إخالك فهمت من حديثي من هم «المنقطعون»، إنهم أولئك الذين ليس لهم عقب يصلي لأجلهم ويقدس، أظنني أفهمتك، ولكن بعد ما فلقتك، فقل: صبر جميل، واسمع أيضا.
ولما كبرنا أخذنا نتشاغل عن الصلاة، وأمسى والدنا يصلي ووالدتنا، ولما صار أرمل مثلي - ومن يشابه أبه فما ظلم إلا في الصلاة - أخذ يصلي وحده، وظل على ذلك حتى آخر ساعة.
ففي ليلة من ليالي صيف سنة 1930 سهر معنا كعادته، وأطربنا بنكاته البريئة، وأخباره الطريفة، وقبل أن يتدهور الليل قال: يا الله، علينا صلاة، فشق علينا ذهابه؛ لأنه برغم الخمسة والسبعين كان فتي الروح، فركع على تخته قبالتنا، في بيتنا المناوح بيتي، وشرع في صلاته ينبر نبرا، ويرسل الجمل متقطعة كأنه الحجاج يخطب في الكوفة، وظل يفعل هذا أكثر من ساعة، وضيفي الأستاذ جبرايل كان يسمع ويطرب؛ لأنه مصل كوالدي.
وأخيرا صلى الوالد صلاة «المنقطعين»، وتمدد في فراشه وهو يقول: «حطيت راسي عافراشي، سبع صلبان فوق راسي ... مار مخايل يا ملاك، تعينني وقت الهلاك ... إلخ»، ثم تلحف، وهو يقول: يا رضا الوالدين، يا رضا الرب.
فقلت لجبرايل: انتهت المعركة بسلام، وتصالح الوالد مع الله، ونال رضاه ورضاهما، وسينام على سكين ظهره حتى الصبح.
ولما أصبحنا جاء والدنا يسأل جبرايل عن نومته، وكيف وجد مناخ عين كفاع، أهو مثل مناخ «مار ماما» أم أحسن؟ فأحسن جبرايل الرد، ولم يزد على الواقع، أما أنا فقلت: النومة هنيئة، لا برغش، ولا بق، ولا ناموس، فقال: لا تقل ولا ناموس ... فضحكت لاستدراكه، وأعجب به صديقي الأستاذ .
ثم عدت وقلت: ولكن صلاتك كانت عياطا، كأنك تقاتل ربك، طولتها يا شيخ بومارون! فأجاب بغلظة: اسكت يا معتوه، أصلي عني وعنك، وتقول طولتها؟! يا ويلك متى مات بو مارون.
أجل، لقد بعد العهد بيننا وبين تلك الصلوات، ولكنني فطنت في هذه الأيام إلى أن الصلاة «للمنقطعين» نفعتني جدا، إن لم يكن في الدين ففي الأدب، وكم للدين عند العلم والأدب من يد. إني ميال جدا إلى «منقطعي» الأدب، وكثيرا ما أفكر بهم، ولهذا دعوت الأمة العربية منذ خمسة عشر عاما إلى الاحتفال بذكرى الخمسين لأحمد فارس الشدياق أعظم نوابغنا في القرن التاسع عشر، ولكن كلامي ذهب كصرخة في واد.
وها أنا ذا أعود اليوم إلى هؤلاء «المنقطعين» جميعا، وإذا ذكرت معهم من لم يحرموا من يذكر الناس بهم، ويطري آثارهم، فلأن سياق الكتاب يقضي بذلك، ثم لأنهم جاهدوا جهادا حسنا في بناء النهضة التي نفاخر بها، وإذا طالت المدة ولم تقتلنا شدة، فسوف نكتب كتاب «رجال النهضة» أحياء وأمواتا.
والآن ألتمس منك أيها القارئ أن تقرأ جيدا، أو أن لا تقرأ، اترك كتابي في ذقني إذا رأيتني أقول فيه ما لا توافقني أنت عليه، فالناس تناضل اليوم لأجل حرية القول، وها أنا أهبك حرية القراءة، فهب لي من لدنك ما التمست منك.
অজানা পৃষ্ঠা