكنها اختفت في مطلع الحرب العظمى الثانية. ولم أعرف له قصة حب أخرى فتوهمت أنه يعيش بلا قلب. ودخلنا معا كلية الحقوق فواصلنا المذاكرة المشتركة، وأقول لملك: لم تبق إلا أعوام معدودة، ثم نلتفت إلى مستقبلنا.
هي الوحيدة الباقية مع أمها رغم أنها أجمل أخواتها. تقول: ليتني أكملت تعليمي! - الوظيفة تغريك أيضا؟ - لم لا؟ - ولكني أريدك ست بيت.
لا أجادل في حق الفتاة في التعليم والعمل ولكني أفضل ست البيت، يحكم علي يوسف علي بأنني محافظ أكثر مما ينبغي، يقول: أنت مثل معدتك لا تتطلع إلى الحياة الجديدة!
فأقول: لا تغال، حسبي أن أصنع أسرة أفضل من أسرتي.
ونختم دراستنا في العام السابق لنشوب الحرب. صرنا أستاذين كما يقال، لم نبلغ الدرجات التي تؤهل للوظائف الممتازة؛ أنا بسبب اجتهادي المعتدل، وعلي يوسف لنشاطه السياسي. وكان علي قريبا للأستاذ جعفر برهام المحامي فألحقه بمكتبه، وداخ أبي حتى ألحقني بالإدارة العامة بوزارة المعارف، لولا أزمة فكرية وزينب لاعتبر رسالته في الحياة منتهية على أحسن وجه. على أي حال سعد بيتنا على قدر ما يستطيع، وسعد أكثر بيت بهاء أفندي عثمان، بيت ملك، زيارتي لها بعد الوظيفة حفلت بمعان جديدة، ودار الحديث فيها حول التدبير والمستقبل وتوارت المناجاة ورموز العشق، أقول كالمعتذر: الوظائف الممتازة نادرة جدا اليوم.
فتقول بمرح: مفهوم .. لا داعي للأسف! - ثمانية جنيهات فيها الكفاية. - وفوق الكفاية. - ولن يطول وقت الاستعداد بإذن الله.
وتحني رأسها بالموافقة موردة الخدين بالابتهاج. وأطالع قامتها الفارعة وهي تقدم لي القهوة فتسري رجفة في أعصابي كالإعصار، وأتساءل: ترى لو تعلن الخطوبة ألا أستحق مزيدا من العطاء؟ وتساءل حمادة الطرطوشي ساخرا: ما إن فرغنا من النرد حتى همت في وديان بعيدة، فيم تفكر؟ - أتابع الحاوي الذي يعرض ألعابه أمام المقهى وسط حلقة من الصبيان، وأنظر بتقزز إلى ثعبان حول عنقه.
ويسألني: أتحب الحواة؟ - أبدا.
يقول متنهدا: حفيدي مريض جدا. - ربنا يأخذ بيده. - هل تذكر بيت الشعر الذي يقول مطلعه وأولادنا مثل لا أدري ماذا؟
أتذكر أنني قرأته، ولكني لا أحفظ الشعر. - أنا اليوم أنسى ما يجب حفظه، وأتذكر ما لا فائدة فيه! - وأنا مثلك. - أحيانا أنسى بعض قواعد النحو الذي أنفقت عمري في تدريسه! - نسأله الستر. - يقول ضاحكا: أنت في حاجة إلى عروس مع الستر!
ارتجفت جذور قلبي بنغمة طالما ترددت على أوتارها منذ الزمان الأول. وأحيل أبي إلى التقاعد في نفس العام الذي التحقت فيه بخدمة الحكومة، قرأت في وجهه النحيل حيرة باهتة يداريها بابتسامة فاترة وما يشبه الحياء، فقلت لنفسي أبي حزين، وأصر على ألا يغير نظامه اليومي، ينام عند منتصف الليل، يستيقظ مبكرا، يغادر البيت في الثامنة - بدلا من السابعة - يعود ظهرا من مقهى الدواوين بدلا من الوزارة، يتغدى، ينام، يمضي مرة أخرى إلى المقهى، لكنه حزين. قررت أن أسري عنه وأدخل إلى قلبه البهجة، هو أبي وصديقي ولا حياء بيننا في الحق، سأقول له يدك على يدي لنذهب معا إلى بيت بهاء أفندي عثمان لنخطب ملك، هو يومي الموعود ويومك الموعود أيضا، لا جدوى من انتظار زواج فكرية وزينب ولو انتظرت إلى آخر الدهر. ولكنه مات فجأة، بلا مرض ودون توقع، في الصباح الباكر وهو يحتسي القهوة عقب الإفطار، إنه القلب كما قرر الطبيب فيما بعد. اشتعل البيت صواتا ولطما، بكيت مع النساء كالنساء، أحببته حبا لا يضاهيه حبي لأحد، وتحداني موته وأنا في سن يتعذر عليها الاقتناع بالموت. جاءت أيام بعد ذلك بأعوام وأعوام كنت أحزن لأنني لا أحزن، ويقول لي علي يوسف معزيا: القلب أرحم موتة للميت وأقسى موتة على ذويه!
