تمهيد
الباب الأول: المقدمة
1 - تقهقر رومة الداخلي وأزمة القرن الثالث
2 - ظهور النصرانية وانتشارها
3 - الدولة الساسانية
الباب الثاني: أصل الدولة ومنشأها
4 - قسطنطين الكبير والقسطنطينية
5 - قسطنديوس الثاني ويوليانوس الجاحد
6 - ثيودوسيوس الكبير
7 - ظهور الرهبانية وانتشارها
الباب الثالث: المحنة الأولى: تدفق البرابرة وتفرق النصارى
8 - أركاديوس الأول وثيودوسيوس الثاني
الباب الرابع: تطور النظم وتمشرق الفكر والفن والدولة
9 - أباطرة النصف الثاني من القرن الخامس
10 - تمشرق الفكر والفن والدولة
الباب الخامس: كرامة ومجد وعظمة
11 - يوستينوس ويوستنيانوس
12 - خلفاء يوستنيانوس
13 - الفكر والفن في القرن السادس
الباب السادس: تطور وتغيير في عناصر الشعب، وفي حدود الملك وأنظمته
14 - هرقل والفرس والصقالبة والآفار
15 - هرقل والعرب
16 - خلفاء هرقل
17 - تطور وتغيير
18 - الآداب والعلوم والفن في القرن السابع
الباب السابع: انتعاش وتوطيد واستقرار
19 - الأسرة الإسورية أو السورية
20 - خلفاء الإسوريين والأسرة العمورية
21 - العلم والأدب والفن في القرنين الثامن والتاسع
الباب الثامن: الأسرة المقدونية والظفر والعظمة والمجد
22 - توطيد الملك: باسيليوس الأول ولاوون السادس
23 - النهوض بالدولة: قسطنطين السابع ورومانوس ليكابينوس
24 - هجوم عظيم، ونصر مبين
25 - التوقف عن التوسع وانتهاء الأسرة المقدونية
26 - أسس الدولة ونظمها في القرنين العاشر والحادي عشر
27 - الآداب والفنون في عهد الأسرة المقدونية
الباب التاسع: تأخر الدولة وانحطاطها
28 - الفوضى والفتن الداخلية
29 - أليكسيوس الأول كومنينوس
30 - خلفاء أليكسيوس كومنينوس
الباب العاشر: تفكك وانهيار
31 - أسرة أنجيلوس
32 - إمبراطورية نيقية
الباب الحادي عشر: اليقظة الأخيرة وإخفاقها
33 - دولة صغيرة إرثها كبير وظرفها خطير
34 - أندرونيكوس الثالث ويوحنا السادس
35 - الأتراك العثمانيون في أوروبة
الباب الثاني عشر: النهاية
36 - الروم وبايزيد ومحمد
37 - علوم الروم وثقافتهم في دورهم الأخير
38 - يوحنا الثامن وقسطنطين الحادي عشر
ملحق
تمهيد
الباب الأول: المقدمة
1 - تقهقر رومة الداخلي وأزمة القرن الثالث
2 - ظهور النصرانية وانتشارها
3 - الدولة الساسانية
الباب الثاني: أصل الدولة ومنشأها
4 - قسطنطين الكبير والقسطنطينية
5 - قسطنديوس الثاني ويوليانوس الجاحد
6 - ثيودوسيوس الكبير
7 - ظهور الرهبانية وانتشارها
الباب الثالث: المحنة الأولى: تدفق البرابرة وتفرق النصارى
8 - أركاديوس الأول وثيودوسيوس الثاني
الباب الرابع: تطور النظم وتمشرق الفكر والفن والدولة
9 - أباطرة النصف الثاني من القرن الخامس
10 - تمشرق الفكر والفن والدولة
الباب الخامس: كرامة ومجد وعظمة
11 - يوستينوس ويوستنيانوس
12 - خلفاء يوستنيانوس
13 - الفكر والفن في القرن السادس
الباب السادس: تطور وتغيير في عناصر الشعب، وفي حدود الملك وأنظمته
14 - هرقل والفرس والصقالبة والآفار
15 - هرقل والعرب
16 - خلفاء هرقل
17 - تطور وتغيير
18 - الآداب والعلوم والفن في القرن السابع
الباب السابع: انتعاش وتوطيد واستقرار
19 - الأسرة الإسورية أو السورية
20 - خلفاء الإسوريين والأسرة العمورية
21 - العلم والأدب والفن في القرنين الثامن والتاسع
الباب الثامن: الأسرة المقدونية والظفر والعظمة والمجد
22 - توطيد الملك: باسيليوس الأول ولاوون السادس
23 - النهوض بالدولة: قسطنطين السابع ورومانوس ليكابينوس
24 - هجوم عظيم، ونصر مبين
25 - التوقف عن التوسع وانتهاء الأسرة المقدونية
26 - أسس الدولة ونظمها في القرنين العاشر والحادي عشر
27 - الآداب والفنون في عهد الأسرة المقدونية
الباب التاسع: تأخر الدولة وانحطاطها
28 - الفوضى والفتن الداخلية
29 - أليكسيوس الأول كومنينوس
30 - خلفاء أليكسيوس كومنينوس
الباب العاشر: تفكك وانهيار
31 - أسرة أنجيلوس
32 - إمبراطورية نيقية
الباب الحادي عشر: اليقظة الأخيرة وإخفاقها
33 - دولة صغيرة إرثها كبير وظرفها خطير
34 - أندرونيكوس الثالث ويوحنا السادس
35 - الأتراك العثمانيون في أوروبة
الباب الثاني عشر: النهاية
36 - الروم وبايزيد ومحمد
37 - علوم الروم وثقافتهم في دورهم الأخير
38 - يوحنا الثامن وقسطنطين الحادي عشر
ملحق
الروم
الروم
في سياستهم، وحضارتهم، ودينهم، وثقافتهم، وصلاتهم بالعرب
تأليف
أسد رستم
تمهيد
الروم عند العرب قبل الإسلام وبعده هم الرومان وخلفاؤهم البيزنطيون، والبيزنطيون عند أنفسهم روم؛ أي رومان، وعاصمتهم «رومة الجديدة»؛ أي القسطنطينية، ولا يزال الروم الأرثوذكس يدعون القسطنطينية مركز البطريرك المسكوني «رومة الجديدة» حتى يومنا هذا.
واللفظ روم في نقوش الصفا اسم بلاد واسم شعب، فقد جاء في أحد نقوش الصفا أن: «عثمن بن طمثن بن عضضة نفر من «روم».» وجاء في نقش آخر أن «محور بن غطفن بن أذنة صير بفنجة سنة حرب الجدي «آل روم» ببصره.»
1
وجاء في القرآن الكريم في سورة الروم:
غلبت الروم * في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون .
وأنفع التواريخ تاريخ الفكر، وألمع فصل في تاريخ الفكر البشري تاريخ الفكر عند اليونان الأقدمين، وأفضل فضائل هؤلاء عنايتهم بالإنسان وسعيهم لإسعاده سعادة حقيقية، وأكبر خدمة قدمها الرومان أنهم تبنوا ثقافة اليونان وقالوا بها، وفضل الروم على البشرية أنهم حملوا هذه الثقافة وحموها في عصر الظلمات فحفظوها لنا في نصوصها الأصلية وأضافوا إليها. ولا سبيل لفهم تاريخ العرب فهما كاملا إلا بالاطلاع على تاريخ الروم، فما جرى في سوريا والعراق ومصر في السياسة والحرب والحضارة والثقافة تأثر كثيرا بما كان يجري في القسطنطينية وغيرها من أمهات مدن الروم.
والمراجع الأولية لتاريخ الروم متنوعة: منها التواريخ التي صنفت في الأزمنة المعاصرة لوقوع الحوادث، أو بعدها بقليل، ومنها الرسائل الدبلوماسية التي تبودلت في تلك العصور بين الروم وغيرهم من الشعوب والدول، ومنها القوانين التي اشترعت والنقوش الكتابية التي نصبت والنقود التي سكت. ومنها كذلك ما صنف خصوصا للبحث في أخبار الكنيسة.
وما تبقى من التواريخ محفوظ في مجموعة نيبور - إذا جاز هذا التعبير - التي نشرت في تسعة وأربعين مجلدا في بون ما بين السنة 1828 والسنة 1878،
2
ونصوص هذه التواريخ نفسها محفوظة أيضا في مجموعة مين في مائة وواحد وستين مجلدا، وقد نشرت هذه المجموعة في باريز ما بين السنة 1857 والسنة 1866،
3
ولا يستغني الباحث عن الرجوع إلى مجموعة توبنر للوقوف على بعض هذه النصوص التاريخية نفسها؛ لأنها جاءت في هذه المجموعة أدق وأضبط،
4
وقد يضطر الباحث إلى مراجعة مجموعتي دندورف
5
ومولر
6
أو إلى نصوص بيوري،
7
وقد لا يستغني عن الاستعانة بسير القديسين فيعود عندئذ إلى مجموعة الآباء البولنديين التي بدأت تظهر منذ السنة 1643.
8
وما تبقى من الرسائل الديبلوماسية التي تبودلت بين حكومة القسطنطينية والحكومات المعاصرة محفوظ في مجموعة ميكلوسيخ ومولر،
9
ومجموعة تافل وتوماس،
10
وقد جاءت المجموعة الأولى في مجلدات ستة، نشرت في فيينة بين السنة 1860 و1890، وجاءت المجموعة الثانية في ثلاثة مجلدات نشرت في فيينة أيضا في السنة 1856-1857، وجمع جافي رسائل الباباوات فنشرها في برلين في مجلدين ما بين السنة 1885 والسنة 1888،
11
وتعاون أساتذة فيينة ومونيخ في ضبط هذه الرسائل وإعادة نشرها، فظهر في السنوات 1924-1932 مصنف دولغر في ثلاثة مجلدات،
12
وظهر في السنة 1932 الكراس الأول من مجموعة الأب غرومل لبيانات ورسائل البطريركية المسكونية،
13
وأفضل ما يرجع إليه في التشريع والقوانين مجموعة مومسن وكروغر وشول في شرائع يوستنيانوس - وقد طبعت في برلين في مجلدات ثلاثة ما بين السنة 1872 والسنة 1895
14 - ومجموعة زخريا لنغنتال في شرائع الأباطرة المتأخرين، وقد ظهرت هذه المجموعة في سبعة مجلدات في ليبزيغ ما بين السنة 1856 والسنة 1884.
15
ولا بد للباحث في تاريخ الكنيسة من الرجوع دائما إلى مجموعة منسي في المجامع، وقد نشرت هذه المجموعة لأول مرة في فلورنزة والبندقية في واحد وثلاثين مجلدا في النصف الثاني من القرن الثامن عشر (1759-1798)، ثم أعيد طبعها ما بين السنة 1901 والسنة 1927، فظهرت في ثلاثة وخمسين مجلدا،
16
هذا ولا يخفى أن مجموعة الآباء اليونان
Graeca
المشار إليها آنفا تتضمن نصوص أشهر مؤلفات الآباء.
وليس لدينا في نقوش الروم مجموعة كاملة، وأفضل ما يرجع إليه مصنف ميله في نقوش جبل أثوس
17
وكتاب ليففر في نقوش مصر المسيحية
18
ومجموعة غريغوار في نقوش آسية الصغرى المسيحية.
19
وأقدم المصنفات العصرية في النقود البيزنطية كتاب سباتييه الإفرنسي
20
الذي ظهر في باريز في مجلدين في السنة 1862، وأحدثها عهدا وأكملها كتاب روث
21
في مجموعة النقود البيزنطية في المتحف البريطاني، وقد ظهر هذا أيضا في مجلدين ولكن في السنة 1908، وليس لدينا في الأختام البيزنطية سوى مؤلف شلومبرجه.
22
والمؤلفات الحديثة التي تبحث في تاريخ الروم كثيرة متنوعة، تعد بالمئات، والمقالات التي دبجت في نواح معينة من تاريخ الروم وحضارتهم ونظمهم كثيرة أيضا، وأولاها بعناية الباحث مؤلف كارل كرومباخر الألماني في تاريخ آداب الروم؛ فإنه على الرغم من قدم عهد هذا المصنف لا يزال مفيدا جدا في كمية معلوماته ودقتها،
23
ولا يزال تاريخ سقوط الإمبراطورية الرومانية لإدوارد غيبون مفيدا موقظا؛ لأنه تاريخ كبير لمؤرخ عظيم،
24
ولنا في كتاب تاريخ الروم حتى نهاية القرن العاشر الذي صنفه المؤرخ الفرنسي غوستاف شلومبرجه قصة مفصلة جذابة، ظهرت في مجلدات ثلاثة في باريز ما بين السنة 1896 والسنة 1905،
25
وللأستاذ بيوري الإنكليزي مصنفان لائقان بالاهتمام أولهما في تاريخ الروم ما بين السنتين 802 و867، وهو أفضل ما صنف في تاريخ هذه الحقبة، والثاني في تاريخ الروم ما بين السنة 395 والسنة 565، وقد ظهر في لندن في مجلدين في السنة 1923، وهو مصنف عادي،
26
على أن أفضل المصنفات في تاريخ الروم العام أربعة: أولها العالم الشرقي ثم أوروبة الشرقية للعلماء الإفرنسيين شارل ديل وجورج مارسه ورينه غروسه وغيرهم، وقد ظهرت في مجموعة غلوتز في السنتين 1944 و1945،
27
وثانيها العالم البيزنطي للمؤرخ الإفرنسي لويس براهيه، وقد جاء هذا في مجلدات ثلاثة في مجموعة تطور الإنسانية التي يشرف عليها المؤرخ هنري بر،
28
وثالثها كتاب البحاثة أوستروغورسكي الذي ظهر في مونيخ سنة 1940،
29
ولا يخفى ما لهذا العالم من أبحاث في اقتصاديات الروم واجتماعياتهم، ورابعها وأحدثها جميعا من حيث إعادة النظر والتنقيح؛ كتاب العلامة الروسي ألكسي فزيلييف، الذي ظهر أولا بالروسية ثم نقل إلى الإنكليزية والإفرنسية، وقد أعيد طبعه بالإنكليزية بإشراف مؤلفه الذي يجيد هذه اللغة في السنة 1952،
30
وذلك في مديسن من أعمال ولاية وسكونسن الأمريكية.
وهنالك أبحاث عديدة هامة في مواضيع خصوصية متنوعة أشير إليها في هامش هذا الكتاب، فلتراجع في محلات وقوعها.
وفي الختام لا بد لي - قضاء لحق الصنيعة - من إسداء عاطر الشكر لحضرة الأديب المدقق الأستاذ رئيف خوري الذي بذل بسخاء من وقته لمطالعة مخطوطة هذا الكتاب كلمة كلمة وحرفا حرفا، فأبدى ملاحظات قيمة في المعنى والمبنى، وكذلك لا بد لي من الاعتراف بفضل حضرة الأديب الشيخ فؤاد حبيش؛ الذي شجعني على نشر هذا الكتاب.
ولن أنسى عطف مؤرخ بيروت الأكبر العلامة الأب رينه موترد اليسوعي، وتشجيع صديقي الأستاذ فؤاد إفرام البستاني رئيس الجامعة اللبنانية، ومعونة زملائي فيها؛ الأستاذ بطرس البستاني والأمير موريس شهاب والدكتور بطرس ديب. وقد لقيت في شخص رئيس دائرة التاريخ في جامعة بيروت الأمريكية الدكتور نقولا زيادة وفي الأستاذين الدكتورين جبرائيل جبور وأنيس فريحة أصدقاء مخلصين مضحين. وهل أنسى ما عانته زوجتي وشريكة حياتي من مشقة في تأمين راحتي وانقطاعي لهذا العمل زهاء سنتين كاملتين!
وكان الفراغ من تأليفه في رأس بيروت، في الثالث والعشرين من تشرين الأول سنة 1955.
أسد رستم
الباب الأول
المقدمة
الفصل الأول
تقهقر رومة الداخلي وأزمة القرن الثالث
النظام الكولوني وتأخر الزراعة
كان من جراء التوسع العسكري الروماني أن تعاظم كسب قادة الجيش وضباطه وحكام الولايات وكبار الموظفين، فعادوا إلى أوطانهم متمتعين بجميع ضروب التنعم والترف، مشبعين بغطرسة من ذاق لذة السلطة المطلقة بعيدا عن وازع الشريعة الرومانية وقيود النظم الجمهورية. ولم يكن في نظر الرومانيين ليليق بشيوخهم وعظمائهم ووجوههم أن يتعاطوا التجارة أو الصناعة، فتهافت الأغنياء والكبراء على اقتناء المزارع يضمون بعضها إلى بعض، فيكونون منها مزارع مترامية متسعة، ويستاقون إليها من ملكت أيمانهم من الأرقاء. ولم يقو المزارع الصغير على مزاحمة جاره الكبير فضم أرضه الصغيرة إلى أرض جاره الكبيرة، وربط نفسه بتلك الأرض إلى الأبد. ومع أن هذا النظام الكولوني لم يجعل منه رقيقا لسيده، فإنه فقد حريته أن يذهب حيث يشاء، وتعددت هذه المزارع الضخمة في إيطالية وصقلية وإسبانية، ولم يبق من المزارع الصغيرة القديمة إلا نزر يسير.
وكانت حياة الرقيق في هذه المزارع شاقة تعسة؛ فإنه كان يحشر ليلا في الثكنات حشرا ويساق نهارا إلى الحقل سوقا، وكان يكوى بمياسم؛ ليبقى الوسم علامة يعرف بها عند الفرار، فنفر الرقيق من صحبة سيده وانقبضت نفسه عن العمل له بإخلاص وأمانة. واضطر سيده أن يكلفه من العمل أنواعا معينة، تلك التي لا تتطلب الكثير من الأمانة والإخلاص، فحمله على تربية المواشي ورعايتها، فتضائلت - على الأيام - حقول القمح وبساتين الزيتون وكروم العنب، وبار بعض الأراضي وترك لينبت فيه العشب فترعاه تلك المواشي. واعتمدت رومة على قمح مصر وحبوبها لتغذية أبنائها وأبناء المدن الإيطالية الأخرى، وحذرت تصدير هذه الحبوب إلى أي مكان آخر، وسئم المزارع الكولوني هذا النظام، فهجر الأرياف وازدحم في المدن، ولا سيما رومة، ونافس غيره من الفقراء فيها على نصيب يناله معهم من إحسان الدولة، وكانت رومة قد أخذت تقل حروبها منذ عهد أوغوسطوس قيصر فيتناقص معها عدد الأسرى، وقلت اليد العاملة، فبارت الأرض لهذا السبب أيضا، وضعف الإنتاج الزراعي.
عداء مزمن بين الأغنياء والفقراء
وثار العبيد الأرقاء قبل أوغوسطوس أكثر من مرة، ودامت ثورتهم الثالثة بقيادة أسبارتاكوس سنتين (73-71ق.م )، وانتفضوا على سادتهم في صقلية وقتلوهم وأعلنوا استقلالهم عن رومة، ونفر أصحاب الحقول الأحرار في إيطالية وغيرها وأحرقوا المزارع الكبيرة التي أنشأها كبار الملاكين، فكان هذا كله مظهرا للضغائن في الصدور بين الأغنياء والفقراء، ولم ينته صراع العبيد والفقراء بانتصار ليكينيوس كراسوس على أسبارتاكوس،
1
بل استمر متقطعا ما دامت الإمبراطورية الرومانية، ومن هنا قول ماكروبوس الفيلسوف السياسي الذي عاش في القرن الخامس بعد الميلاد: «عبيدنا أعداؤنا.» وكان كلما صرع سيد بيد مجهولة اتهم بقتله أرقاؤه وقاسوا من جراء ذلك شتى ألوان العذاب، وربما فقدوا الحياة.
ولا يخفى أن رومة ميزت في شرائعها بين فصيلتين من الرقيق: أرقاء الأرياف، وأرقاء المدن،
2
وكان هؤلاء يشملون في عدادهم الخدم والحشم والأطباء والأساتذة ورجال الفن والقلم وحاشية الأباطرة وكبار الرجال في السياسة والحرب. ولما كان الجهاز الإداري مربوطا بشخص الإمبراطور؛ فإنه أصبح - منذ عهد كلوديوس - يعج بهؤلاء الأرقاء من رجال الأباطرة، بيد أن الأرقاء لم ينظموا صفوفهم، ولم يكن لديهم - في وقت من الأوقات - برنامج سياسي معين يسعون لتحقيقه، وجل ما بلغوا إليه أنهم كرهوا أسيادهم، وثاروا في وجههم، وتمنوا زوال نعمتهم، وذلك بحركات متفرقة في غالب الأحيان.
تأخر الصناعة والتجارة
وأدى توسع رومة في الشمال والجنوب والشرق والغرب إلى توسع مماثل في أفق أبنائها العاملين في حقلي الصناعة والتجارة، فخرجوا من إيطالية إلى الولايات الجديدة يوظفون أموالهم فيها، وقام من أبناء هذه الولايات نفسها، ولا سيما الشرقية منها، من شاطر هؤلاء عملهم وإنتاجهم، فنشطت الزراعة والصناعة والتجارة في الولايات، وأخذت آسية الصغرى مثلا تصدر ذرتها وخمرها وسمكها المجفف ومنسوجاتها الصوفية وصباغها الأرجواني، وعاد زجاج الساحل اللبناني إلى سابق تفوقه، ومثله كتان هذا الساحل وحريره وصوفه المصبوغ. وعادت الجاليات اللبنانية السورية إلى سابق عهدها في الغرب، توزع بضاعة البلد الأم في إيطالية وصقلية وغالية ووادي الرين وبريطانية، وظهرت نشيطة قوية في تراقية ووادي الدانوب الأسفل وجنوبي روسية، ومع الزمن فقدت إيطالية سيطرتها الاقتصادية التي كانت قد كسبتها في حروب التوسع المتتالية، وإنتاجها الصناعي الذي كانت تنتجه بالكميات الكبيرة قل وتدنى فأصبح في مستهل القرن الثالث بعد الميلاد إنتاجا إفراديا قليلا، وقل الدخل عموما، فقل دخل الدولة، والتجأ الأباطرة إلى غش العملة، فأصبحت هذه في عهد مرقوس أوريليوس مغشوشة بمقدار ربع وزنها، وبعد جيلين فقط لم يبق في النقود الفضية أكثر من خمسة في المائة من زنتها فضة.
انحطاط الجيش
وكانت الخدمة العسكرية في أوائل عهد رومة محصورة في المواطنين الرومانيين أولئك الذين ملكوا أرض رومة وسنوا شرائعها، وكان على كل جندي أن يقسم بكل وقار واحترام يمين الطاعة لقادته والولاء للإمبراطور والإمبراطورية، وجاء يوليوس قيصر فمنح حقوق المواطن الروماني
3
بعض وجوه الولايات وأعيانها ممن ليس فيهم الولاء والإخلاص لرومة وإمبراطوريتها، وقضت ظروف الفتح والتوسع بتكبير الجيش، فجندت رومة أبناء الولايات في وحدات «مساعدة»، وفي أيام أدريانوس وخلفائه تساهلت رومة فمنحت كل من لمست فيه استعدادا لتفهمها والامتزاج بأبنائها هذا الحق الكبير. ثم جاءت يولية دمنة الحمصية وابنها كركلا؛ فأباحا هذا الحق في السنة 212 لجميع سكان الإمبراطورية، فأصبح الجيش - والحالة هذه - مؤلفا من جميع عناصر حوض البحر المتوسط.
وأدى التوسع العسكري الكبير إلى تغيير آخر في الجيش؛ فالحدود الشاسعة الطويلة والأعمال الحربية المتتابعة المتتالية قضت بتطويل مدة الخدمة العسكرية، والتأخر الاقتصادي اضطر الحكومة الرومانية أن تقطع جنود الحدود أراضي يحرثونها وأن تجيز لهم أن يتأهلوا وأن يقيموا في أكواخهم قرب الحدود؛ فقضى الجنود حياتهم بأكملها في خدمة العلم وأصبحوا طائفة عسكرية تعيش لنفسها، لا جيشا شعبيا يقوم بخدمة الدولة.
ومما عجل كثيرا في انحطاط الجيش أن أوغوسطوس قيصر لم يعن بإيجاد طريقة قانونية لانتخاب الإمبراطور تنتقل سلطة الإمبراطور بموجبها من سلف إلى خلف دونما خلل يقطع الاستمرار، فنتج عن هذا الخلل أنه أصبح في طاقة الجند أن يختاروا من يرضون عنه، وأن يعزلوه وأن يعينوا غيره مكانه، كما أمسى الإمبراطور نفسه قليل المهابة والاحترام.
الإمبراطور
وكان الإمبراطور في بدء الأمر وجيها رومانيا كبيرا خول سلطة عسكرية واسعة في ظروف حربية قاهرة ، وكانت هذه السلطة أو هذه القيادة
4
تنتهي بانتهاء الحرب، وكان مجلس الشيوخ يقيم - في ظروف معينة - أكثر من قائد واحد في وقت واحد، ثم جاءت الإمبراطورية بطولها وعرضها وتعددت مشاكلها، فوكلت رومة القيادة إلى رجل واحد طوال عمره، وبقيت سيادة الدولة الرومانية تظل هذا الإمبراطور الفرد ومنها يستمد سلطته، وبقي هو ممثل الجمهورية
5
الأوحد، واستحق لقب أوغوسطوس؛ أي قديس؛ لأنه كان في نظر الرومانيين رمز إلهة رومة الحي،
6
ويرى بعض رجال الاختصاص أن سلطة الإمبراطور كانت في البدء سلطة عسكرية لأنها لم تطبق قبل عهد سبيتميوس سويروس إلا في خارج رومة وفي خارج إيطالية، ويرون أيضا أن سائر الألقاب
7
التي حملها الأباطرة الأولون لم تزدهم سلطة أبدا.
وتقادمت المجالس القوميسية
8
في رومة وأصابها الهرم، فانحصرت السلطة التشريعية بيد مجلس الشيوخ
9
وكذلك إدارة الدولة وفرض الضرائب فيها وجبايتها، ولو دام هذا الحصر لصح القول بأن الدولة الرومانية كانت أرستوقراطية يرأسها ديكتاتور عسكري، ولكن شيئا من هذا لم يكن، فالإمبراطور كان منذ البدء قد شاطر مجلس الشيوخ السلطة في الولايات، فترتب عليه منذ بداية الإمبراطورية أن يكون لديه حكام وأن يفصل بين ماليته ومالية الدولة، ولما كانت القوة العسكرية بيده كان من الطبيعي جدا أن يتطاول على حقوق مجلس الشيوخ في نطاق سلطته وأن تتدرج الدولة الرومانية في سلم الملكية.
وحاول الإمبراطور الروماني اللبناني سويروس ألكسندروس (222-235ب.م) الذي نشأ وترعرع في عرقة عكار أن يعيد إلى مجلس الشيوخ حقوقه المسلوبة، فشاور المجلس في جميع أعماله وطلب إليه انتقاء كبار الموظفين في رومة وفي الولايات وتقديم الأكفاء لجميع الوظائف الأخرى، ورقى حكام الولايات إلى رتبة عضو في مجلس الشيوخ كي لا ينظر في أمرهم من كان دون هذه الرتبة. وبعبارة وجيزة: حاول ألا يفعل شيئا يعكر صفو العلاقات بينه وبين مجلس الشيوخ.
وعني سويروس ألكسندروس بشئون الجيش، فراقب - عن كثب - حركات الوحدات وأمن العدل بينهم وأقطعهم الأرض عند الحدود وزودهم بالمواشي والأرقاء لحراثتها وزرعها؛ شرط أن يدخلوا أبناءهم في الخدمة بعدهم، ولكنهم لم يرضوا عن المفاوضات التي أجراها مع القبائل الألمانية عبر الرين في السنة 235 وأخذوا عليه انقياده لوالدته، ففاوضوا مكسيميانوس مدرب الجيش وكانوا قد أحبوه لشجاعته وكرمه، وقتلوا الإمبراطور ووالدته، ونادوا بمكسيميانوس إمبراطورا، فدخلت الإمبراطورية الرومانية في أزمة سياسية مخيفة كادت تمزقها تمزيقا وتهوي بها إلى الحضيض، وانكشف ضعفها وتبين أن أوغوسطوس قيصر ذاك المصلح الكبير لم يوفق إلى طريقة قانونية لانتقاء الإمبراطور تنتقل بموجبها سلطته من سلف إلى خلف دونما خلل يقطع الاستمرار. وتبين أيضا أن الجيش بعد أن انفصل عن الشعب الروماني وأصبح خليطا من كل من هب ودب بقي يمارس سلطة هائلة في انتقاء الإمبراطور بالاشتراك مع مجلس الشيوخ، وأن هذه السلطة أصبحت غاشمة بعد انحطاط الجيش - كما سبق أن أشرنا.
أزمة القرن الثالث
وهب مكسيميانوس (235-238ب.م)، وكان عملاقا في جسمه؛ يتابع الحرب فيما وراء الرين، ولكن الجنود في إفريقية لم يرضوا عنه فأعلنوا غورديانوس الأول إمبراطورا في السنة 237 وكان هذا قد ناهز الثمانين من العمر فأشرك ابنه غورديانوس الثاني في الحكم معه، وقاومهما والي موريتانية «الجزائر» فقتل غورديانوس الثاني في ميدان القتال وانتحر والده العجوز، وثار جنود مكسيميانوس في وجهه فقتلوه في أثناء حصار أكريلية في ولاية البندقية.
وتدخل مجلس الشيوخ فانتخب بوبيانوس وبلبينوس فغورديانوس الثالث حفيد الأول؛ نزولا عند رغبة الشعب، ولكن الحرس الإمبراطوري قتل الأولين وأبقى غورديانوس الثالث حفيد غورديانوس الأول وكان لا يزال في الثالثة عشرة من عمره (238-244) ثم خر صريعا في السنة 244 بيد قائد الحرس. وكان قد اضطر غورديانوس الثالث أن يشرك فيلوبوس العربي معه في الحكم في السنة 243؛ نزولا عند رغبة جنود الشرق، فعقد هذا صلحا مع الساسانيين وهرول إلى رومة، وتسلم أزمة الحكم فيها (244-249ب.م).
ومما يروى عنه أنه تقبل النصرانية سرا، وفي السنة 249 انتقض الجند في مناطق الدانوب، فأرسل فيلوبوس العربي القائد ديقيوس ليخمد ثورتهم، وما إن وصل إليهم حتى نادوا به إمبراطورا (249-251) فحارب فيلوبوس وقتله في موقعة فارونة، وقام ديقيوس يحارب القوط في البلقان في السنة 251 فسقط في ميدان القتال في ما وراء الدانوب ، فنادى الجند بغالوس إمبراطورا (251-253) وأشرك هذا هوستيليانوس بن ديقيوس في الحكم معه ثم قتله، وعم داء الطاعون في أثناء حكمه جميع أنحاء الإمبراطورية فزاد في الطين بلة.
ثم عمد إميليانوس هذا، وهو قاهر القوط، إلى خلع الإمبراطور في السنة 253 فحل محله، ولكن الجنود قتلوه بعد أربعة أشهر من الحكم ونادوا بفاليريانوس إمبراطورا بعده (253-260ب.م) فأشرك هذا ابنه غاليانوس في الحكم معه، وقاما يحاربان قبائل الإفرنج في غالية والألماني في شمالي إيطالية، والقوط عند الدانوب، والساسانيين عند الفرات، وفي أثناء حصار الرها في السنة 260 وقع فاليريانوس أسيرا في يد شابور وتوفي أسيرا، وتابع غاليانوس الحكم بعد أبيه (260-268) وجابه ما كان أشد هولا: ضغط البرابرة، ولا سيما القوط الذين انقضوا من البحر الأسود بمراكبهم الخاطفة، وظهور عدد كبير من المنافسين، فدخلت الإمبراطورية في فترة الطغاة الثلاثين وأشهرهم تتريقوس في غالية وإسبانية.
ولا يجوز القول إن أذينة العربي كان منهم؛ لأنه حافظ طوال عهده على الولاء القانوني الشكلي لغاليانوس، واعتبره هذا شريكا له في الحكم، وسقط غاليانوس محاربا ضد أوريولوس في السنة 268، ولكن الجنود نادوا بكلوديوس الثاني (268-270) إمبراطورا، فقتل هذا أوريولوس وقهر الألماني والقوط ولكنه توفي بالطاعون، فخلفه أوريليانوس (270-275) إذ نادى به جنوده إمبراطورا، وصالح القوط وتنازل عن حقوق رومة في ما وراء الدانواب وأخضع زينب، ثم قهر تتريقوس في غالية واتحذ لنفسه لقب: معيد الدولة العالمية،
10
ولكنه قتل في حملة قام بها على الساسان، فانتخب مجلس الشيوخ تسيتوس إمبراطورا؛ بإيعاز من الجند (275)، وتوفي هذا بعد ثلاثة أشهر في أثناء الحملة التي شنها على قبيلة الألاني في آسيا الصغرى، ولم يفلح أخوه في تسنم الحكم بعده؛ لانكساره أمام بروبوس (276-282ب.م).
ورد بروبوس هجمات الإفرنج والبورغنديين والألماني، والفندال، وشغل الجنود بتجفيف المستنقعات وإنشاء الترع وبناء الطرق، فثاروا عليه وقتلوه، فتولى الأمر بعده قائد الحرس كاروس (282-283) ولكن صاعقة أصابته بعد أن احتل طيسفون عاصمة ساسان، فخلفه ابنه نومريانوس (284) ولكنه قتل بمؤامرة والد زوجته كارينوس الذي طمع في ملك صهره، فلم يفلح لأن الجند كانوا قد نادوا بديوقليتيانوس الشهير (284-305).
11
غزوات الشعوب الجرمانية
وكان يقطن ألمانية وسائر أوروبة الشمالية برابرة من الجنس الهندي الأوروبي، شقر الشعور زرق العينين طوال القامة، لم يرتقوا كثيرا منذ عهد إنسان العصر الحجري. وكانت كل قبلية منهم تقيم في منطقة محدودة لا يتجاوز قطرها ستين كيلومترا، ولا يزيد عدد نفوسها عن خمسة وعشرين ألفا أو ثلاثين، وكانوا يقيمون في قرى تضم كل واحدة منها مائة عائلة، وكانت المنازل التي يسكنونها أكواخا حقيرة يسهل نقلها. وكان السكان - على وجه الجملة - لا يرغبون في الفلاحة والزراعة، بل كانوا يؤثرون رعاية المواشي وتربيتها، وكانوا يجهلون الكتابة تماما ولا يتعاطون التجارة إلا قليلا. وكانوا أقوياء البنية ذوي بأس وجلد، يميلون إلى الحرب والغزو والنهب، ويتنقلون من مكان إلى آخر يتبعهم نساؤهم وأولادهم في مركبات ضخمة، وكانوا يجيدون ركوب الخيل ويعتنون بها عناية فائقة.
وكانت رومة قد جعلت من الرين والدانوب وما بينهما حدودا فاصلة بينها وبين هذه القبائل، وحصنت هذه الحدود وأقامت عليها فرقا تحميها، لكن هذا كله لم يمنع تسرب جماعات من الجرمان إلى داخل حدود الإمبراطورية. وأغوسطوس نفسه كان قد أذن لبعض هؤلاء بالبقاء داخل الحدود، وكان يوليوس قيصر من قبله قد أدخل الجرمان في خدمة الجيش، لا سيما فرق الخيالة. وكان قد أدى التقهقر الاقتصادي وقلة اليد العاملة إلى قبول بعض العناصر الجرمانية في المزارع الكبيرة، كما أدى ضعف الحكم عموما إلى التساهل مع بعض القبائل الجرمانية تدخل برمتها البلاد ويستخدم رجالها في الجيش جنودا مرتزقة.
وفي أوائل القرن الثالث بعد الميلاد كانت قبيلة الإفرنج لا تزال مرابطة عند ضفاف الرين الأسفل، ووراءها إلى الشرق قبيلة السكسون السويفي فالفندال، وجميعها في شمال ألمانية، وكانت قبائل الألماني مرابطة بين الدانوب والرين الأعلى، وكانت قبائل القوط قد نزحت عن البلدان الاسكندنافية منذ نهاية القرن الثاني بعد الميلاد وحلت ضيوفا ثقيلة على الألاني والسرامطة في جنوب روسية، فأقام القوط الشرقيون بين نهري الدنيبر والدنيستر والقوط الغربيون في ما نسميه اليوم رومانية والمجر، وأدى ضعف الدولة الرومانية واضطراب أحوالها إلى تيقظ هذه القبائل واشتداد طمعها، فحاول بعضها قطع الحدود الرومانية فزادوا الإمبراطورية بعملهم هذا انهماكا وتعبا وتقهقرا.
وفي ربيع السنة 267 بعد الميلاد احتشد عدد غفير من القوط وغيرهم من قبائل الدانوب وجنوبي روسية عند مصب نهر الدنيستر، فأبحر بعضهم على متن بضعة آلاف مركب صغير واتجهوا جنوبا ولحق بهم الباقون برا، ونزل بعض المبحرين منهم في بيثينية وتوغلوا في آسية الصغرى، وتابع الباقون سفرهم البحري فدخلوا البوسفور وحاولوا اقتحام بيزنطة لكنهم لم يفلحوا، فاستأنفوا رحلتهم إلى بحر إيجه فغزوا ثيسالونيكية وكسندرية وسائر سواحل اليونان، وبلغ بعضهم إلى كريت ورودوس وقبرص، فتصدى لهم بروبوس حاكم مصر عند بامفيلية بما جمع من سفن رومانية وردهم على أعقابهم، وفعل مثل هذا أذينة العربي في آسية الصغرى. وهب الإمبراطور كلوديوس إلى محاربتهم في البلقان فسجل انتصارا كبيرا بالقرب من نيش وقتل منهم خمسين ألفا وطارد الباقين عبر مقدونية، فهلك بعضهم بالطاعون ودخل الباقون في خدمة الجيش الروماني، ونال كلوديوس - بحق - لقب «قاهر القوط»،
12
وتعددت هذه الهجمات البربرية وتعاقبت طوال هذا القرن.
الأفلاطونية الجديدة
وأدى تقهقر رومة الداخلي إلى نزعات جديدة في الفكر، فدفعت الفوضى والحروب والأوبئة وما تبعها؛ بعض رجال الفكر إلى الابتعاد عن هذا العالم الفاني والتأمل في عالم أزلي ملؤه الخير والجمال، فعكف عدد من رجال الفلسفة على فيثاغورس زاهدين ورعين مستوحين، قائلين بالسحر والعرافة، جاعلين من بعض حلقاتهم انتداءات سحرية، فظهرت فيثاغورية جديدة قال بها فلاسفة في الشرق والغرب معا.
ودعا آخرون إلى أفلاطون ووجدوا في كتابه الطيماوس
Timaeus
قوتا قامت به أنفسهم فانتعشت، فأكدوا قوله بالواحد الأوحد، وقالوا بالثنائية الأفلاطونية، ففرقوا بين النفس والجسد، وجعلوا من خيال أفلاطون في الحياة بعد الموت عقيدة، وتقبلوا نظريته في الوسطاء بين الله والبشر
Daimones ، وأكدوا أن رائد الإنسان إنما هو أن يصير مشابها لله، فظهرت أفلاطونية جديدة كان لها شأن كبير في عالم الفكر حتى أواخر القرن الخامس.
13
وأول من اشتهر بالأفلاطونية الجديدة نومانيوس فيلسوف أبامية بين حماة والمعرة، ولا نعلم الشيء الكثير من أخباره، ويجوز القول: إنه علم في النصف الثاني من القرن الثاني، وأن أفلوطين اعتمد عليه - فيما يظهر - وكتب نومانيوس في «مذاهب أفلاطون السرية» فشرح ما جاء عن النفس في فيدروس وفي الجمهورية، واطلع على حكمة اليهود وتعاليم المسيخ فأولها، ورأى في أفلاطون موسى فدعاه: موسى اليوناني، واعتبره نبيا. ورأى أن الوجود منقسم إلى مملكتين: مملكة العناية ومملكة المادة، وأن المادة أصل الشرور والمفاسد، وأنه ليس يليق أن نعزو صنع العالم إلى الإله الأعلى، وأن الابن هو الصانع الذي نظم الكتلة المادية يتأمل النموذج تارة ويتحول عنه طورا ليحرك الفلك، فيصير حينئذ النفس الكلية.
14
وأشهر المؤسسين في هذا الحقل أفلوطين
، ولد في مصر في ليقوبوليس في السنة 204 بعد الميلاد، وبدأ دروسه الفلسفية في سن متقدمة في الثامنة والعشرين في مدينة الإسكندرية، ولكن ما لقيه في هذه الدروس خيب أمله واعترف بذلك إلى أحد أصدقائه، فقدمه هذا فورا إلى أمونيوس سكاس، فعادت رغبته إليه، وبعد أن قضى إحدى عشرة سنة في معية هذا المعلم علم أن الإمبراطور غورديانوس فتح أبواب هيكل يانوس في رومة ليعلن الحرب على ساسان، فصمم الفيلسوف الطالب على الالتحاق بهذه الحملة العسكرية ليسمع عن فلسفة الفرس والهنود، والتحق بجيش غورديانوس ووصل معه إلى الفرات، ثم تمرد الجند واغتالوا الإمبراطور عند دورة، فعاد أفلوطين إلى أنطاكية (244) وزار أبامية ليطلع عن كثب على فلسفة نومانيوس، ثم قام من أنطاكية إلى رومة وبدأ يعلم فيها، وتميز بسمو أخلاقه ونفاذ بصيرته فصادف نجاحا، وأقبل على الأخذ عنه عدد من أفراد الأسر الممتازة.
15
وكان قد قام في الإسكندرية في القرن الأول بعد الميلاد فيلون اليهودي وجمع بين الحكمة اليونانية والديانة الإسرائيلية، فاستند إلى نظرية أفلاطون في الكلمة فجعلها متوسطة بين الإله والعالم، وقال إن الإله هو سبب الكلمة وإن الكلمة هي علة الروح، وإن الروح تحرك العالم بأسره وتشيع فيه حكمة الخالق، وكان أفلاطون قد فرق بين الخير الأعلى والعقل والنفس، وكان أرسطو قد جعل الإله عقلا محضا، وكان الرواقيون قد قالوا إن الله هو روح العالم. فأخذ فيلون من هؤلاء جميعا وقال إن الواحد هو مبدأ كل شيء وإنه الأقنوم الأول، وإن العقل هو الأقنوم الثاني ولكنه دون الواحد في الكمال، وإن الأقنوم الثالث هو النفس. وقال: إن الواحد هو الخير الذي يفيض عنه الوجود من غير أن ينقصه هذا الفيض شيئا، والوجود يفيض عنه لجوده كما تفيض الحرارة عن النار والنور عن الشمس، وقال: كما أن كل شيء يصدر عن الواحد فكذلك كل شيء يعود إليه، والنفس أيضا تعود إلى خالقها عن طريق الرياضة والتأمل والاستغراق والغيبة عن الوجود.
16
وأظهر تلاميذ أفلوطين بورفيريوس السوري (233-305)، ولد في البثينة من أعمال حوران وتعلم في صور، ثم درس الفلسفة على لونجينوس الحمصي في أثينة، فأعجب لونجينوس بشغفه بالعلم ومواهبه النادرة، وكان يدعى مالكا فأطلق عليه لونجينوس اسم «الأرجواني» بورفيريوس، وفي السنة 263 قام إلى رومة فلزم أفلوطين فيها واتبع طريقته، وأعجب به أفلوطين، وكان المعلم يمقت البيان ويستثقل العناية بالجمل والألفاظ، وأدرك الحاجة إلى إعادة النظر فيما كتب، فوكل ذلك إلى تلميذه بورفيريوس، فقبل التلميذ المهمة ولكنه لم ينفذ شيئا منها إلا بعد وفاة معلمه وإلحاح طلاب الفلسفة، فدون حياة أستاذه وجمع محاضراته في مجلدات ستة عرفت ب «الأقسام»
Ennead
التاسوعات وشرحها،
17
ووضع «المدخل إلى المعقولات» آخذا عن التاسوعات، و«المدخل إلى مقولات أرسطو»؛ أي كتاب الإيساغوجي، واشتهر بكتابه ضد النصرانية وجعله خمس عشرة رسالة، فانتقد نسب السيد كما جاء في متى، وادعى أن الأناجيل الأربعة متناقضة وأن بطرس وبولس غير متفقين في رسائلهما، وهاله عبث المسيحيين بالتراث الثقافي الديني اليوناني.
18
وقام في النصف الثاني من القرن الثالث في خلقيس «مجدل عنجر لبنان» يمبليخوس العيطوري يدعو إلى الأفلاطونية الجديدة ويدافع عنها، وهو تلميذ بورفيريوس أخذ عنه في رومة ودرس الرياضيات على أناتوليوس، وعاد إلى بلاده يعلم في أبامية وفي مجدل عنجر، فقال بصدور الموجودات بعضها عن بعض، ورأى أن أفلوطين حين سمى الواحد الأوحد خيرا بالذات فقد حبسه بصفة فوضع فوقه واحدا غير معين ووضع بعده العالم المعقول، فأصبح لديه حدود ثلاثة، وجعل العالم المعقول ثلاثة حدود أيضا: العقل، والصانع، وبينهما القدرة الإلهية، وجعل للعالم الاستدلالي ثلاثة حدود أخرى: الاب والقوة والفهم.
19
الفصل الثاني
ظهور النصرانية وانتشارها
30-395ب.م
الرسل والتلاميذ والإخوة
توفي السيد في السنة 30 بعد الميلاد، وتابع أتباعه الطقوس الإسرائيلية الشائعة آنئذ، فتعبدوا في هيكل سليمان، وتجمعوا في أروقته، وكانوا جميعهم يهودا من الطبقات الوضيعة تجمعوا من أورشليم ومن الجليل ومن سائر أنحاء فلسطين، وكان بعضهم من يهود البونط ومن قبدوقية ومصر وليبية والقيروان، وكان بينهم بعض اليهود العرب أيضا، وكانوا يعقدون - من آن إلى آخر - اجتماعات خاصة تغمرهم فيها محبة قوية، ويتناولون في أثنائها طعاما مشتركا. وكانوا رسلا وتلاميذ بالنسبة لمعلمهم، وإخوة بالنسبة للمحبة المتبادلة بينهم. ولم يعتبروا أنفسهم في هذه المرحلة الأولى مذهبا خاصا من مذاهب اليهود ولا كنيسة من كنائسهم. والكنيسة في عرف اليهود آنئذ جماعة قليلة من اليهود، يتعبدون مستقلين عن الجماعة الكبرى.
ولا نعلم عدد المسيحيين في هذه الفترة الأولى من تاريخهم بالضبط؛ فهم مائة وعشرون في الفصل الأول من سفر أعمال الرسل، وخمسمائة في الفصل الخامس عشر من رسالة بولس الأولى إلى أهل كورنثوس، وثلاثة آلاف بعد عظة بطرس الأولى، ثم خمسة آلاف في الفصل الرابع من سفر الأعمال، وذلك بين السنة 35 والسنة 37 بعد الميلاد. وليس لدينا من الأدلة التاريخية الواضحة الراهنة ما يمكننا من وصف نظمهم وصفا كاملا، ولكن هنالك ما يدل على تقدم الرسل الاثني عشر بينهم، وعلى تقدم التلاميذ السبعين بعد هؤلاء، وهنالك أيضا ما يدل على نفوذ كلمة بطرس ويوحنا بن زبدي ويعقوب أخي الرب، وكان يعقوب بموجب رواية القديس يوسيبيوس
1
نافذ الكلمة محترما جدا؛ نظرا لزهده وورعه الشديد، أكنب الركبتين من كثرة الركوع، لا يأكل لحما ولا يشرب خمرا، وليس لديه سوى رداء واحد.
ومارس المسيحيون في هذه الفترة نفسها طقوسا ثلاثة: المعمودية ووضع الأيدي والشركة، فكان على مستجد يقبل الدعوة أن يتعمد باسم يسوع المسيح وأن يبارك بوضع الأيدي وأن يمارس الشركة وكسر الخبز.
2
وجاء في الفصل الرابع من سفر أعمال الرسل أيضا أنه كان لجمهور الذين آمنوا قلب واحد ونفس واحدة، وأنه لم يكن أحد يقول: إن شيئا من أمواله له، بل كان عندهم كل شيء مشتركا، وأنه لم يكن فيهم أحد محتاجا لأن كل الذين كانوا أصحاب حقول أو بيوت كانوا يبيعونها ويأتون بأثمان المبيعات ويضعونها عند أرجل الرسل، فكان يوزع على كل واحد كما يكون له احتياج.
اليهود
وعلى الرغم من تمسك المسيحيين الأولين بالناموس والأنبياء؛ عملا بقول السيد: إن السماء والأرض تزولان ولا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس؛ فإن كرزهم بيسوع مسيحا أخرجهم في نظر اليهود على الله والناموس، واشتد نشاطهم وكثر عددهم، فشكاهم الصديقيون إلى المجمع وطلبوا إلى رئيس الكهنة أن يوقف الرسل، ففعل، ثم طلبهم إلى المجمع، وقال لهم: ألم نوصكم ألا تعلموا بهذا الاسم؟ فأجاب الرسل: ينبغي أن يطاع الله أكثر من الناس، إن إله آبائنا رفع يسوع رئيسا ليعطي إسرائيل التوبة ومغفرة الخطايا! فلما سمع أعضاء المجمع هذا القول حنقوا وأرادوا أن يقتلوهم، فقام غمالائيل الفريسي وأوصى بالاعتدال، فاكتفى المجمع بجلد الرسل ثم أطلقهم، فخرج الرسل فرحين وعادوا إلى التبشير، وحوالي السنة 36 بعد الميلاد طلب المجمع إسطفانوس للمثول أمامه بتهمة التجديف على موسى وعلى الله، فقال في الدفاع عن نفسه قوله المأثور: «يا قساة الرقاب أنتم دائما تقاومون الروح القدس، أي الأنبياء لم يضطهده آباؤكم؟ أخذتم الناموس بترتيب ملائكة ولم تحفظوه.»
3
فصروا بأسنانهم وأخرجوه خارج المدينة ورجموه، فكان أول الشهداء. وظهر في هذه الآونة شاوول الفريسي (بولس فيما بعد)، وكان يدخل إلى البيوت ويجر النساء والرجال من المسيحيين ويدفع بهم إلى السجن.
4
وخشي أتباع إسطفانوس سوء العاقبة، وكانوا من اليهود اليونانيين، ففروا إلى أوطانهم في شرقي البحر المتوسط، واستقاموا فيها كارزين مبشرين، وقام فيليبس في هذه الأثناء يبشر في السامرة وفي ساحل فلسطين في غزة ويافه وقيصرية، فلقي فيها نجاحا ، وكان الرسل - ولا سيما بطرس ويوحنا - يرقبون عمل فيليبس فيقومون بزيارات رعائية خارج أورشليم؛ يتعرفون بها إلى المسيحيين الجدد مشددين عزائمهم مثبتين لهم في الإيمان. وسجل فيليبس بكرزه في السامرة خروجا على الخطة المتبعة في التبشير الأولى: فإن الرسل كانوا قد حصروا عملهم في أوساط اليهود متبعين في ذلك قول السيد: «إلى طريق أمم لا تمضوا، وإلى مدينة للسامريين لا تدخلوا، بل اذهبوا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة.»
5
ولكن العمل كان قد توطد - فيما يظهر - فبدأ التبشير بين الأمم، ورأى بطرس وهو في يافه أن الله يأمره ألا يقول عن إنسان ما إنه دنس أو نجس، فقبل دعوة كرنيليوس قائد المئة الإيطالية وقال: إن الله لا يقبل الوجوه بل في كل أمة الذي يتقيه ويصنع البر مقبول عنده،
6
وانتقل الرسل بهذا من دور إلى دور وبدءوا يعملون بالآية: «واذهبوا إلى العالم أجمع واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها.»
7
وفي السنة 41 بعد الميلاد تولى عرش اليهود في ظل رومة هيرودوس أغريبه حفيد هيرودوس الكبير، فأراد أن يستميل الشعب إليه، فتظاهر بالتدين وشرع يضطهد المسيحيين اضطهادا منظما، فقتل يعقوب أخا يوحنا بالسيف، وإذ رأى أن ذلك يرضي اليهود عاد فقبض على بطرس وزجه في السجن، وكان ما كان من أمر خروجه بأعجوبة،
8
وتوجه إلى أنطاكية.
أنطاكية
وكانت أنطاكية آنئذ ثالثة مدن الإمبراطورية الرومانية، ومركز الحكم والسلطة في سورية ولبنان وفلسطين، وكانت الجالية اليهودية فيها كبيرة يربو عددها على خمسين ألفا، وكانوا يتكلمون اليونانية، ويعيشون عيشة اليونان، ويكسبون الرزق بالاتجار. فلما تشتت المسيحيون من جراء الضيق الذي حصل بسبب إسطفانوس، اجتاز بعضهم إلى الساحل اللبناني وقبرص، وحل آخرون في أنطاكية، وكان بين هؤلاء قوم قبرصيون وقيروانيون، فلما دخلوا أنطاكية بشروا اليهود و«اليونانيين» بالرب يسوع، «وكانت يد الرب معهم فآمن عدد كثير ورجعوا إلى الرب.»
9
وجاءهم بطرس في السنة 45، وأقام بينهم ثماني سنوات، وبعد أن اطمأن لعمله في أنطاكية وما جاورها أقام أفذيوس رئيسا على كنيستهم، وذهب في السنة 53 إلى رومة، وعرف المسيحيون بهذا الاسم لأول مرة في أنطاكية.
بولس
وكان الشاب الفريسي شاوول بولس يتابع التفتيش عمن اعتنق النصرانية من اليهود ليضطهدهم باسم الناموس، فقام في السنة 31 بعد الميلاد إلى دمشق ليوقف انتشار النصرانية في أوساطها اليهودية، وما إن اقترب منها حتى «أبرق حوله نور من السماء، فسقط على الأرض وسمع صوتا يقول له: شاوول، شاوول! لماذا تضطهدني؟»
10
فكان ما كان من أمر تنصره، وكان قد ولد شاوول في طرسوس بين الخامسة والعاشرة بعد الميلاد، وكان والده فريسيا متعصبا فجعل ابنه يدرس الشريعة والناموس، وأبعده عن المدارس اليونانية، ويرجح رجال الاختصاص أن ما ناله شاوول من الفلسفة اليونانية جاء عن طريق الاحتكاك الشخصي بأبنائها لا عن درس وتعليم. ورحل شاوول وهو لا يزال حدثا إلى أورشليم في طلب العلوم الدينية، فأخذ عن غمالائيل المشار إليه آنفا، وكان غمالائيل من أكبر علماء الدين في ذلك العصر، ويستدل من كتاب «أعمال بولس» الذي يرقى إلى القرن الثاني بعد الميلاد أن بولس كان مربوع القامة مائلا نحو القصر، معوج الساقين، أصلع الرأس، كثيف الحاجبين، أقنى الأنف. وجاء في رسالته الثانية إلى أهل مكورنثوس أنه «أعطي شوكة في الجسد لئلا يرتفع.»
11
ويستدل من رسائله أنه كان حاد الطبع، شجاعا جريئا، شديد العاطفة، ثاقب النظر، واسع الخيال، مقداما.
وبدأ بولس عمله التبشيري بين يهود دمشق، فضجوا وطلبوا حبسه، ولكن إخوانه في النصرانية عاونوه على الفرار، فقضى ثلاث سنوات أو أكثر في البادية يتأمل رسالته الجديدة ويبشر العرب، ثم عاد إلى أورشليم يستغفر الرسل ويبشر في الأوساط اليهودية اليونانية، ولكن هؤلاء حاولوا قتله، فأشار عليه الرسل بوجوب الابتعاد والإقامة في طرسوس مسقط رأسه، وكانت الدعوة قد لقيت نجاحا في أنطاكية - كما سبق أن أشرنا - فذهب كبير المسيحيين فيها برنابا إلى طرسوس، وجاء ببولس إلى أنطاكية، فتعاونا في الخدمة (42-45ب.م).
وكان بين المسيحيين في أنطاكية جماعة من التجار، فجمعوا مقدارا من المال ووضعوه تحت تصرف بولس وبرنابا لأجل التبشير، فقاما برحلة تبشيرية إلى قبرص وآسيا الصغرى (45-47ب.م)، ولقيا بعض النجاح، ثم عادا إلى أنطاكية، فعلما فيها أن الرسل لم يرضوا عن أعمالهما التبشيرية؛ لأنهما كانا قد قبلا في النصرانية وثنيين لم يختتنوا. وكانا يريان أن لا بد من التساهل في مثل هذه الأمور؛ لئلا تبقى النصرانية شيعة يهودية منشقة، فنزلا إلى أورشيلم (50ب.م)، وبحثا أمر الاختتان فأيدهما بطرس وعارضهما يعقوب، ثم تم الاتفاق على أن يمتنع المؤمن غير المختتن عما ذبح للأصنام وعن الدم والمخنوق والزنى، «فإن حفظ نفسه منها فنعما يفعل ويكون معافى.»
12
وعاد بولس وبرنابا إلى أنطاكية.
وقام بولس بعد هذا برحلتين تبشيريتين الثانية والثالثة، وشملت الثانية (50-52ب.م) غلاطية وفيليبي وثيسالونيكية وأثينة وكورنثوس وإفسس وأنطاكية، وشملت الثالثة (53-58ب.م) إفسس وكورنثوس وبعض جزر الأرخبيل اليوناني وصور وعكة وقيصرية فلسطين فالقدس، وكان بولس يبشر اليهود أولا فالوثنيين، فيلقى صعوبات واحدة لم تتغير: إما مقاومة عنيفة من بعض الأوساط المتمسكة، يهودية كانت أو وثنية، وإما تحريضا من تجار المواشي المعدة للذبح في الهياكل أو من تجار الأصنام، ولكنه كان يتغلب عليها بشجاعته وصبره وإيمانه، وقدر له - في هذه الآونة - أن يكسب عددا من الرجال والنساء الأطهار الذين عملوا معه بكل غيرة ونشاط، فكانوا له شبه أركان حرب يقومون بأهم الخدمات، وبين هؤلاء تيموثاوس ومرقس ولوقا الطبيب وليدية وبريسلة.
وأثيرت قضية الاختتان مرة ثانية فعاد بولس إلى أورشليم في السنة 58 بعد الميلاد، وما إن ظهر في الهيكل حتى ثار ثائر اليهود، فأمسكوا به وجروه إلى خارج الهيكل وحاولوا قتله، ولكن الجنود تدخلوا وساقوه إلى الحبس، واتهمه اليهود بالتشويش والتفرقة بين الصفوف، فأبقاه الحاكم الروماني في السجن سنتين متتاليتين، وألح بولس بأن ترفع قضيته إلى القيصر؛ لأنه يتمتع بحقوق المواطن الروماني، فكان له ذلك وأرسل إلى رومة في السنة 61 بعد الميلاد، فأوقف في بيت بحراسة الجند، وبات ينتظر محاكمته أمام نيرون، ويرجح أنه قضى شهيدا في السنة 64 مع بطرس وغيره من ضحايا نيرون، ويعتقد البعض أنه لم يلق حتفه قبل السنة 66. وجاء في التقليد أنه أطلق سراحه - بادئ ذي بدء - وأنه بشر في إسبانية وآسية قبل أن يقتل في رومة في السنة 66. ولكنه قول ضعيف.
يوحنا
وليس بين الرسل الآخرين من نعلم عنه شيئا بقدر ما نعلم عن يوحنا، فإننا نجده حوالي السنة 67 في إفسس محبوبا محترما، ويبدأ دوميتيانوس اضطهاده فيقاسي يوحنا عذاب الزيت الحامي ويخلص بأعجوبة لينقل إلى جزيرة باتموس محكوما عليه بالأشغال الشاقة فيكتب فيها رؤيا يوحنا، ثم يطلق سراحه في عهد نرفه فينتقل إلى إفسس مبشرا بالمحبة مجددا، مؤسسا، مدونا إنجيله في السنة 90 بعد الميلاد.
مرقص وتوما وغيرهما
ومما حفظه لنا التقليد ودونه القديس يوسيبيوس في تاريخه أن مرقس الإنجيلي أسس كنيسة الإسكندرية ولقي حتفه فيها، وذلك في السنة 62 أو 68 بعد الميلاد، ومما يروى أيضا أن القديس أندراوس أسس كنيسة القسطنطينية، وأن القديس توما بشر في فارس والهند وأسس كنيسة الرها. وعلى الرغم من اجتهاد صديقنا المرحوم إغناطيوس رحماني بطريرك السريان الكاثوليك؛ فإنه لا يمكننا القول معه إن كنيسة الرها أسست في عهد السيد المسيح بناء على طلب ملكها العربي أبجر الخامس الذي اتصل بالسيد طالبا الشفاء من مرض ألم به. ومما جاء في التقليد أيضا أن القديس كوارتوس أحد التلاميذ السبعين أسس كنيسة بيروت.
ولم ترق مباحث أفلاطون كثيرا في عين اليونان ولم تعجبهم حكمة أرسطو، بل صبت عقولهم على نوع من الفلسفة يكسبهم هناء المعيشة وراحة البال، فنادى زينون الصوري بالفضيلة غاية للحياة يستوي لديها الألم واللذة، وعلم أبيقوروس أن الخير الأعظم هو اللذة، سواء أكانت عقلية أم جسدية شرط ألا تخرج عن دائرة الفضيلة. وشاعت قصة أهميروس أن آلهة اليونان كانت في الأصل ملوكا بشرا ألهوا بعد وفاتهم وصدق الناس هذه القصة، ففقدت الآلهة القديمة ما كان لها من الاحترام في عيون المتعبدين، ولم يكن محظورا على أحد أن يصرح بما كان يكنه قلبه نحو الآلهة مهما كان اعتقاده فيها.
وكان السواد الأعظم من الشعب اليوناني غير متعلم، وكان لا بد لهم من آلهة، فمالوا إلى تكريم الآلهة الشرقية، فاجتازت الديانة المسيحية من بلاد إلى بلاد في سهولة ويسر، ولم تتعرض الديانة الرومانية القديمة لمسلك الشخص أو لسيرته الخاصة، ولم تعد العباد بالسعادة المستقبلة. وانشق المجتمع الروماني - كما سبق أن أشرنا - إلى طبقتين متباغضتين: طبقة المتمولين أصحاب الأراضي الفسيحة، وطبقة الأرقاء المستعبدين والفقراء المساكين، وكثر عدد هؤلاء وساءت أحوالهم وثاروا وتمردوا، فجاءهم بولس الخيام الطرسوسي مناديا بتعاليم سيده، معلنا أبوة الله وأخوة البشر، مرددا تعاليم السيد: «تعالوا إلي يا جميع المتعبين.» فكان لكلامه أثر بليغ وفعل عظيم في قلوب الرومانيين التعابى.
الدولة الرومانية والنصرانية
وكانت الدولة الرومانية قد بسطت سلطتها على جميع أنحاء حوض البحر المتوسط وربطت أجزاء إمبراطوريتها بشبكة واسعة من الطرقات وفرضت شرائعها ولغتها، فبلغ بذلك عالم البحر المتوسط درجة من التوحيد لم يبلغها من قبل، وبهذا التوحيد سهلت رومة انتشار الدين الجديد. ولكن كبار الرومانيين لمسوا في تعاليم هذا الدين نفسه خطرا يهدد سلامة الدولة، وتفصيل هذا أن اليونانيين والرومانيين لم يفرقوا بين الوطنية والدين، فالمواطن عندهم كان مواطنا بقدر اشتراكه في التعبد لإله المدينة، وباتساع أفق المدينة السياسي اتسع كذلك أفق دينها.
فلما تم لرومة بسط سلطانها في حوض البحر المتوسط، اعتبر رجالها إلهتهم رومة إلهة الإمبراطورية بأسرها، وبهر أوغوسطوس رعايا رومة في الشرق بقوته وتدبيره وعظمته، فرأوا في شخصه مخلصا إلهيا يمنع الحروب ويوطد السلم، وهو ما تنص به جملة نقوش في نواحي متعددة من آسية الصغرى ترقى إلى القرن الأول قبل الميلاد.
وفي السنة 29 قبل الميلاد ذهب اليونان في آسية الصغرى إلى أبعد من هذا فأنشئوا هيكلا خاصا لعبادة رومة وأوغوسطوس، ورأى أوغوسطوس في هذا الأمر خيرا له ولرومة، فشجع عليه رعاياه ونقله إلى الغرب، فظهر في ليون مثلا في السنة 12 قبل الميلاد مذبح لرومة ولأوغوسطوس معا، وقام مثله في السنة 5 بعد الميلاد في مدينة كولون، ونشأت في جميع أنحاء الإمبراطورية أخويات دينية سياسية دعيت الواحدة منها أوغوسطالية، وكانت تقيم الحلقات لأوغوسطوس وتترنم به وترقص، واتخذ هو لنفسه لقب الحبر الأعظم،
13
وما كادت تنتظم أمور هذا الدين الإمبراطوري الجامع حتى أخذ رسل المسيح وتلاميذه يبشرون بإله لا إله إلا هو، تجسد وولد من مريم العذراء، وصلب وتألم ومات من أجل البشر، وقام وصعد إلى السماء ليدين الجميع، ولو حصر الرسل والتلاميذ عملهم في الأوساط اليهودية لما تنبه الرومان وتيقظوا، ولكنهم بشروا «الخليقة كلها» وحملوا رسالة السيد إلى أمهات المدن، لا بل إلى رومة نفسها، فكان لا بد من الاضطهاد.
الاضطهاد
ويجدر بالقارئ أن يذكر فيما يتعلق بالاضطهاد أربع حقائق؛ أولا: أن المؤرخين يشيرون عادة إلى عشرة اضطهادات بين السنة 64 بعد الميلاد والسنة 313 سنة البراءة. وثانيا: أن الاضطهاد أجري بموجب تشريع خاص صدر عن الإمبراطور نيرون في السنة 64 وقضى بألا يكون أحد مسيحيا،
14
وثالثا: أن الاضطهاد لم يكن دائما عاما شاملا. ورابعا: أنه لا يمكن تحديد عدد الضحايا، ويجوز القول إنهم كانوا كثرا.
وفي عهد نيرون (54-68ب.م) اتهم المسيحيون بإحراق رومة سنة 64، فكان ما كان من شتى ألوان العذاب، واستشهد الرسولان بطرس وبولس. ويرى بعضهم أن بولس قضى حوالي السنة 67. وفي أيام دوميتيانوس (81-96ب.م) على إثر ثورة اليهود حل بالمسيحيين دور آخر من العذاب؛ فاستشهد في رومة عدد من الأشراف لأول مرة، وذاق يوحنا الإنجيلي آلام الحرق بالزيت الحامي، ونفي إلى جزيرة باتموس، واستشهد تيموثاوس في آسيا الصغرى، وألقي القبض على أقارب السيد في فلسطين ثم أطلق سراحهم، وجاء دور تريانوس (98-117) فلقي أسقف أورشليم القديس سمعان حتفه مصلوبا (107)، وقضى أسقف أنطاكية إغناطيوس الشهير في رومة في السنة نفسها، وأعدم كثيرون في بيثينية ومقدونية، وكتب طيباريوس حاكم فلسطين إلى الإمبراطور يقول: إن المسيحيين في أنطاكية ازدحموا مستميتين في سبيل الرب، وفي عهد أنطونينوس (138-161)، في السنة 155 استشهد بوليكاربوس أسقف أزمير ومرقس أسقف أورشليم، وقضى في رومة حوالي السنة 165 القديس يوستينوس النابلسي الفيلسوف المعلم، وذلك في عهد مرقس أوريليوس.
واستشهد في أيام هذا الإمبراطور نفسه أيضا بوبليوس أسقف أثينة، وحكم على كثيرين بالعمل الشاق في المناجم، واهتم سبتيموس سويروس (193-211) لانتشار النصرانية في مصر، فملأ السجون بالنصارى ودفع ببعضهم إلى الجلادين في الإسكندرية، وببعض إلى الحيوانات المفترسة في مدرج قرطاجة، ولكن خلفاءه أباطرة السلالة السورية اللبنانية لم يقتفوا أثره في شيء من هذا، بل قام أحدهم سويروس ألكسندروس يحاول إنشاء هيكل لعبادة المسيح في رومة، وجاء فيليبوس العربي (244-249) يلاطف ويهادن، فحمل ذلك خلفه داسيوس (249-251) أن يكره جميع السكان في المدن والأرياف أن يمثلوا أمام رجال السلطة في وقت محدد ليقدموا الذبيحة لشخص الإمبراطور، فارتد عن الدين الجديد عدد من الأغنياء والوجهاء واستشهد في سبيله عدد كبير من المؤمنين، وبين هؤلاء أوريجانيوس اللاهوتي الفيلسوف الذي سجن في قيصرية فلسطين وعذب فيها ومات من جراحه في صور (254)، وألكسندروس أسقف أورشليم، وبابيلاس أسقف أنطاكية، ونسطوريوس أسقف مجدو.
ولاحق الإمبراطور فاليريانوس (253-260) الزعماء المسيحيين والكهنة، فأمر هؤلاء في السنة 257 أن يقدموا الذبيحة للآلهة الوثنية وحرم على المسيحيين الاجتماع في المقابر ومحلات العبادة، وأكد أنهم إن فعلوا أعدموا إعداما، فدهم القديس ترسيسيوس وجماعة من المؤمنين وهم يصلون في سرداب سلارية، فماتوا خنقا. واستشهد سيكستوس أسقف رومة وكبريانوس أسقف قرطاجة، واستشهد في فلسطين الإخوة الثلاثة، وفي قبدوقية الطفل كيريلوس، وفي الإسكندرية عدد كبير من المؤمنين.
وأعظم الاضطهادات وأفظعها ما جاء منها على يد ديوقليتيانوس الإمبراطور (284-305ب.م) ويصعب القول في حقيقة أسبابها، فلم يكن لهذا الإمبراطور شيء من شذوذ نيرون أو دوميتيانوس، ولا كان ظنونا ولا قاسيا ولا متدينا أو داعيا لدين جديد كأورليانوس. وقد انقضى على حكمه عشر سنوات قبل أن بدأ بالاضطهاد، وليس لدينا من النصوص ما نستطيع معه أن نتوسع في الاجتهاد مطمئنين، ولكن هنالك أمران لا بد من الإشارة إليها؛ أولهما: أن ديوقليتيانوس الإمبراطور أراد أن يعيد إلى الإمبراطورية وحدتها ومناعتها. والثاني: أنه كان يعاني الصعاب في وقف البرابرة عند الحدود، وفي كبت عدوه ملك ملوك الساسان، ولعله رأى في انتشار النصرانية عامل تفكك في الداخل، وخطرا على سلامة الدولة؛ وخصوصا لأن النصرانية كانت قد دخلت فارس وأن المانوية كانت تمت إليها بصلة قوية.
ولم يكن بإمكان ديوقليتيانوس أن يبيد جميع المسيحيين ويقطع دابرهم؛ لأنه لو فعل لجعل مناطق ومناطق في الشرق قفرا من السكان، فآثر - فيما يظهر - تدمير الكنيسة وإخفاء معالمها وتحقير المؤمنين والهبوط بهم إلى أسفل الطبقات. وهكذا، نراه في الرابع والعشرين من شباط سنة 303 يأمر بمنع الاجتماعات المسيحية، وبتخريب الكنائس، وحرق الكتب، وبنكران الدين المسيحي، موعدا الأشراف المسيحيين والوجوه والأعيان بالخلع والإذلال، مهددا الوضعاء بالعبودية المؤبدة.
ثم عاد في السنة نفسها فأمر بسجن الكهنة وبإعدامهم إن هم أبوا أن يشتركوا في الذبيحة الوثنية. وزاد فأمر بوجوب نكران الدين الجديد، فكانت مذابح ومذابح لم ينج منها إلا الأقاليم الغربية التي كانت آنئذ في عهدة قسطنس والد قسطنطين الكبير، ويقال إن الفضل في ذلك يعود إلى زوجته الأولى هيلانة التي كانت قد تقبلت النصرانية قبل زواجها منه.
ويقول القديس سيبيوس المعاصر: إن الرءوس بترت في العربية «البادية المتاخمة للشام»، وإن السيقان قطعت في قبدوقية، وإن المؤمنين علقوا على الأخشاب بين نهرين وأشعلت تحتهم النيران. ومما يقوله أيضا: إن عمال ديوقليتيانوس قطعوا الأنوف والآذان والألسن وغرزوا القصب تحت الأظافر ودقوا الحديد في البطون.
والثابت الراهن في عرف البشر أجمعين أن الاضطهاد يقوي النفوس ويشدد العزائم، فيثير في المؤمن صاحب العقيدة شعور التحدي، ويحمله على التفنن في أساليب الوقاية والدعاية، ويزوده بمثل عليا يفاخر بها ويسعى لتحقيقها، وليس أبلغ أثرا في تفتير الحماسة الدينية وتحويل الغيرة على الدين إلى تنازع على المراكز وإحداث الشقاق؛ من تكريس الدين سياسيا وجعله دينا رسميا.
النظام والتنظيم
وكان السيد - كما سبق أن أشرنا - قد انتقى الرسل الاثني عشر وألحق التلاميذ الاثنين والسبعين، وفي السنوات الأولى بعد وفاته تذمر اليونانيون اليهود المسيحيون من العبرانيين المسيحيين اليهود «أن أراملهم كن يغفل عنهن في الخدمة اليومية.» فدعا الرسل جمهور التلاميذ وقالوا: لا يرضي أن نترك نحن كلمة الله ونخدم موائد، فانتخبوا أنتم سبعة منكم مشهودا لهم فنقيمهم على هذه الحاجة، ففعلوا فصلى الرسل ووضعوا عليهم الأيادي، وهؤلاء هم الشمامسة،
15
ثم نقرأ في الفصل الحادي عشر والخامس عشر من أعمال الرسل عن كهنة يشرفون على الأعمال الخيرية ويجلسون مع الرسل للتشاور وحل بعض المشاكل،
16
وإذا تتبعنا بولس في رحلاته التبشيرية نجده ينتقي لكل كنيسة يؤسسها شمامسة لخدمتها ومجلس كهنة لإدارتها وقيما أعلى يمثله فيها كتيموثاوس وطيطس ولوقا وغيرهم، ونجده يبقى على صلة بهذه الكنائس جميعها يوجهها ويحل مشاكلها. وكان طبيعيا جدا أن يخلف الرسول في رئاسة كل كنيسة يؤسسها ممثله الأعلى فيها، وأن يكون لهذا الخليفة سلطة مستمدة من الرسول المؤسس. والواقع الذي تؤيده النصوص أنه منذ منتصف القرن الثاني كانت قد انتظمت كل كنيسة مهمة حول رئيس لها دعي أسقفا، وحول قسيسين وشمامسة وشماسات، ثم تعددت الكنائس فتكتلت في كل ولاية حول كنيسة عاصمتها تكتل المدن في تلك الولاية حول العاصمة، وتهيأت لأسقف كل عاصمة من عواصم الولايات زعامة على غيره من أساقفة ولايته.
وفي أغلب الأحيان نجد أساقفة الكنائس التي كانت مبعث الحركة في عهد الرسل يتقدمون على غيرهم من أساقفة الولاية أو الولايات المحيطة بهم، شأن أساقفة رومة في إيطالية، وأساقفة قرطاجة في أفريقية الشمالية، وأساقفة الإسكندرية في مصر وليبية والحبشة، وأساقفة أنطاكية في سوريا ولبنان وفلسطين وغيرها، وأساقفة كورونثوس في اليونان وما جاورها. أما في آسية الصغرى فإن كثرة الكنائس التي فاخرت بشرف الانتساب إلى الرسل قد حالت دون تزعم كنيسة واحدة على جميع الكنائس.
وكان طبيعيا أيضا أن يتقدم أسقف رومة على غيره من الأساقفة؛ لأنه كان أسقف عاصمة الإمبراطورية وخليفة الرسولين بطرس وبولس، وهو ما يجمع عليه علماء الكنيسة إجماعا، ولكن هؤلاء يختلفون في صلاحيات هذا الأسقف، فالكاثوليكيون منهم يرونه مطلق الصلاحية والسلطة، خليفة السيد على الأرض منذ أوائل تاريخ الكنيسة. ويستدلون على هذا بالآية: «أنت الصخرة»، وبأقوال الآباء الأقدمين كالقديس إقليمنذوس الروماني والقديس إغناطيوس الأنطاكي والقديس إيرينيوس اليوناني، وغيرهم. والأرثوذكسيون منهم يرون في الصخرة صخرة الإيمان ويرون في أقوال القديسين ما يوجب تقديما في الكرامة لا في السلطة، ويحتجون بورود كلمة
في هذه الأقوال عند الإشارة إلى صلاحيات أسقف رومة، وهذه الكلمة تعني: في رأيهم التصدر في المجالس لا السلطات المطلقة.
17
وقدس المسيحيون في عهدهم الأول السبت لا الأحد، ولم يصبح الأحد يوم الرب قبل القرن الثاني، وكانوا يشتركون جميعا في عشاء واحد مرة في الأسبوع أو أكثر، فيستمعون لقراءة الأسفار وينتهون بعد العشاء بقبلة المحبة «الأغبة». وكان على المؤمن أن يمتنع عن التقبيل إذا شعر باللذة، وكان على المؤمنات أن يسترن شعورهن بغطاء أو أن يقصصن شعورهن إذا استثقلن الغطاء. وكانوا إذا اجتمعوا للصلاة استمعوا لقراءة الأسفار للعظة الأسبوعية، واشتركوا في ممارسة الأسرار وتنبئوا - رجالا ونساء - وكان للكاهن أو أحد المتقدمين بينهم يفسر هذه النبوءات على ضوء الدين والخلاص.
وقبيل انتهاء القرن الثاني اتخذت العبادة المسيحية شكلا منظما، مع ما في ذلك القراءات والصلوات والذبيحة الإلهية، وبقي هذا النظام معمولا به على سبيل العرف حتى صاغه القديس باسيليوس الكبير (329-379) والقديس يوحنا الذهبي الفم (347-407)، فتبلور وأخذ شكله الحالي، وثمة خدمة خاصة بيومي الأربعاء والجمعة في أثناء الصوم يعود الفضل في إعدادها إلى القديس غريغوريوس الذيالوغوس (340-400)، ونجد المسيحيين الأولين يقولون بالأسرار الثلاثة: المعمودية والتناول والكهنوت، فالسبعة: المعمودية والمسحة والتناول والتوبة والكهنوت والزيجة والزيت المقدس، وعني المسيحيون الأولون بالموتى لأنهم قالوا بقيامة الجسد، فمارسوا طقوسا معينة لهذه الغاية، وتولى الإكليروس الدفن بإشراف منهم.
ولا يختلف اثنان - فيما نعلم - أن المسيحيين الأولين كانوا مثال التقوى والصلاح، وأن الإيمان بالمسيح، وبقرب عودته ليدين الأحياء والأموات كان أعمق أثرا في نفوس أهل ذلك العصر من الإيمان بالآلهة القديمة، وأن الرسل بلغوا النجاح حيث أخفق كبار الفلاسفة. ومما يجدر ذكره بهذه المناسبة أن الآباء المؤسسين حرموا الإجهاض وقتل الأطفال، وأنهم لموا اللقطاء وعمدوهم باسم الرب وربوهم على نفقة الكنيسة، وأنهم حضوا المؤمنين على العفة والبتولية وأساغوا الزواج لمن خشي العنت فقط. وأنهم لم يرضوا عن زواج الأرامل ولم يأذنوا بالطلاق إلا بين الوثني والنصرانية.
ومما يثبت استقامة المسيحيين الأولين وصلاحهم شهادات الوثنيين أنفسهم: فبلينيوس الأصغر وجد نفسه مضطرا أن يقول للإمبراطور تريانوس: إن المسيحيين عاشوا عيشة مثلية مسالمة، وقال غاليانوس العالم : إنهم توصلوا إلى درجة من ضبط النفس وسمو الأخلاق أصبحوا بعدها لا يقلون عن الفلاسفة الحقيقيين في شيء ، وأدى الشعور بينهم بالخطيئة وبقرب انتهاء العالم ومجيء الديان؛ إلى رغبة في الطهارة وإلى اجتناب كل لذة من لذات الجسد، فكبحوا شهواتهم بالصوم ورياضة الجسم على العذاب، وصدفوا عن الموسيقى والمآكل الشهية والحمامات الساخنة، وأرسلوا الشعور واللحى.
آثار المسيحيين الأولين
وحدث السيد ولم يدون، وآثر المسيحيون الأولون السماع على القراءة، ولا عجب، بيد أن ظروف التبشير قضت بالتدوين، فالمؤمنون تفرقوا منذ السنين الأولى وتباعدوا، واليونانيون وغيرهم ممن دخل في الدين الجديد لم يكونوا يفهمون الآرامية؛ فكان لا بد من التدوين، وأقدم ما دون إنجيل متى، والإنجيل لفظ يوناني معناه البشرى، ومتى عشار يهودي تبع السيد وأصبح أحد الرسل الاثني عشر، ويستدل من أقوال بعض الآباء كإيريناوس ولا سيما بابياس (130) أن متى تولى تبشير اليهود، فكتب إنجيله لهم بالآرامية، وذلك بينما كان بطرس وبولس يعملان في رومة (50-55)، وفي تضاعيف هذا الإنجيل ما يدل على أنه كتب لليهود، فهناك سند طويل يصل نسب السيد بداود الملك، وثمة تفاصيل تجعل من سيرة السيد تكملة لنبوءات التوراة وما إلى ذلك، وقد ضاع الأصل الآرامي وبقيت ترجمته إلى اليونانية.
وكان بطرس يجهل اليونانية ولا يعرف سوى الآرامية، فلما قضت الظروف بذهابه إلى رومة وبإقامته فيها، استدعى إليه يوحنا الذي كان يدعي مرقس ليترجم له بين الرومانيين وسكان رومة، ومرقس هذا هو - في الأرجح - ابن مريم التي آوت المسيحيين في بيتها في القدس في السنة 44 بعد الميلاد، وقد يكون هو الذي أشير إليه في الإصحاح الخامس عشر من إنجيل مرقس: «وتبعه شاب لابسا إزارا على عريه فأمسكه الشبان، فترك الإزار وهرب منهم عريان.»
وكان مرقس من يهود قبرص يتكلم اليونانية ويقرأ ويكتب فالتحق ببرنابا وبولس، وبعد وفاة الأول انتقل إلى رومة ليعمل مع هامة الرسل، ودون سيرة السيد بطلب من أهل رومة بين السنة 55 والسنة 60 وذلك كما سمعها من فم بطرس بدون زيادة ولا نقصان، ويقول القديس بابياس إن مرقس كتب جميع ما تذكره، ولكن ليس بالترتيب الذي اتبعه السيد في أعماله وأقواله، فبطرس الرسول تكلم بحسب ما دعت إليه الحاجة ودونما تقيد بتسلسل الأحداث.
وفي السنة 64 بعد الميلاد ساد الأوساط المسيحية الموجهة شعور بالحاجة إلى سيرة مرتبة منظمة، مكتوبة بلغة واضحة مضبوطة، وبأسلوب رائق جذاب، يستهوي العقول، وينشط الهمم، وكان بينهم رجل عالم ولد في أنطاكية، ونشأ فيها، وتعلم الطب وعمل به، فأشاروا عليه بالأمر، فاطلع على ما كتبه متى ومرقس، وسمع وتحرى، ولعله اتصل بالسيدة نفسها وأخذ عنها، وكان قد رافق بولس في رحلاته وفهم منه أشياء وأشياء، فجاء إنجليه تاريخا رسميا، وأثرا أدبيا، هو لوقا الطبيب الذي أشار إليه بولس في رسائله مرارا، وكان قد جاء رومة بصحبة معلمه فرأى هذا أن توجه الكلمة إلى الأوساط العالية في رومة وأن تحبب إليها، فظهر هذا الإنجيل بحلته القشيبة بين السنة 64 والسنة 70 بعد الميلاد.
ومن هنا - في الأرجح - قول القديس إيريناوس: إن إنجيل لوقا هو إنجيل بولس، ويرى رجال الاختصاص علاقة وثيقة بين هذا الإنجيل وبين سفر أعمال الرسل من حيث جوهر الرسالة واللغة والأسلوب، فينسبون سفر الأعمال أيضا إلى لوقا الطبيب، ولما كانت أخباره تنتهي عند السنة 63 إلى 64 فإنهم يرون أنه كتب في هذا الوقت نفسه.
ومن آثار هؤلاء المسيحيين الأولين رسائل بولس الرسول إلى أهل رومية وكورنثوس وغلاطية وإفسس وفيليبي وكولوسي وثيسالونيكية، ثم رسائله إلى تيموثاوس وتيطس وفيليمون، وجميعها دون ما بين السنة 52 والسنة 66 بعد الميلاد، وفيها الشيء الكثير من شرح رسالة السيد وتفصيل العقيدة، فأما الرسالة إلى العبرانيين فقد تكون له وقد لا تكون، ومن هذه الآثار التي تركها المسيحيون الأولون رسالة يعقوب أخي الرب وأسقف أورشليم، وهي تصور شدة إيمانه وسمو أخلاقه، ورسالتا بطرس الأولى والثانية، ورسائل يوحنا الرسول الثلاث، ورسالة يهوذا.
ويجمع علماء الكنيسة بفرعيها الرئيسيين الأرثوذكسي والكاثوليكي على أن الإنجيل الرابع هو ليوحنا الحبيب، ويرون في دقة المعلومات الجغرافية التي وردت في هذا الإنجيل عن القدس وفلسطين كما يرون في شدة العاطفة التي تضمنها نحو شخص السيد؛ ما يؤيد التقليد الموروث أن كاتب هذا الإنجيل وسفر الرؤيا هو يوحنا الحبيب نفسه، كتب سفر الرؤيا في أثناء إقامته الجبرية في جزيرة باتموس بين السنة 92 والسنة 96، وكتب الإنجيل بعد انتقاله إلى إفسس بين السنة 96 والسنة 104، وكان يوحنا قد أشرف على نهاية عمر طويل، وسمع انتقادات الفلاسفة، ولمس بعض الشذوذ في العقيدة، فجاءت كتابته فلسفية مسيحية دون فيها ذكريات شخصية صدر فيها عن حب خالص للسيد. وما زالت عباراته المملوءة حبا وعطفا تهز القارئ حتى يومنا هذا، «وهو أيضا الذي اتكأ على صدر السيد وقت العشاء وقال: يا سيد من هو الذي يسلمك؟» وهو أيضا ذاك الذي قال عنه يسوع مخاطبا بطرس: «إن كنت أشاء أنه يبقى حتى أجيء فماذا بك؟»
هذا وليس لدينا من آثار هؤلاء المسيحيين الأولين أثر مادي سوى ما حفظته جدران مدافن رومة من صور الصلبان والحمام وجذوع النخل وغصون الزيتون والأسماك وجميعها يعود إلى القرن الثاني، وليس بينها ما يستوجب الإيضاح سوى السمكة، وهذه كانت تذكر في الأوساط المسيحية الأولى بالآية: «يسوع المسيح ابن الله المخلص.» وتفسير هذا مرده إلى العبارة اليونانية:
Iesous Christos Theou Uios Soter
فمجموع الحروف الأولى من هذه الكلمات اليونانية يشكل اللفظ اليوناني
i-ch-th-u-s
ومعناه السمكة.
الفصل الثالث
الدولة الساسانية
224-302ب.م
تمهيد
ونظرا لترامي أطراف المملكة السلوقية من الهند إلى سواحل بحر إيجه؛ صعب ضبط شئونها، فنهضت ولايتها النائية وأعلنت استقلالها، فاستقلت الهند أولا بزعامة تشندرا غوبته في السنة 317 قبل الميلاد؛ أي بعد الفتح الإسكندري بعشر سنوات فقط، ثم استقلت فارس وما يليها بزعامة الأمير الفرتي السكيثي أرساس الأول في السنة 255 قبل الميلاد. ولا نعلم الشيء الكثير عن هذه الدولة الفرتية؛ إذ تكاد مراجعنا الأولية تنحصر في ما تبقى من نقود ملوكها، وأحدث ما وصل إليه رجال الاختصاص هو أن هؤلاء الفرت كانوا إيرانيين كسائر العناصر الإيرانية لا يختلفون عنها بشيء إلا ببداوتهم وفروسيتهم وشجاعتهم المتناهية في الحرب، وماشى ملوك الفرت غيرهم من ملوك عصرهم في تقبل المدنية الهلينية، فتكنوا بالألقاب اليونانية واستعملوا اللغة اليونانية في سك نقودهم، فوصف مثراداتوس الأول وبعض خلفائه أنفسهم بالألقاب نفسها التي تلقب بها زملاؤهم ومعاصروهم في أنطاكية والإسكندرية،
1
وهنا تجب الملاحظة أن الشعب والحكومة تكلموا البهلوية وكتبوا بها وبالآرامية، وامتدت سلطة ملوك الفرت من الفرات حتى الهند ومن بحر قزوين حتى المحيط الهندي، وأشهر ملوك الفرت أرساس الأول (255-247ق.م) وأرساس الثاني والثالث (247-196ق.م) ومثراداتوس الأول (174-136ق.م) وخسرو أو أرساس الخامس والعشرون (107-121ب.م) وآخرهم أرتبان الخامس أو أرساس الثلاثون (215-226ب.م).
قيام الدولة الساسانية
وكان نظام الحكم في الدولة الفرتية إقطاعيا في أسسه يرتكز على زعامة بعض الأسر وعلى عبودية الشعب، وكان بين هذه الأسر بنو دارياف أو أرتخشطر الذين حكموا مقاطعة فارس من إصطخر،
2
وكانوا محافظين، مستمسكين بتقاليد فارس القديمة، مؤثرين لغتها واللغة الآرامية على اليونانية - كما يستدل على ذلك من نقودهم - وفي السنة 212 بعد الميلاد قام بابهاغ، أحد أشراف هذه المقاطعة، بثورة محلية أوصلته إلى الحكم فيها، وقام ابنه أردشير في السنة 224 بعد الميلاد بثورة كبرى، وواقع أرتبان الخامس آخر ملوك الفرت في الثامن والعشرين من نيسان من تلك السنة نفسها في هورميزداغان، فتغلب عليه ودخل طيسفون عاصمة ملكه منتصرا، ولم يمض وقت طويل حتى دانت له مقاطعات الفرت جميعها: ميدية وسيستانة وخراسان ومرجيانة وأرية. واعترف بسيادته الكوشان في أفغانستان والبونجاب، فأسس بذلك الدولة الساسانية نسبة إلى ساسان أحد الأجداد واتخذ لنفسه لقب شاهنشاه، وتعريبه ملك الملوك، وكان يدعى بالآرامية ملكان ملكه، ولا تزال النقوش القائمة بالقرب من إصطخر، كنقش رجب ونقش رستم، تظهر لنا أردشير المؤسس يتسلم سلطته من أكبر الآلهة أهورا مزدة، ولا نزال نقرأ على نقوده الباقية هذه العبارة: «خادم مزدة.»
وهكذا تميزت الدولة الساسانية الجديدة منذ بداية عهدها بتمسكها بالدين القومي وتعاونها مع رجاله، والدين القومي هذا هو دين مزدة أو زورواستر «زرادشت» قال بنزاع دائم بني الخير والشر، وبوجود فئة من الكائنات الصالحة تقاومها فئة أخرى من الكائنات الشريرة؛ لتفسد عليها عملها. ومثل الخير في هذا الدين شخص إلهي مزدة أو أهرومزدة ومعناه: رب الحكمة، وكان يحيط به ملائكة أعظمهم النور مثراس. ومثل الشر فيه أهريمان الشيطان، وكان على كل إنسان أن يختار أحد أمرين: إما أن يملأ نفسه من الصلاح والنور، أو أن يقيم في الشر والظلام، وأي الأمرين اختار فقد كان لا بد له من دينونة في المستقبل، وزورواستر مؤسس هذا الدين عاش حوالي السنة ألف قبل الميلاد وطاف يبشر الشعب الإيراني بديانته أعواما عدة، وحافظ على احترام النار الآرية كرمز محسوس للصلاح والنور، وأوصى بالمحافظة على إيقادها بحيث لا تنطفئ.
وانتظمت أمور كهنة مزدة في عهد الدولة الساسانية، فكان بينهم الكاهن العادي «ألموغان»، وكان على عدد من هؤلاء في كل مقاطعة رئيس دعي «موباذ»، وكان على كل هؤلاء - بدورهم - رئيس أعلى أطلق عليه لقب «موباذان موباذ»، وكان بين أعمال أردشير الأول مؤسس الدولة أن نقح كتاب الحكمة الإلهية «الفيستة» (الزند)، وجمع ابنه وخلفه شابور الأول مجمعا دينيا نقح الشرائع الدينية وأقرها، وأوجب العمل بها، وكان القول المأثور بين رجال الفرس آنئذ: إن الدولة والكنيسة شقيقتان لا تنفصلان، فلا دولة بدون كنيسة ولا كنيسة بدون دولة. وأصبح واجبا لازما على الشاه أن يتسلم تاجه من يد زميله الكبير رئيس كنيسة الدولة الموباذان مباذ.
وعظمت شوكة الشاه الساساني ففاقت سلطة زميله الأرساسي، وبقي النظام الإقطاعي سائدا في البلاد، وبقي النفوذ الأعلى في يد سبع عائلات إقطاعية من الأشراف كما كان الأمر في عهد الأرساسيين، ولكن هذا النفوذ وذاك الإقطاع أصبحا خاضعين خضوعا تاما لمشيئة الشاه، وضبطت إدارة الولايات وأصبح حكامها المرازبة خاضعين لتفتيش متصل من قبل الحكومة المركزية، وكان يجب على الشاه الساساني الإيراني النزعة؛ أن يحكم بلاده من إصطخر المدينة الإيرانية، ولكن علاقاته السياسية قضت عليه باتخاذ نقطة أقرب إلى حدوده الغربية، فعاد إلى طيسفون العاصمة الأرساسية، وجعلها مقرا له وقاعدة لحكمه.
وادعى أردشير مؤسس الدولة أنه متحدر من هكافيش صدر الأسرة المالكة الأولى وجد قورش الأول، وزعم أن له حقا في حكم جميع آسية الغربية ومصر؛ لأنها خضعت جميعها لقورش وخلفائه، ولا نزال نقرأ - حتى ساعتنا هذه - في الكارنامه البهلوية والشاهنامه الفردوسية؛ أن الساسانيين أحفاد لداريوس، فلا غرو إذا رأينا هؤلاء يحاربون رومة وريثة الإسكندر وخلفاءه ليسترجعوا ما اغتصب منهم اغتصابا.
وعني الساسانيون بالخيل عناية فائقة جاءت في طبيعة الأمور؛ لأن أواسط آسية موطن الخيل وبلاد الدروع والنصال، وأصبح جيشهم جيش خيالة في قلبه وجناحيه، ولم يدربوا المشاة ولا نظموهم ولا سلحوهم بأكثر من ترس من الجلد. وكان تكتيكهم - في غالب الأحيان - يقوم على حشد خيالة القلب حشدا متراصا بقوة، وعلى دفع هذا الحشد في هجوم متراص خاطف، غايته غمر مراكز العدو منذ اللحظة الأولى، وكانوا يحتاطون دائما بحفظ قوة من الفيلة في ساقة الجيش يدفعون بها إلى نقاط معينة في الجبهة عند الحاجة.
وكان الفارس الساساني يرتدي درعا من الحديد أو البرونز تغطي جسمه بكامله، ويلبس حصانه مثل هذه الدرع (التجافيف)، أما تركيب هذه الدروع فمن قطع مستطيلة من الفولاذ أو البرونز طول الواحدة منها عشرون سنتيمترا وعرضها خمسة، ويعلو هذه الدروع عند العنق زيق من الحديد أو البرونز يغطي العنق والرأس، ثم تعلو هذه كلها خوذة من الحديد مزينة بأوشحة من الحرير الملون. وكان الفارس الساساني يستعين بقناة طولها متران وسيف طويل وقوس ونشاب وفأس فولاذية، يعلقها في طرف خوذته إلى وراء.
وتدل بقايا بعض هؤلاء الفرسان في الصالحية عند الفرات أن حمائلهم كانت مرصعة باليشب الصيني، وكان القائد الساساني قبيل بدء القتال يذهب إلى أقرب ماء فيسكب فوقه قليلا مما يحمل من الماء المقدس ثم يرمي النبلة المباركة، وعلى الأثر يصف جيشه للقتال ويأمر بالنفخ في الناي الفارسي والمناداة بالعبارة البهلوية «مرد ومرد»، ومعناها «رجل لرجل»، وكان يتكرر هذا القتال الفردي قبل التحام الجيشين، وكان الجيش يسمى جندا، كل جند يتألف من عدد من الدرفشات، والدرفشة من عدد من الفشتات، وكان على رأس كل جند، جند سالار.
وقدر لشابور الأول (241-272) ابن أردشير الأول أن ينتصر على رومة أكثر من مرة، ففي السنة 253 بعد الميلاد طرد تيريداتس الثاني، ملك أرمينية وعميل رومة، من بلاده، وأقام محله أميرا خاضعا لسيادة فارس، ثم كسر فاليريانوس الإمبراطور في السنة 260 عند الرها وأسره، ثم تابع الفتح فدخل أنطاكية وطرسوس وقيصرية قبدوقية، ولكنه لم ينج من ضربة مؤلمة سددها إليه أمير تدمر العربي أذينة بن حيران. أما فاليريانوس الذي أسره شابور عند الرها، فقد لقي حتفه أسيرا عند الفرس، وقام من أسر معه من الجنود بأعمال عمرانية في فارس أشهرها جسر جند شابور، وظهر ماني ودعوته، وكثر أتباعه، فشغل شابور وبعض خلفائه عن محاربة رومة، وانهمكت رومة في متاعب أخرى كما أوضحنا، فبقي الفرات ردحا من الزمن وهو الحد الفاصل بين الدولتين.
ماني ودينه الجديد
هو ماني بن بابك، ولد في «ماردين من أعمال بابل» في السنة 215 بعد الميلاد، وتلقى وحيا لأول مرة في الثالثة عشرة من عمره، ثم في الخامسة والعشرين؛ أي السنة 240 بعد الميلاد، وعلم وبشر في طيسفون أولا، وخص شابور بإحدى رسائله الأولى، وقال بسببين أصليين: النور والظلام، وبظروف ثلاثة: الماضي والحاضر والمستقبل، والنور والظلام عند ماني كائنان مستقلان منفصلان منذ الأزل، ولكن الظلام غزا النور في الماضي وأصبح بعض النور ممتزجا بالظلام، وهذه هي حالة عالمنا في الحاضر، ثم يخلص ماني إلى القول أن لا بد من تنقية النور من هذا الظلام؛ كي يعود النور والظلام إلى الانفصال التام كما بدآ، والله هو سيد عالم النور والشيطان سيد عالم الظلام، وعندما غزا الظلام النور لم يستطع سيد النور أن يستعين بالغرانيق الخمسة: الفهم والعقل والفكر والتفكر والإرادة؛ لأن هذا الغزو كان مفاجئا لها، فذعرت واضطربت.
فخلق سيد النور أم الحياة التي ولدت الإنسان وسلحه بالعناصر الخمسة: النور والرياح والنار والماء والهواء، ليستعين بها في محاربة الظلام، هذا بعض ما قاله ماني عن الماضي، فأما في الحاضر فإن قوى النور - بحسب عقيدته - قد أرسلت النبيين بوذا وزورواستر، ثم يسوع وهو أهم الجميع، والعالم عنده ينتهي في المستقبل بثوران هائل وسقوط عظيم ، فيصعد الصالحون في الفضاء أعلى، والأشرار يهبطون إلى ظلام دائم، ويرى رجال الاختصاص الذين وفقوا إلى درس ما بقي من رسائل ماني في تركستان وفي كتاب الفهرست لابن النديم وفي أوراق البردي في مصر، أن المانوية تفرعت عن المسيحية لا الوثنية؛ وخصوصا لأن ماني اعترف بصحة الأناجيل الأربعة ورسائل بولس الرسول، وقال إنه البارقليس المنتظر.
وانتظم المانويون في «كنيسة» واحدة مؤلفة من طبقتين: المنتقين المصطفين والمستمعين، وكان على رأسها - بادئ ذي بدء - رسل اثنا عشر، ثم تلاميذ ستون ثم أساقفة وكهنة وشمامسة ورهبان، وكانوا يجتمعون في كل أحد للصلاة والترتيل وقراءة الأسفار، وقد انتشرت تعاليم ماني في بابل أولا ثم في سورية وفلسطين والعربية ومصر وأفريقية الشمالية، وكان بين الذين آمنوا بها القديس أوغوسطينوس الشهير، فإنه واظب على درسها والعمل بها تسع سنوات متواليات، وانتشرت المانوية في فارس وأواسط آسيا، وسكت عنها شابور الأول؛ لرحابة صدره واتساع أفقه، ولكن كهنة مزدة قاوموا هذه التعاليم مقاومة شديدة، فاضطر ماني أن يغادر فارس إلى الكشمير فتركستان فالصين.
