«الاقتصاد في الاعتقاد» كتاب لأبي حامد الغزالي، كانت له في حياتي قصة: فلقد كان المجال الدقيق الذي تخصصت في دراسته وتدريسه في الجامعة، هو مناهج البحث العلمي، أو إذا شئت فقل «منطق العلوم»، والهدف الأخير من ذلك المبحث هو إيجاد الجواب عن هذا السؤال: كيف نستوثق من أن نتيجة معينة وصل إليها الباحثون في مجال علمي معين هي نتيجة صحيحة؟ ولقد يبدو السؤال في ظاهره هينا ميسور الجواب، إذ قد يتسرع مجيب فيجيب بقوله: إن صحة النتيجة العلمية مرهونة بإمكان تطبيقها، لكنه إذا تريث قليلا وتروى، وجد جوابه هذا ينقصه الشيء الكثير، فأولا: هناك علوم بأسرها، ومنها «الرياضيات» لا تجعل التطبيق معيار صدقها؛ لأنها في حقيقة أمرها، تصورات عقلية مشتقة من تصورات عقلية أخرى، أي أن الفكر الرياضي يبدأ داخل الرأس، وينتهي داخل الرأس، وثانيا: حتى في العلوم الطبيعية التطبيقية ذاتها، قد نصل إلى ما نظنه قانونا صحيحا صحة شاملة ومطلقة، لأننا كلما طبقناه على الواقع وجدناه قد انطبق، لكننا بعد ذلك قد نفاجأ ذات يوم بموقف مما يدخل في مجال ذلك القانون كما حسبناه يستعصي معه التطبيق، وعندئذ نستيقظ لنعلم بأن القانون الذي ظنناه صحيحا في ميدانه صحة شاملة ومطلقة، إنما هو أقل اتساعا من أن يشمل ميدانه كله، فمثلا، كان الظن لفترة طويلة، هو أن قانون الجاذبية كما صاغه نيوتن، صحيح صحة تشمل كل ما في الكون من أجسام، حتى انكشف للناس في أواخر القرن الماضي أن الذرة - التي هي أصغر ما يصل إليه تحليلنا للمادة - إنما هي مجموعة منسقة من كهارب، تتحرك في جوفها، كل منها في فلك خاص به، لكنه قد يقفز من فلكه إلى فلك آخر، وهو في هذه الحركة لا يخضع لقانون الجاذبية كما صاغه نيوتن، ثم أضيف إلى ذلك انتقال الضوء في الأبعاد الفلكية، فها هنا أيضا لا تتم الحركة وفق الجاذبية كما صاغ نيوتن قانونها المعروف، إذن كان الأمر بحاجة إلى إيجاد صيغة جديدة، لقانون الجاذبية تتسع لتشمل مجالها السابق ومجالها اللاحق جميعا، ومعنى ذلك هو أنه على الرغم من صحة التطبيق لقانون نيوتن، إذ هو في مجاله المحدود، فلم يتنبه العلم إلى قصوره إلا بعد أن تكشفت لهم حالات في الواقع الطبيعي لم يكونوا قد حسبوا لها حسابا.
فسؤالنا - إذن - ما زال قائما وهو: متى نكون على يقين بأن نتائجنا العلمية صحيحة؟ ومحاولة الإجابة عن هذا السؤال، هو ما يسمونه في التخصص الفلسفي «علم مناهج البحث» أو «منطق العلوم»، وذلك هو جانب رئيس فيما تخصصت في دراسته وتدريسه والتأليف فيه، وبين التفصيلات الكثيرة التي تساق في محاولات تحديدنا لشروط «المنهج» في أي بحث علمي، تفصيلة نقول فيها إنه إذا حدث لنا أن وقعنا على فرض معين، يمكننا به وحده أن نفسر إحدى الظواهر تفسيرا كاملا من الناحية العلمية، ويصبح من غير الجائز للباحث أن يتبرع بفرض آخر يضيفه إلى الفرض الأول، وكأن الظاهرة المراد تفسيرها، محتاجة في ذلك إلى الفرضين معا، كأن يحدد لنا العلم ميكروبا معينا في تعليله لمرض ما، فنجيء نحن ونضيف إلى ذلك الميكروب فعل الجن ... ويسمى هذا الجانب في علم المناهج، بالاقتصاد في الفروض.