وضرب لي مثلا بأبيه. ما تصورت أنني سأعرف العزاء أبدا. وبرزت لي من الغيب حقيقة جديدة رغم أنها كانت تعيش معي طوال الوقت؛ فلم أدرك مدى فقرنا إلا بعد وفاة أبي. عشت دهرا في نعيم من الآمال الكاذبة، أذهلني أن أبي لم يخلف ثروة من أي نوع كان، سوى أربعين جنيها عهد بها إلى أمي هي تكاليف جنازته ودفنه. إذن ما سر البحبوحة التي سبح فيها بيتنا؟، المسألة بكل بساطة أن الدنيا كانت مطحونة بأزمة عالمية مررت بها في الصحف دون اكتراث، وتميز أصحاب المرتبات الثابتة بدخل ثابت أصبح محور الحياة الاقتصادية على تفاهته. السلع رخيصة ولا تجد من يقبل عليها إلا الموظفون، بفضل ذلك أكلنا وشربنا ولبسنا وركبتنا الخيلاء ونحن نمرح في القاهرة. وبنشوب الحرب مضى كل شيء يتغير؛ جاء الرواج، ومضت الأسعار ترتفع درجة بعد درجة، واسترد الملاك أنفاسهم، وانتفخت جيوب فئات ممن عرفوا بأغنياء الحرب، وتجهمت الدنيا للموظفين الذين تراءى لهم المستقبل طريقا مسدودة. وهكذا وجد الفتى المدلل نفسه رب أسرة بلا أسرة، مسئولا عن أم وأختين مزمنتين، لهم معاش ضئيل يفي بالكاد بكسائهن المتواضع، وله مرتب تضعف قيمته الشرائية يوما بعد يوم، كيف يمكن أن أتحدث عن موضوع خطوبتي؟ ومتى أستطيع أن أتزوج؟ وتم أول لقاء بيننا في بيتها بعد أربعين أبي، أنذر جوه بالإحباط والمتاعب، ما زال الحزن يصهرني فاحترمت حزني، لكنني لم أرها كسيفة البال كما أراها الآنز أقول بوجوم: كانت صدمة في ألا يخلف أبي شيئا!
تتساءل بروح راكدة: والمعاش؟ - المعاش! أي معاش يا ملك؟
تمتمت: يبدو الأمر كالاغتيال. - هو اغتيال حقا. - هل لديك فكرة عن المستقبل؟ - ما زلت أفكر وأفكر، يلزمني وقت آخر.
تأججت أشواقي إليها لحد الاشتعال رغم الحزن الثقيل، أم الحزن أمدها بوقود جهنمي؟ حتى الاغتصاب تمنيته ضمن خواطر دموية مجنونة. افترقنا على أسوأ حال من القلق، كيف ومتى أتزوج؟ هذا هو السؤال الملح المطارد القهار، زملائي في الوزارة - جميعهم متزوجون - يعجبون لامتناعي عن الزواج. كثيرون على أتم استعداد لتقديم عرائس. لن يكلفك ذلك مالا يذكر، ولكنكم جيل متمرد يفضل الحرام. أسمع وأتألم وأصمت، يا للعنة! ما قدرت أبدا أن الحياة تدخر لي هذا المأزق. ويوما تدخل أمي حجرتي وتجلس إلى جانبي على الكنبة في جلباب الحداد. نظرت بين قدميها وقالت: أرجو ألا أكون أخطأت يا حليم.
قلت غير متوقع أي خبر: خير؟! - ما باليد حيلة.
ثم مواصلة بعد صمت: أم ملك زارتني صباح اليوم، إنها صديقة عمري، ولها الحق كل الحق في أن تطمئن على ابنتها، اقترحت علي إعلان الخطوبة، سألتني عن المستقبل. قلت لها أنت حبيبتي ولا سر بيننا، وملك ابنتي ولن أجد لحليم خيرا منها جمالا وأدبا وقرابة، ولكن إليك حالنا وما أنت بالغريبة.
وفصلت لها الأمر تفصيلا، ثم قلت: ماذا تكون حالنا لو تخلى عنا؟ - والعمل؟ - العين بصيرة واليد قصيرة. - ألا يمكن أن نعلن الخطوبة إسكاتا لكلام الأهل والناس؟ - المسألة هي متى يستطيع أن يفتح بيتين؟
وقالت لي أمي بأسى: افترقنا، أنا آسفة وهي غاضبة، فهل أخطأت يا ابني؟
وقعت أسيرا للغضب والاقتناع، لا أجد منفذا للهجوم أو العتاب، الحقائق عنيدة كالصخور الصلدة. لا أستطيع أن أقاتل إلا شبحا اسمه سوء الحظ. رغم ذلك حنقت عليها دون وجه حق. يا لها من أيام قرف ونكد! وبادرت بزيارة بيت حبيبتي. في بيت الوجد والورد طالعني الجفاء لأول مرة، ملك متجهمة بلا إشراق ولا دلال، وتصدرت أمها المجلس وهي تتساءل في تهكم مر: هل استأذنت والدتك قبل أن تحضر؟
أخذت وتغيرت فقالت الأم بانفعال: ما كنت أتصور هذا الختام الغادر.
قلت بصوت منهزم: إنها ظروف سيئة كما تعلمين. - الله لا يرضى بأن يضحي شاب مثلك بحياته من أجل سوء حظ غيره، على كل إنسان أن يتحمل نصيبه من الخير والشر، ثم ما ذنب ابنتي؟ - دعيني أشرح لك.
قاطعتني بحدة: لا يهمني الشرح، ما يهمني حقا هو مستقبل ابنتي وسمعتها!
فقلت محتجا: سمعتها بخير دائما. - كلا، زيارتك لها معنى لم يعد في صالحها.
وقالت ملك محتجة: ماما!
فصاحت بها: اسكتي أنت!