وتوفي شابور الأول في السنة 272 وتوفي ابنه وخلفه هورمزد الأول في السنة 273، وتولى العرش بعدهما بهرام الأول، فظن المانويون أن سيتاح لمعلمهم أن يعود إلى وطنه ويعيش بأمان وحرية، ولكنه اعتقل وحوكم وصلب وسلخ جلده وحشي قشا في السنة 275 بعد الميلاد.
بهرام الثاني (276-293ب.م)
وأهم أخباره أنه كان شجاعا نشيطا، فحارب رومة في عهد كاروس الإمبراطور ولكنه غلب على أمره فتراجع أمام الرومان حتى طيسفون، وتوفي كاروس فجأة، فتقهقر الرومان بدورهم، ولكن بهرام لم يستطع استغلال الموقف؛ لاندلاع ثورة في ولاياته الشرقية أشعلها أخوه هورمزد؛ فصالح الرومان في السنة 283 على أن يستولوا على أرمينية وما بين النهرين، وهب إلى خراسان ينازل أخاه فأخضعه وعين ابنه ولي عهده بهرام واليا محله ومنحه لقب «ساغان شاه»، وكانت قد جرت العادة - فيما يظهر - أن يلقب ولي العهد ملكا على آخر ما افتتح من الممالك أو على أهم الولايات.
بهرام الثالث ونرسي الأول (293-302ب.م)
وتولى العرش بعد بهرام الثاني ابنه بهرام الثالث، لم يطل ملكه - فيما يظهر - أكثر من أربعة أشهر، فإن نرسي عمه الأكبر وابن جده شابور الأول اغتصب الملك اغتصابا، ودخل نرسي في حرب ضد رومة فاحتل أرمينية وتوغل في سورية الشمالية، ولكن ديوقليتيانوس الإمبراطور أمد غلاريوس القيصر بالسلاح والرجال، فانتصر على نرسي انتصارا باهرا في أرمينية وأسر حرم الشاه وأولاده، ثم تابع الزحف حتى استولى على طيسفون العاصمة في السنة 296 بعد الميلاد، وأرسل نرسي معتمدا من قبله أبهربان يفاوض الرومانيين في أنطاكية، وأرسل ديوقليتيانوس السكرتير الإمبراطوري سيقوريوس بروبوس
3
يفاوض ويوقع، فتم الاتفاق على الاعتراف بسلطة الشاه في ما بين النهرين وبحماية رومة على أرمينية، وجعلت نصيبين مركزا للعلاقات التجارية بين الإمبراطوريتين.
الباب الثاني
أصل الدولة ومنشأها
الفصل الرابع
قسطنطين الكبير والقسطنطينية
قسطنطين الأول الكبير
هو قسطنطين بن قسطنديوس كلوروس
Constantius Chlorus
من زوجته هيلانة، ولد في نيش من أعمال يوغوسلافية حوالي السنة 280 بعد الميلاد، وقد اختلف في أصل والدته، فهي إما أناضولية بلقانية في بعض المصادر، أو سورية رهوية في البعض الآخر.
نشأ قسطنطين في نيقوميذية في حاشية الإمبراطور ديوقليتيانوس، والتحق بالجيش في الخامسة عشرة من عمره، وأظهر شجاعة وبأسا وحنكة ودراية، فرقي إلى رتبة قائد في الثامنة عشرة، وكان أن استقال ديوقليتيانوس وتولى غلاريوس مكانه، ففصل قسطنطين عن الجيش وأبقاه في معيته لتعلق الجند به واستبسالهم في سبيله، ولتخوفه مما قد ينتج عن هذه السيطرة على الجند. ويروى أن غلاريوس حاول إهلاك قسطنطين، فأمره بمصارعة أسد مرة، وجبار من السرامتة مرة أخرى، ولكن قسطنطين نجا من المحنتين، ثم استدعاه والده قسطنديوس قيصر فالتحق به، وكان قد تولى الحكم في غالية وإسبانية وبريطانية.
وكان قسطنطين طويل القامة ضخم الجثة، ممتلئ البدن سمين الأطراف، كبير العينين عابسا مقطبا، ثابت العقد ماضي العزيمة، ولكنه كان في الوقت نفسه سهل الانقياد كثير التخلي، وكان واسع الخلق رحب الصدر حليم الطبع، ولكنه يجمع إلى ذلك سرعة البادرة وشدة الغضب، وجاء أيضا أنه كان متواضع النفس وشديد الكبرياء في آن معا .
أخباره الأولى
وأراد ديوقليتيانوس الإمبراطور أن يجعل جلوس الإمبراطور أمرا مدنيا لا علاقة له بالجيش، فجعل للدولة الرومانية إمبراطورين وجعل لكل منهما قيصرا يعاونه في الحكم ويحل محله عند الوفاة أو اعتزال الوظيفة، وطبق هذا النظام الجديد، فجعل مكسيميانوس إمبراطورا يشاطره الحكم، وحكم هو الشرق متخذا نيقوميذية قاعدة له، وحكم مكسيميانوس الغرب وجعل قاعدته ميلان، ثم نصب غلاريوس قيصرا يحكم إيليرية واليونان ومقدونية، وأقام قسطنديوس كلوروس أبا قسطنطين قيصرا حاكما على غالية وإسبانية وبريطانية، فلما استقال الإمبراطوران ديوقليتيانوس ومكسيميانوس في السنة 305، تولى الحكم بعدهما - بموجب النظام الجديد - كل من: غلاريوس في الشرق وقسطنديوس في الغرب، وعين الإمبراطوران الجديدان قيصرين جديدين: سويروس على إيطالية وأفريقية، ومكسيميانوس على سورية ومصر.
ثم توفي قسطنديوس الإمبراطور الغربي في السنة 306 في يورك من أعمال بريطانية، فعبث ابنه قسطنطين بالنظام الجديد، وأعلن نفسه قيصرا على غالية وإسبانية وبريطانية، ولم يرض الحرس في رومة عن غلاريوس فنادوا بمكسنتيوس بن مكسيميانوس إمبراطورا، وعادت شهوة الحكم إلى قلب مكسيميانوس الوالد المستقيل، فأعلن نفسه إمبراطورا أيضا، وأصبح للدولة الرومانية أباطرة ثلاثة وقياصرة ثلاثة، وثار جنود سويروس عليه فقتلوه، فعين غلاريوس قيصرا جديدا محله يدعى ليكينيوس، وقبض على مكسيميانوس في مرسيلية في السنة 310 فقتل بأمر قسطنطين في السنة 311، وتوفي غلاريوس في هذه السنة نفسها من مرض ألم به، ثم زحف قسطنطين على إيطالية وقهر مكسنتيوس في تورينو في السنة 312، فارتد هذا إلى رومة، فلحق به قسطنطين ودحره مرة ثانية في ساكسة روبرة عند الصخور الحمراء،
1
وغرق مكسنتيوس في نهر التيبر، فلم يبق في الميدان سوى قسطنطين وليكينيوس، فحكم الأول الغرب وحكم الثاني الشرق، ثم شجر الخلاف بينهما في السنة 314 فاضطر ليكينيوس أن يتنازل عن إيليرية ومقدونية وآخية لقسطنطين، واستأنف الإمبراطوران القتال في السنة 323 فانكسر ليكينيوس في أدريانوبل وخلقيدونية واستسلم في نيقوميذية، فأمر قسطنطين بقتله، فقتل في السنة 324، وهكذا أصبح قسطنطين حاكم الإمبراطورية الفرد.
موقفه من النصرانية
والشائع الذي دونه المعاصرون
2
هو أن قسطنطين في شفق ليلة من ليالي حربه ضد مكسنتيوس في خريف السنة 312، شاهد فوق قرص الشمس الجانحة إلى المغيب صليبا من نور مكتوبا عليه: «بهذا تغلب»،
3
وأن السيد ظهر له في أثناء تلك الليلة حاملا هذه الشارة نفسها موصيا إياه باتخاذها راية يهجم بها على العدو، وتنص هذه المصادر أيضا على أن قسطنطين استدعى أركانه عند فجر اليوم التالي، وقص عليهم ما رأى وأمر باتخاذ الصليب شعارا، وراية قسطنطين هذه
4
التي أصبحت فيما بعد راية دولة الروم، كانت تتألف من صليب تنسدل من عارضته الأفقية قطعة من الحرير المزركش بالذهب المرصع بالحجارة الكريمة تحمل صورة قسطنطين وولديه، ويعلو الصورة إكليل من ذهب في وسطه مونوغرام السيد المسيح.
ومما جاء في المصادر المتأخرة أن قسطنطين تقبل سر المعمودية بعد انتصاره على مكسنتيوس في السنة 312 نفسها، ويرى العالم الإفرنسي جول موريس الاختصاصي في المسكوكات البيزنطية القديمة، أن لا بد لقسطنطين أن يكون قد تعمد آنئذ لظهور مونوغرام السيد المسيح على مسكوكاته ولاهتمامه وعنايته بالنصارى بعد ذلك، ولأسباب أخرى لا مجال لذكرها هنا فلتراجع في مظانها،
5
ويرى غير هذا العالم من رجال الاختصاص أيضا أن دليله ضعيف، وأن المراجع الأولية قليلة غامضة، وأن قسطنطين بقي وثنيا طوال حياته وأنه لم يتقبل النصرانية إلا على فراش الموت.
6
براءة ميلان
وسواء تقبل قسطنطين المعمودية فور انتصاره على خصمه في رومة في السنة 312 أم على فراش موته؛ فإنه ما كاد يرتب أمور رومة حتى انتقل إلى ميلان في مطلع السنة 313؛ ليجتمع بزميله ليكينيوس، وكان هذا قادما إلى ميلان ليتزوج من قسطندية
Constantia
أخت قسطنطين، وبقي الإمبراطوران شهرين كاملين يشتركان في ميلان في أفراح العرس ويتشاوران في أمور الدولة.
وكان غلاريوس الإمبراطور قد أصدر قبيل وفاته في السنة 311 براءة صفح فيها عما سلف للمسيحيين من مخالفات لأوامر الدولة، وأقر حقهم الشرعي في ممارسة دينهم: «وللمسيحيين أن يستمروا في الوجود، وأن ينظموا اجتماعاتهم، شرط ألا يخلوا بالنظام، وعليهم - بناء على تسامحنا وتعطفنا - أن يصلوا إلى إلههم ليسعد ظروفنا وظروف الدولة وظروفهم.»
7
ورأى الإمبراطوران المجتمعان أن يشددا في تنفيذ هذه البراءة، فكتب كل منهما إلى عماله بوجوب السهر على التنفيذ، ولدى عودة ليكينيوس إلى نيقوميذية، كتب إلى حاكمها في الثالث عشر من حزيران سنة 312 أن يبيح للمسيحيين - ولغيرهم أيضا - العبادة كما يشاءون؛ وذلك ليصبح كل إنسان حرا في أمر عبادته،
8
ورد للمسيحيين الأبنية والكنائس التي كانت قد صودرت من قبل، وفي خريف السنة 315 أحيا قسطنطين أوامر أسلافه الأباطرة، فحرم التبشير باليهودية والدعاية لها،
9
ثم بعد سنة وجد نفسه في ميلان مرة أخرى؛ لينظر - هذه المرة - في أمر الدوناتيين فيحكم عليهم، وفي أول آذار من السنة 317 نلقاه في سرميوم في إيليرية يعلن ابنيه كريسبوس وقسطنطين الأصغر قيصرين، وذلك في الوقت نفسه الذي أعلن فيه زميله ليكينيوس ابنه ليكينيانوس قيصرا أيضا، ونراه يتقبل - بهذه المناسبة - الحرفين اليونانيين «خي» و«أيوته» فيأمر بنقشهما على خوذته في النقود الصادرة عنه، وهذان الحرفان هما مونوغرام السيد المسيح باليونانية، وفي السنة 326 بعد تغلبه على زميله ليكينيوس، نراه يتخذ لنفسه علم اللباروم الشهير المشار إليه آنفا، فيظهر على رأس هذا العلم المونوغرام المسيحي المذكور.
مجمع نيقية
وعلى الرغم من هذا كله استمرت سياسة الدولة الرومانية الدينية، هي نفسها التي أقرت في ميلان سنة 312 سياسة تسامح وتساو بين جميع الأديان، واستمر الإمبراطور قسطنطين حبر الدولة الأعظم يرعى جميع الأديان بالتساوي والتسامح، وهكذا نراه يعلن لجميع الرعايا بعد انتصاره على خصمه ليكينيوس أنه وإن يكن قد انتصر بمعونة إله المسيحيين، فإنه لا يكره أحدا أن يذهب مذهبه، وأن لكل من رعاياه أن يتبع الرأي الذي يراه.
10
واختلف الأحبار المسيحيون في هذه الآونة واختصموا، واتصل خلافهم بالقساوسة والرهبان والأفراد، فاضطر قسطنطين الكبير أن يتدخل في الأمر؛ لأنه كان حبر الدولة الأعظم ورأسها فمن واجبه أن يحافظ على الأمن وحرية العبادة. ثم إنه كان يعطف على النصرانية ويعترف بفضل إله النصارى - كما أشرنا - وكان قد سبق له مثل هذا عند ظهور الدوناتية في أفريقية، ولكن الانشقاق الذي أدى إلى تدخله الشخصي هذه المرة كان أشد خطرا بما لا يقاس مما حدث في ولاية أفريقية، فإنه حادث هدد السلم في الولايات الشرقية.
وتفصيل الأمر أن آريوس
Arius
أحد قساوسة مصر وراعي كنيسة بوكاليس فيها، قال بخلق الابن وخلق الروح القدس، فأنكر بذلك ألوهية المسيح، وأثار عاصفة هوجاء من الانتقاد والاحتجاج شملت العالم المسيحي بكامله. ولسنا نعلم الشيء الكثير عن آريوس هذا. نجهل محل ولادته وتاريخها، كما نجهل تفاصيل فلسفته الدينية، وقد ضاعت رسائله ولم يبق منها إلا مقتطفات يسيرة جاءت في بعض الردود عليه، ولا سيما ما كتبه القديس أثناسيوس الكبير، ولولا تعلق المؤرخ يوسيبيوس به لما حفظت رسائل قسطنطين عنه. وقد يكون لما أورده القديس أمبروسيوس أهمية خاصة لأنه اطلع - فيما يظهر - على تقارير الأسقف هوسيوس الذي انتدب للتحقيق في قضية آريوس قبيل انعقاد المجمع المسكوني الأول.
وهال قسطنطين أمر هذا الانشقاق، وكان يجل أسقفا إسبانيا يدعى هوسيوس، وهو الذي سبق ذكره، وكان هذا شيخا جليلا محترما، فاستدعاه قسطنطين إليه وأنفذه إلى الإسكندرية ليتصل بحبرها ألكسندروس ويصلح الحال. وكتب إلى كل من ألكسندروس وآريوس فيها بوجوب التآلف ونبذ الخصام، وألمع إلى وجوب طاعة الرئيس، كما أشار إلى «أن الاختلاف العقائدي أمر فلسفي دقيق لا يستوجب ذلك الاهتمام.» ولكن هوسيوس أخفق في الإسكندرية وعاد إلى نيقوميذية، وقصد إليها كل من ألكسندروس وآريوس، واقترح هوسيوس عقد مجمع مسكوني يضم جميع أساقفة النصرانية للبت في قضية آريوس، فقبل الإمبراطور اقتراحه، ووجه الدعوة إلى جميع الأساقفة في الإمبراطورية الرومانية، جاعلا تحت تصرفهم وسائل النقل الرسمية، وعين نيقية مركز الاجتماع بدلا من نيقوميذية عاصمة الدولة الموقتة؛ لانحياز أسقف نيقوميذية إلى آريوس ولعطف قسطندية عليه.
ولبى الدعوة عدد غير قليل من الأساقفة، مائتان وخمسون في رواية بوسيبيوس، ومائتان وسبعون في رواية افسيتاثيوس، وثلاثمائة في رواية أثناسيوس القديس، وثلاثمائة وثمانية عشر في رواية القديس هيلاريوس، وكان معظم هؤلاء من الولايات الشرقية. ودامت جلسات المجمع سبعة وتسعين يوما بين العشرين من أيار سنة 325 والخامس والعشرين من آب من السنة نفسها.
وجلس افسيتاثيوس بطريرك أنطاكية إلى يمين الإمبراطور، وكان قد اشتهر بعلمه ورسائله وتقواه، فافتتح المجمع بكلمة شكر رفعها إلى الإمبراطور وبين فيها فضله على النصارى، وقام قسطنطين فألقى كلمة باللاتينية ترجمت إلى اليونانية أشار فيها إلى جمال الدين المسيحي، مستشهدا ببعض أخبار السيد مؤكدا تعلقه بمشيئة رب السموات. ثم طلب إلى المجتمعين أن يعودوا إلى الكتب ليوحدوا الصفوف، وخرج من المجمع تاركا الأساقفة في خلوة للعمل، فتشاوروا برئاسة أحدهم، ولعله الأسقف هوسيوس صديق الإمبراطور، وظل قسطنطين يتابع أعمالهم عن كثب، وفي الخامس والعشرين من تموز دعاهم إلى حفلة في قصره في نيقوميذية لمناسبة انقضاء عشرين سنة على تسلمه الحكم، فاستقبلهم فيها حرس الإمبراطور مقدمين السلاح.
واستمع الأعضاء إلى شكوى ألكسندروس الإسكندري، ثم إلى موقف آريوس من الثالوث - كما ظهر هذا الموقف في رسائله - فأيد آريوس عشرون أسقفا وخالفه الباقون، وأقر الأعضاء دستور إيمان عدل في المجمع الثاني، فأصبح دستور إيمان المسيحيين أجمعين ولا يزال كذلك. وهو يسند إلى ألكسندروس وأثناسيوس الإسكندريين وهوسيوس الإسباني، ونظر المجمع في مسائل أخرى كمسألة عيد الفصح والمعمودية، وسن عشرين قانونا، أهمها ما تعلق بنظام الكنيسة: فنص القانون الرابع على أن الأسقف الواحد يجب أن يشترك في اختياره جميع أساقفة الأبرشية، فإن كان هذا مستصعبا لضرورة قاهرة أو لبعد المسافة فلا بد من اجتماع ثلاثة معا بعد اشتراك الغائبين في التصويت وموافقتهم كتابة، وحينئذ يعملون الشرطونية، أما تثبيت الإجراءات في كل أبرشية فمنوط بالمتروبوليت.
وجاء في القانون الخامس: «لقد رأينا حسنا أن تعقد مجامع في كل أبرشية مرتين في السنة؛ لكي تبحث أمثال هذه المسائل باجتماع عمومي من جميع أساقفة الأبرشية.» وقضى القانون السادس: «بأن تكون السلطة في مصر وليبية والمدن الخمس لأسقف الإسكندرية؛ لأن هذه العادة مرعية للأسقف الذي في رومة أيضا، وعلى غرار ذلك فليحفظ التقدم للكنائس في أنطاكية وفي الأبرشيات الأخرى.» وجاء في القانون السابع: «أنه جرت العادة والتسليم أن يكون الأسقف الذي في إلية؛ (أي أوروشليم) ذا كرامة، فلتكن له المتبوعية في الكرامة.»
وأيد قسطنطين هذه القرارات، وأمر بوجوب تنفيذها والخضوع لها، ونفى من الأساقفة كل من امتنع عن الموافقة عليها، ونفي الأب آريوس أيضا، ومنح الإكليروس المسيحي والعذارى والأرامل مبالغ محدودة كانت تؤخذ من دخل المدن لا من موازنة الدولة، ووهب الكهنة الضمانات نفسها التي كان يتمتع بها الكهنة الوثنيون، واهتم قسطنطين في هذه الآونة نفسها - ولا سيما السنتين 325 و326 - للضعفاء، فمنع تفريق عائلات الأرقاء عند اقتسام الأراضي، وحرم مطالبة الكولوني بأكثر من طاقتهم، كما حرم مشاهد المصارعة المؤلمة، وأمر بهدم بعض المعابد الوثنية التي اشتهرت بفسقها، ومنها هيكل عشتروت في أفقا لبنان، فقد جاء في ترجمة حياة قسطنطين ليوسيبيوس المؤرخ ما تعريبه: «لما استوى قسطنطين على منصة الملك رقب من سمو عرشه ما نصبه إبليس من الأشراك في فينيقية لصيد النفوس، فوجد من ذلك على هضاب لبنان - في موضع قفر لا تطرقه السابلة - معبدا تحدق به غيضة، وكان المعبد قد أقيم لبعض الأصنام الدنسة يدعى الزهرة يتوارد إليه البغايا وأهل الفجور، فأضحى بذلك أشبه بماخور منه بمعبد ديني، ولم يتجاسر أحد من أهل الفضل أن يدخل إليه ليتحقق صحة ما تناقلته الألسن، بيد أن قسطنطين وقف على حقيقة الأمر فرأى من أخص واجباته أن يقوض أركان ذلك الزون النجس، فأمر عماله بأن يهدموا ذلك المقام ويكسروا أصنامه ويتلفوا ما حمل إليه من الهدايا النفيسة، فأرسلت إلى أفقا فئة من الجند نفذوا أوامر الملك ولم يبقوا ولم يذروا، وكان ذلك في السنة 325. أما سكان أفقا فأمروا بأن يبارحوا مساكنهم فاستوطنوا بعلبك.»
11
القديسة هيلانة
وفي مطلع السنة 326 قام قسطنطين إلى رومة؛ ليحتفل فيها كما احتفل في نيقوميذية بعيده العشرين، وأصدر في الثالث من شباط قانون الزنى، وأردفه في أول نيسان بقانون الخطف والاغتصاب وبقانون زواج اليتيم، ولعله حرم السراري على المتزوجين في هذه الآونة أيضا، ورأت زوجته فاوسطة أن تستغل محافظة زوجها على الآداب والأخلاق فاتهمت كريسبوس ابنه من ضرتها - وكان قد بلغ العشرين من العمر ولمع في ميادين القتال - بمحاولة الاعتداء على عفتها، فأماته والده مسموما، ثم اتهمت هي بدورها بالخيانة وكانت لا تزال وثنية تشابه في صورتها الجانبية والدها مكسيميانوس، وكان قسطنطين يكرهه، فأمر قسطنطين بإماتتها هي أيضا خنقا بحمام ساخن.
وكانت والدته القديسة هيلانة قد استقرت في رومة وتمتعت بلقب أوغوسطة وأثرت ثراء كبيرا، فعزمت في السنة 326 على القيام برحلة إلى فلسطين؛ للتبرك بزيارة الأماكن المقدسة، وغادرت رومة في أواخر الصيف، واتجهت شطر فلسطين بحرا. وكان قسطنطين قد فاوض مكاريوس أسقف أوروشليم في إقامة كنيسة لائقة بالسيد في جلجثة في أوروشليم تكون أفضل الكنائس، فاستحثت القديسة الأسقف على إتمام هذا العمل، فتم البناء في السنة 335، وكان قد سبق للنصارى أن أقاموا في القرن الثالث بناء مثمن الأضلاع والزوايا فوق الكهف الذي ولد فيه السيد في بيت لحم، فأضافت إلى هذا المثمن بازيليقة فخمة، وفعلت مثل هذا عند كهف الصعود. وعند انتهاء هذا القرن الرابع بدأ النصارى يتناقلون خبرا مؤداه: أن القديسة هيلانة، بعد تفتيش دقيق وعناء شديد، وجدت ثلاثة صلبان في جلجثة، وأنها أحبت أن تتعرف إلى صليب السيد منها فلمست بها جسد مريض شاب وانتقت منها ذاك الذي شفى المريض، ولدى عودتها أذابت بعض مسامير الصليب في معدن خوذة قسطنطين الأول والآخر في لجام حصانه، كما أنها وزعت عود الصليب على كنائس عدة.
آريوس ثانية
ولم يتمكن المجمع المسكوني من استئصال بذور الشقاق، فالآريوسيون كانوا كثرا تؤيدهم قسطندية أخت الإمبراطور، ويقول المؤرخ صوزومينوس إن قسطندية أوصت أخاها وهي على فراش الموت بكاهن آريوسي كان قد أصبح معلم ذمتها، وأن هذا الكاهن قدم يوسيبيوس الآريوسي أسقف قيصرية إلى قسطنطين الإمبراطور، فتمكن الأسقف من إقناع الإمبراطور أنه لا فرق بين إيمان آريوس وإيمان المجمع، وأن الإمبراطور أعاد آريوس من منفاه وأرسله في السنة 330 إلى الإسكندرية.
12
وعاد الآريوسيون إلى العمل، فعقدوا مجمعا في أنطاكية في السنة 330 وقطعوا افسيتاثيوس بطريرك أنطاكية وغيره ونفوهم بأمر قسطنطين. وقام آريوس إلى الإسكندرية فمنعه بطريركها أثناسيوس الكبير من الدخول إليها، فاتهمه الآريوسيون بالتعاون مع مطالب بالحكم على مصر وبدفع الضرائب إليه، فاضطر أثناسيوس أن يقصد القسطنطينية للدفاع عن نفسه، فأصغى قسطنطين إليه وعفى عنه وسمح له بالعودة إلى الإسكندرية، وفي السنة 333 عقد الآريوسيون مجمعا في قيصرية فلسطين ودعوا أثناسيوس إليه فلم يحضر ، ثم أعادوا الكرة في السنة 335 فعقدوا مجمعا في صور فدعوا أثناسيوس فحضر فقطعوه، فاستأنف حبر الإسكندرية قرارهم، فأمر قسطنطين بانعقاد مجمع في القسطنطينية في السنة 336، وفاز الآريوسيون بأغلبية المقاعد فحكم هذا المجمع على أثناسيوس فنفي إلى فرنسة،
13
وأصر آريوس على العودة إلى الإسكندرية ولكن الإسكندريين لم يقبلوا به، فأمره الإمبراطور أن يخدم الأسرار في القسطنطينية، فاعترض أسقفها ألكسندروس فأكره على ذلك إكراها، ومات آريوس في السنة 336 وظلت قضيته قائمة حتى السنة 395 - كما سيجيء بنا.
القسطنطينية
وقضت ظروف قسطنطين السياسية والعسكرية ببقائه في الشرق أكثر من الغرب؛ فالقبائل البربرية التي كانت تهدد حدود الدولة في أوروبة كانت تتأثر كثيرا بحركات القبائل الضاربة في مراعي روسية الجنوبية، والأسرة الساسانية التي كانت قد أعادت إلى فارس نشاطها وطموحها كانت قد بدأت تطمع في ولايات رومة الشرقية، وكانت هذه الولايات الشرقية قد احتفظت بنشاطها الاقتصادي فكانت تؤدي إلى الخزينة مبالغ عظيمة من المال تفوق بكثير ما كانت تؤديه الولايات الغربية، وكانت ولايات البلقان تقدم أفضل الرجال للجيش. ولمس قسطنطين هذا كله فرأى أن لا بد من إنشاء عاصمة جديدة في الشرق تسهل الدفاع عن الدانوب والفرات وتضمن الطمأنينة اللازمة لأبناء الولايات الشرقية، فأراد في البدء أن يجعل مسقط رأسه نيش عاصمة لملكه، ثم اتجهت أنظاره نحو صوفية
Sardica
وثيسالونيكية، ورأى بعد ذلك أن طروادة أحق بالشرف من هذه جميعها؛ لأنها كانت موطن الجبابرة ومسقط رأس الرومانيين الأولين الذي أسسوا رومة. وقام إليها بنفسه وخطط العاصمة الجديدة فيها وفي ضواحيها وأنشأ الأبواب الرئيسية، ولكنه تراءى له في الحلم أن إلهه يأمره بالتفتيش عن محل آخر، فوقع اختياره على بيزنطة.
14
وكانت بيزنطة مستعمرة يونانية قديمة أسسها أبناء ميغارة
Megara
في السنة 652 قبل الميلاد؛ للاتجار بحبوب روسية الجنوبية ومعادن حوض البحر الأسود ومصايد البوسفور، وقامت بيزنطة هذه على رأس ناتئ في البحر عند أول فجوة داخلة في ساحل البوسفور الأوروبي. وكانت هذه الفجوة على شكل هلال مائي داخل في الأرض عشرة كيلومترات؛ ولذا اسمه المتأخر «القرن الذهبي»، واتخذت بيزنطة شكل الرأس الذي عليه فأصبحت مثلثا تحمي المياه جانبين من جوانبه الثلاثة، ويحمي جانبه الثالث سور قوي لا تتحكم فيه أية مرتفعات مجاورة.
وجاء في التقليد أن الإمبراطور المؤسس عندما بدأ بتخطيط العاصمة الجديدة أمسك رمحا بيده وطاف حول بيزنطة وأطال الطواف، فقال له رجال الحاشية: متى تقف يا سيد؟ فأجاب: عندما يقف هذا الذي يسير أمامي، وشاع بين القوم أن قوة سماوية كانت ترشده سواء السبيل،
15
والواقع أن قسطنطين لم يقف إلا بعد أن أدخل في تخطيطه كل التلال السبع التي ضمها الرأس بين بحر مرمرة والقرن الذهبي، واختار قسطنطين الجزء الجنوبي الشرقي من بيزنطة فأنشأ فيه قصره الإمبراطوري، وجعل من الساحة المستطيلة التي وقعت إلى الشمال الغربي من هذا القصر ساحة عمومية رئيسية دعاها الأوغوسطايوم
Augustaeum ؛ أي ساحة أوغوسطوس، فغطى أرضها بالمرمر، وأحاطها من جميع جوانبها بالمنشآت العامة، وأقام إلى غربي ساحل أوغوسطوس الملعب الكبير
Hippodromus
الذي أصبح فيما بعد مسرحا للسياسة ولجميع ظواهر الحياة العامة في العاصمة، فكان يشمل فيما شمل الكاثيسمة
Kathisma ؛ أي لوج الإمبراطور، وكان العرش العظيم الذي أقيم في وسط هذا اللوج هو المكان الذي يطل منه الإمبراطور على شعبه في غالب الأحيان. وازدان هذا الملعب بمسلة فرعونية أحضرت من مصر، وبالثعبان النحاسي ذي الرءوس الثلاثة الذي صنعه بوسانياس لهيكل دلفي بمناسبة الانتصار على الفرس في بلاتية (479ق.م)، وبالعمود البرونزي المربع.
وأنشأ قسطنطين بالقرب من هذا الملعب وإلى شرقيه بناء صغيرا جعله نقطة الانطلاق لبعد المسافات في جميع أنحاء العالم الشرقي ودعاه المليون
Milion ، وكان هذا المليون يشبه الهياكل، ويقوم سقفه على سبعة أعمدة، وبداخله تمثال للإمبراطور وتمثال آخر لوالدته هيلانة، وخص قسطنطين المسيحيين بكنيسة كبيرة أسماها كنيسة الحكمة الإلهية
Hagia Sophia ، ولم تكن هذه كنيسة الحكمة الإلهية الحالية، بل كانت بازيليقة احترقت مرتين فاندثرت، وأقام قسطنطين في هذه المنطقة نفسها مجلسا للشيوخ وقصرا للبطريرك.
ولا نعلم بالضبط متى خطط قسطنطين عاصمته الجديدة، وربما كان ذلك بين السنة 328 والسنة 329، ولكننا نعلم أن تدشينها جرى في الحادي عشر من أيار سنة 330 وأن الأساقفة النصارى باركوا القصر وأقاموا صلاة خصوصية في كنيسة الحكمة.
ودعا قسطنطين عددا من شيوخ رومة القديمة وعددا كبيرا من كبار الأغنياء في بلاد اليونان وآسية للإقامة في العاصمة الجديدة، وأغرى آلافا من رجال الفن والصناعة والتجارة للغرض نفسه، ووزع القمح والزيت مجانا على السكان، وخصص القمح الذي كان «يجبى» من مصر للعاصمة الجديدة، وجعل قمح قرطاجة لمئونة العاصمة القديمة، وأصدر أمرا منح بموجبه المدينة الجديدة لقب «رومة الجديدة» ولكن الشعب أطلق عليها اسم القسطنطينية.
16
ولا يختلف اثنان في أن نقل العاصمة إلى هذا المقر الجديد كان - في حد ذاته - عملا تاريخيا عظيما؛ لأنه أعطى الدولة الرومانية حصنا منيعا تصمد فيه فتصد هجمات البرابرة وتحفظ تراثا مدنيا كبيرا، ولأنه أمد النصرانية بعاصمة تنطلق منها إلى جميع الجهات، لا سيما وأن رومة كانت لا تزال حصن الديانة القديمة وأنها بقيت وثنية إلى وقت طويل.
17
الإدارة
ونهج قسطنطين في إصلاح الإدارة الطريق نفسه الذي سلكه ديوقليتيانوس، ففصل السلطة العسكرية عن السلطة المدنية، وقوى الحكومة المركزية وحصر سلطتها العليا في شخص الإمبراطور، ولم يكن هذا الاتجاه في الإصلاح ابن ساعته، فسويتونيوس المؤرخ الروماني يقول: إن كاليكيولا الإمبراطور (37-41ب.م)، كان على استعداد تام لتقبل التاج، وإن الإمبراطور هيليوس جبلوس الحمصي لبس التاج في ظروف خاصة، وإن أورليانوس (270-275ب.م) زين رأسه بالتاج في المواقف الرسمية واتخذ لنفسه لقب الإله في نقوشه الرسمية وعلى نقوده،
18
ويرى رجال الاختصاص أن الأباطرة نقلوا رأيهم هذا في الحكم عن البطالسة والسلوقيين ثم عن الساسانيين في أيام ديوقليتيانوس وقسطنطين.
وليس لدينا من النصوص الأولية ما يخولنا التبسط في وصف الإدارة كما أنشأها ديوقليتيانوس وأقرها قسطنطين، والمرجع الأولي الأساسي في هذا الموضوع هو لائحة رسمية
19
بوظائف البلاط والإدارة والجيش وبأسماء الولايات ظنها المؤرخون السابقون من مخلفات القرن الرابع فاعتمدوها في أبحاثهم، ولكن النقد الحديث يجعلها من بقايا القرن الخامس لا الرابع.
وعلى الرغم من هذا، يجوز القول إن حكومة الدولة الرومانية في عهد قسطنطين الكبير كانت قد أصبحت حكومة مطلقة الصلاحية تستمد سلطتها من قوة الجيش المرابط، ومن محافظتها على الأنظمة الموروثة، ومن احترامها للقانون. وكان على رأس هذه الحكومة إمبراطور متجلبب بعظمة شرقية، يعلو رأسه التاج ويردي جسمه الأرجوان، وقد اعتزل قومه وعظم قدره وغشيت جلالته الأبصار، فخشعت أمامها العيون وتصاغرت عندها الهمم لا يقوم بين يديه إلا كل متهيب ناكس مطرق، وجمع الإمبراطور في شخصه شقي السلطة المدنية والعسكرية، وأصبح مصدر التشريع كما أصبحت أوامره التفسيرات الوحيدة لما يصدر عنه من تشريع. ولما كانت جميع أمور الدولة في عرف الرومان تخضع لسيطرة الحكام، كان الإمبراطور - بطبيعة الحال - رئيس رجال الدين أيضا وحبرا من أحبارهم.
20
وجاء على رأس الإدارة المدنية مجلس استشاري أعلى
21
مؤلف من رؤساء دوائر الدولة من رئيس الخصيان أقرب المقربين إلى الإمبراطور،
22
ومن قومس الإحسان والإنعام،
23
وقومس الأملاك الخاصة،
24
ومن قسطور القصر المقدس
25
أمين القوانين، ومن رئيس ديوان الرسائل،
26
وكان هذا يشرف على الكتبة والبريد والحرس ودور الصناعة والشرطة، وكان بين هؤلاء رجال الأمن العام.
27
وكان الإمبراطور ديوقليتيانوس قد أقصى الشيوخ عن إدارة الولايات وجعلها جميعها تابعة له وضاعف عددها؛ ليقلل موارد حكامها وأهميتهم، فجعلها مائة وعشرين بدلا من خمسين، وجعل على رأس كل منها رئيسا
28
يشرف على إدارتها وينظر في دعاويها القضائية، ثم جمع بينها فجعلها اثنتي عشرة ذيقوسية: بريطانية وغالية وإسبانية وأفريقية وإيليرية في الغرب، وداقية ومقدونية وتراقية وآسية والبونط والشرق ومصر في الشرق.
وجعل على رأس كل ذيقوسية نائبا
29
يشرف على أعمال رؤساء الولايات وينظر في ما يستأنف إليه من الدعاوى، وجرد قسطنطين المدبر الروماني القديم البرايفيكتوس
30
من صلاحياته العسكرية وجعل منه حاكما مدنيا أعلى، فقسم الإمبراطورية إلى أربع برايفكتورات: غالية وإيطالية وإيليرية والشرق، فشملت برايفكتورة الشرق ذيقوسيات الشرق ومصر وآسية والبونط وتراقية، وشملت ذيقوسية الشرق ولايات فلسطين الأولى وفينيقية وسورية الأولى وقيليقية وقبرص وفلسطين الثانية وفلسطين الثالثة وفينيقية اللبنانية، والفرات وسوريا الثانية والرها، وما بين النهرين وقيليقية الثانية وإسورية والعربية. ولا تزال أسماء هذه الولايات محفوظة في ألقاب أحبار الكنيسة الأرثوذكسية حتى يومنا هذا.
فمتروبوليت بيروت «مقام من الله على بيروت وتوابعها، متقدم في الكرامة، متصدر في الرئاسة على كل فينيقية الساحلية، ومثله متروبوليت طرابلس، ومتروبوليت صور وصيدا. أما متروبوليت حمص فإنه متصدر في الرئاسة على كل فينيقية اللبنانية، ومثله متروبوليت بعلبك ومتروبوليت دمشق، ومتروبوليت حماه متصدر في الرئاسة على كل سورية الثانية، ومتروبوليت حلب على سورية الأولى، ومتروبوليت حوران على كل بلاد العرب الصخرية.»
31
وراقب رجال الأمن العام الموظفين ورفعوا تقاريرهم إلى رئيس ديوان الرسائل ولكن دون جدوى؛ لأن معظمهم كان بحاجة هو نفسه للمراقبة، وقضت قوانين الدولة بأن يقام في كل مدينة أو قرية كبيرة من يفتقد الفقراء في بؤسهم وينظر في أمرهم،
32
وكان الأسقف المسيحي أفضل من هذا وذاك، لا سيما وأن الإمبراطور منحه حق النظر في بعض الأمور برضاء الطرفين.
الجيش
وأعلى ضباطه سيد الخيالة،
33
وسيد المشاة،
34
وكان هؤلاء الأسياد أربعة في آخر أيام قسطنطين، وأصبحوا ثمانية فيما بعد، وكان عليهم أن يقودوا الجيوش وينظموا الحرب، وجاء بعد هؤلاء خمسة وثلاثون دوقا يقودون قواد الحدود، وكان الجيش مؤلفا من قوات ثلاث: قوة مرابطة على الحدود لا تحيد عنها، وقوتين متحركتين، وكانت القوة المرابطة على الحدود
35
بربرية الأصل تحرث ما أقطعت من أرض وتستغلها، وكان الابن فيها ملزما أن يأخذ مكان أبيه. أما القوتان المتحركتان فإنهما كانتا تحت تصرف الإمبراطور، الواحدة تدعى جماعة الرفقاء،
36
والثانية جماعة البلاط،
37
وكان هنالك نوعان من الفرسان: نوع خفيف ونوع ثقيل، وكان الأول قديما يعود الفضل في إنشائه إلى الإمبراطور غاليانوس الذي ألحق بالفرقة المجندة من المواطنين الرومان جماعة من الفرسان جند أفرادها من حلفاء رومة؛ ولذا الاسم فرسان الحلفاء.
38
وكان النوع الثاني أحدث عهدا من الأول وأثقل سلاحا، وقد أنشئ على طراز الفرسان الفرس ودعي المدرع،
39
وكان معظم أفراده من البرابرة من وراء الحدود.
طبقات المجتمع
ومنح الإمبراطور كركلا حقوق الرومان المدنية لجميع سكان المدن في جميع أنحاء الإمبراطورية، فأصبح كلهم مواطنين رومانيين منذ السنة 212 بعد الميلاد، ولكن هذا لم يعن التساوي بين جميع المواطنين، فبقي هنالك شرفاء ووضعاء:
40
شيوخ وفرسان وجنود لا تنالهم شدة القانون في العقوبات، وأكثرية ساحقة خاضعة لكل ما جاء في القانون من قساوة وشدة، وانتظم الشرفاء طبقات طبقات: فجاء على رأسهم القناصل ثم البطارقة ثم المدبرون فأبناء الجنود والموظفين وقد عرف هؤلاء باللقب كلاريسيمي،
41
ثم الموظفون المستجدون في الوظيفة الذين استحقوا لقب «صاحب الأفضلية»
42
أو لقب «صاحب الكمال أو البراعة.»
43
وانتظم سائر أفراد الشعب طبقات وانحصروا فيها وأورثوها أبناءهم من بعدهم، وجاء في طليعة هذه الطبقات طبقة الكوريالس
44
أصحاب الأملاك المقيمين في المدن وأمهات القرى الذين تربعوا في دست الحكم فيها جيلا بعد جيل، واتسق التجار وأصحاب المهن والحرف نقابات مقفلة موروثة، ولا يستبعد أن يكون أصحاب الفاقة ممن تناول خبزه يوميا من مخابز الدولة
45
قد أصبحوا في عهد قسطنطين طبقة موروثة أيضا ومثله الكولوني الذين سبقت الإشارة إليهم في فصل سابق.
الثقافة العامة
وكان قد طال عهد الإمبراطورية ودام ثلاثة قرون متتالية وظل الناس في أطرافها يتكلمون لغاتهم الخاصة غير عابئين باللاتينية أو اليونانية، فالقديس إيريناوس الذي كان يجيد اللاتينية واليونانية اضطر أن يتعلم الغالية للتفاهم مع سكان المنطقة التي كان يعمل فيها. وتكلم سكان الجزر البريطانية اللغة الكلتية، كما تكلم المور في أفريقية لهجاتهم البربرية الخاصة، ولم يتكلم الفينيقية فيها سوى الطبقة العليا من السكان وسكان مالطة، وعلى الرغم من انتشار اللاتينية في إيليرية فإن سكان هذه المنطقة احتفظوا بلهجتهم الخاصة التي تطورت فيما بعد فأصبحت اللغة الألبانية، وظل الأقباط والآراميون والعرب والأرمن محتفظين بلغاتهم الأصلية على الرغم من انتشار اليونانية واللاتينية في أوساطهم.
ومعظم الذين تكلموا اليونانية واللاتينية كانوا لا يزالون في عصر قسطنطين أميين لا تهزهم الفصحى، ولم يتعلم الفصحى من هاتين اللغتين إلا عدد قليل من الناس، وعني هؤلاء عناية خاصة بقواعد اللغة وبعلم المعاني والبيان وبذلوا قصارى جهدهم في حقل الخطابة. وكانت جامعة أثينة لا تزال تعنى بالفلسفة، وكانت الفلسفة الرائجة الأفلاطونية الجديدة القائلة بوحدة الوجود، أي: أن الله والكون واحد وأن الكون المادي منبثق من الله.
وأول من قال بهذا النوع من التوحيد ووفق بينه وبين فلسفة أفلاطون نومانيوس
46
الفيلسوف، وهو فيلسوف سوري أبصر النور في أبامية في القرن الثاني بعد الميلاد، وتلقى علومه الفلسفية في الإسكندرية ثم أقام في أثينة مدة وعاد إلى أبامية يعلم ويرشد، ويرى رجال الاختصاص اليوم أن أفلوطين (205-270ب.م) إنما ادعى لنفسه بما كان لغيره،
47
وأشهر من علم بهذه الفلسفة بعد نومانيوس وأفلوطين مالك البثني (233-301) الذي درس العلم والفلسفة في صور ثم انتقل منها إلى أثينة فأخذ عن فيلسوفها لونجينوس السوري، وترجم اسمه مالك إلى اليونانية فعرف بالفيلسوف بورفيريوس؛ أي المتوشح بالأرجوان الملكي،
48
واشتهر بعد بورفيريوس في حقل الأفلاطونية الجديدة يمبليخوس
49
العيطوري، ولد في خلقيس «مجدل عنجر» في سهل البقاع في لبنان وعلم فيها وتوفي في السنة 330 بعد الميلاد، واشتهر يمبليخوس بعدائه للنصرانية ودفاعه عن الوثنية وتطرفه في ذلك.
وآثر أبناء العائلات الرومانية الكبيرة درس القانون على غيره من العلوم، وأقبلوا عليه؛ إما للحصول على وظيفة حكومية، أو للمحاماة أمام المحاكم، أو لمجرد الاطلاع والتثقف، وأدى اهتمامهم بالقانون إلى الاعتناء بعلوم اللغة - ولا سيما الخطابة والفصاحة - وإلى الاطلاع على مبادئ الفلسفة. وعندما حل القرن الثالث بعد الميلاد كان عصر البحث والتنقيب والاجتهاد في القانون قد أشرف على النهاية، وحل محله عصر الجمع والتنسيق، وكانت بيروت قد أصبحت مستودعا هاما للقوانين الرومانية ومركزا خطيرا لدرس هذه القوانين وتدريسها، وكان قد لمع بين أساتذتها أميليوس بابنيانوس الحمصي، مستشار الإمبراطور سبتيميوس سويروس، ودوميتيوس أولبيانوس الصوري
50
في القرن الثالث، فقام غريغوريوس البيروتي بجمع القوانين في السنة 295،
51
وجاء بعده هيرموغنيانوس يعمل العمل نفسه فيكمل مجموعة سلفه في السنة 324.
52
وكان هنالك طبقة من العلماء آثروا الإحاطة على التدقيق والتحقيق، فصنفوا في المواضيع الجامعة العامة، ولعل أبرزهم في عهد قسطنطين كان يوسيبيوس أسقف قيصرية فلسطين الذي توفي في السنة 340 بعد الميلاد، وقد ألف في الدفاع عن النصرانية ضد تهجمات اليهود والوثنيين، وكتب في تاريخ الكلدانيين والآشوريين والعبرانيين والمصريين واليونان والرومان، واشتهر بمؤلفه تاريخ الكنيسة
53 «منذ ظهور السيد حتى استظهار قسطنطين على ليكينيوس» الذي أصبح فيما بعد من أهم المراجع لتاريخ النصرانية في القرون الثلاثة الأولى، وقد يكون تاريخ قسطنطين الكبير
54
له، وقد لا يكون.
تنصره ووفاته
وفي السنة 337 بعد الميلاد أعد قسطنطين العدة لمحاربة الفرس، ولكن هؤلاء فاوضوه في الصلح قبيل عيد الفصح فأوقف استعداده للحرب، واحتفل قسطنطين بعيد الفصح في الثالث من نيسان، ونالته الحمى، فذهب إلى مياه معدنية قريبة يستحم فيها، ثم انتقل إلى هيلانوبوليس فأنقيرة بالقرب من نيقوميذية، وكان يلازمه في أثناء هذا كله معلم ذمة أخته قسطندية، وكان هو يود أن يعتمد في مياه الأردن كما فعل السيد نفسه، ولكن الوقت عاجله فتقبل سر المعمودية عن يد يوسيبيوس أسقف نيقوميذية، وخلع الأرجوان وألقاه جانبا وتردى بالبياض.
وتوفي يوم العنصرة في الثاني والعشرين من أيار من السنة نفسها. ولم يكن أحد من أولاده بالقرب منه، وحنط جسمه ووضع في تابوت من ذهب ونقل إلى القصر في القسطنطينية ليتقبل احترام الوجهاء، وجاء ابنه قسطنس قيصر من أنطاكية، فعرض جثمانه مكللا بالتاج ملفوفا بالأرجوان في أبهى قاعات القصر وأجملها، ثم أمر بنقله بموكب فخم إلى كنيسة الرسل؛ حيث صلى الإكليروس عليه طوال الليل ودفن فيها في ناووس من الرخام السماقي، وأله الشيوخ قسطنطين حسب العادة الرومانية وعظمه الشعب الوثني وعبده أمام تمثاله الذي نصب فوق عمود من الرخام السماقي في الفوروم.
55
الفصل الخامس
قسطنديوس الثاني ويوليانوس الجاحد
337-363
قسطنديوس (337-361)
وتوفي قسطنطين الكبير عن ذكور ثلاثة جميعهم من زوجته فاوسطة بنت الإمبراطور مكسيميانوس، وهم: قسطنطين الثاني وقسطنديوس الثاني وقسطنس، وحكم الثلاثة الإمبراطورية معا، فتولى قسطنطين الثاني الغرب: إيطالية وغالية وإسبانية وقسما من أفريقيا. وتولى قسطنديوس الثاني الشرق بأكمله. أما قسطنس فإنه حكم إيليرية وقسما من أفريقيا، وطمع قسطنطين الثاني في ملك قسطنس فحاربه ولكنه خر صريعا في أكويلية سنة 340، ثم تمرد الجند على قسطنس وقتلوه في السنة 350، فأصبح قسطنديوس الثاني المالك وحده، وكان رجلا عاقرا لا وارث له، فاستدعى ابن عمه غالوس من منفاه ورفعه إلى رتبة قيصر وأمره على برايفكتورة الشرق وجعل مقره أنطاكية، ولكن غالوس هذا كان جافي الطبع فظ القلب قليل الرحمة، فطغى وتجبر وأرهب الناس إرهابا، فاستدعاه ابن عمه الإمبراطور إليه في إيطالية في السنة 353، وحاكمه وأمر بقطع رأسه، وعندئذ طلب ابن عمه الأصغر يوليانوس وجعله قيصرا على غالية.
شابور ذو الأكتاف
1
وتوفي هرمز الثاني ابن نرسي في السنة 309 بعد الميلاد وأوصى بالملك لشابور ابنه وهو لا يزال جنينا، فدام السلم بين فارس وبين رومة زمنا طويلا، وشب شابور الثاني وتسلم أزمة الحكم، فهاله انتشار النصرانية وعطف قسطنطين عليها؛ خصوصا لأنها كانت قد انتشرت بين رعاياه في بابل وطيسفون وجند شابور وآشور وغيرها. ولأن تيريداتس الثالث ملك الأرمن كان قد تقبلها في السنة 301، فتطورت الخصومة بين شابور وزميله الروماني وأصبح النزاع بينهما نزاع عقائد بعد أن كان نزاعا ماديا استراتيجيا - كما سبق أن أشرنا - وهكذا، فإننا نرى شابور يعقد مجمعا زرادشتيا يضم أئمة الدين الفارسي في السنة نفسها التي عقد فيها قسطنطين الكبير المجمع المسكوني الأول، فيقر نصا رسميا نهائيا لكتاب الفستا، ونراه ينزل بنصارى بلاده بين السنة 340 والسنة 379 اضطهادات قاسية واسعة النطاق لأنهم دانوا بدين قيصر وشاطروه المحبة والعطف والولاء.
2
وكادت الحرب تقع قبيل وفاة قسطنطين الكبير في السنة 337 - كما سبق أن أشرنا - فقطع ذو الأكتاف الحدود في السنة 338، وحاصر نصيبين، ثم عاد إليها في السنة 346، وفي السنة 348 جرت موقعة ليلية في منطقة سنجار، وفي السنة 350 طلب ذو الأكتاف تغرانوس السابع ملك أرمينية للمفاوضة، فأسره ومضى به إلى بلاده. ويقال إنه سمل عينيه؛ لأنه كان نصرانيا مثل سلفه. وفي السنة نفسها مشى ذو الأكتاف إلى نصيبين للمرة الثالثة وشارف أسوارها مستعينا بالفيلة التي استقدمها من الهند، ولكنه أخفق مرة أخرى وارتد على أعقابه لدرء خطر الشينيين الذين تدفقوا على فارس من الشمال والشرق.
وفي السنة 355 جدد ملك أرمينية أرشاك الثالث (351-367) التحالف الروماني الأرمني، وتزوج من أوليمبياس خطيبة قسطنس السابقة، فأقض ذلك مضجع شابور الثاني ذي الأكتاف واستفزه للحرب؛ وخصوصا لأن عامله في بابل كان قد جرأه بما بالغ له في تصوير المشاكل التي كان يعانيها قسطنديوس الإمبراطور في الغرب، وعبر شابور دجلة في جيش عظيم في السنة 358 فتجاوز نصيبين هذه المرة ولم يحاصرها بل زحف على آمد «ديار بكر» فأخذها عنوة بعد حصار دام شهرين. وكان قسطنديوس لا يزال في سيرميوم في إيليرية يعالج بعض المشاكل الدينية المسيحية، ولا سيما علاقة الآب بالابن، فقام منها إلى القسطنطينية وبقي فيها طوال شتاء السنة 359-360.
وفي ربيع السنة 360 نهض من القسطنطينية لمجابهة الخطر الفارسي، ولدى وصوله إلى قبدوقية سمع بخيانة ابن عمه يوليانوس، فلم يكترث لها؛ لأنه كان يجهل مواهب هذا الزميل الجديد، وكان شابور ذو الأكتاف قد استأنف الحرب فاحتل سنجار، ثم اتجه منها إلى بيت زبدي «جزيرة ابن عمر» على ضفة دجلة الغربية وحاصرها، فحاول قسطنديوس أن يفك هذا الحصار فلم يفلح، وسقطت بيت زبدي في يد الفرس في خريف السنة 360، وأقبل فصل الشتاء فتوقفت الأعمال الحربية ولبث قسطنديوس في أنطاكية، وفيها احتفل بزواجه الثاني بعد وفاة يوسيبية زوجته الأولى.
وكانت حاشية قسطنديوس لا تزال توغر صدره على ابن عمه يوليانوس، بينما خطر الفرس في الشرق يتعاظم، فطلب الإمبراطور إلى ابن عمه القيصر أن يوافيه بأحسن ما عنده من الجند للصمود في وجه الفرس، ويقال إن يوليانوس مال إلى تلبية الطلب ولكن جنوده تمردوا احتجاجا ونادوا به إمبراطورا في باريز في السنة 360. وكتب يوليانوس إلى قسطنديوس يرجو منه الاعتراف بما تم ولكن قسطنديوس أصر عليه أن يتنازل ويثبت الطاعة، فاضطر يوليانوس أن يزحف بجنده على الشرق، وسار قسطنديوس من أنطاكية إلى القسطنطينية فالغرب لمنازلة خصمه، ولكنه مرض وهو لا يزال في طرسوس، واشتد الخطر على حياته فاعتمد بيد أسقف أنطاكية الآريوسي افزويوس، وتوفي على مسيرة يوم من طرسوس في الثالث من تشرين الثاني سنة 361. وأجمل ما يذكر عنه أنه عندما أشرف على التلف أوصى بأن يكون يوليانوس نفسه خلفا له.
الوثنية
وأراد قسطنديوس الثاني أن يقضي على الوثنية فأمر - بادئ ذي بدء - «بأن يوضع حد للخرافات وبأن يستأصل مرض تقديم الذبائح.»
3
ثم أمر بإقفال الهياكل وحظر تقديم الذبائح للآلهة مهددا من يخالفه بالموت وبمصادرة الأملاك، وكان أن احتفل في السنة 357 في رومة بمرور عشرين عاما على تبوئه العرش، فطاف بآثارها ودخل إلى مبنى مجلس الشيوخ وفيه مذبح لآلهة النصر فأمر بهدمه، فأدرك الشيوخ وغيرهم من أعيان الوثنية أن دين الأجداد قارب النهاية.
ولكن قسطنديوس كان آريوسيا متطرفا فأعلنها حربا على النيقاويين الكاثوليكيين الأرثوذكسيين، فاضطهد أثناسيوس الكبير بطريرك الإسكندرية، ونفى هوسيوس الأسقف الإسباني صديق والده وهو في سن تزيد على المائة، كما نفى ليباريوس بابا رومة؛ لأنه كان قد امتنع عن قبول مقررات مجمع ميلان (355).
يوليانوس الجاحد (361-363)
هو يوليانوس بن يوليوس بن قسطنديوس الأول «كلوروس»، وهو أخو غالوس لأبيه لا لأمه، كما كان والده يوليوس أخا قسطنطين الكبير لأبيه لا لأمه، فوالدة قسطنطين هيلانة ووالدة يوليوس تيودورة ووالدة غالوس غلة ووالدة يوليانوس باسيلينة.
ولد يوليانوس في النصف الثاني من السنة 331 في ميسية على الدانوب، وما إن مضت بضعة أشهر حتى توفيت والدته، فنقل إلى القسطنطينية ونشأ في قصر لجدته في بر الأناضول لا يبعد كثيرا عن العاصمة، وفي السادسة من عمره؛ أي في السنة 337، شهد مقتل والده وجميع أقربائه ونجا هو وأخوه غالوس بأعجوبة، فشب مضطرب العصب غير متزن، وتولى أمره في هذه الفترة من حياته يوسيبيوس الآريوسي أسقف نيقوميذية ونسيب والدته، فوكل أمر تهذيبه إلى خصي نصراني «مردونيوس» كان شديد الإعجاب بهوميروس الشاعر اليوناني، وتوفي يوسيبيوس في السنة 341، فنفى قسطنديوس الأميرين الصغيرين إلى قصر في قبدوقية على مسافة قريبة من قيصرية، أما غالوس فشب شرسا أحمق، وأما يوليانوس فإنه قضى ست سنوات يدرس ويطالع مؤلفات أعاره إياها كاهن نصراني. وفي السنة 347 أمر قسطنديوس بانتقال غالوس إلى إفسس ويوليانوس إلى القسطنطينية.
وأقام يوليانوس في عاصمة الدولة سبع سنوات احتك فيها بعالمين شهيرين أحدهما وثني والآخر نصراني، وتعلم مبادئ اللاتينية، ورحب الجمهور بالأمير الصغير وأكرمه، فدخلت الريبة نفس عمه وأمر بنقله إلى نيقوميذية، وكان ليبانيوس العالم الأنطاكي «اللبناني!» قد ترك مدرسة نيقوميذية، فلم يتسن ليوليانوس أن يأخذ شيئا عنه، ولكنه تابع الدرس في نيقوميذية وحلق رأسه كمن يريد أن يكون فيلسوفا مسيحيا، وفي السنة 351 رضي قسطنديوس عن الأميرين فجعل غالوس قيصرا وأعاد إلى يوليانوس إرثه فأصبح غنيا، ورحل يوليانوس في طلب العلم فأم برغامون في آسية الصغرى واتصل فيها بأديسيوس
Adesius
الفيلسوف الأفلاطوني الجديد، وبتلميذه خريسانطيوس
Chrisantius
الفيلسوف الفيثاغوري، وتردد إلى إفسس فاتصل بفيلسوفها مكسيميوس وكان هذا يمارس ضروب السحر، فوقع يوليانوس تحت تأثير شعوذاته، ودخل في زمرة أتباعه في كهف هيكاتية إلهة الشياطين عند الأفلاطونيين الجدد، وسمع شقيقه غالوس بهذا كله فاضطرب وأرسل إليه من أنطاكية معلم ذمته ليرده عن الضلال، وكان ما كان من أمر غالوس وإعدامه في السنة 354، ومثل يوليانوس بين أيدي الإمبراطور قسطنديوس في ميلانو؛ ليدافع عن نفسه فيما اتهم به من أنه اجتمع بغالوس في القسطنطينية، فشفعت له الإمبراطورة يوسيبية وأذن له بالإقامة في آثينة، فتوجه إليها بشغف شديد والتحق بجامعتها ثلاثة أشهر، وذلك في صيف السنة 355، وكان بين رفقائه فيها غريغوريوس النازيانزي وصديقه باسيليوس القديس، ومما قاله فيه غريغوريوس فيما بعد: إنه كان تائه النظر في آثينة أحمق السيماء تنتابه رعشات عصبية من آن إلى آخر، وإن أسئلته لم تكن منظمة أو مرتبة.
وكان قسطنديوس يخشى تطلع الغاليين إلى الاستقلال، ولم يكن بإمكانه أن يشرف بنفسه على أمورهم لكثرة أشغاله ولشدة خوفه من شابور ومطامعه، فاستدعى يوليانوس إليه وأطلعه على ما كان يخالج فؤاده ودفع به إلى شفيعته الإمبراطورة، فقالت هذه ليوليانوس: أنت مدين لنا بالشيء الكثير وسيكون لك أكثر فأكثر بعون الله إذا كنت أمينا منصفا، وكان يوليانوس قد التحى لحية الفلاسفة فأمر بها عمه فحلقت وارتدى يوليانوس لباس الأمراء، وفي السادس من تشرين الثاني من السنة 355 استعرض قسطنديوس الجند وأمسك بيده يوليانوس وقال للجند: «أنتم الحكم! لقد طغى البرابرة على غالية، وإني أرشح يوليانوس قيصرا، فهل تقبلون؟» فصرخ الجند: «هذه هي مشيئة الله!» وعندئذ وضع قسطنديوس التاج على رأس يوليانوس ووشحه بالأرجوان، وشفع الجند عمله بأن دقوا ركبهم بالتروس.
ثم تزوج يوليانوس من هيلانة ابنة قسطنديوس وقام إلى غالية، وبقي فيها ثلاث سنوات، أظهر في أثنائها من الحزم والعدل واللطف ما فتن الناس به وأذاع صيته في الغرب والشرق معا، وكان ما كان من أمر شابور ذي الأكتاف فقضت الظروف العسكرية بوجوب الاستعانة بأفضل من في الغرب من جنود، على أن جنود يوليانوس آثروا المناداة به إمبراطورا وسايرهم هو على الأمر. وفي صيف السنة 361 مشى إلى الشرق على رأس خمسة وعشرين ألفا، واحتل سرميوم ونيش، ثم علم بوفاة قسطنديوس وبما أوصى به فأسرع إلى القسطنطينية ودخلها في الحادي عشر من كانون الأول سنة 361.
سياسة يوليانوس الداخلية
وما كاد يوليانوس يجلس على أريكة القسطنطينية حتى أمر بتشكيل مجلس خاص لتطهير الإدارة من أدران الحكم السابق. وتألف هذا المجلس من أخصاء الإمبراطور العسكريين، فحكموا بالإعدام على طائفة من رؤساء الدوائر المدنية وبالنفي على غيرهم، وتناول مثل هذا التطهير القصر الإمبراطوري، فطرد الإمبراطور الجديد عددا كبيرا من الخدم والحشم ولا سيما الخصيان، وأراد أن يظهر بمظهر جمهوري فعظم القناصل وجالس الشيوخ كأنه واحد منهم. وعلى الرغم من قلة النقد في الخزينة فإنه أمر بتخفيف ضريبة التاج التي كانت تجبى في مناسبة تبوء العرش.
موقفه من النصرانية والوثنية
وكان يوليانوس يرى في مصنفات علماء اليونان وفلاسفتهم ينبوع الثقافة كلها، ويرى في فلسفتهم فلسفة عالمية تتعدى حدود اليونان الجغرافية فتشمل العالم بأسره، وكان يرى في مؤلفات فيثاغورس وأفلاطون ويمبليخوس مئونة فكرية كافية يستغني بها كل عالم عن كل قول فلسفي آخر، واستهواه يمبليخوس اللبناني وسيطر على تفكيره فابتعد عن أفلاطون ولم يهتد بهديه.
ويستدل من رسائله - ولا سيما تلك التي جعل عنوانها «الملك الشمس» - أنه قال بأكوان ثلاثة أو شموس ثلاث: الشمس الأولى شمس الحقائق الراهنة والمبادئ السامية والعلة الأولى وهي التي سماها الشمس النفس، والشمس الثالثة شمس المادة الملموسة وصورة انعكاس الشمس الأولى. وبين الاثنتين - بين النفس والمادة - شمس ثانية هي شمس العقل. ولما كانت الشمس الأولى بعيدة المنال وكانت الشمس الثالثة مادية غير صالحة للعبادة، فإن يوليانوس عبد شمس العقل وسماها الملك الشمس، واعتقد أنه هو سليل الملك الشمس يهتدي بإرشاده عن طريق رؤى معينة يتفضل بها عليه الملك الشمس بين حين وآخر. وقال بتناسخ الأرواح على طريقة فيثاغورس، فاعتقد أنه هو الإسكندر في دور آخر.
وتبنى في رسالته «ما يؤخذ عن النصرانية» موقف بورفيريوس الفيلسوف الحوراني اللبناني، فقال إن الإله يهوه إله التوراة هو إله شعب خاص لا إله الكون بأسره، وأنه هنالك تناقضا بين التوحيد في التوراة والتثليث في الإنجيل، وأن الأناجيل الأربعة متنافرة غير متآلفة، وكره النصارى لأنهم كفروا بالآلهة، كما كره كل وثني لعن آلهة أجداده وجدف عليها.
ولا نعلم بالضبط متى أعلن يوليانوس نفسه وثنيا، وقد يكون ذلك في السنة 361 في نيش عندما علم بوفاة قسطنديوس وبوصيته؛ ففيها ذبح يوليانوس باسم الآلهة، ومنها كتب إلى بعض أصدقائه، ولكن هذا لم يعن اضطهاد النصرانية، فإنه عندما دخل القسطنطينية استدعى إليه مكسيميوس الوثني كما استدعى القديس باسيليوس رفيقه في جامعة آثينة.
ومنح يوليانوس الشعب حرية المعتقد وسمح بعودة من نفي مضطهدا، فاغتنم الفرصة أثناسيوس الكبير وعاد إلى الإسكندرية، ولكن يوليانوس ما لبث أن أصدر في السابع عشر من حزيران من السنة 3262 قانونا جديدا للتعليم حصر بموجبه تعيين الأساتذة بيد السلطة المركزية ومنع المسيحيين من مزاولة هذه المهنة؛ «لأنهم حرموا درس النصوص الفلسفية القديمة.»
4
فانبرى كل من أبوليناريوس كاهن اللاذقية وابنه أسقفها لنظم التاريخ المقدس في لغة يونانية قشيبة فصحى، فأخرجا أربعا وعشرين قصيدة ضمناها أخبار التوراة منذ البدء حتى عهد شاوول، وحذا حذوهما غيرهما من الآباء، فتيسرت للنصارى نصوص يونانية فصحى استعاضوا بها في تعليم أولادهم عن النصوص اليونانية الوثنية.
وأفرغ يوليانوس مجهوده في تذليل الأكليروس، فنزع منهم امتيازاتهم وأبطل ما كان قد أمر به قسطنطين الكبير من معونة لهم، وكان يقول مستهزئا إن قصده من ذلك أن يقود المسيحيين إلى الكمال بحملهم على إتقان الفقر الذي أمر به الإنجيل، وعرى الكنائس ونقل تحفها إلى هياكل الأوثان.
في أنطاكية
ودب النشاط في صفوف قبائل القوط في قطاع الدانوب، وحسب يوليانوس لذلك حسابه، ولكنه آثر العمل في الشرق في جهة الفرات؛ لأنه كان يعتقد أنه هو الإسكندر في دور ثان، فقام إلى أنطاكية في صيف السنة 362 فوصلها في التاسع عشر من تموز يوم انتحاب العذارى على مقتل أذوناي عشيق عشتروت، وكان ليبانيوس الفيلسوف الأديب قد عاد إليها ليعلم فيها إخوانه الأنطاكيين، فاستقبل الإمبراطور الجاحد استقبالا حارا، ولكن أنطاكية كانت قد أصبحت مسيحية، فهال يوليانوس إعراض أهلها عن الدين القديم وقلة اكتراثهم بهياكل دفنة المقدسة، فقال في إحدى رسائله إلى الأنطاكيين: «هو ذا الشهر العاشر شهر لوس الذي تبتهجون فيه بعيد أبولون الإله الشمس، وكان من واجبكم أن تزوروا دفنة، وكنت أنا أتصور موكبكم لهذه المناسبة شبانا بيضا أطهارا يحملون الخمور والزيوت والبخور ويقدمون الذبائح، ولكني دخلت المقام فلم أجد شيئا من هذا وظننت أني لا أزال خارج المقام، فإذا بالكاهن ينبئني أن المدينة لم تقدم قربانا هذه المرة إلا وزة واحدة جاء بها هو من بيته!»
5
وأكرم يوليانوس ليبانيوس الفيلسوف الوثني، ورقى عددا من الوجهاء إلى رتبة المشيخة فجعلهم أعضاء سناتوس أنطاكية، ووهب للمدينة مساحات كبيرة من أراضي الدولة، ولكن الأنطاكيين المسيحيين قابلوه بالهزء ووجدوا في النقيضين - لحيته الطويلة وقامته القصيرة - مجالا واسعا لأن يمارسوا ما طاب لهم من ضروب العبث والسخر،
6
وعبثا حاول ليبانيوس أن يوفق بين الإمبراطور وبين رعاياه الأنطاكيين، ثم اشتد الخلاف وتفاقم الشر حين أخرج الإمبراطور بقايا شهيد أنطاكية القديس بابيلاس من قبره في دفنة، فغضب المسيحيون لكرامتهم وأحرقوا في الثاني والعشرين من تشرين الأول هيكل أبولون، فأقفل الإمبراطور كنيسة أنطاكية الكتدرائية وأمر بنهبها وتدنيسها، فكسر المسيحيون تماثيل الآلهة وأبى الجند المسيحيون أن يسيروا تحت لواء الإمبراطور الجاحد لمحاربة الفرس.
7
وعلم يوليانوس أن يسوع تنبأ بأن لا يبقى من الهيكل في أوروشليم حجر على حجر، فلكي يكذب الكتب اهتم لإعادة بناء الهيكل، فأرسل إلى أوروشليم أحد أمنائه إليبيوس ليشرف على العمل، وتقاطر اليهود واجتمع عدد كبير منهم في مكان الهيكل، فجرفوا المكان وحفروا في الأرض كبارا وصغارا رجالا ونساء، ولما انتهوا من هدم الأساسات القديمة وأوشكوا أن يضعوا الأساسات الجديدة حدثت زلزلة هدمت الأبنية المجاورة وقتلت بعض الفعلة وملأت الحفر ترابا.
الحرب الفارسية
ولم يسع شابور ذو الأكتاف للحرب هذه المرة، بل فاوض في سبيل السلم والوئام وبعث الرسل إلى أنطاكية، ولكن يوليانوس أبى أن يصغي إليهم واكتفى بالقول: «قريبا ترونني.» واسترضى اليهود في مملكته؛ طمعا في أن يعاونه إخوانهم في فارس، وحالف ملك أرمينية على الرغم من نصرانيته، ونهض في ربيع السنة 363 إلى الفرات على رأس جيش مؤلف من خمسة وستين ألفا. وكان يود أن ينصب على عرش فارس هورمزد أخا شابور وكان هذا لا يزال داخل الحدود الرومانية منذ السنة 324، وقطع يوليانوس الفرات على جسر من القوارب، ولدى وصوله إلى الخابور أفرز ستة عشر ألفا بقيادة بروكوبيوس أحد أنسبائه؛ ليتجه بهم شرقا عن طريق نصيبين ويتصل بالأرمن الزاحفين شطر الجنوب، وأعطى بروكوبيوس في السر ثوبا أرجوانيا وعينه خلفا له في حال الوفاة، وزحف هو يحاذي الفرات في طريقه إلى بابل. وكان ذو الأكتاف قد أخطأ التقدير فحسب أن الجيش الروماني سينطلق من نصيبين، فاتجه هو إلى دجلة لمقابلة أعدائه، وتابع يوليانوس زحفه جنوبا ثم اتجه شرقا إلى دجلة، واحتل سلوقية وواقع خصمه عندها، فانتصر عليه انتصارا باهرا. واستأنف الزحف على طيسفون عاصمة شابور، فبلغها وشابور لا يزال بعيدا عنها. وكانت طيسفون صعبة المنال، فرأى يوليانوس أن يتصل ببروكوبيوس والأرمن قبل ضرب الحصار عليها، وفيما هو فاعل ضايقه الفرس في السادس والعشرين من حزيران بهجوم متتابع، وكان هو قد نزع عنه درعه من شدة الحر فاضطر فجأة أن يتقدم إلى الصفوف الأمامية لرد هجوم على مؤخرة جيشه، فأصابه سهم في ذراعه عقبه نزيف شديد، وعبثا حاول أطباؤه وقف النزيف فتوفي في منتصف الليل وهو يحدث صديقيه الفيلسوفين مكسيميوس وبريسكوس عن صفات النفس السامية العالية، وقيل إن فارسا مسيحيا من فرسانه رماه بهذا السهم للقضاء عليه.
الفصل السادس
ثيودوسيوس الكبير
379-395
خلفاء يوليانوس
وتشاور رؤساء الجند في من يكون خلفا ليوليانوس، فأجمعوا على مدبر برايفكتورة الشرق سلوتيوس سكندوس،
1
ولكنه اعتذر عن القبول بداعي المرض والتقدم في السن، فنادى قسم من الجند بيوفيانوس
2
إمبراطورا، وكان هذا رئيس الخدم في القصر مسيحيا نيقاويا من بانونية بين الشرق والغرب، فأيده الجنود المسيحيون، ورضي عنه رؤساؤهم الشرقيون والغربيون معا، فوقع صلحا مع الفرس تنازل فيه عن جميع ما وقع شرقي دجلة، وعن نصيبين وسنجار ونصف أرمينية، وعاد إلى أنطاكية فوصل إليها في خريف السنة 363، وكان لا يزال في الثلاثين من عمره، ضئيل الحظ من الثقافة، يحب الخمر والنساء، وعلى الرغم من اتصال أثناسيوس الكبير به وإلحاحه عليه، فإنه لم يخرج في سياسته الدينية عن الخطة التي رسمها قسطنطين الكبير؛ ولذا نراه يقول بطريرك الإسكندرية أثناسيوس نفسه: «إني أكره الشقاق وأحب من يعمل في سبيل الوئام.»
3
وأصدر براءة أوجب فيها عبادة «الكائن الأعلى»، وحرم «الخرافات»،
4
ثم ما لبث أن وجد ميتا بخيمته في آسية الصغرى، بعد أن قضى ليلة بين الكئوس والأباريق، وذلك في أوائل السنة 364.
واجتمع رؤساء الجند في نيقية وتداولوا في أمر الخلافة، وكانوا لا يزالون هم الذين رفعوا يوفيانوس إلى منصة الحكم، فطلبوا إلى سلوتيوس سكندوس أن يكون ابنه خلفا ليوفيانوس، فأبى؛ نظرا لصغر سنه، فأجمعوا على ولنتنيانوس
5
أحد قادة الحرس، وكان هذا أيضا من بانونية بين الشرق والغرب، وما إن أطل على الجند ليخطب فيهم حتى قاطعه عدد منهم بدق التروس طالبين إمبراطورا آخر يشاركه في الحكم، فاستمهلهم وشاور الرؤساء، فقال أحد هؤلاء: «إن كنت تحب أسرتك فإن لك أخا، وإن كنت تحب الدولة فانتق الأليق.» وفي الثامن والعشرين من آذار من السنة 364 قدم أخاه والنس
6
أوغوسطسا وشريكا له في الحكم، وتشاطر الاثنان الملك فحكم والنس الشرق (364-378)، وتولى ولنتنيانوس الغرب (364-375)، واتفق الاثنان على أمور معينة أهمها حرية المعتقد، ومنع إعفاء أحد من الضرائب، وإقامة جباة من الموظفين لجمعها، واقتسام الملك اقتساما تاما كاملا، بحيث تصبح الإمبراطورية دولتين: شرقية وغربية.
وعبر الهون الفولكة في السنة 372 بعد الميلاد - أو قبيلها - متدفقين كالسيل الجارف في سهول روسية الجنوبية، فاحتلوا مراعي قبائل الآلاني ثم أراضي القوط الشرقيين حتى نهر الدنيستر، ولم يبق حائلا بينهم وبين مصب الدانوب سوى القوط الغربيين، وكان قسم كبير منهم قد قبل النصرانية على يد أولفيلاس القبدوقي (310-381) الذي نقل الإنجيل إلى لغتهم، فهب أثناريكوس
7
ملك هؤلاء القوط الغربيين يستعد للدفاع، فأنشأ خطا يصمد وراءه من منبع البروت حتى مصب الدانوب، وعبر الهون الدنيستر وجازوه عند مصبه، ففر جماعة من القوط الغربيين وخذلوا قومهم واتجهوا غربا وجاءوا يفاوضون والنس في الانتقال إلى داخل الحدود الرومانية والإقامة في تراقية، وكان على رأس هؤلاء فريتيغرن وألافيف،
8
وأما أثناريكوس فمضى بجماعته واحتل جبال البنات في المجر.
وقد رأى والنس الإمبراطور في من انحاز إليه من القوط عنصرا طيبا وأداة فعالة لتقوية الجيش ولا سيما فرقة الخيالة؛ فقبل مطلبهم أن يدخلوا الحدود، فعبروا الدانوب خمسين ألفا، وما إن فعلوا وألقوا سلاحهم حتى شعروا بالفاقة وقلة المأكل، فاستعادوا سلاحهم بالرشوة وجالوا في البلقان ينالون قوتهم بالقوة، ووقعت اصطدامات عنيفة هنا وهنالك، فأضمر الرومان السوء ودعوا الزعيمين القوطيين في مطلع السنة 377 إلى مأدبة فاخرة في ماركيانوبوليس وحاولوا اغتيالهما، فنجا فريتيغرن بخدعة محكمة واندلعت نيران الحرب بين الفريقين في كل مكان، ولم يقو الجيش الروماني المرابط في البلقان على ضبط الموقف، فاستقدم والنس نجدات من الشرق القريب، وأمده غراتيانوس ابن أخيه ببعض الكتائب، ثم قام هو بنفسه على رأس الجيش الغربي لإعانة عمه، ولكن والنس تسرع فنازل فريتيغرن قبل وصول غراتيانوس، وذلك في الثامن من آب سنة 378، وعلى مقربة من أدريانوبوليس، فاكتسحت الموقف خيالة القوط، وخر والنس في ساحة القتال صريعا، وقيل إنه أحرق حرقا، وغشي القوط الريف كله ولكنهم لم يتمكنوا من إخضاع المدن المحصنة لنقص في العتاد.
ثيودوسيوس الكبير
وعظم الأمر على غراتيانوس وهاله، فاستدعى إليه ثيودوسيوس أشهر القادة وأمهرهم في الحرب، وفاوضه في أمر القوط وطلب إليه أن يتناسى ما كان قد لحق به وبوالده قبله من شر وضيم، ورفعه إلى منصة الحكم ونادى به إمبراطورا على الشرق، وكان ثيودوسيوس حسن القد، رشيقا، أشقر الشعر، أزرق العينين، أشرف الأنف، يشبه تريانوس ويدعي الانتساب إليه، وكان أيضا عالي النفس، رفيع الأهواء، يكثر من مطالعة التاريخ الروماني، ويحس الواجب القومي أيما إحساس،
9
فتقبل التاج في سرميوم في التاسع عشر من كانون الثاني سنة 379، وهب للقتال فأوقع بالقوط - فيما يظهر - ضربات أولية متتالية، ثم رأى أن لا بد من الاستيلاء على ثيسالونيكية لتأمين الزاد والعتاد الورادين من مصر والشرق، فاشتق طريقه إليها ووصلها في أوائل حزيران واستقر بها. وكان في أثناء هذا كله يتشاطر جنوده المشقة كأنه واحد منهم، ويعنى بتنشيطهم وتشجيعهم، ويؤمن راحتهم، فأحبوه واندفعوا في سبيله وازدادوا قوة ومناعة.
ورأى الإمبراطور أيضا أن يقوم بحملة عسكرية يصل بها إلى الدانوب، فيهول على أعدائه ويفاوضهم في الوقت نفسه، إذا وافقت الظروف، فوصل إلى أسكوب في السادس من تموز، وإلى فيقوس أوغوسطة في الثاني من آب، ولكنه عاد إلى ثيسالونيكية لتمضية فصل الشتاء، وفي شباط السنة 380، انتابه مرض عضال أشرف به على الموت، فطلب الاعتماد ليغسل جميع ذنوبه قبل ملاقاة ربه، وتعمد على يد أخوليوس أسقف ثيسالونيكية عمادة نيقاوية أرثوذكسية، ثم تماثل وتعافى، فعاد يعالج مشكلة الجيش، فأمر بتجنيد الفلاحين والعمال، وبملاحقة أبناء الجنود المختبئين في مكاتب الدولة، وبإنزال أشد العقاب بمن يقطع إبهامه للتخلص من خدمة العلم. وأمر كذلك بمن كان قد دخل في الجيش من القوط أن ينقل من البلقان إلى الشرق، وباستبدال هؤلاء بجنود شرقيين يحلون محلهم في البلقان.
وقامت فرقة من الجنود القوط إلى الشرق، فعبرت المضايق ووصلت إلى ليدية، ولكنها اشتبكت فيها مع فرقة شرقية كانت قد قامت من مصر لتحل محل الفرقة القوطية أو غيرها في البلقان، وفيما كان ثيودوسيوس يعد العدة على هذا النحو، تنافر القوط في البلقان وتنازعوا، واشتد الخصام بين جماعة أثناريكوس وجماعة فريتغرن ، وتوفي فريتغرن في صيف السنة 380، فخف القتال في جنوبي البلقان، وجاء غراتيانوس إمبراطور الغرب في الوقت نفسه إلى سرميوم وفاوض القوط في الشمال وهادنهم على أن ينتظم أبناؤهم في خدمة الجيش الروماني في مقابل تقديم الزاد اللازم للعشائر، فهدأت الحال وقام ثيودوسيوس من ثيسالونيكية إلى القسطنطينية فدخلها دخول المنتصر في الرابع والعشرين من تشرين الثاني سنة 380 وجعلها مقره الرسمي.
وفي الحادي عشر من كانون الثاني 381 أطل عليه في القسطنطينية أثناريكوس نفسه مقصوص الجناح أشل الساعد لما كان قد حل بجماعته من الشقاق والخصام، فرحب به ثيودوسيوس وبجله وعظم قدره، ولكنه توفي في الخامس والعشرين من الشهر نفسه، فأمر الإمبراطور بدفه دفنا ملوكيا، وفي هذه السنة نفسها وصلت طلائع الهون إلى الدانوب فردها القوط ببسالة ورباطة جأش. وشعر الطرفان - القوط والرومان - بخطر الهون، فباتا أكثر استعدادا للوصول إلى تفاهم دائم بينهما، فأرسل ثيودوسيوس في صيف السنة 382 القائد ساتورنينوس إلى القوط في الشمال ليفاوضهم في أمر الصلح، وكان ساتورنينوس من طراز ليبانيوس وغريغوريوس النازيانزي دمث الأخلاق وديعا معتدلا رزينا، فأقره القوط على مطالبه ووقع الطرفان في الثالث من تشرين الأول معاهدة صلح دائمة، وأهم شروط هذه المعاهدة أن الإمبراطور الروماني أذن بإقامة دولة قوطية بين الدانوب وجبال البلقان، شرط أن تبقى حصون هذه المنطقة رومانية. وتعهد بتقديم معونة مادية في مقابل انخراط القوط في الجيش الروماني، والواقع الذي لا مفر من الاعتراف به هو أن ثيودوسيوس آثر، بعد هذا، العنصر القوطي الألماني على غيره من العناصر في تعبئة جيشه، فغدا الجيش ألمانيا مع مرور الزمن بعد أن كان رومانيا صرفا في أيام الفتوحات.
المجمع المسكوني الثاني
وكان والنس قد أظهر تحيزا شديدا لآريوس والآريوسيين، فنفى جميع الأساقفة النيقيين وقهر رهبانهم على اللحاق بالجيش وقتل وأحرق، فلما سقط في أدريانوبوليس في السنة 378 ورضي ثيودوسيوس أن يتسلم الحكم (379)، اشتد التنافر بين الآريوسيين وبين النيقيين وعم جميع الأوساط الشعبية رجالا ونساء. ومن ألطف ما جاء في المراجع في وصف تدخل «العوام في علم الكلام» قول غريغوريوس أسقف نيسة اليونانية: «والجميع في الشوارع والأسواق وفي الساحات وعند مفترق الطرق يتكلمون فيما لا يفقهون، فإذا سألت أحدا من الباعة: ماذا أدفع؟ أجابك: هو مولود أو هو غير مولود، وإذا أنت حاولت أن تعرف ثمن الخبز أجابوك أن الآب أعظم من الابن، وإن سألت هل الحمام جاهز سمعت جوابا أن الابن جاء من العدم.»
10
ويرى رجال الاختصاص أن ثيودوسيوس عزم منذ أن تسلم أزمة الحكم على أن يجعل العقيدة الكاثوليكية الأرثوذكسية عقيدة الدولة،
11
فإنه منذ السابع عشر من حزيران سنة 379 عندما أصدر براءته الأولى وحدد فيها واجبات كبير الكهنة الوثنيين في أنطاكية؛ امتنع عن أن يشير إلى نفسه باللقب الوثني: الحبر الأعظم، ولعل السبب في هذا أنه ولد من أبوين مسيحيين إسبانيين وأن حبر رومة دماسوس الكبير استغل نفوذ الحاشية الإسبانية المسيحية لحمل الإمبراطور على مراعاة الكنيسة، وعاد ثيودوسيوس في الثامن والعشرين من شهر شباط من السنة 380 فأصدر براءة خاصة جعل بها العقيدة النيقاوية عقيدة الدولة، فقال ما معناه: «وعلى جميع شعوبنا أن تجتمع حول العقيدة التي نقلها بطرس الرسول إلى الرومان، العقيدة التي يقول بها أسقف رومة دماسوس وأسقف الإسكندرية بطرس؛ أي أن يعترفوا بالثالوث الأقدس: الآب والابن والروح القدس، وللذين يقولون بهذه العقيدة وحدهم حق التلقب بالمسيحيين الكاثوليكيين،
12
أما الآخرون فإنهم هراطقة موصومون بالعار لا يحق لهم أن يدعوا الأبنية التي يجتمعون فيها كنائس، وسينتقم الله منهم ونحن أيضا بعده.»
13
وما كاد الإمبراطور يدخل العاصمة القسطنطينية في الرابع والعشرين من تشرين الثاني سنة 380 حتى أخرج منها أسقفها الآريوسي وأدخل إليها (26 تشرين الثاني سنة 380) «بلبل قبدوقية الأزرق» غريغوريوس الثاولوغوس النازيانزي بجميع مظاهر الأبهة والإجلال. وغريغوريوس هذا العظيم ولد بالقرب من نازيانزة في قبدوقية في السنة 330، ودرس في الإسكندرية وقيصرية وآثينة - كما مر بنا - وكان قد اشتهر بعلمه وفلسفته وفصاحته، وسيم أسقفا على ساسمة فنازيانزة، وأراده ثيودوسيوس أسقفا على العاصمة. وفي العاشر من كانون الثاني سنة 381 أردف ثيودوسيوس براءته هذه الأولى ببراءة ثانية فصل فيها العقيدة الأرثوذكسية الكاثوليكية كما كان قد أقرها المجمع المسكوني الأول في نيقية، وأبان أن الهرطقة
14
في نظر دولته شملت أقوال فوتيانوس وآريوس وأفنوميانوس. وفي الثاني من أيار من السنة نفسها حرم جميع المسيحيين المرتدين إلى الوثنية من حق الوصية الوصاية، وفي الثامن منه ضرب المنيكيين ضربة قاضية.
وكان ثيودوسيوس قد أعلن رغبته - وهو لا يزال في ثيسالونيكية - في عقد مجمع مسكوني عام؛ للنظر في أمور الكنيسة جمعاء، فنفذ أمنيته هذه في ربيع السنة 381، وأم القسطنطينية عدد من أعاظم رجال الكنيسة، بينهم: ملاتيوس بطريرك أنطاكية، وغريغوريوس النازيانزي بطريرك القسطنطينية - فيما بعد - وتيموثاوس بطريرك الإسكندرية، وكيرلس أسقف أوروشليم، وأمفيلوشيوس أسقف إيقونية، وبيلاجيوس أسقف اللاذقية، وذيذوروس أسقف طرسوس، وأكاكيوس أسقف حلب، وكثيرون غيرهم بلغ مجموعهم مائة وخمسين.
وكان دماسوس بابا رومة قد ألح بوجوب انعقاد هذا المجمع المسكوني في رومة نفسها، ولكن ثيودوسيوس الإمبراطور أبى وأصر على عقده في القسطنطينية، فلم تشترك رومة في أعمال هذا المجمع ولم يكن هنالك من يمثلها، ولكنها وافقت على جميع قراراته فيما بعد واعتبرته مجمعا مسكونيا قانونيا.
وكان ملانيوس البطريرك الأنطاكي قد اشتهر بجهاده ضد الآريوسية وبعلمه وفضله وتقواه، فأجمع الأعضاء عليه رئيسا، فسام غريغوريوس النازيانزي أسقفا على القسطنطينية، وتوفي في أواخر أيار، فانتخب المجمع غريغوريوس النازيانزي رئيسا، ولكنه كان عصبي المزاج سريع الغضب فاستعفى، وعندئذ انتخب المجمع - بإشارة من الإمبراطور - نكتاريوس القاضي رئيسا، وهو الذي أصبح فيما بعد بطريركا على القسطنطينية بعد غريغوريوس.
ونظر المجمع في بدعة مقدونيوس أسقف القسطنطينية الذي كان يقول بخلق الروح القدس من الله الآب بواسطة الابن، فنبذ المجمع هذا القول وأقر مراسيم المجمع النيقاوي، وأضاف إلى دستور الإيمان النيقاوي بعض إيضاحات، وخصوصا فيما كان يتعلق بأمر تجسد ابن الله وألوهية الروح القدس، فجاء في اثني عشر بابا - كما يلي - وهو لا يزال دستور المسيحيين حتى يومنا هذا: (1)
أؤمن بإله واحد آب ضابط الكل، صانع السماء والأرض، كل ما يرى، وما لا يرى. (2)
وبرب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد المولود من الآب قبل كل الدهور، نور من نور، إله حق من إله حق، مولود غير مخلوق، مساو للآب في الجوهر، الذي به كان كل شيء. (3)
الذي من أجلنا نحن البشر، ومن أجل خلاصنا، نزل من السماوات، وتجسد من الروح القدس ومن مريم العذراء، وتأنس. (4)
وصلب عنا على عهد بيلاطس البنطي، وتألم وقبر. (5)
وقام في اليوم الثالث على ما في الكتب. (6)
وصعد إلى السماوات، وجلس عن يمين الآب. (7)
وأيضا يأتي بمجد، ليدين الأحياء والأموات، الذي لا فناء لملكه.
15 (8)
وبالروح القدس، الرب المحيي، المنبثق من الآب،
16
الذي هو مع الآب والابن، مسجود له وممجد، الناطق بالأنبياء.
17 (9)
وبكنيسة واحدة جامعة مقدسة رسولية. (10)
وأعترف بمعمودية واحدة لمغفرة الخطايا. (11)
وأترجى قيامة الموتى. (12)
والحياة في الدهر العتيد، آمين.
وكان المجمع المسكوني الأول قد شرع في تنظيم الكنيسة على غرار نظام الدولة الرومانية، فأعطى أسقف عاصمة الولاية حق التقدم على أساقفة مدنها الأخرى، وجعله متروبوليتا عليها كلها، وكانت الولايات الرومانية المائة والعشرون قد انتظمت ذيقوسيات اثنتي عشرة، فجاء المجمع المسكوني الثاني يعطي متروبوليت عاصمة الذيقوسية حق التقدم على جميع المطارنة فيها، وأصبح - بموجب هذا الترتيب - بطريرك أنطاكية عاصمة ذيقوسية الشرق متقدما على جميع مطارنة هذه الذيقوسية، ومثله بطريرك الإسكندرية في ذيقوسية مصر، ومتروبوليت قيصرية قبدوقية في ذيقوسية البونط، ومتروبوليت إفسس في ذيقوسية آسية، ومتروبوليت هرقلية في ذيقوسية تراقية.
ويرجح بعض رجال الاختصاص أن أساقفة هذه الذيقوسيات كانوا يتمتعون بلقب إكسارخوس أو الأسقف الأول، وأنه كان لبعضهم ألقاب خاصة احتفظوا بها، فكان أسقف رومة يدعى أسقف المدينة أو حبرا أو بابا أو بطريركا، وكان أسقف الإسكندرية يدعى بابا وبطريركا ولا يزال «بابا وبطريرك الإسكندرية»، كما كان أسقف أنطاكية يدعى بطريركا أيضا، واللفظ بابا يوناني في الأرجح مأخوذ من الكلمة باباس ومعناها الأب، واللفظ بطريرك يوناني أيضا، وهو مركب من كلمة باتريا ومعناها العشيرة، وكلمة أرشيس ومعناها الرئيس.
ولما كان بروقنصل القسطنطينية وحاكمها لا يخضع لنائب الذيقوسية التي فيها هذه المدينة، ولما كانت القسطنطينية هي عاصمة الإمبراطورية الثانية «رومة الجديدة»، فإن المجمع رأى أن يعطي أسقفها حق التقدم على جميع الأساقفة بعد أسقف رومة، وأن يصار إلى تسميته في مجمع خاص، يشترك فيه جميع أساقفة الذيقوسيات الشرقية.
18
ودعا دماسوس حبر رومة الأساقفة إلى مجمع في رومة في السنة 372، ولكن ثيودوسيوس طلب إليهم متابعة العمل في القسطنطينية في الوقت نفسه، وسمح بأن يسافر وفد منهم إلى رومة؛ يراقب أعمال مجمعها ولا يشترك فيها، وتدخل غراتيانوس إمبراطور الغرب وحض الآباء المجتمعين في القسطنطينية على الاشتراك في مجمع رومة ولكن على غير جدوى، فاضطرب دماسوس ورأى في هذا إهانة له ونذير انشقاق بين الشرق والغرب.
19
العلاقات الرومانية الفارسية
وتوفي ذو الأكتاف شابور الثاني في السنة 379، وتولى العرش الفارسي بعده أردشير الثاني (379-383)، ثم شابور الثالث ابن ذي الأكتاف، فأرسل هذا في السنة 384 وفدا إلى القسطنطينية؛ يفاوض في توطيد السلم وتحسين العلاقات، وشفع ذلك بأن أرسل الهدايا الحرير والحجارة الكريمة والفيلة، ولكن حدث بعد هذا بقليل أن زحفت جيوش شابور الثالث على أرمينية ففر ملكها أرشاك الرابع إلى ثيودوسيوس مستجيرا، ولكن ثيودوسيوس كان في أمس الحاجة إلى السلم؛ نظرا لاضطراب الموقف في الغرب واغتيال غراتيانوس، ففاوض شابور في اقتسام أرمينية بينهما، فتم ذلك في السنة 386 بموجب خط فاصل امتد من ديار بكر «آمد» حتى أرضروم «ثيودوسيوبوليس»، وهكذا ضم ثيودوسيوس ما قارب من خمس أرمينية إلى ملكه، وفي بعض المراجع أنه جرى مثل هذا الاقتسام في ما بين النهرين ولكنه قول ضعيف.
20
ضجة في أنطاكية وبيروت
وتلطخت إدارة ثيودوسيوس بالرشوة، وكتب ليبانيوس الفيلسوف الأنطاكي إلى الإمبراطور يقول: «حكامك الذين تبعثهم إلى الولايات ليسوا سوى قتلة.» وتفاقمت أزمة مجالس الشيوخ في المدن، وفر الشيوخ واختبئوا، واضطر الإمبراطور أن يحد من نفوذ بعض الشخصيات الإقليمية، ثم جاءت السنة 387 فشرعت الحكومة المركزية تتهيأ للاحتفال بمرور عشر سنوات على حكم الإمبراطور،
21
فزادت الضرائب المفروضة، لكنها ما كادت تعلن عزمها على الجباية حتى لجأ الأنطاكيون إلى العنف، فاقتلعوا تماثيل الأباطرة وجروها في شوارع المدينة، وأحرقوا بعض الأبنية، وعلى الرغم من إعادة النظام في اليوم نفسه فإن عددا كبيرا من الأغنياء فروا واستتروا، وخشي الناس سطوة ثيودوسيوس وقسوته وظنوا أنه سيخرب المدينة، وتحركت بيروت فأعلنت ولاءها لمكسيموس في الغرب، وحذت حذوها الإسكندرية، وانبرى يوحنا الذهبي الفم تلميذ ليبانيوس، وكان لا يزال كاهنا في مسقط رأسه أنطاكية، يستغل الذعر لمصلحة الإيمان، فألف ميامره العشرين وحفظ لنا شيئا من تفاصيل تلك الحوادث،
22
وأمر ثيودوسيوس بتأليف مجلس عدلي للنظر في هذه الحوادث، واتخذ هذا المجلس مركزه في أنطاكية وحكم وقسا على الرغم من احتجاج الرهبان والأتقياء، ونزع ثيودوسيوس لقب متروبوليت عن أنطاكية وأنعم به على اللاذقية، ثم أصدر عفوا عاما قبيل عيد الفصح من السنة نفسها.
توحيد الإمبراطورية
وأحب غراتيانوس الإمبراطور القبائل الآلانية التي كانت قد فرت من سواحل بحر آزوف والتجأت إلى داخل حدود الإمبراطورية؛ خوفا من الهون البرابرة، فألحق أبناء هذه القبائل في الجيش وعطف عليهم عطفا مستمرا، فأثار بذلك حسد العناصر الأخرى في الجيش، فتمردت الكتائب الرومانية في بريطانية ونادت في السنة 383 بمكسيموس أحد النبلاء الأسبان إمبراطورا، وحذت حذوها كتائب الجيش في ألمانيا، ونزل مكسيموس بجنوده عند مصب الرين، فنهض غراتيانوس إليه وتلاقى الجيشان في منطقة باريز، ولكن عساكر الإمبراطور خانت سيدها، ففر غراتيانوس في ثلاثمائة فارس، ولحق به فرسان مكسيموس فأدركوه في ليون وقتلوه في الخامس عشر من آب سنة 383.
ثم أرسل مكسيموس يستدعي إليه والنتنيانوس الثاني أخا غراتيانوس الأصغر، معترفا بحقه بالملك مدعيا الحكم بحق الوصاية على الأمير القاصر، فأما ثيودوسيوس فحين أتته هذه الأنباء أسرع في السنة 384 إلى إيطالية لينظر في الأمر، وظن الناس أنه إنما قام ليحارب مكسيموس وليعيد الحق إلى نصابه، ولكنه أبرم مع المغتصب صلحا أعرج، فجعل مكسيموس أوغوسطا ثالثا مشترطا عليه إبقاء إيطالية بيد الإمبراطور القاصر ووالدته يوستينة، ولكن مكسيموس نكث بالشرط وزحف على إيطالية في السنة 387، ففر والنتنيانوس الثاني إلى الشرق واستقر في ثيسالونيكية، فزحف ثيودوسيوس في صيف السنة 388 بجيشه إلى حدود إيطالية وحارب مكسيموس وانتصر عليه، فاستسلم مكسيموس في أكويلية ولكن ثيودوسيوس أحاله إلى الجند فقتلوه ، وقام هو إلى ميلان وأقام فيها سنتين، وسير والنتنيانوس الثاني إلى غالية ليدبر أمورها.
فلما كانت السنة 392 قام والنتنيانوس هذا إلى فيينة ليصد هجوما بربريا قويا، فقتل فيها - على قول إحدى الروايات - وانتحر - على قول غيرها - فاختار قائد العساكر خطيبا غاليا اسمه أوجانيوس وأعلنه إمبراطورا في ليون، وانتقل هذا الإمبراطور في ربيع السنة 393 إلى إيطالية فأقام فيها، فألحت غلة زوجة ثيودوسيوس الثانية وأخت ولنتنيانوس بوجوب الاقتصاص من أوجانيوس؛ لأنها اتهمته بمقتل أخيها، فنهض ثيودوسيوس إليه في صيف السنة 394، وانتصر عليه في مداخل إيطالية الشمالية وأمر بقتله فقتل في جواقيلان، وهكذا أصبح ثيودوسيوس هو الحاكم الفرد في الإمبراطورية.
الوثنية تشرف على التلف
وفي الوقت الذي كان فيه ثيودوسيوس يضطهد الهرطقة والخروج على العقيدة الأرثوذكسية الكاثوليكية؛ كان يضيق الخناق على الوثنية ليخمد أنفاسها، فأبطل زيارة الهياكل وذبح الذبائح والعيافة بأكباد الحيوانات وأحشائها، وأدى هذا - بطبيعة الحال - إلى إغلاق الكثير من الهياكل وإلى اقتحام الجماهير بعضها؛ لنهبها وتدميرها.
ثم عاد فمنع في السنة 391 الذبائح وزيارة الهياكل وتكريم التماثيل، وفرض غرامات ثقيلة على الحكام والموظفين الذين يقترفون مثل هذه الذنوب، وأمر بإخراج مذبح آلهة النصر من بهو مجلس الشيوخ في رومة، وكان يوليانوس قد أعاده إلى هذا البهو بعد إخراجه منه في عهد قسطنطين، فاضطرب الشيوخ الوثنيون، ورأوا في ذلك تمثيلا وتنكيلا بمجد رومة وعظمتها، وأوفدوا سيماخوس الخطيب إلى ميلان؛ ليلتمس إعادة النظر في هذا التدبير وإرجاع المذبح إلى مكانه.