فلما صادفت اسم الكتاب الذي ذكرناه للإمام الغزالي، وهو: «الاقتصاد في الاعتقاد» - ولم أكن قد رأيت الكتاب بعد - تساءلت في حيرة: أيكون موضوع هذا الكتاب متصلا بما نقول عنه في علم مناهج البحث: الاقتصاد في الفروض؟ ولم أكن في تساؤلي ذلك مغاليا ولا شاطحا؛ لأن للغزالي مؤلفات كثيرة، وثيقة الصلة بمناهج التفكير، لكنني - بالطبع - لم أقطع لنفسي بجواب، وكل ما رأيته حتى تلك اللحظة هو بطاقة في مكتبة الجامعة تحمل اسم الكتاب، ولست مختصا من الناحية الأكاديمية الخالصة في «الفلسفة الإسلامية»، نعم، إن الأستاذ في مجال ما من مجالات العلوم، وإن يكن تخصصه منحصرا في دائرة ضيقة من ذلك المجال، إلا أن أجزاء المجال الواحد يتشابك بعضها مع بعض تشابكا يفطر معه الأستاذ أن يجاوز حدود تخصصه الضيقة، ليستطلع ما هو متصل بها من سائر موضوعات المجال الدراسي الذي ينتمي إليه، فأستاذ القانون الدولي في كلية الحقوق - مثلا - لا يجهل جهلا تاما كل شيء عن القانون المدني أو القانون الجنائي، وأستاذ الفيزياء في كلية العلوم، لا يجهل جهلا تاما كل شيء عن الرياضة أو عن الكيمياء، وهكذا، فأستاذ مادة معينة من مواد المجال الفلسفي، لا بد أن يكون على بعض العلم بسائر الجوانب في هذا المجال، وعلى هذا النحو، كانت صلتي بالفلسفة الإسلامية، ومن هنا، كنت أبحث عن شيء خاص فيما كتبه أبو حامد الغزالي، حين صادفتني بطاقة تحمل اسم «الاقتصاد في الاعتقاد» للغزالي، فتساءلت كما تساءلت، وأسرعت إلى من هو مختص في الفلسفة الإسلامية، وسألته: أيكون موضوع كتاب الغزالي «الاقتصاد في الاعتقاد» متصلا بمبدأ الاقتصاد في الفروض، كما نعرفه في مناهج البحث العلمي؟ فلم يتردد دقيقة واحدة في أن يجيب بأن الأمر هو كذلك، ولم يفته أن يفاخر فيقول: إن كل شيء مما قد تظنه جديدا، موجود فيما كتبه الفلاسفة القدماء، وكذلك لم يفتني أن أرد مصححا، لأنبهه بأن فكرة الاقتصاد في الفروض، ليست جديدة، بل ترجع في أصلها إلى رجل من رجال الدين في أوروبا إبان العصور الوسطى، ولكنه كان من أوائل البشائر التي عملت على النهضة العلمية الحديثة، وهو «وليم أوكام».