عميت عما أمامي، غادرت الشقة مطرودا، أترنح تحت ضربات الإهانة واليأس والحزن، أتساءل في ذهول هل حقا انتهى كل شيء؟ الحب والأمل؟ ملك والزواج؟ وردمتني عاصفة كراهية لكل شيء، خنقتني الحقيقة البشعة وهي أنني منكوب بأسرة منكوبة، تبدى بيتنا مساء على مثل الحال التي كابدها يوم وفاة أبي؛ أمي وفكرية وزينب على كنبة واحدة في الصالة حائرات البصر من القهر والخجل والشعور بالذنب. تقول أمي: نحن حمل ثقيل، ولكن ما حيلتنا أمام قدرنا؟
وقالت فكرية وكانت أحن علي من أمي: أود المستحيل لإسعادك، ولكني عاجزة.
وصمتت زينب ولم تكن دونهما كربا. غمغمت وأنا ماض إلى حجرتي: ليفعل الله ما يشاء.
اليوم كلما نظرت إلى الوراء لم أر إلا التفاهة والعقم والحرمان، وأحلام اليقظة حول المال والنساء، والسجن الخبيث في أبو خودة. وكلما آنس حمادة الطرطوشي مني شرودا أو كآبة قال بين المزاح والجد: اذهب إليها، إنها وحيدة مثلك!
باتت تثير رغبتي كالزمان الأول، وما أكثر ما عاشرتها في الخيال! ويقول حمادة أيضا: لو كان الزمان غير الزمان لوجدت امرأة تخدمك خدمة شاملة!
ثم مواصلا وهو يقهقه: أعني كالتنمية الشاملة!
العجوز رائق ويمزح عليه اللعنة، بل يقول: أتريد الحقيقة؟ .. كان بوسعك أن تتزوجها.
فحدجته بغضب، فقال: لو كنت مكانك لجهزت حجرتي ولو بالتقسيط وضممت البنت إلى الأسرة، وليفعل الله ما يشاء.
قلت بحدة: هذه الأفكار لم تكن ترد على الخاطر في ذلك الزمان. - لا تغضب، أرى أنك سلمت للهزيمة دون مقاومة حقيقية.
فقلت بصرامة: من فضلك لا تحملني مسئولية سوء حظي.
ولم يقنع بيتنا بسوء حظه، ولكنه أضاف إليه نكدا وقرفا، كأنما الكراهية تهيمن عليه؛ فكرية وزينب في مشادة، فكرية وأمها في شجار، زينب وأمها في نقار. تقول فكرية: لو تعلمنا وتوظفنا لتغير حالنا، الله يسامحكم.
فتصيح أمي: زمان المرحوم غير هذا الزمان، دعوه يرقد بسلام.
فتقول زينب: ليتني أملك الشجاعة لأعمل خادمة.
فتهتف أمي: ربنا يريحني بالموت !
آه يا بيت النكد والكآبة! أما من نهاية لهذه الاتهامات المتبادلة؟ أما معي فكن يقدمن خير ما تنطوي عليه مشاعرهن من رقة وحب، أنا رب البيت وضحيته، وبقدر ما أسخط عليهن أعطف وأحزن، كم كانت أمي ربة بيت ممتازة، وكم كانت سعيدة في علاقتها مع أبي، ولكنها لم تتصور تلك النهاية الكآبية لأسرتها، تساءلت مرة بضيق: لماذا لا يخلو بيتنا من عنف؟
فقالت أمي: كيف تستخرج العسل من الخل؟ .. أنت نفسك ...
فقاطعتها متحفزا: أنا نفسي! - الحق أني أتمنى الزواج لهما من أجلك أنت.
تساءلت بسخرية: هل لو جاء العريس المعجزة سأجد ما أجهزهما به؟
فتنهدت ولاذت بالصمت، فقلت بحدة: وأنا، ما ذنبي؟
فقالت بعصبية: اذهب وتزوج واتركنا لمصيرنا.
فصحت بحدة: حتى هذا لا أستطيعه.
بيت النكد الذي أزداد مع الأيام مقتا له؛ نفس الوجوه، نفس الأسى، نفس الحرمان، أليس لهذه الحياة من نهاية؟ فكرية عنيفة، وزينب أنانية، لا يبرحان البيت كرها في العالم ولخلو صوانهما من أي ملابس لائقة، والحرب تشتد والأسعار تتصاعد والقلق يتجمع. أقول لأمي: مأساتنا الأصلية أصبحت ترفا، علينا أن ننضبط في الإنفاق لأقصى حد. - إني أبذل كل ما في وسعي. - لم يحتط أبي الله يرحمه للمستقبل!
هبت للدفاع كعادتها قائلة: لم يكن في وسعه أن يفعل خيرا مما فعل. - أنفق عن سعة، وبالغ في تدليلي فأفسد علي حياتي! - أتلومه لأنه أحبك أكثر من أي شيء في الدنيا؟ - ألم يكن من الأصوب أن يوفر نقودا لزواج ابنتيه؟ - كان في نيته أن يستبدل جزءا من معاشه كلما احتاج إلى تجهيز واحدة.
وذات يوم استدعاني رئيسي لمكالمة تليفونية، وجاءني صوت خفق له قلبي بعنف، ملك حبيبتي دون غيرها، وسمت لي موعدا عند الأصيل بشارع السرايات. التقينا وليس في قلبي نبضة أمل واحدة، بعد عام فراق معذب طويل حزين، ها هو من جديد الوجه الجميل والجسم المترع بالجاذبية. وفي شيء من الارتباك والحياء قالت: نيستني طبعا!
فسرنا، وأنا أقول: لم تخطر لي هذه النهاية ببال. - وأنا كلما تقدم لي رجل رفضته، ولكن كيف لي بالصمود أمام العواصف؟ - أنا خجلان يا ملك. - ألا توجد بارقة تحسن؟ - من سيئ إلى أسوأ!