وعلم أمبروسيوس أسقف ميلان بمهمة سيماخوس، فكتب إلى البلاط يرجو المحافظة على حرية المعتقد المسيحي ويبين أنه ليس من هذه الحرية في شيء إكراه الشيوخ المسيحيين على الاجتماع والتشاور في قرب من مذبح وثني.
ووصل سيماخوس إلى ميلان وتكلم باسم الشيوخ الوثنيين، فطالب باحترام جميع الأديان وقال: يمكن الوصول إلى الحقيقة الدينية بطرق متعددة، ثم أشار إلى يمين الولاء المفروضة على جميع الأعضاء وأبان أنه إذا لم يكن ثمة مذبح في بهو المجلس فعلى أي شيء يقسم الأعضاء اليمين؟ ولكن ثيودوسيوس كان شديد التمسك بالنصرانية فأحال عريضة الشيوخ إلى المجلس الإمبراطوري الأعلى مع الإيعاز برفضها، وفي السنة 392 أصدر الإمبراطور أمرا خاصا إلى نائبه في مصر يوجب تطهير هذا البلد من أدران الوثنية، فأقفل السيرابيوم في الإسكندرية، واتفق أن أراد ثيوفيلوس أسقف الإسكندرية أن يحول هيكلا وثنيا إلى كنيسة مسيحية فثارت ثائرة الوثنيين في الإسكندرية والتجئوا إلى السيرابيوم واعتصموا فيه.
وحضهم الفيلسوف أوليمبيوس الوثني على الاستماتة في سبيل دينهم، فأمر ثيودوسيوس بهدم الهيكل وتدميره، وألح ثيوفيلوس بوجوب تقطيع تمثال سيرابيس بالفئوس، وكان الناس يعتقدون أن سيرابيس يقابل مثل هذا العمل بالزلزال، لكن ما إن سقط التمثال وهدمت قاعدته حتى خرج منها جيش من الجراذين! ثم أضرمت النار في أمتعة الهيكل الكبير فاحترق معها عدد غير قليل من نفائس المخطوطات اليونانية، وضاعت بضياعها صفحة من تاريخ العلم والمدنية.
الوفاة
وكان ثيودوسيوس قد أدمن شرب الخمر وما يتبعها من ملذات، فأسرف على صحته، وتوفي في ميلان في السابع عشر من كانون الثاني سنة 395، وأبنه أمبروسيوس في الخامس والعشرين من شهر شباط، مؤكدا هلاك مكسيموس وأوجانيوس وخلاص ثيودوسيوس.
الفصل السابع
ظهور الرهبانية وانتشارها
أصلها
وعاش السيد نفسه عيشة فقر وتيه ومسكنة، وعلم باقتراب النهاية، وأرسل تلاميذه ليكرزوا بملكوت الله، وأوصاهم ألا يحملوا شيئا للطريق «لا عصا ولا مزودا ولا خبزا ولا فضة» وألا يكون للواحد منهم ثوبان،
1
وقام يعقوب بعده لا يأكل لحما ولا يشرب خمرا ولا يقتني سوى رداء واحد، وحض الرسل المؤمنين على العفة والبتولية وأجازوا الزواج لمن خشي العنت فقط.
2
وجاء الاضطهاد في القرون الثلاثة الأولى، ففر عدد من المؤمنين إلى البراري والقفار، وعاشوا فيها عيشة البؤس والطهارة والتقوى،
3
واشتدت وطأة الحكم وكثرت الضرائب وتثاقلت، فتاه الفلاحون وتركوا القرى والمزارع؛ محتجين على نظام المجتمع طالبين عيشة جديدة، حتى إذا أطل القرن الرابع وجاء قسطنطين وخلفاؤه وتنفس المؤمنون تنفسة الراحة، لم يكد يغير ذلك شيئا من طريقتهم الأولى؛ إذ أصبحوا يقولون بوجوب الانكفاء والابتعاد عن العالم والتأمل والتفكر الجدي بالقيم الروحية والبشرية.
أنطونيوس الكبير (250-356)
وأشهر الرهبان الأولين أنطونيوس الفلاح المصري الذي اعتكف على نفسه خمسة عشر عاما، ثم انزوى في حصن مهجور عشرين عاما، وذاع صيته في مصر فالتف حوله عدد من الزهد، وألحوا عليه بوجوب تنظيمهم، فأسس في السنة 305 تعاونية رهبانية أجاز فيها ضروبا من التنسك وألوانا متفاوتة من شدة الوحدة والانفراد.
هذا، وقد قام على حدود الصحراء في منطقة أسيوط عدد كبير من النساك الأنطونيانيين، جماعات وأفرادا، وفي وادي النطرون في صحراء ليبية انعزل آخرون جماعات وأفرادا أيضا، ينسجون الكتان فيلبسونه ويبتعدون عن كل ما يمت إلى الملذات بصلة، ويتعبدون منفردين في أيام الأسبوع مجتمعين في أيام السبوت والآحاد. واختلفت الطريقة الأنطونيانية عن غيرها في أنها تركت للناسك الفرد الحرية التامة في انتقاء طريقته في التنسك.
باخوميوس القديس (290-345)
وتقبل النصرانية في هذا الوقت نفسه في طيبة مصر ناسك من نساك سيرابيس، فقاده حبه للتنسك والنساك أن يؤسس ما بين السنة 315 والسنة 320 أولى الرهبانيات المسيحية، وذلك في تبينية بالقرب من دندرة، واختلف أتباعه عن أتباع أنطونيوس في أنهم عاشوا مجتمعين تحت سقف واحد وحول مائدة وكنيسة واحدة، وكان عليهم أن يقرءوا الكتاب ويصلوا ويعملوا عملا مفيدا، وازداد عددهم وكثرت مؤسساتهم، وانتشروا في صعيد مصر، وحذت مريم أخت باخوميوس حذو أخيها فأنشأت رهبانية للراهبات لم تختلف في نظمها عن رهبانية الرجال.
4
باسيليوس الكبير (329-379)
وشاع أمر الترهب في فلسطين وسورية ولبنان، ثم في آسية الصغرى، وأشهر من قال به في هذه الأقطار وأشدهم تأثيرا وأكثرهم أتباعا؛ باسيليوس الكبير أسقف قيصرية قبدوقية، وكان قد بدأ الترهب في بلاده فشغف به وزار سورية ولبنان وفلسطين ومصر في السنة 357، وتفقد شئون الرهبان والنساك فيها فأعجبه نظام باخوميوس، فلما عاد إلى آسية الصغرى وكانت السنة 360 عزم على الترهب فاختار البونط وأنشأ فيه ديرا بالقرب من قيصرية الجديدة، فوضع نظام الرهبانية الباسيلية وأصر فيها على الطاعة زيادة على الفقر والعفة، واشتهر أتباعه بأعمالهم الزراعية وباهتمامهم بتربية اليتامى وتعليم الصبيان.
وكان باسيليوس الكبير قد تلقى الفلسفة والكتابة والخطابة على يد ليبانيوس الفيلسوف الأنطاكي وفي الإسكندرية وآثينة، وجمع إلى ذلك ذكاء الفؤاد وقوة الحجة وفصاحة الكلام، وكان قد رافق غريغوريوس الثاولوغوس في سني الدارسة وأحبه، فنشأت بينهما صداقة قوية، تعاونا فيها على خدمة الكنيسة، ووافق عصره أن كانت الأرثوذكسية مضطهدة فانتصر لها قولا وكتابة وألف رسائل عدة لا يزال معظمها معروفا، ولا نزال حتى يومنا هذا نردد كلماته وأفكاره في خدمة القداس في آحاد الصوم الكبير ويومي الخميس والسبت العظيمين وفي بارامون الميلاد وبارامون الظهور الإلهي، وفي يوم عيده الخامس من كانون الثاني.
وقد كان لهذا كله أثر كبير في نفوس المؤمنين فكثر الإقبال على الترهب، وشاعت طريقة باسيليوس في جميع الأقطار الشرقية، وفي اليونان والبلقان وروسية.
5
مار مارون (؟-410)
وآثر المؤمنون في سورية ولبنان وفلسطين الترهب الفردي على الجماعي، فتركوا المدن والقرى وانتثروا في السهول والوديان وعلى قمم التلال يتأملون ويبتهلون ويعملون، وكان من أشهر هؤلاء في القرن الرابع مار مارون، ولا نعرف بالضبط سنة ولادته ولا المكان الذي ولد فيه ولا محل تنسكه، ولكننا نعلم علم اليقين أنه عاش وعمل في سورية الشمالية في النصف الثاني من القرن الرابع.
ويرى الأب لامنس اليسوعي أن مار مارون عاش ومات في القورسية، وقورس عاصمة منطقة القورسية كانت تقع على مسيرة يومين من أنطاكية وعلى نحو سبعين كيلومترا من حلب إلى شماليها الغربي، ويميل المطران بطرس ديب إلى القول بأن مار مارون تنسك على جبل في منطقة أبامية «قلعة المضيق» من سورية الثانية.
وأقدم ما نعود إليه في تاريخ مار مارون رسالة وجهها إليه يوحنا الذهبي الفم من منفاه في مدينة كوكيسوس في جبال طوروس في السنة 404 أو 405، وهي الرسالة السادسة والثلاثون من رسائل هذا القديس،
6
وفيها مودة ومحبة واستفسار عن الصحة والسلامة ورجاء إلى مار مارون أن يصلي من أجل الذهبي الفم، فلا شائبة إذن تشوب عقيدة مار مارون، وهو بالتالي أرثوذكسي كاثوليكي نيقاوي.
وأنفع المراجع الأولية ما جاء عن مار مارون في تاريخ التنسك والنساك لثيودوريطس أسقف قورس (423-458) الذي ولد في أنطاكية قبل وفاة مار مارون بسبع عشرة سنة (393) وعرف يعقوب الناسك أشهر تلاميذ مار مارون.
7
ويستدل من كلام ثيودوريطس وغيره أن مار مارون قصد في النصف الثاني من القرن الرابع إلى قمة أحد المرتفعات في القورسية؛ يرتاد الخلوة والطمأنينة، فكرس هيكلا وثنيا كان قد «خصص للأبالسة منذ القديم» واستعمله في عبادة الإله الواحد، وأنه كان يقضي أيامه ولياليه تحت قبة السماء متعبدا، وأنه كان يلجأ إلى خيمة صغيرة اصطنعها من جلود الماعز؛ ليتقي فيها شر العواصف والبرد. ولم يكن مار مارون يكتفي في تقشفه «بالأصوام والصلوات المستطيلة، والليالي الساهرة في ذكر الله وإطالة الركوع والسجود، والتأملات في كمالات الله ومناجاته، وحبس الجسد في منطقة محدودة، وقهره باللباس الخشن والمسوح الشعرية، وتحريم الجلوس أحيانا، ومنع النوم ليالي بكاملها والانصراف إلى وعظ الزوار وإرشادهم»؛ بل كان يزيد عليها ما ابتكرته حكمته فيوازن بين النعمة والأعمال، ويؤكد ثيودوريطس أن الله منح مارون موهبة الشفاء وأن الناس تقاطرت إليه أفواجا وأنه لم يكتف بشفاء أمراض الجسد بل كان يشفي بعضا من البخل وآخرين من الغضب ويعلم غيرهم العدل، وينهى عن استباحة المحرمات ويوقظ من غفلة التواني.
ومما يجدر ذكره لهذه المناسبة أن مار مارون اجتذب تلامذة عديدين رجالا ونساء، وأن هؤلاء التفوا حوله في صوامع قريبة، يهتدون بإرشاداته في مجاهل حياتهم النسكية، فلما توفاه الله في السنة 410 نشأت أخوية مارونية تعمل بما علم به هذا الناسك المجاهد.
8
الباب الثالث
المحنة الأولى: تدفق البرابرة وتفرق النصارى
الفصل الثامن
أركاديوس الأول وثيودوسيوس الثاني
395-450
أسرة ثيودوسيوس الكبير
وكان ثيودوسيوس الكبير قد تزوج من آلية فلاتشيلة الإسبانية قبل أن تبوأ عرش الأباطرة، فولدت له أركاديوس وهنوريوس، ثم توفاها الله في السنة 386 فاقترن ثيودوسيوس الإمبراطور بغلة بنت ولنتنيانوس الأول ورزق منها بنتا سماها غلة بلاسيدية، وتزوج أركاديوس من إفذوكسية، فولدت له ثيودوسيوس الثاني وبلشيرية، أما هنوريوس فإنه تزوج من مريم بنت عمه هنوريوس ومن ثرمنتية، ولكنه ظل عاقرا بلا وارث.
أركاديوس (395-408)
وكان أركاديوس غلاما يافعا عندما تبوأ العرش، بطيء الحس ضعيف الإرادة ، فانقاد أولا لمدبر أموره روفينوس ثم لندمائه وجلسائه، وأشهر هؤلاء الخصي أفتروبيوس الذي نال الحظوة بأن قدم لأركاديوس إفذوكسية الفتانة بنت ضابط من ضباط الجيش، وكانت إفذوكسية هذه شديدة الإعجاب بجمالها وبنفسها متغطرسة منتفخة، فزادت الطين بلة، ولم يكن هنوريوس أوفر حظا؛ فإنه تبوأ العرش في الحادية عشرة وخضع لمآرب مدبر آخر هو استيليكون الوندالي، وعلى الرغم من مظاهر الإخاء والمحبة والتعاون بين الدولتين فإن كلا من استيليكون في الغرب وروفينوس وغيره في الشرق عمل على الشقاق والتنافر والضرر. وكان استيليكون يطمع في ضم جميع إيليرية وتوابعها إلى إمبراطورية الغرب ويعمل من أجل ذلك بكل دهاء، فهب زملاؤه في الشرق يثيرون الشغب على حكومة سيده في أفريقية، واشتد الاحتكاك بين الحكومتين حتى أدى إلى تضاؤل التبادل التجاري بين الشرق والغرب بل إلى انقطاعه حتى السنة 408.
ويقول إفنابيوس المؤرخ المعاصر: «إن كلا من الإمبراطوريين خضع لمن حوله من الرجال، وإن هؤلاء أشعلوها حربا دائمة مكتومة مستترة، وإنهم لم يترفعوا عن اللجوء إلى جميع أنواع المداهنة والمخادعة.»
1
ألاريكوس ملك القوط
ولدى وفاة ثيودوسيوس الكبير اعتبر القوط الغربيون أنفسهم في حل من روابط المعاهدة التي كانوا قد وقعوها معه في السنة 382، وظهر بينهم رجل نشيط طموح، هو ألاريكوس بلطة،
2
فبايعوه ملكا عليهم، وادعى ألاريكوس أنه لم ينل من حكومة رومة الجديدة ما استحقه من رتبة وتقدير، فنهض بمجموعه إلى مقدونية وتراقية وهدد العاصمة نفسها، ثم اتجه شطر اليونان، فعبر مضيق ثرموبولي ودخل بلاد اليونان الوسطى ثم جزيرة المورة، ونهب وأحرق وسبى.
وكان معظم جيش أركاديوس لا يزال في إيطالية، فكتب أركاديوس إلى استيليكون مدبر أمور أخيه أن يبعث إليه الجيش وأن يعاون في تأديب القوط وإعادتهم إلى مناطقهم على ضفة الدانوب، وقام استيليكون على رأس قوة إلى الشرق ووصل إلى ثسالية وأرسل جيش أركاديوس بقيادة غايناس القوطي إلى القسطنطينية، ولم يبادر إلى طرد ألاريكوس من بلاد اليونان قبل التخلص من روفينوس مدبر أركاديوس وخصمه اللدود، ونفذت المؤامرة بينه وبين غايناس وقتل روفينوس في تشرين الثاني من السنة 396.
وجاء استيليكون ثانية إلى اليونان في ربيع السنة 397، وكان بإمكانه أن يطبق بقواته على ألاريكوس ولكنه لم يفعل، فاغتاظ أركاديوس وتقبل رأي وزيره إفترومبيوس الخصي، فصالح القوط؛ ليتمكن من معاقبة استيليكون والانتقام منه، فرفع ألاريكوس إلى رتبة قائد في الجيش، وأقطع القوط الغربيين أراضي جديدة، واختار لهم الجزء الشمالي من إيليرية؛ ليتجهوا بغزواتهم شطر إيطالية بلاد استيليكون.
قوط القسطنطينية
واتجه القوط رجال ألاريكوس شطر إيطالية، ولم يعودوا إلى إزعاج أركاديوس، ولكن مشكلة قوطية أخرى بقيت تنتظر الحل، فإن ثيودوسيوس الكبير كان قد أدخل إلى صفوف الجيش عددا كبيرا من هؤلاء القوط ولا سيما في سلاح الخيالة، وكان بعضهم قد خدم الجيش بإخلاص وأبلى البلاء الحسن في ميادين القتال، فرقي من رتبة إلى رتبة. وكان بين هؤلاء - في هذه الفترة التي نحن بصددها - غايناس القوطي أحد كبار القادة في جيش الإمبراطور، وكان غايناس هذا يهتم بشئون القوط أبناء جنسه ويصغي إلى شكاويهم، فالتف حوله عدد لا يستهان به من الجند والمدنيين، فإذا هو في أوائل عهد أركاديوس أحد زعماء السياسة في العاصمة، ولم يكن عدد القوط المدنيين في العاصمة قليلا، فسيناسيوس المؤرخ المعاصر يقول: إنه لم يكن بيت من بيوت العاصمة يخلو من خادم قوطي، وإن البنائين والسقائين والعتالين؛ كانوا قد أصبحوا جميعا من القوط.
3
وكان يتلو غايناس في القوة والنفوذ والأهمية الخصي إفتروبيوس، فإنه جمع حواليه كل مغامر ومداهن من أصحاب المصالح الكبرى، الذين اتجروا بكل شيء وتملقوا كل صاحب نفوذ؛ إشباعا لمطامعهم، وأصبحت سياسة العاصمة في أيام أركاديوس الأولى تطاحنا مستمرا بين غايناس القوطي وأفتروبيوس الخصي؛ للحصول على النفوذ، أو الوصول إلى السلطة، أو الاحتفاظ بها.
ويستدل من بعض المصادر أن كثيرا من الشيوخ والوزراء ورجال الإكليروس لم يرضوا عن هذا ولا عن ذاك ، فتضامنوا في سبيل المحافظة على رومانية الدولة والحيلولة دون وصول الألمان البرابرة إلى الحكم، ولم يروا في افتروبيوس ذاك الوطني المخلص، فالتفوا حول المدبر أوريليانوس،
4
وأجمل ما بقي من آثار هذه اليقظة الوطنية الرومانية رسالة وضعها الأسقف سيناسيوس القيروني ووجهها إلى الإمبراطور، وأسماها «قوة الإمبراطور»، وكان سيناسيوس قد زار القسطنطينية في السنة 399، ولبث فيها ثلاث سنوات، فجاءت رسالته خير معين على فهم أوريليانوس وموقفه هو وجماعته من سياسة ذلك العصر، وتلخص هذه الرسالة بوجوب مراقبة الألمان البرابرة والاستعداد لمجابهتهم؛ لأنهم سيستغلون أتفه الأعذار لتقلد الأحكام، ولذا يجب على الإمبراطور أن يزيح الأجانب عن المناصب الهامة وأن ينزع عنهم عضوية مجلس الشيوخ، وعليه أيضا أن يطهر الجيش وأن يزيد عدد الوطنيين فيه ثم يفرض أمره على هؤلاء البرابرة.
5
ثورة القوط في فريجية
وكان الإمبراطور ثيودوسيوس الكبير قد أسكن جماعات من القوط الشرقيين مقاطعات معينة في فريجية في آسية الصغرى، فلما اشتد الاحتكاك بين غايناس وبين أفتروبيوس، أوعز القائد القوطي إلى هؤلاء بالتعرض للسكان الآمنين وإحداث الشغب، ففعلوا، فأنفذ الإمبراطور غايناس نفسه لإخماد هذه الحركة، وما إن وصل غايناس إلى مناطق الاضطراب حتى تفاهم مع قائد القوط الشرقيين ووجه - بالتضامن معه - خطابا إلى الإمبراطور يطلب فيه إخراج افتروبيوس من وظيفته وتسليمه إليه، فاضطرب أركاديوس وخشي سوء العاقبة فأبعد افتروبيوس عن العاصمة (399)، ولكن الزعيمين القوطيين لم يكتفيا بهذا بل أصرا على إعادة افتروبيوس إلى العاصمة ومحاكمته وإعدامه، وبعد أن تم لهما هذا طلبا إلى الإمبراطور أن يكرس إحدى كنائس العاصمة للصلاة بحسب المذهب الآريوسي، فاحتج يوحنا الذهبي الفم أسقف العاصمة احتجاجا قويا، فتراجع غايناس عن هذا الطلب؛ لعلمه أن الجماهير في العاصمة وخارجها تؤيد الذهبي الفم.
سقوط غايناس وانتهاء مشكلة القوط
وخشي الوطنيون الرومانيون مطامع غايناس وراعهم الأمر فتأهبوا وتهيئوا، وعاهدوا قوطيا آخر اسمه فرافيتة وعقدوا معه عقدا؛ لما لمسوا فيه من الإخلاص والمحبة للإمبراطور والولاء للإمبراطورية. ولدى خروج غايناس من العاصمة في أوائل السنة 400 هجم الوطنيون على من تبقى من عساكره في داخل المدينة وقتلوهم، فثارت ثائرة غايناس وجمع جموعه ونهب تراقية وهم بالعبور منها إلى آسية الصغرى، ولكن فرافيتة انتصر عليه وصده عن اجتياز المضايق، ففر غايناس عبر الدانوب، فوقع أسيرا بيد ملك من ملوك الهون أمر بقتله، فقتل في كانون الأول من السنة 400.
وكافأ أركاديوس فرافيتة فجعله قنصلا، وانتهت مشاكل القوط بسقوط غايناس، واعتبر أركاديوس انتصاره على غايناس عملا عظيما فنقشه على العامود التذكاري الذي أقامه في فورم القسطنطينية، وتغنى الشعراء بهذا النصر واعتبروه عظيما، وخلد سيناسيوس عمل أوريليانوس وجماعته برواية رمزية دارت حوادثها على صراع بين أوسيريس «أوريليانوس» وتيفون المحرض على الشر.
6
يوحنا الذهبي الفم (345-408)
وأنجبت الكنيسة في هذه الفترة من تاريخها يوحنا الذهبي الفم، ولد في أنطاكية من أبوين شريفين في السنة 345 أو 347، وتلقى علومه على ليبانيوس الفيلسوف، وأبدى مواهب فريدة، فرأى فيه الفيلسوف المعلم خير خلف له، وعطف عليه، وعني به عناية فائقة، ولكن والدته أنثوزة سطت عليه «فسرقته»، على حد تعبير ليبانيوس، وعمدته مسيحيا، كما فعلت والدات غريغوريوس الثاولوغوس أوغوسطينوس وثيودوريطس.
وتسلم النعمة على يد ملاتيوس البطريرك الأنطاكي رئيس المجمع المسكوني الثاني في السنة 370، فآثر الانفراد واستأنس بالوحشة وانتبذ مكانا قصيا في برية أنطاكية ليحسن التأمل في الخالق وخلقه ويجيد التفكير في القيم الروحية والبشرية، وما فتئ معتزلا منزويا حتى انتابه مرض أكرهه على العودة إلى أنطاكية، فعاد إليها في السنة 380. وفي السنة 381 سامه البطريرك الأنطاكي ملاتيوس شماسا، ثم رقي إلى رتبة كاهن في السنة 386.
واشتهر الكاهن يوحنا بالتقوى، والتضحية، والخدمة، وبالخطابة والفصاحة، فلما توفي نكتاريوس بطريرك القسطنطينية، وقع عليه اختيار حاجب القصر، افتروبيوس الخصي، فطلبه إليه وأخرجه خلسة من أنطاكية؛ خوف أن يتدخل الجمهور الأنطاكي ويعترض، وعلى الرغم من تدخل ثيوفيلوس البطريرك الإسكندري وسعيه بالفساد؛ فإن يوحنا الذهبي الفم سيم أسقفا على العاصمة، ورقي الكرسي البطريركي في السنة 398.
وبدأ يوحنا الذهبي الفم عمله البطريركي باهتمام بالغ بشئون الفقراء والمساكين، فأنفق على المعوزين والجياع والمرضى ما كان بعض أسلافه يبذخون به بذخا، فأحبه البؤساء وتعلقوا به ، وآثروا الإصغاء إلى عظاته البليغة على الذهاب إلى دور التسلية، وميادين الألعاب، لما كان عليه من طلاقة اللسان، وسرعة الخاطر، وحضور الذهن، إذا تكلم تحدر كالسيل، وكلما أفاض ملك أعنة القلوب . وهذه عظاته لا تزال محفوظة حتى يومنا هذا، وفيها من الرقة، والطلاوة، والتفنن في التشبيه، والاستعارة، ما يسبغ على مواضيعها العادية سحرا وجاذبية لا حد لهما.
وكان البطريرك الجديد مثاليا، يأخذ نفسه وغيره بتطبيق هذه المثالية أخذا صارما، فحمل الرهبان على العمل المثمر، وحقق في بعض التهم التي وجهت إلى بعض الأساقفة، فعزل ثلاثة عشر منهم، وكان متحرجا يستنكر البذخ واللهو، فندد برجال البلاط ونسائهم، ولم تنج حتى الإمبراطورة إفذوكسية من هذا التنديد.
وكان ثيوفيلوس بطريرك الإسكندرية قد بدأ يضطهد من قال برأي أوريجانيوس، ففر من وجهه الإخوة الأربعة الطوال ولجئوا إلى الذهبي الفم (401)، فقبلهم متلطفا، ولكنه اعتبرهم محكوما عليهم، وإذا ببعض الرهبان - وغايتهم إثارة الشغب على الذهبي الفم - يستشفعون الإمبراطورة لدى زوجها أن يأمر ثيوفيلوس بالحضور إلى القسطنطينية، فقدمها ثيوفيلوس على رأس عدد من أساقفة مصر. وهكذا تجمع في القسطنطينية رهط من حساد الذهبي الفم، وممن نقموا عليه لتشديده عليهم في المحاسبة، فعقد ثيوفيلوس مجمعا ضد يوحنا بالقرب من خلقدونية (403) عرض بمجمع البلوطة، واتهم يوحنا الذهبي الفم بأقوال أوريجانيوس وبخيانة المملكة، وطلب هذا المجمع يوحنا الذهبي الفم أربع مرات للحضور فلم يحضر فقطعه، وحكم ثيودوسيوس عليه بالنفي.
ولكن الشعب لم يسلم بنفيه، فتدخل الجيش، فهدأ يوحنا الشعب ونصح لهم بالخضوع وخرج منفيا، وكان أن حدثت في اليوم التالي زلزلة عظيمة، فاضطرب ضمير إفذوكسية وداخلها الشك فطالبت زوجها بأن يعاد القديس حالا إلى كرسيه، فدخل القسطنطينية في موكب شعبي عظيم، فخجل ثيوفيلوس وعاد إلى الإسكندرية، وما كاد البطريرك القسطنطيني يستقر في كرسيه حتى أثاره التبجيل الذي أحيط به شخص الإمبراطورة لمناسبة إقامة تمثال لها في جوار كنيسة الحكمة، فندد بها مرة أخرى تنديدا شديدا، وقيل لها إنه استهل عظته بالقول: «لقد عادت هيرودية إلى حنقها، إلى رقصها، وها هي تطلب رأس يوحنا.» فاغتاظت إفذوكسية واستدعت ثيوفيلوس، ولفق هذا ما لفق فقطع المجمع يوحنا مرة ثانية، فنفي إلى نيقية (404) ثم إلى كوكيسوس في ثنايا جبال طوروس؛ لعله يقع طعمة في أيدي الإسوريين الثائرين، ولكنه بلغها سالما وأقام فيها ثلاث سنوات يكتب ويؤلف، وبقي فيها على اتصال برعيته فكان يعزيهم بقوله: «إن الذي لا يظلم نفسه لا يستطيع أحد أن يضر به.»
وناصره بابا رومة اينوشنسيوس، ولكن البلاط قرر إبعاده إلى صحراء بتيوس في حدود البحر الأسود، فرحل إليها، ولدى وصوله إلى قومانة في بلاد البونط توفي فيها في السنة 408 ونقل جثمانه إلى القسطنطينية في السنة 438.
7
وأشهر ما كتبه يوحنا الذهبي الفم، في أثناء تنسكه، في السنوات العشر الأولى من حياته الفكرية: رسالته في الكهنوت، وأحلى ما جاء من آثار يراعه، في عهد رئاسته، ميامره القسطنطينية، وتعليقه على رسائل بولس الرسول إلى أهل كورونثوس، وإلى الرومانيين، وكتب في منفاه رسائل عديدة أشرنا إليها سابقا، ولا نزال نتمتع بصلواته في خدمة القداس الإلهي في معظم أيام السنة. «لا ينوحن أحد عن فقر؛ لأن المملكة العامة قد ظهرت، لا يندبن أحد على آثام؛ لأن الصفح قد بدا من القبر، لا يخافن أحد من الموت؛ لأن موت المخلص قد حررنا، أين شوكتك يا موت؟ أين ظفرك يا جحيم؟ قام المسيح، وأنت غلبت، قام المسيح، والملائكة يفرحون، قام المسيح، واستقرت الحياة، قام المسيح، وليس ميت في القبر؛ لأن المسيح بقيامته من الأموات قد صار مقدمة الراقدين.»
8
ثيودوسيوس الثاني (408-450)
وكان من حسن حظ الإمبراطورية الشرقية أن توفيت إفذوكسية الإمبراطورة في السنة 404، على إثر إجهاض شديد، وأن تولى النفوذ في الدولة المدبر أنثيميوس الحكيم، وزاد في حسن الحظ أن توفي استيليكون في الغرب في السنة 408، وتبعه أركاديوس في السنة نفسها، فانفسح في المجال لأنثيميوس أن يعمل بحكمته وأن يبقى مسيطرا على شئون الدولة أربعة عشر عاما.
وكان ثيودوسيوس عند وفاة أبيه لا يزال في السابعة من عمره، فتهذب بعلوم عصره، ونشأ محبا للعلم، دينا، تقيا، وكان يجيد الخط والصيد، ومن ثم كان له هذا اللقب الذي نقرأ أحيانا: ثيودوسيوس الخطاط،
9
وأحبت شقيقته بلشيرية أن يكون لها امرأة أخ مطيعة، سهلة الانقياد، فانتقت له آثينة ابنة أستاذ آثيني وثني ، كانت قد أمت القسطنطينية؛ للمطالبة بحقها في إرث والدها، فقدمتها بلشيرية لأخيها فأعجبته، فنصرت باسم إفذوكية، وتم عقد قرانها، فأصبحت الإمبراطورة في السنة 431.
صداقة فارس
وكان ثيودوسيوس الكبير قد رأى - بثاقب نظره - أن مشكلة القوط وغيرها من مشاكل جبهته الشمالية الغربية تتطلب سلما دائما في الشرق، فاعتدل في مطالبه في أرمينية، وبين الفرات والدجلة، وانبثقت صداقة بين الدولتين دامت عهدا طويلا، ومما «يروى»، من هذا القبيل، أن أركاديوس لما حضرته الوفاة قلق على ولده الطفل ثيودوسيوس الثاني من دسائس البلاط، فأوصى بأن تكون الوصاية على ابنه ليزدجرد الأول ملك الفرس، ويروى أيضا أن يزدجرد الأول أنفذ إلى القسطنطينية، بعد وفاة أركاديوس، أحد أخصائه لحماية الملك الطفل،
10
والواقع أن يزدجرد الأول (399-420) أخلص في صداقته وترفع عن مضايقة النصارى في بلاده، وسمح لهم في السنة 409 أن يرمموا كنائسهم وأن يتعبدوا أحرارا، وسمح في السنة 410 بأن ينعقد، في عاصمته طيسفون، مجمع مسيحي انتخب إسحاق أسقف طيسفون «سلوقية» رئيسا على الكنسية الفارسية، ومنحه لقب كاثوليكوس، وصلى المجتمعون من أجل سعادة يزدجرد ونصره وتأييده،
11
ولكن حكومة فارس عادت - بضغط من كهنة زرادشت وطبقة النبلاء - إلى اضطهاد المسيحيين في السنة 421، فانقطعت العلاقات السياسية بين الدولتين، ولجأ الرومان إلى العنف، فدحر أردبوروس جيوش ملك الملوك، فسارع بهرام الخامس في السنة 422 إلى عقد صلح «يدوم مائة سنة»، وتعهد بهرام برفع الأذى عن المسيحيين، وبأن يطلق لهم حرية المعتقد والعبادة، فقابله ثيودوسيوس بمثل هذا فيما يتعلق بالزرادشتية في أرضه،
12
وتعاهد الطرفان أيضا ألا يحض أحد منهما العرب في أرضه على غزو العرب في أرض جاره، والإشارة هنا إلى المناذرة والغساسنة، «وكان المنذر بن النعمان قد غزا الشام مرارا، وأكثر المصائب في أهلها، وسبى وغنم، وكان قد جعل معه ملك فارس كتيبتين يقال لإحداهما دوس وهي لتنوخ، وللأخرى الشهباء وهي لفارس، فكان يغزو بهما الشام، ومن لم يطعه من العرب.»
13
وكانت فارس قد دخلت في دور كثرت فيه مطامع النبلاء والكهنة، وتشعبت واشتدت فيه هجمات الهون البيض على حدودها الشرقية الشمالية، وكانت بيزنطة قد اعتدلت في مطالبها - كما سبق أن أشرنا - فدام السلم بين الدولتين ردحا طويلا من الزمن.
تحوط واحتياط في الداخل
وكان من نتائج هذه اليقظة الوطنية الرومانية - التي سبقت الإشارة إليها - أن انصرف أنثيميوس المدبر الوصي إلى العناية باستحكامات المدن وقلاعها، فرمم عددا وافرا منها في شمالي البلقان الغربي، وعلى ضفة الدانوب. وكانت القسطنطينية قد اتسعت إلى خارج الأسوار التي أنشأها قسطنطين الكبير، فأقام أنثيميوس سورا جديدا في السنة 413 يدفع عن الأحياء الجديدة شر البرابرة وغيرهم، ثم تصدع هذا السور الجديد بزلزال قوي، فرممه قسطنطين المدبر، وأنشأ حوله سورا ثالثا عززه بخندق واسع عميق، وجاء عهد قورس المدبر فأنشأ تحصينات جديدة من جهة البحر، وأصبحت القسطنطينية في عهد ثيودوسيوس الثاني تنعم بثلاثة أسوار منيعة، ثبتت في وجه كل عدو حتى سقوط المدينة في السنة 1453، فصانت مدنية زاهرة في عصور اضطراب وفوضى.
14
وألغت الحكومة المركزية - في هذا العهد نفسه - ما كان قد تأخر من الأموال الأميرية، فانتعش الفلاح، والصانع، والتاجر الصغير، وقويت معنوياته، وزاد رضاه، وأعيد النظر في كيفية استيراد الحبوب من مصر إلى العاصمة وتموينها التموين الكافي.
وفي السنة 425 أصدر ثيودوسيوس الثاني براءة بتأسيس معهد علمي مسيحي عال يضاهي بأساتذته وطلابه معهد آثينة الوثني الذي كان لا يزال يدرس الفلسفة الوثنية، وأنشأ الإمبراطور في هذا المعهد الجديد واحدا وثلاثين كرسيا للتعليم، عشرة منها للغة اللاتينية، وعشرة للغراماطيق اليوناني، وخمسة للفصاحة والخطابة اليونانية، وثلاثة للخطابة والفصاحة اللاتينية، وكرسيا واحدا للفلسفة، واثنين للحقوق، وتقاطر الطلاب إلى هذا المعهد من كل صوب، ولا سيما أرمينية، وخصص الإمبراطور صرح الكابيتول لهذه الغاية، وأنفق على الأستاذة من أموال الخزينة، وحرم عليهم إعطاء دروس خصوصية،
15
ويلاحظ لهذه المناسبة أن اليونانية نالت حظا أوفر من اللاتينية.
وفي السنة 429 التفت المدبر أنطيوخوس إلى القانون والقضاء، فرأى أن ما صدر من القوانين، منذ عهد قسطنطين الكبير، أصبح متفرقا مبعثرا، يصعب الوصول إليه والاطلاع عليه، للفصل في الدعاوى، فاقترح تعيين لجنة من كبار القضاة والأساتذة والمحاميين؛ لجمع هذه القوانين وتبويبها، ووافق الإمبراطور ثيودوسيوس الثاني فأمر بتعيين هذه اللجنة وتابعت اللجنة أعمالها ثماني سنوات متتالية، فأنتجت مجموعة ثيودوسيوس الشهيرة،
16
وظهرت هذه المجموعة في الشرق في السنة 438، وفي الغرب في السنة التالية، وقسمت إلى ستة عشر كتابا، بعضها في الإدارة المدنية، وبعضها في الشئون العسكرية، وبعضها في الدين، وبعضها في الحقوق. وقسم كل كتاب إلى عدد من الأبواب (العناوين)،
17
وما صدر من الأبواب، بعد ظهور هذه المجموعة، أشير إليه بالعبارة: «القوانين المستجدة»،
18
ومجموعة ثيودوسيوس تعتبر من أهم المراجع الأولية لتاريخ القرنين: الرابع والخامس.
19
الهون
وكان قد عظم شأن الهون واتسع سلطانهم، فدوخوا جنوبي روسية ورومانيا والمجر وغاليسية، وكانوا منذ السنة 395 قد بدءوا يتحرشون بالإمبراطورية الشرقية، ففي هذه السنة عبروا القوقاس، وتدفقوا إلى سهول الجزيرة وسورية، فاسترضاهم ثيودوسيوس بأن بذل لهم، في السنة 430، عطاء سنويا بلغ قدره ثلاثمائة وخمسين دينارا ذهبيا، ثم توفي روي مليكهم في السنة 434، فخلفه في الحكم ابنا أخيه بليدة وأتيلا، وكان أتيلا كثير المراغب، واسع الأطماع، فطلب إلى حكومة ثيودوسيوس مضاعفة المال السنوي، ومنحه رتبة قائد،
20
وغير ذلك من المطالب، فما إن ترددت حكومة ثيودوسيوس في القبول، حتى عبر أتيلا الدانوب بمجموعه في السنة 441 واحتل قسما كبيرا من شمالي البلقان، فاضطر ثيودوسيوس أن يجيب سؤل أتيلا، وأن يعقد معه صلحا في السنة 443، فيدفع أربعة آلاف دينار متأخر، وألفين ومائة دينار مالا سنويا. وبقيت تحرك أتيلا مطامعه، فقتل أخاه بليدة واستأثر بالسلطة، ثم لم يطل الوقت، حتى غشيت جموعه البلقان، ووصلت طلائعهم إلى ثرموبولي، وهددوا القسطنطينية، وعادت حكومة ثيودوسيوس إلى المفاوضة، فأرسلت لهذه الغاية وفدا من كبار الرجال، بينهم المؤرخ بريسكوس، ونجح الوفد فانسحب أتيلا عبر الدانوب في السنة 449، وقد تم الاتفاق بينه وبين حكومة القسطنطينية على مال يؤدى له كل سنة، واتجهت أنظار أتيلا شطر الغرب.
21
انشقاق في الكنيسة
ولما أصبحت النصرانية دين الدولة عظم شأن الأساقفة والبطاركة، واشتد التزاحم على الكراسي في الكنيسة، فكان يظفر بها - في بعض الأحيان - من لم تكتمل فيه جميع المؤهلات الروحية، واشتدت المناظرة بين البطاركة ورؤساء الأساقفة والأساقفة، فأدت - في بعض الأحيان - إلى التنافر والتخاصم، وظهرت الرهبانية وازداد عدد الرهبان وتدخلوا في هذه المناظرات والمشادات، فأدخلوا فيها حماسة عمياء وكيدا عظيما، وتقلص ظل الوثنية وانتشر ظل النصرانية، فاشتركت الغوغاء في هذه المخاصمات، وتدخل فيها جمهور السفلة بهياجهم وضجيجهم وخرافاتهم وخزعبلاتهم.
بطريرك القسطنطينية وبطريرك الإسكندرية
وكان ثيوفيلوس بطريرك الإسكندرية (385-412) رجلا مثقفا وعالما رياضيا سخر مقدرته في الرياضيات لوضع جداول مضبوطة تنبئ بالأزمنة التي يقع فيها عيد الفصح، فاكتسب بذلك شهرة واحتراما في زمن اشتد فيه الورع والتقوى، وكان ثيوفيلوس أديبا كبيرا بلغ من شغفه بالأدب ورهافة ذوقه فيه مبلغا كان يستطيع معه أن يستمرئ حلاوة قطعة أدبية يكون هو نفسه قد حرم مطالعتها، وكان أيضا سياسيا محنكا بالغ القدرة في تسوية أعوص المشاكل وأعقدها، ولكنه كان طماعا مفتونا بالمال والمجد يدب إليهما بكل ما أوتي من دهاء وحنكة ومكر.
وشعر ثيوفيلوس بالطاقة الكامنة في رهبانيات مصر وكان قد ازداد عدد أفرادها حتى بلغ الألوف، فتقرب إليهم وتوخى السيطرة عليهم بأن عمد إلى التظاهر بما ليس فيه، فقال قول أكثريتهم بالتشبيه؛ أي إن لله شكلا بشريا، وراح يقاوم قول أوريجانيوس بشدة وحماسة، وكان هذا من المنزهة علم بأن الله لا جسم له فهو لا يرى ولا يمكن إدراكه. وبلغ من أمر ثيوفيلوس أن لجأ إلى العنف فهاجم بالقوة المسلحة ديرا كان رهبانه ما برحوا متمسكين بتعاليم أوريجانيوس، ففر أربعة من زعماء هؤلاء، عرفوا فيما بعد بالإخوة الطوال، إلى القسطنطينية والتجئوا إلى بطريركها يوحنا الذهبي الفم.
وكان ثيوفيلوس لا يقر المجمع المسكوني الثاني (381) على تقديم بطريرك القسطنطينية في الكرامة على سائر البطاركة بعد بطريرك رومة، فأضمر السوء ليوحنا الذهبي الفم، ودعا إلى مجمع في خلقيدونية - كما سلف لنا القول - واستغل جرأة الذهبي الفم ومواقفه العنيفة من بعض رجال البلاط ونسائهم - ولا سيما إفذوكسية الإمبراطورة - فتوصل بذلك إلى إنزال بطريرك القسطنطينية عن عرشه ودفعه إلى المنفى.
المجمع المسكوني الثالث في إفسس (431)
ورقي كرسي القسطنطينية في السنة 428 البطريرك نسطوريوس، وكانت الكنيسة قد علمت - منذ البدء - أن المسيح إله كامل وإنسان كامل، فلما أنكر آريوس عليها الاعتقاد بأن للكلمة المتأنس طبيعة لاهوتية أيضا عقدت المجمع المسكوني الأول، وأقرت كمال لاهوت المخلص، وحكمت بضلال آريوس وبطلان تعاليمه. ثم ظهر أبوليناريوس أسقف اللاذقية الذي اشتهر بدفاعه عن النصرانية في أيام يوليانوس الجاحد، وبتمسكه بتعاليم المجمع المسكوني الأول، فعلم أن اللاهوت في المسيح قام مقام العقل في الإنسان، وبالتالي أن المسيح كان الكلمة في جسم الإنسان، وأنه لم يكن بإمكانه أن يختبر الضعف البشري ولا أن يكون معرضا للتجربة، فقررت الكنيسة في مجمعها المسكوني الثاني كمال «ناسوت» المخلص. وكان من الطبيعي جدا أن تهتم أنطاكية للأمر؛ خصوصا لأن أبوليناريوس كان أحد أساقفتها، فأصر رؤساؤها على كمال طبيعة المسيح البشرية، واشتهر بين هؤلاء ديودوروس الطرسوسي وثيودوروس الموبسوستي.
وكان نسطوريوس سوري الموطن أنطاكي المذهب، فأصر مع أساتذته على كمال طبيعة المسيح البشرية، فما إن تبوأ الكرسي البطريركي في القسطنطينية حتى بدأ يعلم ضد اتحاد الطبيعتين اتحادا طبيعيا وجوهريا، ونهى عن تسمية العذراء بوالدة الإله «ثيوتوكوس» ويستبدلها بالتسمية «والدة المسيح» مدعيا أنها لم تلد إلها بل إنسانا آلة للاهوت، وأنها «قابلة» الإله لا والدة الإله، وما إن ذهب هذا المذهب حتى هاج الشعب في القسطنطينية وتظاهر ضده في الشوارع وفي الكنائس، فقابل نسطوريوس هذا التظاهر بالشدة، وعقد مجمعا محليا في السنة 429، وحرم كل من اعتقد غير تعاليمه.
22
وذاعت آراء نسطوريوس وبلغت إلى الإسكندرية، فحاربها حبرها البطريرك كيرلس (376-444) في بيانه الفصحي الذي أذاعه سنة 429 وأيد فيه الاعتقاد بالطبيعتين، ثم كتب إلى زميله القسطنطيني موضحا له أن تسمية البتول بوالدة الإله لا يعني أن مبدأ اللاهوت هو منها، بل إن المولود منها هو إله كامل وإنسان كامل، وكان نسطوريوس معجبا بنفسه فقابل كيرلس بالانتفاخ والتحقير، فكتب كيرلس بهذا الصدد إلى حبر رومة وبطريرك أنطاكية، وإلى عدد من رؤساء الكهنة في الشرق، فعقد حبر رومة مجمعا محليا في السنة 430، واعتبر تعليم نسطوريوس غير قويم، وكتب إليه وهدده بقطع العلاقات، وكتب يوحنا بطريرك أنطاكية إلى نسطوريوس أن يبرأ مما اعتراه من وهم بشأن تسمية العذراء بوالدة الإله. وذكره أن هذه التسمية وردت لكثيرين من مشاهير المعلمين والآباء، وكتب أكاكيوس رئيس أساقفة حلب، وكان شيخا أناف على المائة سنة، إلى كيرلس يرجو منه أن «يجتهد في إطفاء نار الخصومة ضنا براحة الكنيسة.»
وجاهر بعض رهبان القسطنطينية بمعارضة بطريركهم، فطردهم البطريرك واضطهدهم، فكتبوا إلى ثيودوسيوس الثاني يطلبون عقد مجمع مسكوني، وطلب نسطوريوس نفسه عقد مجمع مسكوني، فقبل الإمبراطور ودعا إلى مجمع مسكوني في إفسس في السنة 431 بعد العنصرة، ولبى الدعوة مائتا أسقف بينهم كيرلس بطريرك الإسكندرية ونسطوريوس بطريرك القسطنطينية ويوبيناليوس أسقف أوروشليم، وتخلف يوحنا بطريرك أنطاكية وممثلو بابا رومة، والتأم المجمع برئاسة كيرلس بطريرك الإسكندرية. ولكن نسطوريوس أضرب عن الاشتراك فحكم المجمع عليه بالقطع.
ثم تليت الرسائل التي كان قد وجهها إلى نسطوريوس كل من كيرلس بطريرك الإسكندرية وكليستينوس بابا رومة، كما تلي قرار مجمع رومة فصدقها المجمع، وبعد خمسة أيام وصل بطريرك أنطاكية ومعه اثنان وثلاثون أسقفا، فأنبأه المجمع بقطع نسطوريوس، فتكدر واعتبر عمل المجمع تسرعا ونسب إلى كيرلس الاستبداد، ثم عقد مجمعا مؤلفا من نحو أربعين أسقفا وحكم فيه بالقطع على كيرلس وعلى سائر الأساقفة الذين قبلوا قرار المجمع بلا فحص ولا روية.
ثم حضر نواب بابا رومة الأسقفان أركاذيوس وبروياكتوس والقس فيلبس، فاجتمع مجمع كيرلس مرة ثانية وتليت فيه رسائل البابا وأمضى فيها نوابه الأعمال السابقة، ودعي بطريرك أنطاكية إلى الاجتماع، فلم يحضر، فحكم المجمع بالقطع عليه وعلى ثلاثة وثلاثين أسقفا معه، فتحرك الإمبراطور لما رأى من هذه البلبلة فطلب وفدا عن كل فئة، فلما حضر الوفدان وسمع دعوى كل منهما؛ أمر بإعادة كل من كيرلس وأسقف إفسس إلى منصبه، ونصب على كرسي القسطنطينية أحد أعضاء وفد كيرلس واسمه مكسيميانوس، وأمر برجوع الأساقفة إلى أوطانهم.
وثبت المجمع الثالث دستور الإيمان الذي كان تثبيته قد سبق في المجمعين الأول والثاني، وحرر أسقفية قبرص من الخضوع لبطريرك أنطاكية، فأصبحت كنيسة مستقلة منذ ذلك الحين.
ثم دعا البطريرك مكسيميانوس كلا من بطريرك الإسكندرية وبطريرك أنطاكية إلى نيقوميذية وحدهما، فحضرا وتسالما بعد مدة، ونفي نسطوريوس إلى مصر فاغتاله أحد رهبانها في السنة 451.
المجمع المسكوني الرابع في خلقيدونية (451)
وكما تطرف نسطوريوس معارضا تعاليم أبوليناريوس فقال بكمال طبيعة الناسوت؛ أي بكمال طبيعة المسيح البشرية، فإن أوطيخة
Eutyches
أحد الآباء في القسطنطينية قال بكمال طبيعة اللاهوت معارضا مذهب آريوس، فعلم أن المسيح المخلص طبيعة واحدة، وأن جسده بمحض كونه جسد إله ليس مساويا لجسدنا في الجوهر؛ لأن الطبيعة البشرية اندثرت باتحادها مع الطبيعة الإلهية، فانبرى ثيودوروس أسقف قورش يحمل على أوطيخة، وانبرى ديوسقوروس بطريرك الإسكندرية يحمل على ثيودوروس ويهيج رهبان القسطنطينية، وكتب إلى ثيودوسيوس الثاني أن الكنيسة في الشرق قد أصبحت كلها نسطورية، فجمع فلابيانوس بطريرك القسطنطينية مجمعا محليا ودعا إليه أوطيخة فلم يمتثل، وكان يحركه الخصي خريسافيوس الذي كان قد حقد على البطريرك فلابيانوس؛ لأن خريسافيوس طلب منه مالا فأرسل البطريرك إليه آنية الكنيسة.
وعقد المجمع جلسة سابعة ودعا أوطيخة، فحضر هذه المرة ومعه خريسافيوس الخصي وبعض الرهبان وزمرة من الحرس الإمبراطوري، فسئل أوطيخة: هل تعترف بأن المسيح مساو للآب في جوهر اللاهوت ومساو لأمه في جوهر الناسوت؟ فأجاب: إن المسيح من طبيعتين قبل الاتحاد وإنه طبيعة واحدة بعد الاتحاد، فحكم المجمع المحلي عليه، وقطعه من كل رتبة كهنوتية ومن الشركة ومن رئاسة ديره، وكتب أوطيخة للبابا في رومة يتظلم، فكتب البابا لاوون الكبير إلى بطريرك القسطنطينية يستوضحه عما جرى، فأرسل فلابيانوس بطريرك القسطنطينية نص أعمال المجمع الذي حكم على أوطيخة، فعقد البابا مجمعا في رومة وفحص الأوراق التي أرسلها إليه فلابيانوس البطريرك فوافق عليها وأعلن ذلك للإمبراطور.
ثم كتب خريسافيوس الخصي إلى ديوسقوروس بطريرك الإسكندرية يستنهضه لمساعدة أوطيخة، فعقد ديوسقوروس مجمعا محليا وحل أوطيخة من القطع، وطلب إلى الإمبراطور عقد مجمع مسكوني، ففعل الإمبراطور والتأم مجمع مسكوني في إفسس في السنة 449 برئاسة ديوسقوروس بطريرك الإسكندرية، فتليت رسالة الإمبراطور، ثم طلب وفد رومة أن تتلى رسالة البابا إلى البطريرك فلابيانوس، فرفض ديوسقوروس، واشتد الجدل، ففر بعض الأساقفة - ومنهم نواب البابا - واستولى الرعب على الباقين فأمضوا على بياض؛ ولذا سمي هذا المجمع - فيما بعد: المجمع اللصوصي.
ووقع الخلاف بين ثيودوسيوس الثاني وزوجته إفذوكية فعادت شقيقته بلشيرية إلى القصر، وطرد خريسافيوس الخصي من القصر ثم أعدم، وكان البطريرك فلابيانوس قد نفي وتوفي في منفاه، فحصل عنه الرضى، ونقلت جثته إلى القسطنطينية - بكل إكرام - وسقط ثيودوسيوس عن جواده وتوفي في السنة 450 وخلفه مرقيانوس، وكتب بابا رومة وبطريركها لاوون الكبير إلى مرقيانوس بوجوب عقد مجمع مسكوني جديد، فوافق مرقيانوس وأمر بذلك فاجتمع الأساقفة في مدينة نيقية في السنة 451، ومرض بعضهم واضطر للمعالجة، ولم يستطع مرقيانوس نفسه أن يبارح العاصمة، فأمر بنقل المجمع إلى خلقيدونية في جوار من القسطنطينية.
وعقد المجمع جلسته الأولى في الثامن من تشرين الأول سنة 451 في كنيسة القديسة إفيمية في خلقيدونية، وقد اشترك في أعماله 630 أسقفا بينهم نواب رومة أسقفان وقسان والبطريرك القسطنطيني أناطوليوس والبطريرك الإسكندري ديوسقوروس والبطريرك الأنطاكي مكسيموس وأسقف أوروشليم يوبيناليوس، ووضع الإنجيل في منتصف حلقة المجمع، وتصدر وجهاء الدولة وأعيانها، وفي هذه الجلسة الأولى أقر المجمع أن كل ما قد جرى في إفسس إنما كان جبرا وظلما وأن ديوسقوروس ومن ذهب مذهبه مستحق القطع، وفي الجلسة الثانية تليت رسالة كيرلس البطريرك الإسكندري إلى نسطوريوس ورسالة البابا إلى فلابيانوس بطريرك القسطنطينية.
وفي الجلسة الثالثة قرأ رئيس وفد رومة الأسف باسكاسينوس
نص الحرم الذي كان قد أصدره البابا ضد ديوسقوروس، فوافق عليه المجمع، وفي الجلستين الرابعة والخامسة دار البحث حول العقيدة، وبعد جدال طويل وافق المجمع على النص التالي: «إننا نعلم جميعنا تعليما واحدا تابعين الآباء القديسين، ونعترف بابن واحد، هو نفسه ربنا يسوع المسيح، وهو نفسه كامل بحسب الناسوت، إله حقيقي وإنسان حقيقي، وهو نفسه من نفس واحدة وجسد مساو للآب في جوهر اللاهوت، وهو نفسه مساو لنا في جوهر الناسوت، مماثل لنا في كل شيء ما عدا الخطيئة، مولود من الآب قبل الدهور بحسب اللاهوت، وهو نفسه في آخر الأيام مولود من مريم العذراء والدة الإله بحسب الناسوت لأجلنا ولأجل خلاصنا، ومعروف هو نفسه مسيحا وابنا وربا ووحيدا واحدا بطبيعتين بلا اختلاط ولا تغيير ولا انقسام ولا انفصال، من غير أن ينفى فرق الطبائع بسبب الاتحاد بل إن خاصة كل واحدة من الطبيعتين ما زالت محفوظة، تؤلفان كلتاهما شخصا واحدا وأقنوما واحدا لا مقسوما ولا مجزءا إلى شخصين، بل هو ابن ووحيد واحد، هو نفسه الله الكلمة الرب يسوع المسيح كما تنبأ عنه الأنبياء منذ البدء، وكما علمنا الرب يسوع المسيح نفسه وكما سلمنا دستور الآباء.»
وفي هذا المجمع نفسه رفع أسقف صور المتروبوليت فوتيوس شكوى على أسقف بيروت المتروبوليت افسطاثيوس الذي كان من أنصار ديوسقوروس، مفاد هذه الشكوى أنه بعدما أقدم ثيودوسيوس على ترقية افسطاثيوس من أسقف خاضع لمتروبوليت صور إلى رتبة متروبوليت مستقل، قد وهب بطريرك القسطنطينية أناطوليوس لافسطاثيوس هذا أسقفيات بيبلوس «جبيل» وبوتريس «البترون» وطرابلس وأورثوسياس وعكار واندارادوس وجميعها أسقفيات خاضعة لمتروبوليت صور، فلام المجمع البطريرك القسطنطيني على هذا التعدي، وحكم بإعادة تلك الأسقفيات إلى متروبوليت صور.
وفي الجلسة السادسة حضر مرقيانوس، وخطب محرضا على السلام واستقامة الرأي، ثم تلي التحديد فأمضاه الآباء وصدقه الإمبراطور، وفي الجلسة السابعة سلخت فلسطين الأولى والثانية والثالثة عن أنطاكية وضمت إلى أوروشليم، وتصالح البطريركان الأنطاكي والأوروشليمي وأعيدت فينيقية وبلاد العرب إلى البطريركية الأنطاكية، وعرف أسقف أوروشليم بطريركا لأول مرة، وفي الجلسة الخامسة عشرة سن المجمع ثلاثين قانونا وقررت رتب الأسقفيات الرئيسة ومن يقدم ويؤخر من البطاركة، وأثبت في قوانين المجمع أن تكون لأسقف القسطنطينية «رومة الجديدة» المنزلة نفسها التي لأسقف رومة القديمة، ولكن نواب البابا اعترضوا على هذا القرار وأظهروا عدم الرضا.
الباب الرابع
تطور النظم وتمشرق الفكر والفن والدولة
الفصل التاسع
أباطرة النصف الثاني من القرن الخامس
450-518
مرقيانوس (450-457)
وتوفي ثيودوسيوس في الثامن والعشرين من تموز سنة 450 ولم يترك ولدا ذكرا، فانتهى بوفاته حكم الأسرة الثيودوسية، وأوصى قبل وفاته بأن يخلفه مرقيانوس أحد قادة جيشه، وتزوجت بلشيرية أخت ثيودوسيوس من مرقيانوس هذا ولكن زواجا سميا، فقد اشترطت أن تبقى عذراء وأن تقتصر زيجتها على المشاركة في إدارة الإمبراطورية. وهكذا أصبح الإمبراطور الجديد صهر الأسرة المالكة، وكان رجلا حازما عادلا يتمتع بتأييد الجيش، فوفقت فيه رومة الجديدة إلى حاكم مناسب.
وأعلن مرقيانوس انتهاء الظلم والفوضى بإعدام خريسافيوس الخصي، ثم منع بيع المناصب، وتنازل عن الأموال المتأخرة للدولة، وحول المبالغ التي كانت تنفق على الألعاب السنوية إلى ترميم الأقنية وجر المياه، وأسعفه الحظ بأن توفي زينون زعيم الإسوريين، وكان هؤلاء قد عاثوا في البلاد فسادا منذ السنة 441 فسكنوا بموت زعيمهم واستتب الأمن في آسية الصغرى، وضرب مرقيانوس مناذرة الحيرة أحلاف الساسانيين ضربة قاضية، فنعمت سورية بالراحة والطمأنينة، وسار هذه السيرة في مصر فوقف هجمات أهل النوبة ودفع شرهم.
وفي فلسطين وسورية ولبنان اعتنق عدد من الرهبان بدعة ديوسقوروس، وهاجوا وماجوا؛ احتجاجا على مقررات مجمع خلقيدونية، فعمد مرقيانوس إلى إخضاعهم بالقوة المسلحة، وكذلك وافقه الحظ بأن توفي أتيلا زعيم الهون، فتمكن مرقيانوس من استبقاء المال الذي كان يدفع سنويا لهؤلاء.
لاوون الأول (457-474)
وتوفيت بلشيرية في السنة 453، وتبعها مرقيانوس في السنة 457 ولم يكن لهما وارث، فاتجهت الأنظار إلى قائد الجيش الأعلى أسبار، على أنه لم يكن باستطاعته أن يتبوأ العرش؛ لأنه كان آلانيا آريوسيا، فوقع الاختيار على وكيل خرجه لاوون، فتربع على عرش القسطنطينية. وكان لاوون إداريا قديرا وسياسيا محنكا، فاصطنع منافسا ينافس أسبار هو زينون الإسوري، وذلك بأن أنشأ حرسا إمبراطوريا من الإسوريين الجبليين الأشداء، وأتي بزعيمهم وأزوجه من بنته أرياذنة (467)، وبطش زينون ورجاله البسلاء بأسبار وحرسه (471)، فنجت بذلك رومة الجديدة من حكم البرابرة.
ونشب خلاف بين لاوون وبين فيروز ملك الفرس حول مصير دويلة مسيحية على شاطئ البحر الأسود بين الإمبراطورية الرومانية وبين القوقاس، هي إمارة «لازقة» خلقيس القديمة، ولكنه خلاف لم يؤد إلى حرب أو قتال، وكان أهم منه تدفق القوط الشرقيين على إيليرية واحتلالهم ديراتزو، فعاد لاوون يدفع الإعانة المالية السنوية إلى القوط وهدأت الحال (459). وجعل ملك القوط ابنه ثيودوريك رهينة في القسطنطينية، غير أن هؤلاء القوط الشرقيين ما عتموا أن استأنفوا الغزو في السنة 467، متعاونين هذه المرة مع الهون، ثم أسرع الشقاق إلى صفوفهم، فأعلنوها فيما بينهم حربا شعواء أدت إلى إضعاف الطرفين.
زينون (474-491)
وتوفي لاوون الأول في السنة 474، فتولى العرش بعده حفيده لاوون الثاني ابن بنته أرياذنة، وكان لا يزال في السادسة من عمره، فأشرك الولد والده زينون الإسوري في الحكم، وتوفي بعد بضعة أشهر، فعظم أمر الإسوريين في الدولة وتسنموا أعلى الوظائف وأكبرها، وما برحوا كذلك حتى انتهاء عهد زينون.
وفي إيطالية كانت السلطة كلها قد أصبحت محصورة بالقواد العسكريين البرابرة، فكانوا ينصبون الأباطرة ويعزلونهم حسب أهوائهم. ومن غرائب الاتفاق أن آخر الأباطرة في الغرب دعي رومولوس أوغوسطولوس، وهكذا وافق اسمه اسم المؤسس الخرافي لرومة نفسها، وقد خلعه العسكر البرابرة في السنة 476 ونصبوا مكانه أحدهم أدوواكر. ثم أبلغ القادة البرابرة زينون في القسطنطينية أنهم يعترفون بسيادته، فصدر أمره إلى أودوواكر أن يتولى زمام الحكم وأن يتمتع بلقب «نبيل».
ولكن أودوواكر استقل بالحكم ولم يكترث لسيده الشرعي في القسطنطينية، ورأى زينون أن ليس بوسعه أن يكرهه على الطاعة، وخاف مغبة أمره، فالتفت زينون شطر القوط الشرقيين في شمالي البلقان الغربي، وكان هؤلاء يستوجبون اهتمامه اهتماما كليا، فعمل زينون على توجيههم شطر إيطالية ووفق إلى ما أراد، فكان أن زحف ثيودوريكوس ملك القوط الشرقيين إلى إيطالية قبيل وفاة زينون واستولى على رابينة، ثم بعد وفاة زينون (493) خلع أودوواكر وجلس مكانه ملكا على مملكة قوطية شرقية ذات حول وطول، وامتدت سلطته على إيطالية وصقلية وجزء من غالية وإسبانية.
الاينوتيكون (482)
ولم يخضع الجميع لمقررات المجمع المسكوني الرابع، فظل السواد الأعظم من النصارى في مصر وسورية وفلسطين يقول بالطبيعة الواحدة، ولم يثمر حزم مرقيانوس ولاوون الأول، وشعر زعماء الكنيسة بخطورة الموقف، وأراد أكاكيوس بطريرك القسطنطينية (472-488) وبطرس بطريرك الإسكندرية (477-490) أن ينقذا الموقف وأن يعيدا إلى الكنيسة وحدتها المفقودة، فاقترحا على زينون أن يصار إلى التراخي بانتهاج سبيل وسط، فأصدر زينون في السنة 482 الاينوتيكون «كتاب الاتحاد» فشجب تعاليم نسطوريوس وأوطيخة معا وأقر رأي كيرلس الإسكندري واجتنب الكلام في الطبيعة الواحدة والطبيعتين، وهكذا رفض رفضا لبقا ما كان أقره المجمع الخلقيدوني الأخير، ولكن الاينوتيكون بدلا من أن يؤلف القلوب ويوحد الصفوف، سعر نار الشقاق والتفرقة؛ لأنه لم يرض الأرثوذكسيين ولا أصحاب الطبيعة الواحدة.
وانشق في مصر عن البطريرك بطرس قسم من جماعته فألفوا طائفة سموها الآكيغلي؛ أي العادمة الرأس، وكتب الأرثوذكسيون إلى أكاكيوس بطريرك القسطنطينية يلومونه على مماشاته بطرس الإسكندري، فلم يكترث البطريرك بل أجبر الكثيرين منهم على القول بكتاب الاتحاد، فكتبوا إلى بابا رومة فليكس الثالث (483)، ولكن هذا بدل أن يراسل أكاكيوس مستوضحا حسب العادة القديمة، عقد مجمعا محليا وحرم بطرس وأكاكيوس، فلما علم أكاكيوس بهذا محا اسم البابا من ذيبتيخا الأساقفة، وهكذا نشب شقاق استمر أكثر من خمس وثلاثين سنة (484-519)، وتوفي أكاكيوس في السنة 491 فخلفه في كرسي القسطنطينية افراويطاس
1 (488-489) وكان مداهنا متلاعبا، ولكن سرعان ما انقضت مدته، فخلفه اوفيميوس
2
العاقل (489-495) فأظهر استقامة رأيه في ما بعث به من رسائل التحية الأخوية لمناسبة تبوئه السدة البطريركية، وأوشك أن يعود الاتحاد بين الشرق والغرب لو لم يطلب البابا محو اسم أكاكيوس من الذيبتيخا.
وأما في أنطاكية فإن راهبا من رهبان القسطنطينية، بطرس القصار،
3
ألف حزبا ضد البطريرك مرتيريوس (459-469) وأحدث قلاقل، فاستقال مرتيريوس، وحل القصار محله بطريركا وأيد أوطيخة وأحدث زيادة في التسبيح وعلم هكذا: قدوس الله، قدوس القوي، قدوس الذي لا يموت، «الذي صلب من أجلنا» ارحمنا، ومن السنة (481-485) تولى كلنذيون الكرسي البطريركي في أنطاكية، وجمع مجمعا محليا رجع فيه إلى تأييد قرارات خلقيدونية.
وهكذا دخلت الكنيسة في دور من الفوضى كثرت فيه سيامة الأساقفة زوجا زوجا أرثوذكسيين ومونوفيسيين في وقت واحد، ومدت الأيدي إلى الكراسي لخلع هذا وتنصيب ذاك، وكان من أهم أسباب هذه الفوضى سعي الأباطرة لاسترضاء المونوفيسيين في مصر وسورية لكثرة عددهم ولضعف هيبة السلطة المركزية؛ إذ أحرجتها مشاغل أخرى، وظلت الحال على هذا المنوال حتى ظهرت كنيسة مونوفيسية مستقلة في مصر، وكنيسة مثلها في سورية، وأخرى في أرمينية.
أنسطاسيوس الأول (491-518)
وكان زينون قد سعى سعيا حثيثا لإجلاس أخيه لونجينوس على العرش بعده، ولكن زوجته أرياذنة الإمبراطورة لم تر في لونجينوس الكفاءة اللازمة، فانتقت أنسطاسيوس الورع ورفعته إلى منصة الحكم، وكان أنسطاسيوس في الحادية والستين من العمر، قد قضى شطرا وافرا من حياته في القصر معاونا في التشريفات،
4
وله شهرة في الورع والتقوى ودماثة الخلق. وعلى الرغم من ميله إلى القول بالطبيعة الواحدة فإن الشعب قابل ارتقاءه بالهتاف: «ليكن عهدك في الحكم كعهد مرقيانوس وكسيرتك في حياتك الشخصية.» واشترط البطريرك أوفيميوس العاقل ألا يحيد الإمبراطور عن العقيدة الأرثوذكسية وأن يكتب قبل التتويج تعهدا بذلك، ففعل وتقبل تاجه من يد البطريرك.
وتبين له فورا، بعد جلوسه على العرش، أن الشعب لم يكن راضيا عن سلوك الإسوريين رجال زينون في العاصمة، وأن هؤلاء كانوا ينسجون مؤامرة عليه، فعزلهم عن مراكزهم العالية وصادر أملاكهم، وأقصاهم في خارج العاصمة، فثار ثائرهم في بلادهم في غربي آسية الصغرى، واضطر أنسطاسيوس أن يلجأ إلى القوة فحاربهم ست سنوات متواصلة إلى أن أخضعهم، ثم نقلهم إلى تراقية (498).
وكانت قد ظهرت طلائع القبائل البلغارية تتبعها قبائل الصقالبة، وبعض هؤلاء كان قد دخل في خدمة الدولة، فلم يكن بد من الاصطدام واستعمال القوة، واندفع الصقالبة فبلغوا إلى ثسالية في السنة 517، فرأى أنسطاسيوس أن يوسع النطاق العسكري حول العاصمة، فأنشأ سورا جديدا امتد من بحر مرمرة حتى البحر الأسود مسافة ثمانية وسبعين كيلومترا، فسمي السور الطويل، كما سمي سور أنسطاسيوس.
ولم يرض أنسطاسيوس عن ثيودوريكوس، ولم يعترف بحكمه على إيطالية قبل السنة 497، وفي السنة 505 تدخل ثيودوريكوس في شئون البلقان وعاون فريقا من البرابرة على فريق، فأرسل أنسطاسيوس في السنة 508 أسطولا إلى مياه إيطاليا للمشاغبة والتخريب، ورأى أن كلوفيس ملك الإفرنج هو عدو ثيودوريكوس، فأنعم عليه بلقب قنصل، فوجد ثيودوريكوس أن ليس من الحكمة أن يمضي في تحدي الإمبراطور، فأظهر لينا وتم بينهما اتفاق ، ولكن على مضض وقلب عكر.
الحرب الفارسية (502-506)
وكان قد اعتلى عرش ساسان قباذ الأول ابن فيروز، وأحب أن يوطد سلطته في بلاده، فراقه مذهب المزادكة من أتباع ماني، ولا سيما مطالبتهم بالعدل الاجتماعي وبالمساواة بين القوي والضعيف، والغني والفقير، فرأى قباذ أن في ذلك وسيلة للتخلص من تصلب الزعماء وتصلفهم، ولكن هؤلاء تيقظوا للأمر، فتألبوا عليه، وعاونهم في ذلك رجال الدين القومي القويم دين زرادشت. ثم تغلبوا عليه وأبعدوه عن الحكم وجاءوا بأخيه بيلاش، واستطاع قباذ أن يفر من السجن ويلوذ بالهون البيض في شمالي إيران وإلى شرقيها، وكانت بينه وبينهم مودة، ووعدهم بزيادة الإتاوة التي كانت تدفعها إليهم حكومة فارس إذا هم أمدوه فلبوه، فتمكن بعد سنتين (499) من أن يستعيد زمام الحكم.
وطلب قباذ الأول إلى زميله أنسطاسيوس الأول أن يمده بقرض مالي يدفع به ما ضمنه للهون، ولكن أنسطاسيوس كان بطبيعته مقتصدا، ورأى ألا يدفع شيئا إلى قباذ كي لا تتمكن أواصر التعاون بينه وبين الهون، فغضب قباذ ولجأ إلى الحرب مستعينا بالهون، وبالنعمان الثاني ملك الحيرة وقومه العرب،
5
وخان قومس أرمينية الرومية سيده فاستولى قباذ على أرضروم «ثيودوسيوبوليس» دون مقاومة (502)، ثم حاصر آمد «ديار بكر» فدافع أهلها عنها دفاعا مجيدا، ولكن ذهول فئة من الرهبان، كانوا قد وظفوا على حراسة قطاع معين من الأسوار فناموا نوم السكارى؛ مكن قباذ من الاستيلاء على آمد والفتك بأهلها (503).
ثم فوجئ قباذ بموجة جديدة من الهون تدفقت عبر القوقاس، وبانضمام زعيم أرمني وأمير عربي إلى قوات أنسطاسيوس، فاستطاعت قوات الروم أن تعبر حدود فارس (504) وأن تتوغل في أراضيها، فطلب قباذ السلم في السنة 506، وحصن أنسطاسيوس دارا وأقامها قلعة في وجه نصيبين الفارسية، كما زاد في تحصينات البيرة والصالحية على حدود الفرات.
6
المالية
واشتهر أنسطاسيوس بشفقته ورأفته، فأدخل إصلاحا ماليا لا يزال غامضا؛ لأن أحدا من المؤرخين المدققين لم يعن به بعد، وإنما يستدل من بعض النصوص الأولية أن أنسطاسيوس ألغى في السنة 498 ضريبة كانت تجبى ذهبا وفضة من جميع أصحاب الحرف والمهن ومن الخدمة والشحاذين والنساء العموميات، وهي ضريبة الخريسارغيريون،
7
كما أنه ألغى في السنة نفسها مسئولية الكوريالس (النقابات) عن مجموع الضرائب المفروضة على بلدتهم وأنشأ نظاما للجباية المباشرة، واستعاض عن النقود البرونزية الصغيرة بأربعة أنواع أكبر منها سهلت التعامل التجاري وأعانت على الإنعاش الاقتصادي، وأنشأ أنسطاسيوس ضريبة على الأراضي
8
لدفع مرتبات الجند في أوقاتها.
9
الطبيعة الواحدة
وكان أنسطاسيوس كلما زاد سنا ازداد تعلقا بالطبيعة الواحدة، فأدى تشبثه بها إلى اضطرابات متتالية في العاصمة وفي الإسكندرية وأنطاكية، وحاول أن يسترجع التعهد الذي كان قد كتبه قبيل تتويجه وسلمه إلى البطريرك اوفيميوس فلم يستطع، فجمع مجمعا محليا سنة 496 وقطع البطريرك ونفاه، فتولى البطريركية بعده مقدونيوس الثاني، وكان هذا نقي السيرة مستقيم العقيدة محبوبا، فعني عناية خاصة بمصالحة بعض رهبان القسطنطينية الذين تباعدوا عن الكنيسة منذ ظهور الاينوتيكون فلم يستطع، فعقد مجمعا محليا ثبت فيه قرارات المجمع المسكوني الرابع، ونوى أن يكتب بذلك إلى كنيسة رومة، فمنعه الإمبراطور وحاول إقناعه بوجوب شجب قرارات المجمع المسكوني الرابع، فلم يجب البطريرك طلبه، فلجأ أنسطاسيوس إلى المشاغبة وشجع البعض على الدخول إلى الكنيسة في أوقات الصلاة لإضافة العبارة «المصلوب من أجلنا.» في التسبيح الثلاثي، وذلك فيما المرتلون يرتلون.
وفي السنة 511 نفى البطريرك مقدونيوس وأوعز بتنصيب تيموثاوس الأول (511-518)، وكان هذا رجلا متقلبا فحرم قرارات المجمع الرابع وعقد اتفاقا مع يوحنا النيقاوي بطريرك الإسكندرية وسويروس بطريرك أنطاكية، وكانا من أضداد المجمع الرابع، واضطر متروبوليت سلانيك أن يوافق تيموثاوس خوفا من الإمبراطور، فتظاهر الشعب ضد الإمبراطور والبطريرك معا، وعقد أربعون أسقفا من البلقان وبلاد اليونان مجمعا وقطعوا علاقتهم مع تيموثاوس، ودخلوا في شركة البابا بطريرك رومة.
ثورة فيتاليانوس (512-518)
وتتابع ضغط الإمبراطور على الأرثوذكسيين فثار فيتاليانوس قائد فرقة بلغارية في الجيش، واحتل وارنة على البحر الأسود، ثم تقدم نحو العاصمة مطالبا بإلغاء التسبيح المونوفيسيتي وبإعادة البطاركة الأرثوذكسيين من منفاهم وهاجم العاصمة برا وبحرا، فصد ولكنه لم يغلب، فعاد برجاله إلى بورغاس، وبقي فيها ثائرا غاضبا حتى وفاة الإمبراطور في التاسع من تموز سنة 518.
الفصل العاشر
تمشرق الفكر والفن والدولة
الدولة تتطور فتتحول إلى دولة شرقية
وانتهى أمر الإمبراطورية الغربية بسقوط رومة في السنة 476، واستقر البرابرة في غالية وإسبانية وأفريقية وإيطالية، وفي جزء من إيليرية، فأصبح ما بقي من الدولة الرومانية شرقيا صرفا. واشتمل على شبه جزيرة البلقان ما عدا أطرافها الشمالية، وعلى آسية الصغرى حتى جبال أرمينية وعلى سورية حتى الفرات وعلى مصر والقيروان، وقل اهتمام الأباطرة بالغرب وشئونه، فنودي بمرقيانوس إمبراطورا في السنة 450 دون استشارة الإمبراطور الغربي في رابينة، وجرى مثل هذا في السنة 457 عندما تبوأ لاوون الأول عرش القسطنطينية.
ولم تعبأ حكومة القسطنطينية بما حل برومة من كوارث، فلم يحاول مرقيانوس بذل أي مساعدة عندما دخل الوندال إلى رومة في السنة 455، واختط لاوون الأول لنفسه سياسة سلم ومسالمة في علاقاته مع البرابرة في الغرب، وزاده تمسكا بهذه السياسة فشله في حملته على أفريقيا في السنة 468. ولم تكن محاولة التوحيد بين الشرق والغرب - تلك المحاولة التي قام بها زينون في السنة 488 - سوى حلم طارئ لا قيمة له.
وتطور في هذه الآونة نفسها نظام الحكم في الداخل، فأصبح شرقيا أكثر من ذي قبل، فتسلم مرقيانوس في السنة 450 تاجه من يد بطريرك القسطنطينية لأول مرة في تاريخ الدولة، وحذا حذوه لاوون الأول في السنة 457، فاتخذ التتويج صفة دينية، وأصبح الحق في الحكم إلهيا شرقيا، واستعاضت العامة عن اللقب إمبراطور باللقب فسيلفس، وبدأت اللغة اليونانية تنتشر في الدوائر الرسمية، وظهر الفسيلفس وبلاطه وعماله بمظاهر الأبهة والجلال الشرقيين، إن في الملابس، أو في الأثاث، أو في العربات. يؤيد ذلك ما رواه صاحب سيرة بورفيريوس أسقف غزة.
ذكر عن هذا الأسقف أنه عندما دخل إلى القصر واشترك في حفلة عماد الطفل ثيودوسيوس الثاني في السنة 401 خال أنه في الجنة لا على الأرض،
1
واسترعى هذا التزيد الشرقي في البذخ والترف أنظار يوحنا الذهبي الفم وسيناسيوس، فحملا عليه بشدة.
وتمشرقت الكنيسة أيضا، وأصبح الشرق هو الحيز الذي تدور فيه حوادثها الكبرى، وتنطلق منه حركاتها الفكرية، فأعظم المشاكل التي اعترضت تاريخ الكنيسة قد حدثت في الشرق، وكذلك مجامعها المسكونية كلها انعقدت في الشرق، وهذا ما خول بطريرك القسطنطينية، وهو يناظر زميله بابا رومة، بعد خضوع الغرب لملوك من الآريوسيين البرابرة، أن يقول: «لم يبق سوى إمبراطورية مسيحية واحدة هي إمبراطورية الشرق، ولم يبق سوى كنيسة مسيحية واحدة هي كنيسة الشرق.»
2
الفكر والفن والثقافة
وكانت حضارة الإمبراطورية الرومانية قد تأثرت منذ زمان بعيد بنفوذ المدنية اليونانية الهلينية، ولكن هذه الحضارة في القرنين الرابع والخامس ألقت مقاليدها إلى الشرق واتخذته إماما تأتم به في الفكر والثقافة. ومع أن اللغة اللاتينية بقيت اللغة الرسمية في الشرق؛ فإن اللغة اليونانية أصبحت - دون ريب - هي اللغة السائدة.
وأصبح النتاج الفكري والفني في الشرق آسيويا أفريقيا أكثر منه أوروبيا، ويذهب الأستاذ كرومباخر الاختصاصي الألماني إلى أن مبلغ النتاج الفكري الذي كانت تنتجه الولايات الأوروبية في الدولة الرومانية الشرقية لم يكن يتجاوز العشرة في المائة من مجموع النتاج،
3
وكانت أهم مراكز هذا النتاج: الإسكندرية وأنطاكية، وبيروت وقيصرية فلسطين، وقبدوقية والرها.
الإسكندرية
ولا يخفى أن أساتذة المتحف الإسكندري العظيم كانوا قد حرموا المخصصات اللازمة لأعمالهم منذ أوائل عهد كركلا (211)، وأن هذا الإمبراطور الغاشم كان قد طرد من الإسكندرية العلماء الغرباء عنها، ولا يخفى أيضا أن جنود زينب الزباء عندما دخلوا إلى الإسكندرية ظافرين (270) نهبوا وأحرقوا المباني العمومية التي كانت تحيط بقبر الإسكندر، واتسع هذا التخريب حتى لم ينج منه المتحف العظيم.
ومع أن هذه المؤسسة بقيت تعمل بعد القرن الثالث فإن نتاجها بات نزرا ضعيفا، فلم يشتهر من أساتذتها شهرة واسعة سوى إباتية الفيلسوفة (370-415) بنت ثيون الرياضي، وكانت جميلة الخلق والخلق، ترتدي زي الفلاسفة وتلقي الدروس في الأفلاطونية الجديدة في بعض مدارس الإسكندرية، وفي باحاتها العمومية، وعرف من تلامذتها سيناسيوس القيروني وأورستيوس الحاكم، وهو الذي كان سببا في هلاكها، فقد زجر أورستيوس الجماهير المسيحية عندما صخبت على اليهود في السنة 415، وقبض على أحد الرهبان المتهورين وشدد عليه في التعذيب فتوفي بين يديه، فثار عليه سخط الجماهير، ولما كانت إباتية معلمة وصديقة لاورستيوس فقد هاجمها الجمهور؛ إذ صادفها خارجة من بيتها وانهال عليها حتى ماتت تحت الضرب.
4
وأدى الصراع بين الوثنية والنصرانية إلى الاجتهاد في التاريخ والمنطق والفلسفة، وكان من الطبيعي جدا أن يحتدم الجدل في أمهات المدن ولا سيما الإسكندرية، وأن تعنى الكنيسة فيها بهذه العلوم العالية في سبيل الدفاع عن الإيمان، ولا نعلم بالضبط متى نشأت مدرستها اللاهوتية الفلسفية التي عرفت بالاسم اليوناني الذيذاسقاليون، والذيذاسقالية عند اليونان طريقة الشعراء في تدريب الممثلين، ويقول يوسيبيوس المؤرخ: «اشتهرت كنيسة الإسكندرية منذ عهد قديم بمدرسة للعلوم المقدسة، كان يتولى أمرها رجال عرفوا بقوة العارضة وتميزوا بالاجتهاد في الصلاح والحث على التقوى، وكان أطولهم باعا بنطينس النابغة في أدب الحكمة.»
5
وخلف بنطينس هذا في رئاسة ذيذاسقاليون الإسكندرية في السنة 200 تلميذة إقليمس الإسكندري
6 (145-220)، ولد وثنيا أيضا في آثينة وتميز في الفلسفة وطاف بلادا كثيرة حتى «ألقى عصاه في الإسكندرية»، وكان يجتمع حول منبره طبقات الناس من علماء وأغنياء وغيرهم، وكان هو يحرض الوثنيين على هجر خرافاتهم، ساخرا من آلهتهم، ويعلم المهتدين مبادئ الرسالة المسيحية، وأفضل ما اشتهر به في تاريخ الفكر قوله: «إن الفلسفة تقود إلى الكمال من يلبي دعوة المسيح.» وقوله: «إن الفلسفة في نظري ليست الرواقية، ولا الأفلاطونية، ولا الابيقورية، ولا الأرسطوطاليسية، وإنما هي كل ما تعلمه هذه المذاهب؛ للوصول إلى العدل والحقيقة.»
7
وكان هدفه الأساسي - فيما يظهر - أن يبرهن للملأ أن العقيدة المسيحية لم تكن لتقل شأنا عن أي فلسفة زمنية، وهكذا يكون إقليمس الإسكندري أول من حاول أن يعطي العقيدة المسيحية المرتبة اللائقة بها، ويكون أيضا في مقدمة الآباء الذين حاولوا التوفيق بين النصرانية والفلسفة، وأشهر مؤلفاته كتاب إرشاد اليونانيين، وكتاب المعلم، وكتاب الاسترومات أو «الوشاء»، كما اقترح غبطة البطريرك إغناطيوس أفرام، وهو مجموعة آداب وتأملات وتفسير وتأويل لبعض ما جاء في التوراة،
8
ولما أغلقت مدرسة الإسكندرية، لما حل بالنصارى من الاضطهاد في السنة 202، لجأ إقليمس إلى قبدوقية وأقام عند تلميذه ألكسندروس أسقف قيصرية، ثم انتقل إلى أنطاكية في السنة 211، وكانت وفاته في السنة 215 أو 220.
على أن أشهر من علم في ذيذاسقاليون الإسكندرية: أوريجانيوس العظيم، ولد في مصر في بيت مسيحي في السنة 185 أو 186، وتلقى مبادئ علومه عن أبيه ليونيذاس وأخذ عن إقليمس أيضا، واستشهد والده في السنة 202 وصودرت أمواله وأوريجانيوس لا يزال في السابعة عشرة، فشملته سيدة مسيحية بعطفها، فتابع دروسه في الفلسفة والدين، وأنجز علومه الفلسفية وهو في الخامسة والعشرين في مدرسة أمونيوس صقاس
9
الأفلاطوني الجديد، ودرس العبرية ليستعين بها على فهم التوراة، ودرس في الذيذاسقاليون وأدخل إليه العلوم الرياضية والطبيعية والفلكية، وعلم الشبان والشابات معا.
ودفعا للريبة وزيادة في التعبد والتقشف؛ عمل بمنطوق الآية الثانية عشرة من الفصل التاسع عشر من إنجيل متى، ولم يؤثر عمله هذا في تعلق طلابه به واحترامهم له، وفي السنة 212 ذهب إلى رومة لزيارة الكنيسة «العريقة في القدم»، وفي السنة 215 لجأ إلى فلسطين من شدة الاضطهاد الذي أنزله كركلا بالمسيحيين في مصر، وأقام في قيصرية، فوكل إليه أسقفها وأسقف أوروشليم شرح الأسفار المقدسة، ثم عاد إلى الإسكندرية واستأنف التدريس حتى السنة 230.
وفي أثناء هذه الحقبة عاد فمر بقيصرية فلسطين فاحتفى به أسقفا قيصرية وأوروشليم وساماه قسا، فاغتاظ أسقف الإسكندرية وأسقطه من وظيفة التعليم وحرمه، ولكن ذلك لم ينل من سمعته، وبقيت الكنيسة تحترمه لسيرته النقية وعلومه الجمة، فخرج من الإسكندرية إلى فلسطين وأقام في قيصرية وأسس فيها مدرستها اللاهوتية. وفي السنة 240 زار آثينة، وزار في السنة 244 بلاد العرب، وتوفي في السجن في صور ضحية اضطهاد الإمبراطور داقيوس.
ويقول أبيفانيوس القبرصي: إن أوريجانيوس ألف ستة آلاف كتاب، وأثبت يوسيبيوس المؤرخ ألفين منها، أو ما يناهز هذا العدد، ومن مؤلفاته الهكسبلة،
10
أي ذو الأعمدة الستة، وهو مؤلف كبير اشتمل على ست ترجمات للتوراة في ستة أعمدة. وخص المزامير بثماني ترجمات في أعمدة ثمانية، فعرف مؤلفه هذا بالأوكتابلة،
11
وشرح أسفار التوراة والإنجيل برسائل عديدة، فعمد إلى الاستعانة بالمعاني الرمزية والتأويل، ورد على قلسوس الفيلسوف الوثني مدافعا عن النصرانية،
12
وكتب في المبادئ
13
في اللاهوت، وفي القيامة، وفي الصلاة، وفي التحريض على الاستشهاد، وما إلى ذلك.
ويرى الأستاذ بركت أن ما ذهب إليه أوريجانيوس من تأويل في كتاب المبادئ لم يثر ضجة كبيرة عند ظهوره، وأن قطع أوريجانيوس فيما بعد إنما نشأ عن عوامل شخصية، أهمها الحسد،
14
ومما احتج به عليه فيما بعد قوله بخلق النفوس خلقا سابقا على الأجساد، وقوله بأن العذاب في الآخرة منته إلى نهاية وبأن العفو سيشمل حتى الشياطين، ثم قوله بالتناسخ وتقمص النفوس وبالتطهير بالنار في الآخرة وبالتفاوت بين الأقانيم الثلاثة، عدا ارتيابه في حقيقة جسد المسيح ودمه،
15
ومكانة أوريجانيوس في تاريخ الفكر تستند إلى أنه سبق غيره من الآباء في تأسيس علم اللاهوت علما قائما بذاته.
وجل ما فعله غيره من الآباء الذين سبقوه كإقليمس ويوستينوس؛ هو أنهم حاولوا أن ينقلوا المبادئ المسيحية إلى الأوساط العلمية بثوب فلسفي يوناني، أما أوريجانيوس فإنه سخر الفلسفة اليونانية - ولا سيما الأفلاطونية الجديدة - لتشييد بناء فلسفي نصراني على دعائم من الأسفار المقدسة.
16
وبما أن معظم كتب أوريجانيوس مفقودة فليس من الميسور بحث آرائه لمن شاء ذلك، ويزيد في الطين بلة ما تعرضت له مصنفاته من تحريف وما نسب إليه من أضاليل لم يكن هو صاحبها، «وصفوة القول إن هذا العلامة أحب الحقيقة المسيحية حبا صادقا، ووقف عليها حياته وقريحته وقواه بأسرها، فصحة دينه ورسوخ تقواه تعدلان سمو علمه، بالرغم عما هفا فيه من السقطات التعليمية.»
17
وخلف أوريجانيوس في رئاسة مدرسة الإسكندرية هيرقليوس ثم ديونيسيوس البطريرك (190-265)، ولد ديونيسيوس في مصر من أسرة وثنية، وتنصر، وقرأ على أوريجانيوس، وعلت منزلته فسيم بطريركا على الإسكندرية وتوابعها في السنة 248، وله مؤلفات منها كتاب في الطبيعة نقض فيه نظرية آتوميستيك في خلق العالم، وكتاب في المحن والاضطهادات، وآخر في المواعيد الإلهية نقض فيه الاعتقاد بالملك ألف سنة، وغير ذلك.
وليس لنا أن نذكر هنا جميع من لمع من رجال هذه المدرسة في القرن الثالث، ولكن لا بد من القول إنها قد عظم شأنها منذ أيام أوريجانيوس، وأصبح رئيسها هو الثاني بعد البطريرك في كنيسة الإسكندرية، وقد رقي أغلب رؤساء هذه المدرسة السدة البطريركية.
فأما في القرن الرابع فكان أشهر رجالها القديس أثناسيوس البطريرك الإسكندري، ولد وثنيا حوالي السنة 295 في الإسكندرية، وقرأ ودرس في مدرستها، وسامه البطريرك الإسكندري ألكسندروس شماسا في السنة 318 واستصحبه إلى مجمع نيقية المسكوني الأول سنة 325، فأظهر من الذكاء والعلم والمعرفة ما جذب إليه القلوب، وخلف معلمه في بطريركية الإسكندرية في السنة 328، فناضل في سبيل «المساوي في الجوهر» نضالا طويلا ونفي خمس مرات.
ولم يكن ذلك الكاتب الأديب الكامل، ولا ذلك الفيلسوف الدقيق العميق، ولكنه كان محاميا واضح التفكير قوي الحجة واسع الاطلاع، كتب في تجسد الكلمة، وفي لاهوت الابن وفي الآريوسية، وأشهر مؤلفاته وأكثرها انتشارا وأقواها أثرا؛ كتابه في سيرة الأب أنطونيوس مؤسس الرهبانية في مصر؛ فقد ظل هذا الكتاب مدة طويلة أفعل الكتب في تحبيب الترهب في الشرق والغرب معا، وتوفي البطريرك آثانسيوس في السابع عشر نيسان، سنة 373.
وولى أثناسيوس ذيذيمس الأعمى رئاسة المدرسة حوالي السنة 350، وما زال ذيذمس رئيسا عليها حتى وفاته في السنة 398، وكان أوريجانيا معتدلا، على أن تآليفه لم يبق منها سوى كتابيه في الروح القدس والثالوث الأقدس.
ومن أشهر تلاميذ مدرسة الإسكندرية في هذه الحقبة الأخيرة من القرن الرابع: سيناسيوس القيروني، ولد وثنيا ودرس في الإسكندرية على إباتية الفيلسوفة وغيرها، فتقبل الأفلاطونية الجديدة ومارس أسرارها المصرية، ثم استبدل أفلاطون بالمسيح وتزوج من مسيحية، وفي أواخر حياته سيم أسقفا على بتوليمايوس، وكان شديد الاهتمام بالسياسة - كما تدل على ذلك رحلته إلى القسطنطينية (399-402) - وقد سبقت الإشارة إليها، ولم يكن سيناسيوس مؤرخا، ولكن رسائله المائة والست والخمسين تشتمل على معلومات تاريخية هامة، وتظهر درجة تقدمه في الفلسفة وعلوم اللسان، وأصبحت هذه الرسائل - فيما بعد - نموذجا مثاليا يقتدي به كل أديب وخطيب، أما ترانيمه فإنها مزيج غريب من الفلسفة والنصرانية.
18
وتضعضعت مدرسة الإسكندرية بعد وفاة ذيذيمس الأعمى، ونقلها رودون إلى سيدة في بامفيلية، ثم انقرضت حوالي السنة 410، وجاء ذلك موافقا لما حدث في مصر من عدول الأكثرية إلى القول بالطبيعة الواحدة، ما أدى إلى انفصال الكنيسة المصرية عن الكنيسة الأم بعد المجمع الرابع (451) انفصالا صرفها إلى الاهتمام بالقبطية والابتعاد عن اليونانية لغة الفكر والبحث.
أنطاكية
وأخطب خطباء هذا العصر وأفصحهم أنطاكيان: أحدهما وثني ليبانيوس، والآخر مسيحي يوحنا الذهبي الفم، وقد يكون ليبانيوس لبنانيا وقد لا يكون، ولد في أنطاكية في السنة 314 بعد الميلاد وتوفي فيها في السنة 393، وتعلم في أنطاكية ثم في آثينة، وعلم في نيقية ونيقوميذية والقسطنطينية، وعاد إلى بلده في الأربعين من عمره وما فتئ فيها يعلم ويخطب ويكتب حتى قضى نحبه بعد أربعين عاما، ولا يزال قسم كبير من خطبه ورسائله محفوظا حتى يومنا هذا، وفيها صور رائعة لحياة ذلك العصر، وكان ليبانيوس يعتز باليونانية ويزدري اللاتينية، فلا يتنازل لتعلمها، واحتقر النصرانية واعتبرها عدوة الحضارة وحزن لموت يوليانوس الجاحد فقال قوله المأثور: «إني ذاهب إلى الحقول لأتحدث إلى الحجارة.» ولما شرع في هدم الهياكل الوثنية قال: «إن هدم الهيكل كقلع العين؛ فالهياكل روح المناطق وأعرق المباني فيها.»
19
وأما يوحنا الذهبي الفم فقد سبق لنا عنه الحديث، ولعل أفضل ما يعبر عن أثره في النفوس ومنزلته في التاريخ ما قاله نيقوفوروس كاليستوس في القرن الرابع عشر: «لقد قرأت أكثر من ألف عظة له تتدفق حلاوة، ولقد أحببته منذ حداثتي وأصغيت إلى صوته كأنه صوت الله، وإني مدين له بجميع ما أعرفه، وبنفسي أيضا.»
20
واشتهرت أنطاكية أيضا بأميانوس مرسلوس (330-401)، ولد في أنطاكية من أبوين يونانيين عريقين في الشرف، والتحق بالجيش وتولى القيادة العامة، ولمع في غالية وفي ما بين النهرين، ثم تقاعد فعني بالتأريخ فكتب تكملة لتاريخ تاسيتوس، وذلك بعبارة لاتينية متينة فصيحة،
21
ولم يكن يرى فضلا في النصرانية، ولكنه كان أقل تعصبا من ليبانيوس، وأحب أنطاكية وسورية ولبنان ، وفاخر بها: «أنطاكية لا مثيل لها، وفينيقية عند قدم لبنان فتانة جميلة.»
22
وكان طبيعيا جدا أن تهتم الأوساط النصرانية في أنطاكية في القرون الأولى اهتمام الإسكندرية للدفاع عن النصرانية، وأن تنشأ فيها مدرسة من طراز ذيذاسقاليون الإسكندرية، فنحن نقرأ أنه في السنة 269 اتخذ مجمع أنطاكية المحلي قرارا بقطع بولس السميساطي أسقف أنطاكية وصديق زينب التدميرية، ونقرأ أن الذي تولى أمر تفنيد أضاليل هذا الأسقف كان الأب ملكيون «رئيس مدرسة العلوم اليونانية» في أنطاكية، ثم نقرأ أنه في السنة 290 اتفق القسان لوقيانوس ودوروثاوس وجماعة من الأساقفة والقسوس على جعل دارهم مدرسة لتدريس الأسفار المقدسة وشرحها.
وكان لوقيانوس (235-312) سميساطي الأصل درس على الأسقف بولس السميساطي الذي علم أن الآب والابن والروح القدس ليسوا سوى أقنوم واحد، وأن المسيح لم يكن ابن الله - على الحقيقة - وإنما كان إنسانا حل فيه اللاهوت، وتشرب لوقيانوس شيئا من تعاليم معلمه، فأصابه حكم المجمع الذي قطع أستاذه، وبقي مبعدا عن الكنيسة حتى نكل عن بعض ما قاله فرده البطريرك كيرلس (277-299) إلى درجته في الكهنوت، وعني لوقيانوس بتحري نص التوراة السبعينية ونص الإنجيل، فضبط لهذين السفرين الترجمة التي عم استعمالها الكنائس الشرقية، وتوفي لوقيانوس وزميله دوروثاوس شهيدين في نيقوميذية «أزميد» في السنة 312.
وأشهر الآباء الأنطاكيين في تاريخ الفكر الديني العقائدي: ديودوروس الطرسوسي (+394) ويوحنا الذهبي الفم (+407) وثيودوروس المبسوستي (+429) وثيودوريطس القورشي (+457)، ولد ديودوروس في أنطاكية في بيت عريق في الشرف والنفوذ، ودرس في آثينة ثم في أنطاكية، وقام بأعباء الخدمة في أنطاكية في أثناء المحنة التي أدت إلى نفي سيده البطريرك ملاتيوس الشهير (360-378)، وسيم أسقفا على طرسوس في السنة 378.
وبوصفه أسقفا اشترك في أعمال المجمع المسكوني الثاني في القسطنطينية سنة 381، وكتب في الفلسفة واللاهوت وفي تفسير الأسفار، وأما ثيودوروس المبسوستي أو الأنطاكي، فإنه أبصر النور في أنطاكية في السنة 350 أو ما يقاربها، في بيت وفر ويسار ونفوذ واقتدار، ودرس على ليبانيوس، ثم اجتذبه يوحنا الذهبي الفم إلى الدين المسيحي، فتقبل النعمة وتنسك وجاور ديودوروس الطرسوسي، وكان هذا لا يزال في أنطاكية، ولم يقدر على متابعة الزهد فعاد إلى أنطاكية ليتزوج، فوجه إليه يوحنا الذهبي الفم رسالته
Ad Theodorum Lapsum
فعاد إلى الرهبانية والزهد، وما فتئ يدرس العلوم الدينية على ديودوروس حتى السنة 378 سنة سيامة أستاذه أسقفا على طرسوس، فأما ثيودوروس فإنه سيم كاهنا في السنة 383، ورحل بعدها إلى طرسوس والتحق بمعلمه، وما زال فيها حتى سيم أسقفا على مبسوستي في جوار طرسوس، وتوفي في السنة 428، وهو أكبر من صنف في اللاهوت من رجال أنطاكية، ولم يبق من تآليفه إلا نزر يسير؛ نظرا لموقف المجمع المسكوني الخامس من تعاليمه، وهو أستاذ نسطوريوس، ويروى أن نسطوريوس زاره في مبسوستي، وهو في طريقه إلى القسطنطينية ليتبوأ كرسيها البطريركي، فرحب به ثيودوروس وأوصاه بالاعتدال،
23
أما ثيودوريطس القورشي فإنه أنطاكي أيضا، ولد في أنطاكية سنة 393، وبشر بولادته مقدونيوس الناسك معلنا استعداد المولود الجديد لتكريس نفسه لخدمة المسيح، فنشأ ثيودوريطس راهبا، وأخذ كثيرا عن يوحنا الذهبي الفم وعن ثيودوروس المبسوستي، ورافق في عهد التلمذة نسطوريوس ويوحنا الأنطاكي، وقد سيم أسقفا على قورش في السنة 423، وكانت وفاته في السنة 457، وكتب كثيرا، وأنفع ما صنف تكملة تاريخ يوسيبيوس.
