وهذه جزيرة أخرى
لم أعد أذكر، أكنت في صدر شبابي قد قرأت «ثورة الملائكة» - وهي رواية لأناتول فرانس - في ترجمة عربية كاملة لها، أم كان الذي قرأته مقالة عنها؟ ولقد كان أناتول فرانس ممن قدمه إلى قراء العربية أعلامنا الكبار، الذين كتبوا عنه وعن أدبه، فتصورناه نحن شباب العشرينيات، عملاقا فارع القامة، وإني لأذكر حتى هذه اللحظة التي أكتب فيها، كيف وقعت في نفسي - ذات يوم منذ ستين عاما - تلك العبارة التي افتتح بها الدكتور محمد حسين هيكل مقالة له عن أناتول فرانس، إذ بدأ مقالته بقوله: «مات أناتول فرانس؛ لأنه أراد أن يموت!» (وكان موته سنة 1924 فيما أذكر)، إنني عندئذ لم أقل لنفسي كيف استحل الكاتب أن يجعل موت الرجل رهن إرادته! لا، بل إن خاطرا كهذا لا أظنه قد طاف برأسي عندئذ، وإنما كان الذي وقع لي هو أن حلق خيالي إلى ما يمكن لإنسان عظيم كأناتول فرانس أن يرتفع إليه، وأحسب أنني استطعت ساعتها أن أجاوز في غير تكلف ولا عناء، أن أجاوز حرفية المعنى، إلى اللباب الذي أراده الكاتب بعبارته، والذي من شأنه أن يشعل الخيال ويحفز الهمة إلى طموح وثاب.
كلا، لم أعد أذكر: أقرأت في تلك الأيام البعيدة «ثورة الملائكة» لأناتول فرانس، في ترجمة عربية كاملة أعتقد أني اطلعت عليها ذات يوم، أم كان الذي قرأته مقالة عنه وعنها؟ لكن الذي رسخ في الذاكرة مما قرأته - كاملا أو موجزا - هو بعض المعاني التي ختمت بها الرواية، فأذكر أن الملائكة عادوا آخر الأمر فترفعوا عن الدخول مع الشيطان في حرب كانوا أزمعوها أول الأمر، قائلين ما معناه: إن الحرب لا يتولد عنها إلا حرب أخرى، وإن النصر في ناحية يستتبع هزيمة في ناحية أخرى، وإذا هزم الملائكة، أصبحوا في أعين الناس هم الشياطين، وإذا انتصر الشياطين، أصبحوا في أعين الناس هم الملائكة، وأولى من الدخول في حرب، أن نحصن نفوسنا فلا جهالة نبقى عليها، ولا خوف، ومن محا في نفسه كل ما يغشاها من خوف وجهالة ، رأى وكأن الشياطين قد ذوت وانقضت من تلقاء نفسها، فليس في مستطاع شيطان أن يقهر أحدا ظفر في دخيلة نفسه بقوة الروح.
استيقظت في ذاكرتي هذه الذكرى، لكنني حين تذكرت ما تذكرته من حديث الملائكة في حربهم مع الشيطان، وجدتني أقرأ ذلك الحديث قراءة جديدة، فليس بنا حاجة تدعونا إلى أن ننصت لما يقوله الملائكة في ثورتهم على الشياطين، كما تخيلها أناتول فرانس، عن حقيقة واقعة نراها بأعيننا، ونلمسها بأيدينا، كل يوم في حياة الناس الجارية، ويهمنا في هذا المجال، أن نركز انتباهنا على عنصري «الجهالة» و«الخوف»، فما من هزيمة لحقت بنا أفرادا أو جماعات، إلا كانت علتها جهالة، أو خوفا، أو كليهما معا، وما من نصر ظفرنا به أفرادا أو جماعات، إلا وكانت السبيل إليه قدرا من معرفة تعلمناها، وقدرا من ثقة بالنفس، يتناسب مع مقدار النصر الذي ظفر به من ظفر، فردا كان أو جماعة، وإننا نعوذ بالله من الشيطان الرجيم ألف ألف مرة كل يوم، كلما تلونا شيئا من الكتاب الكريم، فإنما نعوذ به من ضلالة تصرفنا عن العلم بما ورد في الكتاب، والضلالة جهالة، وإذ نعبد رب البيت الحرام، فإنما نعبده لما أنعم به علينا، ومن تلك النعمة أن أمننا من خوف، لكننا إذ نردد بالألسنة والشفاه ما نردده في هذا السبيل، لا نحرص على أن تتسلل هذه المعاني إلى نفوسنا، فنظل على جهالة ونظل في خوف.