فسكتت بائسة، وقالت: لا يصح أن أخدعك.
وتقدمنا صامتين كأننا نشيع ميتا حتى شارفنا ميدان المستشفى الفرنسي فتمتمت: بوسعي أن أفعل ما تشير به علي.
فقلت في استسلام نهائي: لا أشير عليك بشيء، حسبي شعوري بالإثم على ما ضيعت من عمرك.
وكان المساء يهبط بثقله في كثافة مركزة لا تخففها المصابيح الملونة بالأزرق تنفيذا لتعاليم الدفاع الجوي. وكان علينا أن نفترق قبل أن نصل إلى شارع العباسية، الفراق النهائي الذي يجرف معه كل شيء. وقفنا، سألتها بصوت غريب: هل أستحق في نظرك أي لوم يا ملك؟
هزت رأسها دون أن تنبس، تلاقت يدانا، وآخر ما قلت كان: سأدعو لك دائما بالسعادة.
وذهبت وبصري منغرز فيها، ما فعل اللقاء إلا أن جدد الأحزان، ونكأ الجرح. وتضاعف سخطي على كل شيء حتى إنني صرت من قراء صحف المعارضة بلا أدنى اهتمام حقيقي بالسياسة. وقلت لعلي يوسف: خبرني يا خبير، أمامي عزوبة أبدية، فما العمل مع المشكلة الجنسية؟
فضحك عاليا ونحن نتجول في حديقة الأزبكية، وقال: جرب من جديد.
فقلت يائسا: لا أطيق المحترفات ولا الخمر!
فإذا به يقول: لم يبق لك إلا أم عبده!
هتفت بذهول: أم عبده؟!
قال ببساطة: تربت عندكم، منكسرة، وفيها رمق، لم لا؟ - إنها تكبرني بعشر سنوات. - لم أقترح عليك الزواج منها يا أستاذ!
ليس في الكون بقعة محطمة بالعفونة وعامرة بأحلام اليقظة مثل العمارة البالية بشارع أبو خودة ومقهى النجاح بميدان الجيش. ماذا بقي لمتقاعد وحيد؟! لو تهيأت لي وفرة في المال لقمت بسياحة داخل القطر تغطيه من شرقه إلى غربه ومن شماله إلى جنوبه. ولو غمرتني ثروة مباغتة لقريب تركها لي في البرازيل مثلا لشرقت في الأرض ولغربت بلا حساب، ولتزوجت من فتاة حسناء دون مبالاة بالعواقب. ما ألذ الأحلام وأقساها! على حين تقيمين يا ملك على مبعدة أمتار مني ولا أحرك نحوك ساكنا. نحن سلالة ذكريات واحدة، وفريسة شيخوخة واحدة، وقلبي يحدثني بأنك ما زلت امرأة! وقال لي حمادة الطرطوشي بسرور: ابني رقي إلى درجة مدير عام.
فهنأته، وقلت: القهوة والسندوتش على حسابك هذا المساء.
فقال بحزم: علي القهوة فقط! - هل ما زلت تعاشر حرمك جنسيا؟
فضحك الرجل، وقال: سؤال بارد. - معذرة، ولكنه يهمني.
فقال باقتضاب: عندما أشاء.
ثم مواصلا: كثيرا ما توجد القدرة غير مصحوبة بالرغبة.
ثم قال برثاء: كيف فاتك الزواج؟ ما عرفت رجلا له مثل حنينك إلى الزواج.
فقلت بمرارة: ما زلت أحمل أسرتي حتى العام الأخير، وكلما ارتفع المرتب درجة ارتفع الغلاء درجتين. - يا للخسارة، وأم عبده رحلت قبل الأوان! - بل بعد الأوان، وبعد أن استحالت رجلا! - قسمتك. ماذا يقعدك عن مقابلة ملك؟
وراح علي يوسف يلاحقني بنظراته مستطلعا، إني أعرف ما يريد أن يسأل عنه وأتجاهله، حتى سألني ونحن جالسان في مقهى الانشراح القديم الذي محله اليوم معرض للأثاث: ما أخبار أم عبده؟
ضحكت وقلت: مغامرة غريبة ولكنها كللت بالنجاح.
فتساءل بشغف: كيف؟ - ماذا أقول؟ إنها عشرة عمر، عرفتها منذ الطفولة كأنما هي قطعة من أثاث البيت، وازدادت العلاقة احتراما بعد أن خلفت أبي، ولعلها دهشت كثيرا عندما آنست مني تغييرا في النظر والكلام، ومثل هذه الأمور لا يغيب مغزاها إلا عن المعتوهين، وهي امرأة طيبة ولكنها لحسن الحظ ليست معتوهة، لما مددت يدي ذهلت، تراجعت، وتلاحقت أنفاسها في اضطراب واضح، الآن كل شيء يمضي على أحسن وجه، ولكن في حذر شديد. - تخاف الفضيحة؟ - طبعا. - لقد حرموك من الزواج، فهل يردن إعدامك أيضا؟ - بل إنه الأدب والحياء من ناحيتي. - المهم هل ارتاحت أعصابك؟ - نعم. - ادع لي.
فقلت ضاحكا: لا عدمتك من قواد كريم!
نعم، لقد حظيت بالراحة ولكن تضاعف شعوري بالقرف والعقم والتفاهة، وتساءلت: ترى هل يحق لنا أن نحسد الأمم المشتبكة في الحرب؟ اعتدنا سماع الأهوال وصفارات الإنذار ورؤية جنود الحلفاء، وأذهلنا تقلب الحظوظ وانكسار الجبابرة. وكنت ألقى علي يوسف مرتين؛ مرة في مقهى الانشراح، والأخرى في المخبأ قبيل الفجر . وقال لي ذات مساء: أريد أن أعرف رأيك بصراحة في أمر هام.