وعدت مسرعا إلى المكتبة، واستعرت كتاب الغزالي: «الاقتصاد في الاعتقاد»، وما كدت أبدأ قراءته حتى تبينت حقيقة موضوعه، فليس هو بذي صلة كائنة ما كانت بمبدأ «الاقتصاد في الفروض»، ومع ذلك فقد رأيت في مادته موضوعا هو أهم عندي من الاقتصاد في الفروض، إذ وجدته متصلا برفض الفكر المتطرف في مجال الاعتقاد الديني، ولم أترك الكتاب إلا بعد أن ملأت منه وعائي، لا بدقة الدارس وحدها، بل بما دونته منه في مذكراتي، وعن هذه المذكرات أنقل ما يأتي:
الفكرة الرئيسة التي يدور حولها هذا الكتاب، هي وجوب استخدامنا لعقولنا عند فهمنا لنصوص الشرع، وذلك بأن نلتمس بين الطرفين طريقا تصان فيه أحكام الشرع وأحكام العقل معا، فلا يصح - من جهة - أن نجمد النصوص جمودا يجعلنا في تناقض مع منطق العقل، كما لا يصح - من جهة أخرى - أن نذهب مع منطق العقل إلى حد خروجنا على النصوص القاطعة، ولقد ختم الغزالي كتابه بفقرة تلخص موقفه هذا، إذ قال في تلك الفقرة الخاتمة لكتابه: «ولنختم الكتاب بهذا، فقد أظهرنا الاقتصاد في الاعتقاد، وحذفنا الحشو والفضول المستغنى عنه، الخارج عن أمهات العقائد وقواعدها، واقتصرنا من أدلة ما أوردناه، على الجلي الواضح، الذي لا تقصر أكثر الأفهام عن دركه» ... وكان من أهم العبارات دلالة ومن أقواها توضيحا لموقفه، وهي كذلك من أهداها لنا نحن في عصرنا هذا، الذي أخذنا نتخبط فيه بين غلو المتطرفين وإسرافهم في تضييق الخناق على أنفسهم وعلى الناس جميعا، هذه العبارة: «... فالمعرض عن العقل، مكتفيا بنور القرآن، مثاله مثل المتعرض لنور الشمس ، مغمضا للأجفان، فلا فرق بينه وبين العميان، فالعقل مع الشرع نور على نور ...»
وهكذا أخذ الإمام الغزالي في كتابه هذا، يعاود القول مرة بعد مرة، في وجوب التوفيق بين نصوص الشرع، من جهة، وبين مقتضيات العقل، من جهة أخرى، قائلا: إن ذلك التوفيق بين العقل والشرع، هو طريق أهل السنة، مؤكدا: «أن لا معاندة بين الشرع المنقول والحق المعقول، وقد عرف أهل السنة أن من ظن من «الحشوية» وجوب الجمود على التقليد، واتباع الظواهر، ما أتوا به إلا من ضعف العقول وقلة البصائر، وأن من تغلغل من الفلاسفة، وغلاة المعتزلة، في تصرف العقل، حتى صادموا به قواطع الشرع، ما أتوا به إلا من خبث الضمائر، فميل أولئك إلى التفريط، وميل هؤلاء إلى الإفراط، وكلاهما بعيد عن الحزم والاحتياط، بل الواجب المحتوم في قواعد الاعتقاد، ملازمة الاقتصاد، والاعتماد على الصراط المستقيم، فكلا طرفي قصد الأمور ذميم.»
تلك فقرات مما ورد في كتاب «الاقتصاد في الاعتقاد» للإمام أبي حامد الغزالي، الذي شاعت عنه، عبر التاريخ الإسلامي من بعده، صفة «حجة الإسلام»، «فكلا طرفي القصد ذميم» كما قال بحق، وعلينا الآن أن نصب ما استطعناه من ضوء التحليل، على ذينك الطرفين اللذين قال عنهما «حجة الإسلام» إن كليهما ذميم، وإن التوفيق بينهما في وسط تجمعهما معا في نظرة واحدة، هو واجب محتوم، والطرفان هما - ونعيد ذكرهما زيادة في الوضوح - الجمود عند فهمنا لنصوص الشرع جمودا يؤدي بنا إلى تناقض أو إلى تضاد مع أحكام العقل، من ناحية، أو الذهاب مع مقتضيات العقل إلى الحد الذي نصادم فيه قواطع النصوص الشرعية، من ناحية أخرى ... ويبدو لي أنه لن تكتمل لنا الرؤية الواضحة في هذا الصدد، ما لم نقف وقفة نستطرد فيها لنحدد ما يمكن أن تعنيه كلمة «عقل» في هذا السياق.