24
وكانت مبادئ مدرسة أنطاكية توجب في كل موضوع بساطة في المنهج وكمالا في الإيضاح وإدراكا في تعليم الإيمان، وكانت تؤثر الأخذ بظاهر النصوص المقدسة، فتبتعد كل الابتعاد عن التأويل، وكانت تعتمد أرسطو أكثر من أفلاطون، ومن ثم كانت هذه الفروق بينها وبين مدرسة الإسكندرية.
ولهذا السبب كانت تميز مدرسة أنطاكية بين اللاهوت والناسوت في شخص المسيح واحد، ومع أنها كانت تعتقد بأن المسيح واحد وليس اثنين، فإنها كانت ترفض التعليم بالاتحاد الطبيعي وبالمزج بين الطبيعتين، وكانت تعتبر اتحادهما إضافيا بمعنى السكنى والارتباط حفظا لكمال الطبيعة البشرية التي زعم أبوليناريوس أنها كانت ناقصة، وشهد بذلك يوحنا الإنجيلي بقوله: إن الكلمة «سكن فيها»، وبقول بولس الرسول إن الكلمة «ظهر بها»، وكانت تنكر على الناسوت خواص اللاهوت، كالحضور في كل مكان والقدرة على كل شيء، وعلى اللاهوت أهواء الناسوت وآلامه، كالولادة والتألم والموت.
ولهذا السبب كان معلموها يتجنبون كل تعبير يؤدي إلى مثل ذلك المعنى كتسمية العذراء بوالدة الإله، ومع اعتقادهم بكمال الطبيعة الإلهية كانوا يعتقدون بوجوب كمال الطبيعة البشرية أيضا؛ لأن لوقا الإنجيلي يقول في الإصحاح الثاني: إن يسوع «كان يتقدم بالحكمة والقامة.» وهذا لا يقال إلا في طبيعة بشرية، وكانوا يعلمون «بوجوب السجود للناسوت، بمعنى أنه إناء للكلمة، فيقولون: إننا نسجد للأرجوان من أجل المتردي به، وللهيكل من أجل الساكن فيه، ولصورة العبد من أجل صورة الله، وللحمل من أجل رئيس الكهنة، وللمتخذ من أجل الذي اتخذه، وللمكون في بطن البتول من أجل خالق الكل.»
على أنهم ما كانوا يعلمون بأقنومين بل بأقنوم واحد ذي طبيعتين متحدتين، بلا انمزاج ولا اختلاط ولا تشويش، ولهذه الأسباب كانوا يقدمون للمخلص سجودا واحدا من الجهة الواحدة، ويرفضون من الجهة الأخرى الاعتراف بالاتحاد الطبيعي أو الجوهري؛ حذرا من حصر اللاهوت أو من تأليه الناسوت. «فينتج مما تقدم أن معلمي أنطاكية والإسكندرية كانوا يعلمون التعليم المستقيم على مناهج مختلفة، مع محاذرة استعمال عبارات مستقيمة، أو مع استعمال عبارات أشد من المستقيمة تحصينا للتعليم القويم بحسب اقتضاء مراكزهم، فكان المصريون يشدون العبارات المتعلقة بإيضاح كمال طبيعة اللاهوت حذرا من بدعة آريوس التي ظهرت في إقليمهم ضد التعليم بكمال اللاهوت، وكان الأنطاكيون يطلبون إيضاح كمال طبيعة الناسوت؛ حذرا من بدعة أبوليناريوس التي ظهرت في إقليمهم ضد التعليم بكمال طبيعة الناسوت.
ولكنه قام في المدرستين أناس تطرفوا في التعليم فسقطوا في الضلال، فقام في مدرسة أنطاكية من تطرف في التعليم بالطبيعتين إلى التعليم بشخصين أو أقنومين حتى أنكر الاتحاد الحقيقي، وهذا هو نسطوريوس وأتباعه، وقام في الإسكندرية من تطرف من التعليم باتحاد الطبيعتين إلى التعليم باختلاطهما طبيعة واحدة، ولم يعد يميز بين اللاهوت والناسوت، وهذا هو أفتيشيس أو أوطيخة وأنصاره.»
25
قيصرية فلسطين
واشمأز أوريجانيوس ونفر من ديمتريوس بطريرك الإسكندرية، فخرج منها في السنة 232 وأم قيصرية فلسطين المدينة التي رحبت به من قبل وأصغت إليه وسامته كاهنا مسيحيا، فأقام فيها وأسس مدرسة جديدة ، وقرأ عليه فيها غريغوريوس العجائبي وأخوه اثينادوروس ويوسيبيوس المؤرخ وغيرهم، وفيها جمع مكتبته الشهيرة وصنف الهكسبلة في شرح الأسفار المقدسة، ومنها خرج لزيارة آثينة سنة 240 وبلاد العرب سنة 244، وفيها أذاقه داقيوس الإمبراطور مر الاضطهاد (250) فخرج منها رغم أنفه وسيق إلى صور؛ حيث سجن وتوفي في السنة 254 أو 255.
وبعد أوريجانيوس أم قيصرية بمفيليوس البيروتي، وكان هذا قد وزع أمواله على الفقراء والمساكين ورحل إلى الإسكندرية، فدرس فيها على خلف أوريجانيوس، ثم استوطن قيصرية فلسطين وأنشأ فيها مدرسة لتدريس العلوم الدينية، وجمع ما كان قد تبعثر من كتب أوريجانيوس ونسخ ما لم يتمكن من ابتياعه منها بخط يده، وكان يستنسخ الكتب الإلهية مستندا إلى ما أورثه إياه أوريجانيوس، فينثرها في البلاد نثرا، وكان يوسيبيوس تلميذه يعاونه في عمله هذا على ما تشهد به بعض النسخ.
وممن اشتهرت بهم قيصرية فلسطين يوسيبيوس المؤرخ، ولد يوسيبيوس في قيصرية أو في مكان قريب منها، في حدود السنة 265، وقرأ العلم على بمفيليوس البيروتي وعلى دوروثاوس الأنطاكي، واتخذ بمفيليوس خدينا له وتسمى باسمه وتقلد الكهنوت من يد سلفه الأسقف أغابيوس، وسيم أسقفا على قيصرية في حدود السنة 313، ووعى علوم زمانه فبرع - بحسب مقياس ذلك العصر - في تاريخ الأسفار المقدسة وفي تاريخ الوثنية وتاريخ الشرق القديم وفي الجغرافية والفلسفة والفلك وحساب التقويم، فشرح أشعيا والمزامير وغيرها.
وحسب لعيد الفصح مع ما في ذلك من عقد ومشاكل، وعرف جغرافية فلسطين وتاريخها معرفة جيدة، فتمكن من إرشاد الحجاج الذي بدءوا منذ عهده يزورون الأماكن المقدسة، وكان خطيبا حسن اللفظ أنيق اللهجة فصيحا بليغا. ومن مواقفه الخطابية المأثورة خطبته في مجمع نيقية، وذاع صيته فحظي عند قسطنطين بمكانة سنية وأعد لهذا الإمبراطور خمسين نسخة من الكتاب المقدس بناء على طلبه. «وكان يوسيبيوس من المنتصرين لأوريجانيوس، وقد وافق آريوس في أسلوبه دون نظرياته، ومما يستدعي الأسف أنه بعد ما وقع أعمال المجمع النيقاوي واطأ خصوم هذا المجمع على مقاومة أصوله، فشارك الآريوسيين في مجامعهم وعده بعضهم من أنصاف الآريوسية مع أنك لا تجد في تاريخه البيعي وكتابه الظهور الإلهي إلا إجهارا صريحا للاهوت السيد المسيح.»
26
وتعددت مصنفات يوسيبيوس؛ لأنه ظل يكتب حتى الثمانين، ومصنفاته تشكل محاولة جبارة لإحلال النصرانية المنزلة اللائقة بها، وللرد على من استخف بها وطعن فيها أمثال بورفيريوس الفيلسوف، فالنصرانية في نظر يوسيبيوس قدر لها - منذ الأزل - أن ترث الأرض وما نشأ عليها من حضارة، وما تم السلم الروماني في عهد أوغوسطوس إلا ليمهد السبيل للرسل في عملهم التبشيري، وبورفيريوس لم يضع ضد النصرانية تصانيفه ال
Historia
وال
إلا ليفسح في المجال ليوسيبيوس أن يعد مؤلفه الكبير
Historia Ecclesiastica
وكذلك خرونيقون بورفيريوس أفسح المجال أيضا لخرونيقون أوسع وأكبر لتمجيد النصرانية.
وقد بدا يوسيبيوس خرونيقونه بسيرة إبراهيم ولم يتجاوزها إلى الخليقة كما فعل يوليوس أفريقانوس، وخص القسم الأول منه بأهم الحوادث في تاريخ الشعوب بالغا في ذلك إلى السنة 325. ثم جعل من القسم الثاني جداول متوازية تشتمل على أهم الحوادث مرتبة حسب سني وقوعها، وما قصده من وراء ذلك إلا أن يورد حوادث معينة وقعت في أماكن مختلفة في وقت واحد، ثم يستعملها لتأييد نظريته في أن هذه الحوادث إنما تلازمت في الزمن واختلفت في المكان لتتم بها غاية الخالق.
وأهم ما حدث من هذا القبيل - في نظره - وقوع إحصاء كويرينيوس في عين الوقت الذي ولد فيه المسيح، ومما أثلج صدر يوسيبيوس أن موسى سبق هوميروس وأن حوادث التوراة جاءت أساسا سابقا لغيرها من حوادث العالم القديم، ولا يزال خرونيقون يوسيبيوس مرجعا حتى يومنا هذا لتعيين تواريخ قسم كبير من حوادث الرومان واليونان.
ووضع يوسيبيوس ال
ليظهر أباطيل الوثنية وأضرارها، وليبين تفوق التوحيد العبري عليها، ثم صنف ال
Demonstratio Evangelica
ليرد التهمة التي وجهها اليهود إلى النصارى في قولهم: إن هؤلاء إنما تهودوا ليخرجوا على اليهودية، فهو يرى في ال
Demonstratio
أن شرائع موسى إنما أنزلت لتكون حلقة وصل بين عهد البطاركة الأولين وعهد المسيح، ولم يكن التثليث في نظره وما يتبعه من خلاص سوى تتمة طبيعية لعقيدة اليهود ونبوات الأنبياء مع إيضاح كامل لبعض ما جاء غامضا ناقصا في الفلسفة الأفلاطونية.
وبعد أن طهر يوسيبيوس عقول قرائه من أدران الوثنية، وأبان قدم عهد النصرانية ومكانتها في تاريخ العالم وسمو منزلتها في منهاج الخالق؛ وضع تاريخا خاصا للكنيسة
Historia Ecclesiastica
منذ ظهور السيد ليبين أمانتها لتعاليمه وأنها واسطة لخلاص الأنفس من الخطيئة، وما عذاب اليهود في نظره وتشردهم بعد ظهور السيد سوى برهان ساطع على تخلي الخالق عنهم، ولم تحبط مساعي الأباطرة مضطهدي النصرانية في نظر هذا المؤرخ إلا بقوة الإيمان وعظمته، وما انتصار قسطنطين على مكسنتيوس أولا وعلى ليكينيوس ثانيا سوى إتمام ساطع باهر لوعود الله - عز وجل.
27
وفي هذا القرن اشتهر عدد من المؤرخين غير يوسيبيوس، فكان سقراط القسطنطيني الذي أكمل عمل يوسيبيوس ب
Historia Ecclesiastica
أخرى أوصل فيها تاريخ الكنيسة إلى السنة 439، وكان أيضا صوزومانيوس الغزي فألف كتابا مماثلا وقف فيه عند السنة 439، وثيودوريطس القورشي الذي سبقت إليه الإشارة وإلى تاريخه، وهو يعنى بالمدة بين السنة 325 والسنة 429.
بيروت
وكانت بيروت قد أصبحت منذ أوائل القرن الثالث مركزا لتعميم القوانين ونشرها، وكانت تجارتها واسعة ودخلها كبيرا فاستهوت دعاويها القائمة أمام محاكمها أكبر المحامين وأشهر الأساتذة، وبالطبع استتبع ذلك نشوء مدرسة الحقوق وازدهارها فيها، ونبوغ طائفة من أساتذة القانون اشتهر منهم على تعاقب العصور أولبيانوس الصوري (170-228)، وبابنيانوس (+212)، ثم غايوس ومرقيانوس وتريفونيوس في القرن الثالث ودومنيونوس في القرن الرابع، وهو الذي راسله ليبانيوس فأوصاه ببعض طلاب أنطاكية.
ولمع في القرن الخامس افذكسيوس وابنه لاونطيوس (+530) الذي تولى برايفاكتورة الشرق في عهد أنسطاسيوس، ويمبليخوس وكيرلس صاحب كتاب «التعريفات» وباتريقيوس الأستاذ الكبير، واستحق هؤلاء لقب «أساتذة العالم» وشهروا بيروت حتى رفعها الإمبراطوران ثيودوسيوس الثاني وفالنتنيانوس الثالث إلى شرف الحواضر «متروبوليس» فأصبح أسقفها متروبوليتا ولا يزال.
وتوالت عليها الألقاب فأصبحت «أم العلوم» و«موطن العلماء» و«ظئر الشرائع»، وكان الأساتذة يعينون في أول الأمر بموافقة مجلس شيوخ المدينة، ثم اشترط ليوليانوس الجاحد (362) أن يكون التعيين بموجب صك يوقعه القائد المحلي ويوافق عليه مجلس شيوخ المدينة، ثم فرض ثيودوسيوس أن يعرض عليه قرار القائد والشيوخ قبل التنفيذ، وكانت السلطة منذ السنة 425 تقوم بجميع نفقات الأساتذة.
وتقاطر الطلاب إلى هذه المدرسة من كل صوب، فحفل معهدها بأبناء غزة وعسقلان وأنطاكية والرها وسميساط وغيرها من مدن الشام وفلسطين ، وأمها غيرهم من مصر وإسبانية وإيطالية والبلقان وبر الأناضول، وكان لا بد لهؤلاء الطلاب من دروس تمهيدية في اليونانية واللاتينية، وفي الخطابة والفصاحة؛ يتهيأون بها لدرس القانون، فكانوا يحصلونها إما في مدنهم أو في بيروت نفسها بطرق خاصة.
وكان نظام المدرسة يحدد سن الطلاب، فلا يجيزهم إلا بين الخامسة عشرة والخامسة والعشرين، ولم يستثن من هذا إلا الطلاب العرب الذين كانوا يصلون متأخرين في ثقافتهم، وكان الطلاب في أول عهد الكلية من الطبقة الوسطى في المجتمع؛ لانصراف أبناء العائلات الكبيرة إلى درس اللغة والخطابة، ثم تحول هؤلاء أيضا إلى درس الحقوق، فأبدى ليبانيوس أسفه؛ لأن العدد الغفير من أبناء الأعيان في أنطاكية أصبحوا يهجرون الخطابة.
وبقيت اللاتينية لغة التعليم حتى أواخر القرن الرابع، ثم حلت محلها اللغة اليونانية، وكان الأستاذ يفتتح درسه بتلاوة بعض النصوص، ثم يفسرها معلقا عليها، ثم يفسح في المجال للسؤال والجواب، وكانت مدة التدريس أربع سنوات، ثم أضيف إليها سنة خامسة للتخصص.
28
واشتهر في أواخر القرن الخامس وأوائل القرن السادس شماس بيروت رومانوس المرتل، وهو أول ناظم للقنادق، وأشهر ما نظم ورتل القنداق: «اليوم تلد العذراء الفائق الجوهر، فتقدم الأرض المغارة للذي لا يدنى منه، والملائكة يمجدونه مع الرعاة، والمجوس يسيرون إليه مع النجم، فإنه ولد من أجلنا صبي جديد، هو الإله الذي قبل الدهور.» وقد أجاد لفظا ومعنى واستعارة وتشبيها، فأصبح «بيندار» الروم على ممر العصور، وموضع إعجاب رجال الاختصاص في عصرنا هذا.
قبدوقية
ولمع في سماء آسية الصغرى في قبدوقية في القرن الرابع أقمار ثلاثة، أكسبوا قبدوقية شهرة واسعة وعظمة ليس بعدها عظمة، والإشارة هنا إلى غريغوريوس الثاولوغوس، وباسيليوس الكبير، وأخيه غريغوريوس النيساوي.
ولد غريغوريوس الثاولوغوس (اللاهوتي) في قرية أريانزوس بالقرب من نزينزوس في السنة 328، وكان أبوه قد تنصر بتأثير زوجته نونة ثم سقف على نزينزوس أو نازيانزة، وقد ترعرع غريغوريوس على المبادئ الصالحة، وتلقى مبادئ علومه في قيصرية قبدوقية ثم في قيصرية فلسطين، فالإسكندرية، فآثينة. وفي آثينة انعقدت أواصر الصداقة بينه وبين باسيليوس الكبير، وتلقى المعمودية حوالي السنة 360، ثم أعرض عن الدنيا ومال إلى النسك، فترهب مع باسيليوس الكبير في البونط، وعاد إلى بلده فشرطنه والده كاهنا لكنيسة نازيانزة في السنة 362، فأقام في خدمتها حتى السنة 371 أو 372 فسامه باسيليوس الكبير أسقفا على ساسيمة أو زاسيمة، ولكنه لازم خدمة والده حتى وفاته في السنة 374، وفي أوائل السنة 379 استقدمه أرثوذكس القسطنطينية لمساعدتهم ضد الآريوسية، فسار إليهم وجمعهم في دار رجل من أصدقائه جعلها كنيسة صغيرى وأسماها أنسطاسية، «وفيها ألقى خطبه الرنانة في الثالوث الأقدس، ومنها تدفقت سيول الفصاحة على أسماع المؤمنين.»
29
فنما عددهم على حساب الآريوسيين، وفي السنة 380 أقر الإمبراطور ثيودوسيوس الأول رئاسته على القسطنطينية، وأيد ذلك المجمع المسكوني الثاني في السنة 381 فرعاها حتى السنة 382، وكان حساسا جدا فلم يوافق جو القسطنطينية مزاجه، فقال قوله المأثور: «ردوني إلى الانفراد! ردوني إلى الله!» فكان له ذلك، وعاد راجعا إلى نازيانزة؛ حيث قضى فيها باقي عمره، وتوفي في السنة 391.
وأشهر مصنفاته خطبه في العقائد والأعياد والقديسين، وتآبينه وأشعاره اللاهوتية، وقصيدته الطويلة في تاريخ حياته، واهتدى في دقائق اللاهوت إلى عبارات لطيفة موفقة، وتجلت في خطبه ومواعظه مقدرة فائقة في التعبير والإقناع، فلقب بالثاولوغوس (اللاهوتي)، وأحيانا بالثاولوغوس الثالوثي؛ لأنه تكلم كثيرا في الثالثوث وفي وحدانية جوهره وطبيعته.
30
وأما باسيليوس الكبير
31
فقد سبق عنه الحديث، ويجدر بنا هنا أن نضيف أن جدته لأبيه القديسة مقرينة تتلمذت لغريغوريوس العجائبي، وأن جده لأمه حاز شرف الشهادة، وأن أخته الكبرى مقرينة ترهبت، وأن والدته إميلية قضت أعوامها الأخيرة في العبادة، وأن أخويه بطرس وغريغوريوس كانا في مصاف الأساقفة، وأشهر الاثنين غريغوريوس، ويعرف بالنيسي، وقد فاق أخاه باسيليوس الكبير وصديق أخيه غريغوريوس الثاولوغوس في الدقة والتعمق، ولد في قيصرية قبدوقية حوالي السنة 335، وتأدب فيها وعلم الخطابة مدة من الزمن، ثم أثر الثاولوغوس في نفسه فتنسك، ثم سامه أخوه باسيليوس أسقفا على نيسة سنة 371، وعزله الآريوسيون سنة 376، ولكنه عاد إليها بعد سنتين، واشترك في أعمال المجمع المسكوني الثاني، فأحرز احتراما عظيما؛ لتفوقه في جودة التفكير ووضوح التعبير، وصنف كثيرا. وأشهر مؤلفاته رده على أنوميوس وأبوليناريوس، وكانت وفاته في السنة 394 في الأرجح.
وتضلع جميع هؤلاء الأحبار الثلاثة من العلوم الكلاسيكية، واجتهدوا اجتهادا صالحا في اللاهوت، وتوافقوا فشكلوا ما عرف فيما بعد بالمذهب الإسكندري الجديد، استعانوا بالفلسفة وأصروا على تحكيم العقل في العقيدة، ولكنهم لم يتطرفوا في التأويل تطرف أساطين الإسكندرية، ولم يتخلوا عن تقاليد الكنيسة الموروثة، وأضافوا إلى تصانيفهم الكثيرة في العقيدة مجموعات من الخطب والرسائل تشكل في حد ذاتها مواد أولية هامة لتفهم الفكر والثقافة في هذه الفترة موضوع هذا الفصل، ولم يقم بعدهم في قبدوقية من حافظ على هذه المكانة العالية التي أوصلها إليها في تاريخ الفكر هؤلاء الأفاضل الأماثل.
واختلف الآباء فيما بعد في التفاضل بين باسيليوس الكبير وغريغوريوس الثاولوغوس ويوحنا الذهبي الفم، ثم اتفقوا نحو السنة 1100 فأقروا عيدا تذكاريا للثلاثة معا عرف بعيد الأقمار الثلاثة، ورتب يوحنا أسقف أفخاطية خدمة كنائسية خاصة لهذا العيد. «هلموا نلتئم جميعا ونكرم الثلاثة الكواكب العظيمة للاهوت المثلث الشموس التي أنارت المسكونة بآشعة العقائد الإلهية، وأنهار الحكمة الجارية بالعسل التي روت الخليقة كلها بسواقي معرفة الله، باسيليوس العظيم وغريغوريوس اللاهوتي ويوحنا الشهير الذهبي اللسان، ونمتدحهم بالأناشيد يا عاشقي مواعظهم؛ فإنهم يتشفعون إلى الثالوث فينا دائما» (30 كانون الثاني).
الرها
وروى برحذبشابا العربي أسقف حلوان في النصف الثاني من القرن السادس آخذا عن التقليد الشائع أن أدى البشير أنشأ مدرسة في الرها لتدريس العلوم الدينية،
32
وهي رواية ضعيفة؛ نظرا لطريقة نقلها، ولبعد برحذبشابا عن عصر الرسل، وأول من ورد ذكره من طلاب الرها لوقيانس ثم يوسيبيوس الرهاوي أسقف حمص (+359)، ولما احتل الفرس نصيبين سنة 363 في عهد يوفيانوس الإمبراطور جلا عنها أفرام الكبير وأساتذة مدرستها وبعض الأشراف وساروا إلى آمد فالرها، وارتاح أفرام إلى السكنى في الرها، فأقام فيها وزملاؤه وانضموا إلى مدرستها، فأطلق عليها اسم مدرسة الفرس نسبة إلى طلابها والأساتذة النازحين إليها.
والقديس أفرام السرياني هو نفسه الذي قال عنه الذهبي الفم: «أفرام كنارة الروح القدس ومخزن الفضائل معزي الحزانى ومرشد الشبان وهادي الضالين كان على الهراطقة كسيف ذي حدين.» وأشهر ما صنف ميامره الشعرية في الأسرار والبتولية والتوبة والإيمان والكهنوت والرهبانية، وقد نقل جانب وافر من هذه الميامر إلى اليونانية، وناظمها لا يزال في قيد الحياة، أما وفاته فكانت في السنة 379.
33
الفن البيزنطي
وتمشرقت الدولة بفنها أيضا، وعلماء القرن العشرين ينقضون ما ذهب إليه زملاؤهم في القرن التاسع عشر من أن الفن الروماني كان قد طغى على الفن الهليني في الشرق في القرنين الأولين بعد المسيح، ويثبت أينالوف في كتابه الأصول الهلينية للفن البيزنطي،
34
وإشتراجيكوفسكي في كتابه «الشرق أو رومة»،
35
أن الشرق - لا الغرب - هو الذي لعب الدور الرئيسي في إنشاء الفن البيزنطي، وأن هذا الشرق شمل، بالإضافة إلى آسيا الصغرى وسورية ومصر، بلاد فارس وأواسط آسية، ويذهب إشتراجيكوفسكي إلى أبعد من هذا فيجعل منزلة إيران في التأثير على الفن البيزنطي كمنزلة بلاد اليونان الأم في التأثير على الفن الكلاسيكي،
36
ويرى بعض رجال الاختصاص تطرفا ملموسا في نظريات إشتراجيكوفسكي، ولكنهم لا ينكرون عليه أن الشرق - لا الغرب - قد لعب الدور الرئيسي في تكوين خصائص الفن البيزنطي،
37
والواقع الذي لا المفر منه هو أن روائع الفن البيزنطي جاءت ثمرة لامتزاج وتفاعل موفق بين عوامل ثلاثة: الدين المسيحي، والحضارة الهلينية، وأوضاع الشرق.
وأشهر الآيات الفنية التي تعود إلى هذه الحقبة من تاريخ الروم: كنائس القدس وبيت لحم والناصرة، وجميعها أقيمت في عهد قسطنطين الكبير، ومن أشهر ما أنشئ في آخر القرن الخامس دير مار سمعان العمودي - قلعة سمعان - بين حلب وأنطاكية،
38
وتعود آثار قصر المشتى في شرقي الأردن إلى هذه الحقبة نفسها أيضا، وقد أثبت العالم الأثري كاوفمان الألماني أن آثار كنيسة القديس ميناس في مصر تعود إلى عهد الإمبراطور أرقاذيوس،
39
وفي القسطنطينية أقام قسطنطين الكبير كنيسة الرسل وكنيسة القديسة إيرينة، كما شيد كنيسة الحكمة التي أعاد بناءها يوستنيانوس - كما سنرى - ولا تزال أسوار ثيودوسيوس ماثلة لليوم بما فيها الباب الذهبي الرائع
الذي كان يلجه الأباطرة في المواكب الرسمية.
الباب الخامس
كرامة ومجد وعظمة
الفصل الحادي عشر
يوستينوس ويوستنيانوس
518-568
أصل هذه الأسرة
وقد كان السائد حتى أواخر القرن الماضي أن هذه الأسرة تحدرت من أصل صقلبي، والذي حمل على هذا الاعتقاد ما ورد من أسماء صقلبية دعي بها يوستنيانوس وأنسباؤه، في ترجمة لهذا الإمبراطور نسبت إلى معلمه ثيوفيلوس. ولكن المؤرخ الإنكليزي جايمس برايس أثبت في أواخر القرن الماضي أن هذه الترجمة هي من نتاج القرن السابع عشر وأنها - بالتالي - لا تستحق عناية المؤرخ واعتماده،
1
والذي يراه رجال الاختصاص اليوم أن يوستينوس ويوستنيانوس تحدرا من أصل إيليري أو ألباني، وأن يوستنيانوس ولد في إحدى قرى مقدونية العليا في جوار أسكوب على حدود ألبانية، أما يريشيك فيرى أنهما من أصل روماني،
2
ومما لا شك فيه أنهما تكلما اللغة اللاتينية.
يوستينوس الأول (518-527)
وتوفي أنسطاسيوس في التاسع من تموز سنة 518 بدون عقب، فتولى العرش بعده يوستينوس أحد قادة الحرس الإمبراطوري
3
بتدبير لا يزال غامضا، وكان يوستينوس هذا وضيع الأصل، مغمور الذكر، جاء العاصمة مغامرا يمشي على القدمين من مقدونية، إلا أنه كان جنديا باسلا فألحق بالحرس الإمبراطوري، وظل يتقدم حتى أصبح قومس إحدى فرق الحرس، على أنه - في الواقع - لم يكن شيئا، غير جندي باسل، وقد رأى فيه المؤرخون المعاصرون له أميا لا يقرأ ولا يكتب، متطفلا على السياسة وأهلها، جاهلا علم اللاهوت، ويقولون: إنه لولا مساندة ابن أخته يوستنيانوس له لناء بحمله وضاع في متاهات الإدارة والسياسة.
وكان يوستينوس قد استقدم يوستنيانوس إليه في حداثته، وعني بتثقيفه وتهذيبه، فأصاب يوستينيانوس شطرا وافرا من العلم في مدارس العاصمة، فلما تبوأ خاله عرش القسطنطينية كان يوستنيانوس قد أنهى علومه وخبر الحياة السياسية وتحلى بالنضج والاتزان.
وكان الاثنان كاثوليكيين أرثوذكسيين يقولان بقرارات المجامع المسكونية الأربعة، فأنهيا ما كان قد وقع من شقاق بين القسطنطينية ورومة من جراء إينوتيكون (482) زينون، وأقصيا أصحاب الطبيعة الواحدة عن المراكز الهامة، وربما أنزلا ببعضهم شيئا من العذاب. وكان هؤلاء كثرا في أرمينية وسورية ولبنان وفلسطين ومصر، فنفرت هذه الأقطار من سياسة الأسرة الجديدة، وشعر يوستنيانوس بهذا النفور، وخشي سوء العاقبة في حقل السياستين الداخلية والخارجية في الشرق، فكتب رسالته الشهيرة إلى البابا هورميزداس في السنة 520، مقترحا استعمال اللطف مع أصحاب الطبيعة الواحدة «كي يتم الشفاء بدون تفتح جروح جديدة.»
4
يوستينوس وكالب
وكانت قد تسربت النصرانية إلى بلاد اليمن بعد انتشار اليهودية فيها، وكان آخر ملوك حمير ذو نواس يهوديا - فيما يظهر - واشتدت المنافسة بين النصارى العرب واليهود العرب، وانقلبت عداء مريرا، وكان ذو نواس يرى في النصرانية ما يذكره بالأحباش واحتلالهم، فأوقع بالنصارى في السنة 523 مذبحة نجران الشهيرة، ثم جمع من نجا منهم وخيرهم بين القتل واليهودية، فاختاروا القتل، فخد لهم أخدود
النار ذات الوقود ،
5
وجاء في الطبري
6
أن دوس ذا ثعلبان أفلت ولجأ إلى إمبراطور الروم يستنصره على ذي نواس، وأن يوستينوس قال له: «نأت بلادك عنا فلا نقدر أن نتناولها بالجنود، ولكني سأكتب إلى نجاشي الحبشة وهو أقرب ملوك النصرانية إلى بلادك.» ومما يروى أيضا أن النجاشي انتصر على ذي نواس مرتين متواليتين في السنة 523 وفي السنة 525، وهنا رب معترض يقول: كيف اضطهد يوستينوس أصحاب الطبيعة الواحدة في بلاده ثم تعاون مع النجاشي كالب الذي كان يقول هو أيضا بالطبيعة الواحدة؟ والجواب: أن صاحب القسطنطينية كان يعتبر نفسه حامي ذمار النصرانية في كل المسكونة.
وتحدث الأحباش طويلا بهذا التعاون بين يوستينوس وكالب وتناقلوا الخبر جيلا بعد جيل ودونوه في القرن الرابع عشر في تاريخهم القومي الكبير: «كبرى نجشت»، ومعناه فخر الملوك، فقالوا: إن أسرتهم المالكة تحدرت من سليمان وبلقيس وإن دولتهم أشرف من دولة الروم وإنه كان ليوستينوس ولكالب أن يلتقيا في أوروشليم؛ ليقتسما الأرض بأجمعها.
7
يوستنيانوس وثيودورة
وتحفظ لنا فسيفساء سان فيتالي في رابينة قسمات وجه يوستنيانوس كما رسمها رسام في السنة 547، ويقول معاصروه: إنه كان يميل إلى البساطة في العيش، والتودد في معاملة الناس، وأنه كان يواصل العمل ليل نهار حتى لقبه أحد رجال بلاطه ب «الإمبراطور الساهر»؛ إذ كان يحرص أن يعلم كل شيء ، وأن يدقق في كل شيء، وأن يقر كل شيء، والواقع أن يوستنيانوس كان شديد الإعجاب بمواهبه ومؤهلاته، لا يسمح لأحد من رجاله أن يعارضه في أمر، ولا يثق بأحد منهم، حتى ولا بقائده الأمين بليساريوس العظيم، وعلى الرغم من تظاهره بالعزم والحزم والثبات؛ فإنه كان في قرارة نفسه مترددا شديد التأثر بآراء الحاشية ولا سيما زوجته ثيودورة.
8
ويقول بروكوبيوس المؤرخ في كتابه عن أسرار هذه الحقبة: إن ثيودورة هذه تلطخت منذ حداثتها بفساد المحيط حولها، فإنها نشأت ابنة لمروض الدببة في مسارح القسطنطينية، وشبت على شيء من الإباحية، وما طال الأمر حتى احتقرها سكان العاصمة، فكانوا إذا التقوها في شوارع المدينة ابتعدوا عنها خوفا من ملامستها والتلوث بها،
9
ويقول شارل ديل الإفرنسي: إن ثيودورة شغلت العاصمة فألهتها، لا بل فتنتها، ثم جرت الخزي عليها،
10
ولكن يجب ألا يغيب عن البال أن بروكوبيوس إنما كتب ما كتب ليحطم به يوستنيانوس وزوجته، وهو والحالة هذه راو مغرض لا تقبل شهادته بدون تبصر وروية وجرح وتعديل، ويجب ألا ننسى أن ثيودورة ترصنت بعد طيشها وذهبت إلى أفريقيا فبقيت فيها بضع سنوات عادت بعدها إلى القسطنطينية متعقلة متزنة مهتمة بالقضايا العامة ولا سيما الدينية منها، منهمكة بغزل الصوف في ساعات الفراغ. وأن يوستنيانوس لم يعرفها قبل دخولها في هذا الدور من حياتها، وأعجب يوستنيانوس بجمالها، فنقلها إلى القصر وجعل منها بطريقة ثم تزوج منها، وشعرت ثيودورة بالمسئولية الملقاة على عاتقها، فتعاونت وزوجها في سبيل العرش والدولة، وأخرجته في كثير من الأحيان من مآزق حرجة - كما سيمر بنا.
سياسة يوستنيانوس الداخلية
وجوبه يوستنيانوس في أول عهده بثورة داخلية كادت تدك عرشه دكا، وهي التي عرفت بثورة النصر «نيكا» باليونانية، ولا بأس في تفصيل نبأ هذه الثورة من التوقف والرجوع قليلا إلى الوراء؛ ذلك أنه كان يقوم في قلب العاصمة ملعب فسيح لسباق الخيل يدعى ال
Hippodrome ، وارتاحت نفوس سكان العاصمة إلى سباق الخيل في الهيبودروم ونشطوا لمراقبة هذه السباقات وتحمسوا لها، وكان على سائقي عربات السباق أن يتزيوا بواحد من أربعة ألوان: إما الأخضر أو الأزرق أو الأبيض أو الأحمر، فانقسم النظارة من سكان العاصمة إلى أحزاب رياضية أربعة: الخضر والزرق والبيض والحمر، وانتظمت هذه الأحزاب، وتكتل أفرادها وتكاتفوا، فأنشئوا لكل منها صندوقا خاصا؛ لتشجيع السائقين وشراء الجياد السباقة والعناية بها، ولا نعلم بالضبط كيف وقع الاختيار على هذه الألوان التي تسمت بها هذه الأحزاب، ولكننا نعلم أنها قديمة جدا وأن رومة الجديدة ورثتها عن رومة القديمة، ويرى بعض رجال الاختصاص أنها ربما أشارت - في الأصل - إلى العناصر الأربعة: الأرض والماء والهواء والنار، الأرض الخضراء، والماء الأزرق، والهواء الأبيض، والنار الحمراء،
11
ثم نتج عن هذا التضامن في حقل الرياضة تضامن في السياسة والاجتماع، وانضم البيض إلى الخضر والحمر إلى الزرق، فأصبح في العاصمة حزبان سياسيان اجتماعيان، حزب الخضر وحزب الزرق، وأيد الزرق الأرثوذكسية فأيد الخضر القول بالطبيعة الواحدة، وكان قد سبق في عهد أنسطاسيوس أن حل بالزرق اضطهاد شديد؛ لأن هذا الإمبراطور كان يميل إلى القول بالطبيعة الواحدة، فهرع الزرق إلى الهيبودروم ونادوا بسقوط أنسطاسيوس، وكاد أن يتم ذلك لولا اتزان الإمبراطور واستعطافه الرأي العام، فلما رقي يوستينوس ويوستنيانوس العرش دب إلى عروق الزرق النشاط ولكن ثيودورة عطفت على الخضر، فانقسم البلاط نفسه إلى أزرق وأخضر،
12
ويجوز القول أيضا إن الزرق كانوا في الغالب من طبقات الشعب العليا، وأن الخضر جاءوا من الطبقات السفلى بحيث أصبح الصراع بينهما في بعض الأحيان صراعا طبقيا.
13
وقد تعددت أسباب ثورة النصر التي نشبت في السنة 532، فبعضها كان دينيا عقائديا نشأ عن اضطهاد من قال بالطبيعة الواحدة، وبعضها كان مرده إلى تنافس الأسر على العرش وحرمان أقارب أنسطاسيوس من الملك، وبعض هذه الأسباب كان عموميا، وهو الأقوى.
وتفصيل الأمر: أن يوستنيانوس اعتمد في أول عهده على تريبونيانوس في القضاء ، وعلى يوحنا القبدوقي في الإدارة، وطغى الاثنان وتجاوزا الحد في ابتزاز المال وفي القسوة، فهب الزرق والخضر معا وهرعوا جميعا إلى الهيبودروم، ثم انطلقوا منه يخربون ويحرقون، وسادت كلمة النصر على أفواههم «نيكا» فسميت بها حركتهم هذه، وفاوضهم يوستنيانوس فلم يرضوا ونادوا بأحد أنسباء أنسطاسيوس إمبراطورا، فخشي يوستنيانوس العاقبة وجمع أخصاءه وشاورهم في الفرار من العاصمة، وكادوا يجمعون على ذلك ولكن ثيودورة انتصبت بينهم وقالت كلمتها التاريخية: «يستحيل على امرئ يجيء هذا العالم ألا يموت، ولكن من يمارس السلطة لا يطيق النفي، وإن تشأ أيها الإمبراطور أن تنقذ نفسك فلن تجد صعوبة والبحر قريب، والمراكب مجهزة، والمال موفور، ولكن تريث قليلا، وسل نفسك: ألن تندم بعد فرارك ووصولك إلى ملجأ أمين فتود لو كنت آثرت الموت على الأمان؟ أما أنا فأرى أن الأرجوان لا بأس به كفنا.»
14
فانتعش يوستنيانوس، وأمر بليساريوس أن يخضع الثائرين بالقوة بعد أن مضت على ثورتهم ستة أيام، فأحاط بهم بليساريوس بجنوده ولزهم حتى أكرههم على اللجوء إلى الهيبودروم، ثم فتك بهم فتكا، فقتل ثلاثين أو أربعين ألفا بينهم أنسباء أنسطاسيوس وثبت هيبة السلطة.
15
وكان قد ظهر في آسية الصغرى ومصر وغيرهما من أجزاء الإمبراطورية عدد من أصحاب العقارات الكبيرة الذين استغلوا الظروف السياسية والإدارية، ففرضوا ملكيتهم فرضا، واغتصبوا أملاك الدولة، وعبثوا بالسلطة المركزية فأحاطوا أنفسهم بالحراس، وجروا وراءهم الجماهير، وسدوا أفواه الولاة بالذهب،
16
وأشهر من اشتهر من هؤلاء في مصر أسرة الأبيون، فكان الواحد منهم يملك القرية بعد القرية، ويفرض ضرائبه الخاصة ويجبيها على يد جباته ويعيش عيشة الملوك،
17
واتسعت كذلك أملاك الأديرة والكنائس وتمتع أصحابها بسلطة واسعة.
ورأت الحكومة في هذا كله تحديا لا مبرر له، فقاومته مقاومة طويلة الأمد، تذرعت في أثنائها بشتى الوسائل، كأن تتدخل في حق الإرث أحيانا، أو أن تكره أحيانا أخرى بعض الكبار على وقف أملاكهم على الإمبراطور، أو أن تصادر بعض الأملاك بداعي عدم الدليل على الملكية، أو أن تتهم ديرا من الأديار بالزندقة فتحول أرزاقه إلى الدولة ، ولكن برغم هذا كله لم يتمكن يوستنيانوس من القضاء على هذه الطبقة.
ولمس يوستنيانوس عيوب الإدارة ومواطن الخلل فيها كبيع الوظائف وتبديد الأموال والسرقة والبلص، وعلم - حق العلم - أن هذه النقائص تؤدي حتما إلى الفقر والخراب، وإلى إثارة الفتن والمشاكل، ورغب كل الرغبة في إزالة الضرر وإصلاح الحال، وشعر بالمسئولية الملقاة على عاتقه، وكان يقول بالحكم المطلق، فرأى أن أفضل الوسائل لمداواة الحال هي السعي لتقوية الحكومة المركزية وانتداب رجال أكفاء للقيام بمهام الحكم.
وعني - بادئ ذي بدء - بمالية الدولة فذكر بنفقات الحرب وطلب إلى الرعايا أن يؤدوا ما وجب دفعه بإخلاص وعلى الوجه الأكمل، وأمر الموظفين أن يعاملوا الرعايا بعطف أبوي وأن يرفعوا عنهم الظلم ويمتنعوا من الرشوة ويعدلوا،
18
ثم عاد فذكر الموظفين بوجوب السعي لتغذية الخزينة،
19
واجتهد يوستنيانوس اجتهادا حثيثا في سبيل الإصلاح على أساس هاتين القاعدتين: أمانة الموظف وإخلاص المكلف، ولكنه رأى - بعد وقت - أن ذلك لم يكف لتغذية الخزينة، فلجأ إلى إنقاص النفقات بإنقاص الجيش وابتياع رضا الخصم على الحدود، ولم يفطن إلى أن مثل هذه الخطة يؤدي إلى الاضطراب في الداخل وضعف الهيبة في الخارج، فضلا عن نقص الموارد وازدياد النفقات.
ومما زاد في الطين بلة انتشار الأوبئة في عهده وحلول الزلازل، وأشهر الأوبئة: طاعون السنة 542، فإنه ظهر في مصر وانتقل إلى سورية ولبنان، فالقسطنطينية، فبر الأناضول، فما بين النهرين، ففارس. ثم عبر البحر إلى صقلية وإيطالية، ودام انتشاره في العاصمة أربعة أشهر، وتزايد فتكه، فهجر السكان المدن والقرى ووقف الحرث والزرع وعم الجوع فاضطربت الدولة بأسرها.
20
وتعددت الزلازل، وأشهرها زلزال السنة 551، وفيها اهتز الساحل اللبناني من أرواد حتى صور وعم الخراب، وأصاب بيروت السهم الأوفر، وقيل إن البحر فيها ارتد ميلا ثم عاد بطغيان هائل فأغرق سفنا عديدة وألوف الناس. ويقول أغاثيوس المؤرخ: «إن بيروت زهرة فينيقية ذوت بعد هذه الزلزلة العظيمة، وتقلص ظل جمالها، ودكت أبنيتها الشامخة البديعة، فتقوضت، ولم يبق منها إلا ردم وخراب، وهلك تحت أنقاضها جم غفير من الأهلين والأجانب ، واختطف الموت نخبة الشبان الأشراف الذين كانوا قد قدموا بيروت لدرس الحقوق الرومانية في مدرستها الشهيرة التي كانت فخرا لها وتاجا على مفرقها تباهي بها أخواتها من المدن العظمى.»
21
واتخذ يوستنيانوس الفسيلفس ما بين السنة 525 والسنة 536 طائفة من الإجراءات؛ لتعزيز السلطة المحلية، مع تثبيت نفوذ للسلطة المركزية، وكان قسطنطين الكبير - كما سبق أن أشرنا - قد جزأ الولايات الكبيرة إلى ولايتين أو أكثر وفصل السلطة الإدارية في الولايات عن السلطة العسكرية؛ ليأمن شر التمرد والعصيان، ولكن يوستنيانوس أراد أن يبسط الأمور ليسهل عمل الإدارة، فقلل عدد الولايات وأنقص عدد الموظفين وزاد في رواتبهم ووضع السلطتين العسكرية والإدارية في يد واحدة،
22
وأنعم باللقب «يوستنياني» على الحكام فزادهم فخرا ووقارا.
وعني يوستنيانوس عناية خاصة بإدارة العاصمة، فعين عددا من الحكام «برايتوريوس الشعب» في السنة 535 للنظر في السرقات والاغتيالات وحوادث الزنى، وفي السنة 539 أنشأ وظيفة الكوايسيتور
Kuaesitor
لمراقبة الذين كانوا يفدون على العاصمة من أبناء الولايات بلا موجب فيعقدون أحيانا مشاكلها بتصرفهم، ونزولا عند رغبة ثيودورة أعاد تنظيم وظيفة المحافظين على الآداب العامة وأمرهم بالتشديد على المقامرين والمجدفين وعلى «أولئك السفلة الذين لم ينتظروا سدول الليل ليستروا بها معاصيهم»، واهتمت ثيودورة لأمر الزانيات فجعلت من قصر قديم على ضفة البوسفور الآسيوية ديرا للتائبات منهن أسمته دير التوبة، ومنع يوستنيانوس سباق الخيل في الهيبودروم وأمر بمراقبة الأحزاب الرياضية السياسية مراقبة شديدة.
23
وحض يوستنيانوس الحكام وألزمهم أن يحافظوا على الطرقات والجسور وأقنية المياه والأسوار وأمدهم بالمال، فنشطوا لتحقيق هذا الواجب وأنشئوا طرقات جديدة وشيدوا لها الجسور وحفروا الآبار والأحواض على جوانبها؛ ليؤمنوا المياه للقوافل وأبناء السبيل، وجروا المياه إلى المدن وبنوا الحمامات. وعملا برغبة يوستنيانوس قامت مدن جديدة في بعض الأنحاء، تحمل لقب يوستنيانة، اعترافا بفضل الإمبراطور.
وبذل يوستنيانوس بذلا سخيا لإغاثة أنطاكية بعد الكارثة التي حلت بها في السنة 540، فجدد الأقنية والمجارير وأنشأ الحمامات ودور اللهو والساحات العامة، ولم يقصر في البذل عندما حلت الكارثة في السنة 551 ببيروت وغيرها من مدن لبنان وسورية، وفي السنة 532 بدأ بتشييد كنيسة الحكمة الإلهية في القسطنطينية بإشراف إسيدور الملطي وأنثيميوس الترلي، واستمر العمل فيها خمس سنوات حتى تم بناؤها في السنة 537، فجاءت آية من بدائع الآيات أتحف بها يوستنيانوس عالم الفن ، وهي ما زالت قائمة راسخة موطدة بارزة جريئة واضحة نقية.
وأنشأ في السنة 538 القصر المقدس بمدخله الفخم وقاعة عرشه العظيمة
Consistorium
التي بهرت العيون بألوان معادنها الثمينة ودقائق فنها الخالص، وعنيت ثيودورة بكنيسة الرسل وبعدد كبير من المستشفيات للمرضى والأنزال للمسافرين، ولا تزال أحواض بره بتان سراي «القصر الغائر» وبيك بر ديرك «ألف عمود وعمود» تنطق بالعمل الجبار والجهود المتواصلة التي بذلها يوستنيانوس لتوفير المياه على العاصمة.
يوستنيانوس والاقتصاد
وأراد يوستنيانوس أن يحرر تجار الإمبراطورية ورجال الصناعة فيها من تحكم الفرس في مقدراتهم؛ فإنه لم يكن بإمكان الروم في القرن السادس أن يبتاعوا مباشرة من الصين والهند بعض المواد اللازمة للبذخ والتعظم والتعظيم، كالحرير والحجارة الكريمة والأطايب والأفاوية؛ ذلك أن هذه المواد كان محتوما لها أن تمر عبر فارس؛ إذ كان الفرس يبتاعونها في أسواق بخارى، وعند تخوم الصين وفي جزيرة سيلان، ثم ينقلونها إلى حدود الروم عند الفرات، ولا يرضون بيعها إلا بأغلى الأسعار، أو لا يسمحون بتصديرها إلا بكميات محددة، فسعى يوستنيانوس للوصول إلى بخارى عن طريق البحر الأسود، فلزيقة، فبحر قزوين، متحاشيا الدخول في حدود فارس.
وكذلك سعى لتشجيع الروس الجنوبيين على الاتصال بتخوم الصين للغاية نفسها، ثم دفع تجار بيروت وصيدا والإسكندرية إلى استيراد هذه البضائع عن طريق البحر الأحمر ومرافئ حمير الجنوبية، وجعل من مرفأ آيلة بالقرب من العقبة ومرفأ قلزم بالقرب من السويس قاعدتين تجاريتين، كما أنشأ على جزيرة تيران في خليج العقبة جمركا إمبراطوريا لهذه الغاية نفسها،
24
وكانت مراكب الأحباش وعرب الجنوب تجوب بحر العرب والمحيط الهندي حتى سيلان، فاتصل يوستنيانوس في السنة 530 أو 531 بالنجاشي «ملك ملوك» الأحباش وحسن له نقل سلع الهند والصين من سيلان إلى مرافئ البحر الأحمر، فاقتنع النجاشي بالأمر وحض عليه تجاره. ولكن الفرس كانوا في مرافئ الهند أوسع نفوذا من الأحباش فقاوموا تجار الأحباش مقاومة شديدة، وفي السنة 532 جاء السلم بين الفرس والروم فعادت الأمور إلى مجاريها الطبيعية وعاد الروم إلى الاستيراد عن طريق فارس.
غير أن العلاقات عادت فتأزمت في السنة 540 - كما سنرى - فلجأ يوستنيانوس إلى تحديد سعر الحرير وأكره التجار على قبول تعرفة حكومية، فشل بذلك نشاط التاجر الفرد ولحق بالتجار اللبنانيين خسارة فادحة كادت تقضي على صناعاتهم، ثم أفلت سر تربية دود الحرير من الصين، نقله قسيسان مسيحيان بين السنة 552 والسنة 554 إلى الروم، فتلقاه اللبنانيون بالتهليل وأقبلوا على تربية دود الحرير في لبنان، وفعل مثلهم يونان المورة وبعض الجزر، فأصبح لدى الروم إنتاج محلي من الحرير استعاضوا به مما كان قد لحق بهم من خسارة وباتوا بمأمن من تحكم الفرس في مقدراتهم، واستطاعوا هم - بدورهم - أن يحافظوا على سر تربية دود الحرير زمنا طويلا.
واتسع نطاق عمل اللبنانيين بنوع خاص فراجت بضائعهم الحريرية في جميع أسواق البحر المتوسط وفي فرنسة وألمانية وبريطانية، ونشطوا في تصديرها إلى الشرق الأقصى، فكثر طلابها في الصين نفسها، وعظمت تجارة القسطنطينية، فتقاطرت إليها المراكب من كل حدب وصوب من مرافئ المتوسط والبحر الأسود؛ لتحمل إليها المواد الخام على أنواعها، وتنقل منها إنتاجها الصناعي، وأصبحت - بفضل هذه التجارة واهتمامها بالفضة - المركز الأعظم للتحاويل المالية وللصرافة أيضا. والإسكندرية بفضل موقعها وعظم مرفأها ظلت تنعم بدخل موفور، وكان أهم ما تتجر به حبوب مصر ومعادن أفريقيا ونفائس الشرق الأقصى، وقامت فيها جالية لبنانية هامة تستغل سوقها العظيمة.
وسر يوستنيانوس بازدهار التجارة، وهنأ نفسه أنه استطاع - بسعيه وحسن تدبيره - أن يقدم «زهرة أخرى» إلى الدولة التي أحب والتي وكل الله إليه أمرها، وليس في كلامه هذا ما لا يتفق والحقيقة؛ فأعمال الحفر والتنقيب في السبعين السنة الأخيرة قد دلت على هذا الازدهار دلالة واضحة.
25
يوستنيانوس والقضاء
وأحب يوستنيانوس النظام، ورغب رغبة أكيدة صادقة في تأمين «العباد الذين وكل الله أمورهم إليه»، وفي نشر لواء العدل بينهم، وتاقت نفسه إلى المجد الروماني السابق، وأراد أن يعيد إلى الإمبراطورية الرومانية سابق وحدتها، وعلم العلم اليقين أن هذا يتطلب أموالا لا حصر لها، فرأى - بنظره الإداري الثاقب - أن أفضل الوسائل لجمع المال من الرعايا هو حمايتهم من ظلم الحكام وتصلفهم، وهكذا عني منذ بداية عهده بجمع القوانين المتراكمة وتنسيقها وتعديلها وفوض أمرها إلى مدبره الكبير تريبونيانوس، فدعا تريبونيانوس هذا لجنة من كبار رجال القانون في الإمبراطورية، وذلك في 13 شباط سنة 528 ووكل إليهم العمل.
وكان أهم هؤلاء - بطبيعة الحال - أساتذة مدرسة بيروت الشهيرة: أناطوليوس بن لاونطيوس، وتلالاوس، وإسطفانوس، ويوليانوس، ودوروتاوس، وإذوكسيوس، وتم الجمع والتنسيق والحذف وما إلى ذلك على يد هذه اللجنة، فظهرت مجموعة القوانين ال
Code
في السابع من نيسان سنة 529.
وفي الخامس عشر من كانون الأول سنة 530 عنيت لجنة ثانية باستخلاص قوانين الأحوال الشخصية
وكان ألمع أعضاء هذه اللجنة وأكثرهم نشاطا الأستاذ البيروتي أذوكسيوس، فتم العمل في 15 كانون الأول سنة 533 وظهر الديجسته
Digesta
إلى حيز الوجود، ووضعت هذه اللجنة كتاب الأنظمة
Institutes
لتسهيل درس الحقوق، فظهر في الحادي والعشرين من تشرين الثاني من السنة نفسها 533، وفي السنة 534 ظهرت مجموعة القوانين بحلة جديدة، وهي المجموعة التي لا يزال يتداولها رجال القانون حتى يومنا هذا، فأما مجموعة السنة 529 فلم يبق منها أي أثر.
26
يوستنيانوس والكنيسة
وكان يوستنيانوس يرى أن واجبه يقضي بالمحافظة على حرمة الكنيسة والدفاع عنها ضد المعتدين، وكان يقول إن انتظام الكنيسة هو دعامة الملك، وكان يرى في نفسه رئيسا للدولة وللكنيسة في آن واحد، فيتدخل في المناظرات والمشاحنات اللاهوتية ويبدي رأيه فيها، ويقطع الأساقفة ويعين غيرهم في مناصبهم ويدعو إلى المجامع ويدير أعمالها ويوافق على قراراتها أو يعدلها أو يلغيها، ومن هنا هذه الفصول في مجموعة قوانينه الكبرى، وفي قوانينه المستجدة في نظام الإكليروس، وفي إدارة الأديرة والأوقاف وغير ذلك مما كان يلحق بشئون الكنيسة.
وكان يوستنيانوس في مقابل هذا أبدا مستعدا للدفاع عن الكنيسة ورفع الضيم والأذى عنها؛ تأييدا لها بالمال والنفوذ كيما تقضي على الهرطقة في صفوفها، وكان أيضا يبذل - بسخاء - لتشييد الكنائس والأديرة والمقامات في طول الإمبراطورية وعرضها.
وكان يوستنيانوس أرثوذكسي العقيدة - كما سبق أن أشرنا - فأصدر في السنة 527 وفي السنة 528 قوانين صارمة ضد الهرطقة، فأبعد الهراطقة عن الوظائف والمهن الحرة ومنع اجتماعاتهم، وأغلق كنائسهم. ثم حرمهم حقوقهم المدنية قائلا: يكفي هؤلاء أن يؤذن لهم بالعيش.
واضطهد الوثنيين وحملهم على التنصر جماعات جماعات، ورأى ضروريا أن يقضي على عقائدهم وفلسفاتهم فأمر في السنة 529 بإقفال جامعة آثينة، ودمر هياكل إيسيس وعمون في مصر، ولم يكن أقل شدة في موقفه من اليهود، فنشبت ثورة السامرة في السنة 529 وجرت عليهم ضيقا وخوفا فوق ما كانوا يكابدون، ولم ينج من الاضطهاد سوى أصحاب الطبيعة الواحدة؛ لأنهم كانوا أقوى الهراطقة وأكثرهم عددا، فرهبانهم في مصر كانوا يؤلفون جيشا متراصا مستعدا لتنفيذ أوامر بطريركهم وأعيانهم، وكانوا في سورية وفلسطين ولبنان والرها وأرمينية؛ لا يزالون يتربعون في أعلى المراكز، ويتمتعون بعطف وتأييد في قلب العاصمة نفسها.
وكان يوستنيانوس شديد الإيمان بكنيسة واحدة جامعة مقدسة رسولية، فما إن تبوأ خاله عرش الإمبراطورية حتى عمد إلى إزالة الانشقاق بين كنيسة القسطنطينية وكنيسة رومة، على أنه لبث يواجه مشكلة أخرى، ذلك أن ولاياته الشرقية كانت تشتمل على عدد كبير من القائلين بالطبيعة الواحدة، فوجد نفسه بين شرين: شر الابتعاد عن رومة وعن الكنيسة الأرثوذكسية، وشر انفصال الولايات الشرقية عنه أو شر القلاقل فيها واستعداد أهلها لمناوأته في كل فرصة تنتهز. فأحب - بملء الإخلاص - أن يضع حلا وسطا يرضي به أصحاب الطبيعة الواحدة ولا يحيد به عن أرثوذكسيته.
وهكذا نراه في السنة 529 يلغي قرار النفي عن بعض الرهبان من أصحاب الطبيعة الواحدة، ونراه يستقدم إلى القسطنطينية سويروس بطريرك أنطاكية المقطوع عن وظيفته؛ ليتداول معه في طريقة الوصول إلى حل وسط، ونراه - كذلك - يطلق لأصحاب الطبيعة الواحدة حرية الوعظ والإرشاد.
ولما توفي أبيفانيوس بطريرك القسطنطينية في السنة 535 أقنعت ثيودورة زوجها الإمبراطور بإقامة أنثيميوس متروبوليت طرابزون وصديق سويروس بطريركا في العاصمة، وكان أنثيميوس يقول بالطبيعة الواحدة سرا، ولكن ما لبث أن قدم العاصمة البابا أغابيتوس في السنة 536 فعلم بما في الزوايا من خبايا، فدعا أساقفة القسطنطينية ومقدمي الكهنة فيها إلى مجمع محلي برئاسته قطع فيه أنثيميوس ومن شاركه رأيه. ثم انتخب الإكليروس والإمبراطور والشعب ميناس بطريركا على القسطنطينية.
وفي هذه الآونة وصل إلى العاصمة رهبان من فلسطين وسورية ولبنان ليشكوا سويروس وغيره من أصحاب الطبيعة الواحدة، ورفعوا بذلك لوائح إلى يوستنيانوس والبابا، على أن البابا أغابيتوس سرعان ما توفي في القسطنطينية، ومع ذلك فقد انعقد مجمع برئاسة البطريرك ميناس وعضوية أساقفة القسطنطينية والأساقفة الذين كانوا صحبة البابا أغابيتوس ووكلاء البطاركة الشرقيين المقيمين في العاصمة وشجبوا الهرطقة شجبا.
وبعد وفاة البابا أغابيتوس، انبري في رومة إيبوذياكون اسمه سيلباريوس، وطمع في منصب الباباوية، فرشا الملك ثاواذاتوس، فأكره ثاواذاتوس المجمع على قبول سيلباريوس، مهددا كل معارض بالقتل، وكتبت ثيودورة إلى هذا البابا أن يساعد أنثيميوس على ميناس فرفض، فاتفقت ثيودورة مع فيجيليوس
Vigilius
وكيل البابا في القسطنطينية ووعدته بالكرسي الباباوي، وزودته بتحارير إلى بليساريوس القائد، شرط أن يطعن فيجيليوس بالمجمع الرابع ويساعد سويروس وأنثيميوس على ميناس، فقبل ذلك وسافر إلى رومة، فخلع بليساريوس المنتية والأوموفوريون عن البابا سيلباريوس وألبسه ثوب الرهبنة ونفاه، وأقام فيجيليوس محله بابا على رومة، فثبت فيجيليوس المعتقد بالطبيعة الواحدة وفند قرارات مجمع خلقيدونية ورسالة لاوون الكبير، وحرم كل من يقول إن في المسيح المخلص طبيعتين وكل من يقول: إنه صلب من حيث هو إنسان ولا يعترف أن ابن الله هو نفسه الذي صلب، ثم ندم فيجيليوس على ما قال وفعل، فأخذت ثيودورة ترتقب فرصة تستدرجه فيها إلى القسطنطينية لتنتقم منه، فتم لها ذلك في السنة 547 بمناسبة البحث في الفصول الثلاثة.
27
الفصول الثلاثة
وكان لا يزال أوريجانيوس الإسكندري ومؤلفاته موضوع جدل ونزاع بين علماء الكنيسة وأساقفتها: فريق منهم يحترمه لعلمه واجتهاده وطهارته، وفريق آخر يكرهه؛ لأن بعض آرائه كانت قد أصبحت حجة لمن قال بالطبيعة الواحدة، وبرغم أن أحد المجامع كان قد أصدر حكما على أوريجانيوس ومؤلفاته؛ فإن عددا كبيرا كان لا يزال يحترمه، فيدعي أن الهراطقة عبثوا بمؤلفاته ليستندوا عليها، ولكن في السنة 539 أصدر أفرام بطريرك أنطاكية حكما جديدا بتحريم أوريجانيوس ومؤلفاته، فطلب بعض رهبان فلسطين إلى بطرس بطريرك أوروشليم قطع البطريرك أفرام، فلم يعرهم سمعا، إلا إنه أرسل وفدا إلى القسطنطينية يبين واقع الحال ويرجو اتخاذ موقف واضح من أوريجانيوس ومؤلفاته، فكان من بطريرك القسطنطينية ميناس أن عقد مجمعا محليا بموافقة الإمبراطور حكم فيه على أوريجانيوس وتعاليمه.
واتفق أن كان في البلاط ثيوذوروس أسكيضاس، أسقف قيصرية، وكان هذا يحترم أوريجانيوس وتعاليمه ويقول بالطبيعة الواحدة ويتقرب إلى ثيودورة، ومثله كان دوميتيانوس كاتم أسرار الإمبراطور، فتقدم الثلاثة، ثيودورة وثيوذوروس ودوميتيانوس، من يوستنيانوس وأقنعوه بأن انضمام أصحاب الطبيعة الواحدة إلى الكنيسة يسهل جدا متى حرمت الفصول الثلاثة، وهذه الفصول هي: مؤلفات ثيوذوروس الموبسوستي، ورسائل ثيودوريطس ضد كيرلس، والرسالة المنسوبة إلى الأسقف إيبا، ورأى هؤلاء - في ذلك كله - وسيلة لتجريح قرارات المجمع المسكوني الرابع ولإرضاء أتباع أوريجانيوس بالحكم على من كتب ضده ولإغضاب الأرثوذكسيين، فوافق يوستنيانوس وأصدر في السنة 544 تحريما للفصول الثلاثة وطلب إلى الأساقفة أن يوافقوه عليه، وهدد المعارضين بالعزل، فلم يخضع أساقفة الغرب لأمر الإمبراطور وجاراهم في ذلك البابا فيجيليوس، وكتب أسقف قرطاجة إلى الإمبراطور أنه لا يجوز إيقاع الحرم بشخص بعد موته، فاستدعى يوستنيانوس البابا فيجيليوس إلى القسطنطينية، فحضر إليها، وانتهى بالنزول عند إرادة الإمبراطور فأنشأ رسالته المعروفة بالجوديكاتوم
Judicatum
وفيها شجب الفصول الثلاثة.
ولكن أساقفته انتقضوا عليه وعينوا له وقتا للندامة، فلبث فيجيليوس في القسطنطينية، ورجع عن قوله في الجوديكاتوم، ثم أصدر يوستنيانوس أمرا ثانيا بشجب الفصول الثلاثة وطلب الموافقة عليه مرة أخرى، فأبى البابا فيجيليوس ودخل كنيسة واحتمى بها وربط نفسه بعمود المائدة، فسحبه الجنود بالقوة فانسحب العمود معه وسقطت المائدة،
28
ومما يجدر ذكره أن الأصل في تسمية الفصول الثلاثة بهذا الاسم هو أن الأمر الذي أصدره الإمبراطور بالشجب حوى فقرات ثلاثا تتعلق بمؤلفات ثيودوروس وثيودوريطس وإيبا، ثم تنوسي ذلك فأصبحت الفصول الثلاثة تدل على أشخاص ثيودوروس وثيودوريطس وإيبا أنفسهم.
المجمع المسكوني الخامس في القسطنطينية
ولكي يضع الفسيلفس حدا لهذا النزاع الجديد دعا إلى مجمع مسكوني ينعقد في السنة 553 في القسطنطينية، وقد اشترك في أعمال هذا المجمع مائة وخمسة وستون أسقفا، بينهم أفتيشيوس بطريرك القسطنطينية وأبوليناريوس بطريرك الإسكندرية وذمنوس بطريرك أنطاكية ونائبان عن بطريرك أوروشليم، وكان البابا فيجيليوس لا يزال في القسطنطينية مع عدد من أساقفة الغرب، فدعي للاشتراك في المجمع وترأس الجلسات ولكنه امتنع، فترأس المجمع بطريرك القسطنطينية وأقر جميع قرارات المجامع المسكونية السابقة، ثم دقق في الفصول الثلاثة، فحكم برفضها ورفض كل من يدافع عنها
ad defensionem eorum ،
29
وفي جلسته الثامنة والأخيرة وجه المجمع لوما شديدا لبابا رومة؛ لأنه امتنع عن الاشتراك في جلساته، واعتبر يوستنيانوس قرارات هذا المجمع ملزمة وأكره الأساقفة على قبولها، ونفى من عارضها، وفي طليعة هؤلاء البابا فيجيليوس، فقد أكره على الإقامة في إحدى جزر مرمرا.
ثم وافق فيجيليوس على قرار المجمع فأذن له بالعودة إلى رومة، ولكنه توفي في سرقوصة قبل أن يصل، وأصر أساقفة الغرب على موقفهم المؤيد للفصول الثلاثة، وامتنعوا عن الخضوع لقرار المجمع الخامس، وظلوا متمسكين بذلك حتى عهد البابا غريغوريوس العظيم (590-604)، فإنه أعلن في إحدى رسائله أن ليس في قرارات المجمع الخامس مما يتعلق بالفصول الثلاثة أي تغيير في الدين أو خروج عنه.
30
ولكن رغم هذا كله أصر أصحاب الطبيعة الواحدة على متابعة الانفصال، غير أن يوستنيانوس لم يكن يتغير عليهم حتى يعود إلى التقرب منهم والعطف عليهم إلى أن أدركته المنية في السنة 568، وإذا كان يوستنيانوس قد أخفق آخر الأمر في تحقيق وحدة الكنيسة، فمن الواجب أن يعترف له باهتمامه البالغ لنشر النصرانية وراء حدود الإمبراطورية، فقد نصر قبائل الهرولي على الدانوب وقبائل القوقاس وأفريقية الشمالية والنيل الأوسط.
31
سياسة يوستنيانوس الخارجية
وأحب يوستنيانوس - منذ بدء عهده - أن يعيد إلى الدولة الرومانية مجدها الغابر، وأن يحقق فعلا ما كان له من سيادة اسمية على إيطالية وأفريقية وإسبانية وفرنسة، ولو أدى به ذلك إلى الحرب والفتح، ولكن لم يتسن له شيء من ذلك قبل منتصف السنة 533 لاشتغاله بجارته الكبيرة فارس الساسانية.
الحرب الفارسية الأولى (527-532)
وناهز قباذ الثمانين، وأحب أن يضمن الملك من بعده لابنه الأصغر كسرى أنو شروان، ففاوض يوستينوس في ذلك وطلب إليه أن يتبنى كسرى وأن يدافع عن حقه في الملك، ونظر يوستينوس في الأمر، وشاور فيه رجاله، ثم أجاب قباذ أنه مستعد للقيام بتلك المهمة، شرط أن يكون التبني على الطريقة العشائرية الألمانية. ولا نعلم بالضبط شروط هذا النوع من التبني، ولكن يلوح لنا أنه كان أيسر مما أراده قباذ.
وكان الوفد الفارسي في الوقت نفسه يفاوض للوصول إلى تفاهم بين الدولتين حول قضية لازيقة «لازستان»، فلما عاد الوفد إلى عاصمة فارس وأطلع قباذ على اقتراح زميله يوستينوس، حقد قباذ وأضمر السوء، وكان يفتش عن ظرف يستعين به للظهور بمظهر المدافع عن الدين الفارسي القديم، فأمر جرجان ملك إيبيرية في القوقاس أن يمتنع هو وشعبه المسيحي عن دفن الموتى، وأن يتبعوا في ذلك الطريقة الفارسية القديمة، فيعرضوا الجثث لطيور السماء، ولكن جرجان أبى واستنصر يوستينوس فنصره، وهكذا دخلت الدولتان: دولة الروم ودولة الفرس، في حالة حرب منذ السنة 527.
32
وصمد بليساريوس قائد الروم في وجه الفرس عند دارا في السنة 530، وفي السنة 531 أقبل المنذر اللخمي من الحيرة وأغار على خلقيس «قنسرين» ثم سار إلى أنطاكية وعاث في ضواحيها وغنم مالا وافرا وأسر كثيرين وعاد إلى الفرات، ثم عاود الكرة والفرس من ورائه وأغار على اليهود، فهب بليساريوس لصده، وانتصر عليه وعلى أسياده عند الفرات في كلينيكوم
Callinicum
فردهم بذلك عن غزو سورية الشمالية.
وتوفي قباذ في السنة 532، فعرض خلفه كسرى أنو شروان صلحا دائما قبله يوستنيانوس دونما تردد بالنظر لما كان يفكر فيه من انصراف إلى العمل في الغرب لإعادة وحدة الإمبراطورية، وقبل أن يتجه نحو الغرب أنشأ حلفين شرقيين: حلفا مع أمراء القوقاس في الشمال، والآخر مع نجاشي الحبشة في الجنوب؛ ليأمن بهما شر حرب ثانية مع الفرس.
33
وعني يوستنيانوس في هذه الآونة نفسها بتوطيد علاقاته مع القبائل العربية الضاربة في بادية الشام؛ ليوازن بنفوذها نفوذ شقيقاتها في بادية العراق وهن عمال كسرى، وكان بنو غسان قد وفدوا إلى سهول حوران من اليمن أو ما يليها في فترة من الفترات التي تصدع فيها سد مأرب، وحلوا بين عشائر قضاعة وسليح، ثم سيطروا عليها وجمعوها في كيان سياسي، فاستعان بهم الروم في القرن الخامس لمراقبة غيرهم من القبائل العربية التي كانت تجوب أطراف الجزيرة المتاخمة لبادية الشام واستعملوهم لصد هذه القبائل إذا هي حاولت الانصباب على أراضي الإمبراطورية، ووجد الروم في الغساسنة أيضا خير معوان لهم على عرب الحيرة أنصار فارس، وبلغ الغساسنة الأوج في أوائل القرن السادس، فانضوى تحت لوائهم جميع شيوخ العشائر العربية من لبنان شمالا حتى الحجاز جنوبا.
ورأى يوستنيانوس أن يزيدهم هيبة فرفع أميرهم الحارث بن جبلة إلى رتبة فيلارخوس وبطريق، وبذلك جعله يوازن في اللقب أمراء الحيرة عمال فارس.
34
الحرب في أفريقيا وإيطالية (533-540)
وثار غلمار على هيلدريخوس الوندالي في شمالي أفريقية، وكان غلمار آريوسيا، فاستغل يوستنيانوس المناسبة وتدخل باسم الدين القويم، كما كان قد استغل إقدام ثيوداتيوس على خنق ابنة عمه وريثة ثيودوريخوس في إيطالية.
وفي حزيران من السنة 533 أقلع بليساريوس القائد على رأس قوة مؤلفة من خمسة عشر ألف رجل ومن اثنتين وتسعين ذرومونة إلى جوار قرطاجة، فوصلها في أيلول من السنة نفسها وتغلب - في غير مشقة - على غلمار ودخل قرطاجة منتصرا فصادف فيها استقبالا حارا، وعين يوستنيانوس أحد القادة - سليمان - حاكما على أفريقية الشمالية، وأشار على بليساريوس بالانتقال حالا إلى صقلية فإيطالية، ولكن سليمان لاقى مقاومة شديدة من البربر الذين لم يسبق لهم أن خضعوا للوندال، فاضطر بليساريوس أن يعود إلى قرطاجة لينتصر على هؤلاء، ولم تهدأ الأحوال في أفريقية الشمالية قبل السنة 539، وجعل يوستنيانوس من أفريقية برايفتورة جديدة وأنشأ - في وجه البربر - ليموسا جديدا.
وتم الاستيلاء على إيطالية بالسياسة والحرب معا، فبعد أن استمال يوستنيانوس بعض العشائر القوطية، أنفذ إلى إيطالية حملتين، إحداهما عن طريق إيليرية بقيادة مندوس والأخرى إلى صقلية فإيطالية، بقيادة بليساريوس نفسه. وأجلى بليساريوس القوط عن صقلية في يسر وسهولة، ثم اجتاز مضيق مسينة في ربيع السنة 536 فحاصر نابولي عشرين يوما وأخذها عنوة، وفر منها ثيوداتيوس والتجأ إلى رومة فاغتاله أحد رجاله، ثم انتخب القوط ملكا عليهم جنديا نكرة لم يقو على صد بليساريوس عن رومة.
ودخل الروم رومة في العاشر من كانون الأول سنة 536، فأحاط بهم القوط وحصروهم فيها سنة كاملة، ثم ارتدوا عنها، فخرج بليساريوس إلى شمالي إيطالية وتابع فيها الحرب، ولكن مناظرة نرسه الخصي له عوقت سير الحرب أشهرا، ولم يدخل بليساريوس رابينة قبل أيار السنة 540، وأعاد الإمبراطور برايفتورة إيطالية واتخذ لنفسه لقب قاهر القوط
Gothicus .
الحرب الفارسية الثانية (540-562)
وأقضت هذه الانتصارات مضجع كسرى أنو شروان، وجاءه رسل القوط يحثونه على القتال،
35
فجهز جيشا كثيفا وأغار فجأة على سورية، واحتل ثغورها على الفرات، وأباح لعساكره النهب والسبي، ففعلوا، ثم تقدم نحو منبج
Hierapolis
فاشترى أهلها الأمان بألفي دينار فضة، ونهض كسرى إلى أنطاكية، وكان جرمانوس أحد أنسباء يوستنيانوس قد رابط فيها بثلاثمائة جندي، وأقام ينتظر وصول بقية الجيش الإمبراطوري، وكان منذ أن دخلها قد باشر تحصينها وترميم أسوارها وقلاعها، وكان موقع أنطاكية عند العاصي، بما يحيط بها من صخور وحواجز طبيعية أخرى فضلا عن الحصون الصناعية؛ معقلا منيعا، ولم يكن في جهاز الدفاع عنها إلا ثغرة واحدة عرفها جرمانوس وأراد تلافيها، غير أن الضباط الذين كانوا حوله اشتد بهم الخوف لدى وصول كسرى فهربوا إلى قيليقية، وهب الأهلون لجمع المال يشترون به الأمان من العدو، ولكن وفدا إمبراطوريا وصل إلى المدينة، وقال: لا يليق بالحاضرة الثانية في الإمبراطورية أن تشتري أمانا من غزاتها، فعزمت المدينة على المقاومة، فضرب كسرى عليها الحصار، ولم يلبث أن اهتدى إلى الثغرة في السور فدخل منها، فدافع الأنطاكيون ما وسعهم الأمر ثم فروا إلى دفنة يحتمون بها، فسيطر كسرى على أنطاكية وأباحها للنهب والحريق، ثم انحدر إلى سلوقية وذبح عند شاطئها ضحية للشمس، ومنها سار إلى أبامية فدخلها وسلب كنيستها ونهب الدور والمباني، وكان الوفد الإمبراطوري قد فاوضه بالكف عن القتال؛ لقاء قدر من المال يدفع إليه في كل سنة، فقبل كسرى وارتد عبر الفرات بألوف الأسرى إلى عاصمته طيسفون، وبنى لأولئك الأسرى مدينة خاصة سماها أنطاكية كسرى.
36
وفي السنة 541 هجم كسرى على لازيقة «لازستان» وإيبيرية في القوقاس، وفي السنة 542 دخل قوموجينية وأخرب وأحرق وسبى، وظهر في السنة التالية على حدود أرمينية البيزنطية، ثم عاد في السنة 544 إلى حدود الفرات وحاصر أورفة حصارا شديدا، وكان قادة الروم مشغولين عنه بمشاغل داخلية شخصية، فغضبت ثيودورة على بليساريوس وخذلته، إلا أن يوستنيانوس أنفذ في السنة 543 ثلاثين ألفا إلى أرمينية الفارسية، غير أن حملته ردت ومنيت بالفشل، وما لبث الطرفان المتحاربان أن شعرا بصعوبة القتال في القوقاس؛ نظرا لطبيعة البلاد الجبلية ووعورة مسالكها وكثرة أحراجها، فتهادنا في السنة 544 وجددا الهدنة مرتين ثم جعلاها معاهدة دائمة في السنة 561.
وقضت شروط هذه المعاهدة أن يفصل السلم بين الطرفين خمسين سنة، على أن تجلو قوات الفرس عن اللازستان، ويدفع يوستنيانوس إلى كسرى ثلاثين ألف أوري في السنة، ويمتنع عن التبشير بالنصرانية في الأراضي الفارسية، وفي مقابل ذلك يحترم كسرى حقوق النصارى من رعاياه؛ فيرفع عنهم الاضطهاد.
37
توتيلة
وعاد القوط إلى المقاومة في إيطالية، وبايعوا توتيلة أحد زعمائهم، ووافق ذلك أن دب الشقاق إلى صفوف زعماء الروم في إيطالية، فانطلق توتيلة برجاله من الشمال بالغا إلى أقصى الجنوب، واحتل في السنة 543 نابولي، فهرع بليساريوس لقتاله ولكنه لم يتمكن من صده؛ لقلة العدد والعدد، وهكذا دخل توتيلة رومة في السابع عشر من كانون الأول سنة 546، ثم أنشأ أسطولا وغزا صقلية، فاستولى عليها في السنة 549-550، فثارت ثائرة يوستنيانوس فجهز قوة كبيرة وأمر عليها نرسيس، ودفع بها إلى إيطالية عن طريق الشمال، فتمكن نرسيس في السنة 552 من القضاء على توتيلة في موقعة بوستة في أومبرية
38
Busta Gallarum .
الدانوب
والمشاكل التي عاناها يوستنيانوس في الغرب والشرق معا قضت عليه بسحب جنوده من ضفة الدانوب واستعمالهم في جبهات أخرى واضطرته إلى الاستعاضة عنهم بسلسلة كبيرة من الحصون والقلاع، فأنشأ ورمم وحصن أكثر من أربعمائة مدينة في البلقان، ثم تذرع بسياسة «فرق تسد» فحالف اللومبارديين ضد الغبيد
Gepides
في المجر وصادق الهون الأوتيغور
Outigours
في شرقي آزوف ضد الهون الكوتريغور
Koutrigours
بين الدون والدنيستر، واستعان بالأفار
Avars
ضد عشائر الدانوب، ولكن هذا كله لم يمنع البرابرة من التسرب خلال حصون البلقان؛ نظرا لصغر الحاميات، فكان في السنة 539-540 أن انتشر مئات من الصقالبة والبلغار والهون في قرى عديدة من الأدرياتيك حتى القسطنطينية، ينهبون ويخربون ويحرقون ويذبحون، وفي السنة 558 تحرك سبعة آلاف كوتريغور من الدانوب، فاتجهوا جنوبا وعبروا سور أنسطاسيوس، وألقوا الرعب في أوساط القسطنطينية نفسها. وظل ذلك دأبهم حتى جمع بليساريوس بضع مئات من الأبطال المجريين من سكان العاصمة، وانقض بهم على العدو، فولوا الأدبار.
الفرات وسائر الحدود الشرقية
ولم يحصر يوستنيانوس أعماله التحصينية في منطقة البلقان؛ فإنه أنشأ في أفريقيا - كما سبق أن أشرنا - ليموسا جديدا، وأنفق أموالا طائلة للغاية نفسها في آسية الصغرى وسورية وشرق الأردن.
وكانت حدود الإمبراطورية في الشرق تنبسط من البحر الأسود حتى البحر الأحمر فتؤلف خطا طوله ألفا كيلومتر، ولم يسبق لرومة في الشرق أن شيدت في عصر من عصورها ليموسا متصلا على نحو ما فعلت في الشمال بين الرين والدانوب، أو في الجنوب في أفريقيا الشمالية؛ ذلك بأن جبال آسية الصغرى الشرقية وبادية الشام شكلت حاجزا طبيعيا موافقا يمكن الانتفاع به في الحرب والدفاع، ومن هنا اكتفت رومة في هذه المناطق بإنشاء قلاع موزعة في مواقع معينة تحمي بها الطرق الرئيسية والجسور والممرات الطبيعية، وما إلى ذلك، فأصبح حدها الشرقي «منطقة مراقبة» على حد تعبير ليون هومو أكثر منه ليموسا أو إطارا مانعا.
39
وكانت هذه المنطقة - ذات الحصون - تبدأ عند طرابزون فتتجه جنوبا حتى مجرى الفرات الأعلى، فمصب الخابور، فحدود البادية حتى العقبة، وكان خط الدفاع الممتد نحوا من ثمانمائة كيلومتر بين قرقيسية
Circesium
عند مصب الخابور وبين العقبة يتألف من طريق معبدة موازية للحدود محمية الجانبين، ولا سيما عند مفارق الطرق بعدد كبير من الأبراج، وكانت تدمر ودمشق والبتراء تدخل بقلاعها وحصونها والطرق الموصلة إليها في هذا الخط من الدفاع.
وتدل أعمال التنقيب التي أجريت في شرق الأردن بعد الحرب العالمية الأولى أن الطريق العسكري الروماني الذي كان يمر بشرق الأردن كان يصل بصرى بمادبا والبتراء ، فالعقبة، وأن رومة قد أقامت على جانبي هذا الطريق أبراجا محصنة، يبعد الواحد منها عن الآخر ثلاثين كيلومترا، وأنها أنشأت قلاعا لحماية موارد المياه إلى شرقي هذا الطريق في القسطل واللجون، وغيرهما.
40
وجاء يوستنيانوس يؤمن «سلما وطمأنينة» لشعبه، و«يزيل كل ما كان يشجع البرابرة على الغزو والنهب»، فاهتم بحصون أرضروم وكيثاريزون ومرتيروبوليس وآمد وقسطنطينة ودارا، وكانت دارا هذه تقع بين نصيبين وماردين وتدعى «حصن الإمبراطورية الرومانية»، وأظهر يوستنيانوس اهتماما مماثلا بخط من الحصون جاء وراء هذه الحصون الأمامية: ستالة وكولونية ونيكوبوليس وسبسطية وملاطية
Miletene
ثم أورفة وحران وكلينيكوم، ثم سورية على الفرات وهيرابوليس «منبج» وزقمة فأنطاكية.
41
يوستنيانوس في دوره الأخير
وليس يختلف اثنان - فيما نعلم - أن مشاريع يوستنيانوس العظيمة لم تتناسب وطاقته المالية، فالعظمة والبذخ واسترضاء زعماء البرابرة وحروب الفتح والإنشاء والتعمير في طول البلاد وعرضها؛ كلها تتطلب إنفاقا كبيرا لم يكن آنئذ بوسع الدولة. وكان أنستاسيوس قد خلف وفرا قدره 320000 ليرة ذهبا، أو ما تعادل قيمته أربعة عشر مليونا من الليرات الاسترلينية، فأنفقه يوستنيانوس في بضع سنوات وبات يشكو قلة النقد. وقلة نقده أطالت حروبه وزعزعت معنويات جيشه، وأوقفت إصلاحه الإداري، أو عرقلته، ثم أدت إلى زيادة الضرائب وإثقال كاهل الأهلين بها.
وفي السنة 548 توفيت ثيودورة بداء السرطان، ففقد يوستنيانوس بوفاتها مستشارة نشيطة أمينة، فانكشفت نقائصه، وأهمها التردد والهوس باللاهوت، فأهمل واجباته الإدارية وكرس معظم لياليه للجدل الديني، فصح فيه قول كوريبوس: «إنه بات لا يبالي شيئا وإن روحه كانت كالتي انتقلت إلى السماء.»
وتضاءل جيشه فتناقص من 645000 مقاتل إلى 150000 وخلت حصونه من الرجال، حتى قال أغاثيوس: إنها أصبحت خالية خاوية لا يسمع فيها نباح كلب واحد، وباتت العاصمة نفسها مهددة بالخطر؛ لأن سور أنستاسيوس كان قد تثلم في ألف موضع وموضع، ولأن الحرس الإمبراطوري كان قد قل وضعف، ولأن الفسيلفس كان لجأ إلى البلص والمصادرة؛ للحصول على المال المطلوب. وعاد الخضر والزرق إلى المناظرة والمشاحنة والمخاصمة، ونزلوا بذلك كله إلى شوارع العاصمة، فهاجوا وماجوا مرارا ما بين السنة 553 و564، وأدى تردد يوستنيانوس في تعيين ولي عهده إلى التخاصم والتآمر ولا سيما بين أنسبائه.
ولكن ليس من العدل في شيء أن نحكم على عهد يوستنياوس كله حكما مبنيا على ما آلت إليه الأمور في آخر سنواته، فالواقع الذي لا مندوحة عن الاعتراف به أن أهداف الرجل كانت نبيلة، وأن سعيه لإعادة الإمبراطورية إلى ما كانت عليه من الاتساع والمجد كان عظيما في حد ذاته لائقا بالإمبراطور، وأن محاولته لتوحيد الكلمة في الكنيسة كانت في مصلحة الدولة والكنيسة معا، وأن إنشاءاته العسكرية على حدود الدولة كانت في مصلحة الشعب، وأن اهتمامه بالإدارة والقضاء والتشريع إنما نجم عن رغبة أكيدة في ضمان الأمن ونشر لواء العدل. ولئن كان ثمن هذا كله باهظا فالعمل - في حد ذاته - كان كبيرا، وهل أكبر من مجموعة القوانين وكنيسة الحكمة الإلهية!
الفصل الثاني عشر
خلفاء يوستنيانوس
565-602
يوستينوس الثاني (565-578)
ولم يخلف يوستنيانوس عقبا، ولم يشرك أحدا معه في الأرجوان، ولكنه كان يثق بابن أخته يوستينوس ويستشيره في أمور الدولة، ولمس أعضاء مجلس الشيوخ هذه الثقة وأحبوا يوستينوس، فعولوا على انتخابه فور وفاة الإمبراطور الشيخ، وقد أدرك يوستنيانوس الثالثة والثمانين ومرض مرضه الأخير ولم يفه بكلمة واحدة تنبئ عمن يريده خلفا له في الحكم. وكاد يلفظ أنفاسه في ليلة من ليالي الخريف، فجلس يوستينوس وزوجته صوفية في إحدى نوافذ قصرهما التي تطل على البوسفور وباتا ينتظران، وعند الفجر أبلغهما الرسول وفاة الإمبراطور ورجاء مجلس الشيوخ أن يتوليا العرش.
وقضت التقاليد بأن يرفض يوستينوس الرجاء ففعل، ثم قبل وذهب توا إلى القصر (14 تشرين الثاني سنة 565) وخرج منه مترديا الأرجوان الملكي، متزينا بالجواهر التي اقتنصها بليساريوس من القوط، فرفعه الجند حسب التقليد على الترس، معلنين بذلك موافقتهم على ارتقائه العرش، ثم أيدته الكنيسة الأرثوذكسية، فباركه البطريرك ووضع التاج على رأسه. وكان لا يزال جثمان يوستنيانوس مسجى في قصره محنطا، فنقل إلى كنيسة الرسل بجنازة مهيبة مشى فيها المصلون من رجال الإكليروس والعذارى، رافعين الشموع، وهناك دفن الجثمان في قبر مذهب، وما إن تم الدفن حتى أزيح ستار الحزن وارتفعت الأصوات مهللة بارتقاء الفسيلفس الجديد.
وكان يوستينوس الثاني نشيطا مجتهدا شجاعا جريئا؛ فإنه منذ أن تبوأ العرش أظهر من العزم والأنفة في علاقاته مع البرابرة ما يليق بمقامه الجليل، فامتنع عن أن يؤدي لهم المنح السنوية، وكانت قد بلغت في أواخر عهد خاله يوستنيانوس ثلاثمائة ألف ليرة ذهبا، وأعاد العناية بالجيش، واهتم بالمالية، وحاول محاولة صادقة في إزالة الهم والعناء عن جميع الرعايا، وأعلن أنه «سيحيي الليل بطوله؛ للمحافظة على مصالح الدولة، ولإصلاح كل ما ينبغي إصلاحه، كما أعلن أن همه الوحيد هو أن يقدم للولايات أفضل الشرائع؛ كي يضمن لأهلها الأمن والعدل.»
1
ولكن الحوادث تتالت قوية عنيفة فجاءت بما لم يشته وكعمته كعما.
وكان يوستينوس - على مزاياه - شامخا متغطرسا تعوزه الحيلة، لم يتسن له الوصول إلى رغائبه، وفي أواخر السنة 573 أصيب في عقله إصابة ظاهرة، فتصدت زوجته صوفية للقيام بأعباء الحكم مستعينة بقومس الحرس طيباريوس الأمين، ثم إن يوستينوس تبنى طيباريوس، وفي السابع من كانون الأول سنة 574 أعلنه قيصرا، فصرف طيباريوس الأمور باسم سيده أربع سنوات متتاليات إلى أن قضى يوستينوس فانفرد بالحكم.
طيباريوس الثاني (578-582)
ورغب طيباريوس رغبة أكيدة في تخفيف الضرائب، فتعلق الشعب به وأحبه كثيرا، وكان يوم وفاته يوم حزن وحداد في جميع أنحاء الإمبراطورية، فرثاه كثيرون، وقال فيه يوحنا النيقاوي: «إن البشرية - فيما يظهر - لا تستحق أميرا طيبا كهذا الأمير.» ولكن طيباريوس لم يبلغ إلى هذه المرتبة من تقدير الشعب له وتعلقه به إلا على حساب مالية الدولة؛ ففي وقت قصير جدا بدد ما كان قد جمعه سلفه بحكمته وتقتيره، وحسبنا شاهدا ما قد جاء في أحد المراجع أنه لما تبوأ العرش وأراد توزيع الدوناتيوم التقليدية؛ أعطى كل شخص خمس صلدات، بلغ مجموع ما أنفق لهذه الغاية واحدا وعشرين ألف ليرة ذهبية.
2
موريقيوس (582-602)
وأشهر خلفاء يوستنيانوس وأذكاهم وأقدرهم؛ موريقيوس اليوناني،
3
ولد في أرابيوسوس في آسية الصغرى في السنة 539، وفيها تلقى علومه، ثم تركها شابا وأم القسطنطينية، فالتحق بالإدارة المدنية، وأصبح - في وقت ما - كاتب عدل. ثم دخل في خدمة الجيش وترقى حتى أصبح في السنة 573 قائد الحرس الإمبراطوري وقائد المتطوعة من البرابرة،
4
واشتهر بشجاعته ورزانته وتبصره، فاحترمه الشعب وأكرمه، وكان حازما عادلا، لا يتبذل في مخالطة ضباطه وجنوده، فوقعت في قلوبهم هيبته فأكبروه وأجلوه،
5
وأحبه طيباريوس ووثق به وأعاره سمعه، فزوجه من ابنته قسطنطينة في السنة 582 ورفعه إلى رتبة قيصر، ثم بعد أيام توفي طيباريوس فعلا موريقيوس أريكة الملك.
ولا يختلف اثنان - فيما نعلم - أن موريقيوس كان خبيرا في شئون الدولة واسع الباع في تناولها ومعالجتها، قوي الاهتمام بها - ولا سيما العسكرية والإدارية والمالية منها - فحارب التبذير وأوجب الاقتصاد، وتلقى بصدر رحب سهام الانتقاد المرة التي وجهت إليه من جراء هذا الإصلاح.
سياسة خلفاء يوستنيانوس
ومما يسترعي النظر في هذا الموضوع أن اثنين من خلفاء يوستنيانوس الثلاثة؛ كانا عسكريين، وأن الخلفاء الثلاثة جميعا كانوا أقل طموحا من يوستنيانوس، وأكثر وضوحا في سياستهم، وتحديدا لعلاقاتهم الخارجية.
فلا بدع، في مثل هذه الحالة، أن يرفض يوستينوس دفع شيء لقبائل الهون أو للعرب، مما كان يدفعه سلفه استرضاء، ويقول يوحنا الأبيفاني: إن يوستينوس صمم - منذ اللحظة الأولى - أن لا يترك الدولة خاضعة للفرس، وإنه تربص ريثما تسنح له الفرص حتى يقضي على سلم السنة 561،
6
وكان طيباريوس يقول: إن السلم الذي يشرى لا يدوم، وإنه لا بد من أن تقدم الحرب ضد الفرس على سائر مصالح الدولة. وكان موريقيوس أيضا يقول بهذا كله وقد زاد عناية فائقة بالجيش، ولعل أبرز ما فعله من هذا القبيل هو إيثاره العناصر الوطنية على العناصر البربرية في التعبئة. ومن الدلائل الواضحة على هذا الاهتمام بالجيش وإعادة النظر في تنظيمه، رسالته في فنون الحرب
Strategikon
تعود إلى أواخر القرن السادس، وبعض الباحثين يرى أنها من وضع موريقيوس نفسه.
7
ولم يهمل خلفاء يوستنيانوس الغرب وواجبهم تلقاءه؛ ففي عهدهم كانت حملة بادواريوس على إيطالية في السنة 574-575، وانتصارات جناديوس في أفريقية في السنة 578، وفي عهدهم (عهد طيباريوس خاصة) جرى بذر أموال كثيرة في الأوساط اللومباردية العالية في السنتين 577 و579. وتم أيضا استدراج الإفرنج إلى غزو إيطالية لمصلحة الإمبراطورية، وإن ننس فلا ننس ظهور نظام الإكسرخوسية في إيطالية وأفريقيا لتقوية الدفاع عن هاتين الولايتين.
الحرب الفارسية (572-591)
وكانت قد قضت معاهدة السنة 561 على الروم بدفع مال جزية للفرس عن سبع سنوات تسبيقا، وقد دفع هذا المال في حينه، فلم يكن من موجب، إذن، لبدء الحرب قبل السنة 569، على أن هذا لم يمسك يوستينوس الثاني عن الاستعداد للحرب في حقلي السياسة والتنظيم. وهكذا نراه في السنة 568 يستقبل وفدا مفاوضا من أواسط آسية مما وراء فارس، فيكرمه ويصغي إليه، ويثبت بواسطته علاقات ودية مع أعداء فارس في الشرق، وكان هذا الوفد المفاوض، من قبل الخاقان إستامي، خاقان الأتراك الذين سبق لهم أن قضوا على الهون البيض في ما وراء فارس، قد أم القسطنطينية في السنة 568 ليحالف الروم ضد الفرس، وليعرض استعداد الأتراك للقيام بنقل الحرير الصيني من حدود الصين إلى مياه البحر الأسود مباشرة، دون المرور بفارس.
وفي السنة 570 نرى يوستينوس يتدخل في أمور أرمينية الفارسية وفي مشاكل إيبيرية، فيرد عليه كسرى في السنة 571 بتدخل مماثل في حمير في جنوبي الجزيرة العربية محرضا أبناء هذه المنطقة على التحرر من نير النجاشي صديق يوستينوس وحليفه، وفي السنة 572 ثار الأرمن على الفرس وقتلوا المرزبان، والتجأ زعماء الثورة إلى القسطنطينية فقوبلوا فيها بحفاوة وحرارة، وجاء وفد فارسي يطالب بالجزية المالية وكانت قد استحقت مجددا، فرفض يوستينوس دفعها وأكد لأعضاء الوفد أنه لن يرضى أبدا عن اضطهاد الأرمن أبناء ملته المسيحيين، فوجه إليه كسرى إنذارا بوجوب الدفع، فقابله يوستينوس بإعلان الحرب.
وحالف النصر الفرس في بادئ الأمر؛ ذلك أن الروم هجموا بمعظم قواتهم على أرمينية الفارسية تاركين حدودهم في سورية وليس عليها، إلا قوة صغيرة من الجيش يدعمها حلفاؤهم الغساسنة ومن شد أزرهم من القبائل العربية المتاخمة، على أن هذه القبائل خانت والتوت، فعبر الفرس الفرات واكتسحوا الموقف وحاصروا دارا «حصن الإمبراطورية الحصين»، فسقطت في أيديهم، وأدى خبر سقوطها إلى انهيار عقل الإمبراطور، ففاوضت زوجته صوفية لهدنة في مطلع السنة 574 تدوم عاما، ودفعت في هذا السبيل غرامة حربية كبيرة.
وعند انتهاء الهدنة في السنة 575 قام كسرى - بجيش عظيم وعدد كبير من الفيلة - إلى أرمينية، فحاصر ثيودوسيوبوليس «أرضروم» وهاجم أماسية، ثم دخل قبدوقية وأحرق سبسطية «سيواس»، غير أنه ما لبث أن فوجئ بقوة كبيرة من الروم بقيادة يوستنيانوس بن جرمانوس أكرهته على التراجع بعد موقعة كبيرة دارت رحاها في ضواحي ملاطية، وهلك فيها كثيرون من الفرس، ففاوض كسرى في الصلح، ثم عاد فعدل عن المفاوضة بعد انتصارين صغيرين، فعاد الروم إلى الحرب بقيادة موريقيوس في السنة 578، وقاموا بهجوم خاطف باتجاه أرزنين بين بتلس وبين الدجلة وبلغوا إلى الدجلة.
وتوفي كسرى في السنة 579، فعاد الطرفان إلى المفاوضة، ولكن هرمز الرابع ابن كسرى أساء استقبال الوفد الرومي فاستؤنف القتال، وزحف موريقيوس في السنة 580 يحاول قطع الفرات عند قرقيسية قاصدا طيسفون عاصمة الفرس، إلا إنه ارتد على أعقابه بسبب مناورة ناجحة قام بها الفرس في ما بين النهرين، وبسبب معاكسات لقيها من المنذر الغساني - كما سيجيء في حينه.
على أن موريقيوس عاد في السنة 582، فانتصر انتصارا كبيرا عند قسطنطينة تبعته انتصارات، وفي السنة 586 استطاع قائد الروم فيلبيقوس أن يضرب الفرس ضربة قاسية في سولاخان في أرمينية.
8
ورغب الأتراك في استغلال هذا الظرف وأوجبوا زيادة باهظة في الإتاوة السنوية التي كان يدفعها الفرس لهم، فغضب هرمز وأخذه الألم ورفض أن يدفع الزيادة المفروضة، فقام خاقان الأتراك من دلخ عاصمته بعشائره وجموعه وقصد فارس غازيا، فأنفذ هرمز بهرام بوشين
9
بجيش كبير لصدهم سنة 588، فكسرهم، وقتل الخاقان في المعركة، ثم أسر ابن الخاقان في معركة ثانية، ودخل دلخ عاصمة الأتراك، واستولى على ما وجده فيها من الذهب - وكان كثيرا - ولم تأت السنة 589 حتى كان بهرام قد عاد إلى فارس ظافرا غانما، فأكرمه الشاهنشاه وأمره على كل جيوشه ومنحه لقب بهلوان وعلا قدره بين الفرس وتعلقوا به، فأنفذه هرمز إلى منطقة سوانية الخاضعة للروم في القوقاس، فدخلها فنهب وسبى، وأرسل الغنائم إلى هرمز في طيسفون.
وتحرك الروم للدفاع، في شتاء السنة 589، فتوجه رومانوس بجيش مجرب إلى سوانية، فكسر بهرام وشتت شمل رجاله، ولم يكتف هرمز بما أرسله إليه بهرام من غنائم فسخط عليه، فأدى ذلك إلى ثورة داخلية أسقطت هرمز عن عرشه، وأحلت بهرام محله، وذلك في السنة 590.
10
وفر أبرويز بعياله وثلاثين من أخصائه إلى قرقيسية عند مصب الخابور في الفرات، فكتب محافظها بذلك إلى الإمبراطور، وكتب إليه أبرويز أيضا لاجئا مستغيثا، ووعد بأن يعيد دارا ومرتيروبوليس «ميافارقين» وقسما من أرمينية إليه، وأن يبقى في سلم دائم معه، وألا يطالبه بمال البتة. فدعا موريقيوس إليه أعضاء مجلس الشيوخ وشاورهم في الأمر، فأجابوا بعدم القبول، وأبانوا أن الفرس لا دين لهم ولا قانون، يعدون في الضيق وينكثون عند الفرج، وأنهم ألحقوا ضررا كبيرا بالروم، فليقتتلوا وليمحق بعضهم بعضا وليدعوا الروم هادئين مطمئنين،
11
ولكن موريقيوس رأى مع ذلك أن الشرف والشهامة والمصلحة تقضي بتقديم المساعدة المطلوبة إلى أبرويز، فوعده بها وتابع الحرب ضد بهرام، وقام أبرويز إلى أذربيجان فوافاه إليها بندويه وغيره من المقدمين والأساورة في جيش كبير من أصبهان وفارس وخراسان، ونهض الروم بقيادة نرسيس لمعونة أبرويز، والتقى الجيشان بعدوهما في سهول تبريز
12
في خريف السنة 591، فدارت الدائرة على بهرام وفر لاجئا إلى بلاد الأتراك.