فتساءلت ولا فكرة لي عما سيقول: خير؟
فسألني في شيء من الارتباك: ما العلاقة الآن بينك وبين ملك؟
اقتحمتني المفاجأة، خرست دقيقة، ثم أجبت بصراحة: لا علاقة على الإطلاق. - إني لا أسأل عن العلاقات الرسمية ولكن عن قلبك؟ - الماضي نسي تماما. - ألا يحزنك أن تتزوج اليوم أو غدا؟ - بل أتمنى لها السعادة، ولعل زواجها يقتلع من قلبي رواسب الشعور بالذنب. - سؤال آخر.
فتساءلت مبتسما: أفندم؟ - ما رأيك لو أستأذنك في خطبتها لنفسي؟
فقلت ببساطة: ستجدني أول المهنئين. - أطالبك بالصراحة التي لا تعقب ندما من ناحيتك أو ناحيتي! - بالصراحة نطقت.
كنت صادقا، مرت فوقي سحابة كآبة، لعل رياح الخيبة هي التي دفعتها ولكني لم أكابد حبا أو غيرة، وجثم فوق صدري أكثر من الأول شعور الإحباط واليأس. ويوم رويت ذلك الموقف لعم حمادة الطرطوشي سألني: أكنت شفيت حقا من حب ملك؟
فأجبته بيقين: بكل تأكيد. - ألم تكن تختارها زوجة لو سمحت الظروف؟ - بلى، ولكن لصلاحيتها لذلك. - إذن كانت وما تزال المرأة المفضلة؟ - وكان يمكن أن يقع اختياري على غيرها أيضا!
فضيق عينيه، وقال: أخبرتني أنه كان يقيم معها في عمارة واحدة؟ - نعم.
فقال بخبث: كان يحبها من قديم ورب الكعبة!
فقلت بصراحة: خطر ذلك ببالي أيضا. - إنه ثعلب!
قلت بحرارة: لم يخطئ في حقي قط، وظل لآخر يوم في حياته صديقي الأول. - وهل وفقا في الزواج؟ - كأحسن ما يكون التوفيق.
وأضفت من عندي: أنجب منها ولدين نابهين ولكنهما - مثل أبيهما - اندفعا في النشاط العام، وبخلاف الأب اندمجا في الإخوان، واضطرا إلى الهجرة إلى السعودية فتزوجا وأقاما هناك بصفة نهائية، وأنا أعتقد أن ملك تعيش اليوم عيشة ميسورة بفضلهما. - ومتى ترملت؟ - منذ عشر سنوات تقريبا، مات صديقي في عز قوته بالسرطان، عاش كريما نبيلا حتى آخر يوم من حياته.
تلقت أسرتي خبر زواج ملك بوجوم، وتضاعف شعورهن بالذنب فازداد البيت كآبة. وشهدت الزواج مع صديقي العريس وهنأت ملك، كأن ما كان لم يكن، وعجبت للعواطف وخداعها العابث. ولأوهام الصبا وأحلام الشباب، وغثاءة الواقع وصدقه ومرارته. وعلى أي حال فعلي يوسف شخص ممتاز، ودخله من المحاماة يفوق دخلي من الوظيفة عشر مرات، وقد هيأ لملك حياة ناعمة وربى ابنيه أحسن تربية وتاه بتفوقهما. أجل أزعجه نشاطهما السياسي لا لمخالفته لميوله الوفدية فحسب، ولكن للخطر المهدد لأمنهما من ناحية الحكومة. ولعله سعد بهجرتهما إلى السعودية ولكنه سرعان ما عذبه الشوق الدائم لهما وبخاصة وأنه كان فياض الأبوة. وهيهات أن أنسى حربه القصيرة مع سرطان المثانة، ولا عذاب أيامه الأخيرة، ولا رحيله الذي خلف وراءه فراغا في قلبي لا يملأ بحال من الأحوال. ولم يكن لي من عزاء تلك الأيام إلا في تقدمي في الوزارة وعلاقتي السرية بأم عبده، وسلمت بالواقع المتجسد في نسوة ثلاث متوترات الأعصاب منعمات بالسخط كأنهن الرمز الحي للزمن الموغل دوما في الغلاء والتناقضات وسوء الحال. وعقب قيام الثورة ساءت صحة أمي وتدهورت الحالة النفسية لأختي زينب فدهمتني مصروفات جديدة للعلاج والدواء. واعتدت العزوبة ولازمتني تطلعاتي القديمة نحو الزواج والإنجاب كحلم حزين دائم لا سبيل إلى تحقيقه. وجعلت أتساءل في ضيق: متى يتاح لي التخلص من هذا الكهف المليء بالنفايات؟ وربما أحزنني وسرني معا استباقهن إلى خدمتي وتوفير الراحة لي، ليست هذه الراحة العفنة هي ما أنشد. إنهن يكبلنني بالحديد والعمر ينطلق ساخرا. وكانت أم عبده أولى الراحلات، أما أمي وفكرية وزينب فلم يرحلن إلا في آخر عام لي في الخدمة؛ سبقت أمي في قمة الشيخوخة، وتبعتها بعد أشهر فكرية في السبعين، ثم زينب في الثامنة والستين. وكل جنازة كلفتني الشيء الفلاني حتى اضطررت إلى الاقتراض، ثم وجدت نفسي وحيدا في الستين في عالم جن جنونه وانقلبت موازينه وأصبحت الليمونة فيه بعشرة قروش. ويقول لي حمادة الطرطوشي: لن أسمح لك بالاستسلام لليأس، إن يكن مسكنك كريها فثمة آلاف من سكان المدافن يحسدونك، بيدك أيضا أن تعمل في شركة استثمار وتحسن مرتبك، وتوجد سيدة وحيدة مثلك فلم لا تزورها؟
ويقول الرجل أيضا وهو يضحك: صحتك والحمد لله ممتازة، وخواطرك الجنسية تبشر بكل خير.