وفي سبيل تحديدنا لمعنى «العقل» في هذا السياق من حديثنا، لا بد للقارئ أن يستحضر إلى ذهنه نقطتين أساسيتين في هذا الصدد: أولاهما هي أنه لكي يكون هنالك ما يدعو إلى استخدام «العقل » يجب أن تكون بين أيدينا «مشكلة» ما يراد لها حل، سواء أكانت تلك المشكلة عملية، أم كانت مشكلة نظرية، فلا فرق بين أن نحاول إقامة البرهان على نظرية هندسية، وأن نحاول عبور خندق صادفناه في الطريق أثناء السير، ففي كل من هاتين الحالتين، مشكلة يراد حلها، وأقول ذلك لكثرة ما يملأ حياتنا من مواقف نظن فيها أننا على خلاف في الرأي بعضنا مع بعض، فإذا أمعنت النظر، وجدت الموقف لا إشكال فيه يتطلب رأيا، فضلا عن أن تختلف فيه الآراء، وإنما الأمر كله «لغو» بأدق معنى لهذه الكلمة، إذ اللغو هو أن تعيد الشيء نفسه مرة ومرة وثالثة ورابعة، دون أن تضيف إليه جديدا، فما تقوله أنت، هو نفسه الذي يقوله خصمك، وإذن فلا إشكال بينكما، وبالتالي فلا رأي، ولا تفكير، ولا «عقل».
تلك إحدى النقطتين الأساسيتين اللتين أردت للقارئ أن يستحضرهما قبل أن نمضي معا في تحديدنا لمعنى «العقل» في سياق حديثنا هذا، وأما النقطة الثانية، فهي أنه حتى إذا وجدت مشكلة معينة تريد لها حلا، فلا بد - لكي يكون الحل مبنيا على «عقل» - أن تكون هناك حركة ننتقل بها من شواهد معينة، أو من مقدمات محددة، إلى النتائج التي تؤدي إليها تلك الشواهد أو المقدمات، وأقول ذلك؛ لأن هنالك مواقف كثيرة في حياة الإنسان يستشكل فيها أمر، فيجيئه الحل بلمعة من لمعات البصيرة، أو الحدس، أو القلب، أو الوجدان، أو ما شئت فسمها، ففي هذه الحالات يأتي الحل المطلوب مباشرة وبغير وسيط من شواهد أو مقدمات، وهنا لا يكون الموقف مما ندرجه تحت فاعلية «العقل»، ومرة أخرى نقول: إن العقل هو «حركة» يسير بها الإنسان بين طرفين، أحدهما شواهد، والآخر نتائج أو أحكام، لكنها حركة قصيرة بقواعد تضبط سيرها لنضمن بها صحة النتائج أو الأحكام، ولا تنس أن كلمة «عقل» في أصلها اللغوي، معناها «قيد».
أما وقد فرغنا من هاتين النقطتين، فعودة بنا إلى الموضوع الرئيس لحديثنا، الذي هو ضرورة أن نجمع بين «الشرع» و«العقل»، ونريد أن نعرف كيف يكون ذلك، فنقول: إن أهم ما وصل إليه «العقل» البشري، بحركته الاستدلالية التي أشرنا إليها، هو «العلوم». وماذا يكون أي علم إلا مجموعة أحكام، أو قوانين، استدلها الباحثون من الظواهر التي تقع في مجاله؟ فإذا كان هنالك نص شرعي، فيه ما يتصل من بعيد أو من قريب، بموضوع ذلك العلم، فإن «العقل» يقضي بألا يتناقض فهمنا للنص الشرعي مع ما قد قرره جانب العلم، وإلا كان العقل هنا بمثابة من يحكم بالصواب للنقيضين معا وفي آن واحد، وقد لا تكون المقابلة المطروحة بين أيدينا، مقابلة بين نص شرعي في ناحية، وقانون أثبته العلم من ناحية أخرى، بل ربما كانت - وكثيرا جدا ما تكون - مقابلة بين نص شرعي في ناحية ومشكلة اجتماعية أو فردية، في ناحية أخرى، بحيث لا تجد تلك المشكلة حلها العقلي - أي حلها العلمي - متفقا مع ما يدل عليه ظاهر النص الشرعي، فماذا نحن صانعون؟ هنا تجيء فتوى الإمام الغزالي بوجوب «التوفيق» بين الطرفين، غير أنه من حق أي سائل أن يسأل: وكيف يكون هذا التوفيق بين الطرفين، إذا كانا ضدين أو نقيضين؟
অজানা পৃষ্ঠা