هذان - إذن - مفتاحان تفتح بهما الأبواب المغلقة في أوجه من أرادوا أن يغيروا ما هم فيه من هزيمة إلى نصر، من هبوط إلى ارتقاء، من ركود إلى صحوة، من خيبة رجاء إلى أمل يتحقق، والمفتاحان هما: العلم والثقة بالنفس، فلا جهالة ما استطعنا إلى نور العلم سبيلا، ولا خوف ما وسعتنا الحيلة إلى طمأنينة نفس عرفت طريقها ... وماذا أقول؟ أأعيد على نفسي قصصا طويلة عريضة، وقعت أحداثها في خبرة حياتي، من أفراد صادفتهم على الطريق أو صادفوني لم يكن بيني وبين أي منهم صلة إلا أنني أبذل الجهد وهو لا يبذله، فيجعل مشغلته أن يضع العوائق في طريقي؛ خشية أن أصادف نجاحا يريده لنفسه، وعبثا أقيم الدليل فوق الدليل، على أنني دءوب على تحصيل العلم رغبة فيه، جاءني منه النجاح أو أفلت، وأحمد الله أن هداني إلى لذة المعرفة فلم أكترث بعوائق الشياطين، ومضيت على حكمة الملائكة فيما كتبه أناتول فرانس، وهو أن الشيطان ليس جديرا بحرب معلنة، فهو يقتل نفسه بنفسه، إذا أنت محوت من نفسك شيئين: الجهالة والخوف.
هذان مفتاحان تنفتح بهما أبواب، وتنغلق أبواب، فأما الأبواب التي تنفتح فهي المؤدية إلى نور المعرفة وإلى طمأنينة النفس الواثقة بذاتها، وأما الأبواب التي تنغلق فهي أبواب الظلام، ظلام الجهل، والخوف الذي ترتعد به قلوب الجبناء، حتى من الأشباح، ولو كنت ذا قدرة لأرسلت لقلمي عنانه حتى يكتب كتابا كاملا عن أوضاع الحياة بشتى صورها وتفصيلاتها، كيف تصبح إذا عاشت أمة بكل أفرادها، حياة تلقي بزمامها إلى «العلم»، وتعمر قلوبها «بالإيمان» الذي من شأنه أن يقتلع الخوف من جذور جذوره، وماذا يخشى المؤمن الحق إلا أن يخشى ربه؟ أيخشى كبيرا وهو يعلم أن الله أكبر؟ أقول: إنني لو كنت ذا قدرة لأنشأت بخيالي «جزيرة» مثلى، كتلك الجزر الخيالية التي أنشأها ذوو القدرة من الفلاسفة والمفكرين، وأذكر - بهذه المناسبة - أني بينت في مناسبة سابقة، كيف أن الخيال «الطوباوي» قد تدرج بأصحابه على امتداد التاريخ الفكري، بادئا أول الأمر بأن جعل «المدينة» هي ما يصلح لإقامة الحياة المثلى، ثم تدرج من ذلك فجعل «الجزيرة» هي أصلح مكان لإقامة حياة مثلى، ثم توسع آخر الأمر بأن وجد أن الحياة المثلى لا يصلح لها إلا أن تعم الكوكب الأرضي بأكمله، ولو كنت ذا قدرة لاخترت أن أقف مع أصحاب الجزر بجزيرتي؛ وذلك لأني أحس بأن الحياة على جزيرة نائية في أطراف المحيط، توحي بسكينة وهدوء، أما «المدينة» في ناحية و«كوكب الأرض» بأسره في ناحية أخرى، فيوحيان بالتلوث والضجيج، ذلك فضلا عن أن المدينة الواحدة أقل من أن تتسع لحياة كاملة، وكوكب الأرض أوسع من أن يكون وحدة اجتماعية واحدة، وفي هذه المناسبة نذكر أن الملك فيليب المقدوني كان قد عهد بتربية ابنه إسكندر (الذي صار فيما بعد «الإسكندر الأكبر») إلى الفيلسوف اليوناني العظيم أرسطو، أخذ المعلم في درس من دروسه يشرح للغلام التلميذ، كيف أن الوحدة السياسية لا ينبغي لها أن تزيد على مدينة واحدة في حجم أثينا، فاستمع إليه الغلام وهو يبتسم؛ لأنه كان قد عقد النية منذ حداثته، أنه إذا ما تولى الملك بعد أبيه فسوف يزحف بجيشه حتى يكتسح المنطقة كلها، والتي كانت هي العالم المعروف عندئذ: من مصر ثم شرقا إلى الهند، ذلك من ناحية المدينة الواحدة، وهل تكفي لقيام المجتمع الأمثل أو لا تكفي، وأما أن كوكب الأرض في مجموعه، وهل يصلح أن يكون وحدة سياسية واحدة أو لا يصلح، فلا أظن أن العالم قد نضج النضج الذي يقوى به على هذه السعة كلها، وإذا لم تصدقني فاسأل هيئة الأمم المتحدة.