وقلت له ذات مساء: قررت التحدي والقيام بالمغامرة.
فهنأني العجوز على شجاعتي. وضاع أكثر يومي الثاني في الاستعداد للمساء؛ حلقت شعر رأسي وذقني، أسلمت جسدي للدش طويلا، ارتديت أحسن ما عندي من بنطلونات وقمصان، انتظرت المساء طلبا للستر ثم عبرت الشارع العمومي للضفة الشرقية، خطر لي علي يوسف، قلت إنه لم يخني ولا أخونه. وقلت أيضا لنفسي إنه لعار أن يرتبك شخص في مثل سني. وقفت أمام باب الشقة في الدور الثالث في ظلام تام ضغطت على الجرس. سمعت أقداما آتية، وفتحت الشراعة، وتساءل الصوت القديم: من؟
أضاءت المصابيح في أعلى الباب فتجلى وجهي، لم تصدق عينيها، هتفت: أنت!
فتحت الباب، وضح تلعثم حالها، أشارت إلى حجرة إلى يمين الداخل هامسة: تفضل.
ذهبت وبقيت بمفردي واقفا، الجو خانق، فتحت نافذة تطل على الشارع، نفس حجرة الاستقبال القديمة ولكن الأثاث جديد وعصري. هل أندم على هذه الخطوة؟ لعلها الآن تغير ملابس البيت، لم أرها من قريب منذ زمن طويل طويل. وقع الأقدام من جديد، رجعت مطوقة الرأس بمنديل أبيض، في فستان صيفي لبني لكنه محتشم، لا يكشف إلا عن ساعديها وأسفل ساقيها. تساءلت وهي واقفة: تشرب قهوة؟ .. عندي عصير برتقال أيضا. - لا داعي للكلفة والتعب.
ذهبت. بقيت صورتها؛ امتلأ الوجه أكثر من الماضي ولكنه متماسك ولا أثر للتجاعيد فيه، حلت الرزانة محل ماء الشباب، ولكنه وجه مقبول، ترى هل شاب شعرها؟ أما الجسم فقد امتلأ، بينه وبين البدانة خيط لا بأس، وهو داخل الفستان مثير؛ إي والله مثير، انهالت علي أحلامي الجنسية كالشلال، آه لو أضمها إلى صدري ونتذاوب كما فعلنا كثيرا في الماضي المليح، ولكن حذار فأنت لا تدري شيئا عما يعتلج في باطنها، ربما أقامت واستقرت في وادي الأمومة والطهر، تمالك نفسك وتجنب الخطأ، رجعت بصينية فضية صغيرة عليها قارورة، ووضعتها فوق خوان من الخشب المطعم بالصدف، ونقلته أمام مقعدي، قلت لها: أتعبتك، اجلسي وارتاحي.
جلست على فوتيه في الجناح المواجه لي، وفي تلك اللحظة انتبهت إلى صورة الزفاف المثبتة في الجدار فوقها، وعلى جانبيها صورتان، الأولى لعلي يوسف والأخرى لابنيها في زي العرب. هبت على عواطفي دفقة باردة وازدادت مهمتي عسرا. - خطوة عزيزة، تذكرت أخيرا أهلك!
فقلت بأسف: هي الحياة كما تعلمين، ولكنني قلت إنه غير معقول أن نكون في حي واحد ونعيش كالغرباء! - أهلا بك، هل ما زلت تعمل في الوزارة؟ - تقاعدت منذ أيام أو منذ ساعات! - ربنا يطول عمرك، ألا يوجد من يخدمك؟
قلت ضاحكا: أعيش وحيدا مع الجدران القديمة. - وأنا مثلك، لولا امرأة بنت حلال، تزورني مرة كل أسبوع، أمينة وماهرة. - يخيل إلي أنك لا تغادرين البيت أبدا؟ - لا أخرج إلا كل حين ومين ولأسباب قهرية. - الوحدة قاسية، لدي المقهى والصديق، ولكنها قاسية جدا.
فقالت بتسليم: عندي التليفزيون وجارة أو جارتان. - هذا لا يكفي. - أفضل من عدمه! - وكيف حال ابنيك؟ - عال، استقرا هناك إلى الأبد، أصبح لي أحفاد،، هي قسمتي على أي حال.
نطقت بها بأسى واضح فسألتها: ألم تسافري إليهما؟ - مرة، وأديت العمرة.
قلت وقلبي يمعن في تراجعه: مبارك يا حاجة. - عقبالك.
ثم مواصلة: إن عزمت يوما فستجدهما في انتظارك. - كل شيء بمشيئة الله، وكيف صحتك؟ - كيف صحتك أنت؟ - على أحسن ما يكون، والحمد لله. - وأنا كذلك، ولكني ركبت طاقم أسنان. - هذا مفيد للصحة في ذاته. - نسأل الله حسن الختام.
فقلت بحماس: أمامك عمر مديد بإذن الله، وإني سعيد برؤيتك. - وأنا كذلك، ولو أنني كنت أتمنى ألا تكون وحيدا. - أنت أيضا وحيدة.
فقالت بمودة: أعني أنه كان يجب أن تكون لك زوجة وأولاد.
