لعله من الخير أن أترك الإجابة للشيخ محمد عبده، فهاك نص ما كتبه جوابا عن سؤال كهذا: ... إنه إذا تعارض العقل والنقل «أي تعارض حكم العلم مع نص شرعي» أخذ بما دل عليه العقل، وبقي في النقل طريقان: طريق التسليم بصحة المنقول، مع الاعتراف بالعجز عن فهمه، وتفويض الأمر إلى الله في عمله، والطريق الثانية تأويل النقل، مع المحافظة على قوانين اللغة، حتى يتفق معناه مع ما أثبته العقل. (كتاب الإسلام والنصرانية، ط6، ص59)
لقد كان لفكرة «التوفيق» بين طرفين يبدوان كأنهما متعارضان، أهمية كبرى في تاريخ الفكر الإسلامي، وإذا نحن لم نعطها حقها من الاهتمام، ومن اللجوء إليها في حياتنا الفكرية بشتى جوانبها، كنا بمثابة من يهدر جانبا كبيرا من تراثنا الفكري، فكلنا يعلم أنه لم يكد قرنان من الزمن يمضيان بعد نزول الإسلام، حتى انكب المسلمون انكبابا، كله الصحة والقوة والثقة بالنفس، على ثقافات أخرى، ينقلونها، ويدرسونها، ويجرونها في شرايين حياتهم الفكرية، وكان طبيعيا أن يتجه اهتمامهم أول ما يتجه إلى النظر فيما نقوله، وفي مقارنته بأصول دينهم، ليروا أين يتفقان إذا اتفقا، وأين يختلفان إذا اختلفا، ولقد كانت المادة المنقولة - بالطبع - مصبوبة في صورة تختلف في «ظاهرها» أشد اختلاف عن الصورة التي جاءت عليها ديانة الإسلام، فلم يصدهم هذا الاختلاف في الظاهر، عن البحث وراءها وفي جوفها، ليروا إذا كان الطرفان من حيث المضمون، متفقين أو مختلفين، وإلى أي مدى؟ وقد كان أن وجدوا تشابها في مواضع كما وجدوا تباينا في مواضع، وها هنا أعملوا عقولهم في عملية «التوفيق» كلما وجدوا التوفيق ممكنا، وليس معنى التوفيق أن يحذف المفكر المسلم من المادة المنقولة ما يراه متعارضا مع عقيدته، منقبا على ما هو متفق معها، كما ذهب إلى ذلك أستاذ جليل فيما كتبه عن هذا الموضوع؛ لأنه لو كان الأمر كذلك، فكأن المسلمين ما نقلوا عن غيرهم شيئا، ولقد كنت أبديت في بعض ما كتبته تعليقا على ما ذهب إليه الأستاذ الجليل في معنى التوفيق، فرد ليبدي دهشته وعجبه من التعليق، ولكي أوضح ما أراه في معنى التوفيق، أقول افرض أن ما عندي يمكن الرمز له بالحروف أ، ب، ج، وأن ما نقلته عن الآخرين يمكن الرمز له بالحروف س، ب، ج، فهنالك بين ما عندي وبين ما نقلته تشابه في حرفين، هما ب، ج، فلا إشكال فيهما بين أصيل ومنقول، والمشكلة تتركز في الجزء الباقي، فمهمة الباحث عندئذ أن ينظر في س الوافدة، هل تتعارض مع أ تعارضا يستحيل معه أن يتجاورا؟ أو أن الاختلاف بينهما ظاهري ولا يمس الجوهر؟ فإذا كانت الثانية بحثت عن صورة جديدة ابتكرها ابتكارا، لتضم أ، س معا في فكرة واحدة، فينتج عن هذا كله مخلوق ثقافي جديد، فيه بعض الملامح الأصلية عندي، وفيه كذلك ملامح جديدة استحدثت بعملية الدمج الذي أجريناه على أ، س، ولولا هذه الجدة في التركيبة الجديدة، لما جاز لنا أن نقول عن الفلسفة الإسلامية، حين تناولت الموضوعات التي نقلت عن الفلسفة اليونانية، إنها قد جاءت بشيء جديد في عروضها، فالتوفيق هو دمج للطرفين دمجا يلد لنا مخلوقا جديدا، لا هو الطرف الأول كما كان، ولا هو الطرف الثاني كما كان.
وأغلب ظني هو أن مصدر الخطأ - إذا كان هناك خطأ نخطئ به في موقفنا من عملية «التوفيق» - فأساس ذلك الخطأ هو صعوبة التفرقة - في حالات كثيرة - بين فكرتين: متى تتعارضان، ومتى تتكاملان دون أن يكون بينهما تعارض، وإذا شئت فاصحبني في رحلة قصيرة، نستعرض فيها ضروبا من اختلاف الرأي، كيف يغلب عليها ألا تكون اختلافا حقيقيا بقدر ما هي أفكار يمكن أن تتكامل معا في موقف واحد، وخذ مثلا مذاهب الفلسفة في عصرنا، ولقد شاءت لنا المصادفة أن يجد كل مذهب منها من بيننا أنصارا، وتسمع هؤلاء الأنصار للمذاهب المختلفة يتجادلون، أو تقرأ لهم ما يكتبون، فيخيل إليك أن الهوة سحيقة بين تلك المذاهب، بحيث لا أمل في لقاء، وواقع الأمر أنها وجهات نظر نحو حياة عصرية واحدة، اختارت كل وجهة فيها جانبا من تلك الحياة، تاركة سائر الجوانب لسائر المذاهب، وإذا نحن ضممنا المذاهب كلها معا، لظفرنا بصورة واحدة متكاملة لهذا العصر في علومه، وفي سياساته، وفي أخلاقياته.
