اقرأ
وكونه أول ما نزل به الوحي.
وأبدأ بالأرق، وللأرق علاقة وثيقة وحميمة بالحياة، فالذي يتأرق هو الكائن الحي على وجه العموم، والإنسان على وجه الخصوص، فالمادة الموات لا تتأرق لشيء، الحجر لا يؤرقه أن تسفعه الريح العاتية سفعا، ولا أن ماء المطر يغرقه، ولا إذا شاءت له حرارة الشمس أن يلتهب وتتفتت أجزاؤه، فليس له في طبيعته إلا أن يتلقى ما يتلقاه، إنه ينفعل ولا يفعل ... ولا كذلك الكائن الحي على إطلاقه، فماذا تقول في الإنسان؟ ولقد كنت وقعت ذات يوم على تعريف للحياة - أغلب ظني أنني صادفته مرتين، إحداهما عند هربرت سبنسر، والثانية عند برتراند راسل - وخلاصة ذلك التعريف، هو أن الحياة إن هي إلا تعاقب مستمر بين حالتي التوتر والارتخاء في الكائن الحي، وذلك أن الكيان الحي ذو حاجات عضوية، من غذاء وماء وغيرهما، فإذا أحس ذلك الكيان الحي بالحاجة إلى غذاء توترت أجهزته العضوية، حتى إذا ما سرى فيه الغذاء المطلوب، استراح واسترخى، وهكذا دواليك طالما كان الكائن حيا، فإذا وجهنا أنظارنا إلى الإنسان، وجدنا تلك المراوحة لا تقتصر على الحاجات العضوية وحدها، بل يضاف إليها في هذا السبيل حاجات عقلية وحاجات وجدانية، أشد إلحاحا عليه وأقسى، فانظر كم تتأزم نفس الإنسان إذا افتقد «الحرية» فلم يجدها، وإذا طلب «العلم» فسدت أمامه الطرق، وفي كل حالة من حالات تأزمه لنقص فينا يشبع حاجاته العقلية والوجدانية، يتوتر كيانه كله، فلا يستريح إلا إذا أشبعت له حاجته الظامئة - وذلك هو الأرق الذي تتصف به كل حياة، وتتصف به حياة الإنسان بصفة أخص، وأدق، وأسمى.
ولم يعد الآن موضع لغرابة، إذا تناولنا اللفظ الثاني الذي استخرجناه من مادة «قرأ»، وهو كلمة «أقر»، فقد رأينا في الأرق أنه اضطراب يعقبه استقرار عندما تشبع الحاجة، وهكذا تكون كلمة «أقر» في معناه جزءا من «أرق» ومعناها.
فإذا عدنا إلى «قرأ»، رأينا في معناها ذلك العمق الذي ظهر من النظر إلى شقيقتيها السالفتين، ففي فطرة الإنسان التي خلق عليها، حاجة حيوية لأن «يعرف» ما استطاع معرفته عما حوله، وعما في نفسه، فتلك المعرفة عند الإنسان، ليست للزينة، أو للمفاخرة، بل هي لحياته ضرورة كضرورة الهواء يتنفسه، والماء يشربه والطعام يأكله، فما لم «يعرف» الإنسان ما لا بد من معرفته عن المكان الذي يسكنه وعن الزمان الذي يحيا فيه، لما استطاع العيش يوما واحدا، انظر إلى أهل الكهف حين استيقظوا، وسعوا في المدينة وهم لا يعلمون أن الزمان قد تغير عما ألفوا، فتعذر عليهم التفاهم والتعامل، وإنه لمصير محتوم على كل إنسان يبتر الروابط عن ظروف مكانه وظروف زمانه، سواء أجاء هذا البتر بإرادته أم جاء مفروضا عليه، فشرط الحياة للإنسان، حتى وهي في أبسط درجاتها، هو أن «يعرف» ذلك الإنسان في أي مكان هو، وبأي زمان يستظل، ثم تتدرج معرفة الإنسان لمكانه وزمانه، تدرجا يتفاوت فيه الصعود بتفاوت الأفراد، على أن صلاحية المعرفة المكسوبة - وأعني صلاحيتها كما وكيفا - مسألة لا تقاس بما يعرفه كل فرد على حدة، وإنما تقاس بما تعرفه مجموعة الأفراد معا في شعب معين، إذ المطلوب ليس هو أن يعرف كل مواطن كل شيء، بل المطلوب هو أن يكون حاصل جمع ما يعرفه أبناء الشعب المعين، فيه ما يكفي لحياته كما يريد لنفسه أن يحيا ...
هي فطرة الإنسان، التي لا تكلف فيها ولا تصنع، هي فطرته أن يكون على «معرفة» ما استطاع إلى ذلك سبيلا ... فإذا لم يشبع من فطرته تلك حاجتها من المعرفة «تأرقت» نفسه لذلك النقص الذي يحد من إنسانيته، بل يحد من قدرته على الحياة، وأما إذا أشبع تلك الحاجة «أقر» بذلك نوازع نفسه، ولكن ما وسيلته إلى تلك المعرفة التي هي من حياته بمثابة القلب والصميم؟ وسيلته إليها هي أن «يقرأ»، ومن هنا كان أول الوحي هو:
اقرأ .
القراءة أمر إلهي للإنسان، بل هي من الأوامر الإلهية أولها نزولا، فهل نخطئ إذا قلنا عن القراءة إنها عبادة؟ ولكن ما كل قراءة هي من ذلك القبيل الأسمى، بل إن من القراءة ما يضل ويفسد، إذن، فماذا تكون؟ وكيف تكون؟ إن الإجابة تتبدى في صيغة الأمر الإلهي نفسه:
اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم
و
অজানা পৃষ্ঠা