فقلت بأسف: القسمة والنصيب.
وأمسكنا، ربما لنسترد أنفاسنا، أفرغت بقية القارورة في جوفي وغرقت في العرق. فارق كبير بين الحقيقة والخيال، تصورت أنني سأوجه الحوار إلى الهدف دون صعوبة، وأنني سأثب إلى جانبها مثقلا بأشواق العمر، وأنه وأنه وأنه، وهذا مناخ الجلسة ينضح بالجدية والأدب، والسيدة مصونة لا تسمح بقدح شرارة عبث، وهذه الصور المطلة علينا تشاركنا الاجتماع وتصد عنه النزق بل وتغرقه في الحزن، ترى فيم تفكر؟! ألم ترد على خاطرها ولو صورة فاتنة واحدة من الماضي الجميل؟ هل تهيمن على خواطرها كما تهيمن على سلوكها؟ .. أود أن تطالعني العينان بلمحة تذكر، أو مداعبة، أو حياء عابر، أو ظل ابتسامة تتعدد التفسيرات لها، لكني لا أرى إلا نظرة رزينة، نظرة قريبة لقريب تلاقيا في شيخوخة العمر. هل انتهت ملك وجفت ينابيعها؟ على أي حال لن أغادر الشقة بجعبة خاوية إلا من الفشل، ولن أسمح للجبن بأن يحملني الندم إلى آخر البقية من العمر. قذفت إلى الماء متسائلا: هل يضايقك أن نخفف من وحدتنا بالزيارة من حين لآخر؟
فقالت بهدوء: أهلا بك.
ثم مع تردد واضح: ولكن ...
أدركت ما تضمر، فقلت: نحن أقارب، ولنا من عمرنا ما يصد عنا الكلام.
فلاذت بالصمت، فقلت يائسا: إذن لا توافقين على الزيارة!
قالت بسرعة: لم أقل هذا. - لعلك توصين بالانضباط؟ - هذا ما يجدر بنا أن نفكر فيه. - أود أن أعرف رأيك بكل صراحة. - لو عندي رأي آخر لصارحتك به.
فقلت بحرارة: أنا في أشد الحاجة إلى الزيارة، وحدتي لا تطاق، وليس لي غيرك كما تعلمين، وطالما فكرت في ذلك ومنذ زمن طويل.
لعلها ابتسمت، ولكن وجهها تورد يقينا، وهمست: أنا فاهمة ومجربة.
فقلت بشجاعة متصاعدة: إذن فكلانا في حاجة إليها!
فضحكت وآثرت الصمت، وشعرت بأننا انتقلنا من عصر إلى عصر، فقلت: الوحدة مرة، والحياة مرة، أتطلع إلى شيء جديد، أنت جددت أثاثك. - شقتي تجددت تماما، المرحوم ترك لي مبلغا لا بأس به، وحيد أهداني حجرة نوم جديدة، وبكر حجرة الاستقبال، واشتريت أنا حجرة سفرة. - والغلاء؟ - المعاش لا يجدي، ولكن وحيد وبكر يمدانني بما أحتاج إليه، ماذا تفعل أنت؟ - يدي دائما على قلبي، ولا أحد يهتم بالمتقاعدين، ولكن أفكر في بدء حياة جديدة! - بعد التقاعد؟ - صحتي على ما يرام، ولدي مهارة في اللغة الإنجليزية وخبرة في الأعمال الإدارية، وسوف أجرب حظي في إحدى شركات الاستثمار. - مرتباتهم كبيرة. - وأملي كبير جدا. - فكرة جميلة . - يسرني أنك تشجعينني.
ورجعنا إلى الصمت فرأيت من المناسب إنهاء الزيارة، قلت: آن لي أن أذهب.
وكالعادة دعتني للبقاء مجاملة ولكنني وقفت ومددت يدي للمصافحة. تمشيت في الهواء الساكن متلهفا على نسمة من نسائم الصيف. إذا كان الخيال لم يتحقق فإنه أيضا لم يتلاش. ومضيت إلى مقهى النجاح بروح جديدة، ولما رآني حمادة الطرطوشي مقبلا ابتسمت أساريره، وقال: رجعت إلى شبابك، لم أرك كاليوم أبدا.
وجعلت أعيد على مسمعه ما دار بيني وبينها واجدا في ذلك سعادة جديدة. وعلق الرجل قائلا: أنا متفائل، وأنت؟
فتفكرت قليلا، ثم قلت: بنسبة 50٪. - لا، أكثر من ذلك. - حقا؟ - كان بوسعها أن تجعل من الزيارة الأولى والأخيرة. - لا شك في ذلك. - ولا أظن أنه غاب عنها مقصدك. - أتمنى ذلك. - صدقني، أنا أدرى بالنساء منك، ولكن هل وجدتها حقا صالحة؟
فقلت بحماس: أؤكد لك أنها ما زالت جذابة.
فقال الرجل وهو يضحك: على سبيل الحيطة لا تتماد في التفاؤل، المظهر في مثل سنها غير المخبر، قد يبدو الجسم مغريا داخل الفستان، ولكن إذا عري تجلت به ثغرات وحفر مثل شوارع هذه الأيام؛ لذلك أنصحك إذا وفقت إلى ما تريد أن تمارس حبك في الظلام!
ولم أتمالك من الضحك طويلا، ثم قلت له: المهم أن أوفق أولا.