وانتقل معي إلى مذاهب النقد الأدبي والفني، فهي الأخرى اتجاهات، وجد كل اتجاه منها بيننا مناصرين، وكلنا يذكر كيف اشتعلت المعارك بين الفئات المختلفة، وواقع الأمر هو أن كل مذهب نقدي اختار طريقة يفهم بها الأدب الذي يقرؤه، أو الفن الذي يطالعه، على أن كل طريقة للفهم، يمكن أن تضم إلى أخواتها، فيزداد الناس فهما، إذ بدل أن يروا العمل الأدبي أو الفني من جانب واحد، فهم سيرونه من جوانب متعددة بتعدد طرائق النظر.
فهل يكون التوفيق بين الشرع والعقل، الذي رآه الغزالي، وكان الأشعري قد رآه من قبله، ورآه محمد عبده من بعده، ورآه كثيرون آخرون، عبروا به عن موقف أهل السنة، أقول: هل يكون التوفيق بين الشرع والعقل، في حقيقته، ضربا من رؤية الشيء الواحد من جانبين، يتكاملان ولا يتعارضان؟ وذلك بالمعنى الذي رآه الغزالي حين وجه النقد إلى فئتين تطرفتا في اتجاهين: فئة «الحشوية» جمدت عند فهمها للنص، حتى لكأنها قلصته من شدة الجمود وبرودته، فجعلته لا يتسع لكل ما يمكن أن يتسع له، وفئة المعتزلة مطت النص مطا حتى أصبح يتسع لما ليس يتسع له، وكان الصواب أن يفهم النص فهما يستثمر كل إمكاناته لا زيادة ولا نقص، وبهذه الوقفة المتزنة، التي لا زيادة فيها فوق ما يجب ولا نقصان فيها عما يجب، يتحقق لنا الاقتصاد في الاعتقاد.
القسم الثالث
من عوامل الضعف
صرخة
تقدمت الفتاة بخطو ثابت نحو قضاة الرأي في مسائل الدين، وذلك فيما يختص بالشباب وما يعترض حياته من مشكلات، تقدمت فقالت بصوت مهذب صادق أمين إنها تتحدث عن نفسها، ونيابة عن زميلات لها كثيرات، وكلهن طالبات «طب وجراحة» - كما قالت - وقد تأرقت فيهن الضمائر، فهن مؤمنات ويردن الصواب فيما يجوز لهن وما لا يجوز في حكم الدين: ماذا يحل لهن أن يبصرنه وماذا يحرم عليهن، إذا ما دخلن إلى درس التشريح وكان موضوع الدرس جثة عارية لرجل؟ ... فتولى الإجابة عالم فاضل لحظت فيه وهو يجيب أنه ينتقي كلماته في حذر شديد، فكان كمن يمشي على حبل مشدود في الهواء، ينقل القدم بعد القدم مع تفكير وتدبير؛ لأنه أراد - فيما بدا لي - أنه يود لو وقع حديثه على المشاهدين السامعين موقع المجدد في رأيه، كما أراد في الوقت نفسه أن يحسب عند أقرانه محافظا ملتزما نصوص الشريعة وسلوك السلف الصالح، وبين هذين البرزخين أراد أن ينفذ من مضيق ضيق وهو بمأمن من الخطأ والخطر، ولست أدري إن كانت السائلة - طبيبة المستقبل القريب - قد خرجت لنفسها ولزميلاتها بإرشاد واضح مفيد.
لكن الذي أدريه حق الدراية، أنني ضربت كفا على كف، صارخا لنفسي صرخة مكتومة، لأقلق نفسي بصرختي ولا أقلق أحدا سواي، على غرار ما نسمع عنه هذه الأيام من مسدسات كاتمات للصوت، ليقتل من يقتل في صمت لا يزعج الجيران. صرخت لنفسي صرخة كتمتها في كبدي، لأصيح بها قائلا: يا فضيحتنا عند أبنائنا وأحفادنا، حين يحكي لهم الحكاءون في زمانهم، عن قوم عاشوا في الربع الرابع من القرن العشرين، كانت فيه الطبيبة الجراحة تسأل كما يسأل كذلك الطبيب الجراح: هل يحل لها أن تنظر إلى جثة رجل مكشوفة العورة في دروس التشريح أولا، وفي شئون التطبيب ثانيا؟ وهل يحل له أن يتولى معالجة امرأة إذا كان الأمر يقتضي كشفا لمستور؟ ... ولعلي لم أخطئ السمع عندما تفضل العالم الجليل بالجواب، إذا زعمت أنه قد أورد في جوابه تساؤلا يقترح فيه بأن تكون أمثال هذه المعالجات في ظلمة الليل! ... يا فضيحتنا عند أبنائنا وأحفادنا، حين يحكي لهم الحكاءون عن آباء لهم وأجداد، كانوا ذات عهد من تاريخهم أيقاظا بمجدهم ثم ناموا، فلما أرادوا لأنفسهم يقظة بعد نوم، كانت وسيلتهم هي أن يتجرعوا من أكواب التثقيف شرابا ينيم اليقظان!
অজানা পৃষ্ঠা