وبر أبرويز بوعده فأعاد دارا ومرتيروبوليس إلى الروم، وتنازل عن قسم هام من أرمينية الفارسية، ولم يطالب بعد ذلك بالإتاوة السنوية، فوصلت حدود الروم إلى بحيرة وان ومداخل تفليس، ووقع أبرويز وصديقه موريقيوس سلما دائما.
خلفاء يوستنيانوس والعرب
وأراد يوستنيانوس أن يستعين بالعرب الضاربين في جوار حدوده على العرب عند حدود خصمه الفارسي، فجعل من الحارث بن جبلة الغساني في السنة 531 فيلرخوسا وأمده بالمال له ولشيوخ العرب في بادية الشام، ثم رقاه في مراتب الدولة فجعله بطريقا من البطارقة هو وأحفاده من بعده، وقال الحارث وربعه بالنصرانية وبالطبيعة الواحدة، فنال من عطف ثيودورة الشيء الكثير وأصبح حاميا لزمار أصحاب الطبيعة الواحدة في جميع الأقطار الشامية.
وبين هؤلاء كان يعقوب البرادعي الشهير مؤسس الكنيسة السورية اليعقوبية، ودامت سيادة هذا البطريق مدة طويلة حتى وفاته في السنة 569، وقد احتل فيما بعد مركزا ساميا في مخيلة العرب، فهو الحارث الذي يشيد بذكره الشاعر عمرو بن كلثوم، وهو أيضا الحارث الذي قهر المنذر ملك الحيرة.
13
وجاء بعد الحارث الغساني ابنه المنذر (569-582)، فهب لمحاربة عرب الحيرة، وقد كانوا أغاروا على سورية بعد وفاة والده الحارث، فقاتلهم وانتصر عليهم عند عيد أباغ، فأكثر شعراء العرب من ذكر هذا النصر وتغنوا بجرأة الحارث؛ لإبعاده في الغزو إلى عين أباغ.
واهتم المنذر بن الحارث لمشاكل النصرانية آنئذ، فعقد مجمعا محليا تحت رعايته؛ للنظر في بعض البدع المحلية، ولم يرض يوستينوس عن المنذر فقطع عنه المال السنوي وأوعز بقتله، فشق المنذر عصا الطاعة ثلاث سنوات متتالية، فانتهز عرب الحيرة هذا الظرف وأغاروا على سورية الشمالية، وعاثوا فيها ما شاءوا.
14
ثم اجتمع المنذر بالبطريق يوستنيانوس في الرصافة، وتفاهما، فعادت المياه إلى مجاريها.
15
وتوفي يوستينوس في السادس من تشرين الأول سنة 578، فتولى العرش بعده طيباريوس، وأحب هذا أن يسعى لتوحيد الكنيسة، فرأى أن يوحد كلمة أصحاب الطبيعة الواحدة أولا؛ ليسهل عليه التوفيق بينهم وبين الكنيسة الأرثوذكسية الأم، فاستدعى المنذر الغساني إلى القسطنطينية، فأمها هذا البطريق مع ولديه، ووصل إليها في الثامن من شباط سنة 580، فاستقبله الإمبراطور بكل احترام وتبجيل، وأنعم عليه بلقب ملك الشرقيين،
16
وسمح له بأن يستبدل الإكليل البطريقي بتاج ملكي،
17
ثم طلب إليه أن يوفق بين صفوف أصحاب الطبيعة الواحدة، ووقف الإمبراطور الاضطهاد الذي كان قد حل بهؤلاء منذ عشر سنوات أو أكثر؛ تسهيلا لعمل الملك الجديد؛ أي المنذر، وعاد المنذر إلى سورية وعقد مجمعا برعايته في الثامن من آذار سنة 580، واتصل بغريغوريوس بطريرك أنطاكية الأرثوذكسي، وفاوضه في المهمة الموكولة إليه، وأصبح المنذر الغساني ملكا محليا وحكما في أعوص مشاكل ذلك العصر وأشدها تعقيدا.
ولم يرض البطريرك أفتيخيوس عن هذا التسامح والتساهل مع أصحاب الطبيعة الواحدة، وشاركه في رأيه هذا عدد من كبار رجال الجيش والسياسة، وبينهم موريقيوس القائد، وفي السنة 580 أراد هذا القائد أن يفاجئ الفرس بهجوم خاطف عن طريق الفرات متعاونا مع المنذر وقبائله، فلما وصل إلى الفرات وجد الجسر الكبير مهدوما، فتراجع خائبا وعزا خيبته إلى خيانة المنذر وتواطئه مع الفرس وشكاه إلى الإمبراطور. وبرغم أن المنذر عاد فأغار وحده على أراضي عدوه أمير الحيرة وأعمل في عاصمته النار وقفل من غزوته بغنائم عظيمة،
18
فإن موريقيوس تشبث برأيه وأصر عليه، وسافر بنفسه إلى القسطنطينية ليثبت رأيه أمام الإمبراطور،
19
ويرى الأب غوبير اليسوعي أن موريقيوس كان محقا في شكواه، وأن هنالك ما يدعو إلى الشك في أمانة المنذر، وإلى الظن بأنه كان يتوخى الاستقلال بدافع الطموح الشخصي والسعي لرفع الضيم عن إخوانه أصحاب الطبيعة الواحدة.
20
وأصدر طيباريوس أمره في ربيع السنة 581 بالقبض على المنذر، فأرسل ماغنوس
Magnus
حاكم سورية إلى المنذر يدعوه إلى حوارين بين تدمر ودمشق؛ للاشتراك في حفلة تدشين الكنيسة التي أقامها فيها، فلبى المنذر الدعوة، فما كاد يبلغ حوارين حتى ألقى عليه الحاكم القبض وأرسله مخفورا إلى القسطنطينية، ولم يقتصر طيباريوس على نفي المنذر وإنما عمد أيضا إلى قطع الإعانة السنوية عنه، فقام أبناء المنذر الأربعة وشقوا عصا الطاعة، وأوغلوا في البادية وأخذوا يشنون منها الغارات على أراضي الدولة، ودخلوا بصرى واضطروا حاميتها أن تتخلى لهم عن الذخائر والأموال التي صادرتها منهم وبينها تاج المنذر، فجرد طيباريوس حملة ضدهم وأنفذ معها أخا آخر للمنذر ليخلفه في وظيفته، ولكنه توفي بعد عشرة أيام، أما القائد البيزنطي فإنه تمكن - بالمكر والخداع - من إلقاء القبض على النعمان أكبر أبناء المنذر، وتوفي طيباريوس في السنة 582 فتولى العرش بعده موريقيوس عدو المنذر، فأمر بإبعاد الملك العربي ومن معه إلى صقلية.
21
وطالت الحرب الفارسية وحمي وطيسها وشعر موريقيوس بالحاجة إلى من يوحد كلمة القبائل العربية في سورية ويقودها إلى الحرب ضد الفرس، فاستحضر النعمان في السنة 584 ووعده بإرجاع والده من المنفى ثم طلب إليه أن يحارب الفرس معه، وأن يعتنق الأرثوذكسية، فأجابه النعمان أن جميع قبائل طي يعاقبة وأنهم يذبحونه ذبحا إن هو تقبل قرار «المجامع»، فغضب موريقيوس وأمر بسجنه ثم ألحقه بوالده.
22
ويرى نولدكه في رسالته أمراء غسان، أن أحوال العرب في سورية اضطربت بعد اعتقال المنذر وابنه النعمان، وأن عرى وحدتهم تفككت، فاختارت كل قبيلة منهم أميرا لها، فتطاحنت وتنازعت فيما بينها، وأن هذه المنازعات لم تنحصر بالبادية وإنما تعدتها إلى البلدان العامرة، وأن القبائل أخذت تسطو - بلا خوف ولا وجل - على أموال الفلاحين المتحضرين فتنهب مواشيهم وتحصد دون أن تزرع. ويزيد نولدكه أن هذا كله حمل الروم على التفكير في تنصيب عامل لهم رئيسي جديد يقوم مقام المنذر، وأنهم رأوا أن يكون هذا العامل من آل جفنة أيضا لما كان لهؤلاء في الماضي من الهيبة في القلوب.
23
وقضت ظروف العداء بين الغساسنة وعرب الحيرة أن يشتد كره عرب الحيرة لكل من قال بالطبيعة الواحدة، وأن يتقربوا من الكنيسة الأرثوذكسية الأم، وانتهت الحرب بين فارس والروم في مصلحة الروم، فطلب النعمان ملك الحيرة أن يتلقى المعمودية على يد كاهن أرثوذكسي في الرصافة وقبلها معه رجاله، وكان خالص النية فيما فعل، فلما عاد إلى الحيرة رمى بتمثال الزهرة الذهبي في النار، وجمع ذهبه بعد انصهاره ووزعه على الفقراء، ولعل الكاهن الأرثوذكسي الذي عمد النعمان ورجاله هو البطريرك الأنطاكي غريغوريوس نفسه، فإنه هو الذي كرس تقدمات أبرويز وزوجته المسيحية سيرين على اسم القديس سرجيوس في الرصافة «سيرجيوبوليس»، وانطلق البطريرك من الرصافة إلى البادية يرد «الضالين في القرى والأديرة إلى الدين المستقيم»،
24
وعاد إلى أحضان الكنيسة الأم بعد هذا النصر كثيرون في سورية والعربية وأرمينية وبلاد الكرج، ممن سبق لهم أن قالوا بالطبيعة الواحدة، وتعددت البنايات والإنشاءات الدينية الأرثوذكسية، في الأردن والبثنية وحوران في مادبا ومعين وجرش والجولان والجيزة بين بصرى ودرعة، وفي الطيبة وغاريا الغربية، وفي قسم وفي حياة، بالقرب من الشهباء.
25
الآفار والصقالبة (550-602)
ولم ينتظر الآفار والصقالبة نهاية الحرب الفارسية ليقوموا بغاراتهم في البلقان، ولكن خلفاء يوستنيانوس آثروا قبل التصدي لهم أن يفرغوا من المشكلة الفارسية؛ وذلك لأسباب أهمها أن المناطق موضوع النزاع بينهم وبين فارس كانت آهلة بشعوب قوية شديدة، يمكن الاعتماد عليها لتغذية الجيش بالرجال، ثم إن التغلب على فارس كان ضروريا لإضعاف معنويات من قال بالطبيعة الواحدة من سكان أرمينية وسورية، ولإرجاعهم إلى أحضان الكنيسة الأم وتوحيد الكلمة في داخل الإمبراطورية. وهكذا نرى يوستينوس الثاني يبتاع سكوت الآفار في السنة 571، ونرى طيباريوس - طلبا للغاية نفسها - يدفع في السنة 574-575 قدرا كبيرا من المال - ثمانين ألف صلدة ذهبية - وفي السنة 580 هب عدد كبير من الصقالبة قدره مينانذر من مؤرخي ذلك العصر بمائة ألف رجل، فعبروا الدانوب وغمروا البلقان غمرا مخربين محرقين ناهبين،
26
ويرى أهل الاختصاص أن هذه الموجة الكبرى كانت أشد أثرا من أي موجة أخرى في تطور تاريخ الروم؛ لأنها أبقت في البلقان عددا كبيرا من الصقالبة فصقلبته منذ ذلك الحين.
27
وحلت المشكلة الفارسية في السنة 591 حلا نهائيا، وعاد جيش الروم منتصرا قويا، فتغير الموقف في البلقان تغييرا أساسيا، وشن موريقيوس على الآفار والصقالبة حربا متواصلة عنيفة، ورغب في أن يتسلم القيادة بنفسه، وكاد يفعل، لولا تدخل الحاشية، فعهد بالأمر إلى بريسقوس القائد، وكتب النجاح لبريسقوس فأبعد البرابرة حتى ضفة الدانوب، ثم عبره وحاربهم في ذاقية، وعاد خاقان الآفار فدفع بمائة ألف أخرى من الصقالبة عبر الدانوب، فتدفقوا جنوبا حتى ثيسالونيكية والقسطنطينية، ولم تنج الأولى منها إلا بأعجوبة،
28
وهرع موريقيوس للدفاع عن العاصمة بنفسه، فجمع المتطوعة من سكانها وألحق بهم الحرس الإمبراطوري، ودفع بهم جميعا إلى السور الطويل.
وقدر لبريسقوس أن ينتصر في بلغراد في السنة 598 وفي طولي في السنة 599، فتهادن الطرفان سنة 600 جاعلين الدانوب حدا فاصلا بينهما،
29
ثم نشبت الحرب مجددا في السنة 601 ورجحت كفة بريسقوس فعبر الدانوب غازيا، وما برح حتى وصل إلى نهر الثيس. وعول الإمبراطور على إبقاء جنوده وراء الدانوب طوال فصل الشتاء، ولكنه فوجئ بأن تمرد بعضهم عليه في السنة 602.
ثورة السنة 602
تمرد الجند في خريف هذه السنة، وعبروا الدانوب بإمرة فوقاس أحد ضباطهم، واتجهوا نحو القسطنطينية ، وكانت العاصمة خالية من الجند، فحشد موريقيوس متطوعة من سكان العاصمة ودفع بهم إلى سور ثيودوسيوس، وليته لم يفعل؛ لأن قسما كبيرا من السكان كان قد سئم كبرياء الإمبراطور وأساليبه الأرستقراطية، وشعر موريقيوس بهذا وخشي ممالأة ابنه ثيودوسيوس ونسيبه جرمانوس للجند، فأمر بإلقاء القبض على جرمانوس، ولكن جرمانوس التجأ إلى كنيسة الحكمة الإلهية، فاضطر الإمبراطور أن ينتهك حرمة هذا المعبد ليقبض فيه على خصمه، وأيد الشعب جرمانوس وأخلى المتطوعة مراكزهم على السور وانحازوا إلى الجماهير المتظاهرة، ففر الإمبراطور بعائلته عبر البوسفور إلى نيقوميذية، وفي الثالث والعشرين من تشرين الثاني سنة 602 نادى الشيوخ والشعب بفوقاس إمبراطورا، ودخل فوقاس في اليوم التالي «ممطرا الذهب على الشعب إمطارا.» ثم وجه إلى نيقوميذية بمن ذبح موريقيوس وعائلته ذبحا.
30
ويرى لفتشنكو الأستاذ في جامعة لنينغراد
31
أن ثورة السنة 602 كانت - في حد ذاتها - نزاعا طبقيا بين الفلاحين والصناع والجند من جهة، وبين الذين عززتهم حكومة موريقيوس - من أصحاب الأملاك الكبيرة والأموال الوافرة - من جهة أخرى. ويرى الأستاذ نفسه في هذه الثورة التي عمت آسية الصغرى وسورية ولبنان ومصر ثورة اجتماعية دينية بين النصارى واليهود، وبين من كان من النصارى يقول بالطبيعة الواحدة، ومن كان يستمسك بقرارات المجامع المسكونية وبين الخضر والزرق، وهو يرى أيضا أن فوقاس لم يتبن مطالب هذه الطبقات الوضيعة وإنما سعى لتوطيد عرشه فقط.
فوقاس (602-610)
وعلم أبرويز ملك الفرس بما حل بموريقيوس وبإمبراطورية الروم، وكان موريقيوس نفسه قد كتب إليه يستنجده، وسمع أبرويز أيضا بالثورة التي أعلنها نرسيس القائد على فوقاس في اورفة في السنة 603، فرأى أن يستغل فرصة مناسبة، فزحف بنفسه إلى اورفة وحاصرها، ثم تغلب على الروم بين اورفة ونصيبين في السنة 604، وفي السنة 605 سقطت دارا بيده فاتجه أبرويز نحو سورية وأرمينية وانتشرت جيوشه في السنة 607 في سورية وفلسطين تنهب وتحرق وتدمر، وفي السنة 608 توغل الفرس في آسية الصغرى وبلغوا في السنة التالية إلى خلقيدونية حيال القسطنطينية.
وكان فوقاس منهمكا في توطيد دعائم عرشه، فقضى في السنة 607 على قسطنطينة أرملة موريقيوس وعلى بناتها وعلى جرمانوس، وحاول استمالة كبار الضباط، فجعل بريسقوس قائد الحرس وزوجه من ابنته ولكنه عاد فظن به سوءا واتهمه بالمؤامرة عليه، ولم يعط فوقاس الخضر شيئا فقاموا عليه وأهانوه علانية في الهيبودروم، ثم نشبت ثورة في أنطاكية تلتها مؤامرة في القسطنطينية. وهكذا، دواليك، حتى عمت الفوضى وأصبحت الدولة في أمس الحاجة إلى شخصية كبيرة تتولى إنقاذها.
32
الفصل الثالث عشر
الفكر والفن في القرن السادس
التاريخ والمؤرخون
وكما كان الأمر في القرون السابقة، كذلك كانت كتابة تاريخ في القرن السادس هي السجل الرئيسي للفكر البيزنطي ومجلي تطوره، وأبرز المؤرخين في هذه الحقبة وأكثرهم غناء بروكوبيوس القيصري، درس الحقوق والمحاماة ثم أصبح مستشار بليساريوس القائد وكاتم أسراره، وقد صحبه في حروبه ضد الوندال والقوط والفرس، واطلع على مخابراته وخفايا أموره، فجمع لمؤلفاته ما لم يتسن لغيره إدراكه، وبرغم تقعره في اليونانية وأخذه بأساليب هيرودوتوس وثوقيذيذس؛ فإنه ظل سلسا في إنشائه، نشيط الخيال، ضليعا شديدا يقظا، ومؤلفاته ثلاثة: الحروب والملح والأبنية.
1
ويقع كتابه في الحروب في ثمانية أجزاء وصف فيها حروب يوستنيانوس في أفريقية وإيطالية والشرق، وأفرد كتابه الملح لقصص وروايات أظهر بها خفايا الحياة السياسية في العاصمة ولا سيما القصر المقدس وحياة عاهليه يوستنيانوس وثيودورة، وضمن كتابه الأبنية أخبار يوستنيانوس في حقل البناء، فذكر فيه جميع الأبنية التي أمر بتشييدها.
2
وقد عاصر يوستنيانوس وبروكوبيوس مؤرخ آخر، هو بطرس البطريق، كان محاميا لامعا وسياسيا مفاوضا، فمثل الروم مرارا لدى الفرس والقوط الشرقيين، وكتب في تاريخ الإمبراطورية منذ عهد أوغوسطوس، ووضع سفرا خاصا في التشريفات، وقد ضاع الشطر الأكبر من هذين المؤلفين، ولم يبق منهما سوى شذرات منثورة.
وقام بعد بروكوبيوس أغاثيوس المحامي، فأرخ لعهد يوستنيانوس منذ السنة 552 حتى السنة 558، وجاء مينانذر في أيام موريقيوس، فأرخ للسنوات 558-582، ولكن ضاع هذا المؤلف ولم يسلم منه سوى بعض نتف مفيدة جدا من جهة المعلومات الجغرافية والمعرفة بالعناصر البشرية الطارئة على الإمبراطورية.
وظهر ثيوفيلاقتوس السيموقاطي القبطي، فسجل تاريخ الحوادث في عهد موريقيوس (582-602) وكان كاتما لأسرار هرقل الفسيلفس، وبرغم خياله المشتط وصوره الرمزية وحكمه المقتضبة وأساطيره وخرافاته؛ فإنه لا يزال المرجع الرئيسي لتاريخ موريقيوس، إن في حروبه الفارسية أو في البلقان.
3
وفي أواخر القرن السادس كان المؤرخ ثيوفانس، وقد ذكره البطريرك فوتيوس في مؤلفاته، ونقل عنه نبذا، منها نبذة في إدخال دود الحرير إلى حوض البحر المتوسط، وأما تاريخ الكنيسة في القرنين الخامس والسادس فأفضل من عالجه من المؤرخين إيفاغريوس السوري، وتتضمن كتبه الستة تاريخ الكنيسة منذ مجمع إفسس في السنة 431 حتى السنة 593.
4
الجغرافية والجغرافيون
ومما يلفت النظر في تاريخ الفكر في القرن السادس كتاب قوزمة البحري
5 «الكوسموغرافية المسيحية»، وضعه في منتصف هذا القرن، ولد الرحالة قوزمة البحري في مصر، وتعاطى التجارة في حداثته، ثم أعرض عنها لكساد سوقها، فغادر مصر متنقلا في سيناء، والحبشة، وحوض البحر الأحمر، والشاطئ الجنوبي من الجزيرة العربية، وسيلان، ثم انقلب إلى مصر زاهدا فتنسك وترهب، وقد كتب كتابه هذا ليبين للمسيحيين أن الأرض صندوق مربع مستطيل بشكل تابوت العهد، وأن شكل الكون هو شكل مظلة إسرائيل، وأن قول بطليميوس الجغراي بكروية الأرض قول مردود. وأهم من هذا وذاك هو أن قوزمة دون في مصنفه هذا ما شاهده في أثناء تجواله، وما سمعه، وفرق بوضوح تام بين سماعه وعيانه، بحيث صار مؤلفه مرجعا هاما لتاريخ هذا العصر.
6
وممن كتب في الجغرافية في القرن السادس هيروكليس اللغوي؛ فإنه وصف الإمبراطورية وصفا سياسيا جغرافيا على حالتها قبيل السنة 535، متناولا ولاياتها الأربع والستين، ومدنها التسعمائة والاثنتي عشرة.
7
التأريخ بالحوليات
وأشهر من دون الحوادث في القرن السادس مرتبة بحسب تاريخ وقوعها، يوحنا ملالاس الأنطاكي، فإنه وضع خرونيقونا لتاريخ العالم منذ أقدم الأزمنة حتى نهاية عهد يوستنيانوس.
وبرغم أنه لم يفرق بين الغث والسمين، والأساطير والوقائع الراهنة، فإن كتابه مفيد في بعض ما يروي، عدا أنه استعمل فيه اليونانية الدارجة في عصره، مستعينا، بين آن وآخر، ببعض الاصطلاحات اللاتينية الشائعة في زمنه.
8
وبين هؤلاء أيضا يوحنا الإفسسي، ولد في آكل من ولاية آمد في السنة 507، ونشأ ناسكا في دير أرعازبتا، وأجاد السريانية واليونانية، ورحل في طلب العلم إلى أنطاكية والإسكندرية والقسطنطينية، وفي السنة 542 اختاره يوستنيانوس لتبشير الوثنيين في بعض نواحي آسية الصغرى، وحوالي السنة 558 رسمه يعقوب البرادعي مطرانا على من قال بالطبيعة الواحدة في إفسس، فأقام على رعاية هؤلاء تسعا وعشرين سنة.
وفي السنة 566، بعد وفاة ثيودوسيوس الإسكندري، أصبح يوحنا الإفسسي رئيسا لجميع من قال بالطبيعة الواحدة في القسطنطينية وسائر بلاد الروم، وفي السنة 571 اضطهد يوستينوس الثاني من لم يقل قول الكنيسة الأم، فشمل هذا الاضطهاد يوحنا المترجم له، فسجن ثم نفي، ثم اعتقل مرة ثانية في عهد طيباريوس وأبعد عن العاصمة في أواخر السنة 578، وكانت وفاته في السنة 586 أو 587.
وأرخ يوحنا الإفسسي للكنيسة في ثلاثة مجلدات، تناول بالمجلدين الأول والثاني حوادث التاريخ منذ عهد قيصر حتى السنة 571، وجعل في المجلد الثالث أخبار الكنيسة والعالم من السنة 571 حتى السنة 585، وله أيضا سير النساك الشرقيين، وهو يشتمل على ثمان وخمسين ترجمة، «وفيه فوائد عن السيرة النسكية، والعادات الرهبانية، وسير الديارات في ذلك العصر.»
9
وأهمية هذه المؤلفات هي أنها تحفظ لنا - بالدرجة الأولى - شيئا من ثقافة القائلين بالطبيعة الواحدة واتجاهاتهم القومية، وتلقي ضوءا على آخر مراحل النزاع بين النصرانية والوثنية.
10
أخبار القديسين
وأهم من عني بأخبار الرهبان والنساك والقديسين يوحنا كليماكوس الذي اعتزل في طور سينا، ووضع كتابه الشهير السلم الروحية
11
في ثلاثين فصلا، وقد استعار التسمية من الفصل الثامن والعشرين من سفر التكوين: «ورأى يعقوب حلما، وإذا سلم منصوبة على الأرض ورأسها يمس السماء، وهو ذا ملائكة الله صاعدة ونازلة عليها.» وحاول يوحنا كليماكوس، في كتابه هذا، أن يبين مراحل التقدم في الحياة الروحية للوصول إلى الكمال، فراج كتابه هذا بين جمهرة الرهبان الروم، وترجم إلى السريانية واللاتينية واليونانية الحديثة والإيطالية والإسبانية والفرنسية والسلافية ، وفي نسخه المخطوطة تصاوير جميلة للحياة الدينية والرهبانية.
12
وأما كيرلس البيساني الذي قضى آخر دور من حياته في دير مار سابا في فلسطين؛ فقد رغب في تدوين سير القديسين في كتاب ضخم، ولكنه توفي قبل أن ينجز عمله، امتاز كيرلس بتفهمه الحياة الرهبانية وبضبطه وتدقيقه وبساطة أسلوبه، فهو - والحالة هذه - من أفضل المراجع لتاريخ الثقافة عند الروم.
13
ومن أشهر المؤرخين في أخبار القديسين يوحنا موسخوس الفلسطيني، وهو من الأعيان الذين وصلت حياتهم بين القرنين السادس والسابع. وضع المروج الروحية
14
بعدما زار أديرة فلسطين وسينا ومصر وسورية وآسية الصغرى، وتجول في جزر المتوسط وإيجه، فتسنى له أن يدون أشياء كثيرة عن الرهبان والأديرة في عصره، ومصنفه هذا مفيد لتاريخ الحضارة.
الشعراء
وأشهرهم رومانوس المرتل وقد سبقت الإشارة إليه، وهو أفضل من نظم في عهد يوستنيانوس، وقد وقف شاعريته على الابتهالات الدينية، ومن شعراء هذا العصر بولس الصامت الذي خص كنيسة الحكمة الإلهية بقصيدتين وصف بهما هذه التحفة النفيسة فخدم تاريخ الفن خدمة كبيرة، وأحرز تقدير معاصريه وبينهم أغاثيوس المؤرخ،
15
وأم القسطنطينية في هذا العصر نفسه الشاعر كوريبوس الأفريقي ولبث فيها ينشد باللاتينية أماديح يوحنا القائد الذي أخمد ثورة البربر في أفريقية. وبرغم ركاكة نظمه فإن شعره يتضمن بعض الفوائد الجغرافية والتاريخية الضرورية لتاريخ أفريقية الشمالية في القرن السادس.
ونظم كوريبوس أيضا شعرا في يوستينوس الثاني وتسنمه العرش، فأفاد به المؤرخ أكثر كثيرا مما أفاد الأدب، وممن قرض الشعر في هذا القرن ذيوسقوروس القبطي، ولد في صعيد مصر في قرية صغيرة، وتعلم علوم زمانه ثم درس الحقوق وتعاطى الأدب، ولكنه لم يكن مجيدا في نظمه، وما بقي من أبياته على وريقات البردي لا يزيد الأدب الهليني فخرا. يضاف إلى هذا أنه لم يحسن قواعد اللغة فجاءت أبياته ركيكة ضعيفة.
واهتمام المؤرخين بآثاره يعود إلى ما تركه من وثائق شرعية وأخبار اجتماعية، لا إلى تفوقه في الفكر أو الشعر.
16
الفن
ومؤرخو الفن يعتبرون عصر يوستنيانوس العصر الذهبي الأول في تاريخ الفن عند الروم ، ويعدون كنيسة الحكمة الإلهية آية من آيات فن البناء في العالم بأسره، وأفضل الكتب التي صنفت في هذا الموضوع هي تقارير الأستاذ هويتمور عن أعماله الترميمية التي بدأت في السنة 1933، يضاف إليها كتاب الأستاذ سويفت: آجيا صوفيا.
17
وأعجب ما في هذه الكنيسة قبتها العظيمة؛ فإنها تشمخ ضمن محيط قدره واحد وثلاثون مترا على علو خمسين مترا فوق سطح الأرض، وهو عمل لا يزال يعتبر حتى ساعتنا هذه من معجزات فن البناء، وشكل الكنيسة مربع مستطيل عظيم يقسمه صفان من الأعمدة إلى ثلاثة أبهاء، والأرض والأعمدة والأقسام السفلى من الجدران جميعها من رخام ملون، وما تبقى من الجدران والسقف جميعه مغشى بالفسيفساء المذهبة، ويطل النور على المصلين من أربعين نافذة عند أسفل القبة الكبرى فتعكسه الفسيفساء المذهبة الملونة أشعة متنوعة رائعة، أما الفناء أمام هذا المعبد فإنه كان فيما مضى واسعا كبيرا تتناسب مساحته وحجم الكنيسة وراءه، وكانت تحيط به من جهاته الأربع أروقة ذات أعمدة متقنة الصنع، وتقوم في وسطه نافورة مزخرفة جذابة.
وهدم يوستنيانوس كنيسة الرسل التي كان قد شيدها إما قسطنطين الكبير أو قسطنديوس، وأعاد يوستناينوس بنيانها بشكل صليب مربع الأجنحة، وعهد العمل إلى أنثيميوس الترالي وإسيدور الأصغر. وبقيت هذه الكنيسة البديعة مدفنا لأباطرة الروم حتى القرن الحادي عشر، ولما استولى الأتراك على القسطنطينية أمروا بهدمها لينشئوا في موضعها جامع السلطان محمد الفاتح، وباستطاعتنا أن نستعيد صورة شكلها، قياسا إلى كنيسة القديس مرقس في البندقية، أو كنيسة القديس يوحنا في إفسس، أو كنيسة سان فرون في بريغو
18
في فرنسة، فإن هذه الكنائس جميعا قد شيدت على طراز كنيسة الرسل في القسطنطينية.
19
وربما تعذر علينا اليوم أن نتلذذ تلذذا تاما بوجوه الإتقان والبداعة في الفسيفساء على جدار كنيسة الحكمة الإلهية؛ لأن الأتراك قد حولوها عند الفتح إلى جامع، وطمسوا هذه الآثار بطلاء من الطين وغيره، ولأن أعمال التنظيف والترميم التي أمر أتاتورك بإجرائها في هذه الكنيسة لم تتم بعد. ولكن بإمكاننا أن نلمس لطائف هذا الفن وروعته على جدران كنيسة القديس الشهيد فيتال في رابينة، ورابينة هذه كانت في القرن الخامس بعد الميلاد ملجأ لأباطرة الغرب، ثم أصبحت في أوائل القرن السادس عاصمة القوط الشرقيين، ولما تغلب يوستنيانوس على هؤلاء وفرض سلطته على إيطالية؛ أصبحت رابينة مركز حكم الروم في إيطالية ومقر الإكسرخوس فيها، وذلك طوال قرنين منذ منتصف السادس حتى منتصف الثامن.
وآثار رابينة الفنية تعود إلى عهد غالية بلاسيدية بنت ثيودوسيوس الكبير، وإلى عهد ثيودوريخوس ويوستنيانوس، وشمل يوستنيانوس رابينة بعنايته، فأكمل بناء كنيستين فيها ورصعهما بالفسيفساء، ولا تزال هذه الفسيفساء محفوظة بكاملها في كنيسة القديس فيتال حتى يومنا هذا، وأشهر ما فيها صورة الإمبراطور على جدار الحنية وراء المذبح، يحيط بها أسقف رابينة ورجال الحاشية، وصورة ثيودورة ووصيفاتها.
20
الباب السادس
تطور وتغيير في عناصر الشعب، وفي حدود الملك وأنظمته
الفصل الرابع عشر
هرقل والفرس والصقالبة والآفار
610-634
سقوط فوقاس وقيام هرقل
وطغى فوقاس وجاوز الحد في الظلم والقسوة، قتل قسطنطينة أرملة موريقيوس وبناتها الثلاث، ونقض العهد الذي قطعه لنرسيس القائد وأحرقه حيا، فكان أن كثرت المؤامرات ضده، ولكنه استطاع أن يقضي عليها جميعها وأن يعذب المتآمرين ويذبحهم، وتوغل الفرس في آسية الصغرى في قبدوقية وغلاطية حتى وصلوا إلى أبواب خلقيدونية، وأحرقوا القرى والمزارع على الشاطئ الآسيوي قبالة العاصمة، واكتسح الصقالبة إيليرية وتراقية.
ولم يبق جزء من أجزاء الإمبراطورة لم يلحق به أذى إلا أفريقية، وكان يحكمها آنئذ إكسرخوس مسن صالح يدعى هرقل، أحبه الشعب في أفريقية حبا جما، فلم يجسر فوقاس أن يمسه بسوء، فاتصلت أحزاب العاصمة بهذا الإكسرخوس أكثر من مرة وحرضته على القيام بواجب لا يستطيع القيام به غيره، فاستجاب وأعد أسطولا وجيشا، واتصل بكبار الملاكين في مصر وحرضهم على الثورة فلبوه وشاركهم الشعب في ثورتهم، فمنعوا تصدير الحبوب إلى العاصمة، فانتشر فيها الجوع، وجبه هرقل فوقاس بما لم يكن مهيئا له،
1
ثم دعا هرقل ولده الذي سماه هرقل أيضا وأمره على الأسطول وأنفذ ابن أخيه نيقيطاس على رأس فرقة كبيرة من الفرسان إلى مصر وما وراءها.
ووصل هرقل الابن بأسطوله إلى الدردنيل، والتجأ إليه زعماء المعارضة، وظهر أسطول هرقل على أسطول فوقاس، وتمردت عناصر هامة في جيش فوقاس، ففتحت المدينة أبوابها لهرقل، واعتقل فوقاس في قصره موظف كان الإمبراطور قد أساء إليه إساءة بالغة، وأحضر فوقاس بين يدي هرقل صاغرا، فقال له هرقل: «أهكذا حكمت الإمبراطورية؟» فأجاب فوقاس: «وهل تحكمها أنت خيرا مما حكمتها؟» فركله هرقل بقدمه وقطعه البحارة إربا إربا.
2
واعتذر هرقل وأراد أن يتولى العرش بريسقوس، ولكن الشيوخ أبوا أن يتولاه أحد غير الذي أنقذهم، فنادوا بهرقل فسيلفسا في اليوم نفسه وتقدموا به من البطريرك سرجيوس فتوجه هذا إلى كنيسة الحكمة الإلهية، وتزوج هرقل من إفذوكية في اليوم نفسه أيضا فنودي بها فسيليسة، وبعد ثلاثة أيام أحرق تمثال فوقاس في الهيبودروم ومعه علم الزرق.
3
أسرة هرقل
وقد جاء في تاريخ الإمبراطور هرقل لسيبوس المؤرخ الأرمني الذي شهد ذلك العصر، أن هرقل متحدر من أصل أرمني وأنه يمت بصلة إلى الأسرة الأرمنية الملكية أسرة الأراشكة،
4
ويؤيد هذا القول اليوم عدد من الباحثين، وفي طليعتهم الأستاذ غريغوار،
5
ويشك فيه عدد مقابل من رجال البحث، فلا يرون في أدلة زملائهم ما يضمن السلامة لما استنتجوه.
6
الحرب الفارسية (610-628)
وكانت الإمبراطورية في حالة من الفوضى والاضطراب تدعو إلى القلق الشديد، فكتب هرقل إلى أبرويز يعلمه بالقصاص الذي أنزله بفوقاس، ويؤكد له أن إعادة السلم بين الدولتين أصبح ميسورا، ولكن أبرويز لم يجب، وكانت جيوشه قد قطعت الفرات واحتلت قرقيسية عند مصب الخابور وكلينيكم إلى شماليها، فأنفذ هرقل بريسقوس القائد إلى قيصرية قبذوقية ليطرد الفرس منها، فطردهم بعد حصار دام سنة كاملة، ولكنهم خرجوا منها مفتتحين لهم طريقا بالقوة وأنزلوا بالروم خسارة كبيرة.
ثم اتجهوا شطر أرمينية لتمضية فصل الشتاء، واستطاعوا أن ينتصروا على الروم في سورية فأخذوا حمص عنوة في السنة 611، فما أطلت السنة 612 حتى سافر هرقل من القسطنطينية إلى آسية الصغرى ليدرس الموقف مع بريسقوس عن كثب، فتباطأ القائد في استقبال الفسيلفس متذرعا بالمرض، وفي النهاية أفهم هرقل أنه لن يرضى عن تدخله في أمور الجيش، فسكت هرقل على هذه الوقاحة؛ لأنه لم يكن بإمكانه آنئذ أن يقاوم قوة بريسقوس بقوة مماثلة.
وفي خريف السنة 612 أم العاصمة نيقيطاس؛ ليفاوض الفسيلفس في شئون مصر، وقدمها بريسقوس أيضا؛ ليشترك في استقبال هذا الضيف الملكي، وكان قد ولد لهرقل ولد ذكر فأعلم الفسيلفس بريسقوس بوجوب بقائه في العاصمة لحضور حفلة عماد الطفل في الخامس من كانون الأول، فصدع بريسقوس بالأمر، ولم يبرح العاصمة، وانتهز الفسيلفس هذه السانحة فاتهم القائد بالخيانة العظمى وأمر بإلقاء القبض عليه وإيداعه أحد الأديرة، ثم أطل على جنود العاصمة فحيوه قائدا أعلى.
ثم جعل نيقيطاس قائدا على الحرس وأخرج فيليبيقوس من الدير الذي كان قد التجأ إليه وسلمه القيادة، وأشرك أخاه ثيودوروس فيها أيضا.
ورأى هرقل أن يواجه الفرس في الجبهتين في آن واحد، فأنفذ فيليبيقوس بجيش إلى أرمينية، وقام هو وأخوه ثيودوروس إلى سورية الشمالية ليصدا أبرويز عن احتلال سواحل لبنان وفلسطين ومصر. وكان أبرويز قد لمس ضعف الروم لمس اليد، فأحب أن يستغل الموقف، فالتقى الجيشان واشتبكا حول أسوار أنطاكية في السنة 613، فدحر الروم وتراجعوا إلى مداخل قيليقية فغلبوا فيها أيضا، واحتل الفرس طرسوس وقيليقية بأكملها.
ومثل هذا وقع لفيليبيقوس في أرمينية، وفي السنة 614 تابع الفرس زحفهم إلى الجنوب بقيادة شهربراز، وزحفوا من قيصرية فلسطين إلى أوروشيلم، وهي البلد المقدس عند أعدائهم، فحصروها عشرين يوما ثم دخلوها عنوة، فقتلوا جموعا غفيرة من النصارى سبعة وخمسين ألفا وأسروا خمسة وثلاثين ألفا وأحرقوا الكنائس وألقوا القبض على البطريرك زخريا واستولوا على عود الصليب وأرسلوه إلى فارس، وكان شهربراز قد حالف اليهود على النصارى، فلما تم له ما أراد نفى من المدينة المقدسة جميع اليهود ثم أذن بترميم الكنائس، وهرع نيقيطاس إلى المدينة المقدسة فلم ينقذ من آثارها سوى الحربة المقدسة والإسفنجة،
7
وفي السنة 615 حاول شاهين قائد الفرس أن يكمل احتلال آسية الصغرى، ولكنه لم يفلح فتراجع، وفي ربيع السنة 619 عاد شهربراز إلى الفتح فزحف على مصر واحتل بليسيوم وممفيس وبابل، ثم عرج على الإسكندرية فحاصرها واستولى عليها.
وهكذا خسر هرقل أرمينية وما وراءها وهي أخصب البقاع بالرجال لتعبئة الجيش، وخسر مصر وهي مركز تموين العاصمة، وأضاع المدينة المقدسة وعود الصليب وهو ذخر النصارى، وكانت البلقان - كما سنرى - مسرحا كبيرا لطغيان الآفار والصقالبة، فلم يبق - والحالة هذه - من جميع أقطار الإمبراطورية قطر يمكن اللجوء إليه والاعتصام به سوى أفريقيا، فأراد هرقل أن يقلع إليها ليغزو منها مصر ويجلي الفرس عنها، وعلم الشعب في القسطنطينية بما نواه الفسيلفس فهبوا يردعونه، وألح عليه البطريرك بوجوب البقاء في القسطنطينية، ولم يكف عنه حتى أقسم بأنه لن يبرح العاصمة، وفي أثناء هذا كله - ولسنا ندري متى كان ذلك بالضبط - هاجم الفرس القسطنطينية بأسطول بحري، ولعلهم قصدوا بذلك إلى معاونة الآفار - كما سيمر بنا - على أنهم لم يصادفوا التوفيق، فإن الأسطول الرومي قضى على قوتهم البحرية وبدد شملها، فغرق في بحر مرمرا أربعة آلاف فارسي مع مراكبهم، وتنبهت الكنيسة فأمدت الفسيلفس بجميع ما لديها من الذهب والفضة، شرط أن يعاد إليها ما يقابله بعد الحرب.
وكان هرقل قد استشفع إلى العذراء في السنة 609، عندما بدأ يستعد للحملة على القسطنطينية، فعاد إليها مستشفعا في شتاء السنة 621، واعتزل للرياضة الروحية تأهبا للقيام بواجب مقدس: واجب الدفاع عن الدولة والكنيسة والدين، وفي الرابع من نيسان من السنة 622 تقدم من المائدة المقدسة متناولا القربان الطاهر، وفي الخامس من الشهر نفسه دعا إليه كلا من البطريرك سرجيوس والحاكم بونوس والشيوخ وكبار الموظفين والوجهاء والأعيان، والتفت إلى البطريرك وقال: «إني أعهد إلى الله وإلى والدته وإليك بهذه المدينة وبابني من بعدي.» وبعد الصلاة في كنيسة الحكمة الإلهية والابتهال والتوسل تسلم أيقونة السيد المخلص، ثم أقلع بجنوده إلى خليج نيقوميذية، وسار إلى غلاطية وقبدوقية لإكمال التعبئة والتموين والتنظيم، ومن هنا القول إن هرقل أول الصليبيين.
وأراد هرقل أن يقصي الفرس عن مراكزهم في قلب آسية الصغرى، فقام بحركة التفاف واسعة النطاق، واتجه بجيشه شرقا مهددا مواصلات العدو وطرق تموينه ، وحاول شهربراز أن يصرف هرقل عن خطته فغزا قيليقية، ولكن هرقل لم يعره انتباها، فاضطر القائد الفارسي أن ينقلب إلى الشرق ليحول بين هرقل وهدفه، وتواقع الخصمان في أرمينية في السنة 622 فدارت الدائرة على الفرس وسجل هرقل نصرا مبينا، وانسحب الفرس من قبدوقية والبونط، وعاد هرقل إلى القسطنطينية؛ لينظر في أمر الآفار، وفي ربيع السنة 623 استأنف الهجوم في الشرق، فقطع أرمينية واحتل دوخان ونشقفان، ثم توغل في أذربيجان واتجه نحو تبريز كنزاكة ليفاجئ أبرويز في قصره فيها، ففر أبرويز من المدينة، ودخلها الروم فأحرقوا معبدها الكبير وتعقبوا الفرس الهاربين وهم ينهبون ويدمرون، ثم رجع هرقل خوفا من حركة التفافية خشي أن يقوم بها شهربراز أو شاهين أو الاثنان معا.
8
وبانتصاراته هذه تسنى لهرقل أن يستمد من شعوب القوقاس المسيحية ما عبأ به الصفوف، وكر كرة أخرى إلى الميدان في السنتين 624 و625 فضرب شهربراز عند بحيرة وان، ثم ضربه في قليقية عند نهر ساروس، فاضطر القائد الفارسي أن يتراجع إلى الشرق، وعدل هرقل إلى البونط لتمضية فصل الشتاء، ثم نوى أن يتحرك من البونط بجيش عظيم في السنة 626 ليستأنف انتصاره على الفرس، ولكن تقدم الآفار في البلقان وحصارهم القسطنطينية اضطراه أن يؤجل قصده هذا حتى السنة 627.
وفي صيف السنة 627 قام الخزر حلفاء هرقل بحصار تفليس، وهب هو إلى محاربة أبرويز، فعبر نهر الآراس عند أتشميازن، ثم دخل منطقة أرارات فأذربيجان، وانحدر بعد ذلك إلى وادي الزاب، وفي الثاني عشر من كانون الأول نازل أبرويز عند أطلال نينوى فأوقع به هزيمة شنعاء، ثم عبر الزاب متجها شطر طيسفون عاصمة الفرس، فاحتل المقر الملوكي في دستجرد وانتزع منه ثلاثمائة لواء رومي كان الفرس قد استحوذوا عليها في انتصارات سابقة، وأطلق سراح ألوف من الأسرى، ولما كان جيش شهربراز لا يزال كاملا سالما، وكانت خطوط الدفاع عن طيسفون قوية منيعة؛ آثر هرقل التربص لعدوه في تبريز، فقطع جبال الزاغروس في إبان الشتاء وبلغ إلى تبريز سالما في الحادي عشر من آذار سنة 628.
وكان شيرويه بن أبرويز قد تمرد على والده وتسنم العرش في الثامن والعشرين من شباط من السنة 628، فكتب إلى هرقل يطلب الصلح، فصالحه الفسيلفس على شروط أهمها: العودة إلى الحدود القديمة، وإطلاق الأسرى، وإرجاع الصليب المقدس ، وقبل شيرويه هذه الشروط، فاتصل هرقل بشهربراز لتنفيذها. وكان هذا القائد لا يزال مستوليا على شطر وافر من أملاك الروم في آسية، وبعد مفاوضات طويلة اجتمع هرقل وشهربراز في أرابيسوس في آسية الصغرى في حزيران من السنة 629، وعرف هرقل كيف يحدث شهربراز بما كان يراود نفس القائد الفارسي، وكان شهربراز يطمع بعرش الفرس، فعلله هرقل بالأمل، فأسرع القائد الفارسي إلى تنفيذ المعاهدة، وأجلى جيوشه عما كان يحتله من أراضي الروم، وفي آذار السنة 630 تسلم هرقل عود الصليب في منبج في سورية الشمالية، فانتقل به إلى المدينة المقدسة وأحله محله في الثالث والعشرين من الشهر نفسه،
9
وكان هرقل قد امتنع هو وأسلافه في المنصب الإمبراطوري عن اتخاذ لقب فسيلفس برغم أن رعاياهم كانوا يطلقون هذا اللقب عليهم ردا على ما كان يتلقب به ملوك الفرس، فلما انتصر هرقل على الفرس ذلك النصر الباهر غير لقبه الرسمي من أوتوقراتور إلى فسيلفس.
10
الآفار والصقالبة
وفي السنة 617 عبر الدانوب جمع غفير من الصقالبة، ناقلين معهم عيالهم وأمتعتهم، فانتشروا في إيليرية وإبيروس وثسالية وآخية وتراقية، وفي جزر بحر إيجه وشواطئ آسية، وعاثوا في البلاد فسادا، وطوقوا ثيسالونيكية وحصروها شهرا كاملا، ولم تكد تنجلي المحنة وينقضي عامان حتى كر الصقالبة كرة أخرى جارين وارءهم الآفار، وما زالوا حتى بلغوا إلى ضواحي القسطنطينية، فنهبوا ودمروا وأحرقوا وسبوا، ولم يتراجعوا إلا بعد أن زاد لهم هرقل الإتاوة.
وقضت الحرب الفارسية بتغيب الإمبراطور عن العاصمة ثلاث سنوات متتالية، فعاد الآفار إلى سابق سيرتهم، وأرادوا هذه المرة اقتحام العاصمة نفسها في السنة 626، وتقدم الفرس في الحرب حتى خلقيدونية، فنكث خاقان الآفار بعهده السابق، واندفع بجموعه إلى أسوار القسطنطينية، وكان الإمبراطور قد أقام ابنه نائبا عنه في الحكم، وأقام البطريرك سرجيوس وصيا عليه، فهب البطريرك بفصاحته وشجاعته يثير الهمم، ويشدد العزائم، فيطوف العاصمة بالشعائر الدينية، ويعلو بنفسه الأسوار ومعه أيقونة المخلص وأيقونة العذراء، فأصبح - على تعبير أحد المعاصرين: «خوذة العاصمة ودرعها وسيفها.» ويقول معاصر آخر: «إن البطريرك ما فتئ يواجه قوات الظلمة والفساد بأيقونتي المخلص والعذراء شفيعة العاصمة حتى أدب في قلوبهم الرعب والخوف، فكانوا كلما عرض البطريرك من الأسوار أيقونة الشفيعة أعرضوا هم عن النظر إليها.»
11
وجمع الفرس أسطولا وحاولوا الوصول إلى الشاطئ الأوروبي بحرا، ولكنهم أخفقوا؛ لأن مراكب الروم بددت شملهم عند القرن الذهبي «فصبغت المياه بدمهم وغطت البحر بجثثهم.» وانقض خاقان الآفار بجموعه على الأسوار لآخر مرة في العاشر من تموز فارتد خائبا وهو يقول: «إني رأيت امرأة متوشحة بأثمن الأثواب، تطوف الأسوار من أولها إلى آخرها!» وهكذا نجت العاصمة من هذا الخطر المداهم، فعزا سكانها انتصارهم على الآفار والفرس في آن واحد، إلى السيدة العذراء حامية المدينة، ونظم البطريرك سرجيوس تسبيحته الشهيرة الأكافيستون التي لا نزال نرددها ونرنمها باللحن الرابع حتى يومنا هذا مساء كل جمعة من الأسابيع الخمسة الأولى من الصوم الكبير:
إني أنا مدينتك يا والدة الإله،
أرفع لك رايات الغلبة أيتها القائدة المحامية،
وأقدم لك الشكر لنجاتي من الشدائد.
ولما كنت ذات العزة التي لا تحارب؛
فاعتقيني من أنواع الشدائد،
حتى أصرخ إليك قائلا:
السلام عليك يا عروسة لا عروس لها.
12
وكان هرقل يرى أن الخطر الفارسي أشد كثيرا من خطر هؤلاء البرابرة، فأهمل الدفاع عن الغرب وخسر كل ما كان قد أحرزه يوستنيانوس في إسبانية، وطمع الإكسرخوس إلفثاريوس بعرش إيطالية في السنة 619 ودخل رومة وأعلن نفسه إمبراطورا عليها، وكانت قبائل الصقالبة طوال الحرب الفارسية تتسرب إلى البلقان فاحتلت جميع مناطق البلقان الشمالية الغربية، وثبتت أقدامها في بانونية وميسية ودلماتية، وبين الصقالبة الذين دخلوا البلقان في هذه الآونة واحتلوا إيليرية الصرب والكروات،
13
وقد أبقت هذه الموجات الطامية رواسب كبيرة من الصقالبة في مقدونية وبلاد اليونان نفسها، وإذا صدقنا إسيدور أسقف سيبلة فتكون موجة الصقالبة هذه قد غمرت بلاد اليونان بأسرها ،
14
وبقيت أحوال البلقان الشمالي والغربي مضطربة، وظل الصقالبة الضيوف في هرج ومرج طوال عهد هرقل، ولم تتمكن حكومة الروم من فرض سلطتها وهيبتها عليهم حتى أواخر القرن السابع.
القول بالمشيئة الواحدة
وكان من الطبيعي جدا أن يؤدي دخول الفرس إلى سورية ولبنان وفلسطين ومصر، وبقاؤهم فيها خمس عشرة سنة، إلى اضطهاد أبناء الكنيسة الأم لعلاقتهم بالقسطنطينية وتمسكهم بعقائدها، كما كان طبيعيا أن يؤدي ذلك إلى تنشيط اليعاقبة وكل من قال بالطبيعة الواحدة، والواقع أنه لما عاد الروم إلى هذه الأقطار وجدوا أن جميع بطاركتها هم من أتباع الطبيعة الواحدة، فعادوا إلى معالجة هذا الانشقاق في الكنيسة لتوحيد الكلمة وجمع الصفوف؛ خصوصا لأن الأخطار كانت لا تزال تحيط بالإمبراطورية وتهدد كيانها.
وكان طبيعيا أيضا أن يشعر البطريرك سرجيوس صديق هرقل الأمين بالضعف الذي نجم عن هذا الاختلاف في العقيدة؛ ذلك بأن البطريرك كان يمارس الحكم ويطلع على خفايا الأمور في أثناء تغيب هرقل عن القسطنطينية في الحرب الفارسية، ويرى بعض الباحثين أن سرجيوس بدأ منذ السنة 616 يعرض على بعض الأساقفة القول بطبيعتين في السيد مع فعل واحد، وأن هرقل رأى في هذا القول مخرجا من الأزمة اللاهوتية المستحكمة، ووسيلة لتوحيد الصفوف، فلما كانت السنة 622 فاوض هرقل جملة من الأساقفة في قبرص وأرمينية، ثم في السنة 623 فاوض كيروس أسقف فاسيس في بلاد الأكراد، ونصح له أن يكتب إلى سرجيوس في هذا الموضوع، فقبل كيروس وكتب إلى سرجيوس، فأجابه هذا بأنه قد وجد بين رسائل أحد أسلافه ميناس رسالة وجهها إلى فيجيليوس بابا رومة أشار فيها إلى فعل واحد ومشيئة واحدة.
وأضاف أنه لا يعرف أحدا من الآباء يؤيد القول بالمشيئتين، وهكذا قال كيروس بالمشيئة الواحدة، وسر به هرقل وازداد شجاعة على المضي في هذه التسوية، ففاوض في السنة 629 أثناسيوس بطريرك أنطاكية، وكان هذا ممن يقول بالطبيعة الواحدة، فقبل، ثم التأم في السنة 630 مجمع ثيودوسيوبوليس فقبل كاثوليكوس الأرمن إسز وأساقفته اعتناق القول الجديد، وثبت هرقل أثناسيوس على الكرسي الأنطاكي، وجعل كيروس بطريركا وواليا على مصر، وأصبح أمله بالاتحاد وطيدا بعد أن قبل أربعة بطاركة بالحل الجديد، وعندئذ كتب سرجيوس بطريرك القسطنطينية إلى أونوريوس بابا رومة مبينا ما تم من توحيد الكلمة راجيا منه إبداء الرأي، فجاء جواب البابا مبهما غامضا ولكنه لم يكن سلبيا، فإنه أشار إلى عبارة بولس الرسول في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس في الفصل الثاني عن «صلب رب المجد.» كما اقتبس من كلام يوحنا الحبيب في الفصل الثالث من إنجيله أنه «ليس أحد صعد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء ابن الإنسان الذي هو في السماء.» مبينا أنه يجوز القول: إن الله قد تألم.
وفي الوقت نفسه استدرك أونوريوس أن ليس من رأيه أن يصار إلى الكلام في الفعل الواحد والفعلين بعد أن تم هذا الاتحاد في الكنيسة.
15
وفي السنة 634 تبوأ العرش البطريركي في المدينة المقدسة راهب شديد الشكيمة قوي القلب، صفرونيوس الشهير، وكان قد سبق له أن أم القسطنطينية وهو لا يزال راهبا، واحتج على القول بالمشيئة الواحدة، فلما أصبح بطريركا عقد مجمعا محليا في المدينة المقدسة وحرم التعليم بالمشيئة الواحدة، وكتب إلى إخوانه البطاركة الآخرين كتابة صارمة ضد التعليم الجديد، فاضطرب البابا أونوريوس وكتب إلى صفرونيوس وغيره كتابة بمعنى رسالته المشار إليها آنفا، فلم ينتج عنها أي اتفاق؛ لغموضها وقلة صراحتها.
ولم يوفق كيروس كل التوفيق في مصر؛ فإن الساويريين وافقوه على القول بالمشيئة الواحدة، ولكن اليوليانيين والشيع الأخرى اعترضوا، فضايقهم كيروس بما أعطي من صلاحيات مدنية وسجنهم وعذبهم وقتل منهم فريقا، ففر رؤساؤهم إلى البراري ليعودوا إلى مصر مع العرب الفاتحين.
وتوفي صفرونيوس في السنة 637، سنة دخول العرب إلى المدينة المقدسة، فأصدر الإمبراطور دستور إيمان جديد سنة 638 عرف بالإكثيسيس
Ecthesis
وحتم فيه القول بالمشيئة الواحدة،
16
وعقد سرجيوس مجمعا في أواخر هذه السنة نفسها وصدق على الإكثيسيس، ثم أدركته الوفاة فخلفه بيرس ووافق على ما كان قد أقره سلفه.
وفي هذه السنة نفسها توفي البابا أونوريوس فخلفه سويرينوس (638-640) ومات دون أن يحرم القول بالمشيئة الواحدة، أما البابا يوحنا الرابع (640-642) فإنه حرم المشيئة الواحدة، وفي السنة 639 تم للعرب فتح الشام، فدخلوا أنطاكية، فصعبت الصلة وأوشكت تنقطع بين هذا المركز الديني والقسطنطينية، وفي السنة 641 توفي هرقل - والحالة على ما وصفنا.
وهنا يحسن التذكير بموقف الكنيستين الرئيستين من القول بالمشيئة الواحدة؛ فهذا القول - بحسب موقف الكنيستين - مردود؛ لأنه يناقض كمال اللاهوت والناسوت في السيد المسيح؛ فالطبيعة لا يمكن أن تكون كاملة وهي ناقصة الإرادة والفعل، والاعتقاد بالطبيعيتين يلزمه الاعتقاد بالمشيئتين والفعلين باتحاد وبلا انفصال، والمسيح لم يرد ولم يفعل شيئا من حيث هو إنسان فقط، بل من حيث هو إله وإنسان معا، بلا اختلاط ولا انقسام.
17
الفصل الخامس عشر
هرقل والعرب
630-641
النبي العربي والروم
ولما اشتدت الحرب بين الفرس والروم وبلغت أنباؤها إلى العرب، كان النبي والمسلمون منحازين بعاطفتهم إلى الروم؛ لأنهم كانوا - في نظرهم - أهل كتاب مثلهم، فأما كفار العرب فكانوا يميلون بعاطفتهم إلى الفرس؛ لأنهم مثلهم أميون، ولا أدل على ذلك من أن أبا بكر الصديق، وهو طليعة المسلمين، قد راهن أبي بن خلف، وهو من وجوه الكفار، على مائة بعير؛ أن الروم سينتصرون.
وكان الرسول قد استطاع أن يجمع حول رسالته عددا من أهم قبائل العرب، وكان قد استقر في يثرب واتخذها قاعدة عمله، ولكنه كان يسعى سعيا حثيثا لفتح مكة قاعدة العرب الدينية، وكان اليهود قد ناصبوه العداء، وأظهروا له الشر وقاتلوه، فانهزموا وخرجوا من يثرب شمالا إلى حدود الروم، وبعضهم وصل إلى أذرعات «درعة» في حوران، وكانوا يتصلون بالمشركين العرب فيحرضونهم على المسلمين، فعاد النبي إلى قتال اليهود، فضربهم ضربة شديدة في خيبر، ولما طلبوا الصلح فيها بعث إلى أهل فدك يخيرهم بين أن يسلموا أو يسلموا أموالهم، فصالحوه على نصف أموالهم من غير قتال.
وتجهز الرسول للعودة إلى المدينة عن طريق وادي القرى، فتجهز يهودها لقتال المسلمين وقاتلوهم، ولكنهم اضطروا للصلح، ففعلوا، وقبل يهود تيماء دفع الجزية بدون حرب، أما يهود واحات الجرباء ومقنا وأذرح؛ فإنهم كانوا أبعد إلى الشمال، وكان النبي لا يزال يستعد لفتح مكة وفرض سلطته عليها، فرأى - فيما يظهر - أن لا بد من جولة ثانية في الشمال يرهب بها اليهود هناك ويؤمن مؤخرته قبل الزحف على مكة مطمح أنظاره.
ويؤخذ من بعض النصوص أن النبي أرسل بعد صلح الحديبية خمسة عشر رجلا إلى ذات الطلح على حدود الشام، يدعون إلى الإسلام في منطقة هؤلاء اليهود الشماليين، فكان جزاؤهم القتل ولم ينج منهم إلا رئيسهم.
1
وجاء في بعض المراجع العربية أيضا أن الرسول أوفد بعد الحديبية إلى هرقل وكسرى والنجاشي، وإلى المقوقس، والحارث الغساني، والحارث الحميري، رسلا ورسائل يدعوهم بها إلى الإسلام، وأنه صنع لنفسه خاتما من فضة نقش عليه: «محمد رسول الله.» وختم به رسائله، وأنه كتب في رسالته إلى هرقل ما يلي: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن عبد الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيين.»
وتذكر هذه المراجع نفسها أن النبي دفع برسالته هذه إلى دحية بن خليفة الكلبي، وأن دحية هذا سافر إلى هرقل، فالتقاه في حمص في طريقه إلى المدينة المقدسة، وأن هرقل لم يغضب ولم تثر ثائرته، وأنه رد على الرسالة ردا حسنا.
وجاء في هذه المصادر العربية أيضا: «أن الحارث الغساني بعث إلى هرقل يخبره أن رسولا جاءه من محمد بكتاب يدعوه فيه إلى الإسلام، وأن الحارث استأذن سيده بأن يقوم على رأس جيش لمحاربة صاحب هذه الدعوة، وأن هرقل أجاب الحارث بأن يوافيه إلى المدينة المقدسة.»
ومما جاء في المصادر العربية أيضا أن شرحبيل بن عمرو الغساني قتل الحارث بن عمير الأزدي رسول النبي إلى صاحب بصرى في حوران، وأن النبي أنفذ حملة إلى حدود الروم؛ ليقتص ممن جرؤ على قتل رسوله.
ومما تشتمل عليه المصادر العربية أيضا أن المقوقس حاكم مصر بعث إلى النبي في الرد على رسالته يقول: إنه يعتقد أن نبيا سيظهر، ولكنه سيظهر في الشام، وتضيف هذه المصادر أن المقوقس بعث إلى النبي جاريتين وبغلة وحمارا وكمية من المال وبعض خيرات مصر، وأن النبي قبل هذه الهدية، وتزوج من إحدى الجاريتين ماريا، فولدت له إبراهيم، وأنه أهدى شيرين الجارية الثانية إلى شاعره حسان بن ثابت، وأنه أسمى البغلة الفريدة في بياضها دلدل، والحمار عفيرا أو يعفورا.
ويختلف علماء الفرنجة من رجال الاختصاص في تاريخ الروم والعرب في أمر هذه الرسائل؛ ففريق يراها صحيحة وآخر يشك في صحتها، وفي طليعة الفريق الأول بتلر صاحب كتاب فتح مصر، وبيوري صاحب التآليف العديدة في تاريخ الروم،
2
وبين الفريق الآخر كايتاني وديل،
3
والحجة الرئيسية لمن يعترض على صحة هذه الرسائل أن ابن إسحاق أقدم من كتب في السيرة لا يذكرها.
4
ولكن لا يخفى أن سكوت المصادر لا يتخذ حجة إلا بشروط معينة أبناها في كتابنا المصطلح،
5
والبحث في صحة هذه الرسائل يستوجب الرجوع إلى القرآن نفسه؛ لنرى إذا كان المراد به رسالة للعالمين أو رسالة خاصة بالعرب، وهو - في نظرنا - رسالة للعالمين دونما ريب، والنبي الذي حمل هذه الرسالة - بادئ ذي بدء - إلى أفراد قلائل من أقربائه أرادها في النهاية قوة تسيطر على العالم أجمع.
6
أما قول غريمه وكايتاني في أن القرآن أريد رسالة للعرب دون سواهم فإنه قول ضعيف لا يركن إليه.
7
ومهما يكن من أمر هذه الرسائل التي صدرت عن النبي إلى هرقل وغيره؛ فإن المراجع الأولية - العربية واليونانية - تجمع على أن النبي قد أنفذ في السنة 629 حملة مؤلفة من ثلاثة آلاف مقاتل إلى حدود الروم، إلى قرية المشارف، وأن المسلمين وصلوا إليها ثم انحازوا عنها إلى قرية مؤتة ليتحصنوا بها، وأن معركة حامية دارت رحاها في مؤتة وأسفرت عن مقتل عدد كبير من المسلمين، بينهم قائد الحملة زيد بن حارثة ربيب النبي، وجعفر بن أبي طالب، وأن خالد بن الوليد «دافع بالقوم وحاشى ثم انحاز وتحيز حتى انصرف بالناس.»
8
وأيا كانت الخاتمة التي لقيتها هذه الحملة، فإن نتائجها وآثارها كانت بعيدة المدى، فبينما رأى الروم فيها غارة كتلك التي اعتاد البدو أن يشنوها للسلب والنهب؛ كانت حملة ربيب النبي من نوع جديد ولم يقدر الروم أهميتها، فهي غارة منظمة قامت لتؤدي مهمة خاصة، وغدا انهزامها وقتل قائدها باعثا جعل المسلمين يتطلعون بأعين واسعة إلى الشام، كذلك أضحى تحرق المسلمين للأخذ بثأرهم قوة دفعت الأداة الحربية الإسلامية في انطلاقها السريع تطوي تلك البلاد.
9 «ولما أصيب جعفر ذهب محمد إلى منزله ودخل على زوجه أسماء بنت عميس، وكانت قد عجنت عجينها وغسلت بنيها ودهنتهم ونظفتهم، فقال لها: ائتيني ببني جعفر، فلما أتته بهم تشممهم وذرفت عيناه الدمع، ورأى ابنة مولاه زيد قادمة فربت على كتفيها وبكى.»
10
فلما كان العام التالي؛ أي السنة 630، قام الرسول بنفسه إلى حدود الروم في ظروف قاسية حرجة «في زمن عسرة من الناس وجدب من البلاد، وحين طابت الثمار وأحبت الظلال.»
11
فوصل بجمعه إلى تبوك، ولم تشتبك رجاله مع أي قوة رومية، ولكنه صالح أهل جرباء وأذرح ومقنا، وصالح يوحنا بن رؤبة صاحب أيلة في خليج العقبة: «بسم الله الرحمن الرحيم، هذه أمنة من الله ومحمد النبي رسول الله ليوحنة بن رؤبة وأهل أيلة سفنهم وسياراتهم في البر والبحر، لهم ذمة الله ومحمد النبي ومن كان معهم من أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر، فمن أحدث منهم حدثا فإنه لا يحول ماله دون نفسه، وإنه طيب لمحمد أخذه من الناس، وإنه لا يحل أن يمنعوا ماء يردونه ولا طريقا يردونه من بر أو بحر.» ودفع يوحنا مقابل هذا ثلاثمائة دينار جزية في كل عام.
وصالح النبي أكيدر بن عبد الملك ملك دومة - وكان نصرانيا أيضا - وذلك على جزية يدفعها كل عام،
12
واكتفى النبي بهذا، وعاد إلى المدينة بعد أن أقام في تبوك أسبوعين من الزمن.
الروم والنبي العربي
ولم يفقه الروم - فيما يظهر - كنه الرسالة العربية؛ فإن ما تبقى من آثار جدلهم الديني يظهر أنهم اعتبروا الإسلام خروجا آخر عن الكنيسة الأم من نوع خروج الذين قالوا بالطبيعة الواحدة والمشيئة الواحدة والآريوسيين وغيرهم، وظل شيء من هذا عالقا بأذهان بعض المفكرين الأوروبيين طوال العصور الوسطى، ومن هنا قول دنتي: إن محمدا خرج على النصرانية وبذر الشقاق فيها.
13
ونهج مؤرخو الروم نهجا مماثلا، فلم يكترثوا لظهور النبي العربي، ولم يكتبوا شيئا في الإسلام من ناحيته السياسية، وظنوا بادئ ذي بدء أن هذه القوات العربية ليست سوى عصابات صغيرة تبغي السلب والنهب كسائر عصابات البدو آنئذ.
14
أبو بكر الصديق والروم
وبقيت ذكرى هزيمة مؤتة تستفز المسلمين، فتوجه أنظارهم شطر الشام، فلما كانت السنة 632 أعد النبي جيشا جديدا لمهاجمة الروم، وأمر عليه أسامة ابن ربيبه زيد بن حارثة الذي سقط في ميدان مؤتة، على أن الوفاة عاجلت النبي في الثامن من حزيران من السنة نفسها قبل أن يتحرك الجيش، وتولى الخلافة بعده أبو بكر، وحدث ارتداد في القبائل العربية، ونصح الناصحون للخليفة ألا يفرق عنه جماعة المسلمين، ولكن الخليفة قال: «والذي نفس أبي بكر بيده لو ظننت أن السباع تخطفني لأنفذت بعث أسامة كما أمر به رسول الله.»
15
وغزا أسامة يبنة بين عسقلان ويافة وسلم وغنم وعاد في أربعين يوما،
16
ونهض في هذه السنة نفسها خالد بن سعيد إلى بلاد الروم، وأوغل في بلاد الشام حتى اقترب من دمشق، فانهزم وعاد إلى المدينة.
وبعد انتهاء حرب الردة أعد أبو بكر جيوشا أربعة وسيرها على الشام وعقد ألويتها لأبي عبيدة بن الجراح ولعمرو بن العاص وليزيد بن أبي سفيان ولشرحبيل بن حسنة، وأمر أبا عبيدة أن يتجه نحو حمص، وأمر عمرا أن يقوم إلى فلسطين، وأمر يزيد أن يصل إلى دمشق، وأمر شرحبيل أن يأتي الأردن،
17
فانتصر يزيد بن أبي سفيان في أوائل السنة 634 على سرجيوس بطريق فلسطين، في وادي عربة المنخفض العظيم جنوبي البحر الميت، وكان حامل اللواء الإسلامي معاوية - مؤسس الدولة الأموية فيما بعد - وارتد الروم على غزة فاقتتل الطرفان مرة ثانية في داثن في الرابع من شباط من السنة نفسها واندحر الروم مرة أخرى، أما الجيوش الثلاثة الأخرى فقد أوقع بها الروم ووقفوا تيار زحفها.
ويرى المستشرق المستعرب كارل بكر أن نجاح أبي بكر بحروب الردة في قلب الجزيرة العربية؛ قد أكسبه مهابة وعظمة في نفوس عشائر بكر بن وائل الضاربة عند حدود العراق الغازية في أطرافه، وأن هذه المهابة جعلت تلك العشائر تصادق من وراءها من العشائر والقبائل الأخرى التي كانت قد اعتنقت الإسلام، ويزيد بكر أن المثنى بن حارثة كبير بني شيبان الوائلي الذي اشتهر بانتصاره على الفرس في موقعة ذي قار (604 أو 606) هو الذي استدعى خالد بن الوليد وجماعته إلى حدود العراق لمحاربة الفرس.
ومن الناحية الثانية يرى بكر أن أبا بكر ومن حوله اضطروا اضطرارا أن يلهوا من أسلم من القبائل العربية بغزو العراق؛ كي لا تعود هذه القبائل إلى غزو بعضها - كما جرت عادتها من قبل - فتنتهك بذلك حرمة الإسلام، والمسلم أخو المسلم، ويرى أيضا أن خروج العرب المسلمين إلى العراق سبق خروجهم إلى الشام.
18 «وشجا جموع المسلمين في الشام وأشجوا.» فكتب أبو بكر إلى خالد بن الوليد أن يؤمر على العراق المثنى، وأن يسير إلى الشام، فهب خالد على رأس جماعته وكانت حروب الردة والعراق قد صهرت جنوده وأورثتهم مناعة وقوة.
بدأ بالزحف من الحيرة إلى صندوداء فلقيه أعرابها فظفر بهم، ثم لقيه جمع بالمصيخ والحصيد، عليهم ربيعة بن بجير التغلبي، فهزمهم، ثم سار من قراقر إلى سوى فأغار على أهل سوى واكتسح أموالهم وقتل حرقوص بن النعمان البهراني، ثم أتى أرك فصالحوه، وأتى تدمر فتحصنوا ثم صالحوه، ثم أتى القريتين فقاتلهم، فظفر بهم، وأتى حوارين فقاتلهم، فهزمهم، وأتى قصم فصالحه بنو مشجعة من قضاعة.
وأتى مرج راهط من مضارب الغساسنة قرب عذراء وعلى بعد عشرين كيلومترا من دمشق فأغار على غسان في يوم فصحهم وقتل وسبى، ووجه بعض رجاله إلى الغوطة فأتوا كنيسة فسبوا الرجال والنساء وساقوا العمال إلى خالد، ونزل على قناة بصرى وعليها أبو عبيدة وشرحبيل ويزيد، فاجتمعوا عليها، فرابطوها حتى صالحت على الجزية في آذار من السنة 634.
19
وكان عمرو بن العاص قد سلك طريق أيلة «العقبة» فأغار على جنوبي فلسطين حتى غزة وقيصرية، فقطع المواصلات بين المدينة المقدسة وبين الساحل، فجيش هرقل جيشا كبيرا في نقطة وقعت إلى جنوبي دمشق وعقد لواء هذا الجيش إلى أخيه القبقلار ثيودوروس،
20
وصعب على ثيودوروس أن يستجلي خطة خصمه في الحرب، ولعل سبب ذلك أن هذه القبائل المغيرة لم تكن لها خطة عسكرية واضحة، وتقدم ثيودوروس ببطء واتجه جنوبا للدفاع عن المدينة المقدسة، فرابط في أجنادين بين القدس وغزة، وخشي خالد سوء العاقبة على إخوانه في الجنوب، وكان مترفعا نبيلا، فلم يحفل بإمكانات السلب والنهب بل أسرع إلى الجنوب عبر شرقي الأردن، وجمع الجموع في وادي عربة، ثم دفع بها إلى فلسطين لمجابهة ثيودوروس، وفي الثلاثين من تموز سنة 634 نشبت معركة حامية بين الروم والعرب المسلمين في أجنادين، وكتب النصر للعرب، فجلا الروم عن أرياف فلسطين كلها، ولم يبق لهم فيها سوى مدنها المحصنة،
21
ويستدل من العظة التي ألقاها صفرونيوس بطريرك المدينة المقدسة يوم عيد الميلاد من هذه السنة؛ أن العرب غشوا فلسطين كلها بعد أجنادين وأن الفوضى عمت الأرياف بأسرها، وأنهم تقدموا شمالا حتى حدود حمص.
22
عمر الكبير والروم
وتوفي أبوك بكر بعد أجنادين، وتولى الخلافة عمر بن الخطاب، وكانت قبائل اليمن وما يليها من الجنوب قد بدأت تسمع بانتصارات خالد وغيره، فهبت تلبي النداء بمجموعها رجالا ونساء وأطفالا، فرأى الخليفة الكبير - بثاقب بصره - أن لا بد من التنظيم، فوحد الجيوش، ووحد القيادة، وعقد لواءها إلى خالد بن الوليد، وجمع هرقل البقية الباقية من جنوده في دمشق، واستدعى أخاه ثيودوروس إلى القسطنطينية وأمر على الجيش في سورية القائد بانس.
ورأى هذا القائد أن يصمد في وجه العرب في فحل التي كانت تسيطر آنئذ على مجاز الأردن في جنوب بحيرة طبريا وتحمي الطريق المؤدية إلى دمشق، وهدم بانس سدود المياه ليعرقل سبل الفاتحين، ولكن هؤلاء استولوا على فحل بالقوة في الثالث والعشرين من كانون الثاني سنة 635 وتابعوا السير إلى دمشق. وفي الخامس والعشرين من شباط سجلوا نصرا آخر على جيش الروم في مرج الصفر على بعد ثلاثين كيلومترا من دمشق إلى جنوبيها، وفي ظرف أسبوعين من الزمن ظهروا أمام أسوار دمشق وضربوا الحصار عليها وشددوه، فتضايق السكان، فتآمروا على الجند المدافع فاتصلوا بالعرب، فكتب إليهم خالد يقول:
بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى خالد بن الوليد أهل دمشق إذا دخلها، أعطاهم أمانا على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم، وسور مدينتهم لا يهدم، ولا يسكن شيئا من دورهم، لهم بذلك عهد الله وذمة رسوله
صلى الله عليه وسلم
والخلفاء والمؤمنين، لا يعرض لهم إلا بالخير إذا أعطوا الجزية.
23
وفتح الباب الشرقي في آب أو أيلول من السنة 635 ودخل العرب المسلمون إلى دمشق واستولوا عليها وجعلوا الجزية دينارا وجريبا، وهو مكيال من الحنطة على الرجل الواحد، «ثم تساقطت بعد ذلك حمص وبعلبك وحماه وسواها من المدن كتساقط أوراق الخريف»،
24
وذلك في أواخر السنة 635، وخرج أهل شيزر يكفرون ومعهم المقلسون فأذعنوا.
25
وكان هرقل في أثناء هذا كله يسعى بنشاط بين أنطاكية والرها لتجييش قوة كبيرة، يتمكن بها من صد العرب، وإنقاذ سورية الجنوبية وفلسطين والعربية، وبرغم خسارته الكبيرة في الرجال إبان الحرب الفارسية، وبرغم قلة المال في الخزينة؛ فإنه حشد في خريف السنة 635 من الروم والأرمن والعرب حوالي خمسين ألفا، وأمر عليهم ثيودوروس تريثوريوس، وأنفذهم في ربيع السنة 636 إلى سورية، وكان خالد آنئذ في حمص يتفقد الجبهة، فلما علم بقدوم هذا الجيش الكبير جلا عن حمص ودمشق وسائر المدن المجاورة، وجمع ما لديه من الرجال خمسة وعشرين ألفا، وانتقى وادي اليرموق، أحد روافد الأردن الشرقية، فصمد فيه، وقام الروم من حمص عبر البقاع إلى جلين واتخذوها قاعدة لهم.
وتناوش الفريقان وتناول بعضهم بعضا في معارك صغيرة ردحا من الزمن، وفيما خالد ينتظر وصول المدد، كان الروم يتخاصمون فيما بينهم بدافع الحسد وقلة الانضباط، فانهزم ثيودوروس في عدد من تلك المناوشات، فنادى الجند ببانس فسيلفسا، وامتنع حلفاء الروم من العرب عن القتال وانسحبوا من الميدان، فجاءت هذه الفوضى وجاء هذا الانسحاب في مصلحة العرب المسلمين، واغتنم خالد هذه الفرصة السانحة، فقام بحركة التفاف حول الروم من الشرق فقطع خط اتصالهم بدمشق، ثم احتل الجسر فوق وادي الرقاد فحرمهم إمكان التراجع غربا.
وفي الثاني والعشرين من آب سنة 636 انقض عليهم بفرسانه المجربين فقتل من قتل وشرد من شرد، وبذلك انقطع كل إمكان للروم بأن يصمدوا في سورية.
وفي خريف هذه السنة نفسها عاد العرب إلى دمشق فدخلوها آمنين، وكان الخليفة أعلم الناس بخالد، يقدر مواهبه ويعرف مواضع ضعفه، وكانت الحرب قد تطورت تطورا كبيرا في مصلحة العرب الفاتحين ولكن إدارة البلدان المفتوحة كانت لا تزال ضعيفة تفتقر إلى التنظيم، وكانت ثمة مشاكل إدارية وسياسية، ولم يكن خالد رجل إدارة وسياسة، فرأى عمر أن لا بد من وجود وال أعلى يمثل الخليفة في الشام ويدير سياستها بحكمة ولباقة، فانتقى لهذا المنصب أبا عبيدة وأرسله إلى الشام حاكما مفوضا، ووصل أبو عبيدة قبيل موقعة اليرموق ولكنه أبقى القيادة بيد خالد؛ لأنه كان أعلم منه بتفاصيل الحرب وأقدر عليها، فلما انتهت المعركة تسلم أبو عبيدة مقاليد الأمور فوزع السلطات العسكرية بحكمة ودراية واحتفظ بخالد ملحقا به، واتجه شمالا ولم يلق مقاومة تذكر قبل قنسرين «خلقيس»، فدخل بعلبك وحمص وحلب وأنطاكية بسهولة.
26
عودة الروم إلى الميدان
وقضى هرقل سنة مستجما بعيدا عن ميدان القتال، وكانت الجزيرة بين العراق والشام لا تزال خاضعة للروم، فراسلت قبائلها العربية النصرانية هرقل تطلب منه العون على مهاجمة العرب المسلمين، فراسلها بدوره، وحضها على التجمع ريثما تتلقى مددا يأتيها بحرا من مصر، وأقبل هرقل يعد الجيوش مرة أخرى، وجدد الأمل بنوع خاص لأن معظم ثغور الشام على البحر كانت لا تزال خاضعة له وطريق البحر لا يزال مفتوحا أمامه، وفي السنة 638 أبحرت جيوش الروم من الإسكندرية بقيادة قسطنطين بن هرقل، وألقت الحملة مرساها في اللاذقية أو السويدية وزحفت على أنطاكية فاستولت عليها وانضمت إلى القبائل العربية النصرانية في الجزيرة،
27
وألفى أبو عبيدة نفسه محصورا في حمص، على حين يسير أعداؤه لمحاربته برا وبحرا، فكتب إلى الخليفة في الحجاز يستنجده كما عقد مؤتمرا عسكريا للتشاور في الوضع الحربي، فاستقر الرأي على التزام التريث والدفاع، ولكن خالدا قال بالمبادرة إلى مهاجمة العدو. وأمر الخليفة في الوقت نفسه القعقاع - أحد قادة المسلمين في العراق - أن يتوجه بأسرع ما يمكن لإمداد أبي عبيدة، وجمع الخليفة النجدات من الجزيرة العربية، وسار بنفسه على رأسها متجها نحو الشام.
وكانت خطة المسلمين - فيما يظهر - ترمي إلى إخراج القبائل العربية النصرانية في الجزيرة من دائرة الدفاع البيزنطي، وبذلك يتيسر للعرب المسلمين أن يلاقوا الجيش البيزنطي وحده معزولا، فانطلق سهيل بن علي وعبد الله بن عتبان للقيام بحركة التفاف حول أراضي الجزيرة بين العراق والشام ومهاجمة قبائلها، وكان لتعجيل المسلمين في إرسال النجدات وسرعة حركاتهم أثر في إلقاء الرعب في نفوس القبائل في الجزيرة، فتخلت هذه القبائل عن الروم وقفلت راجعة إلى مضاربها مؤثرة السلامة،
28
وبادر العرب المسلمون بالهجوم على الروم، فأظهر هؤلاء بأسا كان كفيلا بصد المسلمين العرب لو ظلت القبائل النصرانية على تعضيدهم ومساعدتهم، ولكن مقاومة الروم انهارت، وانسحبوا بحرا إلى الإسكندرية والقسطنيطينية.
29
عرب الشام والعرب الفاتحون
وتحفظ لنا المراجع العربية أسماء بعض القبائل العربية التي كانت ضاربة في بادية الشام وفي الأرياف عند فجر الإسلام، وليس في هذه المصادر ما ينبئ بتأييد هذه القبائل لإخوانهم العرب الفاتحين،
30
وقبائل البادية لم تذعن لخالد بن الوليد إلا مكرهة، والغساسنة اعتدوا على رسول الرسول، وغسان وقضاعة وقفوا إلى جانب الروم في اليرموق، وهرقل: «نزل أنطاكية ومعه من المستعربة لخم وجذام وبلقين وبلي وعاملة.» وبعض هذه القبائل «مضى مع هرقل إلى بلاد الروم بعد أن استتب الأمر للمسلمين في الشام.»
31
نصارى الشام والعرب
ويرى عدد من المستشرقين المستعربين، ومن رجال الاختصاص في تاريخ الروم أن اختلاف النصارى حول الطبيعة الواحدة والمشيئة الواحدة وضغط الروم على من لم يشاركهم قولهم في العقيدة؛ قد حمل قسما كبيرا من نصارى الشام على الترحيب بالعرب الفاتحين، ويغيب عن بال هؤلاء أن هذه القبائل العربية التي وقفت إلى جانب هرقل في وجه العرب الفاتحين كانت درع من قال بالطبيعة الواحدة، وأن هرقل كان قد ثبت في رئاسة الكنيسة الأنطاكية بطريركا قال بالطبيعة الواحدة، هو أثناسيوس المشار إليه في الفصل السابق، وأن بابا رومة أونوريوس وجميع البطاركة - ما عدا صفرونيوس بطريرك المدينة المقدسة - كانوا قد وافقوا هرقل على القول بالمشيئة الواحدة، أو سكتوا عن ذلك.
فلا يجوز - بإزاء هذه الحقائق الناصعة - أن نتقبل قول أفتيخيوس إن أبناء حمص رأوا في هرقل إمبراطورا «مارونيا» عدوا للدين القويم؛ لأنه قال بالمشيئة الواحدة،
32
ولا أن نتبنى قول البلاذري بأن نصارى الشام آثروا عدل المسلمين العرب على استبداد الروم وإهانتهم؛
33
لأن الشهادتين بحاجة إلى الجرح والتعديل؛ فالشاهد الأول دون في القرن العاشر، والثاني في القرن التاسع، والحوادث المروية جرت في القرن السابع، وكذلك فإن القولين صدرا في وقت كان النصارى فيه بحاجة إلى الملاطفة والمداهنة والتملق. ونرى أيضا أن المستشرق المستعرب ده غويه يضل فيعدل عن الحق عندما يرى في حروب الفتح محاولة لتحرير عرب الشام من ظلم الروم واضطهادهم.
34
لماذا خسر الروم
ونحن نرى أن حروب الفتح في الشام كانت في نظر الروم وعرب الشام حروبا دينية سياسية قبل كل شيء، وأن نصارى الشام من الروم والعرب والسريان وقفوا إلى جانب الروم قدر المستطاع، وأن الروم لم يتمكنوا من صد الهجوم العربي الإسلامي؛ لأن الحرب الفارسية كانت قد استنفدت قواهم في المال وفي الرجال، ومن هنا إهمال الحصون، وإبطال الجراية التي كانت توزع على قبائل الحدود، ومن هنا أيضا قلة الانضباط وكثرة التمرد والفوضى.
عمر وفتح مصر
وجاءت حركة هرقل الأخيرة في أنطاكية وشمالي سورية حافزا قويا حمل قادة العرب المسلمين على إعادة النظر في الموقف الحربي، فعقد الخليفة مؤتمرا في الجابية درس فيه الموقف مع قادة جيوشه، وكانت مصر هي القاعدة التي انسحب إليها الأرطبون
Areteon ، «وكان الأرطبون أدهى الروم وأبعدهم غدرا.»
35
ولعله رأى أن التجمع في منطقة آمنة يشن منها هجوما جديدا على العرب المسلمين أجدى من البقاء في الشام؛ ولذا تراجع عن فلسطين وذهب إلى مصر.
وكانت مصر أيضا القاعدة التي انطلقت منها حملة قسطنطين بن هرقل على أنطاكية، وكان البحر لا يزال في أيدي الروم يمدون منه قيصرية فلسطين بالمؤن والذخائر والرجال، وكانت قيصرية لا تزال صامدة في وجه عمرو بن العاص،
36
فهي لم تسقط في أيدي العرب المسلمين قبل السنة 640، وكانت مصر تطل على الحجاز، على مكة والمدينة، وقد ينطلق الروم منها إلى الحجاز مباشرة فيصيبون الحركة الإسلامية في منابعها الرئيسة، وكانت مصر أيضا لا تزال أهراء القسطنطينية ومركز تموينها، وجاء في كتاب فتح مصر لابن عبد الحكم أن عمرو بن العاص كتب إلى عمر يقول: «إن فتحتها كانت قوة للمسلمين وعونا لهم، وهي أكثر الأرض أموالا.»
37
ولا بد من أن يكون قد شارك عمرو في رأيه هذا رجال الثروة والمال في مكة، فطبيعي أن يكون هؤلاء قد لمسوا عظمة التجارة بين الشرق والغرب، تلك التجارة التي كانت تمر عبر مصر ولبنان وسورية، وبعضها كان يمر بين أيدي الأثرياء المكيين قادما من الجنوب ليبلغ إلى ساحل مصر وفلسطين. وليس من المستبعد أن يكون عمرو بن العاص، وعثمان بن عفان، والمغيرة بن شعبة، وغيرهم من تجار مكة؛ قد زاروا مصر قبل الإسلام، وشاهدوا بأم العين اتساع الحركة التجارية فيها - كما جاء في أخبار ابن عبد الحكم وأخبار السيوطي.
38
ويرى المستشرق المستعرب فيات
Wiet
أن مدينة قفط في الصعيد كانت قد أصبحت نصف عربية قبل الإسلام.
39
وهكذا، فإن الدوافع التي حملت الخليفة عمر في مؤتمر الجابية أن يمنح عمرا سلطة فتح مصر؛ كانت دوافع جوهرية، ولم يكن هذا الخليفة الكبير مغامرا؛ فإنه عرف بحبه للتأني، وحرصه على أن لا يعرض قواته للخطر؛ ولهذا يجب إعادة النظر في الكتاب الذي قيل: إنه أرسله إلى عمرو، وعمرو في طريقه إلى مصر، يأمره فيه بالعودة إن لم يكن قد وصل إلى مصر أو بالسير قدما في وجهته إن كان قد دخل الأرض المصرية عند تسلمه الكتاب؛ فهذا قول لا تشجع الحوادث على قبوله، ولا يتفق وما عرف من كياسة عمر الخليفة الكبير.
40
وسار عمرو بن العاص من قيصرية فلسطين إلى مصر في كانون الأول من السنة 639، على رأس بضعة آلاف مقاتل، فلقي مقاومة في الفرما
شرقي بورسعيد أوقفته شهرا كاملا، ثم تغلب عليها في أوائل السنة 640، وتقدم منها إلى بلبيس، فأم دنين
Tendounya ، فتحصن الروم في حصن بابليون على رأس الدلتا، وعسكر العرب في عين الشمس
Heliopolis ، واشتدت مقاومة الروم برئاسة البطريرك كيروس «المقوقس» وقيادة ثيودوروس أخي الفسيلفس، واستنجد عمرو الخليفة فأمده ببضعة آلاف رجل بقيادة الزبير بن العوام، وبرغم تضاعف القوة فإن العرب المسلمين لم يقدروا على مهاجمة الحصن؛ لأنه كان منيعا، ولأنهم كانوا في فقر إلى أدوات الحصار، فاكتفوا بسد المنافذ على الحصن، وطال الحصار بضعة أشهر، وكانت مفاوضات بين كيروس وعمرو، وسافر كيروس إلى القسطنطينية؛ ليعرض نتيجة هذه المفاوضات على الفسيلفس، فاتهمه هذا بالخيانة ونفاه، وتوفي هرقل في الحادي عشر من شباط سنة 641، فانبعثت اختلافات داخلية قديمة، حالت دون إرسال المدد إلى حصن بابليون، فدخله العرب في السادس من نيسان من هذه السنة نفسها.
41
وبسقوط حصن بابليون مفتاح مصر السفلى والعليا انتشر العرب في ريف مصر السفلى، وتجمعت حاميات الروم بالإسكندرية، فسار عمرو بن العاص لمحاصرتها، وكانت حصونها منيعة تحميها غياض وبحيرات، وكان البحر لا يزال بيد الروم فكان يأتيها منه المدد، فطال أمر حصارها. وخلف هرقل ابنه قسطنطين الثالث، وكان لا يزال حدثا وشاركته والدته مرتينة في الحكم. وكثرت القلاقل في عاصمة الروم، واستفحل أمر اللومبارديين في إيطالية، فأعادت مرتينة البطريرك كيروس إلى الإسكندرية؛ ليفاوض العرب في الصلح، فلما بلغها سار توا إلى بابليون وفاوض عمرو بن العاص، فانتهى الأمر بينهما إلى صلح الإسكندرية في الثامن من تشرين الثاني سنة 641. وأبرز شروط هذا الصلح الجزية لمن بقي في مصر، والأمن لمن رحل عنها، والهدنة أحد عشر شهرا؛ ليتسنى للجيش ولغيره من المدنيين الرحيل.
42
موقف الأقباط من العرب الفاتحين
ويختلف المؤرخون المحدثون في هذا، فبتلر صاحب كتاب فتح العرب لمصر
43
يرى أن الإسلام لم يدخل مصر من غير حرب، وأن القبط لم يرحبوا بالفتح العربي، وينبري للرد عليه نفر من المؤرخين، نذكر منهم الدكتور شكري فيصل، الأستاذ في الجامعة السورية؛ فهو يرى أن المتقدمين من مؤرخي الإسلام يذكرون في مواقف كثيرة أن الأقباط كانوا عونا للمسلمين في فتوحهم وأن من يتتبع هذه النصوص الأولية يخرج بفكرة: أن ميول القبط لم تكن - على الأقل - معادية للحركة الإسلامية، وأن الاضطهاد الذي حل بالأقباط في السنوات العشر التي قضاها المقوقس «البطريرك كيروس» على رأس الإدارة المدنية والدينية في مصر؛ قد دفع الأقباط أن يستشرفوا في حركة الفتح العربي نوعا من الإنقاذ.
44
وقد فات حضرة الزميل المؤرخ أنه لما وصل كيروس إلى الإسكندرية وتبوأ العرش البطريركي فيها كتب اعترافا بإيمانه بالمشيئة الواحدة، ودعا من قال بالطبيعة الواحدة من الأقباط في مصر للموافقة عليه، فقبله الساويريون فورا فلاينهم البطريرك، ورفضه اليوليانيون فضيق عليهم،
45
وفاته أيضا أن شهادة الأسقف يوحنا النقيوسي أقرب في الزمن إلى الحوادث المروية من شهادات المراجع الإسلامية العربية،
46
وقد تكون الحقيقة التاريخية المنشودة وسطا بين القولين؛ أي أن معظم الأقباط وقفوا إلى جانب النصرانية والروم، وأن بعضهم؛ أي اليوليانيين، رحبوا بالعرب المسلمين.
هذا، وقواعد المصطلح تقضي بالابتعاد عن التعميم في أمور تشمل الألوف ومئات الألوف من الناس.
47
الفصل السادس عشر
خلفاء هرقل
641-717
مرتينة
وتوفي هرقل في الحادي عشر من شباط سنة 641، وتولى العرش بعده - في آن واحد - كل من ولديه قسطنطين الثاني وهرقلون، على أن يحكما بإشراف الفسيلسة مرتينة زوجة هرقل الثانية ووالدة هرقلون. ولكن الشعب لم يرض أن تتولى أموره امرأة، فاضطرت مرتينة أن تحتجب شكلا، وأن تدير دفة الحكم بالتعاون مع البطريرك بيروس.
1
وتوفي قسطنطين الثاني في أواخر أيار من السنة 641 مسموما، فاتهمت مرتينة بقتل ابن ضرتها؛ لكي يستأثر ابنها هرقلون وحده بالحكم، وتمرد الجند في آسية الصغرى بزعامة أحد أخصاء قسطنطين في تشرين الأول من السنة نفسها، وزحفوا على خلقيدونية وأكرهوا مرتينة على إشراك قسطنطين الثالث ابن قسطنطين الثاني في الحكم، واستقال البطريرك بيروس، ونشبت ثورة في العاصمة في مطلع السنة 642 لا تزال أسبابها مجهولة، فقطع لسان مرتينة وجدع أنف هرقلون ونفيا إلى رودوس، وتولى الحكم قسطنطين الثالث وهو بعد في الحادية عشرة من عمره.
قسطنطين الثالث (641-668)
ويدعى قسطنس الثاني أيضا، وقد عمل على استرداد مصر والشام، وأنفذ في أواخر السنة 645 حملة على مصر بقيادة مانويل، فجاءت مفاجأة للعرب المسلمين، وسقطت الإسكندرية في يد الروم واتخذها مانويل قاعدة للتوغل في وادي النيل، وتغلغل في الدلتا وكاد يكتسح الموقف، ولكن الخليفة عثمان بن عفان أعاد عمرو بن العاص إلى قيادة الجيش العربي الإسلامي في مصر، فأنزل عمرو بخصمه مانويل هزيمة شنعاء عند نيقيوس، فتقهقر مانويل إلى الإسكندرية واعتصم بها، وتبعه عمرو بن العاص لحصارها وتمكن من الدخول إليها بخيانة أحد حراسها فافتتحها في أوائل السنة 646.
وجاء في المواعظ للمقريزي أن عمرا أقسم - إن هو استولى عليها - أن يهدم أسوارها ويجعلها كبيت الزانية يؤتى من كل مكان،
2
وكان قسطنطين الثالث قد أنفذ في الوقت نفسه حملة ثانية لمهاجمة الشام، فمنيت - بدروها - بالفشل، وكان الذي صدها معاوية،
3
ورأى عثمان بن عفان وحكومته أن لا بد بعد هذا من إنشاء أسطول لرد هجمات الروم في البحر، وكانت أحواض الروم في الإسكندرية وعكة قد وقعت سالمة في يد العرب الفاتحين، فأنشأ عثمان فيها أول أسطول عربي، ولعله استعان بأخشاب لبنان، ولا سيما حرج بيروت وببحارة الساحل اللبناني وساحل مصر،
4
واستهل نشاطه البحري بهجوم على قبرص في السنة 649 وباحتلال جزيرة أرواد في السنة 650. ويرى الزميل الدكتور إبراهيم أحمد العدوي - بحق - أن احتلال العرب لقبرص لم يكن دائما، وإنما توالى الأخذ والرد على هذه الجزيرة بينهم وبين الروم،
5
وجهز قسطنطين الثالث عمارة بحرية كبيرة، وقادها بنفسه في السنة 655 للقضاء على استعدادات العرب البحرية، فكانت موقعة بحرية كبيرة عند فونكس قرب شاطئ ليقية في آسية الصغرى، دعاها العرب معركة ذات الصواري لكثرة السفن ذات الصواري فيها، وقد وفق فيها العرب إلى نصر حاسم،
6
ثم كانت الفتنة التي قتل فيها عثمان سنة 656، ونشبت حرب أهلية في صفوف العرب المسلمين، فقدر لرمال الصحراء الأفريقية ولجبال طوروس أن تقف سنوات حدا فاصلا بين العرب والروم.
وانتهز قسطنطين الثالث هذه الفترة من الهدوء في الخارج لإعادة النظر في إدارة الدولة، فأدخل بعض التعديلات التي سينظر فيها في فصل لاحق، وفي هذه الفترة أيضا عالج مشكلة المشيئة الواحدة، وكان جده هرقل - كما تقدم معنا - قد بدأ منذ السنة 622 يفاوض في أمر المشيئة الواحدة، وكان قد أجمع على القول بها منذ السنة 629 جميع البطاركة وبينهم البابا أونوريوس.
وكان هرقل قد أصدر في السنة 638 دستور إيمان رسمي عرف بالإكثيسيس أوجب به قبول المشيئة الواحدة، وكان البطريرك بيروس قد استعفى على إثر هياج الشعب في العاصمة ضد الفسيلسة مرتينة ربيبته، وهاجر إلى أفريقية، وكان قد قام بينه وبين مكسيموس جدال حول المشيئة الواحدة انتهى باقتناع بيروس سنة 645 ورجوعه عن هذه البدعة.
وكان بيروس قد كتب إلى بولس الثاني خليفته على عرش كنيسة القسطنطينية يهدده بالقطع إن لم يرجع عن الهرطقة ويرفع الإكثيسيس عن أبواب الكنائس، وكان بيروس ومكسيموس قد رحلا معا إلى رومة فأيدهما البابا ثيودوروس الأول (642-649)، فألغى قسطنطين الثالث الإكثيسيس وأصدر التيبوس
Typon
محظرا به كل تعليم بالمشيئة الواحدة أو المشيئتين. ثم كان أن تبوأ عرش كنيسة رومة في السنة 649 البابا مرتينوس الأول (649-655) فعقد مجمعا حرم فيه الإكثيسيس والتيبوس، وطلب إلى الفسيلفس أن يعزل البطريرك بولس الثاني ويقيم غيره أرثوذكسيا، فاستعظم قسطنطين الثالث هذا الطلب وقبض على البابا وقيده بالسلاسل هو ومكسيموس وحكم عليهما بالعصيان.
وتوفي البابا في المنفى بعد شدائد قاسية، وحاول قسطنطين الثالث أن يكره مكسيموس على القول بالتيبوس فلم يفعل، فغضب عليه وأمر بجلده ثم بقطع لسانه ويمينه، فمات في السنة 662، أما بيروس فإنه بعد أن رفض بدعته عاد إلى القول بها، ثم رجع إلى القسطنطينية فنصب بطريركا للمرة الثانية بعد وفاة بولس الثاني، ولكنه ما لبث أن توفي بعد خمسة أشهر سنة 652.
وأساء قسطنطين الثالث الظن بأخيه ثيودوسيوس، فألبسه ثوب الرهبنة ثم قتله، فثار به ضميره، وأصبح أخوه يتراءى له حاملا كأسا من دمه ويقول له: «يا أخي اشرب»، فكره الإقامة في المدينة التي ارتكب فيها إثمه ونزح عنها. وفي السنة 662 ذهب إلى رومة فاستقبله فيها البابا ويتاليانوس بالحفاوة والإكرام، واغتاظ الشعب في القسطنطينية لسفره وتغيبه ولم يرض أن يتبعه في السفر زوجته وأولاده. ثم بعد ست سنوات ضربه خادم حمامه في سرقوصة بصندوق من الصابون على رأسه فتوفي في السنة 668.