لدى عودتي إلى شقتي أطبقت علي الكآبة. تضاعفت كراهيتي لها وتمنيت لها النار. باتت الرغبة في التغيير قوة قاهرة لا تقاوم، وفترت متعتي بالمقهى والتليفزيون في الأيام التالية. الزيارة هي الأمل الباقي الوحيد، تكرارها بعد أسبوع قليل، بعد شهر غير محتمل، فلتكن بعد أسبوعين. في أثناء ذلك عرفت أن شركة جنرال إليكتريك في حاجة إلى وظيفة في فرع منها يقوم بمشروع لبناء محطة مياه، مشروع مؤقت مدته ثلاثة أعوام ولكن المرتب 400ج.م، غير بدل الانتقال، وتقدمت للامتحان. وقع الاختيار على فتاة ولكن المدير عرض علي وظيفة في العلاقات العامة بثلاثمائة جنيه، قبلت وأنا في منتهى السعادة. لم أتمكن في نطاق دخلي الجديد من الانتقال إلى حي جديد ولكن الغذاء والكساء سيقفزان قفزة خيالية. وانتظرت أسبوعين ثم مضيت في ميعاد الستر إلى بيت حبيبتي، الصبر نفد، والشوق تأجج واشتعل، والعزيمة صممت. أقنعت نفسي بأن الشيخ لا يجوز أن يتلعثم كصبي أو يخجل كمراهق. ولما فتحت لي حجرة الاستقبال رجوت أن نجلس في حجرة المعيشة، استزادة من الألفة في الظاهر وهربا من الصور في الحقيقة، وقلت لها بصدق: حياتي بفضلك أصبحت مما أغبط عليه.
فابتسمت قائلة: لا تبالغ.
فقلت بارتياح: التحقت بشركة جنرال إليكتريك. - مبارك.
وحكيت لها عن المرتب وكل شيء وقلت: يمكنني الآن أن أحقق هدفي.
وبدت أنها لم تفهم مقصدي فقالت: إن كنت تروم شقة جديدة فأشك في تحقيق هدفك.
فقلت بجرأة: هدفي أهم من الشقة! - حقا؟! - إني أفكر جادا في الزواج.
خيل إلي أنها أجهضت دهشة بلباقة، وتمتمت: الزواج!
فقلت بثقة: إني على أتم ما يكون من الصحة.
فابتسمت في ارتباك، وقالت: ربنا يزيدك صحة وعافية. - وددت أن أعرف رأيك؟ - لم لا، مثلك يتزوجون، وأكبر منك أيضا. - هذا ما قلته لنفسي.
فقالت بشيء من المرح: دعني أبحث لك عن زوجة مناسبة. - ما الزوجة المناسبة؟ - لعلها سيدة عاقلة لا تقل عن الأربعين. - ستكون في تلك الحال أرملة أو مطلقة. - وما المانع؟ - ولها أولاد، وربما في سن الحضانة. - لا بد من الرضا بالواقع المتاح.
فركزت بصري الثمل في عينيها الحائرتين، وقلت: إني أعرف من أريد ولا حاجة إلى البحث.
فتساءلت وهي تغوص في الحصار: ماذا تعني؟
فقلت باستسلام وضراعة: ملك، أنت الزوجة التي أريد.
غضت بصرها وقطبت دون أن تنبس، فرجعت أسأل في إلحاح: ما رأيك؟ - أهذا ما رجعت من أجله؟ - أي نعم. - يا للفضيحة! - الفضيحة؟ - لا أدري ماذا أقول. - إنه مطلب طبيعي ولا فضيحة فيه على الإطلاق.
فقالت بصوت متهدج: الزواج لا يمكن أن يخطر لي ببال. - دعيه يخطر، كان أعز أمانينا.
فقالت وهي من الحياء في ضيق شديد: ذاك تاريخ مضى وانقضى ونسي.
فقلت بحرارة: إنه يعيش معي الآن بكل قوة. - أنت لا تدرك معنى ما تقول، الوحدة أطاحت بالحكمة، وسيتمخض الحلم عن لا شيء. - إني أعرف ما أريد.
فقالت بانفعال شديد: لا .. لن أسمح بفضيحة. - لماذا ترددين هذه الكلمة القبيحة؟ - هي الحقيقة، أنت تتناسى أنني أم وجدة.
فقلت بضراعة: الدهشة تعيش ساعة واحدة، ثم يلوذ الإنسان بسعادته.
فغضت بصرها في أسى، وهمست: لا تحرمني من سكينة القلب.
خيل إلي أنها انقلبت في نقاشها امرأة لا أما أو جدة أو قريبة فحسب.
انتفضت قائما وخطوت نحوها لأجلس إلى جانبها كالزمان الأول، ولكنها وثبت هاربة وهي تهتف بجفاء: لا تلمسني.
كأنما تلقيت لطمة، تجمدت لحظات، في غاية من الانهيار واليأس، ثم همست وأنا أتحرك: أستودعك الله.
لم أذهب إلى المقهى، لم أرجع إلى البيت، سرت طويلا على غير هدى، استرحت قليلا في بعض مقاهي الأطراف، عدت إلى مقبرتي مع الفجر. في اليوم التالي، وأنا في طريقي المألوف إلى مقهى النجاح، رفعت عيني إلى شرفة مسكنها، وإذا بها تقف فوق عتبة الشرفة وكأنها تنظر نحوي. وبدافع الأدب والمجاملة أحنيت رأسي تحية فإذا بها تلوح بيدها محيية. خفق القلب وتسمرت القدمان، ماذا تعني يا ترى؟ وفتحت مصراعي النافذة وتراجعت قليلا، ثم لوحت بيدها مرة أخرى واختفت. فسرت الإشارة على هواي، وعبرت الشارع نحو العمارة يستخفني طرب غامر، لم أبال هذه المرة بانتظار المساء.
অজানা পৃষ্ঠা