كان أهم من اختار أن تكون «المدينة» الواحدة مكانا للمجتمع الكامل، أفلاطون في محاورة «الجمهورية»، والفيلسوف الإسلامي «الفارابي» في كتابه «آراء أهل المدينة الفاضلة»، وكان الأساس الأول الذي يجب أن تقوم عليه المدينة المثلى، هو «العدالة» عند أفلاطون، والعدالة هي هنا بمعنى أن يوضع كل مواطن في الموقع الذي يتفق مع قدراته وملكاته، وهو معنى يشمل عنده أن تسود حياة الناس ثلاث صفات، كل صفة منها تخص فئة من الفئات الثلاث التي إليها ينقسم أهل المدينة: صفة الحكمة للفئة الحاكمة، وصفة الشجاعة لفئة المدافعين عن أرض الوطن، وصفة العفة للفئة العاملة في مختلف ميادين العمل، وأما فيلسوفنا الفارابي، فيبدو أنه قد قصد بمدينته المثلى أن تضيف إلى الأبعاد الأفلاطونية الثلاثة بعدا رابعا، هو أن تكون الرئاسة والريادة في يدي «إمام» معصوم؛ وذلك بناء على نظرية الإمامة كما عرفها شيعة الإمام «علي» كرم الله وجهه.
وأما «فكرة الجزيرة» التي أرادت أن تكون الوحدة السياسية المثلى جزيرة، فأهم اثنين من أنصارها هما «تومس مور» في كتابه «يوتوبيا »، و«فرنسيس بيكون»، في كتابه «أطلنطس الجديدة»، وإذا أردنا معرفة الأساس الأول الذي تقام عليه الحياة المثلى في جزيرة تومس مور، فربما كان الصواب هو أن المساواة بين المواطنين هي ذلك الأساس، في حين كان الأساس عند «بيكون» في جزيرته هو العلم، ولقد وفق ذلك الرجل توفيقا شديدا في كتابه ذاك الصغير، أن يرسم الخطوط الأولية في بناء المجتمع والدولة، إذا أردنا لهما حياة علمية إلى أبعد آماد مستطاعة، وحسبنا أن نشير بجملة واحدة إلى الهدف البعيد كما رآه صاحب «أطلنطس الجديدة»، إذ هو أن تتحول الدولة من السيطرة على مواطنيها إلى السيطرة على الطبيعة، وأن تتحول الوزارات والإدارات، من حصر اهتماماتها بالسياسة وتنفيذها، إلى العلوم وبحوثها فتكون وزارات الدولة هي: وزارة الفيزياء ووزارة الكيمياء ... وهكذا إلى سائر العلوم ... وأما فكرة أن تكون الدولة المثلى هي تلك التي تقام على كوكب الأرض بأكمله، فلست أجد أحدا قالها إلا «ه. ج. ولز» في كتابه «يوتوبيا حديثة».
وقد أسلفت القول بأنني إذا كنت ذا قدرة، لاخترت أن أكون من أصحاب الجزر، واخترت لجزيرتي أن يقام مجتمعها على أساس الصفتين اللتين أجراهما أناتول فرانس على ألسنة الملائكة في روايته «ثورة الملائكة»، والصفتان هما: التخلص من الجهالة، والتخلص من الخوف، أو قل - من الجانب الإيجابي - إنهما العلم والثقة بالنفس.
لست أدري على وجه الدقة، ولا أظن أن أحدا يدري، كيف تتجمع اللحظات الهامة في حياة الطفل منذ أول وعيه، كيف تتجمع تلك اللحظات بما تركته من آثار، لتصبح «موقفا» يغلب أن يكون بعد ذلك هو الموقف الذي يتخذه ذلك الطفل، وقد أصبح شابا فرجلا مكتمل النضج؟ إنه لا بد أن يكون الأمر في هذا شبيها بالروافد الصغيرة الكثيرة عند منابع النهر، تلك الروافد التي تأخذ على امتداد الطريق في أوائله، في التجمع اثنين اثنين، فثلاثة ثلاثة، وهكذا، حتى تنتهي آخر الأمر إلى أن تصبح نهرا موحد المجرى، وإن تلك اللحظات المتفرقة في حياة الطفل، والتي تشبه روافد النهر في أوائل طريقها، لتظهر أوضح ما تظهر في أحلام يقظته حتى بعد أن يكبر، ولو استطاع أحدنا - إذا شاء ذلك - أن يتعقب أحلام يقظته لأمكنه بعد ذلك، أو على ضوء ذلك أن يعرف كثيرا جدا عن العوامل المتفرقة في اللحظات المتباعدة أو المتقاربة على طريق حياته، التي تجمعت فأصبحت خطوطا رئيسة في بناء شخصيته، ولأمكنه - بالتالي - أن يعرف لماذا يختار في ثيابه لونا دون لون، ولماذا يختار في مذاهب الرأي مذهبا دون مذهب، ولماذا يميل في أذواق الفن إلى اتجاه أكثر مما يتجه إلى سواه، وأما الشيء الوحيد الذي يظل صامدا كصخرة الجرانيت، لا تتأثر بتلك العوامل ولا تميل مع الهوى، فهو ما يدركه العقل مؤسسا على دليل كاف أو برهان حاسم، فإذا كنت اخترت لجزيرتي الوهمية أن يقوم مجتمعها على أساسين، هما العلم والثقة بالنفس، فلا بد أن يكون هذا الميل راجعا إلى شيء بعيد من تلك العوامل، التي تتألف معا في تشكيل الرؤية عند الإنسان.
অজানা পৃষ্ঠা