قسطنطين الرابع (668-685)
وفي أثناء غياب قسطنطين الثالث في إيطالية وصقلية كان ابنه قسطنطين الرابع يسوس الملك وهو بعد فتى، فلما علم بقتل والده ونشوب الثورة في صقلية نهض إليها فأخذ بالثأر وعاد والشعر قد نبت في وجهه، فلقب بالألحى
.
ولما كانت الغاية التي من أجلها صدر الإينيتكون «كتاب الاتحاد» في عهد زينون (474-491) وتبعته الفصول الثلاثة في عهد يوستنيانوس (527-565)، ثم صدر الإكثيسيس في عهد هرقل (610-641)، والتيبوس في عهد قسطنطين الثالث (641-668)؛ لما كانت الغاية من هذه النشرات كلها قد زالت بدخول الولايات السورية والمصرية والأرمنية في حكم العرب المسلمين، ولم يبق ثمة موجب سياسي للتساهل في أمر العقيدة؛ فإن قسطنطين الرابع أخذ يسعى لاستمالة أساطين الكنيسة الأم الكاثوليكة الأرثوذكسية، فمنح - بادئ ذي بدء - بابا رومة سلطة على متروبوليت رابينة، وعزل في السنة 678 البطريرك ثيودوروس عن عرش كنيسة القسطنطينية وأقام جاورجيوس بطريركا محله، وأعلن عزمه على عقد مجمع لملافاة الانشقاق، وكتب إلى بابا رومة وإلى سائر الأساقفة يدعوهم إليه، فلما تلقى البابا أغاثون كتاب الفسيلفس عقد مجمعا محليا سنة 679 أيد فيه قرار البابا مرتينوس وانتخب القسين ثيودوروس وجاورجيوس والشماس يوحنا نوابا عنه، وأرسلهم إلى القسطنطينية حاملين الوثائق اللازمة.
المجمع المسكوني السادس
وفي السنة 680 عقد في القسطنطينية المجمع المسكوني السادس، وكان موضع انعقاده قاعة البلاط المقدس، وهي القاعة التي تدعى اطرولوس
Trollus ؛ أي قاعة القبة، واشترك في أعمال المجمع 170 أسقفا في طليعتهم البطريرك القسطنطيني جاورجيوس، والمتروبوليت إسطفانوس رئيس أساقفة هرقلية، والمتروبوليت يوحنا رئيس أساقفة آثينة، وثلاثتهم من علماء عصرهم المشاهير، وجلس الفسيلفس في صدر المجمع يحيط به مجلس قضاة الدولة، وإلى يمينه البطريرك القسطنطيني جاورجيوس، فالبطريرك الأنطاكي مكاريوس، فنائب بطريرك الإسكندرية، وإلى يساره نواب بابا رومة فنائب بطريرك المدينة المقدسة، ووضع الإنجيل المقدس في الوسط، وقام نواب البابا قالوا: «إننا بحسب المرسوم الصادر عن دولتكم التي أقامها الله إلى بابانا الجزيل القداسة؛ قد جئنا من قبل البابا، ومعنا منه معروض ومعروض آخر مجمعي من الأساقفة الخاضعين له، وقد سلمنا المعروضين إلى دولتكم ذات المقام السامي.»
ثم شكوا الهرطقة ومخترعيها والبطاركة سرجيوس وبيروس وبطرس وكيروس وغيرهم وقالوا: «نناشد رجال كنيسة القسطنطينية الجزيلة القداسة ونسألهم متى وأين وجد هذا التعليم الجديد؟» فأجابهم مكاريوس بطريرك أنطاكية نصير القول بالمشيئة الواحدة: «إنه موجود في مجامع أشهر الآباء وبطاركة القسطنطينية.» فطلب الفسيلفس البينة فأحضرت أعمال المجامع وقرئت في الجلسات الخمس التالية، فوجدت رسالة مزورة عن لسان البطريرك ميناس إلى البابا فيجيليوس استند إليها مكاريوس، فقاومه نواب رومة، فثبت فسادها وفساد عبارات كثيرة نسبت إلى الآباء مبتورة محرفة، وفي الجلسات السابعة تقدم الرومانيون ببيناتهم، وفي الثامنة اعترف بصحة هذه البينات جاورجيوس بطريرك القسطنطينية، ثم طلب إلى مكاريوس البطريرك الأنطاكي وأساقفته أن يوافقوا، فوافق الأساقفة ولكن مكاريوس اعترف بمشيئتين وأنكر الفعلين «مفضلا الموت مقطعا أو غريقا على الموافقة.» فقطع من درجته في الجلسة التاسعة ونفي، وفي الثالثة عشرة حكم بالحرم على سرجيوس وبيروس وبطرس وبولس بطاركة القسطنطينية وعلى كيروس بطريرك الإسكندرية وعلى أونوريوس بابا رومة، وفي السابعة عشرة صدق على أعمال المجامع المسكونية السابقة، وفي الثامنة عشرة في 16 أيلول سنة 681 تليت شهادة أقرها المجمع: «بمسيح وابن ورب ووحيد واحد هو نفسه بطبيعتين وأقنوم وشخص واحد وبمشيئتين وطبيعتين وفعلين طبيعيين بلا انقسام ولا تغيير ولا تجزؤ ولا اختلاط.»
7
قسطنطين والعرب
وكانت الاضطرابات الداخلية التي نجمت في الدولة العربية الإسلامية عن مقتل عثمان بن عفان قد انتهت، فاستتب الأمر لمعاوية بن أبي سفيان (661-680)، ومعنى هذا - في رأينا - أن الأمر استتب لتجار قريش، أولئك الذين قدروا عظمة التجارة التي كانت تربط حوض المتوسط بالشرق الأقصى، فكان - بالتالي - طبيعيا أن يدركوا مبلغ الخسارة التي حلت باللبنانيين والسوريين والمصريين من جراء ما سبب لهم الفتح العربي من انقطاع عن أسواقهم في آسية الصغرى والبلقان واليونان وإيطالية وفرنسة وإسبانية وألمانية وبريطانية، وهكذا لم يروا بدا من متابعة الحرب ضد الروم ودفعها إلى نتيجة حاسمة.
8
وكان معاوية ومن حوله يعلمون علم يقين أن رغبة الروم في العودة إلى القتال لم تنته، وقد اغتنم قسطنطين الثالث فرصة انشغال معاوية بالمشاكل الداخلية فدس إلى جبال الساحل السوري اللبناني بضعة آلاف من المردة يغيرون منها على الحواضر والأرياف فيهددون سيادة العرب في الشام، ويعيثون في البلاد فسادا، وكان معاوية قد صالح قسطنطين هذا على مال يؤديه له كل سنة شرط أن يقطع قسطنطين الإعانة عن المردة.
9
ولكن قسطنطين الثالث اغتيل سنة 668 في سرقوصة، وفي سرقوصة هذه أعلن مزيزيوس
Mizizios
رغبته في العرش وثار سابوريوس
Saborios
القائد في أرمينية، واعتلى أريكة الملك في القسطنطينية فتى يافع، وتمرد الجند مطالبين بحق هرقل وطيباريوس شقيقي قسطنطين الرابع في الملك، واستنجد سابوريوس بالعرب، فرأى معاوية والحالة هذه أن الفرصة سانحة لضرب الروم ضربة قاضية يستولي بها على القسطنطينية نفسها، وكان قد احتاط لأمر المردة فاستقدم عددا كبيرا من الفرس وأسكنهم مدن الساحل اللبناني (عكة وصيدا وبيروت وجبيل وطرابلس) وأتبعهم في السنة 669 غيرهم من أهل العراق.
10
وكان معاوية قد عني أيضا بترميم الحصون الساحلية مع ما فيها أسوار الإسكندرية، وإذا به يقوم بمناورة عسكرية بحرية وبرية في الغرب ليضلل خصمه، فيغزو صقلية في السنة 669 وينفذ عقبة في السنة 670 إلى حدود ولاية أفريقية، ولكنه في الوقت نفسه عمد إلى سبر غور الدفاع البيزنطي في قبدوقية في السنة 669،
11
فإذا بطلائع جيشه تصل إلى القسطنطينية، وكان بطل هذه الحملة أبا أيوب الأنصاري، وقد توفي في أثنائها ودفن خارج أسوار عاصمة الروم، أما قائد الحملة فكان فضلة بن عبيد الأنصاري يؤيده يزيد بن معاوية.
ومن طريف الأخبار التي اقترنت بهذه الحملة ما نقل عن بنت ملك الروم وبنت جبلة بن الأيهم الغساني، فقد روي أن بنت ملك الروم كانت إذا رجحت كفة قومها تقيم الزينة على قصرها في العاصمة، وكانت بنت جبلة تقيم الزينة على قصرها إذا رجحت كفة العرب، وهذا ما رغب يزيد بن أبي سفيان في فتح المدينة للحصول على بنت جبلة.
وفي ربيع السنة 673 وصلت عمارة عربية إسلامية كبيرة إلى مياه القسطنطينية، تحاصر عاصمة الروم من البحر وتحاول إنزال الجنود إليها، فصدتها مراكب الروم، وفي الخريف عادت هذه العمارة إلى شبه جزيرة كيزيكوس؛ لتمضي فصل الشتاء ولتتلقى المؤن والذخائر من الساحل السوري اللبناني، وفي الربيع التالي استأنف المسلمون الحصار فارتدوا ثانية، فعادوا يصرفون الشتاء في كيزيكوس، وظلوا كذلك حتى المرة الرابعة، واستعمل الروم في هذا الحصار الذي دام أربع سنوات (673-677) سلاحا جديدا أعده مهندس لبناني كان قد فر من بلده بعلبك عند دخول العرب المسلمين إليها، وهو كالينيكوس الشهير.
واختراع كالينيكوس هذا الذي نشر الذعر في صفوف العرب المسلمين كان عبارة عن حراريق نارية مركبة من النفط والقطران والكبريت وغيرها من المواد السريعة الاشتعال إذا صبت على جيش أحرقته وإن سقطت في الماء لم تنطفئ، وقد دعاها الروم آنئذ النار البحرية، ثم سميت فيما بعد النار الإغريقية.
12
واستخدم الروم جنودهم وأصدقاءهم في جبال طوروس والأمانوس ولبنان للقيام بغارات جريئة في بلاد الشام نفسها تعرقل أعمال التموين وتهدد العاصمة العربية نفسها،
13
وجاءت السنة 677 فإذا بالعرب يعودون إلى الحصار، فانطلقت لصدهم مراكب النار البحرية فأحرقت عددا كبيرا من مراكب العرب، فاضطر ما بقي من العمارة العربية للعودة إلى قواعده في الشام، وهبت عاصفة هوجاء حطمت قسما آخر، وطارد البيزنطيون البقية الباقية فغنموا معظمها،
14
وفي السنة 678 فاوض معاوية الروم في الصلح فأقروه عليه لثلاثين سنة، شرط أن يدفع لهم ثلاثة آلاف قطعة من الذهب وخمسين عبدا وخمسين جوادا عربيا عن كل سنة فقبل،
15 «فأصبح اسم قسطنطين الرابع محط احترام القبائل البربرية الضاربة في الأراضي المحيطة بدولة الروم، وأرسلت هذه القبائل تخطب وده، ورأت الدول الأخرى في غرب أوروبة أن رومة الجديدة لم تقل في عظمتها وأهميتها عن رومة القديمة الخالدة.»
16
وغامر عقبة بن نافع في هذه الآونة في أفريقيا الشمالية فبلغ طنجة «وجول لا يعرض له أحد ولا يقاتله.»
17
وأوطأ فرسه الماء حتى بلغ الماء صدره وقال: «اللهم اشهد أني قد بلغت المجهود ولولا هذا البحر لمضيت في البلاد أقاتل من كفر بك حتى لا يعبد أحد من دونك.»
18
وكان قد أهمل أمر المدن المحصنة على ساحل البحر، فتناول رجالها المدد من الروم بعد أن حطم الأسطول العربي، وتفاهموا وكسيلة أحد زعماء البربر، وعرضوا لعقبة في مكان يقال له تهوذة في الجزائر في السنة 683 فقتلوا عقبة ومن كان معه،
19
واستغل كسيلة نصره ودخل القيروان فأقام بها إلى أن قوي أمر عبد الملك بن مروان.
20
وتوفي يزيد بن معاوية في السنة 683، وتولى الخلافة بعده ابنه معاوية الثاني، ورأى هذا أنه ليس بأهل للخلافة، فخلع منها نفسه ولم يعين له خليفة، فعادت الأمور إلى ما كانت عليه قبل ثلاث سنوات عندما توفي معاوية الأول، وتبوأ العرش مروان بن الحكم والأعداء له بالمرصاد، وكان رجلا طاعنا في السن، وكان قسطنطين الرابع قد استغل مشاكل يزيد فأكرهه على الخروج من قبرص. وجاءت مشاكل معاوية الثاني ومروان فزحفت جيوش قسطنطين عبر الحدود الجنوبية، فدكت حصون ملاطية وأجلت العرب عن جرمانية «مرعش» (683)، وتوفي مروان فاضطر ابنه وخليفته عبد الملك أن يفاوض الروم وأن يدفع مالا سنويا أكثر مما كان العرب يدفعون من قبل، وتم الصلح على هذا الشرط في السابع من تموز سنة 685.
21
يوستنيانوس الثاني (685-695)
وتوفي قسطنطين الرابع بداء الزحار في أول أيلول من السنة 685، وتولى العرش بعده ابنه يوستنيانوس الأشرم،
22
وكان لا يزال في السادسة عشرة من عمره، وكان كأبيه وجده ذكيا شجاعا نشيطا، وكان طموحا مشبعا بحب العظمة والمجد، فأراد أن يحتذي مثال سميه يوستنيانوس الكبير، ولكنه كسائر أفراد أسرته كان يشكو شيئا من قلة الاتزان، فتطور سوء ظنه بالناس وحبه للعنف إلى شراسة في الخلق ورغبة في سفك الدماء.
ونقض يوستنيانوس هذا معاهدة السنة 685 مع العرب وأرسل جيوشه لقتالهم، وكان عبد الملك لا يزال مرتبكا مشغولا في تثبيت دعائم خلافته ضد منافسين أقوياء، فاشترى الصلح مع الروم في السنة 689 وقبل أن يدفع ليوستنيانوس الثاني مالا سنويا أعظم مما دفعه معاوية: ثلاثمائة وخمسة وستين ألفا من قطع الذهب، وثلاثمائة وستين عبدا، وثلاثمائة وستين جوادا كريما، وقبل بأن يقسم ولايات إيبيرية وأرمينية وقبرص بينه وبين يوستنيانوس بالسوية.
وعلم عبد الملك - فيما يظهر - أن خصمه كان ضعيف البصيرة ففاتحه بخذل المردة والعمل على نقلهم من تلال لبنان وسورية والأمانوس، فقبل يوستنيانوس وحطم بيده «هذا السور النحاسي الذي كان يفصل حدوده عن حدود خصومه العرب المسلمين»،
23
وبعث قائدا من جيشه إلى أمير المردة يوحنا متظاهرا بطلب النجدة منه ضد العرب، فجاء القائد إلى قب إلياس حيث مسكن الأمير، فلقي ترحابا وتكريما، وجلس يحدث الأمير عن غزو العرب، ثم أشار إلى جنده وكانوا على علم بمقصده فوثبوا على الأمير فقتلوه وفتكوا بكثيرين من بطانته.
ثم اعتذر إلى الأمير سمعان ابن أخت الأمير يوحنا معيدا الكلام على رغبة الفسيلفس في أن يتلقى نجدة المردة، وطفق يزين لهم أن يصحبوه إلى القسطنطينية، فأجابوه إلى ما طلب، وتجمهر اثنا عشر ألفا منهم يتزعمهم الأمير سمعان، وساروا إلى الفسيلفس فوزعهم حرسا في أرمينية وتراقية وقزيقوس.
24
وجاء في تاريخ الطائفة المارونية، للبطريرك أسطفان الدويهي، أن يوستنيانوس الثاني لم يكتف بما فعل، بل جيش على المردة جيشا جرارا بقيادة موريق وموريقيان بعث به في السنة 694 إلى لبنان فقتلوا رهبان دير مار مارون على العاصي وحلوا في الكورة بين أميون والناووس، وتدفق الجبيليون عليهم من أعالي الجبال فقاتلوهم حتى قتلوا أكثرهم.
25
ولعل هذه الحوادث وقعت في أثناء السنة 689 عندما قام يوستنيانوس ينفذ شروط معاهدته مع عبد الملك لا في السنة 694 كما تقدم، ففي السنة 694 كان يوستناينوس في حروب جديدة مع عبد الملك دارت رحاها في آسية الصغرى وأسفرت عن اندحار كبير أمام جيوش الأمويين.
26
وجال يوستنيانوس في السنة 689 جولة حربية ضد القبائل البلغارية، وأردفها في السنة 690 بحملة موفقة ضد الصقالبة في البلقان، وجمع عددا كبيرا من هؤلاء وجعل منهم فرقة كبيرة وأنزلهم في منطقة الدردنيل؛ ليرابطوا فيها فيدفعوا العرب عنها في حرب مقبلة، وكان العرب قد جعلوا من هذه المنطقة - في أثناء هجومهم الأخير على القسطنطينية - نقطة ارتكاز لهم قبل عبورهم المياه لحصار عاصمة الروم.
حرب القراطيس والدنانير
وكان عبد الملك بن مروان قد بدأ ينظم أمور الدولة الأموية، وكانت الدولة البيزنطية لا تزال تستورد الورق من مصر، وكانت قد جرت عادة الأقباط على كتابة اسم المسيح وعبارة التثليث في أعلى الطوامير، ورأى عبد الملك بن مروان أن هذه العبارة لا تتفق ومظهر الدولة الإسلامية، فاستبدل اسم المسيح وعبارة التثليث بالعبارة: «قل هو الله أحد.» وكتب في صدور كتبه إلى الروم: قل هو الله أحد، وذكر النبي مع التاريخ، فكتب إليه يوستنيانوس: إنكم قد أحدثتم كذا كذا فاتركوه وإلا أتاكم في دنانيرنا من ذكر نبيكم ما تكرهون.
وكانت العملة السائدة في البلدان الإسلامية لا تزال دنانير رومية ودراهم فارسية، فغضب عبد الملك وخشي ما قد يحدثه تهديد الفسيلفس من أثر سيئ في نفوس المسلمين، فأشار خالد بن يزيد على عبد الملك بالتمسك بما أحدثه في القراطيس وقال: «يا أمير المؤمنين، حرم دنانيرهم فلا يتعامل بها، واضرب للناس سككا، ولا تعف هؤلاء الكفرة مما كرهوا في الطوامير.»
27
وسك عبد الملك دنانيره الأولى في السنة 692 وأرسل المبلغ السنوي المفروض عليه للفسيلفس من هذه الدنانير الجديدة، فغضب يوستنيانوس لخلو هذه الدنانير من صورة أباطرة الروم ولحملها عبارات لم تخل من التحدي: «أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله.» فرفض الفسيلفس قبول هذه الدنانير وتحرك بجيوشه إلى الحدود العربية الإسلامية، واصطدم الجيشان في السنة 693 بين سبسطية وسيواس
Sebastopolis ، واستعاض العرب المسلمون عن الأعلام بنسخة من المعاهدة بينهم وبين الروم رفعوها عاليا، وقاد يوستنيانوس جيشه بنفسه، وكاد ينتصر في الجولة الأولى، ولكن العرب اتصلوا بعناصر الصقالبة من جيش الروم وأغروهم بالوعود فخانوا الروم وانضموا إلى العرب، فدارت رحى الحرب على الروم وخسروا أرمينية.
وفي السنة 694 عاد محمد بن مروان فغزا، فبلغ أنيولية ومرعش وملاطية، ودخل عثمان بن الوصيد إلى أرمينية، فهزم الروم فيها وأثخن فيهم بالقتل والأسر، وعاد العرب إلى الصوائف في الحرب، وما انفكوا يبعثون بالصائفة كتيبة بعد أخرى حتى غنموا مالا كثيرا، واقتص يوستنيانوس ممن بقي من الصقالبة في آسية الصغرى، فأصبح موضع كراهيتهم، وحبا عبد الملك من التجأ إليه منهم بالمساكن في ثغور الشام وقبرص، فنجحوا وأثروا إثراء غريبا، وغدا بنو جنسهم في آسية الصغرى أداة لخدمة العرب المسلمين في أي نضال حربي ينشب بين هؤلاء وبين الروم،
28 «واستفاد المسلمون كثيرا من ولاء الصقالبة؛ إذ كانوا على علم بدروب آسية الصغرى ومسالكها، فقاموا بوظيفة الأدلاء للجيوش الإسلامية، ولذا تابعت الجيوش الأموية انتصاراتها وإغاراتها على مدن آسية الصغرى دون أن تلقى جهدا كبيرا.»
29
المجمع البنثيكتي «الخامس السادس» (262)
وقال كاتب البيذاليون في مقدمة كلامه على هذا المجمع: إن أبرز الرؤساء في المجمع البنثيكتي
؛ أي الخامس والسادس
30
كانوا: بولس القسطنطيني وباسيليوس أسقف غورتيني في كريت وأسقف رابينة - وهما نائبا البابا الروماني - وبطرس الإسكندري وأنسطاس الأوروشليمي وجاورجيوس الأنطاكي، وقد التأم هذا المجمع بأمر ملوكي لا ليفحص هرطقة خاصة ولا ليحدد إيمانا حتى يكون مجمعا خاصا قائما بنفسه، بل ليكتب قوانين ضرورية تتعلق بحالة الكنيسة وإصلاحها،
31
واشترك في أعمال المجمع 227 أو 240 أسقفا، وسن المجمع مائة قانون تتعلق بنظام الكنيسة داخلا وخارجا وبالحياة المسيحية، ولا تزال هذه القوانين مرعية الإجراء إلى يومنا هذا، منها ما يبحث في علاقات الشمامسة بالقساوسة وفي زواج هؤلاء وأولئك، ومنها ما يعين السن التي يجب أن يبلغها الإكليريكي قبل سيامته، ومنها ما يحرم الدين بالربا على رجال الدين والرشوة للوصول إلى المناصب الكنائسية، ومنها ما يتعلق بالكتب المقدسة وكيفية استعمالها والمحافظة عليها والتعليم بها، ومنها ما يبحث في الرهبانية والأديار، وفي الجمعيات السرية وعتق الرقيق، وفي أمر اليهود، ومنها ما يحرم التصاوير البذيئة والسحر والكهانة.
وأشهر هذه القوانين القانون السادس والثلاثون الذي نص على ما يلي: «إننا نجدد ما اشترعه الآباء القديسون المائة والخمسون الذين اجتمعوا في هذه المدينة المحروسة من الله وما اشترعه الآباء الست مائة والثلاثون الذين اجتمعوا في خلقيدونية ... فنرسم أن يكون لكرسي القسطنطينية التقدم أسوة بتقدم كرسي رومة القديمة، وأن يعظم مثله في الأمور الكنائسية ليكونه ثانيا بعده، وأن يحسب بعدهما كرسي الإسكندرية المدينة العظيمة، ويحسب بعده كرسي أنطاكية، وبعد هذا كرسي مدينة الأوروشليميين.»
وعرضت أعمال هذا المجمع على البابا سرجيوس (687-701) ليوقعها بعد الفسيلفس فأبى محتجا ببعض محتوياتها كتحريم الصوم أيام السبت والإذن للكهنة بالزواج، فأراد يوستنيانوس أن يكرهه على ذلك ولكن جيشه في إيطالية وقف إلى جانب البابا.
32
خلع يوستنيانوس
واستنزفت حروب يوستنيانوس كل ما في الخزينة، وبرغم هذا فإن الفسيلفس الذي كان يحذو حذو سميه يوستنيانوس الكبير أراد أن يقوم هو أيضا بإنشاءات تخلد اسمه، فاضطر وزيراه ثيودوتوس وإسطفانوس الخصي أن يجمعا الأموال عن طريق الاغتصاب، ومما يروى عن ثيودوتوس أنه كان يعلق الذين يمتنعون من دفع الضرائب بالحبال فوق دخان النار، وبينما كان وزيراه يجران عليه كراهية الطبقات الشعبية كان هو يجر على نفسه كراهية رجال الكنيسة والجيش، ففي السنة 694 طلب أن تهدم كنيسة في القسطنطينية ليقيم في مكانها بناية له، فكلف البطريرك المسكوني أن يصلي على الكنيسة قبل هدمها، فأجابه البطريرك: «أما لأجل بناء كنيسة فعندنا أفشين ولكن لأجل هدم كنيسة فليس لنا ما نقول.» فأجبره الفسيلفس أن يصلي للهدم بالقوة، فوقف البطريرك ودموعه تسيل وصلى قائلا: «المجد لله الطويل الأناة كل حين وكل أوان وإلى دهر الداهرين.»
وبعد الذي أصيب به يوستنيانوس من مس في الحرب العربية، بدأ يقتل ضباطه ويحبسهم ويستأصل شأفة جنوده المهزومين، حتى أصبح العمل في القيادة العليا لجيشه يشبه في خطره التعيين لمنصب القائد الأعلى في أثناء إرهاب روبسبيار إبان الثورة الإفرنسية.
33
وفي السنة التالية (695) عين يوستنيانوس لاونديوس قائدا أعلى، فخشي لاونديوس سوء العاقبة واعتقد أن أيامه أصبحت معدودة، فنصح له راهب اسمه بولس أن يضرب ضربة جريئة؛ لأن الشعب والجيش يسيرون وراءه، فهاجم لاونديوس السجن وحرر عددا كبيرا من السجناء السياسيين، فانضمت إليه العامة، فنادى بهم: «النصارى في كنيسة الحكمة»، وأذاع في البلد أن حياة البطريرك في خطر، فاجتمع الشعب في باحة الكنيسة العظمى، وجاءهم البطريك فبارك عملهم قائلا: «هذا هو اليوم الذي صنعه الله.»
وسار لاونديوس إلى القصر وقبض على يوستنيانوس ووزيريه، فجدع أنف الفسيلفس وسلم الوزيرين إلى الجماهير، فطافوا بهما وحرقوهما، ثم نفى لاونديوس الفسيلفس الأشرم إلى الخرسون في القرم، ونادى الزرق بلاونديوس فسيلفسا وتوجه البطريرك.
34
الفوضى (695-717)
وانهزم العرب المسلمون في تهودة - كما أن أشرنا - وانسحبوا من ولاية أفريقية، وكان ما كان من أمر الانقسامات الداخلية بينهم ونشوب الثورات على الأمويين في الحجاز وفي العراق وغيرهما، فاستطاع الروم أن يستعيدوا ما كان لهم من نفوذ وسلطة في أفريقية، وجهز عبد الملك بن مروان في السنة 688 جيشا كبيرا أمر عليه زهير بن قيس وبعثه لاسترداد أفريقية، وذلك رغم انشغاله بثورة عبد الله بن الزبير.
وكتب النصر لزهير فقهر كسيلة في ممس، ثم توغل في البلاد يخضع قبائل البربر الموالية للروم، وترك الروم المسلمين يطيلون خطوط تموينهم، ثم أنزلوا قوة كبيرة في برقى لتعمل في مؤخرة زهير أو لتفاجئه وهو في طريق العودة إلى مصر، ونشبت موقعة في برقة (689) خر فيها زهير صريعا وانهزم العرب المسلمون.
وفي السنة 695 أعد الخليفة الأموي جيشا آخر وأمر عليه حسان بن النعمان، فسار حسان إلى القيروان وقام منها إلى قرطاجة أعظم مدن الروم وأمنعها، وأوقع بهم هزيمة شنعاء، واستولى على قرطاجة في صيف السنة 697، فانسحب منها الروم إلى صقلية، ثم عادوا إلى قرطاجة في خريف السنة نفسها بقيادة البطريق يوحنا فدخلوها عنوة، وأعاد العرب الكرة عليها في صيف السنة 698 مستعينين هذه المرة بقوة بحرية كبيرة فدخلوها آمنين.
35
ونجا القسم الأكبر من جيش أفريقية، وأبحر الضباط إلى القسطنطينية، ودبروا في أثناء رحلتهم مؤامرة لخلع لاونديوس، وأشركوا معهم في هذه المؤامرة طيباريوس عبسيمروس درونغاريوس الأسطول؛ أي نائب القائد،
36
ولدى انضمامه إليهم بأسطول بحر إيجه نادوا به فسيلفسا، فاستولى على العاصمة متخذا اسما له طيباريوس الثالث، وجدع أنف لاونديوس وحبسه في أحد الأديرة (698-705)، ووفق طيباريوس في حروبه ضد العرب واسترد مناطق الحدود التي كان قد فقدها يوستنيانوس ولاونديوس وغزا سورية الشمالية، «ولكن الأهالي والجيش كانوا قد أصبحوا لا يخضعون لسيطرة أحد وكان الفسيلفس لا يستطيع أن يعتمد على أحد وباتت أدنى هزة كافية لقلب عرشه المتداعي.»
37
وفر يوستنيانوس الثاني من منفاه، ورسا مركبه في مياه البلغار، وكان تربيل ملك البغار يبحث عن حجة يتذرع بها لغزو الروم، فلما استنصره يوستنيانوس زحف تربيل بجيشه على القسطنطينية، وكان سكان العاصمة آسفين لزوال حكم هرقل وخلفائه، فعاد يوستنيانوس إلى العرش الذي خلع عنه (705)، «وكان قد عول ألا يفعل شيئا إلا أن يثأر لأنفه المبتور»، فأرسل في طلب لاونديوس وطيباريوس وشدهما بالحبال جنبا إلى جنب ووضعهما على الأرض أمام عرشه في الملعب وجلس واتخذ جسميهما موطئا لقدميه، ثم قطع رأسيهما، وأعدم عددا من كبار الضباط ورجال البلاط وسمل عيني البطريرك ووضع كثيرين من وجهاء القسطنطينية في أكياس ثم أغرقهم في البوسفور.
وفي السنة 711 ثار عليه فيليبيكوس البرداني فدخل العاصمة بينما كان يوستنيانوس في سينوب، ثم قتل يوستنيانوس وقتل ابنه طيباريوس من زوجته ثيودورة الخزرية، وبذلك انتهى أمر الهرقليين بعدما حكموا مائة سنة وسنة، ولكن فيليبيكوس هذا لم يكن سوى رجل لهو ولذة، فقضى وقته (711-713) منصرفا إلى المتع، ولما كان من أصحاب المشيئة الواحدة فقد عزل البطريرك كيروس إلى دير وأقام يوحنا السادس بطريركا محله، ثم عقد مجمعا محليا في السنة 712 أجبر فيه الفسيلفس والبطريرك الجديد أساقفته أن يحرقوا أعمال المجمع السادس.
حتى إذا كانت السنة 713 اتفق قائدان من قادة الجيش فعزلا فيليبيكوس، وأقام الشعب رئيس كتاب القصر أرتاميوس فسيلفسا باسم أنسطاسيوس الثاني، فضبط زمام الملك وعزل البطريرك يوحنا السادس وأقام جرمانوس بطريركا عوضه، وعقد الفسيلفس والبطريرك الجديد مجمعا محليا أيد قرارات المجمع السادس (715)، ولكن في السنة 716 تمرد الجند وأعلنوا خلعه، ونادوا بثيودوسيوس الثالث فسيلفسا، فاستعفى أنسطاسيوس وأقام راهبا في دير.
حصار القسطنطينية (717-718)
وكان البلغاريون والمسلمون في أثناء هذا كله يغزون ولايات الحدود كل من صوبه، وكانت غاراتهم تزداد حدة وتوغلا، فسقطت تيانة في يد العرب المسلمين في السنة 710، وأماسية في السنة 712، وأنطاكية البسيدية في السنة 713، وتوغل العرب في السنة 716 في فريجية وحاصروا عمورية،
38
وباتوا لا ينتظرون إلا النصر ، ولكن الروم كانوا قد أنجبوا لاون الإسوري رجل الساعة الذي تبوأ العرش برضى ثيودوسيوس الثالث وموافقة البطريرك ومجلس الشيوخ ورجال البلاط.
وكان قد تولى الخلافة في دمشق سليمان بن عبد الملك (715-717)، وكان سليمان يحسب أنه هو المقصود بالحديث القائل إن خليفة يحمل اسم نبي سيفتح القسطنطينية، فأعد أسطولا كبيرا وجيشا عظيما وأسند القيادة في البر لأخيه مسلمة، وفي البحر لوزيره سليمان، فقام مسلمة من طرسوس إلى الدردنيل والتقى في أبيدوس بسليمان وعمارته، وكان لاوون قد حشد كل ما لديه في العاصمة للدفاع، فقطع الجيش العربي الدردنيل، وزحف على القسطنطينية وحاصرها برا، وقامت العمارة العربية بالعمل نفسه من البحر.
وحاول سليمان أن يسد طريق البحر الشمالية، فانبرت لصده بوارج الروم فأنزلت بمراكبه ضررا كبيرا، وبقي منفذ القسطنطينية الشمالي مفتوحا للمدد من البحر الأسود، واعتمد مسلمة على تجويع المدينة أكثر من اعتماده على مهاجمتها جبهيا، ولكن لاوون كان قد حسب لهذا المحذور حسابه فأمر كل أسرة بأن تختزن مئونة سنتين، أما مسلمة فإنه لم يحسب الحساب لشتاء قارس يداهمه، فجاء شتاء السنة 717-718 بثلج دام ثلاثة أشهر، فمات عدد كبير من جنود مسلمة بالبرد وداء الزحار، وبين من لقوا حتفهم الوزير سليمان.
وفي ربيع السنة 718 وصل أسطول احتياطي من مصر وجيش جديد من طرسوس، واحتل هذا الجيش شاطئ البوسفور الآسيوي ورسا الأسطول في مياهه، فتسللت سفن النار الرومية إلى مرسى الأسطول المصري فأحرقته، ونزلت قوة من الروم وراء الجيش الجديد فباغتته ومزقته إربا، وبدأت المجاعة تهاجم صفوف مسلمة، ثم فاجأه البلغاريون من الوراء فقتلوا من رجاله عشرين ألفا، فتراجع عن عاصمة الروم بعد أن فقد معظم جيشه، وتعرض الباقي من عمارته لعاصفة في بحر إيجه فلم يعد إلى شواطئ الشام سوى خمس سفن فقط.
39
الفصل السابع عشر
تطور وتغيير
الأرض والسكان
وكان من جراء حروب القرن السابع أن تقلص ظل الروم عن قسم من أرمينية وعن الجزيرة والشام ومصر وأفريقيا، وفقد الروم معظم البلدان التي فتحها يوستنيانوس في الغرب وتراجعوا عن خط الدانوب إلى الجبال بين ميسية وتراقية، فنقصت إمبراطوريتهم نصفها.
وكان الآفار والصقالبة قد بدءوا منذ أواخر القرن السادس يعبرون الدانوب فيعيثون فسادا في إيليرية وتراقية، فلما حلت الفوضى في عهد فوقاس ونشبت حروب هرقل الطاحنة في آسية تعددت هجمات هؤلاء البرابرة وأصبحت إلى هجرة شاملة أقرب منها إلى غزو، واضطر الروم أن يذعنوا للواقع في بعض الأحيان فيعترفوا لبعض هذه القبائل كالكرواتيين والسرب بكيان خاص في داخل حدودهم، ولئن وفقوا في بعض الأحيان إلى رد القبائل الزاحفة عبر الدانوب؛ فإنهم لم يستطيعوا المحافظة على هذا الحد دائما، فكانت تعود القبائل، فتتسلل جماعات في الخفية وبالتدريج، فتستقر داخل الحدود؛ حيث تسمح لهما بذلك الظروف، ومن هؤلاء الصقالبة.
ويستدل من بعض المراجع الأولية أن قبائل الكروات والصرب عبروا الدانوب في الربع الأول من القرن السابع، واحتلوا بالقوة جميع إيليرية حتى شاطئ الأدرياتيك، وأن هرقل اعترف بوجودهم في هذه الأراضي لقاء معونة يقدمونها له ضد الآفار شرط أن يتقبلوا النصرانية،
1
وفر سكان البلاد أمام تلك القبائل، فالتجأ أبناء سالونة إلى حصن ديوقليتيانوس وأسسوا مدينة إسبالاتو، ونزح أبناء أبيدورة فأقاموا في منطقة راغوزة، وفر غيرهم إلى كاتارو وإلى جزر الشاطئ إلى برازا ولاسينة وغيرهما.
2
وهكذا لم يشرف القرن السادس على أواخره حتى كانت جماعات من الصقالبة قد استقرت في ميسية السفلى بين الدانوب وجبال الهاموس، وفي عهد فوقاس وهرقل سارت جماعات أخرى من الصقالبة في موكب الآفار فنزلت بنسائها وأطفالها وجميع ما ملكت إيمانها في مقدونية وتراقية وغشيت الأرياف بكاملها،
3
ومما جاء في أعمال القديس ديمتريوس أن الصقالبة في السنوات 617-619 ركبوا البحر في قوارب نقرت في جذوع الشجر ففتكوا بسكان ثسالية وآخية وإيبيروسة وبعض آسية، وانتشروا في جميع جزر الأرخبيل. وجاء أيضا أنهم في السنة 623 بلغوا إلى جزيرة أقريطش فقتلوا وسبوا ، وأن الذعر شمل الجبناء والشجعان على حد سواء، فأيقن الجميع أن ليس أمامهم إلا الموت أو عذاب الأسر.
4
وبقيت هذه القبائل طوال القرن السابع تغزو في البر والبحر ولا يقر لها قرار، وسعت حكومة العاصمة بما لديها من وسائل لإخضاع هذه القبائل ولكن دون جدوى، وفي السنة 657 جرد قسطنطين الثالث حملة عسكرية عليهم فهزمهم واشتق لنفسه طريقا إلى ثيسالونيكية وأرغمهم أن يخلدوا إلى السكينة، ولكنهم عادوا إلى سابق نزعاتهم فحاصروا هذه المدينة نفسها ما بين السنة 677 والسنة 680، فقاد يوستنيانوس الثاني في السنة 689 حملة أخرى عليهم وأخضعهم ونقل منهم ثلاثين ألفا إلى شاطئ الدردنيل الآسيوي.
5
وفي أواخر القرن السابع تدفق البلغار عبر الدانوب واستوطنوا، والبلغار من الشعوب الطورانية أبناء عم الهون والأتراك، وكانوا من قبل يعبرون الدانوب غزاة مغيرين ولكنهم لا يلبثون أن ينقلبوا إلى ما ورائه، وكان هرقل قد استعان بهم بين السنة 635 والسنة 641 ضد الآفار منعما على زعيمهم بلقب بطريق مقدما له الهدايا، إلا أن الخزر في السنة 679 اضطروا هؤلاء البلغار أن يجلوا عن أراضيهم في ما وراء الدانوب، فتدفقوا عبر هذا النهر بقيادة خاقانهم أسبروخ واحتلوا ما تاخم النهر من الأراضي حتى جبال البلقان، ثم أكره قسطنطين الرابع أن يعترف بالواقع وأن يسترضيهم بمال محدد يدفعه كل سنة، فنشأت دولة بلغارية فتية، تمكنت من الاندماج برعاياها الصقالبة، فتقبلت لغتهم وتقاليدهم ووحدت كلمتهم، فأصبحت خطرا كامنا على دولة الروم.
6
الإدارة
وأدت الحروب الطاحنة التي دارت رحاها في القرن السابع إلى تغيير أساسي في أساليب إدارة الولايات، وكانت القاعدة الأساسية المتبعة في تنظيم إدارة الولايات منذ عهد قسطنطين الكبير توجب الفصل بين السلطتين العسكرية والمدنية في ولايات الدولة وذلك خوفا من تمرد الولاة أو قادة الجيش على السلطة المركزية، لكن هذه القاعدة انقلبت عند نهاية القرن السابع رأسا على عقب؛ إذ لجأ الأباطرة إلى دمج السلطتين في يد قائد عسكري في كل ولاية، فحولت الولايات إلى ثيمات أو بنود كما أسماها العرب.
7
وكان يوستنيانوس الكبير قد لجأ إلى مثل هذه الخطة في إدارة ولايتي قرطاجة ورابينة؛ وذلك لتكرر هجمات اللومبادريين في إيطالية والمور في أفريقية، فأنشأ وظيفة الإكسرخوس وجعله قائدا عسكريا وحاكما مدنيا في آن واحد. إلا أن العلامة الألماني الدكتور إرنست اشتاين يرى أن هرقل درس عن كثب نظام الحكم عند أعدائه الألداء الأكاسرة فأخذ عنهم دمج السلطتين العسكرية والإدارية في يد قائد عسكري يقوم على رأس جيشه في منطقة معينة، فكان أن أنشأ نظام الثيمات،
8
ويرى غيره من رجال الاختصاص أن هذا النظام الجديد لم يعمم دفعة واحدة، بل نشأ بالتدريج في أرمينية أولا ثم في سائر آسية الصغرة فأوروبة.
9
والواقع الذي لا سبيل فيه إلى جدال هو أن آسية الصغرى عند نهاية القرن السابع كانت قد قسمت إلى أربع ثيمات أو بنود: (1) ثيمة أرمينية في شمالي شرقي آسية الصغرى، (2) ثيمة أناتوليكة،
10 (3) ثيمة الأبسيق «أوبسيكيون» عند بحر مرمرا، (4) ثيمة القبريوت وكانت هذه تضم شاطئ آسية الصغرى الجنوبي والجزر المجاورة له؛ وذلك للصمود في وجه الأسطول العربي، وكان قد نشأ أيضا نظام مماثل في أوروبة، فظهرت ثيمة تراقية لدرء خطر الصقالبة، وثيمة هيلاس للغرض نفسه في بلاد اليونان، وثيمة في صقلية للدفاع ضد العرب.
11
والأساس في نظام الثيمة كان - فيما يظهر - إقامة جيش دائم في منطقة معينة يسهر على الدفاع عنها، ويقطع ضباطه وجنوده أراضي معينة في المنطقة نفسها يستثمرونها، وتمتزج هذه العناصر العسكرية بسكان المنطقة فتبث فيهم روح الشجاعة والجرأة وتدربهم على حمل السلاح والقتال.
12
وثمة ما يدل على أن هرقل لم يهمل التشريع، فهنالك قوانين أربعة سنها في الفترة بين السنة 612 والسنة 629 عني فيها ببعض مشاكل الإكليروس، وتوجد كذلك بقايا شرائع سنها هذا الفسيلفس للحد من تزوير النقود والأختام والوثائق الرسمية، وقد كان لهذه الشرائع - فيما يظهر - أثر في ما شرعه الألمان في الغرب والعرب في الشرق
13
في هذا الموضوع نفسه.
الدولة تصبح هيلينية
وكانت الدولة منذ تأسيسها قد اصطبغت بطابع شرقي في مفهومها للسلطة والحكم، وفي نظامها الرتبي وتسلسل الصلاحيات وفي التشريفات وتعظيم الإمبراطور، وما إلى ذلك، وجاء القرن الخامس فتفككت عرى الدولة في الغرب ولم يبق منها صامدا سوى ولاياتها الشرقية، وبرغم نجاح يوستنيانوس في إيطالية وأفريقيا وإسبانية؛ فإن الربط الذي أعاد إحكامه بين الشرق والغرب لم يثبت طويلا . وجاء القرن السابع فانفصلت إسبانية وأصبحت أفريقية مهددة، واضطربت إيطالية وسلخ العرب مصر والشام والجزيرة، واحتل الصقالبة والبلغار جزءا كبيرا من البلقان، فأصبح العنصر اليوناني هو العنصر السائد في الدولة، وأصبحت آسية الصغرى قلب الدولة ومركز الثقل فيها، فتهلنت الدولة وبقيت يونانية حتى آخر عهدها.
اللاتينية تتوارى فتزول
وكانت اللغة اللاتينية لا تزال في عهد يوستنيانوس الكبير لغة الدولة الرسمية ولغة التشريع والإدارتين المدنية والعسكرية، وحتى أوائل القرن السابع كان الإمبراطور لا يزال ينادى بألقابه اللاتينية القديمة «التقي، السعيد، الدائم، العظيم»،
14
غير أن انتصار هرقل على الفرس جعله يزيد على ألقابه بصور رسمية اللقب اليوناني «الفسيلفس»، وكان هذا اللقب شائعا من قبل ولكن بصفة رسمية،
15
وكانت اللاتينية لغة الأسر الحاكمة، بقيت كذلك حتى انقطاع أسرة يوستنيانوس، فأما الأسر التي عقبتها فإنها كانت أسوية كأسرة طيباريوس وموريقيوس وهرقل، ولذا رأينا البابا غريغوريوس العظيم (590-604) يتذمر لانعدام وجود التراجمة الأكفاء الذي يجيدون اللاتينية في العاصمة البيزنطية.
16
ولنا في التشريع شاهد آخر على صحة ما نقول؛ فإن يوستنيانوس الكبير الذي تكلم اللاتينية واشترع بها، وجد نفسه مضطرا أن يأذن باستعمال اللغة اليونانية في بعض القوانين التي أصدرها،
17
وأن يغض النظر عن ظهور بعض الشروح باليونانية، حتى إذا أقبل القرن السابع أصبح التشريع كله باللغة اليونانية فقط.
ونلمس التطور نفسه في لغة الإدارة؛ فإن يوحنا ليدوس الذي عاصر يوستنيانوس يفيد أن ترقيه في سلك الوظائف المدنية يرجع الفضل فيه قبل كل شيء إلى إلمامه باللاتينية هذه اللغة النادرة.
18
وتطورت أسماء الوظائف، فأصبح معظمها في القرن السابع يونانيا، وما بقي منها لاتينيا لحق به التحوير فاتخذ شكلا يونانيا، وحتى عهد هرقل كانت اللاتينية لغة الجيش الوحيدة، وكان معظم كبار الضباط يتكلمون اللاتينية وهم من أبناء الولايات الأوروبية ويحملون أسماء لاتينية،
19
وأما في أيام هرقل؛ فإن رجال الجيش أصبح معظمهم آسيويين من أرمينية وسائر الولايات الآسيوية وأصبحت لغة الجيش اليونانية، وإذا كان الروم قد لبثوا يرددون بعض العبارات اللاتينية حتى القرن العاشر؛ فإنهم قليلا ما كانوا يفقهون شيئا مما يلفظون.
20
تزايد نفوذ الكنيسة
وتم اندحار الوثنية في القرن السادس، واكتمل انتصار النصرانية، ولكن النصارى كانوا لا يزالون منقسمين شطرين رئيسين: أرثوذكسيين كاثوليكيين، ومونوفيسيين، وكان هم الأباطرة الأكبر أن يوفقوا إلى إيجاد حل يجمع الشمل ويوحد الكلمة، فجاءت حروب الفتح العربي فسلخت عن جسم الدولة كل من قال بالطبيعة الواحدة فأصبحت الدولة البيزنطية أرثوذكسية كاثوليكية موحدة، وأصبح الفسيلفس حرا طلقا يقول بعقيدة يجمع عليها رعاياه، وينتحل نحلة دينية لا يختلف فيها من رعاياه اثنان، فيقسم عند تقبله التاج من يد بطريرك العاصمة: «أنه سيكون ابن الكنيسة البار وخادمها الأمين.» وأنه سيرعاها بعنايته ويدافع عنها جهده، ويحترم امتيازاتها وتقاليدها، فيحرم كل ما تحرمه، ويؤيد كل ما أقرته مجامعها.
21
وتزايد نفوذ الكنيسة في الأوساط الشعبية، فبهرت عظمة طقوسها العقول، وحرك وعظها الأفئدة والصدور، وتعلق الشعب برهبانها وعقد على صلواتهم وتضرعاتهم الآمال بالسعادة والنجاح، فأقبل الناس على الترهب زرافات زرافات، ورأوا في ارتداء الثوب أفضل السبل إلى خلاص النفس، وتعددت الأديرة، فحوت منها العاصمة وحدها عددا عظيما.
22
وبسقوط الإسكندرية وأنطاكية وأوروشليم في يد العرب، أصبح بطريرك القسطنطينية زعيم الكنيسة الأوحد في الشرق، وكان بطريرك القسطنطينية قد أصبح بطريركا مسكونيا منذ السنة 582 بقرار من مجمع محلي عقد في القسطنطينية للنظر في خصومة نشبت بين غريغوريوس بطريرك أنطاكية وأستيريوس والي الشرق. وقد نشأ عن هذا القرار جدل عنيف بين حامل هذا اللقب يوحنا الصوام وغريغوريوس الذيالوغوس بابا رومة،
23
وبطبيعة الحال أيد الفسيلفس بطريرك عاصمته فبذرت بذور الشقاق والانفصال بين فرعي الكنيسة الأم، وقضت ظروف - سبقت إليها الإشارة - بأن يهاجم ضباط الجيش الإمبراطوري القصر الباباوي سنة 639 وأن ينهبوا كنوزه، وفصل قسطنطين الثالث في السنة 659 كنيسة رابينة عن كنيسة رومة، وفي السنة 653 أوقف إكسرخوس رابينة البابا مرتينوس وأرسله إلى القسطنطينية، فتركت هذه الأعمال كلها أثرا سيئا في نفوس أبناء رومة وغيرهم. ومما زاد في التباعد بين الفرعين الرئيسين للكنيسة الأم أن اللغة اليونانية في رومة قل تداولها وتفهمها بقدر ما قل تداول اللاتينية وتفهمها في القسطنطينية.
24
وبرغم الاتفاق الذي ساد جو المجمع المسكوني السادس المنعقد في السنة 680؛ فإن شيئا كثيرا من الحذر وقلة الثقة بقي كامنا في الصدور، ثم جاء المجمع البنثيكتي في السنة 692 فأكد مرة ثانية بأن يكون لكرسي القسطنطينية التقدم «أسوة» بتقدم كرسي رومة القديمة،
25
فلم يكن ذلك مما ارتاحت إليه النفوس في رومة الارتياح كله.
وأدى تعاظم أمر الرهبانية في الدولة إلى زيادة كبيرة في عدد الرهبان، وبالتالي إلى نقص في دخل الخزينة؛ لأن القانون أعفى الرهبان من دفع الضرائب، كما منع جبايتها عن الأوقاف الدينية. وتوافرت ثروة الرهبانيات، فقوي نفوذها، وأصبحت عنصرا سياسيا هاما يتدخل في أحيان فيعرقل سير السياسة ويعقد مشاكلها، ومن جراء الانسياق غير الواعي في موجة من التعبد الشديد؛ ساد النفوس ضرب من القدرية الغاشمة أفضت بدورها إلى فقدان النشاط والعزم والحزم وروح المبادرة، ولا سيما إزاء الحوادث الكبرى.
26
الفصل الثامن عشر
الآداب والعلوم والفن في القرن السابع
وهو أشد القرون عقما في تاريخ الفكر البيزنطي، ولعل السبب في ذلك هول الأخطار التي أحدقت بالدولة وتتابع الحروب الطاحنة التي استنفدت جهودها، فشغلت أبناءها عن العمل في حقل الفكر والفن.
وأفضل ما تبقى من آثار هذا القرن في التاريخ والأدب شعر جاورجيوس البسيدي شماس كنيسة الحكمة الإلهية في القسطنطينية، عاصر هذا الشماس هرقل ونظم في حروبه الفارسية وفي حصار القسطنطينية سنة 626 قصائد خاصة بقيت موضع إعجاب الروم زمنا طويلا، ورجال الاختصاص يجمعون اليوم على أن جرجس البسيدي أفضل من نظم عند الروم في المواضيع الزمنية غير الدينية.
1
وقد عاصر هرقل مؤرخ آخر هو يوحنا الأنطاكي، فكتب تاريخا عاما منذ آدم حتى آخر أيام فوقاس (610)، ويرى فريق أن ما ينسب إليه هو في الحقيقة نتاج قلم يوحنا ملالاس الأنطاكي، على أنه قول ضعيف؛ لأن ملالاس كتب بوصفه أنطاكيا ينظر إلى تاريخ العالم من نافذة أنطاكية دون سواها، أما يوحنا الذي نحن بصدده، فإنه ينظر إلى الحوادث العالمية بوصفه رجلا عالميا لا أنطاكيا فقط، وهو أشد حذقا في تناول مراجعه وتقديرها من يوحنا ملالاس، وفي عصر هرقل أيضا نشأ إكليريكي مجهول فدون خرونيقون الفصح
Chronicon Paschale
وذكر حوادث العالم أيضا منذ آدم حتى السنة 629، ولهذا الخرونيقون أهميته؛ لأن صاحبه يذكر فيه مراجع زملائه المؤرخين ويدون بعض ما شاهد أو عاصر من الأحداث والأشياء.
والجدل العنيف الذي نشب في القرن السابع حول المشيئة الواحدة؛ نشط التأليف في هذا القرن، على أن ما صنف في تأييد القول بالمشيئة الواحدة قد أهمل ففقد بعد انتصار القول بالمشيئتين. ولا سبيل إلى تعرف من كتب في المشيئة الواحدة إلا بطريق من كتبوا يردون على هذا القول، وأشهر أصحاب الرد على القول بالمشيئة الواحدة مكسيموس المعترف، وهو قسطنطيني الموطن، شريف النسب، فيلسوف ولاهوتي مرموق، كان في أول أمره كاتب سر لهرقل الفسيلفس، فلما قال الفسيلفس بالمشيئة الواحدة خرج مكسيموس من البلاط الملكي واعتزل في دير في خريسوبولي «أسكي دار»، ثم صار رئيسا لهذا الدير، ومن هنا التعبير الغربي
Maxime l’Abbé ، وقد دافع عن القول بالمشيئتين والفعلين، وكتب الكتب متأثرا بمؤلفات أثناسيوس الكبير، وغريغوريوس النزيانزي وغيرهما.
وكان عهد قسطنطين الثالث، فأمره أن يكف عن الخطابة والكتابة فأبى، فأمر الفسيلفس بقطع لسانه ويده اليمنى، ثم نفاه إلى لازقة، فتوفي في المنفى في السنة 662، وأعلن في القديسين، ولا يزال الأرثوذكسيون، حتى يومنا هذا، يرتلون: «لنمتدحن حق الامتداح مكسيموس العظيم، عاشق الثالوث، الذي حكم بصراحة للإيمان الإلهي بأن يمجد المسيح بطبيعتين ومشيئتين وفعلين، ولنهتفن قائلين: السلام عليك يا كاروز الإيمان.»
ويرى بعض رجال الاختصاص أن مكسيموس المعترف جمع في رسائله ومؤلفاته بين التصوف النظري الذي وضعه ذيونيسيوس الآريوباغوسي وبين مشاكل الرهبانية العملية، فاستحق بذلك أن يدعى مؤسس التصوف البيزنطي.
2
واتصلت آراء مكسيموس بالغرب، فتأثر بها عدد من رجال اللاهوت، وفي طليعة هؤلاء يوحنا الإريجيني
Johannes Scotus Eriugena
من أعيان القرن التاسع، وكان يوحنا هذا قد عشق مؤلفات ذيونيسيوس الآريوباغوسي فاعترف أنه لولا مصنفات مكسيموس «الفيلسوف الإلهي الكلي الحكمة» لما تمكن من فهم ذيونيسيوس.
3
وعني صفرونيوس بطريرك المدينة المقدسة، الذي عانى متاعب حصارها من قبل العرب، بأخبار القديسين، فكتب مطولا في سيرة القديسين المصريين كيروس ويوحنا، فأتحفنا بفذلكات مفيدة من جغرافية واجتماعية، ومما ينسب إليه أنه هذب صلاة الشكر المسائي: الأفشين «يا نورا بهيا.»
ومن أعيان هذا القرن أيضا لاونديوس أسقف نيابوليس في قبرص، ألف في سير القديسين ولا سيما سيرة يوحنا الرحوم بطريرك الإسكندرية، فأفادنا؛ لأنه اهتم في كتابته لناحيتي الاقتصاد والاجتماع، ويختلف لاونديوس عن معظم من ألف في أخبار القديسين أنه كتب متأثرا باللهجة اليونانية الدارجة في عصره؛ إذ جعل هدفه إرشاد العامة قبل الخاصة.
4
وممن اشتهر في هذا القرن أيضا أندراوس الدمشقي الذي نشأ في دمشق وترعرع فيها، فعكف منذ حداثته على العلم، ثم تقبل النذر في فلسطين، فصار كاتب ثيودوروس بطريرك المدينة المقدسة، واشترك في أعمال المجمع المسكوني السادس الذي انعقد في عهد قسطنطين الألحى سنة 680، ثم صار شماسا للكنيسة العظمى، فرئيسا لأساقفة أقريطش، وتوفي بين السنة 720 والسنة 723، أما أشهر آثاره فأناشيده الدينية المعروفة بالقانون الكبير، ولعله أول قانون من نوعه، يشتمل على أهم حوادث الكتاب المقدس، ويتلى هذا القانون في الأسبوعين الأول والأخير من الصوم الكبير.
وكان طبيعيا جدا أن تحول الحروب الطويلة التي نشبت في هذا القرن دون العناية بإنشاء المباني الفخمة، ولكن القليل الباقي من آثار البناء التي ترجع إلى هذا القرن؛ يدل بوضوح على أن الأسس الفنية التي وضعت في عهد يوستنيانوس الكبير كانت ما تزال متبعة في عهد هرقل وخلفائه. وتدل هذه الآثار نفسها على أن مدى تأثير الفن البيزنطي كان قد تعدى حدود الإمبراطورية، فكتدرائية إيتشميازن الأرمنية التي رممت بين السنة 611 والسنة 628 تنطق بأثر الفن البيزنطي في أرمينية، وكذلك كنيسة قلعة عانة (622) وبعض تصاوير كنيسة القديسة مريم القديمة في رومة.
ويرى العلامة الفنان شارل ديل أن قبة الصخرة التي أنشأها الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان في بيت المقدس بين السنة 687 والسنة 690 بعد الميلاد، هي من حيث فنها نموذج مكمل للفن البيزنطي في القرن السابع، فشكلها المثمن الزوايا وقبتها ولا سيما تلبيس جدرانها بالرخام وتزيينها بالفسيفساء المذهبة، جميع ذلك ينطق بأثر الفن البيزنطي، ويرى هذا العلامة الرأي نفسه فيما يتعلق بالمسجد الأموي في دمشق، فيذكر أن الوليد، عندما أراد أن يحول كنيسة مار يوحنا المعمدان إلى جامع، استعان بزميله فسيلفس الروم فأرسل له الصناع لهذه الغاية، وأن الكنيسة هذه أصبحت بعد تحويلها تشبه من الجهة الفنية بسيليقة بيزنطية ذات قبة، وأن الفسيفساء التي وشحت الجدران هي فسيفساء بيزنطية أيضا.
5
الباب السابع
انتعاش وتوطيد واستقرار
الفصل التاسع عشر
الأسرة الإسورية أو السورية
717-802
أصلها
وفي السنة 717 اعتلت عرش الروم أسرة ظل المؤرخون يعتبرونها إسورية حتى نهاية القرن التاسع عشر، ولكن في السنة 1896 كتب العالم الألماني شينك في مجلة الأبحاث البيزنطية مقالا قيما في مؤسس هذه الأسرة لاوون الثالث، فجعله سوريا لا إسوريا،
1
ثم جاء بعده من أيده،
2
ومن عارضه،
3
والسبب في هذا الاختلاف في الرأي هو أن ثيوفانس المرجع الرئيس في سيرة لاوون قال عنه إنه من أبناء جرمانيكية «مرعش» ومن أصل إسوري،
4
وأن أنسطاسيوس الذي نقل كتاب ثيوفانس إلى اللاتينية في منتصف القرن التاسع قال في ترجمته: إن لاوون كان من أبناء جرمانيكية وإنه كان سوري المولد،
5
والواقع أن إسطفانوس الأصغر يؤيد القول بالأصل السوري ويوافقه على ذلك المؤرخ العربي المجهول صاحب كتاب العيون والحدائق الذي صنف فيما يظهر في النصف الثاني من القرن الحادي عشر، فهذا المؤرخ المجهول يجعل لاوون سوريا يجيد العربية كاليونانية.
6
وشجرة النسب الواردة في الصفحة السابقة تشمل الأسرتين الإسورية والعمورية، ويتضح منها أن لاوون الثالث، المؤسس المنظم المصلح كما سيمر بنا، توفي في السنة 741 وأن ابنه قسطنطين الخامس الذي تزوج من ابنة خاقان الخزر جلس بعده على العرش، فساس البلاد أربعا وثلاثين سنة أثبت في أثنائها أنه خير خلف لوالده المؤسس. وجاء بعده ابنه لاوون الرابع «الخزري» نسبة إلى والدته، وتزوج من آثينية اسمها إيرينة، ولكن كان مريضا بداء السل فمات صغيرا بعد أن حكم مدة وجيزة (775-780)، وكان ابنه وخلفه قسطنطين السادس لا يزال في العاشرة فأصبحت إيرينة الوصية الوحيدة على العرش واقترن اسمها باسم ابنها القاصر في جميع شئون الدولة.
وكانت إيرينة هذه ذكية محبوبة من الجماهير، إلا أنها كانت شديدة الطموح، فما إن تولت منصب الوصاية حتى أفعمها جاه المنصب استبدادا وطمعا يشوبه الغرور، ومع ذلك نالت عطف الجماهير وتأييد رجال الدين؛ لأنها أوقفت حرب الأيقونات، وقد ملأت جميع المناصب الهامة برجال من بطانتها، وطالت مدة حكمها عشر سنوات وهي مستأثرة بالسلطة لا يشاركها فيها أحد، واستولى عليها الغرور وعظمت ثقتها بنفسها فبقيت على استئثارها بالسلطة حتى بعد أن بلغ سن الرشد، فثار عليها لما بلغ الثانية والعشرين من عمره وتسلم أزمة الأحكام بالقوة، فبقيت إيرينة أما شاذة لا ترضى عن استئثار ابنها بالسلطة وظلت تحلم باستعادة نفوذها، حتى كانت السنة 797 فتمكن المتآمرون الذين كانوا يعملون لحسابها من القبض على ابنها قسطنطين السادس فسملوا عينيه وحبسوه في أحد الأديرة، وبذلك انتهى حكم هذه الأسرة الإسورية أو السورية، أما قسطنطين فإنه عاش سنوات عدة راهبا أعمى، وراقب عن بعد خمسة أباطرة تعاقبوا على العرش من بعده، وأول هؤلاء أمه إيرينة التي جلست على العرش خمس سنوات متتالية، والظريف الطريف عنها أنها كانت تلقب فسيلفسا لا فسيلسة؛
7
لأن الروم في عهدها كانوا يرون أن حق الاشتراع من خصائص الرجال لا النساء، ولم تسقط إيرينة قبل السنة 802 عندما سيطر وزير ماليتها الكبير نقفور على بعض الخصيان ورجال البلاط، فقبض عليها بهدوء وحبسها في أحد الأديرة، ولم يحرك أحد ساكنا من أجلها، واعتلى نقفور العرش بهدوء.
8
الحرب العربية
وكتب على لاوون الثالث أن يصد العرب وأن يمنع مسلمة من الاستيلاء على القسطنطينية - كما سبق أن أشرنا - وكانت محاولة مسلمة تلك هي الأخيرة من نوعها في تاريخ الخلفاء الأمويين فلم يتسن لهم بعدها الدخول إلى أوروبة الشرقية، ولم يحاولوا الحرب بجد ونشاط بعد هذه الصدمة القوية. ولعل السبب في هذا كان ظهور الخزر في أقصى الشمال وتعاونهم مع الروم وانقضاضهم على أذربيجان، وقد حالف لاوون الثالث هؤلاء الخزر، وفي السنة 732 أزوج ابنه قسطنطين الخامس ابنة خاقان الخزر إيرينة ،
9
ولعل السبب في هذا أيضا أن الذين تربعوا على عرش الأمويين في هذه المدة كانوا أشخاصا ضعفاء الهمة والعزيمة، سقطوا صرعى للغواني والشراب، وعبيدا للملذات والشهوات، وقد يكون السبب أيضا ما وقع من التصادم بين القيسيين واليمنيين، وما حصل من سخط مسلمي فارس على الأمويين؛ لأنهم لم يساووا بين المسلم غير العربي والمسلم العربي.
10
بيد أن غزوات العرب الأمويين لم تنته عند الفشل الذي حل بهم حول أسوار القسطنطينية في السنة 718؛ فقد أغاروا في السنة 725 على قبدوقية واستولوا فيها على قيصرية وهددوا نيقية، وفي السنة 737 عادوا إلى الحرب وبلغوا تيانة في جنوبي قبدوقية، فضربوا عليها الحصار في السنة 739، ولكنهم فشلوا فشلا ذريعا في يوم أكروينون
11 «أفيوم قره حصار»، فاضطروا أن يجلوا عن غربي آسية الصغرى، وأن يتراجعوا شرقا فجنوبا، وفي هذا اليوم - على الأرجح - قتل عبد الله البطال الذي تميز في حرب مسلمة، فأصبح فيما بعد السيد غازي الذي اعتبره الأتراك بطلا من أبطالهم، فأنشئوا له قبرا بالقرب من أسكي شهر «دوريلايوم» وتكية فمسجدا للطريقة البكتاشية.
12
واستغل قسطنطين الخامس الغليان الداخلي في الدولة الأموية، فانقض في السنة 745 على حدودها الشمالية، واستعاد مرعش ودولوك، وأجلى نصارى الحدود إلى تراقية، وفي السنة 746 جهز أسطولا كبيرا في مياه آسية الصغرى الجنوبية ومخر به إلى قبرص، فقضى على أسطول عربي كان في مياهها واحتل الجزيرة. وفي السنة 751 جرد حملة على حدود العرب في أرمينية فاستولى على أرضروم وملاطية، ثم اتجه نحو الفرات فاحتل حصن قلوذية وبلغ شمشات.
13
وكانت جبال طوروس بسلسلتيها هي الحد الفاصل بين الدولتين، وكان خط الدفاع البيزنطي ينقسم قسمين رئيسين: أحدهما يمتد من ملاطية إلى عين زربة، وهو مخصص لصد الغارات من شمالي العراق، والآخر يمتد مقابلا الشام لصد الحملات المنبعثة منها، وعني الروم عناية فائقة بهذين الخطين الطبيعيين، ولا سيما الممرين عبرهما: الممر الذي ينتهي عند أبواب قيليقية بين أدنة وسائر الأناضول الشمالي، وممر كوردخاي بين مرعش والبستان،
14
وكان على قمة شديدة الارتفاع عند أقصى الممر الأول في جهة الشمال ؛ حصن حصين يتحكم بسهول قبدوقية الجنوبية، ويسمى قلعة اللؤلؤة، وقد أصبح في هذا العهد الذي نحن بصدده مضرب الأمثال في المناعة. وكان هذا الممر يضيق جدا في جنوبيه فيصبح عرضه عند أبواب قيليقية بضعة أمتار، وكانت تحيط به صخور شاهقة في ارتفاع عمودي، وتشرف عليه قلعة الصقالبة، بحيث تستطيع حاميتها وقف جيش كبير العدد.
أما ممر كوردخاي فكانت أهم قلاعه قلعة زبطرة،
15
وقلعة ملاطية لوقوعها عند ملتقى الطرق الرئيسة المؤدية من سبسطية وسيواس وقيصرية إلى أرمينية وشمالي العراق، وأطلق العرب على الممر الأول اسم درب السلامة، وعلى الممر الثاني اسم درب الحدث، وقد أقام الروم، عبر آسية الصغرى، من قلعة اللؤلؤة إلى القسطنطينية، سلسلة من المنارات؛ لإرسال الأنباء بإشعال النار، فكانت النار التي توقد على برج حصن اللؤلؤة يراها الحراس المقيمون في برج جبل أرغايوس المطل على بحيرة تانة ومنه يراها الحراس في برج أغيلوس، ثم ينتقل خبرها إلى معسكر دوراليوم الكبير، فبرج ماماس، فبرج موكيلوس، فبرج خليج بيثينية، فبرج القديس أوكزنتيوس، فالقصر الكبير.
وفي عهد الإمبراطور ثيوفيلوس (829-842) أدخل لاوون الرياضي تحسينا على هذه الطريقة؛ فإنه أعد ساعتين تسيران في زمن واحد، إحداهما جعلها في القصر الكبير في القسطنطينية، والأخرى في قلعة اللؤلؤة، ورتب لاوون أن تتفق السلطتان: السلطة المقيمة في القصر، والسلطة المقيمة في القلعة، على اثنتي عشرة حادثة، يرمزون لكل حادثة منها بساعة معينة من الساعات الاثنتي عشرة، وتكتب كل حادثة أمام الرقم المخصص بها على واجهة الساعة، فإذا حدث أن أحس محافظ قلعة اللؤلؤة في الساعة الرابعة مثلا أن العدو على أهبة عبور الحدود انتظر إلى الساعة السادسة ليتبين حركات العدو ثم أشعل النار، وعندما تنقل تلك الإشارة عبر المحطات إلى القصر الإمبراطوري ينظر الحراس إلى الساعة فيعلمون متى أشعلت النار في قلعة اللؤلؤة ويقفون بذلك على معنى هذه الإشارة؛ أي أن العدو أخذ يحرك ركابه للهجوم، وإذا أشعلت النار في الساعة السابعة علموا أن الحرب وقعت بين الطرفين، وإذا أشعلت في الساعة الثامنة؛ دلت على أن العدو قد أعمل الحرائق، وهكذا.
16
وعني العرب بمثل ما عني به الروم، فأسس هارون الرشيد (786-809) إقليم عواصم بالإضافة إلى إقليم الثغور، فشمل إقليم العواصم حلب ومنبج وأنطاكية إلى الساحل، وجعل عليه ابنه المعتصم، وإقليم العواصم هذا كان سلسلة من الحصون الداخلية تعصم الحدود وتعينها على صد غارات الروم، وكان إقليم الثغور في عهده ينقسم قسمين: الثغور الجزرية لحماية العراق ومن حصونها زبطرة ومنصور والحدث، والثغور الشامية، ومن حصونها المصيصة وأدنة وطرسوس.
17
وليس في المراجع العربية - أو غيرها - ما يدل على أن الخلفاء العباسيين قد هدفوا إلى ما هدف إليه أسلافهم الأمويون من حيث القضاء على دولة الروم والسيطرة على حوض البحر المتوسط، فالصوائف والشواتي في عهدهم لم تكن سوى غارات للاستيلاء على معاقل جبال طوروس أو للنهب والسلب الشائعين في ذلك العصر، فغزو الربيع كان يبدأ من منتصف أيار بعد أن تكون الخيول العربية قد سمنت، ويستمر شهرا من الزمن تجد فيه هذه الخيول غذاء وفيرا في مراعي الروم، ثم تخلد إلى السكينة شهرا، وتستأنف بعده غارات تستغرق ستين يوما، أما غزو الشتاء فكان يقع عادة في النصف الأول من آذار.
18
وفي السنة 783 ثار الصقالبة على إيرينة فاضطرت أن تسحب بعض قواتها من آسية الصغرى لإخماد هذه الثورة في مقدونية وبلاد اليونان، فانتهز العرب الفرصة وتوغلوا في آسية الصغرى، فكسروا الروم في درنون، ووصلت طلائعهم إلى ضفة البوسفور، فصالحت إيرينة على أن تدفع مالا سنويا قدره سبعون أو تسعون ألف دينار، وفي السنة 784 استولى العرب على ثيباسة في قبدوقية،
19
وكان الفريقان يراقبان السواحل، فأسر الروم في السنة 790 بضع سفن عربية وهي في طريقها من مصر إلى الشام، وأغار الأسطول العربي على قبرص في هذه السنة نفسها وأنزل قواته في الجزيرة وهزم أسطول الروم في مياه أضالية وأسر أميره، ولكن خسارة العرب كانت - فيما يظهر - عظيمة.
20
وفي السنة 798 توغل العرب في آسية الصغرى مرة أخرى اكتسحوا قبدوقية وغلاطية، فاضطرت إيرينة أن تدفع إلى هارون الرشيد المال السنوي نفسه الذي كانت قد دفعته إلى المهدي.
21
البلغار والصقالبة
وعاون البلغار لاوون الثالث على العرب أثناء حصارهم القسطنطينية، وظلت العلاقات ودية بين الروم والبلغار ثلاثين سنة، أما قسطنطين الخامس (740-775) فإنه نقل إلى البلقان عددا كبيرا من الأرمن والسوريين المسيحيين وأنشأ سلسلة من الحصون عند حدود البلغار، ثم شنها حربا على هؤلاء؛ ليقضي على دولتهم، ولكنه لم يفلح. وقد أطلق عليه بعض المؤرخين لقب ذابح البلغار
Bulgaroctonus ،
22
وعند نهاية القرن الثامن اتخذ البلغار خطة الهجوم فأكرهوا قسطنطين السادس ووالدته إيرينة على أن يؤدوا لهم مالا معلوما كل سنة.
وفي المراجع ما يدل على أن الصقالبة كانوا قد انتشروا في طول اليونان وعرضها عند منتصف القرن الثامن، وأنهم ظلوا يتدفقون عليها حتى أصبحوا أصحاب الكلمة فيها وفي قسم كبير من البلقان، وقد سبقت الإشارة إلى الحملة التي أنفذتها إيرينة نفسها لمحاربة هؤلاء الصقالبة في السنة 783.
23
الإكلوغة
وعني لاوون الثالث بالتشريع، فرأى أن القوانين والأنظمة التي ترجع إلى عصر يوستنيانوس الكبير؛ قد أصبحت تفتقر إلى إعادة نظر وتعديل، رأى الناس في بعض الولايات الشرقية لا يزالون يؤثرون العرف حتى على بعض شرائع يوستنيانوس، كما رأى بعد تقلص الإمبراطورية من جراء الفتح العربي وتغلب الصقالبة والبلغار على جزء كبير من البلقان أن اليونانية قد أصبحت هي اللغة الوحيدة التي يفهمها السكان، وبالتالي لا بد من تشريع باليونانية خلاف تشريع يوستنيانوس الموضوع باللاتينية، فصمم لاوون على العمل في هذا الحقل فانتقى في السنة 726، لا 739، كما يرى البعض،
24
لجنة من كبار رجال القانون أسند إليها إعادة النظر في قوانين يوستنيانوس واصطفاء المفيد منها وتحسينه ووضعه باليونانية، وأطلق لاوون على مجموعته هذه اسم الإكلوغة
Ecloga
ومعناه: المنتخبات.
ومما جاء في مقدمة الإكلوغة هذه: أن قوانين الأباطرة قد أصبحت صعبة المنال؛ إما لتفرقها في الكتب الكثيرة، أو لصعوبتها على الفهم ، أو لقلة تداولها في الأوساط خارج العاصمة «المحروسة من الله»، ومما جاء في هذه المقدمة أيضا أنه يجب على القضاة أن يتجردوا من العاطفة وأن يحكموا بالعقل والعدل، وألا يحتقروا الفقراء والمساكن وألا يتركوا الأقوياء المجرمين طلقاء الأيدي وأن يمتنعوا من قبول الهدايا. وكذلك نصت هذه المقدمة على وجوب دفع مرتبات القضاة من الخزينة «الصالحة» كي لا تتم نبوءة عاموس «لأنهم باعوا البار بالفضة والبائس لأجل نعلين؛ فتسلط علينا غضب الرب بتجاوز وصاياه.»
25
وتتضمن الإكلوغة في أقسامها الثمانية عشرة الحقوق المدنية والأحوال الشخصية، ولا تبحث في الجزاء إلا قليلا، وهي تختلف عما اشترعه يوستنيانوس اختلافا بينا في بعض الأحيان؛ فهي تأخذ بالعرف أحيانا وباجتهادات القضاة السابقين أحيانا أخرى، ويتساوى أمامها الغني والفقير، الأمر الذي لا نلقاه دائما في مجموعة يوستنيانوس. والإكلوغة مسيحية أكثر من الدجستا تحل فيها الاستشهادات بنصوص الكتاب المقدس محل الاستشهادات بالشرع الروماني القديم،
26
ولكن مع هذا كله لا يرى رجال الاختصاص في الإكلوغة ما رآه المؤرخ اليوناني باباريغوبولو الذي صنف في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، فإنه رأى في الإكلوغة أسسا لم يتوصل إليها القانون في الغرب إلا بعد ألف سنة.
27
قانون المزارعين
وثمة ثلاثة قوانين أخرى تعود - في الأرجح - إلى عهد الإسوريين أيضا، وأشهر هذه القوانين قانون المزارعين، وهو في رأي الثقات من اشتراع لاوون الثالث وابنه قسطنطين الخامس، أما تاريخ صدور هذا القانون فقد كان في الوقت نفسه الذي صدرت فيه الإكلوغة (726) أو بعيد ذلك،
28
ويرى العالم الروسي بنشنكو أن هذا القانون مستمد من العرف الذي ساد الأوساط الريفية والذي لم تشمله الإكلوغة.
29
والداعي لاهتمام العلماء بهذا القانون خلوه من الإشارة إلى الكولوني والأقنان
Serf ، واهتمامه بظواهر جديدة بين الفلاحين كالملكية الفردية الحرة والملكية الجماعية أو المشاع وحرية الانتقال ومنع الخدمة الإجبارية، وقد نغالي إذا قلنا مع ثيودور أوسبنسكي: إن هذه الظواهر الجديدة شملت الدولة بأسرها، وإن الفلاح زمن الإسوريين دخل في عهد جديد، فشكل طبقة جديدة حرة مستقلة،
30
وقد نغالي أيضا إذا قلنا مع شارل ديل وزميله جورج مارسه: إن لاوون الثالث وابنه قسطنطين الخامس حاولا بهذا التشريع أن يوقفا تواري الممتلكات الحرة الصغيرة وأن يحدا من طغيان الممتلكات الكبيرة، وأن يضمنا للفلاح ظرفا أفضل،
31
ولا يجوز التمادي في القول مع بعض العلماء: إن لاوون وابنه اضطرا أن يدخلا على شرع الدولة عرفا خاصا صقلبيا في أساسه لكي يستهويا العناصر الصقلبية في الدولة ويوقفا ميل هؤلاء إلى التحالف مع البلغار والتعاون معهم، ويرى المؤرخ ألكسندر فسيلييف أن في مجموعات ثيودوسيوس ويوستنيانوس، وفي أخبار القديسين ما يدل على أن الملكية الحرة الصغيرة كانت لا تزال باقية حتى عهديهما، وأن الدولة الرومانية عرفت نظام المشاع في أوائل عهدها، وأن الملكية الحرة الصغيرة بقيت منتشرة في الدولة البيزنطية إلى جانب الملكية الكبيرة وكولونيها وفدادينها،
32
ولعل الأقرب إلى الحقيقة أن تؤخذ هذه الأمور جميعها بعين الاعتبار.
القانون البحري الرودوسي
ونجد في بعض نسخ الإكلوغة الخطية القديمة ملاحق تتضمن قانونين آخرين، أحدهما بحري والآخر عسكري، ويخلو هذان القانونان من أية إشارة إلى تاريخ صدورهما، أما بعض رجال الاختصاص فقد رأوا في محتوياتهما ما يدل على أنهما من إنتاج الأسرة الإسورية.
والقانون البحري الرودوسي قانون تجارة بحري يبحث بنوع خاص في توزيع المسئوليات عند تعرض السلع للخطر، إما من جراء العواصف البحرية أو القرصنة، وهو يختلف عما جاء من نوعه في تشريع يوستنيانوس فيقسم تبعة الخسارة بين صاحب المركب والتاجر والركاب، وتدل محتويات هذا القانون على أنه صدر في عصر كانت قد شاعت فيه قرصنة العرب والصقالبة.
قانون الجند
أما قانون الجند فإنه مأخوذ من قوانين يوستنيانوس ومن الإكلوغة، ومصادر أخرى، وهو في أساسه قانون عقوبات عسكري يحدد الأحكام التي ينبغي للسلطة أن تجريها على الجنود في حال رفض الطاعة، أو التمرد، أو الفرار، أو الفسق، أو ما أشبه. والعقوبات المفروضة صارمة جدا، فإذا صحت نسبة هذا القانون إلى لاوون الثالث، فإنه يظهر عندئذ شدة الانضباط الذي أوجبه هذا القائد العسكري.
33
الثيمات أو البنود
وليس لدينا من المراجع الأولية ما ينبئنا بما فعل لاوون الثالث بنظام الثيمات، ولكن رجال الاختصاص يرون فرقا بين ما حفظته مراجع القرن السابع الرومية عن هذا النظام، وبين ما دونه ابن خرداذبه في كتابه المسالك والممالك في القرن التاسع ، وهم ينسبون هذا الفرق إلى لاوون وابنه قسطنطين،
34
ويرى هؤلاء الاختصاصيون على ضوء هذا الفرق، أن لاوون جعل ثيمات آسية الصغرى ستا بدلا من أربع، فاقتطع من ثيمة الأناضول في الغرب ثيمة جديدة أسماها التراقية نسبة إلى الجنود التراقيين المقيمين فيها. كذلك يرون أنه قد جعل القسم الشرقي من ثيمة الأبسيق مستقلة أسماها ثيمة البوكولاري نسبة إلى جنودها البوكولاري الذين كانوا يعنون بالتموين، ولم يتجاوز عدد الثيمات في أوروبة في القرن الثامن أربعا، وهي: تراقية ومقدونية وهلاس وصقلية،
35
ولعل السبب في تقسيم الثيمات الآسيوية كان خوف لاوون من أن يجرؤ عليه القادة، كما جرؤ هو على سيده ثيودوسيوس الثالث، فصغر الثيمات لكي تنقص بذلك موارد القادة فيها وتتضاءل لديهم إمكانات الخروج على السلطة المركزية.
ومما لا ريب فيه أن لاوون عني في آخر عهده بأسوار العاصمة، ففرض ضريبة خاصة بها، ورمم ما كان قد تساقط منها بفعل تكرار الزلازل، ولا تزال أبراج الأسوار الداخلية تحمل اسمه واسم ابنه قسطنطين الخامس حتى يومنا هذا.
36
حرب الأيقونات
والأيقونة لفظ يوناني معناه الصورة أو الرسم، وهو يستعمل في المصطلحات الدينية للإشارة إلى صور القديسين. والأيقونات في عرف الكنيسة نوعان: منها العادي، ومنها العجائبي. وحرب الأيقونات تنقسم إلى مدتين منفصلتين: الأولى من السنة 726 حتى السنة 780، وتنتهي بالمجمع المسكوني السابع، والثانية تمتد من السنة 813 حتى السنة 843، وتنتهي بإرجاع الأرثوذكسية إلى حالتها الأولى.
وأسباب هذه الحرب الداخلية الطاحنة لا تزال غير واضحة ولا ثابتة؛ لأن ما نعلمه عنها مأخوذ - في معظمه - من أقوال أحد الخصمين؛ فلقد ضاعت مصنفات الذين حاربوا الأيقونات، وما بقي منها جاء في معرض الردود التي كتبها الخصوم، فهو - والحالة هذه - غير صالح للأخذ به؛ لما ينقصه من العدالة. وما يصح من هذا القول على المصنفات العامة يصح كذلك على قرارات المجمعين اللذين حرما إكرام الأيقونات؛ فمقررات مجمع السنة 753 قد وردت في أعمال المجمع المسكوني السابع، وهو المجمع الذي حرمها، وكذلك قرارات مجمع السنة 815 فإنها وردت في تضاعيف إحدى رسائل البطريرك نيقوفوروس.
والباحثون في أسباب هذه الحرب الداخلية يختلفون في الرأي؛ فبعضهم يرى أسبابها دينية، وغيرهم يراها سياسية، فالمؤرخ اليوناني المعاصر باباريغوبولو يرى - في كتابه تاريخ الحضارة الهلينية - أن حرب الأيقونات كانت في أساسها حرب إصلاح سياسي اجتماعي، وأن لاوون الثالث ومن خلفه من أسرته أراد أن يحرر التعليم والتربية من سيطرة الإكليروس، وأن العناصر المستنيرة المتحررة في الدولة وبعض كبار رجال الدين والجيش قد أيدوا هذه الحركة الإصلاحية، وأن إخفاق هؤلاء أجمعين إنما نتج عن تمسك العناصر الجاهلة من النساء والرهبان وأهل الأوساط العادية بكل قديم.
37
ويرى المؤرخ الفرنساوي لومبار - في كتابه قسطنطين الخامس - أن حرب الأيقونات كانت حركة إصلاحية دينية ترمي إلى تطهير النصرانية من أدران الوثنية، وأنها جاءت في الوقت نفسه الذي جرت فيه محاولات أخرى للإصلاح، سياسية اجتماعية ولكنها مستقلة لها تاريخها الخاص،
38
ويقول العالم الإفرنسي لويس براهيه: إن محاربة الأيقونات في تاريخ الروم ذات وجهين، فثمة مشادة حول إكرام الأيقونات، وثمة بحث دقيق إذا كان يصح الرمز إلى ما فوق الطبيعة بالرسم والتصوير، وإذا كان يجوز أن يمثل القديسون والعذراء والسيد بالتصوير،
39
ويرى المؤرخ الروسي أوسبنسكي أن السبب الحقيقي الذي دفع بلاوون وخلفائه إلى خوض غمار هذه الحرب إنما كان خوفهم من ازدياد ثروة الرهبان وتزايد نفوذهم، فالمشادة كانت زمنية سياسية في مستهل أمرها فجعلها الرهبان دينية ليوغروا صدور المؤمنين ويحضوهم على مقاومة سياسة الحكومة.
40
والواقع أن الاعتراض على الأيقونات لم يكن ابن ساعته، ففي بدء القرن الرابع حرم مجمع ألفيرة
Elvira
المحلي في إسبانية إقامة الصور في الكنائس،
41
ورأى يوسيبيوس أسقف قيصرية فلسطين ومؤرخ الكنيسة أن إكرام صور السيد وبطرس وبولس كان من عادات «الأمم»،
42
وفي هذا القرن الرابع نفسه ظهر أبيفانيوس القبرصي أيضا فمزق ستارا في الكنيسة؛ لأنه كان يحمل صورة السيد وأحد القديسين،
43
وفي القرن الخامس اعترض أسقف سوري على الأيقونات قبل سيامته، وفي القرن السادس ضجت أنطاكية مستنكرة إكرام الإيقونات، وفي هذا القرن أيضا حرم أسقف مرسيلية «مسالية» إقامة الأيقونات في الكنائس، فكتب إليه غريغوريوس العظيم بابا رومة يثني على عدم التعبد لما هو من صنع البشر، إلا أنه ذكره في الوقت نفسه بالمؤمنين الأميين الذين لا يقرءون ولا يكتبون، وذكره بضرورة إعانتهم على النظر إلى ما لا يمكنهم أن يقرءوه في الكتب، وعاد فكتب إليه ثانية في أن عبادة الصور شيء والتعلم بها شيء آخر.
44
ويجب ألا يغيب عن البال أن اليهود - في الشرق والغرب معا - لم يرضوا قط عن شيء من هذا، وأن القرآن علم بأن الأنصاب رجس من عمل الشيطان (سورة المائدة)، وأن الخليفة الأموي يزيد الثاني أمر في السنة 723 بتحطيم الأيقونات في كنائس النصارى،
45
وأن الإسوريين وخلفاءهم العموريين كانوا شرقيين آسيويين وأنهم كانوا رجال سياسة وحرب قبل كل شيء، وأن المذهب البولسي كان قد شاع في آسية الصغرى ولا سيما في ولاية فريجية وأن أنصاره كانوا قد أصبحوا قوة مخيفة،
46
وكذلك يجب ألا ننسى ازدياد عدد الرهبان وتزايد ثروتهم ونفوذهم؛ فإنهم بلغوا مائة ألف راهب في هذه الفترة وقد تزايدوا بصورة خاصة في العاصمة نفسها. كما يجب أن نذكر أن هؤلاء جميعا لم يكونوا من أهل الزهد والتقوى، وأن بعضهم لم يتقشف إلا هربا من أحكام القضاة ورجال الأمن.
47
وقضى لاوون الثالث السنوات العشر الأولى من حكمه في توطيد دعائم ملكه، وفي إخماد نار الثورة التي أشعلها الفسيلفس أنسطاسيوس الثاني (713-716) وقائد صقلية، كما جهد في إعادة اليسر والطمأنينة إلى الولايات التي كانت قد أصبحت مسرحا للحروب وميدانا للأوبئة، وكانت العاصمة نفسها قد فقدت عددا كبيرا من سكانها نتيجة هذه العوامل ولا سيما الطاعون الذي غشيها في السنة 718 فتدارك لاوون هذا الشر بأن نقل السكان إليها من الولايات الشرقية، ولا سيما الولايات المتاخمة للعرب، كذلك أعاد النظر في تنظيم جيشه وأصلح القوانين - كما سبقت لنا الإشارة.
48
وقضى لاوون في السنة 722 بتعميد اليهود، وفي السنة 723 سمع بما أمر به يزيد الثاني من تحطيم الأيقونات في بلاده، واستمع لما دار بين بطريرك القسطنطينية جرمانوس والأسقفين قسطنطين وتوما الأناضوليين حول رفع الأيقونات من الكنائس، فبدأ يبث الدعاية السلمية في أوساط العاصمة لأجل ترك الأيقونات والإقلاع عن تكريمها.
وفي السنة 725 أو 726 جمع لاوون الثالث مجلس الدولة الأعلى ودعا إليه البطريرك جرمانوس وباحثه في موضوع الأيقونات ووجوب رفعها من الكنائس وحظر تكريمها، فاحتج البطريرك وذكر الفسيلفس بعهوده للكنيسة تلك التي أقسم أن يرعاها عند تسلمه التاج، ولما لم تنفع الذكرى وضع الأموفوريون عن عاتقه واستعفى، وأصدر القيصر أمره بحظر تكريم الأيقونات، وبدأ تنفيذ الأمر بإنزال تمثال السيد الذي كان يعلو باب القصر، فاندلعت في الحال ثورة اشتركت فيها النساء اشتراكا فعليا، ومزقت الجماهير الموظف الذي نفذ إرادة الفسيلفس، فرد لاوون على ذلك بالعنف فسقط عدد من القتلى، وهبت ثورة في اليونان وجزر الأرخبيل أخمدها الجيش بالقوة، وفي السنة 730 أصدر لاوون أمرا أشد من الأول فقاومه جرمانوس واحتج عليه، فأهانه لاوون وعزله ونصب في مكانه أنسطاسيوس.
وكتب البابا غريغوريوس الثاني كتابة مرة إلى لاوون ولكنه لم يأبه بها، واقتدى البابا غريغوريوس الثالث بسلفه فنهى الفسيلفس عن برنامجه، فلم يعر رسالته اهتماما، فعقد الباب غريغوريوس الثالث مجمعا محليا في السنة 732، وحرم مكافحي الأيقونات، فأنفذ الفسيلفس قوة بحرية ضد البابا ومن قال قوله في إيطالية فغرقت السفن في الطريق، فأرسل عمارة غيرها ورفع سلطة البابا عن أبرشيات صقلية وكلابرية وكريت وإيليرية وألحقها برئاسة بطريرك المسكونة، فقطع البابا كل علاقة له كنائسية ومدنية بلاوون.
49
هذا وليس في المراجع الأولى شيء هام عن حرب الأيقونات في السنوات العشر الأخيرة من حكم لاوون، وهنا لا بد من الإشارة إلى رسالتي يوحنا الدمشقي ضد معظمي الأيقونات، فقد كتبت هاتان الرسالتان في عهد لاوون، أما الرسالة الثالثة في المعنى نفسه فلا يمكن تحديد تاريخها بالضبط.
وتوفي لاوون والبابا غريغوريوس الثالث في السنة 741، فتسلم قسطنطين الخامس أزمة الحكم في القسطنطينية وهو الذي أطلق عليه لقب الزبلي
Copronymus
لأنه أفرز في جرن العماد حين المعمودية، ويروى أيضا أنه لقب بالزبلي؛ لأنه كان يحب رائحة زبل الخيل. وما كاد يستوي على عرشه حتى انتزع الملك منه صهره آرتافزدوس زوج أخته حنة، فاضطر قسطنطين أن يحاصر العاصمة واستولى عليها عنوة وقلع عيني صهره وأعين ابنيه ونفى الثلاثة معا، ثم شرع في اضطهاد الكنيسة فسخر بالاحتفالات الدينية وبكل قديس، ومنع الأعياد والأصوام وخرب الأديرة وجعلها ثكنات للجنود. وكتب إليه البطاركة والبابا يناشدونه ويردعونه ولكنه لم يصغ إليهم، وعقد مجمعا في السنة 754 فأوجب إخراج الأيقونات من الكنائس والبيوت وقطع كل أسقف أو كاهن أو شماس يقتنيها، وقضى على كل راهب أو علماني يقول بالأيقونات أن يحاكم أمام المحاكم المدنية بتهمة معاداة الله والمعتقدات الموروثة عن الآباء.
ثم حرم جرمانوس «عابد الخشب» كما حرم منصورا؛ أي يوحنا الدمشقي «صديق الإسلام وعدو الدولة ومحرف الأسفار المقدسة»، ودعا لقسطنطين الجديد ولزوجته التقية الأرثوذكسية بطول العمر.
50
وتقوى قسطنطين الخامس بقرارات هذا المجمع، فاندفع في محاربة الأيقونات أكثر من ذي قبل وصب غيظه وبلاءه على الرهبان، فكم عين قلع، وكم يد وأذن قطع، فضلا عن قتلهم. وأكره طائفة منهم على الزواج إكراها، واستعرض مرة فئة منهم في ميدان الهيبودروم، موجبا على كل منهم أن يمسك بيد امرأة في أثناء العرض، ويقول ثيوفانس: إن حاكما من حكام آسية الصغرى جمع رهبان ولايته وراهباتها في إفسس فأمرهم بأن يرتدوا الأبيض ويتزوجوا حالا، ومن لم يطع فتسمل عيناه ويقصى إلى قبرص، فهنأه قسطنطين قائلا له: لقد وجدت في شخصك رجلا يحب ما أحب وينفذ جميع رغباتي.
51
وصادر قسطنطين أملاك الأديرة، وضمها إلى أملاك الدولة، وهكذا فر عدد كبير من الرهبان إلى إيطالية وجنوبي روسية وشاطئ لبنان وفلسطين، ويقدر الأستاذ أندريف الروسي عدد الذين فروا إلى إيطالية بخمسين ألفا،
52
وأشهر الشهداء في هذه الفترة من تاريخ الكنيسة إسطفانوس الأصغر،
53
ومن هنا - على الأرجح - كان رأي الأستاذ أوسبنسكي أن المؤرخين ورجال اللاهوت قد حرفوا الحقائق وشوهوها عندما رأوا في هذه الحوادث حربا ضد الأيقونات
iconomachia ؛ لأن الواقع أنها كانت حربا ضد الرهبان
monachomachia .
54
والذي يراه الأستاذ أندريف الروسي أن موقف المجمع من هذه الحركة كلها قد أدخل شيئا من الطمأنينة إلى قلوب الشعب فجعلهم مؤمنين بها بضمير صالح، وبذلك تمكن الفسيلفس من أن يجعل كل مؤمن يقسم بأنه سيجتنب تكريم الأيقونات.
55
وكان من جراء العنف الذي لجأ إليه لاوون الثالث وابنه قسطنطين الخامس أن نفرت رئاسة الكنيسة الغربية من حكومة الروم فتقربت من ملوك الغرب لتستعين بهم على دفع شر الاضطهاد، فأفتى البابا زخريا (741-752) في السنة 751، بخلع كليديريك ملك فرنسة وتنصيب بيبينوس، وفي السنة 755 قدم بيبينوس بجيش إلى إيطالية يحارب اللومبارديين، فجعل البابا إسطفانوس الثالث (752-757) سيدا على كل ولايات الروم في إيطالية، ولما طالب قسطنطين الخامس بولاياته هذه أجابه بيبينوس أنه وهبها لكرسي رومة - عن حب - لبطرس الرسول؛ كيما تغفر له خطاياه. ومن هنا، من هذا التباعد بين الفسيلفس والبابا ومن هذا التقارب بين البابا وبيبينوس؛ زرعت بذور الانشقاق في الكنيسة، البذور التي أدت فيما بعد إلى انقسامها شطرين: شرقية وغربية.
المجمع المسكوني السابع
وفي السنة 775 توفي قسطنطين الخامس فخلفه ابنه لاوون الرابع، وكان لاوون الخزري مثل والده يرفض الأيقونات ولكنه كان لين الجانب، وبعد خمس سنين خلفه ابنه قسطنطين السادس وله من العمر عشر سنوات، وتولت أمه إيرينة زمام الحكم باسمة وكانت من محبي الأيقونات، ولكنها رأت منذ بداية عهدها في الوصاية أن الجيش ما يزال معاديا للأيقونات، وأن الصقالبة في غليان مستمر؛ فأرجأت النظر في إعادة الأيقونات إلى وقت آخر.
وكان البطريرك بولس الرابع وغيره من كبار رجال الكنيسة قد أكرهوا إكراها على تقبل قرارات مجمع السنة 754، فاستقال ونصح إلى الوصية أن تجمع مجمعا مسكونيا وأن يرقى إلى الكرسي البطريركي طراسيوس كاتم أسرار المملكة. وكان طراسيوس عالما تقيا فلم يقبل الدرجة إلا بعد أن استوثق من الوصية بأنها تدافع عن الرأي القويم.
56
وفي السنة 784 كتب البطريرك طراسيوس، وكتبت الوصية باسمها وباسم ابنها قسطنطين السادس إلى البابا أدريانوس الأول (771-795)، وإلى البطاركة الثلاثة الشرقيين أبوليناريوس الإسكندري وثيودوريتوس الأنطاكي وإلياس الأوروشليمي، من أجل مجمع مسكوني يعقد في القسطنطينية؛ فأجاب أدريانوس مادحا مبتهجا ولكنه اعترض على ارتقاء طراسيوس من العوام وعلى لقبه بطريرك المسكونة، وطلب أن ترد له أملاك بطرس الرسول والسلطة على الأبرشيات التي أضافها لاوون الثالث إلى الكرسي القسطنطيني.
وفي السنة 786 اجتمع المجمع في القسطنطينية في كنيسة الرسل، ولكن الجند اندفعوا إليها شاهرين السلاح، فدفعوا بالآباء إلى الخارج. وفي السنة 787 التأم هذا المجمع في مدينة نيقية، وكان مؤلفا من 367 أبا وكان رئيسه طاراسيوس. وناب عن البابا أدريانوس القسان بطرس وبطرس، وعن البطاركة الشرقيين الثلاثة القسان توما ويوحنا؛ لأن الظروف السياسية كانت شديدة على هؤلاء.
وعقد المجمع المسكوني السابع ثماني جلسات واشترع اثنين وعشرين قانونا، وفي الجلسة الأولى خطب البطريرك طاراسيوس الرئيس خطبة وجيزة، ثم قرئ كتاب قسطنطين الفسيلفس ووالدته الوصية إيرينة: «إننا قياما بالوصية الإنجيلية وصية المسيح رئيس الكهنة الأبدي، قد عنينا في إرجاع السلام إلى الكنيسة، فبرضاه ومسرته قد جمعناكم أنتم كهنته الجزيل بركم الحافظين عهده بذبائح غير دموية؛ ليكون حكمكم حكم المجامع المستقيمة الرأي.»
ومما جاء في هذه الرسالة أن طاراسيوس أغصب على قبول المنصب البطريركي، وأنه قال قبل أن يقبل الشرطونية: «إني أرى وأنظر كنيسة المسيح المؤسسة على الصخرة التي هي المسيح إلهنا مقسومة الآن ومنشقة، وإننا نحن كنا نقول قبلا بغير ما نقول الآن، ومسيحيو الشرق المماثلون لنا في الإيمان يقولون قولا آخر، ووافقهم مسيحيو الغرب، ونحن غرباء عنهم جميعهم، وكل يوم نحرم من الجميع، فأطلب عقد مجمع مسكوني يحضره نواب عن بابا رومة، وعن رؤساء كهنة الشرق.»
وبعد ذلك دخل الأساقفة المبتدعون، واعترفوا بغلطهم، وقدموا ندامة، ورفعوا اعترافات إيمان مستقيم، وفي مقدمة هؤلاء باسيليوس أسقف أنقيرة، وقد قال في كتابه: «فأنا باسيليوس أسقف مدينة أنقيرة قد اخترت أن أتحد بالكنيسة الجامعة أعني: أدريانوس بابا رومة القديمة الجزيل القداسة وطاراسيوس البطريرك الجزيل الغبطة، والكراسي الرسولية الجزيلة القداسة، كراسي إسكندرية وأنطاكية والمدينة المقدسة، وسائر رؤساء الكهنة والكهنة الأرثوذكسيين، وقدمته إليكم أنتم الذين نلتم السلطان عن الأصل الرسولي.»
وفي الجلسة الثانية قرئت رسائل البابا ورسائل البطاركة، ومما جاء في رسالة البابا أدريانوس التي وجهها إلى «أخيه الحبيب طاراسيوس»: «وبما أن بركم قريب من الأقدام السامية، أقدام ملوكنا العظام، الجزيل تقواهم المتوجين من الله؛ تضرعوا إليهم عنا أن يأمروا بإعادة الأيقونات المقدسة إلى مركزها القديم في مدينة العاصمة المحروسة، وفي كل مكان.»
وسأل النواب طاراسيوس: هل يوافق على رسالة أدريانوس أم لا؟ فأجاب: أنه يوافق عليها لكونها أرثوذكسية، وأنه هو نفسه قد فحص وبحث وتعلم من الآباء، واعترف ويعترف وسيعترف، ويؤيد صحة التحارير التي قرئت، قابلا الأيقونات المصورة على أثر تسليم آبائنا الأقدمين، فقال عندئذ القس يوحنا أحد نائبي البطاركة: «إنه يليق بنا في الحاضر أن نرنم زبوريا: الرحمة والحق تلاقيا والعدل والسلام تلاثما؛ فإن الرحمة والحق تلاقيا، أعني: أدريانوس وطاراسيوس، باتفاق رأيهما وتعليمهما.»
وفي الجلسة الثالثة قرئت رسالة طاراسيوس إلى البطاركة وأجوبتهم عنها، وفي الرابعة اعترف الآباء بوجوب تكريم الأيقونات وقبلوها وألغوا مجمع السنة 754 لأنه لم يكون مسكونيا، وفي السابعة كتب اعتراف الإيمان وحدد فيه المجمع وجوب تقبيل الأيقونات والسجود الإكرامي لها «احتراما للذين صورت عليهم لا عبادة لهم، كما اتهم الكنيسة أعداؤها؛ لأن العبادة إنما تجب لله وحده دون غيره.»
57
رومة تستعيد حقها في انتخاب الإمبراطور
وكان من جراء هذا الاضطهاد الذي لحق بالكنيسة في الشرق والغرب أيضا ومن جراء استمساك بطريرك القسطنطينية بلقب «بطريرك المسكونة»؛ أن حاول بابا رومة لاوون الثالث إعادة الحق إلى رومة العاصمة الأولى في انتخاب الإمبراطور؛ فإنه اعتبر - فيما يظهر - سلطة إيرينة غير قانونية؛ لأنها امرأة، ولأنه لم يسبق لرومة أن اعترفت بحق امرأة في الملك، واعتبر عرش الإمبراطورية الرومانية شاغرا بعد خلع قسطنطين السادس وسمل عينيه، فتوج كارلوس الكبير ملك الإفرنج إمبراطورا في كنيسته الكتدارئية وفي يوم عيد الميلاد من السنة 800، واعتبره خلفا للاوون الرابع وهرقل ويوستنيانوس وثيودوسيوس وقسطنطين. واعتبرت الحكومة البيزنطية هذا العمل خروجا على السلطة، وتوقعت زحف كارلوس الكبير على الشرق لخلع إيرينة وتسلم أزمة الحكم كما فعل غيره قبله من الأباطرة الذين قاموا في الغرب فزحفوا ووحدوا.
58
ويرى البعض من رجال الاختصاص أن كارلوس علم - حق العلم - أن الحكومة البيزنطية ستنتقي بعد إيرينة فسيلفسا جديدا، ففاوض إيرينة في الزواج، وأن إيرينة نظرت إلى هذا الاقتراح بعين الرضى، ولكنها غلبت على أمرها، فخلعت في السنة 802؛ ولذا فإن برنامج كارلوس لم يتحقق.
59
ولم يعترف الروم بلقب كارلوس الجديد قبل السنة 812، ولكنهم - في مقابل هذا - أضافوا رسميا إلى اللقب الفسيلفس الكلمة «الروماني»، ولم يدم عهد هذه الإمبراطورية الرومانية في الغرب؛ فإن خلفاء كارلوس الكبير كانوا صغارا، وفي النصف الثاني من القرن العاشر استعاض بابا رومة عن هذه الإمبراطورية الرومانية بإمبراطورية رومانية «مقدسة».
60
الفصل العشرون
خلفاء الإسوريين والأسرة العمورية
802-867
نيقيفوروس الأول وميخائيل الأول (802-820)
واستطاع نيقيفوروس
Nicephorus
أو نقفور أن يستولي على الإمبراطورية في يسر وسهولة كما سبق أن أشرنا، وكان سامي الأصل إن لم يكن عربيا،
1
ولم يقتف آثار إيرينة في تنفيذ مقررات المجمع السابع، ولكنه لم يضطهد من قال بإكرام الأيقونات، ولا هو شجعهم، وجاهد جهادا طيبا في سبيل الخزينة، فنقض الإعفاءات من الضرائب التي كانت قد منحتها إيرينة استرضاء، وأعاد النظر في سجل الأراضي، وفي ضرائب الدخل، وفرض ضرائب جديدة خص بها الأغنياء؛ لتعبئة الجيش وتسليحه، فاكتسب بذلك كره بعض الأوساط، ومن هنا - على الأرجح - تهجم عليه ثيوفانس المؤرخ.
2
ومع أنه أخمد - بسهولة - ثورات عدة أشعلها ضباط ساخطون؛ فإنه لم يكن موفقا في حروبه الخارجية، فقد كتب منذ أوائل عهده إلى هارون الرشيد يقول: «إن هذه المرأة (إيرينة) وضعتك موضع الرخ ووضعت نفسها موضع الشاة، فأد إلي ما كانت المرأة تؤدي إليك.» فأجابه الرشيد: «بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله هارون أمير المؤمنين، إلى نقفور كلب الروم، أما بعد، فقد فهمت كتابك، والجواب ما تراه لا ما تسمعه.»
3
وأغار هارون على آسية الصغرى، واحتل في السنة 806 تيانة «طواني» وأنشأ فيها مسجدا وجعلها قاعدة لأعماله الحربية، وغزا رودس في السنة 807، وفرض الغرامة، فدفعها نيقيفوروس كما دفعتها إيرينة من قبله.
4
ثم شغل هارون بالثورات في أقاليمه الشرقية، وغزا نقفور البلغار في السنة 811؛ لينتقم من مليكهم كروم الذي كان قد سطا على تراقية، فأحرز عليه نقفور انتصارا باهرا، ولكنه فوجئ بعد ذلك بهجوم ليلي اشتد فيه القتال، فسقط نقفور وجرح ابنه وولي عهده ستوراقيوس. على أن الروم لم يقفوا حتى بلغوا أدرنة وتركوا جثة الفسيلفس في ميدان القتال، فقطع البلغاريون رأس نقفور واتخذوا جمجمته كأسا.
5
وكان نيقيفوروس قد أشرك ابنه الوحيد ستوراقيوس في الحكم منذ السنة 803 وزوجه من نسيبة لإيرينة بعد أن فازت في مسابقة على الجمال، ولكن جرح ستوراقيوس كان قاتلا فتولى العرش بعده صهره ميخائيل الأول، وهو من أسرة نبيلة عريقة في الشرف. وكان ميخائيل هذا لطيف المعشر معجبا بالرهبان، فأبعد عن الوظائف جميع أعداء الأيقونات، فأثار غضبهم ودفع بهم وبمن قال قولهم إلى التآمر.
ومما زاد الطين بلة أن البطريرك نيقيفوروس أعلنها حربا على المهاجرين الشرقيين، وكان هؤلاء قد نقلوا من الولايات النائية المتاخمة لحدود العرب إلى العاصمة وتراقية؛ ليحلوا محل الذين سقطوا في الحروب أو ماتوا من جراء الطاعون.
وهؤلاء الشرقيون كانوا لا يزالون يدينون بمذاهب لم تقرها المجامع المسكونية، وعلى الرغم من وساطة البعض ورجائهم إلى البطريرك أن يعامل هؤلاء بالحسنى ويتودد إليهم؛ لعلهم يعودون إلى حضن الكنيسة، فإن البطريرك تمادى في القسوة فعادت المشادة الدينية إلى ما كانت عليه من قبل.
6
وكانت الحرب البلغارية لا تزال ناشبة، وكان الخاقان البلغار كروم لا يزال يسطو على الأرياف والمدن حتى وصلت طلائع فرسانه إلى أسوار أدريانوبل، فضج السكان، وطالب المهاجرون الشرقيون بالعودة إلى أوطانهم في آسية، ورأى الوجهاء والأعيان أن لا مفر من الحرب لصد هذا العدوان، فأعد ميخائيل جيشا كبيرا، وزحف إلى الجبهة في أيار من السنة 813، فالتقى في الثاني والعشرين من حزيران جيوش البلغار عند أدريانوبل، فدارت الدائرة على الروم وانهزم ميخائيل، فنادى الجند بلاوون الأرمني، أحد كبار القادة فيهم، فسيلفسا، وفي العاشر من تموز دخل لاوون العاصمة فاستقبله الشيوخ، وتنازل ميخائيل وترهب واعتزل في دير من أديرة الجزر.
7
لاوون الخامس (813-820)
وأول ما فعله هذا الفسيلفس الأرمني أن أقسم يمين الولاء للكنيسة، وقطع وعدا بأن يحافظ على عقائدها ومصالحها، ثم عني بأسوار العاصمة للصمود في وجه البلغار الذين ما فتئوا يصدمونها، وكان خاقانهم كروم يحاول إرهاب السكان بذبح الأبرياء عند الأسوار، ولكن في ربيع السنة 814 بينما كان هذا الخاقان يعد هجوما جديدا على العاصمة البيزنطية فاجأته المنية، وكان ذلك في الرابع عشر من نيسان، فاضطر ابنه أن يصالح الروم؛ ليتسنى له توطيد العرش، فسالمهم ثلاثين سنة، وسلمت القسطنطينية من هجمات البلغار ثمانين سنة.
8
وكان لاوون وصوليا في سياسته، وكان يعتمد على جنود آسيويين لا يحترمون الأيقونات ولا يرغبون في تكريمها، فما إن استتب له الأمر وتخلص من خطر البلغار حتى نكث يمينه ونبذ عهد الولاء للكنيسة، وكان مراوغا مداورا، فبث - بادئ ذي بدء - في الأوساط الرسمية وغير الرسمية أن ما حل بالدولة من ضعف وما أحدق بها من خطر إنما نشأ عن العودة إلى تكريم الأيقونات وتقديسها.
وبعد أن تمكن من جمع قرارات مجمع السنة 754 عقد مجلسا في القصر ضم بعض وجهاء الطرفين المتخاصمين، ممن قال بالأيقونات وممن حرمها، ودعا البطريرك نيقيفوروس إلى هذا المجلس في خريف السنة 814 وثيودوروس رئيس دير الأستوديين وطلب إلى المجتمعين أن يبحثوا في أمر الأيقونات، فأجابه ثيودوروس - بصراحة وشدة - أن البحث في الأمور الدينية منوط برجال الدين، وأن الواجب على الفسيلفس أن يطيع هؤلاء في أمور الدين لا أن يغتصب دورهم اغتصابا، وأن للفسيلفس أن يعنى بما سوى ذلك.
9
فأجاب لاوون بأنه لا يرغب في حمل الناس على الاستشهاد، وفي عيد الميلاد من هذه السنة استمع للقداس الإلهي في كنيسة الحكمة الإلهية مظهرا الخشوع مكرما الأيقونات، ولكنه في ربيع السنة 815 ألقى القبض على البطريرك نيقيفوروس ونفاه إلى خريسوبوليس وأقام في موضعه علمانيا يدعى ثيودوتوس، ثم عقد مجمعا محليا في نيسان من السنة نفسها في كنيسة الحكمة الإلهية ثبت فيه مقررات مجمع السنة 754 وحرم تكريم الأيقونات.
10
على أن لاوون الخامس كان أقل إسراعا ممن سبقه إلى محاربة الأيقونات، مع أن مقاومة من كرم الأيقونات كانت أشد وأقوى من ذي قبل، فاكتفى لاوون بنفي الأساقفة والرهبان وبحبسهم، نفى ثيودوروس مثلا إلى بيثينية ثم إلى أزمير. وهذا المجاهد بقي قويا شديدا، فكتب من سجنه في أزمير في السنة 819 يشدد عزائم الرهبان كما أنه استغاث ببابا رومة وببطاركة الشرق الثلاثة.
11
وأشرك لاوون ابنه في الحكم وظن أنه بذلك يؤسس أسرة حاكمة، ولكن رفاقه في السلاح الذين عاونوه في الوصول إلى الحكم - وفي طليعتهم ميخائيل العموري - لم يرضوا عن مسلكه فتآمروا عليه، واكتشف لاوون هذه المؤامرة وقذف بميخائيل إلى السجن، ولكنه أجل عقابه حتى عيد الميلاد، وترك شركاءه في المؤامرة أحرارا، فعزم هؤلاء وأصدقاؤهم على أن يضربوا ضربتهم قبل أن ينكشف أمرهم، وقرروا أن يذبحوا لاوون في كنيسته الخاصة عند حضوره القداس؛ لأنه كان لا يقترب من القربان المقدس حاملا السلاح. وهكذا، حضر المتآمرون قداس الميلاد وهاجموا لاوون في أثناء صلاة التوبة، فاختطف هو الصليب المعدني الثقيل من المذبح وضرب به بعض الذين هاجموه، ولكنهم تكاثروا عليه وذبحوه على مقربة من المذبح وأخرجوا ميخائيل من سجنه وتوجوه فسيلفسا قبل أن تكسر قيوده الحديدية.
12
الأسرة العمورية (820-867)
وكان ميخائيل الثاني هذا ريفيا غير مثقف، وقد أطلق عليه اسم العموري نسبة إلى عمورية
Amorium
مسقط رأسه في ولاية فريجية، وكان يدعى الألثغ والتمتام، وكان قد قضى حياته في الجيش وترقى في سلكه حتى أصبح من كبار الضباط، وبقي جنديا عتيقا بطباعه وعاداته، ولكنه كان قديرا ماهرا حكيما، فخص عرشه بشطر وافر من وقته، وتزوج من إفروسينة ابنة قسطنطين آخر ورثة الإسوريين، فقوى بذلك حقه في التاج، وأشرك ابنه ثيوفيلوس في الحكم، ثم أصدر أمرا منع فيه كل مشادة حول الأيقونات، واستدعى من المنفى جميع المبعدين بسبب ذلك. واستقبل ثيودوروس الراهب الإستديوني في قصره وأكد له حرية العبادة، وقال لنقيفيوروس البطريرك: ليس لي أن أبتدع في الإيمان والعقيدة ولا أن أجادل في التقاليد الموروثة أو أن أنقضها،
13
ولكنه قبل أن يتسنى له شيء من هذا اضطر أن يجابه ثورة مخيفة دامت سنتين وفاقت في اتساعها أكثر ثورات عصرها.
ثورة توما الصقلبي (821-823)
وكان بين رفاق ميخائيل في السلاح ضابط كبير، صقلبي الأصل أو أرمني، التحق بخدمة أحد البطارق في عهد إيرينة، فاتصل سرا بزوجة البطريق وذاع هذا السر، فهرب إلى الشام وبقي فيها حتى عهد لاوون الخامس، فلما كان عهد نقفور عاد إلى بلاد الروم واشترك في ثورة بردانيوس في السنة 803، ثم عاد إلى جوار الرشيد وبقي حتى عهد المأمون (813-833)، وهذا الضابط الكبير هو توما الصقلبي، بطل هذه الثورة التي نحن بصددها.
ومما جاء في المراجع اليونانية أنه في أثناء ثورة بردانيوس (803) على نقفور؛ تنبأ أحد الرهبان بفشل بردانيوس ورفاقه لاوون وميخائيل وتوما، وبأن الأولين يحملان التاج الإمبراطوري، وبأن الثالث ينادى به إمبراطورا، ولكنه يهلك بعد ذلك بقليل.
والواقع أن لاوون أصبح فسيلفسا، وأن ميخائيل استوى على العرش بعده، وأن توما طمحت نفسه إلى الملك، فبدأ يسعى له في أرمينية والبونط منذ أواخر عهد لاوون، فلما قتل لاوون في السنة 820 استغل توما الظرف واتجهت أنظاره شطر القسطنطينية وعرشها، وأيدت آسية الصغرى - بمعظمها - توما الصقلبي، لم يشذ منها سوى ثيمتي أرمينية والأبسيق، وادعى توما أنه قسطنطين السادس ابن إيرينة، فالتف حوله مكرمو الأيقونات. ورأى المستضعفون من سكان آسية الصغرى في توما محررا، فدخلوا في حزبه؛ أملا في تحسين مستقبلهم «فرفع الخادم يده في وجه سيده، والجندي في وجه قائده، والقائد في وجه أميره.»
14
ويرى بعض رجال الاختصاص أن الصقالبة في آسية الصغرى رأوا في توما محررا قوميا، فاندفعوا في سبيل نصرته اندفاعا عظيما، ولا ننسى أن الأباطرة كانوا قد نقلوا إلى آسية ألوفا من الصقالبة.
وتفاهم توما والمأمون فأمده هذا بجيش قوي، ثم استمال جباة الضرائب في آسية، فتوافر لديه المال، وأمر المأمون أيوب بطريرك الروم في أنطاكية أن يرسم توما فسيلفسا؛ لأنه سمع أن الفسيلفس لا يقام من غير بطريرك «فقرأ البطريرك عليه الأدعية ووضع على رأسه تاجا ذهبيا بأحجار ثمينة»،
15
والتحق بتوما أيضا أسطول إيجه فلم يبق لدى ميخائيل الثاني سوى الأسطول الإمبراطوري.
ونهض توما بجيوشه إلى بر الأناضول، ولم يكن عند ميخائيل الثاني فكرة صحيحة عن قوة خصمه، فدفع لملاقاته بجيش صغير، ونشبت معركة انتصر فيها توما وانهزم جيش الفسيلفس، فأدرك ميخائيل أنه يواجه ثورة ليست كالمعتاد وأن أنصار الأيقونات يؤيدون توما؛ ولهذا أسرع فاستدعى إليه زعماء القائلين بتكريم الأيقونات وحاول إقرار السلام الديني بمؤتمر في القصر - كما سبقت معنا الإشارة - ولكن ثيودور الراهب رفض الاجتماع مع الهراطقة، وقصد توما القسطنطينية متناسيا أنه يترك وراءه أنصارا لخصمه، ووصل إلى المضايق وعبر البحر إلى تراقية، فتبعه عدد كبير من السكان وبينهم الصقالبة المقدونيون، وبلغ القسطنطينية في أواخر السنة 821 وبدأ حصارها برا وبحرا، وكان يتوقع أن تفتح العاصمة أبوابها بمجرد اقترابه منها، ولكنها لم تفعل، وضعفت الحماسة له في أوساط حزب الأيقونات؛ لأنه كان قد أحاط نفسه بالمسلمين وجاء منهم بعدد كبير، ورفع ميخائيل علم الحرب على سطح كنيسة بلاخرنة، وترأس ابنه ثيوفيلوس موكبا رافعا الصليب ورداء العذراء ودار حول الأسوار يسأل المعونة الإلهية لإنقاذ المدينة.
واستمرت عمليات الحرب متساجلة واقتصرت على اصطدامات يسيرة؛ لأن ميخائيل صرف نفسه عن الاشتباك بمعركة حاسمة لكثرة جنود توما، ثم اتفق ميخائيل وأمورتاج خاقان البلغار فأصبح توما أمام عدوين، وضج جيشه ساخطا؛ لأن الحرب طالت دونما وصول إلى نتيجة حاسمة، وانحاز قسم كبير من جيش توما إلى الفسيلفس في إحدى المعارك، فارتد توما إلى أركاذيوبوليس، فحصره ميخائيل فيها خمسة أشهر، فجاع أهل المدينة وقامت فيها مؤامرة فألقي القبض على توما وقيد وسلم إلى ميخائيل في منتصف تشرين الأول من السنة 823 فقتله،
16
ولم يقو المأمون على إمداد توما بأكثر مما فعل؛ لاشتغاله بثورة الخرمية.
نزول العرب في أقريطش (826-827)
وثار أهل قرطبة على الخليفة الحكم في السنة 814 فهزمهم الخليفة، وأمر من بقي منهم حيا أن يغادر إسبانية في ثلاثة أيام، فجمع الثوار نساءهم وأطفالهم وما استطاعوا حمله وأبحروا إلى أفريقية، وقصد قسم منهم بلغ عدده خمسة عشر ألفا إلى أرض مصر فنزلوا في ضواحي الإسكندرية في هذه السنة نفسها، ثم انتهزوا فرصة اشتغال المصريين بثورة على العباسيين فاحتلوا الإسكندرية نفسها في السنة 816. وفي السنة 825 جاء القائد العباسي عبد الله بن طاهر وطلب إلى الأندلسيين مغادرة الإسكندرية، ونصح لهم أن ينزلوا في إقليم من أقاليم الروم.
17
وفي السنة 826 أغار الأندلسيون الإسكندريون على جزيرة أقريطش غارة استطلاعية تمهيدية وآبوا بالغنائم والأسرى، وفي السنة 827 أو 828 نزلوا فيها فلم يلقوا مقاومة تذكر، وأنشئوا لهم حصنا وأحاطوه بالخندق وجعلوه حاضرة لهم، فسميت قاعدتهم: الخندق ولا يزال اسمها
Candia ، وحاول ميخائيل انتزاع أقريطش من يد هؤلاء العرب، فأنفذ إليها حملة قوية في السنة 828 وأردفها بحملة أخرى في السنة 829 ولكن جهوده لم تثمر، وقدر للعرب الأندلسيين أن يبقوا فيها مدة قرن يغيرون منها على الجزر المجاورة وعلى مراكب التجار، فيقضون بذلك مضجع الروم وينزلون بتجارهم خسارة فادحة.
18
ثورة يوفيميوس الصقلي (826-827)
وثار يوفيميوس تورمارخوس صقلية في السنة 826 على ميخائيل الثاني، وأعلن نفسه فسيلفسا، ولكنه خشي سوء العاقبة، فراسل زيادة الله الأول الأغلبي (817-838)، وفاوضه على أن يحكم يوفيميوس صقلية بلقب إمبراطور ويدفع للأمير الأغلبي مالا سنويا، فأنفذ زيادة الله سبعين سفينة وعشرة آلاف فارس إلى صقلية بقيادة عبد الله أسد بن فرات، وكان نزولهم فيها في السنة 827 بدءا لاحتلال طويل الأمد، ولم يوجه الروم جهودا كبيرة للدفاع عن هذه الجزيرة؛ نظرا لبعدها، ولانشغالهم بناحية الشرق،
19
ولم تكن انتصارات العرب فيها سريعة ولكنهم استولوا بالتدريج على الجزيرة كلها في عهد خلفاء ميخائيل.
ثيوفيلوس الأول (829-842)
وبرغم هذه الثورات المزعجة المخيفة؛ فإن ميخائيل توفي وفاة هادئة وتولى الحكم بعده ابنه ثيوفيلوس «حبيب الله»، وكان ثيوفيلوس هذا رجل حرب، فقاد جيوشه بنفسه وأحرز بعض الانتصارات، وفي الوقت نفسه كان رجل إدارة وتدبير مالي، فترك في الخزينة عند وفاته ما يعادل مليون ليرة ذهبية، وعني بالبناء فشيد قصرا جديدا في القسطنطينية ضاهى به قصر المأمون وفاقه زخرفا وجمالا، وأصبحت شجرته الذهبية حديث الشرق بأسره ، كما ظلت أسوده الذهبية - التي ترفع من أسفل العرش فتزأر - حديث الأجيال المقبلة.
واهتم لمدارس الدولة التي كانت تخرج رجال الإدارة والأساقفة، فوكل أمرها إلى لاوون الرياضي أشهر علماء عصره وأرفعهم شأنا، ونجح بإبقائه في بلاده على الرغم من أن خليفة بغداد كان يشوقه للانتقال إليه.
20
ومما يجدر ذكره في هذا المقام أن ثيوفيلوس حين أصبح أرملا طلب إلى الإمبراطورة إفروسينة أن تجمع في تشريفاتها أجمل بنات الأشراف في العاصمة وسار بين صفوفهن ليختار زوجة، وكان يحمل في يده تفاحة من الذهب تشبها بباريس بطل الأساطير اليونانية القديمة، فوقع نظره في أول الأمر على الحسناء إيكاسية، وعندما اقترب منها قال لها: «إن معظم الشر من النساء.» فأجابت: «ومعظم الخير أيضا.» فأفحمته. ويبدو أن هذا الرد لم يرض الفسيلفس؛ لأنه تابع طريقه وأعطى التفاحة الذهبية لثيودورة التي كانت تنافسها في الجمال، وكان اختياره سريعا؛ لأن ثيودورة كانت تكرم الأيقونات، فاستعملت نفوذها كله ضد آراء زوجها.
21
ويختلف المؤرخون في موقف ثيوفيلوس من الأيقونات، فبعض يرى فيه عدوا لدودا للأيقونات وأنصارها، وبعض يراه معتدلا في موقفه مقتصرا في إجراءاته على العاصمة وضواحيها،
22
والواقع أنه رغم تعلقه بالعذراء والقديسين، قد اتخذ له في هذه الأمور مستشارا عدوا للأيقونات وهو العالم الشهير يوحنا الكاتب، وجعل من صديقه هذا بطريركا مسكونيا وكوى كفي العازار الراهب المصور بالحديد الحامي، وجلد ثيوفانس وأخاه ثيودوروس الراهبين الفلسطينيين ووسم جبينهما بأبيات من الشعر نظمها هو نفسه.
23
ثيوفيلوس والعرب
وظهرت طائفة الخرمية في جبال فارس بين أذربيجان والديلم، وتولى رئاستها بابك وعاث في البلاد فسادا في عهد المأمون، وهزم جيوش الخليفة العباسي المرة تلو الأخرى، وأباد جيشا بأكمله بعثه المأمون في السنة 829-830، وقد دامت ثورة بابك حتى أيام المعتصم (833-842)، فجرد المعتصم جيشا كبيرا بقيادة الأفشين وغيره؛ للقضاء على هذه الثورة، فأرسل بابك إلى ثيوفيلوس يحرضه على الخليفة العباسي، فرأى ثيوفيلوس في ثورة بابك فرصة يقابل فيها العباسيين بمثل ما فعلوا عندما ساعدوا توما في ثورته على والده ميخائيل، وهكذا أعد ثيوفيلوس جيشا كبيرا واتجه به إلى أعالي الفرات وهو يأمل الاتصال بالخرميين، وبلغ إلى زبطرة سنة 837 وأشعل فيها النار وسبى نساءها وأطفالها، ثم دخل سميساط وملاطية،
24
وعاد بعد ذلك إلى القسطنطينية فاستقبل فيها استقبال الظافر وخرج الناس للقائه بأكاليل من الزهر، وأقيمت حفلة سباق ظهر فيها ثيوفيلوس بثياب زرقاء فوق عربة تجرها خيول بيضاء، وألبس تاج النصر ونادى الشعب: أحسنت السير أيها السائق الأصيل!
ولكن المعتصم استطاع أن يقضي على ثورة بابك في أواخر السنة 837، ففرغ للروم وأعد ثلاثة جيوش سير أحدها بقيادة الأفشين عبر طوروس من درب الحدث، وقاد هو الجيشين الآخرين وعبر بهما من أبواب قيليقية، وكانت أنقرة نقطة التلاقي، فصمد ثيوفيلوس أولا عند نهر الهاليس (آلس كما يسميه العرب)، ولكنه لما علم بزحف الأفشين منفردا قام لصده قبل أن يتسنى للأفشين الانضمام إلى الجيشين العربيين الآخرين، فالتقاه قرب دوزمانة وهي لا تبعد كثيرا عن ترخال، فدارت الدائرة على الروم وانهزم ثيوفيلوس منكفئا إلى القسطنطينية، وتقدم العرب إلى عمورية فحاصروها ثم دخلوها عنوة ونهبوا وأحرقوا، وأسروا عددا كبيرا من الجند والضباط والقادة، وقتلوا ستة آلاف من الأسرى، وأمر الخليفة اثنين وأربعين من كبار الضباط أن يسلموا ليسلموا، فلما أبوا قتلوا عند ضفة دجلة،
25
ولعل المعتصم فكر في الزحف على القسطنطينية ولكنه اضطر ليرجع؛ إذ وردت عليه أنباء مؤامرة قامت لخلعه،
26
وفي السنة 839 ظهرت سفينة رومية في مياه السواحل الشامية، وفي السنة 840 تقدم الروم فأخذوا مرعش واحتلوا بعض مناطق ملاطية، ورغب المعتصم في السلم ولكنه عاد فأعد عمارة كبيرة ليغزو بها القسطنطينية، إلا أن المنية عاجلته في السنة 842، وعصفت عاصفة هوجاء بالعمارة العربية فحطمتها،
27
ووجه ثيوفيلوس وفودا نحو الغرب: إلى البندقية وإلى أنكلهايم عاصمة لويس التقي الورع، وإلى عبد الرحمن الثاني الأموي الأندلسي، يطلب المعونة، ولكن ثيوفيلوس - على الرغم من الترحيب بهذه الوفود - لم يلق أية معونة.
ميخائيل الثالث (842-867)
وتوفي ثيوفيلوس في السنة نفسها التي توفي فيها المعتصم، وخلف خمس بنات وابنا ذكرا هو ميخائيل الثالث، وإذ كان ميخائيل هذا لا يزال في السادسة من عمره؛ فإن المليك الراحل جعل زوجته ثيودورة وصية على الملك القاصر، وعاونها في الوصاية مجلس تألف من كبار رجال الدولة، وكان ذروموس ثيوكتيستوس
Theoctistus
عم ثيودورة ووزير المال أشهر هؤلاء وألمعهم.
وكانت ثيودورة من محبي الأيقونات، ووافقها على ذلك مجلس الوصاية، فدعت الآباء الأرثوذكسيين إلى مجمع ليحلوا ثيوفيلوس زوجها من خطيئته في اضطهاد من كرم الأيقونات، وطلبت إلى البطريرك يوحنا الكاتب أن يشترك في أعمال هذا المجمع فأبى، فعزله مجلس الوصاية وأقام مثوذيوس المعترف بطريركا محله، وصدق المجمع أعمال المجمع السابع، وفي أول أحد من الصوم الكبير من السنة 843 نصبت الأيقونات المكرمة في كنيسة الحكمة الإلهية، وأصبح هذا اليوم - وما زال - عيدا سنويا لرفعها وانتصار الرأي الأرثوذكسي،
28
وأصدر البطاركة الثلاثة خريستيفوروس الإسكندري وأيوب الأنطاكي وباسيليوس الأوروشليمي بيانا مشتركا بوجوب حماية الأيقونات وتكريمها.
وظلت ثيودورة - بالتعاون مع عمها ثيوكتيستوس - تدير دفة الحكم أربع عشرة سنة (842-856)، وفي خلال هذه المدة طرأ تغيير على عضوية مجلس الوصاية؛ فأصبح أخو ثيودورة برداس عضوا في هذا المجلس، فنشبت مشادة بينه وبين ثيوكتيستوس أهم أسبابها حب السلطة وشهوة الحكم.
فنشأ انقسام داخلي بين الأعضاء وأدى إلى استقالة عمانوئيل عم الفسيلفس وإلى سجن ثيوكتيستوس وقتله سنة 854، وكان السبب وشاية رفعها برداس إلى الفسيلفس الشاب أن ثيوكتيستوس عقد النية على التزوج من ثيودورة أو إحدى بناتها للوصول إلى العرش، فنشأت مشادة عنيفة بين ثيودورة وأخيها برداس حول السلطة أدت في السنة 856 إلى خروج ثيودورة وبناتها من القصر، وأصبح برداس صاحب الصول والطول.
وتوفي أحد أبناء برداس فأقامت امرأته إفذوكية في بيت عمها برداس، ولم تكن الحماة والكنة على مشرب واحد فاندلعت الشرور في البيت، وأظهر برداس عطفا على كنته فاتهمته امرأته بكنته، فطرد امرأته من البيت، فالتجأت إلى أخته ثيودورة الإمبراطورة، فتكدرت ثيودورة من هذا النفور وما رافقه من خبر قبيح.
وفي هذه الأثناء كان قد توفي البطريرك مثوذيوس في السنة 848، وحل محله إغناطيوس بمساعدة ثيودورة، وكان إغناطيوس هذا رجلا ورعا تقيا، ولكنه كان فظا قاسيا، وكان خبر برداس وامرأته وكنته قد شاع في المدينة، فوبخ البطريرك برداس ونهاه عن المحرم ونصح له أن يقبل امرأته في بيته، فأبى برداس.
وفي عيد الظهور الإلهي سنة 857 تقدم برداس مع ميخائيل الثالث ليتناول الأسرار الإلهية، فأبى البطريرك مناولته وطرده خارج الكنيسة أمام الشعب كله، فأخذ برداس يرجو ويستعطف وشفع له القيصر ولكن دون جدوى.
وكانت الكنيسة الأرثوذكسية قد انقسمت على نفسها من حيث موقفها من الدولة، وظلت منقسمة حتى السنة 912، فالأستوديون ومن أيدهم من المتشددين في الدين؛ رأوا أن لا مبرر لتدخل السلطة في شئون الكنيسة، أما الرهبان الأوليمبيون وكبار الأساقفة؛ فكانوا معتدلين في موقفهم من السلطة وتدخلها. ومن هنا نشأت متاعب مثوذيوس البطريرك، ومن هنا كان انتقاء إغناطيوس، فإن الإمبراطورة ثيودورة ظنت أن المعسكرين سيؤيدانه؛ نظرا لطهارته وتشدده في الدين، ونظرا لكونه ابن ميخائيل الثاني الفسيلفس السابق، ومن هنا أيضا ضغط برداس على فوطيوس العلماني ليكون خلفا للبطريرك إغناطيوس.
29
وحنق برداس على البطريرك إغناطيوس وطفق يسعى للانتقام منه، واتفق أن راهبا ادعى أنه ابن ثيودورة من رجل كان لها في السابق، فأخذ الشعب ينظر إليه كأنه هو الملك المزمع بعد تنحيها، فقبض عليه برداس وزجه في السجن، واستنطقه فلم يعترف، فأمر بقلع عينيه وقطع أوصاله، وكان البطريرك إغناطيوس يعطف على هذا الراهب ويدافع عنه ناسبا عمله إلى الجنون، فاغتنم برداس الفرصة واتهم البطريرك بالتآمر على الفسيلفس؛ ليرجع ثيودورة وبناتها إلى إدارة المملكة، فصدق الفسيلفس ميخائيل الثالث كلام برداس وأمر إغناطيوس أن يجعل ثيودورة وبناتها راهبات في أحد الأديرة، فسألهن إغناطيوس هل يردن الدخول في سلك الرهبنة فأنكرن، فامتنع عن إجابة طلب الفسيلفس قائلا: إن القانون يقضي منهن الموافقة، وهن لا يوافقن، فإكراههن مخالف للقانون، فصدق ميخائيل أن البطريرك عدو له، فأكره والدته وأخواته على الترهب. كما أمر إغناطيوس أن ينزل عن كرسيه، فقدم إغناطيوس استعفاءه في الثالث والعشرين من تشرين الثاني وبقيت الكنيسة خمسة وعشرين يوما بدون راع.
وتشاور الأساقفة والفسيلفس وبرداس في أمر الخلف ، وأجمعوا على أنه يجب أن يكون رجل سلام يتوسط للوفاق بين الجهتين، واشترطوا أن يكون أيضا ذا همة ونشاط؛ ليدفع الهرطقات، فاتفقوا على فوطيوس كاتم أسرار المملكة وقتئذ، وهو الذي اشتهر بالدراية والحكمة والفضيلة والتقوى والعفة الطوعية والعلم والفلسفة،
30
فرفض فوطيوس أن يتولى المنصب ولم يرض أن يستعيض عن السكينة والراحة بأتعاب السدة البطريركية، فأصر عليه الرؤساء والأعيان بوجوب القبول، فلم يصغ لهم، فانحاز إليه عندئذ أكثر أتباع إغناطيوس المستقيل، وهدده برداس بالسجن فأذعن لمشيئته، وأخذ يعلو درجات الكهنوت في سرعة فائقة، فسيم في اليوم الأول متوحدا، وفي اليوم الثاني إناغنوسطا، وفي اليوم الثالث إيبوذياكونا، وفي الرابع شماسا، وفي الخامس قسا، وفي السادس يوم عيد الميلاد أسقفا وبطريركا.
وكان المتقدم في شرطونيته غريغوريوس آزبستاس أسقف سرقوسة، فأدى تقدم غريغوريوس آزبستاس في الشرطونية إلى نفور إغناطيوس المستقيل وخمسة أساقفة معه، واشتد الخصام، ويئس إغناطيوس وأتباعه من الوصول إلى حل مرض، فكتبوا إلى بابا رومة يشكون ظلمهم، وكتبوا أيضا إلى بطاركة الإسكندرية وأنطاكية وأوروشليم.
وفي أثناء هذا كله استؤنفت محاربة الأيقونات وذر قرن الشقاق بين الأرثوذكسيين وأصحاب الطبيعة الواحدة، وهب البولسيون والمانيسيون يشاغبون،
31
وعرا الكنيسة اضطراب شديد؛ من جراء هذه القلاقل، فرأى الفسيلفس ومجلسه الأعلى والبطريرك الجديد أن يجمعوا مجمعا مسكونيا، وكتب فوطيوس «رسائل الجلوس» وأرسلها إلى البابا وسائر البطاركة، وبات ينتظر «رسائل السلام» في الرد عليها، فأرسل البطاركة الشرقيون الثلاثة رسائل السلام.
أما بابا رومة نيقولاوس الأول فإنه لام الفسيلفس على عزل إغناطيوس، واحتج على ترشيح علماني ليخلفه، وطالب بإعادة رئاسته على الأبرشيات التي كانت قد سلخت عن كرسي رومة في عهد لاوون الثالث، وأرسل أسقفين اثنين إلى القسطنطينية ليحملا رسالته وينظرا في الموقف عن كثب، فلما وصلا ووقفا على مسألة فوطيوس وإغناطيوس وجدا أن إغناطيوس كان قابلا بشرطونية فوطيوس وأن الجميع التمسوا فوطيوس وأحرجوه ليقبل البطريركية، فاشتركا في المجمع المسكوني الثامن «الأول والثاني» الذي انعقد في القسطنطينية في السنة 861 ووافقا على ارتقاء فوطيوس، وعلى سائر قرارات هذا المجمع، وأهمها ألا يقوم بعد ذلك بطريرك من طبقة العوام أو الرهبان ما لم يتمرس في الدرجات الكنائسية درجة درجة، ويتمم المدة القانونية فيها.
32
وأرسل ميخائيل الثالث أعمال هذا المجمع «الأول والثاني» المسكوني إلى البابا نيقولاوس الأول مع أحد كتابه لاوون ومع سفيري البابا وزودهم بهدايا كنائسية ورسالة منه إلى البابا، وكتب فوطيوس أيضا رسالة ملأى بأقوال اللطف الإنجيلي،
33
فلما تسلم نيقولاوس هذا البريد ووقف على مضمونه، وعلى ما فعله نائباه في القسطنطينية؛ ألغى عمل النائبين، مدعيا أنهما تجاوزا صلاحيتهما، وعقد مجمعا محليا في السنة 863 وحكم على فوطيوس وقطعه، واعترف بإغناطيوس بطريركا قانونيا وهدد باللعنة والحرم كل من يتجاسر أن يخالف هذا القرار، وكتب بذلك إلى الفسيلفس فأجابه الفسيلفس بكتاب مر جعل البابا يقول عنه: إن كاتبه قد غمس قلمه في حلق ثعبان.
ومما زاد العلاقات تعقدا أن ميخائيل الثالث وفوطيوس البطريرك كانا قد نجحا بنشر الدين المسيحي في الأوساط البلغارية الحاكمة، فتدخل البابا في شئون الكنيسة البلغارية الجديدة، فثار ثائر ميخائيل وفوطيوس، وأعدا منشورا لقطعه، واتهما الكنيسة الرومانية بالهرطقة والخروج على مقررات المجامع المسكونية، وطلبا عقد مجمع مسكوني؛ للنظر في هذه الأمور. ثم اغتيل ميخائيل الثالث في الرابع والعشرين من أيلول سنة 867.
تنصر الصقالبة (864-867)
وحوالي السنة 862 أوفد رستيسلاف أمير مورافية الكبرى رسلا إلى القسطنطينية يستجير بميخائيل الثالث على البلغار حلفاء خصمه لويس الألماني، وأثمرت مساعي رستيسلاف حوالي السنة 864 عندما هزم الروم جيشا بلغاريا كان في طريقه إلى الحدود المورافية للتعاون مع الألمان. وراب رستيسلاف أمر المرسلين الألمان الذين كانوا يخلطون بين الدين والسياسة في بلاده، فطلب مبشرين أرثوذكسيين يعلمون شعبه الدين القويم، فاختار البطريرك فوطيوس الأخوين قسطنطين ومثوذيوس لهذه الغاية.
وكان الإمبراطور قد سبق له أن خبر قسطنطين قبل تبوئه العرش البطريركي، حين أوفده إلى الخزر في جنوبي روسية للقيام بمهمة سياسية ودينية، وكان قسطنطين من أشهر علماء عصره في الدين والفلسفة، ويعرف لغة الصقالبة؛ لأنه نشأ في ثيسالونيكية وترعرع فيها في منطقة كثيرة الصقالبة. ورحل الأخوان إلى مورافية في السنة 864 فاشتقا من الأحرف اليونانية حروفا صقلبية، ونقلا الإنجيل إلى اللغة الصقلبية، وبشرا بها وصنفا في هذه اللغة بعض الكتب الضرورية للخدمة الدينية.
تنصر البلغار (864)
واستقر البلغار - كما سبق أن أشرنا - في ميسية وتراقية واختلطوا بالصقالبة وتعلموا لغتهم، وكانوا أقلية عسكرية حاكمة، فرأى بوغوريس
Boris
خاقانهم (852-889) أن مصلحته تقضي بتقبل الدين المسيحي وهو دين رعاياه الصقالبة؛ ليتسنى له توطيد سلطته المركزية إزاء الزعامات المحلية الإقليمية عند الأمراء البلغاريين، وبدأ البلغار يتعرفون إلى النصرانية عن طريق رعاياهم الصقالبة وعلى يد الأسرى الروم، وكان الأسرى البلغار يتعلمون الدين المسيحي في بلاد الروم، وكان من جملة هؤلاء شقيقة خاقان البلغار بوغوريس؛ فإنها أقامت مدة طويلة أسيرة في بلاط الروم، وتعلمت الدين المسيحي وتقبلت المعمودية، وعند مبادلة الأسرى عادت إلى بلادها ومعها مثوذيوس أخو قسطنطين المشار إليه آنفا، فحاولت مع مثوذيوس استمالة بوغوريس إلى الإيمان فلم تستطع.
وكان مثوذيوس هذا راهبا بارعا في فن التصوير، وكان بوغوريوس يرتاح إلى الصور المتقنة، فرسم مثوذيوس صورة الدينونة، ورسم فيها الديان جالسا وميزان العدل مرفوع والصديقون ينالون الأكاليل والأشرار يدخلون جهنم، لما رأى بوغوريس الصورة تخشع وخاف ومال إلى النصرانية، وفي السنة 864 وقع جوع شديد في بلاد البلغار، واستعان لويس الألماني ببوغوريس على رستيسلاف، فهب بوغوريس يزحف بجموعه، فهجم عليه ميخائيل الثالث وخاله برداس، فسلم نفسه والبلاد، وعاهد أن يعتمد ويكون مسيحيا.
وجاء بوغوريس وعظماء مملكته إلى القسطنطينية، واعتمد على يد البطريرك فوطيوس وسمي ميخائيل في المعمودية باسم إشبينه ميخائيل الفسيلفس، وعين البطريرك فوطيوس رئيس أساقفة لبلغارية وقسيسين ومعلمين، وبعد سنتين (866) هجم لويس الألماني على بوغوريس وغلبه، فطلب البابا نيقولاوس إلى لويس الألماني أن يدفع بوغوريس إلى طلب معلمين روحيين من البابا، فبادر البابا إلى إرسال قسيسين إلى بلغارية، وكان ما كان من أمر الاختلاف بين فوطيوس ونيقولاوس، فطعن القسيسون الباباويون بفوطيوس، وأعادوا معمودية من سبق أن اعتمدوا على يد قساوسة الروم وطردوا هؤلاء من بلغارية، فأذاع فوطيوس منشوره ضد البابا في السنة 867 - كما سبق أن أشرنا.
34
ميخائيل الثالث والعرب
وأدى اندفاع ثيودورة في سبيل الدين القويم إلى اضطهاد البولسيين في آسية الصغرى، وهم فرقة مسيحية انتسبت باسمها إلى بولس السميساطي، واختلفت في عقيدتها وطقوسها عن الكنيسة الأم، فاستدعت الكنيسة رؤساءهم وخيرتهم بين الأرثوذكسية والقتل، فلما رفضوا أخذت الحكومة البيزنطية تعمل على إخضاعهم بالقوة فقتلت منهم عددا كبيرا، وفر الباقون إلى حدود العرب إلى تفريقه
Tephrice
وضواحيها، فأصبحوا أداة فعالة بيد العرب في حروبهم مع الروم.
وتوفي المعتصم في السنة 842 وتولى الخلافة بعده ابنه الواثق (842-847) فواجه أزمات داخلية خطيرة؛ منها ثورة دمشق، وثورة الأكراد، وعصيان الخوارج، فلم يستطع المضي في محاربة الروم، وكان الروم لا يزالون في غمرة الفشل الذي أصابهم في صقلية؛ ولذا فإننا نقرأ عن وصول رسول رومي إلى بلاط الواثق يفاوض في فداء الأسرى، وحصل الفداء على ضفاف اللامس في أواخر السنة 845، وأرسلت ثيودورة في السنة التالية جندا إلى صقلية، ولكن هزمهم أبو الأغلب العباس، ثم حاول الروم النزول في خليج منديلو بالقرب من بالرمو فلم يوفقوا.
وتجاوز هجوم العرب صقلية إلى إيطالية، فتقدموا إلى مصب التيبر في السنة 846، وعادوا إلى المصب نفسه في السنة 849، فهبت عاصفة قوية وأغرقت أسطولهم، وأسر كثير منهم، واقتيدوا إلى رومة وألزموا بالعمل في بناء مدينة الفاتيكان.
35
وكان العرب الأندلوسيون في أقريطش لا يزالون يعرقلون سبل تجارة الروم ويهددون جزر إيجه وشواطئه بالقرصنة، فأمرت ثيودورة بالإغارة على سواحل مصر لتخريب ما فيه من صناعة بحرية كانت تزود عرب أقريطش بالسفن والعتاد وأحيانا بالرجال، فقام أسطول رومي إلى دمياط في ربيع السنة 853 وهاجم دمياط في الثاني والعشرين من أيار، يوم عيد الأضحى، وكان الوالي العباسي على مصر عنبسة بن إسحاق قد استدعى حامية دمياط للاشتراك في عرض حربي في الفسطاط، فهرب سكان دمياط وهلك منهم خلق كثير، واستولى الروم على المؤن والذخيرة المعدة للشحن إلى أقريطش وأحرقوا السفن المكدسة في المخازن البحرية، وأقلعوا إلى تنيس ثم إلى أشتوم فأحرقوا ما كان بها من الآلات الحربية.
36
ولم يطل عهد الواثق في الخلافة، فإنه أصيب بداء الاستسقاء «فعولج بالإقعاد في تنور مسخن، فوجد لذلك خفة، فأمرهم من الغد بالزيادة فقعد فيه أكثر من اليوم الأول فحمي عليه فأخرج منه في محفة.»
37
فمات في الثانية والثلاثين من عمره، وبويع بعده أخوه المتوكل على الله جعفر بن المعتصم (847-861) فكان نيرون العرب، فإن ما اقترفه من أفانين الانتقام والجور لم يصل إليه خيال، وبلغ ما نشأ عن كبائره من النفور مبلغا حمل ابنه المستنصر على قتله، ثم مات المستنصر ألما وندما في السنة الأولى من خلافته (861)، فاختار الحرس وجنود الأتراك خلفا له المستعين بالله، فدامت خلافته ثلاث سنوات، ثم استبدلت به عصابة من الحرس المعتز بالله (866)، فانبرت عصابة أخرى وخلعت المعتز هذا في السنة 869 فجلس على كرسي الخلافة المهتدي (869-870)، ففكر بالإصلاح، فأدى ذلك إلى قتله في قصره، فخلفه المعتمد فدام عهده اثنتين وعشرين سنة (870-892) بفضل إخلاص أخيه الموفق.
38
وفي آخر صيف السنة 856 حين عاد علي بن يحيى من صائفته التقليدية قام بتروناس أخو برداس خال الفسيلفس بغزو العرب، فأحرز نصرا في أرض سميساط، وتقدم حتى بلغ قريبا من آمد ثم اتجه إلى الشمال الغربي نحو البولسيين في تفريقة فأحرق قرى عدة وأسر عشرة آلاف، ولم يكد ميخائيل الثالث يستكمل فتوته حتى نهض لغزو العرب في السنة 859 قاصدا سميساط ومعه برداس خاله فبلغ الفرات فنهب وأحرق وأسر، وحصل فداء في السنة 860، وقام نصر بن الأزهر إلى القسطنطينية لهذه الغاية، وعليه السواد وقلنسوة وسيف وخنجر فلم يرض بتروناس خال الفسيلفس أن يأذن للسفير العربي بالدخول إلى البلاط على هذه الهيئة، واحتج بوجه خاص على الثوب الأسود وحمل السيف، فغضب الرسول ورجع، فأدركوه وأدخلوه فقدم إلى الإمبراطور ما حمل من الهدايا ألف نافجة مملوءة مسكا وثيابا من حرير وكمية من الزعفران النادر وحليا أخرى مختلفة.
وكان ميخائيل يجلس في الاستقبال على عرشه يحيط به بطارقته الأشراف وبين يديه التراجمة مسرور وغلام للعباس بن سعد الجوهري ومترجم عجوز اسمه سرحان ولعله سرجيوس، فتقدم رسول الخليفة بالتحيات وجلس في المكان الذي أعد له، ووضعت الهدايا أمام الفسيلفس، فأخذها وأحسن معاملة السفير، ومكث رسول الخليفة العباسي أربعة أشهر في عاصمة الروم، ثم استؤنفت مفاوضات الفداء، وأقسم كل طرف على الوفاء، ثم تم تنفيذه عند اللامس
Limes
فأطلق الروم أكثر من ألفي مسلم فيهم عشرون امرأة وعشرة أطفال، وأطلق العرب أكثر من ألفي أسير، أما الألف الباقية فتركت لقاء ما وعد به الفسيلفس من افتداء البطريق المأسور في لؤلؤة، وكان قوم من الروم قد دخلوا الإسلام وقوم من العرب قد تنصروا، فمن رغب في النصرانية ترك عند الروم.
39
والغريب أن النضال بين الروم والعرب استؤنف في صيف هذه السنة نفسها، فسار ميخائيل الثالث بنفسه لغزو العرب ووصل إلى موربوتامن، فأنذره وكيله في العاصمة، قائد الأسطول ألدرنغار نسيتاس أوريفاس، بقدوم الروس، فاضطر الفسيلفس أن يسرع في العودة قبل أن يشرع في الحرب شروعا جديا، فوصل إلى العاصمة وقد أحاط بها الروس وقتلوا من حولها السكان، فلم يستطع أن يعبر المضيق إلا بعد مشقة،
40
وانتهز العرب حملة الروس وغياب الفسيلفس، فبذلوا نشاطا كبيرا، فشن أمير ملاطية عمر بن عبد الله غارة على الروم، فعاد بسبعة آلاف أسير، وأغار قرباص فأسر خمسة آلاف، وعاد علي بن يحيى بخمسة آلاف أيضا ومائتي فرس وثور وحمار، وأغار فضل بن قارون بحرا بعشرين سفينة وأخذ أنطاكية.
41
وفي صيف السنة 863، في أيام المستعين؛ قام عمر بن عبد الله أمير ملاطية بحملة موفقة بلغ بها قلب أرض الروم، فخرب ثيمة أرمينية، وتقدم حتى بلغ البحر الأسود فأخذ أميسوس «سمسون»، وساءه أن يوقف البحر سيره فأمر بضرب البحر! وعلم ميخائيل الثالث بهذا كله، فجهز جيشا قويا وجعل على رأسه بتروناس خاله، فزحف بتروناس فأدرك عمر بن عبد الله عند بوزن
في بفلاغونية في الثالث من أيلول سنة 863، فحصره وأوقع به هزيمة تامة، واحتز رأسه وأرسله إلى القسطنطينية، وقتل عددا كبيرا من جنوده وأسر الباقين.
42
وسادت الفوضى في أيام المستعين بالله، من مكة، إلى حمص، فالموصل، فأصفهان، واستبد الحرس من جنود الأتراك وهددوا المستعين، فحاول الفرار من سامرا إلى بغداد، فقطع بذلك صلته بالترك، فأقاموا مقامه المعتز، وتنازل المستعين عن حقه في الخلافة (866) واعتزل باقي حياته في المدينة.
الفصل الحادي والعشرون
العلم والأدب والفن في القرنين الثامن والتاسع
إحياء الجامعة
وقد يكون برداس - أخو ثيودورة وخال ميخائيل الثالث - وصوليا في السياسة طامعا في الحكم، ولكنه كان - دون ريب - ذكيا مفكرا، محبا للعلم والأدب والفن، حاميا لها مشجعا عليها، وإليه يعود الفضل والشرف في إحياء الجامعة في القسطنطينية، والعودة إلى العلوم العالية - النصرانية منها والوثنية - فإنه استدعى إلى القصر أعلم علماء زمانه، وجمعهم في مدرسة عالية «الماغورة» وعهد برئاستها إلى فخر ثيسالونيكية لاوون الرياضي الطبيب الفيلسوف،
1
وكان بين أساتذتها فوطيوس البطريرك وقسطنطين رسول الصقالبة وقد سبقت الإشارة إليهما، وكانا يدرسان اللغة والفلسفة، وعلم غيرهما الهندسة والفلك، واشتد عطف برداس على الجامعة فتردد إليها واحتك بأساتذتها وطلابها، وحضهم على السير في سبيل العلم والفكر.
ولم يرض بعض رجال الدين عن هذه العناية بالعلوم القديمة؛ لأنها صدرت عن الوثنيين، فاتهموا لاوون بالسحر وأذاعوا ضده المناشير، وأكدوا أنه سيرافق سقراط وأفلاطون وأرسطو في جهنم، ولكن برداس مضى في عمله العلمي غير مبال بهذا كله، فنفخ في عاصمة الروم روحا علمية مباركة مهدت السبيل لوثبة القرن العاشر، وخلدت ذكرى الأسرة العمورية في تاريخ الحضارة إلى ما شاء الله.
نادي فوطيوس
وجعل فوطيوس (البطريرك فيما بعد) بيته ناديا أدبيا علميا، ودعا إليه أصدقاءه الأدباء والعلماء للمطالعة والبحث، وجمع إليه عددا كبيرا من المؤلفات المسيحية والوثنية، ونزولا عند طلب أصدقائه هؤلاء دون خلاصة ما كان يقرأ في النادي من المؤلفات فصنف بذلك كتابه البيبليوتيكه
Bibliotheca
أو الميريوبيبلون
Myriobiblon - كما تسمى أحيانا - ومعناه: «ألوف الكتب»، فحفظ لنا بمجموعته هذه أشياء وأشياء من مؤلفات فقدت فيما بعد، فنجد في مجموعته كلاما مفيدا من أقوال رجال اللغة والخطباء والمؤرخين وعلماء الطبيعة والأطباء والآباء المجامع، وصنف فوطيوس كثيرا في اللاهوت واللغو وخلف مواعظ عديدة ورسائل كثيرة.
2
دير الأستوديون
وعاد ثيودوروس الراهب من منفاه، فأقام في دير أستوديون في العاصمة ورممه وأصلحه، ثم هب لإصلاح الرهبنة فقدم الحياة المشتركة الكينوبيوس
Koinos bios
على الاعتزال الفردي وأوجب تهذيب الرهبان، ففرض القراءة والكتابة، ونسخ المخطوطات، ودرس الأسفار المقدسة، ومؤلفات الآباء، ونظم الترانيم وترتيلها، ونظم هو - بالاشتراك مع أخيه يوسف رئيس أساقفة ثيسالونيكية - معظم كتاب التريوذيون الخشوعي، وكتب في أصول الإيمان كتابي الكتاكيزموس الكبير والصغير، فلقيا رواجا كبيرا. وله رسائل عديدة في الدفاع عن الأيقونات وفي الناموس والاجتماع، وتوفي في الحادي عشر من تشرين الثاني سنة 826 وتلاميذه حوله يرتلون المزمور «طوبى للذين»، وتناول هو الأسرار وأخذ يرتل هذا المزمور، فلما بلغ إلى القول: «إلى الدهر لا أنسى حقوقك؛ لأنك بها أحييتني.» أسلم الروح وله من العمر سبع وستون سنة.
3
يوحنا الدمشقي (676-760) «كوكب الكنيسة ومعلمها، ومقاوم الأعداء يوحنا الحكيم المتأله اللب.» ولد يوحنا من أبوين غنيين تقيين في دمشق، وافتدى أبوه راهبا اسمه قوزما كان قد وقع أسيرا في يد المسلمين في إيطالية، وكان قوزما الراهب على شطر وافر من العلم فعني بتعليم يوحنا وتثقيفه، وخلف يوحنا أباه وجده في إدارة المال في عهد الأمويين، وما فتئ مشرفا عليها حتى خلافة هشام (724-743). ثم اعتزل الإدارة وتقبل النذر في دير القديس سابا في فلسطين، وتوفي فيه حوالي السنة 760، وكانت حرب الأيقونات فأثرت في نفس يوحنا، فاجتهد في أمر الأيقونات وكتب ورحل في سبيل ذلك حتى القسطنطينية، فعرفه الآباء وقدروا مواهبه، فأطلقوا عليه لقب خريسورواس ومعناه دفاق الذهب، وخريسورواس عندهم نهر بردى بلد يوحنا.
4
وأفضل الآثار التي خلفها هذا العالم الحكيم وكوكب الكنيسة ومعلمها؛ هو مؤلفه «ينبوع المعرفة»، وهو سفر جليل عرض به يوحنا العقيدة المسيحية عرضا منطقيا على طريقة أرسطو معتمدا في ذلك على مقررات المجامع وأقوال الآباء منذ المجمع المسكوني الأول حتى يومه، فوضع بيد محبي الأيقونات سلاحا قاطعا لم يكن لديهم من قبل، وأصبح مؤلفه - فيما بعد - مرجع الآباء الأرثوذكسيين والكاثوليكيين في علم اللاهوت، وهو دونما ريب الينبوع الأكبر الذي استقى منه ونسج على منواله توما الإكويني عندما وضع في القرن الثالث عشر مؤلفه الشهير في اللاهوت
Summa Theologiae . ونظم يوحنا التراتيل الروحية ولحنها، ولا سيما ما يرتل منها يوم عيد الفصح، وجاءت هذه التراتيل أعمق وأقوى من منظومات رومانوس البيروتي الذي سبقت الإشارة إليه.
5
ومما ينسب إلى القديس يوحنا الدمشقي قصة برلام الزاهد ويوصافات الأمير الهندي التي راجت كثيرا في العصور الوسطى، وبرغم أن العالم الإفرنسي زوتنبرغ قد نفى علاقتها بيوحنا الدمشقي،
6
وبرغم أن كثيرا من المؤرخين قد تقبلوا استنتاجاته؛ فإن بعض العلماء المحدثين لا يزالون يرغبون في إسنادها إلى يوحنا نفسه،
7
ومن المحتمل أن يكون راهب آخر من رهبان دير القديس سابا يحمل اسم يوحنا أيضا هو الذي نقل هذه القصة.
8
ثيوفانس المعترف (748-818)
ولد في القسطنطينية من والدين تقيين عريقين في الشرف؛ فوالده إسحاق كان واليا على جزر الأرخبيل ووالدته ثيودورة كانت أيضا شريفة من شريفات القسطنطينية، وتوفي والده وهو لا يزال في الثالثة من عمره، فأشرفت والدته البارة على تربيته واستعانت بأحد العلماء الأتقياء على تهذيبه وإرشاده، ثم أكرهه الفسيلفس على الزواج من ابنة لاوون أحد كبار الموظفين في القصر، فأرشد عروسته إلى الصلاة والتأملات الروحية وطلب إليها أن يعيش معها كشقيق لها لا كزوج، فقبلت. وبعد وفاة الفسيلفس وحميه لاوون أطلق هو وزوجته عبيدهما ووزعا أكثر ما يملكان على الفقراء، وفي السنة 780 تقبل كل منهما النذر وافترقا ليلتقيا في الحياة الأبدية.
وانعقد المجمع المسكوني السابع فدعي ثيوفانس للاشتراك في أعماله فلبى، ثم حاول لاوون الخامس اجتذابه إليه فما استطاع، ورد عليه ثيوفانس موجبا تكريم الأيقونات، فاشتعل لاوون غيظا وأنفذ إلى الدير السغرياني من ألقى القبض على الراهب البار وقيده بالسلاسل، ثم أدخله لاوون السجن وأمر بتعذيبه، وبعد سنتين نفاه إلى جزيرة قفر، فتوفي فيها بعد وصوله إليها بثلاثة أسابيع. وأول من عني بتدوين سيرة هذا الرجل البار هو ثيوذوروس الأستوديتي.
وأنفع ما خلفه ثيوفانس خرونيقونه الشهير، بدأه من عهد الإمبراطور ديوقليتيانوس ووقف به عند نهاية حكم الفسيلفس ميخائيل الأول (284-813)، وخرونيقون ثيوفانس هذا مفيد جدا؛ لأنه يحفظ لنا بعض ما ورد في مصنفات فقدت من بعده، ولأنه أسهب فيما دون عن حرب الأيقونات. وقد نقل أنسطاسيوس قيم مكتبة الفاتيكان هذا الخرونيقون إلى اللاتينية في النصف الثاني من القرن التاسع، فزاد في فائدته؛ إذ اعتمد عليه عدد كبير من مؤرخي العصور الوسطى في الغرب.
9
نيقيفوروس المعترف (758-828)
ولد في القسطنطينية، وأبوه هو ثيوذوروس كاتم أسرار الفسيلفس قسطنطين الزبلي «الخامس» وأمه هي إفذوكسية. احتمل الاضطهاد الشديد في حرب الأيقونات، وتوفي ثيوذوروس في المنفى، فعادت إفذوكسية بولدها نيقيفوروس إلى القسطنطينية، وعنيت بتربيته وتعليمه، وكان نيقيفوروس ذكيا جدا فبرع في «العلوم البشرية» وقد أظهر ما دل على حسن شمائله وخصاله، فأحبه عظماء العاصمة، وأمرت إيرينة الوصية بترقيته إلى الوظيفة نفسها التي شغلها والده، وهكذا أصبح كاتما لأسرار المملكة، وحينما رأت والدته إفذوكسية أنه لم يعد بحاجة إلى مساعدتها أهملت كل شيء وانفردت في دير الراهبات.
وسعى نيقيفوروس إلى عقد المجمع المسكوني السابع سنة 787 وحضره بشخصه من قبل الفسيلفس؛ لكي يشرف على حفظ النظام والترتيب، ثم اعتزل العمل في البلاط، وأهمل كل شيء وانفرد في البوسفوروس بالقرب من القسطنطينية وعمر ديرا وضم إليه طائفة من الرهبان. وكان إذا أكمل واجباته الرهبانية انصرف إلى العلوم التي برع فيها، وفرغ الكرسي البطريركي في العاصمة بوفاة طراسيوس في السنة 806 فدعا الفسيلفس نيقيفوروس سميه نيقيفوروس إليه وحثه على قبول الرتبة البطريركية ولكن نيقيفوروس اعتذر وتوسل إلى الفسيلفس أن يعفيه؛ لأنه كان لا يزال علمانيا، ولأنه غير كفؤ لهذه المنزلة الجليلة، ولكن الفسيلفس أصر على رأيه وما لبث حتى انتصر على إرادة سميه.
وتبوأ نيقيفوروس العرش البطريركي المسكوني في منتصف السنة 806، ثم هب «ينقي حقل الرب من زوان الأراسيس والضلالات والغلطات والبدع، ولا سيما هرطقة محاربي الأيقونات.» واتجه بعد ذلك إلى تهذيب الإكليروس ملزما كلا منهم بالسلوك في الحدود التي ترسمها له القوانين، وفي السنة 813 حينما استولى لاوون الأرمني على تخت الملك؛ عاد فضيق على من قال بإكرام الأيقونات فسجن نيقيفوروس، ثم نفاه فتوفي في المنفى في السنة 828.
10
وألف نيقيفوروس كتبا في الرد على محاربي الأيقونات ، وأشهر آثاره في هذا الموضوع «دحض ما هذر فيه مأمون»، والإشارة هنا إلى قسطنطين الخامس،
11
وكتب أيضا في التاريخ، فأرخ الفترة التي امتدت من أيام موريقيوس في السنة 602 إلى السنة 769، فأجاد، وحفظ لنا أشياء وأشياء عن السياسة وعن الكنيسة في تلك الحقبة، والتشابه بين تاريخه وبين خرونيقون ثيوفانس يعود إلى أن الكاتبين كليهما أخذا في بعض الأحيان عن مرجع واحد.
12
جرجس الراهب
وقد صنف خرونيقونا كالمعتاد، فابتدأ بالخلق وسقوط آدم، ووقف عند انتصار الأيقونات في السنة 842، ومصنفه هذا هام جدا؛ لأنه المرجع الوحيد لتاريخ الروم بين السنة 813 والسنة 842، ولأنه يبين - بوضوح - مشاغل زملائه الرهبان، وما اهتموا به في الرهبانية، وفي حرب الأيقونات، وفي انتشار الإسلام،
13
واعتمد المتأخرون من مؤرخي الروم هذا الخرونيقون في ترتيب الحوادث العالمية وتصنيفها، كما أن مؤرخي الروس الأولين رجعوا إليه وأفادوا منه.
كاسية الشاعرة
ولما أهمل ثيوفيلوس الفسيلفس كاسية في عرض الجميلات - كما سبق أن أشرنا - اتجهت أنظارها نحو جمال النفس والروح، ثم عزفت عن الدنيا عزوفا تاما، فأسست ديرا والتجأت إليه متعبدة، وعنيت في أثناء عزلتها بالتراتيل الروحية، فنظمت فيها ما خلد ذكرها، وقد كرس المؤرخ الألماني كرومباخر شيئا من وقته لدراسة شعرها، فألفاها امرأة فذة، جمعت حساسية المرأة، إلى شدة تدين، إلى صراحة نادرة.
14
الفكر اليوناني والأوساط العربية الإسلامية
وأدرك العرب المسلمون تفوق الروم في الفكر والحضارة؛ فقد جاء في مقدمة ابن خلدون أن أبا جعفر المنصور بعث إلى ملك الروم يطلب كتبا يونانية، وأن الملك أجابه إلى طلبه، فأرسل إليه كتبا من بينها كتاب إقليدس،
15
وترجم أبو يحيى بن البطريق كتب جالينوس وأبقراط، وفي عهد الرشيد نقل يحيى بن ماسويه بعض الكتب الطبية إلى العربية، ولكن هذا النقل بلغ أقصاه في عهد الخليفة المأمون، فإنه كان من أنصار المعتزلة الذين عززوا العقل وتهافتوا على الفكر وآثاره.
وراسل المأمون زميله لاوون الأرمني وطلب إليه أن يأذن لبعثة إسلامية بالحصول على بعض المصنفات اليونانية في الفلسفة والهندسة والطب، فأجابه لاوون إلى ذلك، فأتت القسطنطينية بعثة ثقافية عباسية، كان أعضاؤها الحجاج بن قطر، وابن البطريق، وصاحب بيت الحكمة، وعاد هؤلاء بكنوز ثمينة إلى بغداد، فأشرف قسطا بن لوقا على ترجمتها،
16
ولما ترامى إلى المأمون نبأ لاوون الرياضي راسله يستدعيه إلى بلاطه وأغراه بالعطاء، ولكن ثيوفيلوس الفسيلفس علم بهذه الدعوة في حينها، فأبقى لاوون في القسطنطينية وعينه مدرسا في إحدى الكنائس. ثم عاد المأمون يرجو ثيوفيلوس أن يسمح بأن يزوره لاوون مدة قصيرة، «وذكر في رسالته أنه يعد قبول هذا الطلب عملا وديا وأنه يعرض لقاء ذلك ألف قطعة من الذهب وعقد صلح دائم، غير أن ثيوفيلوس رفض واعتبر علم لاوون واختراعاته سرا لا ينبغي أن يطلع عليه المسلمون.»
17
وأحب الواثق بالله أن يستقصي أخبار أهل الكهف، فأرسل أحد العلماء المسلمين إلى إفسس لمشاهدة كهوفها، وهي التي كانت تحفظ جثث الشبان السبعة الذين استشهدوا في أيام ديوقليتيانوس، وأذن ميخائيل الثالث بذلك وأوفد مع العالم المسلم دليلا يرشده.
18
الجدل بين النصارى والمسلمين
ومن ظواهر الفكر في القرنين الثامن والتاسع التحاج الديني الذي حصل بين بعض العلماء الأرثوذكسيين الكاثوليكيين وبين بعض علماء المسلمين، وكان الداعي لهذا الجدل أن الخلفاء كانوا إذا تسنموا عرش الخلافة يوجهون إلى الملوك المعاصرين كتبا يدعونهم فيها إلى الدخول في الإسلام، فلم يكن بد من الرد على هذه الكتب، ومن أسباب هذا الجدل أيضا أن خطر التحول عن المسيحية تزايد بتقدم العرب في جميع نواحي حياتهم، فكان من الضروري أن تنظم مناعة في العقيدة للمسيحيين في الثغور، وفي جميع الأقطار الشامية، وفي مصر أيضا.
وكان سكان هذه الأقطار من الأرثوذكسيين الكاثوليكيين وهم لا يزالون يستعملون اللغة اليونانية في أرض الإسلام، في زمن يوحنا الدمشقي أيام الأمويين، وفي زمن أبي قرة في أوائل العهد العباسي، فجاءت تآليف هؤلاء في الجدل باليونانية، ولكن أبا قرة في ميماره بدأ استعمال العربية وكتب بها أبو كاليبس بحيرة الحوار بين عبد المسيح الكندي وبين عبد الله الهاشمي.
أما يوحنا الدمشقي فإنه ناقش بعض الآيات القرآنية وانتقد وحي القرآن وعادات المسلمين في العبادات والأخلاق، ورفض أبو قرة بعثة محمد رسولا وجادل فكرة الخلق المستمر ونصيب الله في أعمال المخلوقات، واعتبرها أقوالا يجر إليها الدخول في الإسلام.
ومما قاله أبو قرة: إنه إذا قيل بخلق المسيح لزم أن يكون الله قد بقي زمنا دون كلمة وروح، وبالتالي لزم أن يكون القرآن الذي هو كلمة الله مخلوقا، وظهرت رسالة بحيرة الراهب في عهد المأمون، ثم كان هجوم إسلامي قوي على إثر ما فعله ميخائيل الثالث؛ إذ أرسل مقالتين احتج في إحداها بمبدأ السببية، فرفض المسلمون فكرة وجود ابن لله مشارك له في الخلود وفي الصفات.
وظهرت رسالة للجاحظ مال فيها صاحبها إلى تأييد سياسة المتوكل الشديدة نحو أهل الذمة، وعرض أبو القاسم بن إبراهيم البلخي لفكرة البنوة، وألف أبو عيسى الوراق كتابا ضخما نقد فيه عقائد النصارى بمذاهبهم الثلاثة.
19
الفن
ويرى بعض رجال الاختصاص أن محاربي الأيقونات قضوا بتعصبهم على روائع فنية، فحرموا بذلك الفن والعلم فائدة التلذذ والانتفاع بهذه الروائع،
20
ويرى غيرهم أن النزاع حول الأيقونات وتحطيمها نفخ في الفن البيزنطي روحا جديدة مستمدة من الفن الهليني القديم ومن الفن الفارسي، كما يرون أن تحريم تصوير المسيح والعذراء والقديسين؛ لم يشمل تصوير البشر العاديين، فانطلقت يد الفنانين وغدت واقعية بتأثير المثل الهلينية الباقية. ومما يرى هؤلاء أيضا أن الفن البيزنطي اتجه في هذه الحقبة - نتيجة لحرب الأيقونات - اتجاها زمنيا واضحا مستلهما الطبيعة والحياة اليومية العادية.
21
ومؤسف أن يكون معظم آثار هذه الفترة قد اندثر وسواء منه ما كان دينيا أو زمنيا، وقد يكون بعض الفسيفساء في كنائس ثيسالونيكية «سلانيك» من آثار هذه الحقبة وقد لا يكون، وقل القول نفسه عن بعض التصاوير المحفورة في العاج وهي التي يقدر فريق من الباحثين أنها ترقى إلى عصر حرب الأيقونات. وثمة كتب دينية مزينة ببعض الصور قد تكون من آثار هذه الحقبة نفسها، وأشهرها مخطوطة الخلودوف المحفوظة في موسكو.
22
الباب الثامن
الأسرة المقدونية والظفر والعظمة والمجد
867-1057
الفصل الثاني والعشرون
توطيد الملك: باسيليوس الأول ولاوون السادس
867-912
أصل هذه الأسرة
وتختلف المراجع الأولية في أصل هذه الأسرة، فاليونانية منها تجعلها أرمنية أو مقدونية، والأرمنية تؤكد نسبها الأرمني، والعربية تراها صقلبية، ومن هنا كان هذا الاختلاف في الرأي بين رجال الاختصاص، والذي لا خلاف فيه هو أن باسيليوس الأول ولد في خريوبوليس في مقدونية،
1
وأن العنصر الصقلبي كان قد أصبح العنصر الرئيسي فيها كما سبق أن أشرنا، ولا يستبعد - والحالة هذه - أن يكون باسيليوس قد تحدر من أصل مختلط أرمني صقلبي مقدوني.
2
باسيليوس الأول (867-886)
وكان باسيليوس طويل القامة مفتول العضل جميل الطلعة، جنديا شجاعا وفارسا مغوارا، ومما يروى عنه أنه كان أقدر أهل زمانه في ترويض الخيل وتذليلها، وأنه استرعى نظر ميخائيل الثالث حينما ذلل مهرا جامحا له بسهولة فائقة، وكان قد سبق له أن قهر جبارا بلغاريا فرماه عن ظهر جواده إلى الأرض في حفلة أقامها ابن برداس خال ميخائيل الثالث،
3
فأحبه الفسيلفس وجعله أمير إخوره
، وكان ذكيا نشيطا قديرا، ولكنه كان طموحا، فما إن أصبح عالما بأحوال البلاط وبالنزاع بين ثيودورة وابنها ميخائيل الثالث وأخيها برداس، حتى بدأ يترقب الفرص لينتفع منها، فأيد برداس ضد أخته ثيودورة ليذكي النفور في البلاط ويجرد القيصر من ذويه. وأيد ارتقاء فوطيوس العرش البطريركي؛ ليؤجج الغيظ ضد البلاط في صدور أعوان إغناطيوس وليبعد عن الفسيلفس كاتم أسرار اشتهر بعقله وفضله وحسن إدارته، ثم بعد ارتقاء فوطيوس أخذ يحرك حزب إغناطيوس ليزيد النفور والغيظ، وبعد أن أصبح رئيس القصر في السنة 865 وسوس لسيمباتيوس صهر برداس لابنته أن الفسيلفس عزم على أن يرقيه إلى رتبة معاون له وأن برداس منعه، فغضب سيمباتيوس من حميه، وبالاتفاق مع باسيليوس وشى للفسيلفس أن برداس عازم على قتله، فأمر ميخائيل الفسيلفس برداس أن يجمع جيشا ليتوجه به إلى أقريطش لمحاربة العرب.
وفي صباح الثاني والعشرين من نيسان سنة 866 جاء برداس إلى خيمة الفسيلفس لابسا حلته الرسمية؛ ليستأذنه بإخراج الجيش إلى الجزيرة، فلاقاه ستة أشخاص من الذين تعلموا في مدرسته، وفي مقدمتهم صهره سيمباسيوس وباسيليوس المقدوني، فرسم صهره الصليب إشارة للهجوم عليه، وللحال طعنه باسيليوس بضربة قاتلة سقط على إثرها مضرجا بدمائه، ثم انكب الباقون عليه وأكملوا ذبحه أمام الفسيلفس، ورجع الفسيلفس ميخائيل الثالث إلى العاصمة وتبنى باسيليوس وجعله ولي عهده ، وأقامه فسيلفسا معاونا، وتوجه في يوم العنصرة في السابع والعشرين من أيار بيد البطريرك فوطيوس، وكان ميخائيل لا يزال طائشا وكان باسيليوس أدرى الناس به لقربه منه، ولكونه قد تزوج من خليلته إفذوكية إنغرينة، فأدرك أن عطف الفسيلفس قد بدأ يتحول عنه، فهجم عليه وقتله في قصره في الرابع والعشرين من أيلول سنة 867، ثم طلب إلى البطريرك أن يمسحه فسيلفسا، ففعل لرضاء الشعب عنه.
4
وعلى الرغم من هذا كله فإن جمهرة من المؤرخين يرون في باسيليوس - على ضوء ما تم على يده - بعد أن انفرد بالحكم، رجلا إداريا قادرا، وسياسيا داهية، مفطورا على السلطة والحكم، راغبا في إعادة النظام، طامحا إلى إعلاء شأن الإمبراطورية وإعادة مجدها.
5
باسيليوس والعرب والأرمن
وكانت الدولة لا تزال في سلم مع البلغار، وكانت علاقتها ودية مع البندقية ومع خليفة كارلوس الكبير في إيطالية، وكانت الدولة العباسية قد دخلت في طور ضعف وانحلال اشتد فيه نفوذ الأتراك، وعلت أصوات الجواري أمهات الأمراء، وثار العلويون مطالبين بالعرش، ونفر العرب من بني العباس، فتصرف طاهر بن الحسين وخلفاؤه في النفوس لمصلحتهم في خراسان، واستقل حسن بن زيد الديلم في طبرستان وجرجان، ثم تغلب الصفارية في سجستان وغيرها وأرادوا مهاجة بغداد (874)، واستطاع أفاق أن يصبح سيد البصرة وأن يمد سلطانه إلى أبواب بغداد، وسلخ أحمد بن طولون التركي مصر والشام وأخذ يجمع الضرائب لحساب نفسه (877)، واكتفت بغداد بتحريض بعض أمراء الشام عليه، ثم اعترفت دمشق بسلطة خمارويه بن أحمد بن طولون، فقضى على الأحزاب المعادية في الشام (889) واتخذ دمشق قاعدة لملكه.
وأراد باسيليوس الأول أن يستغل هذا الظرف لصالحه وصالح شعبه، فقام يحارب على طول الجبهة الإسلامية من شاطئ قيليقية حتى أرمينية وطرابزون، ونجح في دفع المسلمين إلى الوراء في حروب متتالية بين السنة 871 والسنة 882، فاحتل الممرات الرئيسية عبر طوروس، وقاتل البولسيين بين سبسطية على الهاليس وملاطية على الفرات، ودخل عاصمتهم تفريقية عنوة في السنة 872 فدمرها تدميرا وذبح خريسوخيروس صاحبها وعرض رأسه في موكب النصر في القسطنطينية، وفي السنة 873 احتل زبطرة وسميساط.
ومع أنه لم يستول على ملاطية فإنه قطعها عن دولة العباسيين باحتلاله ما حواليها، وعند السنة 877 كان قد احتل لؤلؤة وجميع ما وقع بين قيصرية ومرعش وأصبح سيد جبال طوروس بسلسلتيها وممراتها.
6
وسره أن الخليفة المعتمد اعترف في السنة 885 بدولة أرمينية مستقلة بزعامة آشوت بغرتوني،
7
فأسرع يعترف هو بدوره بالملك الجديد مقدما له تاجا مخاطبا إياه بالعبارة «الابن الحبيب»، مؤكدا أن أرمينية ستظل أعز حلفاء الإمبراطورية، ولكنه في الوقت نفسه بقي على اتصال وثيق بأمراء الابساك والكرج؛ كي لا يستفحل أمر آشوت الملك الجديد.
8
وأدرك الفسيلفس الجديد خطورة الموقف في البحر المتوسط وفي الغرب، فإن السيادة على هذا البحر كانت قد استقرت في يد المسلمين، وكان هؤلاء قد استقروا في صقلية وفي باري وتارنتوم، وكانوا يغيرون من هذه القواعد على سواحل الأدرياتيك الشرقية وسواحل إيطالية الجنوبية فيرعبون سكانها ويعرقلون تجارتها، وما فتئوا حتى ظهروا أمام روما نفسها، وكان قد تبين جليا أن أمراء سلرنو وكابوة وبنفنتوم اللومبارديين لا يقوون على الصمود في وجه العرب المسلمين؛ لانقسامهم على أنفسهم انقساما لا وحدة بعده، وأن الإمبراطور الغربي لويس الثاني كان قد أصبح ضعيفا.
وكان قد أم القسطنطينية وفدان، أحدهما يمثل هذا الإمبراطور والثاني يمثل البابا؛ ليحثا الفسيلفس الجديد على صيانة النصرانية في الغرب ودفع خطر المسلمين عنها، فهب باسيليوس لمعونة إخوانه في النصرانية وأنفذ في السنة 868 مائة بارجة حربية بقيادة نيقيطاس أوريغاس إلى الأدرياتيك، وقدر النجاح لهذا القائد البحري ففك حصار راغوسة، ثم تعاون مع البنادقة فأعاد النظام والسلم إلى بحر الأدرياتيك، وعادت مدن دلماتية إلى حوزة الفسيلفس، واعترفت دويلات الصرب والكروات بسيادة القسطنطينية.
9
وأدى اندفاع باسيليوس الأول في درء الخطر الإسلامي إلى تقرب من البابا وتعاون مع الإمبراطور لويس الثاني، وبفضل هذا التعاون تمكن لويس الثاني من الاستحواذ على باري في السنة 871، وبعد وفاته أخذ باسيليوس الأمور على عاتقه، فاحتل باري في السنة 876 وأبقى فيها حامية بيزنطية وقائدا إمبراطوريا، وفي السنة 880 دخل ترنتوم عنوة، ولكنه لم يتمكن من فرض سلطته على صقلية.
وسقطت سرقوسة في يد العرب المسلمين في السنة 878، وكان في أثناء هذا كله نصر السوري يجول جولات موفقة في مياه إيطالية الغربية، فيضرب بوارج المسلمين ضربات أليمة، وما فتئ حتى أحرز نصرا كبيرا بالقرب من جزائر ليباري، فدخلت كابوة وسلرنو ونابولي وبنافنتوم في حماية الروم ودخل البابا يوحنا الثامن في حلف مع الفسيلفس.
وجاءت السنة 885 فأحرز القائد نيقيفوروس فوقاس انتصارات برية عديدة، تمكن بها من استعادة أمانتة وتروبة وسانتا رفرينة من يد المسلمين كما أخضع جميع ما وقع بين كوسنزة وبرنديزي، فأنشأ في السنة 886 ثيمة لانغوبردية وثيمة كلابرية.
واعترف عدد كبير من الأمراء اللومبارديين بسلطة الروم، وأصبح الفسيلفس باسيليوس الأول «صاحب الشوكة المعظم» في جميع أنحاء إيطالية الجنوبية، وأنشأت الكنيسة الأرثوذكسية عددا لا يستهان به من الأبرشيات في هذه المنطقة عينها.
10
باسيليوس والكنيسة
وقضت هذه المطامع السياسية الإيطالية عينها بوجوب التفاهم بين رئاسة الكنيسة في الغرب وبين الرئاسة في الشرق، ومما زاد في رغبة باسيليوس في إزالة الانشقاق في الكنيسة، أن أنصار إغناطيوس، مناظر فوطيوس، كانوا لا يزالون كثرا في القسطنطينية وما جاورها، وأن باسيليوس كان يكره فوطيوس ويخشى نفوذه في الأوساط العلمية والعالية.
وهكذا، فإننا نرى باسيليوس يخلع فوطيوس عن العرش البطريركي المسكوني في الثالث والعشرين من تشرين الثاني سنة 767، ويعيد إليه إغناطيوس نفسه ويطلب إلى البابا أن يعيد توحيد الصفوف وأن يرسل إلى القسطنطينية من يمثله في مجمع مسكوني يعقد لهذه الغاية،
11
ووافق البابا أدريانوس الثاني (867-872) وأرسل رسله إلى القسطنطينية، فوصلوا إليها في السنة 868، واستقبلوا فيها بحفاوة فائقة.
وفي الخامس من تشرين الأول سنة 869، التأم مائة أسقف في مجمع عد مسكونيا وروقب مراقبة شديدة من قبل الفسيلفس، فطلب أعضاؤه فوطيوس للمثول أمامهم، ففعل، فطلب إليه أن يجيب عما وجه إليه من انتقاد فرفض بعزة وأنفة وكبر، فقطع هو وجميع أتباعه وكسرت قرارات بطريركيته، وفرض رسل البابا الطاعة على الشرقيين.
12
ولم يدم هذا الانتصار إلا قليلا، ففي غد اليوم نفسه الذي انتهت فيه أعمال هذا المجمع (28 شباط 870) تقدم بوغوريس ملك البلغار بطلب إلى المجمع؛ يرجو فيه البت فيما إذا كانت الكنيسة البلغارية تابعة لرومة أو للقسطنطينية، فعقد أعضاء المجمع اجتماعا خاصا لهذه الغاية، ووجد رسل رومة أن باسيليوس وإغناطيوس لم يكونا أقل تمسكا بالكنيسة البلغارية وبوجوب دوام خضوعها لكرسي القسطنطينينة من برداس وفوطيوس، وعلى الرغم من احتجاج رسل البابا، فإن باسيليوس أقر خضوع الكنيسة البلغارية لسلطة البطريرك المسكوني، وأسرع إغناطيوس فسام عليها رئيس أساقفة يونانيا يعاونه عشرة أساقفة يونانيين أيضا، واضطر الكهنة الرومانيون ورؤساؤهم أن يغادروا بلغاريا.
ولدى وفاة إغناطيوس البطريرك المسكوني في السنة 877 طلب باسيليوس إلى فوطيوس أن يخلفه، وكان فوطيوس قد نجا من المنفى وعاد إلى القسطنطينية؛ ليهذب أولاد الفسيلفس، وفي السنة 879 عاد الفسيلفس فطلب إلى حليفه في السياسة البابا يوحنا الثامن (872-882) أن يشترك في مجمع مسكوني يعقد في القسطنطينية للنظر في قضية فوطيوس البطريرك، فأوفد يوحنا الثامن من مثله في هذا المجمع، والتأم لهذه الغاية واحد وثمانون رئيس أساقفة «متروبولبيت» ومئتان وسبعون أسقفا.
واحتج فوطيوس احتجاجا شديدا على قرارات المجمع السابق، فوافق المجمع الجديد على براءة فوطيوس مما نسب إليه، وكسر قرارات مجمع السنة 869-870، وأعلن فوطيوس رئيسا للكنيسة الشرقية، واعتبره ممثلو البابا «صاحب قداسة»، وفي يوم عيد الميلاد من السنة 879 قدم فوطيوس الذبيحة الإلهية يعاونه جميع أعضاء المجمع، وأصدر المجمع قوانين ثلاثة أهمها: أن البطريرك فوطيوس يحرم من يحرمه البابا يوحنا من رجال إكليروسه أو أبناء رعيته المقيمين في آسية أو أوروبة أو أفريقيا، وأن البابا يوحنا يقابله بالمثل، وأن «التقدم» الذي للكنيسة الرومانية يبقى على حاله بلا إحداث ولا تغيير إن في الحاضر أو المستقبل، وعقدت الجلسة السادسة قبل الأخيرة في الثالث من آذار سنة 880 في البلاط لا في آجيا صوفيا، وحضرها الفسيلفس وأولاده، ونصح الفسيلفس أن يكتب دستور إيمان عام، فأجاب نائب بطريرك أنطاكية «أن دستور الإيمان في كل المسكونة هو هو لا يتغير والمجمع الحاضر يصدق عليه.» ثم قال نواب رومة: إنه يجب أن لا يسن قانون جديد بل إن يصدق على دستور الإيمان القديم النيقاوي، فأمر البطريرك فوطيوس رئيس الكتاب الشماس بطرس أن يقرأ اعتراف الإيمان، ففعل.
وكان يقال فيما مضى: إن رومة لم تعترف بقرارات هذا المجمع المسكوني الثامن، وإن البابا يوحنا الثامن - لدى اطلاعه على قرارات هذا المجمع المسكوني الثامن - أرسل مارينوس سفيرا إلى القسطنطينية؛ ليقنع الفسيلفس والبطريرك بوجوب تعديل بعض قرارات هذا المجمع وإنه أخفق في هذا، فصعد على الآمبن وفي يده الإنجيل ونادى: «كل من لا يعتبر فوطيوس المفروز بحكم إلهي كما تركه الباباوان نيقولاووس وأدريانوس القديسان ليكن أناثيما؛ أي مفروزا»، وإن الفسيلفس غضب فألقاه ثلاثين يوما في السجن،
13
ولكن جمهرة العلماء اليوم - وبينهم الكاثوليكيون أمثال دوفورنك وغرومل - يرون أن هذا كله كان ضربا من الدعاوى الإغناطيوسية التي اختلقت اختلاقا في أيام البابا فورموسيوس (891-896) وأن كل ما نعلمه عن علاقات فوطيوس بالبابا يوحنا الثامن يكذب هذه الدعاوى تكذيبا،
14
وأنه لم يقم بين خلفاء البابا يوحنا الثامن وحتى انتهاء بطريركية فوطيوس الثانية في أيام لاوون السادس؛ من قطع علاقاته مع هذا البطريرك العالم التقي العظيم.
15
سياسة باسيليوس الداخلية
وكان باسيليوس يشعر بالواجب الملقى على عاتق الفسيلفس، فيراه يقضي بالعدل والاستقامة والمحبة والرأفة والإحسان،
16
ولذا فإنه سعى سعيا حثيثا لرفع شأن العرش بعظمة البناء وكثرة البذخ والفخفخة وبحسن الإدارة، وقال بوجوب السهر لرفع الظلم فجلس على منصة الحكم يصغي للتظلم من الحكام ورجال الإدارة، وأعلن نفسه حاميا للفقراء والوضعاء والتعساء، وجعل بمقدور رعاياه أن يتثبتوا من صحة الضرائب المفروضة عليهم، وعني عناية فائقة بانتقاء الموظفين وحضهم على العدل وعلى سياسة الرعايا بأياد طاهرة غير ملوثة،
17
وبذل وسعه للحد من جشع أصحاب الأملاك الكبيرة ولتقليم أظافر هؤلاء الذين «طمعوا بما ليس لهم.»
ثم رغب في توضيح القوانين والشرائع وتدقيقها،
18
فأمر بوجوب «تطهير» الشرائع القديمة منذ عهد يوستنيانوس، وجعلها تتلاءم وتطورات المجتمع، وأمر أيضا بنقلها إلى اليونانية، وكان يهدف من وراء هذا - فيما يظهر - إلى إلغاء التشريع الإسوري، إلى «إسقاط هذه الإكلوغة الهدامة وإبطال أحكامها الرديئة»،
19
وعين لجنة لهذه الغاية، ولا يستبعد أبدا أن تكون هذه اللجنة قد عملت بإشراف فوطيوس البطريرك المسكوني، فظهر في السنة 879 البروخيرون في أربعين فصلا وفيه أفضل ما جاء في مجموعة يوستنيانوس الكبيرة
Corpus Juris Civilis ، وبانت في السنة 886 الإباناغوغوة
Epanagogè
في أربعين فصلا خلاصة وافية في أيدي القضاة والطلاب والأساتذة.
وكان باسيليوس قد طلق زوجته الأولى ماريا في السنة 865 وتزوج من إفذوكية خليلة ميخائيل الثالث، فلما رقي باسيليوس العرش سرت إشاعة في العاصمة أن لاوون بن باسيليوس الأكبر من زوجته إفذوكية هو ابن ميخائيل لا باسيليوس، وعلم الفسيلفس بذلك في حينه، ودبرت عدة مؤامرات لاغتياله، فرأى من المناسب أن يوطد سلطته بتبيان أصل العائلة المالكة وحقها بالملك، ففعل، وأطلق على كل عضو من أعضاء عائلته اللقب
؛ أي الذي أبصر النور بالأرجوان، فنشأ عن هذا إخلاص واحترام ووفاء للأسرة المالكة أهابت بالمغتصبين أنفسهم إلى احترام من بيده السلطة الشرعية وإلى التدليل بشرعية اغتصابهم، وأصبح شق عصا الطاعة - بحد ذاته - جرما وجهلا في نظر الشعب، وساد الاعتقاد أن من بيده الحق في الملك يغلب في النهاية، وتمكن النسوة - من جراء هذا كله - من الجلوس على العرش والتحكم في مقدرات الشعب، وهي ظاهرة اجتماعية سياسية لا أثر لها في الغرب المعاصر.
20
لاوون السادس (886-912)
وتوفي باسيليوس من جراء جرح أصابه في أثناء الصيد في التاسع والعشرين من آب سنة 886، وكان قد أوصى بالملك لولديه لاوون وإسكندر، وكانا قد أشركا في الحكم في عهد والدهما، واستأثر لاوون بالسلطة ولم يعارضه في ذلك أخوه إسكندر؛ لأنه كان خفيف العقل طائشا، فاستصبى واستهتر.
ولم يكن لاوون رجل حرب كوالده؛ لأن صحته لم تكن تساعده على ذلك، فلازم القصر واهتم بآداب المعاشرة والتشريفات، وحارب في أكثر الأحيان بالمنظار من قصره بعيدا عن ساحات الوغى، ولم يكن والده ذا علم فأحب أن يتلقن أولاده علوم العصر، فوكل أمر تهذيب لاوون إلى فوطيوس البطريرك، فنشأ لاوون محيطا بجميع علوم عصره، فادعى المنطق والفلسفة واللاهوت والقضاء والتكتيك في الحرب والشعر والسحر والتنبؤ وفاخر بها جميعا، وأثرت هذه الإحاطة في أوساط العاصمة فلقب بالحكيم، وكان متعبدا متدينا يعظ المؤمنين في الأعياد ويجالس الرهبان ورجال الدين، ولا سيما معلم ذمته أفثيميوس، وأوصى في قوانينه الصادرة عنه بدرجة من المحافظة على الأخلاق لم يصل هو نفسه إليها.
21
لاوون والكنيسة
وكان قد وشي لباسيليوس بابنه لاوون؛ بأنه ينوي قتله، فسجنه وعزم على قلع عينيه، ولكن فوطيوس البطريرك توسط في أمره وخلصه من الخطر. ولدى ارتقاء لاوون العرش دس أعداء فوطيوس الوساوس للفسيلفس الجديد وأقنعوه أن الواشي به لأبيه كان ثيوذوروس الساحر، وأشركوا مع هذا بالتهمة فوطيوس نفسه، فعزل لاوون فوطيوس؛ إما لأنه صدق الوشاية، أو لأنه أحب أن يجلس أخاه إسطفانوس بطريركا أو للأمرين معا، ونفاه في أواخر السنة 886، وحبس ثيوذوروس وجلده، ورقى أخاه السنكلس إسطفانوس كرسي البطريركية.
وتوفي فوطيوس في السادس من شباط سنة 891، ولا يزال الدير، الذي أقامه في جزيرة خالكي بالقرب من القسطنطينية على اسم الثالوث المقدس، وقد أصبح مدرسة إكليريكية عالية، يحتفل بتذكاره في السادس من شباط حتى يومنا هذا، كما لا تزال الكنيسة الأرثوذكسية تعتبره قديسا عظيما مساويا للرسل.
وتوفي البطريرك إسطفانوس أخو لاوون في السنة 893 وقام بعده البطريرك أنطونيوس الملقب بكاولياس
Cauleas
أحد رهبان أوليمبوس، وكان رجلا فاضلا أيضا، فحاول بإخلاص إصلاح العلاقات بين أتباع فوطيوس وأتباع إغناطيوس، ولكن دون جدوى، وتوفي سنة 895 فقام بعده البطريرك نيقولاووس ميستيكوس
Mysticos ؛ أي المكاتم، وكان رجلا عالما، فاضلا، تقيا، تقبل النذر بعد أن كان قد أصبح كاتم أسرار لاوون الفسيلفس، ورقي في درجات الكهنوت إلى أن انتخب بطريركا، وما فتئ حتى نفاه لاوون في السنة 906، فجلس على كرسي القسطنطينية أفثيميوس السنكلس.
22
وكان شغل لاوون الشاغل وهمه الأوحد أن يكون له ولد ذكر؛ يخلفه على العرش، وماتت زوجته الأولى ثيوفانو في السنة 893، وكانت له علاقات غير شرعية مع زويه ابنة إستيليانوس زاوتسه، وكانت هذه قد أماتت زوجها الشرعي مسموما، وتوفي والدها، فأراد لاوون أن يتزوج منها زواجا شرعيا، وطلب إلى كاهن البلاط أن يرفع يده بالبركة ففعل، ولكن البطريرك أنطونيوس لم يرض عن هذا الإكليل، وبقيت زويه مع لاوون سنة وثمانية أشهر، ثم ماتت، فتزوج الفسيلفس من ثالثة إفذوكية الشهيرة بجمالها، ولكنها ما لبثت معه إلا مدة الحمل، فإنها ماتت في أول ولادة هي وطفلها معا.
وهكذا، فإن لاوون بقي بدون ولد ذكر يخلفه، فأقام فيما بعد مع سرية اسمها زويه كاربونوبسينا
Zoé Carbonopsina «أم العيون السود!» وبعد أن خلف منها ولدا ذكرا هو قسطنطين السابع، طلب إلى البطريرك نيقولاووس ميستيكوس أن يكلله عليها، فذكره البطريرك بالمادة التسعين من القانون الذي أصدره هو بصفته فسيلفسا وقد ثبت فيها القانون الكنائسي بمنع الزيجة الرابعة وشجب الثالثة، وذكره أيضا بالمادة الحادية والتسعين من القانون نفسه التي منعت اقتناء السراري، ثم قال: إنه يعمد المولود الجديد شرط أن يهجر الفسيلفس أم الطفل، فقبل لاوون بذلك وطرد زويه من البلاط، فأقيم سر العماد باحتفال مهيب يوم عيد الظهور في السنة 906، ولكن لم تمض ثلاثة أيام حتى عادت زويه إلى البلاط، وعلم لاوون أنه ليس بين الكهنة ورؤساء الكهنة من يقبل أن يكلله عليها فكلل نفسه عليها بنفسه، فكان هو العريس والقسيس معا، ثم أغوى كاهنا اسمه توما فكلله، فقطع البطريرك الكاهن، وأخذ ينصح إلى لاوون، لا بل يتضرع إليه، ألا يكون عثرة في سبيل الكنيسة، وأن يتصرف بما يشرف مركزه العالي؛ كي يصبح شخصه الشريعة الناطقة، فلما أصر الفسيلفس على موقفه منعه البطريرك من الدخول إلى الكنيسة، وسمح له بأن يقف في المدخل مع الموعوظين، فسعى القيصر لدى بعض الأساقفة واستمالهم إليه، كما استمال البابا سرجيوس الثالث (904-911).
وعقد مجمعا في السنة 906، وأنزل نيقولاووس عن كرسيه البطريركي، وجلس البطريرك أفثيميوس السنكلس، فحل لاوون من حرمه وقبله في شركة الكنيسة، وعزم لاوون أن يسن قانونا يحلل به الزيجة الرابعة والخامسة والسادسة وهلم جرا، ولكن أفثيميوس منعه من ذلك، وظل لاوون - فيما يظهر - غير مرتاح البال حتى ساعة وفاته، فإنه عندما اقترب أجله في السنة 912، استدعى نيقولاووس من منفاه، وبكى وطلب الصفح، وأوصى أخاه الوصي ألكسندروس أن يخلع أفثيميوس ويرجع نيقولاووس.
23
سياسة لاوون الداخلية
وعني لاوون بالتشريع كما فعل والده من قبل، وأمر بتأليف لجنة من كبار رجال القضاء لتعيد النظر فيما تم في عهد والده، فظهرت على يد هذه اللجنة ما بين السنة 886 والسنة 892 مجموعة جديدة للقوانين باللغة اليونانية، دعيت الباسيليكة. واللفظ مشتق من كلمة فسيلفس، لا من كلمة باسيليوس، ومعناه: الشرائع الإمبراطورية،
24
وليس لدينا نسخة كاملة تشمل الكتب الستين التي تألفت منها هذه الباسيليكة، وجل ما وصل إلينا نسخ متعددة ناقصة، تضم بمجموعها حوالي ثلثي هذا المؤلف النفيس، بيد أن القاضي باتزس
الذي عاش إما في القرن السادس عشر أو الثاني عشر، صنف التيبوكيتوس
Tipucitus
فجعله جدولا كاملا لمحتويات الباسيليكة.
25
وقد يعود كتاب الأبارخوس الذي وجده العالم السويسراني نيقولا في أواخر القرن الماضي في جنيف إلى عهد لاوون، والأبارخوس لقب حاكم القسطنطينينة أعلى الموظفين الإداريين في الدولة، وكان عليه أن يوطد الأمن في العاصمة وأن يدبر شئون جميع النقابات الصناعية والتجارية، ومن هنا كانت أهمية هذا الكتاب؛ فإنه يحفظ لنا ما لا نجده في غيره من المصنفات، فهو يصف أنظمتها وسير أعمالها، ويبدأ بنقابة الكتاب العدول، ثم يصف نقابات الصاغة، فرجال الحرير، فالكتان والشمع والصابون، والدباغين، والخبازين، واللحامين وغيرهم،
26
وهنالك أكثر من مائة قانون تعود إلى عهد لاوون أيضا ولكنها لم تدرس بعد درسا وافيا.
27
وعلى الرغم من هذا الاهتمام بالاشتراع؛ فإن بلاط لاوون السادس الحكيم ظل مسرحا للمؤامرات والدسائس طوال مدة حكم هذا الفسيلفس، وتفصيل ذلك أن لاوون آثر الاهتمام بتنظيم القوانين على تطبيقها، وشغل بالاستقبالات والتشريفات عن الإشراف على الإدارة، فنفذت كلمة استليانوس تزاوتزس الأرمني الموظف في بلاط باسيليوس الذي كان قد أيد لاوون في نزاعه مع والده، وتغاضى عن علاقات لاوون مع ابنته زويه، وعندما أصبح لاوون فسيلفسا جعل من استليانوس هذا لوغوثيتا وأعطاه صلاحيات واسعة بحيث أصبح وزيره الأول، وكان استليانوس في نزاع دائم مع أفثميوس الراهب معلم ذمة الفسيلفس، وأصبح الشغل الشاغل لكل منهما الدس على الآخر.
وتوفي استليانوس في السنة 698 فنال الحظوة عند لاوون خصي عربي اسمه ساموناس، كان قد تقبل الدين المسيحي، وكشف للفسيلفس مؤامرة مخيفة؛ فأحبه الفسيلفس وقربه وغمره بالمال، وأفاض عليه الرتب والألقاب، وعلى الرغم من أنه حاول الفرار إلى بلاده بأمواله في السنة 904 فإن لاوون اكتفى بإهماله بضعة أشهر، ثم أعاده إلى سابق عزه ونفوذه، وما فتئ كذلك حتى السنة 911، ففيها ثبت لدى الفسيلفس أن هذا الخصي العربي هو الذي نظم الأهجية الفاضحة بحقه، فصادر الفسيلفس أمواله وحبسه في أحد الأديرة،
28
وأحل محله الخصي قسطنطين البافلاغوني.
ويعزو بعض رجال الاختصاص إلى لاوون الحكيم إنشاء سلسلة من القلاع المحصنة في أماكن متقدمة عند الحدود العربية الإسلامية دعيت كليسورات
Clisurae ، وكانت الغاية من إنشائها، فيما يظهر، تدعيم الحدود وبث الدعاية السياسية والدينية، وأهم ما أنشئ منها قام في قبدوقية الشرقية وفي أعالي الفرات،
29
وخسر الروم إكسارخوسية أفريقية؛ لوقوعها في يد العرب، وإكسارخوسية رابينة لوقوعها في يد اللومبارديين أولا، ثم الإفرنج بعدهم، وفي السنة 754 كانت هذه الإكسارخوسية قد أصبحت نواة مملكة البابا الزمنية، على إثر تنازل بابينوس عنها وإهدائها لحبر رومة، وفي أوائل القرن التاسع كان لدى الروم عشر ثيمات: خمس في آسية، وأربع في أوروبة، وواحدة بحرية، ويرى رجال الاختصاص أن باسيليوس الأول ولاوون السادس زادا عدد هذه الثيمات، فجعلاها خمس عشرة، وأضافا إليها دوقية واحدة، وكليسوريتين، وإرخونيتين، ودليلهم على هذا مأخوذ من نص ابن خرداذبه المشار إليه سابقا، ومن بعض النصوص الأخرى.
30
لاوون الحكيم والعرب
وكانت قد أصبحت أقريطش العربية بلية الروم، وأضحت عاصمتها الخندق مأوى القرصان المسلمين وملجأهم، فمنها ومن طرسوس وطرابلس كانوا ينتشرون في مياه الأرخبيل فيسطون على التجارة وينقضون على الجزر مخربين مدمرين، فهجر الروم الجزر وفر سكان سواحل إيجه إلى داخلية بلدانهم، وفي السنة 904 قام لاوون الطرابلسي بهجوم جريء جدا على القسطنطينية نفسها ، فدخل الدردنيل بأشرعته السوداء وأحابيشه المردة، ثم انثنى من تلقاء نفسه وانقض على ثيسالونيكية أكبر مدن الروم بعد القسطنطينية، وقدر له أن تكون هذه خالية من الحامية، فدخلها عنوة في بضع ساعات، وقتل ونهب ، ثم سبى اثنين وعشرين ألفا من الشبان والشابات، فباعهم في أسواق الرقيق في الخندق وطرابلس،
31
فعظم هذا الأمر على الروم وشق وصعب، وهب هيماريوس قائد البحر في السنة 906 فانتصر على المسلمين انتصارا كبيرا، وتشجع وتقوى، فقاد في السنة 910 حملة بحرية كبيرة على أقريطش بسبعة آلاف فارس وأربعة وثلاثين ألف مقاتل بحري، وخمسة آلاف من المردة، وسبعمائة مرتزق روسي، وأخفق هيماريوس فعاد عن أقريطش فصده في البحر أسطول عربي كبير في مياه ساموس فأنزل به خسارة كبيرة.
ولم يكن فوز العرب في الغرب أقل منه في الشرق؛ ففي السنة 901 سيطر العرب على مضيق مسينا، وفي السنة 902 تم استيلاؤهم على صقلية بأكملها، وأعلن أمير القيروان أنه «سوف يخرب مدينة الشيخ الهرم بطرس نفسها.»
32
وقامت مشاغل جديدة في البلقان، فلم يتمكن لاوون من الدفاع عن رومة وإيطالية كما فعل والده من قبل.
لاوون والبلغار
وكان قد تم الامتزاج بين البلغار الحاكمين ورعاياهم الصقالبة، فتوحدت الكلمة، واشتدت المطامع وعظمت، وكانت بلغارية في عهد لاوون السادس قد شملت قسما هاما من البلقان الغربي، ومعظم ما وقع بين الدانوب ومورافية وبولونية، وكان قد تولى العرش بعد بوغوريس الأول ابنه سمعان (893-927)، وكان سمعان قد نشأ في القسطنطينية رهينة، فتهذب فيها، وأتقن اليونانية والخطابة والمنطق، وتذوق بذخ البلاط، ونفائس الحضارة البيزنطية، فطمع في عرش الروم، وتاقت نفسه إلى التاج البيزنطي، وما إن تبوأ العرش البلغاري في السنة 894 حتى وجد نفسه في حرب ضد الروم.
33
والغريب في هذه الحرب أنها بدأت من جراء نزاع اقتصادي، فاختلفت عن سواها من الحروب السابقة، وتفصيل ذلك أن التجار البلغاريين كانوا قد أنشئوا لأنفسهم وكالات تجارية في القسطنطينية، زاحموا بها زملاءهم الروم، وكان هؤلاء قد نجحوا فأكرهوا البلغاريين، بتدبير خاص، على الخروج من القسطنطينية والاتجار في ثيسالونيكية، ونجحوا أيضا في أن يجعلوا الدولة تفرض على التجار البلغاريين ضرائب باهظة، وفاوض سمعان زميله لاوون في أمر هؤلاء فنكع في ذلك، فاغتاظ وأعلن الحرب،
34
وانقض سمعان على تراقية، وكان معظم جيش لاوون في آسية، فانتصر الملك البلغاري، فاضطر لاوون أن يستعين المجر، فعبر هؤلاء الدانوب في الوقت نفسه الذي شن فيه الروم هجوما جديدا من البر والبحر، فقاتل سمعان متراجعا، ثم فاوض الروم في الصلح، فوقف القتال في الجبهة الجنوبية، وتفرغ سمعان للمجر فسحقهم سحقا، ثم قطع مفاوضاته مع الروم وعاد إلى الحرب، وفيما كان المجر لا يزالون في الأراضي البلغارية ما وراء الدانوب، والعرب لا يزالون يغيرون على شواطئ إيجه؛ توصل الروم والبلغار في السنة 904 إلى سلم بقي محترما مع الطرفين طوال عهد لاوون. وظل الطمع في السيطرة على البلقان مشكلة تتطلب الحل طوال القرن العاشر.
35
الروم والروس
ويرى عدد من علماء الروس أن علاقات الروس مع الروم بدأت في عهد لاوون السادس حينما ظهر الأمير الروسي أولاغ في السنة 907 عند أسوار القسطنطينية على رأس قوة بحرية روسية، مطالبا ببعض الامتيازات التجارية، وهم يرون أيضا أن أولاغ لجأ إلى العنف في ضواحي القسطنطينية، وأن ظروف لاوون اضطرته إلى عقد معاهدة مع أولاغ في السنة 911 منح بموجبها الامتيازات المطلوبة.
36
ويشك عدد لا يستهان به من علماء الغرب في صحة هذه الرواية، ويرون أن كل ما جاء عن أولاغ وغيره من أخبار عن حوادث جرت قبل السنة 941 لا يزال مفتقرا إلى الإثبات، وأن قصة ظهور أولاغ عند أسوار القسطنطينية هي أسطورة من الأساطير،
37
ويرى فازيلييف في نص المخطوطة اليهودية عن علاقات الخزر بالروس والروم دليلا مهما على صحة خبر الحملة الروسية المشار إليها.
38
الفصل الثالث والعشرون
النهوض بالدولة: قسطنطين السابع ورومانوس ليكابينوس
912-959
قصور ووصاية (912-919)
وتوفي لاوون السادس الحكيم في الحادي عشر من أيار سنة 912، وكان منذ التاسع من حزيران سنة 911 قد جعل للدولة ثلاثة أباطرة: لاوون وأخاه ألكسندروس وقسطنطين السابع الأرجواني المولد
، وكان قسطنطين لا يزال في السادسة من عمره، وكان عمه الإسكندر في الثانية والأربعين، وما إن تسلم مقاليد الوصاية والحكم حتى طرد زوية من القصر وخلع أفثيميوس البطريرك، وأعاد نيقولاووس إلى الكرسي، فأنزل هذا كل من أيد زواج لاوون من رؤساء الأساقفة عن كراسيهم ، فدخلت الكنيسة في نزاع داخلي جديد، وامتنع عدد من رؤساء الأساقفة عن الاعتراف برئاسة نيقولاووس، وأشهر هؤلاء أريثاس متروبوليت قيصرية، ورفض ألكسندروس تنفيذ بعض شروط المعاهدة التي أبرمها لاوون مع ملك البلغار، فأدى عمله هذا إلى حرب بلغارية جديدة، وتوفي في السادس من حزيران سنة 913 بعد أن أقام مجلس وصاية برئاسة البطريرك، فنشب نزاع شديد بين البطريرك رئيس مجلس الوصاية وزوية أم الفسيلفس القاصر، وقد دام ست سنوات (913-919).
وكان من الطبيعي جدا أن يستغل الموقف كل من سولت له نفسه الملك، وحاول ذلك كل من قسطنطين دوقاس أولا (913)، ولاوون فوقاس بعده (918-919) ولكنهما أخفقا، وشاء القدر أن يكون رومانوس ليكابينوس قائد العمارة البحرية في البحر الأسود أكبر حظا من هذين العسكريين، فاحتل البلاط في آذار السنة 919 وطرد زوية ومن شد أزرها، واستحوذ على شخص الفسيلفس الصغير، وأزوجه من ابنته هيلانة، وأعلن نفسه
Basileopator
أبا الملك، وتقبل التاج قيصرا في أيلول من السنة نفسها، وتوج زوجته وأشرك أولاده خريسطوفوروس وإسطفانوس وقسطنطين في الحكم معه، ثم أعلن نفسه فسيلفسا في كانون الأول من السنة نفسها أيضا،
1
وعلى الرغم من أنه أبقى لصهره لقبه الفسيلفس؛ فإنه لم يسمح له بالخروج من البلاط.
وعقد نيقولاووس البطريرك المسكوني مجمعا في تموز سنة 920 مؤلفا من أساقفة الشرق نيقولاويين وأفثيميين، وبعد مراجعة قوانين الآباء حرم هذا المجمع مجمع السنة 906، وأقر بالإجماع قرارا واحدا في أمر الزواج أسماه كتاب الاتحاد
Tomus Unionis
منع فيه الزيجة الرابعة منعا قطعيا، وحرم على المتجاسر عليها الدخول إلى الكنيسة ما دام مصرا على غيه، واعتبره غريبا عن الهيئة المسيحية، ونعت الزيجة الثالثة بالدناسة، ومنعها على الذين لهم أولاد، والذي يزيد عمرهم على الأربعين، ووضع المتزوجين الزيجة الثالثة تحت قصاص الابتعاد عن المناولة خمس سنوات.
الحرب البلغارية
وكان تشامخ الفسيلفس الإسكندر قد أدى إلى اندلاع نار الحرب ثانية بين الروم والبلغار، فاستغل سمعان ملك البلغار هذه القلاقل الداخلية وظهر بجيوشه أمام أسوار القسطنطينية في صيف السنة 913، وفي السنة 914 استولى على أندرينوبل، وسحق في السنة 917 جيشا بيزنطيا بالقرب من أنخيالوس، فاضطر البطريرك نيقولاووس الوصي أن يستعطف الملك البلغاري تارة، ويتهدده تارة أخرى، وعبثا حاول ساسة الروم إلهاء سمعان باستهواء البتشناغ الأتراك الذين كانوا قد احتلوا ما وقع بين الدانوب والدنيبر، وباسترضاء القبائل الصربية وزجها في ميدان القتال. واستولى سمعان على جميع تراقية وكل مقدونية، ولم يبق أمامه سوى اقتحام القسطنطينية نفسها، فجاءها محاصرا في السنة 924، وطاف به جنوده إزاء أسوار العاصمة محيينه تارة بالفسيلفس وطورا بإمبراطور البلغار والروم، وآثر هو المفاوضة على العنف، فطلب مقابلة الفسيلفس رومانوس، فقبل رومانوس والتجأ إلى كنيسة العذراء مصليا متضرعا، ثم لف صدره برداء العذراء العجائبي
Maphorion
وخرج إلى مقابلة خصمه، فكلمه كلاما مؤثرا، وكان سمعان قد استنجد المسلمين فلم يلبوا الطلب، ولم يكن لديه ما يحاصر به العاصمة من البحر فاتعظ وفاوض في أمر الصلح،
2
فكان هذا بدء تقهقر الإمبراطورية البلغارية.
3
وكان لسمعان أن استحصل من رومة على لقب الإمبراطور وأن رقى رئيس كنيسته إلى رتبة بطريرك، فمثل حبر رومة في البلقان الدور نفسه الذي كان قد مثله سلفه عندما جعل من كارلوس الكبير إمبراطورا في الغرب، فمهد بعمله هذا إلى انشقاق الكنيسة الأم إلى كنيستين - كما سنرى.
وكان سمعان يحب العلم والعلماء، فأحاط نفسه بهم ونقل إلى البلغارية أفضل مصنفات الروم: تآليف باسيليوس، واثناسيوس، ويوحنا الدمشقي، وخرونيقون ملالاس، وجمع هو بنفسه مختارات شائقة من مواعظ يوحنا الذهبي الفم وأقواله.
وتوفي سمعان في السنة 927 وخلفه ابن بطرس الصغير، وتولى الوصاية على الملك الطفل جاورجيوس سرسبول، فاستغل الروم الموقف فأعادوا إمارة الصرب إلى الوجود وشملوها برعايتهم وحمايتهم، وهدد المجر الحد الشمالي، وشق بعض أمراء الإقطاع عصا الطاعة، فاضطر سرسبول أن يفاوض الروم في الوصول إلى سلم دائم، ووقع في السنة 927 معاهدة مع رومانوس الأول، وأهم شروط هذه المعاهدة أن الروم أبقوا للبلغار كل ما ضمه سمعان حتى جبال الرودوب، واعترفوا لبطرس بلقب فسيلفس، كما أقروا للكنيسة البلغارية كيانا مستقلا استقلالا محليا، وأزوجوا بطرس من مريم حفيدة رومانوس الأول، فأصبح بطرس «ابن الفسيلفس العزيز» وحليفه ، ودامت هذه الصداقة طوال عهد بطرس (927-968)، وعظم شأن الروم في بلغارية واكتسحوا الموقف اكتساحا.
4
رومانوس الأول والعرب (920-944)
وكان الخلفاء العباسيون لا يزالون مغلوبين على أمرهم لقلة طاعة الجند، ولشدة نفوذ الخدم، ولدسائس أمهات الأمراء ووشاياتهن ومؤامراتهن، ولشغب الجند على القادة وتنازع هؤلاء السيادة، وكان أن شعر الولاة بضعف الخلفاء، فانصرفوا إلى جمع المال وحبسوا رزق العمال عن أصحابه، فعمد الخلفاء إلى اغتيال الولاة، فكثر العصيان، واضطربت الأحوال، وفقد الأمن، وقامت الثورات، ولم يتمكن الخلفاء من استغلال ظروف الروم في البلقان في أثناء حروبهم ضد سمعان والبلغاريين.
وقبيل انتهاء الحرب البلغارية أحرز الروم نصرا كبيرا في البحر؛ فإنهم حطموا في السنة 924 عمارة لاوون الطرابلسي في مياه لمنوس، ونجا لاوون نفسه بأعجوبة،
5
وما إن وضعت الحرب البلغارية أوزارها في السنة 927 حتى بادر الروم إلى الهجوم، وهب غرغون القائد
Jean Courcouas
إلى القتال في آسية الصغرى فأحرز انتصارات متتالية (922-944)، وتمكن من جعل دجلة والفرات الحد الفاصل بين الدولتين بدلا من الهاليس، ونفخ في الجنود روحا جديدة، فاستحق بذلك كله إعجاب المعاصرين، وعاونه في هذه الحروب عدد من كبار الضباط قدر لهم فيما بعد أن يتابعوا هذا العمل الحربي وأن ينتصروا هم أيضا كما انتصر غرغون نفسه. وأشهر هؤلاء ثيوفيلوس بن غرغون، وبرداس فوقاس وابناه نيقيفوروس ولاوون. ففي السنة 928 احتل الروم أرضروم وأخرجوا العرب من أرمينية، وفي السنة 934 استولوا على ملاطية، ثم ناوأهم سيف الدولة صاحب الموصل، وتمكن من إيقاف تقدمهم، ولكنهم عادوا إلى الهجوم بين السنة 941 والسنة 942، فاحتلوا دارا ونصيبين وميافارقين وقاربوا حلب.
وفي السنة 944 توج غرغون انتصاراته بأن نقل بموكب فخم «منديل السيد» - الذي كان قد احتفظ به أبجر الملك - من الرها إلى القسطنطينية،
6
وأعجب رومانوس بهذا كله فاعترف بفضل غرغون، وأحب أن يربط أسرة هذا القائد الفاتح بأسرته المالكة ، فقاومه أبناؤه وأبعدوا غرغون وأذلوه.
قسطنطين السابع (945-959)
وكان عظماء العاصمة لا يزالون يدينون بالولاء للأسرة المقدونية، وكان رومانوس لا يزال باخسا قسطنطين حقه في الملك، وكان قد زاد تطاوله فنصب ابنه ثيوفيلكتوس بطريركا على الرغم من حداثة سنه، فكرهه الزعماء واستغلوا موقف أبنائه منه في حادث غرغون، فحركوا ابن رومانوس الأصغر إسطفانوس، فقام على والده وطرده من القصر ونفاه إلى الجزيرة بروتي من جزائر الأمراء وأكرهه على قبول النذر وحبسه في دير هناك في التاسع عشر من كانون الأول سنة 944 وتسلم أزمة الحكم بالاشتراك مع أخيه وصهره، وإذ لم يتفقوا اتحد الأخوان ضد الصهر، وعلمت أختهما هيلانة بما يجري فأخبرت زوجها قسطنطين بذلك، فألقى القبض على الأخوين، ونفاهما في السابع والعشرين من كانون الثاني سنة 945 وأكرههما على قبول النذر.
7
وكان قسطنطين السابع قد قضى خمسا وعشرين سنة في عزلة عن الحكم وعن الناس، منهمكا في المطالعة والدرس، محبا للعلم والعلماء، مشتغلا في التصوير والنحت، باحثا منقبا عن تاريخ الروم وآثارهم، فلما رقي العرش في الثامنة والثلاثين من عمره آثر متابعة دروسه وأبحاثه على الحكم والإدارة، فتسلمت زوجته أزمة الحكم بيدها، يعاونها في ذلك باسيليوس بن رومانوس غير الشرعي، وعلى الرغم من عدم تعمق قسطنطين في أبحاثه؛ نظرا لكثرتها وتنوعها، فإنه خدم العلم في أنه شوق الناس إليه في عصره، فكان شغفه بالعلم من أبرز أسباب اليقظة العلمية في القرن العاشر، وفي أنه خلف لنا مراجع لتفهم عصره،
8
فرسالته في الثيمات هي سجل كامل للولايات وحدودها وسكانها ومواردها، وكتابه في إدارة الإمبراطورية يشتمل على أشياء وأشياء عن الدول والشعوب المجاورة، وأطول مؤلفاته وأغزرها مادة كتابه في التشريفات، وقد وصف فيه سلطة الفسيلفس الرسمية وواجباتها وحقوقها، كما أبان كيفية تنظيم الاحتفالات الرسمية وإدارة القصر وغير ذلك. وإليك عناوين هذه المؤلفات كما جاءت باللاتينية:
De Thematibus, De Ceremoniis aulae Bizantinae, De Administrado Imperio.
قسطنطين وسيف الدولة
ولم يقع أي تمزيق جديد في جسم الدولة العباسية في أيام المعتضد (892-902)، والمكتفي (902-908)، وفي عهد المقتدر (908-932) عادت الدولة إلى ما كانت عليه من التفكك، ثم أضاع القاهر (932-934) والراضي (934-940) والمتقي (940-944) والمستكفي (944-946) آخر ولاياتهم، فاضمحلت بذلك سلطة الخليفة الزمنية بكاملها، وكان بين الطامعين في الملك والسلطان في أثناء هذا الانحلال بعض القبائل البدوية العربية، ولعل أشهر هؤلاء بنو تغلب؛ فإن كبيرهم الأمير عبد الله بن حمدان تمكن في السنة 905 في عهد المكتفي من انتزاع حاكمية الموصل من يد الخليفة، وتمكن ولداه حسن وعلي في السنة 942 من انتزاع اللقبين ناصر الدولة للأول وسيف الدولة للثاني، وتغلغل سيف الدولة في البلاد حتى شمال سورية الشرقي في السنة 937، وفي السنة 944 دخل حلب وأسس فيها دولة دامت حتى السنة 1003، وبقي ناصر الدولة في الموصل يسكن الفتن في بغداد بينما هب سيف الدولة يمتشق حسام الإسلام في وجه الروم، وما فتئ كذلك حتى أدركته المنية في السنة 967.
ولما استقر سيف الدولة في حلب وجعلها عاصمة لملكه وقاعدة لأعماله الحربية؛ تحول القتال الرئيسي بين الروم والعرب من جبهة أرمينية إلى خط قتال جديد امتد من قيليقية حتى ديار بكر، وكانت الحدود بين الدولتين تبدأ من نقطة مجهولة على الفرات فوق سميساط، فتمر بين حصن منصور وزبطرة وفوق الحدث ومرعش متبعة سلسلتي جبال طوروس حتى أبواب قيليقية واللامس أو الليموس، وتبدأ من النقطة نفسها على الفرات فتتجه شمالا إلى شرقي سميساط فأرمينية.
وكانت المبادرة في الحروب بين الروم والعرب قد أفلتت من يد العرب؛ نظرا لما كان قد حل بالخلافة من انحلال ومصائب، وكان الدافع لمحاربة الروم قد أصبح واحدا من اثنين أو الاثنين معا: إما القيام بواجب الجهاد، أو إحراز الغنائم، ولم تكن حروب القرن العاشر حروب فتح كتلك التي قام بها الأمويون والعباسيون المؤسسون، وأصبح موقف العرب دفاعيا أكثر بكثير منه هجوميا، ونيط الدفاع بحكام الحدود، وانتقلت المبادرة في هذه الحروب إلى الروم، وأصبحت هجومية أكثر منها دفاعية، وقد رأينا الأسرة المقدونية تبدأ بأعمال تمهيدية، فتضرب البولسيين حلفاء العرب في تفريقية ضربة قاضية، ثم تعترف بأشوت البغرتوني ملك الأرمن وتحالفه، ثم تبدأ هجومها في عهد رومانوس ليكابينوس - كما سبق أن ذكرنا.
ويرى رجال الاختصاص أن انتصار الروم على العرب في القرن العاشر لم يكن نتيجة ضعف العباسيين فحسب، بل إنه تأتى عن تجدد عند الروم وتيقظ وتنشط، وأن هؤلاء وإن اختلفوا في العنصر فقد اتحدوا في إيمان واحد، وفي المفاخرة بأمجاد ماضية، وشعروا بوجوب إعادة النظر في أنظمتهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وبوجوب إتقان الجيش وتكميله؛ ليأتي بالفائدة المطلوبة، فالروم في القرن العاشر - في نظر هؤلاء - كانوا في يقظة ونشاط لا في غفلة وانقسام.
9
وأثقل الحمدانيون كاهل العشائر الضاربة في الجزيرة التابعة لحكمهم بالضرائب، وبين هؤلاء بنو حبيب، وكان بنو حبيب تغالبة أيضا، فشق عليهم الأمر، فانقبضوا ثم خرجوا للقتال، فجرد عليهم ناصر الدولة في السنة 935 فقهرهم، فعولوا على الرحيل، فقاموا عشرة آلاف فارس بنسائهم وأولادهم وعبيدهم وقطعوا الحدود والتجئوا إلى الروم وتنصروا، وحذا حذوهم غيرهم من عشائر الجزيرة، فتوترت العلاقات بين الروم وبين الحمدانيين،
10
وبدأ سيف الدولة غزواته في أرض الروم، فكان يقوم بها كلما شعر بهدوء واستقرار داخلي، واشتهر في بغداد بالغازي.
وفي السنة 938 سجل سيف الدولة انتصاره الأول أمام حصن زياد، فدخله عنوة، ثم خرج منه يقاتل جيشا كبيرا أنفذه الروم عليه، وأدركه الروم بين حصن زياد وحصن سلام، واقتتل الطرفان فدارت الدائرة - فيما يظهر - على الروم وتغنى أبو فراس بالنصر، وفي السنة 939 أنفذ الروم حملة عسكرية إلى القوقاس لتأديب الكرج «الإيبريين» الذين كانوا قد امتنعوا مرارا عن غزو الأراضي العربية على الرغم من كونهم أرثوذكسيين يدينون بدين الفسيلفس، فاستنجد الكرج الحمدانيين، فهب سيف الدولة لمعونتهم وأجلى الروم عن بلادهم، وفي الربيع التالي سنة 940 دخل إلى ثيمة خلدية، واستولى على عدد من الحصون والمدن فيها، ثم قام إلى كولونية وحاصرها،
11
فأصبح زعيم الجهاد الأكبر في الأقطار الإسلامية وعدو النصرانية عند الروم.
وشغلت سيف الدولة ما بين السنة 940 والسنة 944 مشاغل في عاصمة الخلافة كان محورها السلطة العليا، فأصبح أمير طرسوس عدو الروم الأوحد، فانقضوا عليه في خريف السنة 940 ووصلوا إلى منطقة كفرتوتة، ثم شغلوا في أوروبة فتراجعوا، وعادوا في مطلع السنة 942 فانطلقوا في سهول قيليقية حتى حدود سورية فأسروا خمسة عشر ألف أسير، وفي خريف هذه السنة نفسها انقض غرغون على مقاطعة ديار بكر فاستولى على ميافارقين وغيرها - كما سبق وأشرنا - وكان ما كان من أمر المنديل.
وفي السنة 944 دخل سيف الدولة حلب وحمص، وانتزعهما من يد الإخشيديين، فانطلق الروم في منطقة مرعش ومنطقة بغراس حتى أبواب أنطاكية، فرد سيف الدول بإغارة في منطقة عرابسوس، ودخل سيف الدولة في ربيع السنة 945 في نزاع مع الإخشيديين فلم يستغل قسطنطين السابع هذا الظرف، وجاءت السنة 946 فتبادل الخصمان الأسرى عند لامس سلفكية، وفي ربيع السنة 948 خرج الروم من ملاطية وسميساط واتجهوا نحو الجزيرة ليستولوا على ممر الحدث: مرعش، فصمد سيف الدولة في وجههم في معركة جلباط الوارد ذكرها في إحدى قصائد أبي فراس، وفي الربيع التالي 949 ظهر لاوون بن فوقاس أمام الحدث محاصرا، فدخلها عنوة ودك حصونها،
12
واستولى الروم في هذه السنة عينها على مرعش وقاتلوا عند أسوار طرسوس، وحملوا على جزيرة أقريطش ولكن دون جدوى،
13
وفي ربيع السنة 950 قام سيف الدولة إلى الجزيرة يتفقد شئونها، وأناب عنه في الحكم في حلب ابن عمه محمد بن ناصر الدولة، فانقض لاوون بن فوقاس على شمالي سورية حتى مداخل أنطاكية، وحاصر بوقة في سهل العمق، فهب محمد لقتاله ولكنه فشل فشلا ذريعا. وأرسل قسطنطين السابع وفدا يفاوض في التهادن، فمثل الوفد أمام سيف الدولة في آمد، وكاد الاتفاق يتم ولكن مروان القرمطي قتل أحد أعضاء الوفد، وأسرع سيف الدولة يعتذر ويظهر استعداده للتعويض، ولكن قسطنطين أصر على تسيلم القاتل، فأبى سيف الدولة وانقطعت المفاوضات.
14
وعاد سيف الدولة إلى حلب يستعد للقتال، فجمع ثلاثين ألف مقاتل واصطحب ثلاثة من الشعراء: المتنبي وأبا فراس وأبا زهير المهلهل، وقام في أواخر آب أو أوائل أيلول من السنة 950 إلى مرعش فانضم إليه أربعة آلاف مقاتل من طرسوس، ثم نهض بجموعه عن طريق ملاطية (قيصرية) فاحتل صارخة وقتل وسبى وأحرق، وأراد العودة إلى حلب نظرا لحلول فصل الشتاء فعبر الهاليس واتجه جنوبا ، ثم علم أن لاوون بن فوقاس قد حشد جيشه في منطقة خرشنة
Charsianon ، فأوقف السير وعاد بنخبة من جنوده فعبر الهاليس وأنزل بالروم خسارة كبيرة، ثم اتجه نحو الجنوب.
ولم الروم شعثهم ونظموا صفوهم وأسرعوا إلى جبال طوروس يكمنون لسيف الدولة، واستقروا في درب الجوزات بين الإلبستان والحدث، ومرت طلائع سيف الدولة ولم يحرك الروم ساكنا، ثم أقبل سيف الدولة فوجد الممر مسدودا مقطوعا، فأمطره الروم حجارة وصخورا وسهاما، فسقط عدد كبير من رجاله وأسر غيرهم، وتمكن سيف الدولة من اجتياز هذا الممر والوصول إلى أعلى الجبل، ولحق به الروم فأرهقوه وحملوه على ما لا يطيق، وكان عليه أن يمر بعقبة الشير فسبقه الروم إليها وقطعوها عليه، فاضطر أن يسلك طريقا وعرة للغاية مستعينا على ذلك بالأدلاء، فأدركه الروم وأرهقوه، وتفرق عنه رجاله، ولم يبق معه من يستطيع القتال المنظم، فقتل الأسرى وأخرق الأمتعة وفر هاربا نحو حلب، فعرفت هذه الحرب «بغزوة المصيبة»،
15
وعاد سيف الدولة لأخذ الثأر في السنة 951، فدخل قبدوقية ليخرج منها مدحورا، ثم قام قادة الروم بغزوات متتالية بين السنة 952 والسنة 958 في قيليقية والجزيرة، انتصروا فيها وانخذلوا.
16
وفي السنة 958 بدت علامات الضعف في مقاومة سيف الدولة، وتسلم قيادة الروم يوحنا شمشيق
Jean Tzimisces
فأحرز انتصارات متتالية في الجزيرة العليا واحتل أكثر مدنها، ثم حاصر سميساط على الفرات وأنزل بسيف الدولة سلسلة من الهزائم، وبعد السنة 960 أضاف الروم إلى ملكهم كل ما وقع شرقي الفرات، جاعلين من هذه المناطق ثيمة الجزيرة.
17
احتلال أقريطش (960-961)
وكان لقسطنطين السابع ولد اسمه رومانوس، تزوج وهو ابن سبع عشرة سنة بابنة اسمها ثيوفانو، وكانت ثيوفانو من أصل وضيع، ولكنها ذات جمال متناه، وكانت تكره العيشة بين حماتها وبنات حميها، فأوعزت إلى زوجها رومانوس فدس السم لوالدة قسطنطين، وشرب منه جرعة، فلم يعش إلا سنة واحدة، ومات في السنة 959، وكان رومانوس الثاني منصبا على الشهوات والملاهي، وكانت ثيوفانو تحب السلطة، فاتكل زوجها عليها وعلى رجل اسمه يوسف إبرينكاس
Joseph Bringas .
ولمس إبرينكاس وقادة الجيش ضعف العرب، فرأوا الظرف ملائما لإرجاع أقريطش إلى حوزة الروم، فأعد نيقيفوروس فوقاس أسطولا عظيما مؤلفا من ألفي بارجة وألف وثلاثمائة نقالة، وقام بهذه القوة الكبيرة إلى أقريطش وحاصر مدينة الخندق، فهرع صاحبها عبد العزيز القطربي يستنجد المسلمين شرقا وغربا ولكن دون جدوى؛ فإن القليل الذي جاءه من طرسوس ومن أفريقية حطمه الروم قبل وصوله إليه، واقتحم نيقيفوروس الخندق ودخلها عنوة في السابع من آذار سنة 961، ثم استولى على الجزيرة بأسرها،
18
ونقل إليها جاليات يونانية وأرمنية، واستدعى نيقن مطانويتا؛ أي صاحب التوبة، القديس المبشر، ليكرز فيها بين سكانها المسلمين،
19
وبسقوط أقريطش بيد الروم بعد شبح القرصنة والإغارات المفاجئة وتهيأ للروم مركز تجاري هام، وعادت سيادة البحر إليهم، فتمكن نيقيفوروس من القول بعد قليل: «إن القوة في البحر هي لي وحدي.»
20
مغارة الكحل (960)
وظن سيف الدولة أن حملة الروم على أقريطش أنقصت مقدرتهم على الحرب في بر الأناضول، فجهز ثلاثين ألفا وقام بهم إلى خرشنة داخل حدود الروم، وأسرع لاوون فوقاس أخو نيقيفوروس إلى تلال طوروس يسد عليه طريق العودة، فكمن له في ممر جبلي أسماه العرب مغارة الكحل وأطلق عليه الروم اسم أنذراسوس
Andrasus
فهزمه فيه هزيمة شنعاء في الثامن من تشرين الثاني سنة 960، وعظمت غنائم لاوون؛ فإنه أسر في هذه المعركة عددا كبيرا من العرب، وأطلق سراح جميع من كان قد وقع في الأسر من الروم.
21
عين زربا وحلب (962)
ورأى نيقيفوروس أن يستغل الكارثة التي حلت بسيف الدولة فيفتتح قيليقية أكبر المعاقل البحرية الإسلامية بعد أقريطش وأقرب الطرق إلى سورية، فجال جولة موفقة فيها في مطلع السنة 962، واستولى في اثنين وعشرين يوما على خمسين بلدة أو حصنا، وعاد في أول الصوم الكبير إلى قبدوقية، وفي خريف هذه السنة نفسها أعاد الكرة فافتتح عين زربا مفتاح سورية، ولم يقو سيف الدولة على الصمود في وجهه في ممرات الأمانوس، فتدفقت جيوش نيقيفوروس إلى سهول سورية حتى منبج على الفرات، ثم حاصر نيقيفوروس حلب أحد شعر يوما (20-31 كانون الأول سنة 962) فاقتحم سورها واحتل البلدة، ولكنه لم يقو على القلعة، وعاد إلى القسطنطينية بغنائم عظيمة مالا ورجالا،
22
وعلم بوفاة رومانوس الثاني وهو في طريقه إلى العاصمة.
الفصل الرابع والعشرون
هجوم عظيم، ونصر مبين
963-1025
الجيش في القرن العاشر
وعني الروم في هذه الحقبة عناية فائقة بالجيش، وقال أحد كبرائهم: «إن الجيش للدولة كالرأس للجسم، إن هو ضعف تعرضت الدولة للخطر.»
1
وكان هذا الجيش يتألف من عناصر وطنية وعناصر أجنبية، وكانت العناصر الوطنية خيالة تقطع أراض لها ولذريتها لا تصادر ولا تتحول ملكيتها، وكانت العناصر الأجنبية مرتزقة يستهويها سخاء الروم، فتؤم القسطنطينية من أوروبة وآسية، وكان بينها الخزري والبتشناغي والنروجي والصقلبي والدانيماركي والنورماندي والسكسوني والكرجي والتركي والعربي، ولم يكن هنالك ما يمنع التحاق هؤلاء بأية فرقة من فرق الجيش، ففرقة الحرس الهترية
Heteria
كانت تتألف من الروس والنروجيين والدانيماركيين والخزر، ولم يكن في صفوفها أي عنصر وطني، وكثر عدد الأرمن في الجيش بصورة خاصة وتقلدوا أعلى الرتب.
وكان هذا الجيش يقسم إلى قسمين رئيسين: التغامتا
Tagmata
في العاصمة وضواحيها، والثيماتا
Themata
في الولايات، وشمل القسم الأول فرق الخيالة الأربع: السوكولس
Scholes
والإكسكوبيتور
Excubitor
والأريثموس
Arithmos
والهيكاناتس
Hicanates ، وفرقة المشاة النوماري
Numeri ، وكانت كل فرقة من فرق الحرس الخمس تتألف من أربعة آلاف مقاتل، وتخضع لقيادة ضابط كبير يحمل رتبة دوميستيكوس
Domesticus ، وكان قائد فرقة السوكولس قائد الجيش الأكبر، وكان القسم الثاني جيش الولايات الثيماتا يتألف من أربعة آلاف إلى عشرة آلاف مقاتل ويخضع لقيادة ضابط من رتبة إستراتيجوس
Strategos ، وكان معظم هؤلاء من الخيالة أيضا بنوعيها الثقيل
Cataphractes
والخفيف
Trapazistes ، وكان هنالك أيضا جيش الحدود
Acritai
وكانت مهمة هؤلاء تقضي بالدفاع عن اللامس
Limes
وبالمحافظة على الأبراج والقلاع وسائر أنواع التحصينات التي كانت تنتشر على طول خط الحدود، وكان عليهم أيضا أن يراقبوا الأعداء ويسدوا الممرات ويردوا الهجوم بهجوم مماثل.
ولم يكن عدد هذا الجيش كله كبيرا؛ فإنه لم يزد على السبعين ألفا في آسية ومثل ذلك في أوروبة، ولكنه امتاز بانتظامه وشجاعته وحبه للوطن واندفاعه في سبيله، وتقوى بحذق في صنع الأسلحة، ومهارة في تخطيط القلاع وبنائها، واستعمل النار الإغريقية في الحروب، كما استعان بالمجانيق الكبيرة في أعمال الحصار وبمجانيق أصغر منها في قتال الميدان، وكانت هذه تنقل بمركبات خاصة تحمل المنجنيق ورجاله فتنقل القصف حيث تدعو الحاجة.
ويستدل من مضمون رسالة في علم التكتيك، صنفت في عهد نيقيفوروس فوقاس،
2
أن الحرب التي كان يخوضها هذا الجيش كانت حرب كمين واستطلاع ومفاجآت والتحامات، وأن أبراج المراقبة كان تنبئ بالخطر بإشارات نارية، فيهب المشاة إلى الممرات يكمنون فيها، وتنطلق دوريات الفرسان الخفاف حاملة مئونة يوم واحد من الزاد مخفية سلاحها تستطلع حركات العدو، ويهرع السكان من القرى والدساكر إلى القلاع والأبراج، بينما يتجمع الجيش في نقاط معينة استعدادا للعمل.
ويستدل من هذه الرسالة أيضا وغيرها من نوعها أن ترتيبات القيادة كانت كاملة تشمل خطط التجسس والاستطلاع، ونقل العتاد والمؤن، وتجمع الوحدات، وكيفية سيرها، ويدل ما تبقى من الروايات المعاصرة أن تدريب هذا الجيش كان متواصلا غير منقطع، وأن التمريس في القتال كان يشمل جميع ضروب التعب وأنواع الضنك والقلة، وأن الأباطرة كانوا يعيرون الجنود نصيبا وافرا من عنايتهم الشخصية فيفيضون عليهم النعم ويغمرونهم بالإحسان ويشملونهم بشتى مظاهر التقدير والإكرام. وكانوا لا ينفكون عن الإشارة إلى الماضي المجيد الحافل بالانتصارات العسكرية وإلى صيانة الفادي الحبيب الذي لا يغفل ولا ينام، وكان من حسن حظ الجيش أن تولى قيادته عدد متسلسل من كبار الرجال، أمثال غرغون وفوقاس وسكيليروس وشمشيق.
وتلخص نقائص هذا الجيش بأن نظام التعبئة فيه كان يربط الجنود بكبار رجال الإقطاع ربطا وثيقا يشجع هؤلاء على الانتقاض على السلطة، وأن المرتزقة كانوا لا يهتمون إلا للغنائم.
3
نيقيفوروس فوقاس (963-969)
وتوفي رومانوس الثاني في الرابعة والعشرين من عمره، إما مسموما من زوجته ثيوفانو، أو مسقوما من فرط انصبابه على الملذات، فتسلمت زوجته زمام الحكم بالوصاية على ولديها القاصرين باسيليوس وقسطنطين، وكانت تكره أبرينكاس الوزير كرها شديدا وتحب نيقيفوروس القائد، فاستدعت نيقيفوروس من حلب، وسمح هذا لجنوده أن ينادوا به فسيلفسا في قيصرية، ثم تقدم نحو العاصمة فقامت ثورة ضد إبرينكاس، ودخل القائد الفسيلفس إلى العاصمة في الثالث من آب سنة 963 وتقبل التاج من يد البطريرك مشتركا في الحكم مع كل من باسيليوس وقسطنطين القاصرين، وبعد شهر واحد تزوج من ثيوفانو الوصية الأرملة، ولما جاء إلى الكنيسة وطلب أن يدخل من الباب الملوكي اعترضه البطريرك بوليفكتوس بسبب زواجه من الثانية في حياة الأولى خلافا للناموس.
4
وكان نيقيفوروس جنديا مدهشا وتكتيكيا قديرا، وقائدا محنكا، فأحبه الجنود وتعلقوا به، وكان زاهدا قنوعا، قاسيا متصلبا، ولكنه كان في الوقت نفسه محبا عطوفا، وأصبح رجل الساعة بقوة إرادته وتمسكه بالسلطة وحبه للدولة وإخلاصه لها.
فتوحات الروم في سوريا (963-969)
وأوقفت ثورة القسطنطينية الأعمال الحربية في قيليقية وسورية، فعاد سيف الدولة إلى حلب واستعاد عين زربا ومصيصة وغيرهما في قيليقية، وأصبح يوحنا بن شمشيق قائد قوات الروم في الشرق، فحاصر مصيصة في صيف السنة 963 ولم يستول عليها، وقام إلى ادنه فتحداه حاكم طرسوس فهزمه ابن شمشيق هزيمة كبيرة ولكنه اضطر أن يغادر قيليقية لما حل بها من قحط وجوع وأوبئة.
وفي ربيع السنة 964 تولى الفسيلفس بنفسه قيادة جيوشه، فأنشأ قاعدة هامة للتموين في قيصرية قبدوقية وزحف برجاله على قيليقية، فاقتحم عين زربا وأدنه وعشرين حصنا عربيا واستولى على إسوس عند مدخل سورية، وعاد إلى قبدوقية لتمضية فصل الشتاء، وفي ربيع السنة 965 أنفذ أخاه لاوون فوقاس إلى حصار طرسوس وقام هو إلى مصيصة فاقتحم أسوارها ودخلها عنوة، ثم عاد إلى طرسوس فسلمت تسليما. وهكذا، فإن قيليقية بأسرها عادت إلى الروم بعد أن كانت زهاء ثلاثة قرون متتالية قاعدة برية بحرية تنقض منها جيوش العرب وأساطيلهم على الإمبراطورية، وجعل نيقيفوروس منها ثيمة جديدة وجعل طرسوس عاصمتها، وفي شتاء هذه السنة عينها جهز الفسيلفس حملة بحرية بقيادة نيقيطاس وأنفذها إلى قبرص، فاحتلت الجزيرة وأصبحت قبرص أيضا ثيمة جديدة.
وثارت حلب وأنطاكية في وجه سيف الدولة فقاسى الأمرين في إخضاعهما، ثم طلب إلى نيقيفوروس تبادل الأسرى فأجابه الفسيلفس إلى ذلك، وتم التبادل على الفرات في الثالث والعشرين من حزيران سنة 966، ففاق عدد أسرى الروم عدد أسرى الحمدانيين بثلاثة آلاف، فافتدى البيزنطيون هؤلاء بمائتي ألف دينار بيزنطي، وعاد أبو فراس إلى وطنه بعد أن قضى أربع سنوات أسيرا في القسطنطينية.
5
وفي شتاء السنة 966 أغار نيقيفوروس على الجزيرة، فدخل دارا ونصيبين ووصل إلى الحد الذي كان يفصل دولة الروم عن دولة الفرس في أوائل القرن السابع واستولى على الآجرة المقدسة
Karmidion
التي كانت تحمل صورة السيد العجائبية، ثم انقض على أنطاكية في حملة إرهابية، وعاد مستعجلا إلى القسطنطينية لينظر في قضية بلغارية، وفي خريف السنة 968 عاد إلى الفتح فحاصر ابن سيف الدولة في حلب وأزال النجدة التي جاء بها قرغويه من مصر. وبدلا من أن يحاصر حلب قام بجيشه إلى حمص فدخلها ثم انحدر منها إلى عرقة فطرطوس فجبلة، وأبقى في جميع هذه المدن حاميات من الروم، ثم ظهر أمام أنطاكية يشدد الحصار عليها بإمرة ميخائيل بورجس البطريق ويرمم قلعة بغراس في طريق أنطاكية الإسكندرونة، وأقام ابن أخيه بطرس فوقاس قائدا عاما وأوصاه بوجوب انتظاره وعدم اقتحام أنطاكية قبل عودته، وقام إلى القسطنطينية فدخلها بموكب نصر عظيم في مطلع السنة 969.
وفي أثناء غيابه اتصل نصارى أنطاكية بقيادة الروم مؤكدين وقوع الفوضى في صفوف المسلمين، فاندفع بورجس البطريق وقام ببعض رجاله فتسلق الأسوار ودخل بعض الأبراج وكاد يموت موتا لولا وصول لاوون وإسعافه، وسقطت أنطاكية بيد الروم في الثامن والعشرين من تشرين الأول بعد أن بقيت إسلامية عربية ثلاثة قرون ونيفا، واغتاظ نيقيفوروس وأقال بورجس من منصبه، واشتد حماس الجند وألحوا بوجوب اقتحام حلب، وفعلوا، فسقطت المدينة في يدهم في كانون الأول من السنة 969، ووقع صاحبها قرغويه معاهدة مع الروم اعترف فيها بسيادتهم وحمايتهم، واعترف الروم بولايته على حلب وولاية بكجور بعده على أن يعينوا أميرا عليها من يرونه لائقا من أبناء حلب بعدهما. ومن شروط هذه المعاهدة أيضا أن يقيم في حلب ممثل رسمي للفسيلفس، وأن يدفع الحلبيون دينارا عن كل ذكر في كل سنة، وأن يمتنعوا عن جباية الجزية من النصارى، وأن يؤمنوا طرق التجارة، وأن تشرف لجنة من الروم والحلبيين على جباية الكمارك.
6
نيقيفوروس والغرب
وكان أوثون الأول
Otton
قد أعاد الإمبراطورية الغربية في السنة 962، فادعى بجميع إيطالية، وكان الأمراء اللومبارديون أجمعين قد اعترفوا بسلطته، وكان هو قد زار بنيفنتوم
Beneventum
وكابوة
Capua
في السنة 967، وجاءت السنة 968 فزحف أوثون على أبولية وحاصر باري قاعدة الروم فارتد عنها حسيرا، فأرسل لويدبراندو أسقف كريمونة يفاوض في القسطنطينية في زواج ابن أوثون وولي عهده «أوثون الثاني» من الأميرة حنة ابنة ثيوفانو من رومانوس، فأنكر نيقيفوروس إجابة طلب أوثون وأظهر كدره من تسلطه على رومة التي كان يعتبرها العاصمة الأولى لمملكته، ثم أرسل البابا يوحنا الثالث عشر (965-972) يتوسط في عقد هذا الزواج، وسمى الفسيلفس في تحاريره إمبراطور «اليونان» فأيد بعمله هذا الفكرة التي قال بها سلفه البابا لاوون الثالث وقد كانت ترمي إلى تجزئة حقوق الفسيلفس الشرقي في الحكم، وذلك بإقامة إمبراطور غربي ينافس الفسيلفس وريث رومة الشرعي، فاغتاظ نيقيفوروس ورجال دولته من البابا، وأصبح هذا خصما سياسيا لا بد من مقاومته، وبذرت بذور الشقاق في أوساط الكنيسة الأم الكاثوليكية الأرثوذكسية ممهدة السبيل للانشقاق الكبير، ودخل الفسيلفس في نزاع مع إمبراطور الغرب وكنيسة رومة، وغادر الوفد الباباوي المفاوض عاصمة الروم، وأغار أوثون الأول على ثيمات الروم في إيطالية ولم يفلح، وانكسر الأمير بالدولفوس
ووقع أسيرا في يد الروم.
7
الروم وبلغارية وروسية
وكانت معاهدة السنة 927 بين الروم والبلغار قد قضت بأن يدفع الروم للبلغار مالا سنويا محددا، وكانت بلغارية في تقهقر داخلي مستمر، وكان بعض رجال الإقطاع فيها قد عادوا إلى سابق نفوذهم، فأصبحوا مستقلين استقلالا فعليا، فرأى نيقيفوروس أن يستغل هذا الظرف لمصلحة دولته وشعبه، فاتخذ من تجرؤ بعض العصابات المجرية وعبورها الدانوب ووصولها إلى أراضي الروم عبر بلغارية عذرا للتوقف عن دفع المال السنوي المقرر. وهكذا، فإننا نراه يصفع في السنة 967 مندوبي بلغارية الذين أموا عاصمته يطالبون بالمال السنوي ويطردهم طردا.
ثم رأى نيقيفوروس قبل أن يبدأ الحرب أن يستعين بالروس؛ ليضع البلغاريين بين نارين، فأوفد إلى كيف عاصمة الروس من يسعى للتحالف مع سواتوسلاف
Sviatoslav
أميرهم الكبير، فلبى الأمير الطلب وأنزل في السنة 967 جيشا روسيا كبيرا في الساحل البلغاري، فرحب بعض أمراء الإقطاع من البلغاريين بالروس وتمكن الأمير الروسي من اكتساح الموقف، ثم اضطر أن يعود إلى كيف لإخماد ثورة أشعلها البتشناغ، وعاد في السنة 969 إلى بلغارية لضمها إلى ملكه، فأدرك نيقيفوروس الخطأ الذي ارتكب، فصالح البلغاريين، ولكن وفاة بطرس ملكهم وظهور سيسمان يناظر ولي العهد أشعل الفوضى في بلغارية.
8
يوحنا جيمسكي (969-976)
ولم ترض ثيوفانو الفسيلسة الأم عن حياتها الزوجية مع نيقيفوروس؛ نظرا للتفاوت في السن بينهما، ونظرا لانهماك نيقيفوروس بمشاغله وتشاغله عنها، وكان ابن أخته يوحنا جيمسكي
Jean Tzimisces
جميل الصورة ولا يزال في الخامسة والأربعين من عمره، فأحبته ثيوفانو فأبعده نيقيفوروس عن القسطنطينية، فأخذت ثيوفانو تسعى لإرجاعه، فأقنعت زوجها نيقيفوروس برقيق أسلوبها فأرجعه إلى البلاط، وكانت مؤامرة بين ثيوفانو ويوحنا، فذبح نيقيفوروس في غرفته ذبحا في العاشر من كانون الأول 969 وأسلم الروح وهو ينادي «يا والدة الإله!» وفي الغد نودي بيوحنا جيمسكي فسيلفسا بالاشتراك مع باسيليوس وقسطنطين القاصرين.
وبقي الفسيلفس الجديد أسبوعا كاملا في القصر لا يخرج منه، ثم نزل إلى كنيسة الحكمة الإلهية ليتوجه فيها البطريرك المسكوني بوليفاكتوس، غير أن هذا الشيخ الورع لم يسمح للفسيلفس بالدخول إلى الكنيسة إلا بعد أن يقوم بأمور ثلاثة: أولها أن يطرد ثيوفانو المجرمة من البلاط، والثاني أن يعترف بالقاتل أيا كان، والثالث أن يرجع للمجمع المقدس حق انتخاب الأساقفة، وأن يترك البت في الأمور الكنائسية للمجمع، فأذعن الفسيلفس ونفى ثيوفانو من القسطنطينية، واعترف باسم القاتل ونفاه، وأعاد إلى المجمع المقدس ما كان نيقيفوروس قد أخذه منه، وتوج فسيلفسا في الخامس والعشرين من كانون الأول من السنة 969 في كنيسة الحكمة الإلهية.
9
وكان يوحنا جيمسكي أرمني الأصل يمت بصلة النسب عن طريق والده إلى غرغون القائد، وعن طريق أمه إلى العائلة فوقاس، وكان يدعى بالأرمنية شمشقيق، ومن هنا اسمه في المراجع العربية المعاصرة. وكان قصير القامة، جميل الصورة، شجاعا، باسلا، لطيفا، كريما، متزنا، صبورا، وكان قد اشترك في معظم حروب نيقيفوروس، فعرفه الجنود وأحبوه وتعلقوا به،
10
ورأى الفسيلفس الجديد أنه لا بد من أن يتسلم قيادة جيشه بنفسه، فأعاد إلى إدارة دفة الحكم البراكيمومان باسيليوس ليكابينوس الذي كان قد خرج من البلاط في عهد نيقيفوروس الفسيلفس.
11
عنايته بالكنيسة
وأحب يوحنا جيمسكي الكنيسة، وجالس رجالها - ولا سيما الرهبان - وأصلح ما بين رهبان جبل آثوس وبين النساك فيه، وأصدر في السنة 970 «البراءة الذهبية»، فأسس بها اتحاد جماعات جبل آثوس،
12
وكان بطريرك أنطاكية قد قتل في أثناء الحصار، وقبل دخول الروم إليها، وكان الموقف السياسي في سورية لا يزال حرجا، فطلب الفسيلفس في السنة 970 نفسها إلى البطريرك المسكوني ومجمعه المحلي أن ينتخبوا بطريركا على أنطاكية وسائر المشرق، واقترح انتخاب الراهب ثيودوروس، فتم انتخابه وتكريسه في الثامن والعشرين من كانون الثاني، ثم توفي بوليفكتوس البطريرك المسكوني، فرشح الفسيلفس راهبا من رهبان جبل أوليمبوس باسيليوس لهذا المنصب السامي، وقدمه بنفسه إلى المجمع، وكان لا يزال لابسا القلنسوة الجلدية، فتم انتخابه وسيم بطريركا في التاسع والعشرين من كانون الثاني من السنة 970.
13
وفي السنة 974 وشي إلى الفسيلفس بأن باسيليوس البطريرك وعد شخصية كبيرة بالتاج، فاستدعاه الفسيلفس ليمثل أمام مجلس القضاء الأعلى، فرفض البطريرك وطلب محاكمته أمام مجمع مسكوني، فخلعه الفسيلفس ونفاه ورشح راهبا آخر، هو أنطونيوس الأستوديتي، فانتخبه المجمع خلفا لباسيليوس.
ويرى بعض رجال الاختصاص أن الدافع لخلع باسيليوس كان رفضه مجاراة الفسيلفس في سياسته في إيطالية التي قضت بقطع العلاقات مع كنيسة رومة.
14
الروس والبلغار
وكان أمير الروس سواتوسلاف لا يزال طامعا طامحا، فجاء في ربيع السنة 970 إلى البلقان ناهبا مدمرا، وبعد أن استولى على فيليبوبوليس عبر الحدود البيزنطية، وحل ضيفا ثقيلا على تراقية، فدب الرعب في قلوب سكان العاصمة، وهب برداس أسكليروس
Bardas Skleros
صهر الفسيلفس إلى محاربة الروس ودفع الأذى، فدحرهم عند أركاذيوبوليس
Loule Bourgas
في السنة 970، وأكرههم على التراجع إلى بلغارية،
15
واضطر الفسيلفس أن يتبع الملاينة في إيطالية والغرب، فأزوج أوثون الثاني من ثيوفانية ابنة ثيوفانو، وقضى على ثورة دبرها برداس فوقاس في بر الأناضول.
16
وفي آذار سنة 972 قام هو بنفسه على رأس جيشه إلى بلغارية وأنفذ أسطوله إلى الدانوب، واستولى على بريسلافة عاصمة البلغار، ورد سواتوسلاف الروسي على عقبيه، فامتنع هذا في حصن سليسترية، وبعد حصار دام ثلاثة أشهر سلم الأمير الروسي الحصن وقفل راجعا إلى بلاده، وما إن وصل إلى شلالات الدنيبر حتى أطبق به البتشناغ وقضوا عليه،
17
وأكره الفسيلفس بوغوريس ملك البلغار على التنازل عن العرش وضم بلغارية الشرقية إلى دولة الروم، وألغى بطريركية البلغار.
18
توسع جديد في سورية ولبنان
وما إن أنهى الفسيلفس الجديد مشكلة الروس والبلغار حتى عزم على إزالة خلافة بغداد وتحرير فلسطين والاستيلاء على القدس، ولكن كان عليه قبل هذا وذاك أن يجابه دولة فتية جديدة كانت قد قامت في مصر؛ فإن المعز لدين الله الخليفة الفاطمي الرابع كان قد سير جوهرا الرومي إلى مصر في السنة 968، فافتتحها وأزال الشعار الأسود العباسي وألبس الخطباء الأبيض وفتح دمشق وخطب للمعز على منابرها، وكان جوهر قد أنفذ جيشا إلى أنطاكية فحاصرها خمسة أشهر خلال السنة 970-971،
19
وكان الفسيلفس قد اكتفى بأن عين ميخائيل بورجس دوقا على أنطاكية وأمره بترميم حصونها وجعلها صالحة للدفاع، وفي السنة 973 أنفذ الدومستيقوس «الدمستق» الأرمني مليه
Mleh
إلى الجزيرة غازيا، فاستولى هذا القائد على ملاطية، ولكنه ارتد أمام آمد، فاعتقل وأرسل إلى بغداد فتوفي فيها.
20
وفي السنة 974 بعد الانتهاء من مشكلة الروس والبلغار قام الفسيلفس بنفسه على رأس قواته قاصدا بغداد، فسلك الطريق نفسها التي كان قد سلكها هرقل من قبله، فسار في وادي الفرات الأعلى ودخل أرمينية وحالف ملكها أشوت،
21
ثم اتجه جنوبا، فاستولى على آمد، وأحرق ميافارقين، ودخل نصيبين، وأدخل أمير الموصل الحمداني في طاعته،
22
وتعسر عليه تموين جيشه، فعاد إلى القسطنطينية منتصرا غانما.
23
وفي ربيع السنة 975 عاد الفسيلفس يوحنا جيمسكي إلى القتال، فانطلق من أنطاكية قاصدا المدينة المقدسة، وما إن أطل على دمشق حتى فاوضه حاكمها في السلم، فوقع بيانا اعترف فيه بسيادة الفسيلفس وتقبل حامية مسيحية في مدينته، وقام الفسيلفس الفاتح إلى طبرية، فدخلها، ثم قام إلى الناصرة فعف عنها احتراما وإجلالا، وتسلق جبل الطابور تيمنا وتضرعا، وتقبل هنالك دخول القدس والرملة وعكة في الطاعة وأرسل إليها قادة عسكريين يقيمون فيها، ولما كانت قوات الفاطميين قد التجأت إلى مدن الساحل؛ فإنه رأى أن الحكمة العسكرية تقضي بالاتجاه نحو الساحل قبل التوغل في الجنوب، فاحتل صيدا وبيروت وجبيل وعاد إلى أنطاكية متأثرا من مرض ألم به، ومنها قام إلى القسطنطينية.
24
ومما نقله المعاصرون أنه في أثناء عودته إلى العاصمة شاهد أراضي فسيحة جميلة خصبة، فسأل عن مالكها فقيل له إنها تخص رئيس الخصيان باسيليوس المقدم بين الوزراء، فاستعظم يوحنا هذا الأمر؛ نظرا لاحتياج الدولة وشقاء رؤسائها في سبيل الفتوحات، وبلغ هذا باسيليوس نفسه فخاف فدس سما خفيفا للفسيلفس فقتله في مدة لا تبلغ السنة، فمات في الثامن عشر من كانون الأول سنة 976.
25
باسيليوس الثاني (976-1025)
وكان باسيليوس وأخوه قسطنطين شريكا يوحنا جيمسكى قد بلغا سن الرشد أو ما يقرب منها، وكانا يهابان الخصي باسيليوس؛ لأنه كان قد تولى تربيتهما، وحدثته نفسه بالملك، فأرجع أم الفسيلفسين ثيوفانو، ثم عزل القائد الأعلى برداس أسكليروس وعينه في وظيفة ثانوية في قيادة جيش الجزيرة، فذهب برداس وجمع جيشا واتحد مع أعداء باسيليوس الخصي، فكانت بينه وبين جيوش العاصمة مواقع هائلة وحروب شديدة، دامت أربع سنوات، ولجأ برداس إلى بغداد، وطلب معونة الخليفة العباسي الطائع (974-991).
وكان باسيليوس الفسيلفس الشاب يحضر جلسات المجالس كلها ويتتبع الحوادث ويدرسها، فلمس الخراب الذي حل بالدولة من سوء إدارة الخصي بصرف الأموال، وقتل القواد والضباط والعساكر، وانتفاع المسلمين من هذه الحوادث، ونهوض البلغار لاستغلال الموقف، وكان هو عبوسا شجاعا لا يعتمد إلا على نفسه، قنوعا في معيشته وملابسه، بعيدا عن الملاهي والطرب، وكان أخوه قسطنطين كسولا محبا للهو والملذات، يكثر من حضور الروايات والصيد.
26
وفي السنة 981 رأى أن يذهب بنفسه لمحاربة البلغار، فعارضه الخصي في ذلك، ولكنه أصر وذهب، فلم ينجح، وكان أوثون الثاني قد شرع في الاستيلاء على أملاك الروم في إيطالية؛ مدعيا أنها تخص زوجته ثيوفانية، فنهاه الفسيلفس فلم يرتدع، فحاربه الفسيلفس في السنة 982 وظفر بجنوده واسترجع معظم ما ملكه الروم في إيطالية.
ولم يرض باسيليوس الخصي عن تدخل الفسيلفس الشاب في الحكم وخشي أن تفلت السلطة من يده فأثارها حربا باردة في القصر بينه وبين سميه الفسيلفس، وانتهى هذا النزاع الصامت بكف يد الخصي في السنة 985 وإبعاده إلى دير يعيش فيه زاهدا، وما إن فعل حتى رفع رجال الإقطاع رءوسهم مرة أخرى منادين في السنة 987 ببرداس فوقاس فسيلفسا، وانضم إليهم برداس أسكليروس، فتفاقم الشر وعظم الخطب، فاستمال الفسيلفس الكنيسة وخطب ودها، ثم حالف أمير كيف فلاديمير الكبير واستعان بستة آلاف مقاتل روسي، فلما زحف رجال الإقطاع على العاصمة أنزل الفسيلفس بهم هزيمة شنعاء في خريسوبوليس (988) ولقي برداس فوقاس حتفه في أبيدوس (989)، ولم يبق في الميدان سوى القائد برداس أسكليروس، فوعده الفسيلفس بالعفو إن هو سلم، ففعل.
27
ويستدل من رسم هذا الفسيلفس الذي لا يزال محفوظا في نسخة قديمة من المزامير؛ أنه قصير القامة، مفتول العضل، أزرق العينين، مشرق الوجه، ذو لحية ملتفة كثيفة.
ومما يستدل عليه من هذا الرسم أيضا أن باسيليوس انفرد عن سائر زملائه في أنه آثر الظهور باللباس العسكري والسلاح بالزرد والسيف والرمح،
28
وهو في مراجعنا الأولية بعيد عن البذخ إن في المأكل أو المشرب أو الملبس، وهو قليل الاهتمام بالحفلات والتشريفات، ولم يتذوق العلم والفسلفة، واعتبر الجدل في هذه ضربا من الثرثرة، ولكنه كان جنديا ممتازا وفارسا مغوارا وقائدا عظيما، يشاطر جنوده التعب، ويقودهم إلى النصر بوفرة ذكائه وسعة اطلاعه، وحسن تدبيره وتنظيمه، ومما جاء في هذه المراجع أنه لم يكن لديه وزير أول، ولم يخص أحدا بعطف أكثر من غيره، ولم يحكم بالقوانين المدونة، بل بما أوحاه إليه ضميرة ووجدانه.
29
الكنيسة في عهد باسيليوس
وليس لدينا من مخلفات السلف في هذا الموضوع ما يكفي لإيضاح جميع الحوادث،
30
وأهم ما يلفت النظر أن البطريرك المسكوني أنطونيوس الثالث استقال في السنة 980 في أثناء ثورة برداس أسكليروس، وبعد استعفائه بقي المنصب أربع سنوات شاغرا، وفي السنة 984 سيم نيقولاووس الثاني «خريسوبيرجيوس» بطريركا مسكونيا فأقام على الكرسي حتى وفاته في السنة 995، ثم خلفه سيسينيوس الثاني المايستروس الطبيب، وكان التنافر لا يزال قائما في بعض الأوساط الإكليريكية بسبب زيجة لاوون الرابعة، فوفق البطريرك بينهم، وسن قانونا بألا يأخذ أخوان زوجتين إحداهما ابنة عم أو خال أو عمة أو خالة الأخرى على الوجه السادس، ولا أن يأخذ العم أو الخال وابن أخيه أو أخته أختين على الوجه الخامس، وبعد سيسينيوس نصب البطريرك سرجيوس الثاني (1001-1019) أحد أقرباء فوطيوس البطريرك السابق.
ويرى مؤرخو الكنيسة الأرثوذكسية أن سرجيوس الرابع بابا روما (1009-1012) قال بالانبثاق من الآب والابن، وأنه لما بلغ هذا الأمر مسامع سرجيوس الثاني البطريرك المسكوني كتب إلى زميله البابا سرجيوس الرابع يرشده في هذا الموضوع فلم يقبل، فعقد البطريرك المسكوني مجمعا أيد فيه أعمال البطريرك فوطيوس كلها ومحا من ذيبتيخة الكنيسة اسم البابا سرجيوس الرابع،
31
ويرى بعض رجال الاختصاص من علماء الغرب أن السبب في هذا التباعد بين فرعي الكنيسة الرئيسين هو أن فسيلفس الشرق وإمبراطور الغرب كانا في تنافس مستمر حول النفوذ في إيطالية، وأن البابا بنديكتوس الثامن (1012-1024) كان مدينا بتبوئه العرش الكنائسي لهنريكوس الثاني إمبراطور الغرب، وأنه اعترافا بهذا الفضل أهدى إلى هنريكوس كرة ذهبية يعلوها صليب رمز السلطة العالمية، وأن فسيلفس الشرق باسيليوس اعتبر إقدام البابا على صنع هذه الكرة وتقديمها إلى هنريكوس عملا عدائيا، وأن البطريرك المسكوني شاركه في هذا الشعور.
32
ومما لا ينبغي إغفاله في هذا كله هو أن مراجعنا الأولية - كما سبق أن أشرنا قليلة - وأن مراجع الانشقاق العظيم الذي حل في السنة 1054 لا تشير البتة إلى هذا الاختلاف بين سرجيوس الشرق وسرجيوس الغرب.
تنصر الروس
وأعظم من هذا كله وأشد أثرا في التاريخ تنصر الروس، وكانت أولغة - زوجة إيغور أول أمراء الروس - قد اعتنقت الديانة المسيحية في القسطنطينية في السنة 905 فسميت هيلانة، ثم عادت إلى بلادها وأخذت تسعى في تنصير شعبها وخصوصا ابنها إيفاتوسلاف، وأثمر سعيها مع بعض الأهالي، ولكنها توفيت ولم تستطع إقناع ابنها، ولا يزال الروس يعيدون لها في الحادي عشر من نيسان في كل سنة.
ثم مات إيفاتوسلاف وخلفه ابنه فلاديمير سنة 980، ثم كان ما كان من أمر برداس فوقاس، فطلب الفسيلفس باسيليوس الثاني معونة فلاديمير، فجاءت المعونة في حينها، وطلب فلاديمير حنة شقيقة باسيليوس زوجة، فقبل الفسيلفس شرط أن يتقبل فلاديمير النصرانية، فتقبلها، فشرطن البطريرك المسكوني نيقولاووس الثاني ميخائيل السوري الأصل متروبوليتا على كيف، وأرسله وخمسة أساقفة مع الأميرة حنة لينشروا الديانة المسيحية في روسية، ووصلوا إلى خرسون في بلاد القرم وعمدوا فلاديمير سنة 988 وكللوه على حنة، وعاد فلاديمير إلى كيف، وأمر بأن يجتمع جميع أهلها كبارا وصغارا على شاطئ النهر، فركع فلاديمير وصلى ووقف الكهنة على ألواح من الخشب يعمدون الشعب تغطيسا، واعتبرت الكنيسة الروسية فيما بعد فلاديمير وزوجته قديسين ومنحت فلاديمير لقب معادل الرسل، ولا تزال تحتفل بعيده في السادس عشر من تموز في كل سنة،
33
ويرى بعض من يعنى بتاريخ الروم في الغرب أن فلاديمير تقبل النعمة في كيف قبل زواجه من حنة وذلك في السنة 987.
34
حروب باسيليوس وفتوحاته
وكان باسيليوس أعظم قوة وأطول باعا في الحرب من أسلافه؛ فإنه تمكن - بجده وسعيه ومقدرته في الإدارة والحرب - من تجييش عدد من الرجال أكبر بكثير من أي عدد جنده أسلافه، وحارب في وقت واحد في جبهات أربع: في الجنوب والشمال وفي إيطالية والقوقاس.
وكانت مشكلة بلغارية لا تزال عقدة العقد؛ فإن انتصار يوحنا جيمسكي لم يكن كاملا، ولم يتمكن هذا الفسيلفس من تدويخ جميع البلغاريين، ولم يضم إلى ملكه سوى بلغارية الشرقية، وبقي عدد من كبار رجال الإقطاع البلغاريين خارجين عن سلطته، وما إن زال البيت المالك القديم حتى شق صموئيل أحد هؤلاء طريقه إلى الملك ونظم بلغارية غربية جديدة، وحكمها من قلعته في أوخريدة في تلال مقدونية.
ولم يحاول صموئيل - بادئ ذي بدء - أن يكتسح بلغارية الشرقية، ولكنه اتجه جنوبا فانقض على بلاد اليونان، واحتل لاريسة سنة 986، ووصل إلى برزخ كورينثوس، فأعد باسيليوس الثاني حملة وأغار على أملاك صموئيل، فارتد هذا عن اليونان وأنزل بخصمه الفسيلفس هزيمة شنعاء أمام صوفية في السابع عشر من آب من هذه السنة، واضطر باسيليوس أن يواجه ثورة البرداسين - كما سبق أن أشرنا .
وكان سعد الدولة الحمداني قد دخل حلب واستولى عليها، فحاول - مرارا - أن يتملص من الإتاوة التي كان بقجور قد قبل بدفعها إلى الروم، فأدى هذا إلى إنفاذ حملات ثلاث على حلب بقيادة برداس فوقاس في السنوات 981 و983 و986، واضطر سعد الدولة أن يستنجد العزيز الفاطمي، فنشب خصام بين الروم والفاطميين.
ولما كان باسيليوس منهمكا في القضاء على ثورة البرداسين اضطر - بدوره - في أواخر السنة 987 إلى أن يصالح العزيز بمعاهدة كان من شروطها أن يذكر اسم العزيز في خطبة الجامع في القسطنطينية، وكان قد قام في القسطنطينية مسجد منذ القرن الثامن.
35
ولم يكن باسيليوس الثاني في هذه الفترة نفسها أسعد حظا في إيطالية؛ فإن أوثون الثاني إمبراطور الغرب طمع في جنوبي إيطالية؛ ففي كانون الثاني من السنة 982 غزا أبولية البيزنطية، وهاجم مدنها، ولكنه عندما دخل كلابرية اصطدم بجيش عربي كان قد أنفذ إليها من صقلية، فواقعه عند ستيلو في الثالث عشر من تموز سنة 982، فانهزم وكاد أن يقع في يد العرب أسيرا لولا نزوله إلى البحر على ظهر جواده والتجاؤه إلى سفينة بيزنطية قريبة، وعاد إلى روسانو وأعاد تنظيم جيشه وتراجع شمالا وتوفي في رومة في كانون الأول من السنة 983، وعاد العرب إلى صقلية فتمكن الروم من إعادة سلطتهم في أبولية.
36
وفي السنة 988 أخمد باسيليوس ثورة البرداسين واستتب الأمر له، وكان في سلم مع الروس والفاطميين، فعاد إلى حدود البلغار، وكان صموئيل قد استثمر انشغال خصمه باسيليوس فاستولى على قسم من دلماسية وعلى ساحل ألبانية، فأصبح سيد ثلثي البلقان، وكان قد هاجم ثيسالونيكية واحتل بروة
Berrhoe
عند مداخلها الغربية، فقام باسيليوس إلى ثيسالونيكية بنفسه في ربيع السنة 990 فرمم حصونها، ثم دخل في حرب بلغارية دامت أربع سنوات متتالية.
37
وتوفي سعد الدولة الحمداني في السنة 991 فطمع العزيز الفاطمي بحلب ، فحاصرها في السنة 992 فاستجار لؤلؤ الكبير الوصي على ابن سعد الدولة القاصر باسيليوس الثاني، فأمر باسيليوس دوق أنطاكية ميخائيل بورجس أن يقدم المعونة اللازمة، فظفر الفاطميون بجيشه في موقعة العاصي في الخامس عشر من أيلول سنة 994،
38
فرأى الفسيلفس الكبير أن الواجب يقضي بأن يشرف بنفسه على الأعمال في سورية الشمالية، ففوض نيقيفوروس أورانوس متابعة الحرب البلغارية، وجمع جيشا خاصا وجعل لكل مقاتل بغلين، وهب بسرعة فائقة، فقطع آسية الصغرى في ستة عشر يوما وفاجأ الفاطميين عند حلب فتراجعوا عنها، وفروا أمامه حتى أبواب دمشق، وعاد الفسيلفس إلى القسطنطينية في خريف السنة 995.
39
ونشط صموئيل في غياب باسيليوس فزحف على ثيسالونيكية وأوقع الهزيمة بحاكمها الأرمني أشوت، ولكنه لم يقتحمها بل آثر التوغل في اليونان فوصل ثانية إلى برزخ كورينثوس، وتأثره نيقيفوروس أورانوس وأنزل به هزيمة شنعاء عند مضيق ثرموبيلي الشهير، ففر صموئيل متسلقا الجبال حتى وصل إلى سواحل أبيروس في صيف السنة 996، ووصل الفسيلفس من سورية ولم يتمكن من استثمار هذا النصر استثمارا كاملا، واكتفى بأن أنزل نيقيفوروس إلى بلغارية الغربية ليدمر وينهب ويحرق.
وتوفي العزيز الفاطمي وتولى الحكم بعده الحاكم بأمره (696-1021) فأنزل بدوق أنطاكية داميانوس دلاسانوس في تموز السنة 998 هزيمة كبيرة، وخر داميانوس مقاتلا، فاضطر باسيليوس أن يعود إلى سورية الشمالية لينقذ الموقف، فدخل أنطاكية في العشرين من أيلول سنة 999 واستولى على حمص في تشرين الأول من السنة نفسها، ثم قام إلى طرابلس فارتد أمامها (6-17 كانون الأول)، وعاد إلى طرسوس لتمضية الشتاء.
40
وبينما هو يعد العدة في طرسوس لمتابعة الحرب ضد الفاطميين علم بوفاة داود ملك الكرج، وكان داود هذا قد عاون برداس فوقاس في ثورته على الفسيلفس وأوصى عند انتهائها بملكه إلى الفسيلفس، فقام الفسيلفس بجيشه إلى ملاطية، ثم عبر الفرات ودجلة ووصل إلى هافاتشيش، فقدم أمراء الكرج خضوعهم، وضم الفسيلفس دولة داود إلى الإمبراطورية وعاد إلى القسطنطينية عن طريق أرضروم.
41
وترك هذا كله أثرا في نفس الحاكم بأمره، فأسرع يفاوض باسيليوس في السلم، ولما عاد الفسيلفس إلى القسطنطينية وجد فيها أورسطيوس بطريرك القدس منتظرا لإبرام صلح باسم الخليفة الفاطمي، فكان صلح بين الدولتين لعشر سنوات.
42
وانطلق الفسيلفس بعد هذا يذلل الصعاب في بلغارية، فدخل في حرب دامت سبع عشرة سنة (1001-1018) تمكن في أثنائها من مضايقة خصمه صموئيل بتفوق عساكره، ومهارة قواده، وحذقه هو في تدبير الخطط وتنفيذها، وفي سرعته ومفاجآته.
وأشهر مواقع هذه الحرب معركة كيمبالونغوس
Kimbalongos ، وهو ممر طبيعي في وادي ألسترومة كان لا بد لباسيليوس من أن يعبره في طريقه إلى معاقل صموئيل الأخيرة في مقدونية الغربية. وفي التاسع والعشرين من تموز سنة 1014 كمن صموئيل لباسيليوس في هذا الممر، وما إن وصل الروم إليه حتى أمطرهم البلغاريون وابلا من السهام من وراء أسيجة مدبرة، فأنفذ باسيليوس القائد نيقيفوروس زيفياس يهددهم من الوراء، فكان نصر مبين، ووقع في يد باسيليوس عدد كبير من الأسرى، فسمل عيون خمسة عشر ألفا منهم وأطلقهم بقيادة مائة وخمسين أعور يقابلون صموئيل ملكهم، وما إن شاهدهم هذا حتى أغمي عليه وتوفي للحال في السادس من تشرين الأول سنة 1014.
ونال باسيليوس لقب ذابح البلغاريين
Bulgaroctonus ، ونادى البلغار بابن صموئيل جبرائيل ملكا، فدامت الحرب أربع سنوات أخرى، وتابع باسيليوس الحرب فاحتل أوخريدة العاصمة في خريف السنة 1017 ثم حاصر كستورية، واستجار البلغار البتشناغ، ولكن دون جدوى، وسقط آخر ملوك البلغار مقاتلا في أوائل السنة 1018، فضم باسيليوس جميع بلغارية الغربية إلى ملكه، وأصبحت شبه جزيرة البلقان بكاملها أرضا بيزنطية للمرة الأولى بعد يوستنيانوس الكبير، وبلغت دولة الروم - بفضل هذه الفتوحات في الشرق والغرب - حدودها الطبيعية.
43
وتميزت السنوات الخمس الأخيرة من حكم باسيليوس الثاني (1020-1025) بالسيطرة على إيطالية، والاستعداد لإخراج العرب من صقلية، وبمحاولة جدية لتأمين الحدود عند القوقاس، والصمود في وجه الأتراك السلاجقة الذين كانوا قد بدءوا يتجهون غربا؛ ففي ربيع السنة 1021 قام باسيليوس إلى أرضروم، ومنها إلى سهل بسيان؛ حيث أنزل بالملك جورجي هزيمة سهلت وصول الفسيلفس المنتصر إلى تفليس، ثم عاد إلى طرابزون يمضي فصل الشتاء فتقبل فيها خضوع يوحنا سمباد ملك أرمينية الكبرى، كما تسلم من الملك فاسبوراكان سلطته على الأراضي الواقعة جنوبي بحيرة وان؛ لأنه لم يتمكن من حمايتها من غزوات الأتراك السلاجقة، وقبل انتهاء فصل الشتاء جاء الملك جورجي نفسه يقدم خضوعه بلا قيد أو شرط، وعاد الفسيلفس إلى القسطنطينية في مطلع السنة 1023.
44
وأدت مقاومة البلغار الطويلة وتعديات القرصان الصقالبة والعرب في مياه الأدرياتيك إلى تفاهم وثيق وتعاون جدي بين الفسيلفس وحكومة البندقية التي كانت تعترف بسيادة الروم، ففي السنة 992 منح باسيليوس تجار البندقية امتيازات تجارية أهمها إنقاص المكوس وردع الموظفين عن البلص، فوعد البنادقة بوضع سفنهم تحت تصرف الفسيلفس لنقل جيوشه وعتاده إلى إيطالية،
45
وتودد الفسيلفس إلى مدن بحرية إيطالية أخرى أهمها بيزا.
وفي السنة 1009 ثار الجمهور في باري على عامل الروم فيها من جراء ضغطه وصلفه، وامتدت هذه الثورة إلى جميع أنحاء مقاطعة أبولية، ودامت عشرة أشهر، وحاصر الروم باري واستولوا عليها، وفر زعيم الثورة فيها إلى ألمانية فرحب بقدومه هنريكوس الثاني الإمبراطور ومنحه لقب دوق أبولية،
46
واستعان هذا الزعيم الإيطالي بالفرسان النورمنديين الذين كانوا على استعداد دائم لتقديم خدماتهم في مثل هذه الظروف، فلبوا الطلب وجاء بهم وبغيرهم إلى أبولية في ربيع السنة 1017 وأنزل بالروم خسائر عديدة، فأنفذ باسيليوس أحد رجاله الأشداء باسيليوس بويانس فقضى على هذه المحاولة، وفر زعيم الثورة ثانية إلى ألمانيا، إلى حضن هنريكوس الثاني وتوفي فيها (1021)، وأعاد بويانس هيبة حكم الروم في إيطالية الجنوبية، وحصن الحدود الشمالية ولا سيما منطقة غارغانو-بنفنتوم، فهال هذا الأمر هنريكوس الثاني، وقام للحال بحملة عسكرية يزعزع بها نفوذ زميله الفسيلفس، ولكنه أخفق كل الإخفاق! وحاول باسيليوس الفسيلفس أن يستثمر هذا النصر فيحتل صقلية ويخرج العرب منها، وأنفذ إلى إيطالية في شهر نيسان من السنة 1025 جيشا، واحتل بويانس مسينة، وتأهب الفسيلفس للحاق ببويانس، ولكنه صعق بمرض أودى به في الخامس عشر من كانون الأول سنة 1025.
47
الفصل الخامس والعشرون
التوقف عن التوسع وانتهاء الأسرة المقدونية
1025-1057
ورقي عرش القسطنطينية، بعد وفاة باسيليوس الثاني، عدد من صغار الرجال وضعفاء النفوس والهمم، فأفلتت السلطة الحقيقية من يد الفسيلفس وعظم شأن الخصيان في البلاط ونشبت مشادة عنيفة بين هؤلاء وبين قادة الجيش، فأدت هذه المشادة وهذا التنافس إلى تمرد الجند وضعف قوى الدفاع في وقت هدد فيه كيان الدولة عدوان جديدان هما النورمانديون في الغرب والأتراك السلاجقة في الشرق.
قسطنطين الثامن (1025-1028)
وتوفي باسيليوس بدون عقب وتولى الحكم بعده أخوه قسطنطين الثامن، وكان هذا خفيف العقل مستهترا متصابيا مولعا بسباق الخيول منغمسا في الملذات يكره الحرب والعمل الجدي، وكان قاسيا عتيا، يلاقي جميع الذنوب بسمل العينين،
1
فما إن تبوأ العرش حتى عزل كبار القادة أبطال الحروب السابقة واستبدلهم برجال من صنعه، ولم يكن له ولد ذكر، فاستدعى الشريف رومانوس أرغيروس إليه وأكرهه على تطليق امرأته وأزوجه من ابنته زوية وذلك في الثامن من تشرين الثاني سنة 1028 وقبل وفاته بثلاثة أيام.
2
الأباطرة الأصهار (1028-1057)
ودخل الروم بعد هذا في حكم أصهار الأسرة المقدونية، ولم يكن أصهار القرن الحادي عشر من بضاعة سلفائهم أصهار القرن العاشر، وكان رومانوس أرغيروس الثالث (1028-1034) ينتسب إلى بيت عسكري شهير مما يسر له قيادة الجنود ولكنه لم يوفق إلى النصر - كما سنرى - وكان أول ما قام به من الأعمال أن ألغى تشريع باسيليوس الثاني الذي يحمى به الفقراء وصغار الملاكين من جشع أصحاب الأملاك الكبيرة، فطغى هؤلاء وتجبروا، وأدى جشعهم إلى انفراط العقد وتشتيت الكلمة.
وكان عند رومانوس الثالث خصي اسمه يوحنا البفلاغوني، وكان لهذا إخوة أربعة فرقاهم الخصي وأدخل أحدهم ميخائيل في خدمة البلاط، وكان ميخائيل لا يزال في عنفوان شبابه، جميل الوجه، ساحر العينين، فتعلقت به زوية فدفعها إلى قتل الفسيلفس، فدست له السم ثم خنقته في مغطس الحمام في الحادي عشر من نيسان سنة 1034، وألبست ميخائيل البفلاغوني بدلة الملك وتوجته وأجلسته بجانبها وأمرت بتعظيمه، وما إن تم جلوس ميخائيل الرابع على العرش حتى قام أخوه يوحنا الخصي يستأثر بالسلطة، فحصر زوية بين نساء الحرم، وألم بأخيه ميخائيل الرابع داء النقطة فاستقل الخصي بالإدارة ورقى أقرباءه إلى الوظائف الكبرى وعزل غيرهم من ذوي الأهلية، وانتقمت زوية من يوحنا الخصي فدست له السم، ولكنه استدرك الأمر ونجا من الموت، ولم يبطش بها محافظة على مركز أخيه ومركزه.
وكان مرض ميخائيل الرابع يزداد من يوم إلى يوم، فشعر بقرب أجله، وأنبه ضميره على فظاظة ما عمله برومانوس الثالث، فشرع يوزع الحسنات ويبني الكنائس ويعمد الأطفال ليكفر عن خطيئته، وزار مقام القديس ديمتريوس في ثيسالونيكية ولكنه لم ينتفع، ثم أصيب بالاستسقاء فطلب العزلة وسيم راهبا، وبعد قليل توفي في العاشر من كانون الأول سنة 1041.
3
وكان لميخائيل الرابع ابن أخت اسمه ميخائيل القلفاطي، وكانت زوية قد تبنته، فلما مات ميخائيل الرابع طردت زوية أخاه يوحنا الخصي وأخويه الآخرين وتوجت ابنها الوضعي ميخائيل الخامس القلفاطي فسيلفسا، ولم يبر ميخائيل الخامس بأمه زوية فنفاها إلى جزيرة من جزر الأمراء، وأكره البطريرك ألكسيوس على أن يذهب إلى الدير، وأساء معاملة كثيرين من أهله، فاستاء سكان العاصمة من عمله - وكانوا لا يزالون يكنون المحبة والولاء للأسرة المالكة المقدونية - فأحضروا ثيودورة أخت زوية من الدير وخلعوا عنها ثياب الرهبنة وألبسوها الحلة الملوكية وأرجعوا أختها زوية ونادوا بهما فسيلستين، فلما رأى ميخائيل الخامس القلفاطي هياج الشعب التجأ إلى دير الأستودي هو وعمه وتقبلا النذر، ولكن ثيودورة أمرت بمعاقبتها فسحبا من هيكل كنيسة الدير وسملت أعينهما ونفيا (1042).
4
واجتهدت زوية بعد هذا في إبعاد أختها ثيودورة فلم توفق إلى ذلك؛ نظرا لموقف الشعب منها، وأحبت واليا اسمه قسطنطين أرتوكليني ورغبت في الزواج منه ولكن زوجته علمت بذلك فدست له السم فمات، وكان ميخائيل الخامس قد نفى قسطنطين مونوماخوس إلى مدلة لتعلق زوية به، فلما مات ميخائيل ومات أرتوكليني أحبت الفسيلسة أن تتخذ منه زوجا لها، فلم يرض البطريرك عن زواج ثالث ولم يسمح به.
ولكن الفسيلسة أصرت فكللها كاهن القصر في الحادي عشر من حزيران سنة 1042، وبعد أن تم لها ذلك أكرهت البطريرك على تتويج قسطنطين فسيلفسا، ففعل، وأصبح قسطنطين مونوماخوس قسطنطين التاسع (1042-1055).
5
الحدود والعلاقات الخارجية (1025-1042)
وعلى الرغم من تصاغر هؤلاء الملوك وتحاقرهم، فإن جهاز الدفاع كان لا يزال قويا بفضل الجهود التي بذلها باسيليوس الثاني في أثناء حكمه الطويل، وظلت حركة التوسع قائمة ولكن نتائحها كانت - بطبيعة الحال - أخف بكثير من ذي قبل.
ففي السنة 1027 قام عرب أفريقية بهجوم بحري على بعض جزر إيجه، فصمد قائد ساموس في وجههم وعاونه في ذلك قائد خيوس وأنزلا بالعرب خسائر فادحة في الرجال والعتاد، وعاد العرب إلى هجوم آخر في السنة 1035 ليلقوا اندحارا مماثلا،
6
وفي السنة 1027 أيضا وافق الظاهر خليفة الحاكم (1021-1035) على ترميم كنيسة القبر المقدس التي كان قد أمر بإحراقها الحاكم في السنة 1009 ووقع معاهدة بهذا المعنى مع قسطنطين الثامن،
7
ثم أغارت عشائر حلب على أراضي الروم فهب رومانوس الثالث في السنة 1030 يدافع ويقتص، ولكنه أخفق وكاد يقع أسيرا، ثم كر القائد مانياكيس ودوق أنطاكية نيقيطاس فأكرها أمير حلب على توقيع معاهدة في أيلول من السنة 1031 دخل بها في طاعة الفسيلفس، وثار في هذه الآونة حاكم طرابلس ودخل في حماية الروم، ثم سجل منياكيس نصرا في الرها فدخلها عنوة واستولى على رسالة السيد المسيح إلى أبجر ملك الرها، وعندئذ عرض رومانوس الثالث صلحا على زميله الفاطمي مشترطا السماح بإعادة بناء جميع الكنائس المخربة والاعتراف بحق الفسيلفس في ترميم كنيسة القبر المقدس على نفقته الخاصة، وفي السنة 1036 وقعت معاهدة بهذا المعنى بين ميخائيل الرابع وأرملة الظاهر الوصية على ابنها القاصر المستنصر،
8
ويستدل من كلام ناصر خسرو الذي زار بيت المقدس في السنة 1046 أن كنيسة القبر كانت قد شيدت على نفقة الفسيلفس وزينت بالرخام الملون والنقوش والفسيفساء المذهبة، ومما جاء في كتاب ناصر خسرو أن فسيلفس الروم تخفى وزار القدس متنكرا في عهد الحاكم بأمره، وأن الحاكم علم بذلك فأرسل إلى زميله يطمئنه ويعده بالخير.
9
وحاول قسطنطين الثامن في السنة 1027 أن يستغل وفاة جورجي ملك الكرج وقصور ابنه وولي عهده ولكنه مني بالإخفاق، وقل الأمر نفسه عن الحملة التي قام بها قسطنطين أخو ميخائيل الرابع في السنة 1038، وتوفي يوحنا سمباد ملك الأرمن واندلعت حرب أهلية في أرمينية فأحب ميخائيل الرابع أن ينفذ الوصية التي أوصى بها سمباد في السنة 1021، فأنفذ حملة إلى أرمينية ولكن الجيش الذي هاجم عانة مزق تمزيقا، وأعلن كاكيغ الثاني نفسه ملك الملوك في السنة 1042.
10
وغضب قسطنطين الثامن على بويانس القائد المحنك، وأقاله من وظيفته في السنة 1028 وأحل محله من لم يكن أهلا للقيادة والقتال، فنشط عرب صقلية للإغارة والغزو ما بين السنة 1030 والسنة 1032 وظهرت مراكبهم في مداخل الأدرياتيك، ولكنهم لم يتمكنوا من الصمود في وجه راغوزة ونابولي، ففاوض أميرهم في الصلح في السنة 1035 ووقع معاهدة بذلك مع ميخائيل الرابع،
11
وفي السنة 1037 حاول الروم الاستفادة من تقسم العرب في صقلية، فقام قسطنطين أوروبوس حاكم إيطالية إليها، وتغلب على العرب في مواقع متعددة وحرر ألوف الأسرى المسيحيين، ولكنه لم يتمكن من الاستقرار في الجزيرة، وقام في السنة التالية 1038 يعد العدة لحملة كبيرة على صقلية، فأمر أخاه إسطفانوس على الأسطول وعهد بقيادة الجيش إلى جورج منياكيس، واشترك في هذه الحملة هارولد ملك النرويج وعدد من الفرسان النورمنديين.
ونزل الروم إلى الجزيرة واستولوا على مسينة، ثم قام منياكيس إلى بالرمو فسرقوصة، فاستولى عليهما في صيف السنة 1040، وقلت جماكية العساكر فانسحب الإفرنج إلى إيطالية، ووقع الشقاق بين قائد البر وقائد البحر، ووجه الأول كلاما لاذعا إلى قائد الأسطول؛ لأنه أفسح في المجال بإهماله لزعيم تروينة المسلم؛ ليفر سالما، فاستدعي منياكيس إلى القسطنطينية وأودع السجن، وحل محله من لم يكن أهلا لذلك، فلم يبق بيد الروم من صقلية في السنة 1041 إلا مسينة.
12
قسطنطين التاسع مونوماخوس (1042-1055)
وأحب قسطنطين التاسع خليلة اسمها إسكليرينة، فأحضرها إلى البلاط، ومنحها لقب سبسطة، فجلست في المجالس، وظهرت في المواكب، واستمتعت بأموال الدولة، فحطت من كرامة هذا الفسيلفس في أعين الشعب، وعند وفاتها قرب آلانية شابة وجعلها سبسطة أيضا، ولكنه لم يجرؤ على أن يسكنها القصر، وظل طائشا خاملا مستهترا مسرفا مبددا إلى أن حل به فالج قوي أقعده عن كل حركة، وكان قسطنطين في الوقت نفسه صافي القلب بشوشا، بعيدا عن الحقد والتكبر، يجذب القلوب بلطفه وخفة روحه .
13
وأفضل ما ينسب إليه اهتمامه بجامعة القسطنطينية، وسعيه لجعلها مؤسسة تغذي الدولة برجال مثقفين مهذبين يخرجون الإدارة من أيدي الخصيان والعسكريين، وكان ميخائيل الخامس قد قدم المشترع قسطنطين ليخوذس على غيره من رجال البلاط فأبقاه مونوماخوس في هذه الوظيفة، وعطف ليخوذس على رفاقه في العلم الذين تحدروا إما من بيوت وضيعة كيوحنا زفلينس
Xiphilinis
الطرابزوني أو من الطبقة المتوسطة كميخائيل بسلوس
، وجاء قسطنطين التاسع يفاخر بالعلم ويسعى لتصديع جبهة العسكريين، فحمى الأدباء والعلماء وأسند إليهم بعض الوظائف الكبرى، وجعل في السنة 1043 بسلوس، الذي كان لا يزال في الخامسة والعشرين من العمر، رئيسا للديوان الملكي، ورقى يوحنا بيزنتيوس إلى رتبة مستشار، ووكل رئاسة كلية الحقوق إلى يوحنا زفلينس، وأصبح ميخائيل بسلوس - فيما بعد - «قنصل الفلاسفة» فتولى إدارة الأبحاث الأدبية وتمتع برتبة عالية في تشريفات البلاط، ثم انتقد ليخوذس تبذير الفسيلفس بصراحة الفلاسفة ووقاحتهم، فغضب عليه قسطنطين التاسع في السنة 1050 وأبعده، ثم حل سخط الفسيلفس على يوحنا موروبيوس فاستقال بسلوس وزفلينس.
14
وكان رومانوس أسكليروس - أخو خليلة الفسيلفس - يكره القائد الكبير جورج منياكيس، فاستدعى قسطنطين هذا القائد من إيطالية وأبعده، وثار القائد ونادى به جنوده في خريف السنة 1042 فسيلفسا، وجرح جرحا بليغا في أول اصطدام وقع بينه وبين جنود الفسيلفس، فانفض جنوده عنه وانتهى أمره.
15
وفي منتصف السنة 1043 تخاصم الروس والروم في ضواحي القسطنطينية، وقتل أحد كبار تجار الروس، وكان قد سبق لتجار الروس في عاصمة الروم أن شكوا مضايقة الروم وتعسفهم إلى أمير كيف، فرأى الأمير فلاديمير أن يتخذ من قتل التاجر الروسي عذرا للمطالبة بشروط تجارية للروس في القسطنطينية أفضل من ذي قبل، واحتج على مقتل التاجر الروسي وطالب بالدية، فصد عن ذلك، فجرد حملة برية بحرية ودخل البوسفور، فذعر الناس ونشط الفسيلفس وقام بنفسه إلى قتال الروس في البحر، فتمكن من إبعادهم بالنار الإغريقية في حزيران سنة 1043، ووقعت معاهدة في السنة 1046 لا نعرف من شروطها سوى زواج أحد أمراء الروس من أميرة بيزنطية.
16
وفي السنة 1047 تضافرت العناصر العسكرية الساخطة التي كانت قد أبعدت عن السلطة واتخذت من أدرنة قاعدة لها، ونادت بطرونيكيوس الأرمني فسيلفسا وزحفت على القسطنطينية، وحاولت اقتحام الأسوار ولكن دون جدوى، ثم وصلت قوى الشرق فأنزلت بطورنيكيوس وزملائه هزيمة كبرى في أواخر السنة 1047.
17
وكانت قبائل البتشناغ التركية قد وصلت إلى الدانوب في عهد باسيليوس الثاني، وفي السنة 1048 نشب خلاف ونزاع بين اثنين من زعمائها، فالتجأ أحدهما إلى الروم، فعبر خصمه الدانوب وتوغل في بلغارية، فأنزل به الروم - بمعاونة خصمه - هزيمة شنعاء، ودخل في خدمة الروم عدد كبير من البتشناغ، وقضت ظروف داخلية في بيثينية أن يساق هؤلاء إليها، فأبوا وتمردوا وأقاموا في سهول صوفية، وانضم إليهم من كان قد بقي من إخوانهم في بلغارية، وطاردتهم جيوش الروم مرارا ولكن دون جدوى، وفي السنة 1053 سئم هؤلاء البتشناغ الحرب، وفاوضوا في الصلح واستقروا في بلغارية.
18
وجدد قسطنطين التاسع معاهدة الصداقة والمودة بينه وبين المستنصر الفاطمي في السنة 1047-1048 وأمد الفاطميين بالقمح عند حلول القحط في سوريا في السنة 1053 وتمكن من حماية النصارى فيها،
19
ولكنه لم يحسن السياسة في معالجة السلاجقة، فإن هؤلاء الغز كانوا في أثناء القرن العاشر قد انتظموا حوالي أحد زعمائهم سلجوق، فتركوا مراعيهم بالقرب من بحيرة أورال ودخلوا في خدمة الغزنويين، وعاونوهم في حرب الهند، ثم ثاروا على مسعود الغزنوي، واستقروا في خراسان (1038-1040) بزعامة طغرل بك،
20
وما إن شعرت قبائل التركمان الضاربة في أواسط آسية بشجاعة طغرل وعشائره حتى التفت حواليه وائتمرت أوامره، فقام طغرل بك بجموعه يهدد الخلافة وأرمينية والروم، وكان من سوء طالع قسطنطين التاسع أن استبدل الخدمة العسكرية عند حدود آسية الصغرى الشرقية بضريبة سنوية فقل عدد الرجال في جيش الحدود، واضطر الفسيلفس إلى أن يلجأ في معالجة السلاجقة إلى التكتيك نفسه الذي لجأ إليه أسلافه في درء خطر الحمدانيين؛ أي أن يمتنع عن مقاومة الغزاة فلا يطبق بهم إلا بعد أن يكونوا قد غنموا فتراجعوا خارجين، فاستعاض قسطنطين عن قلة الرجال بحنكة القادة أمثال كتكالون، وبحسن التدبير والتكتيك، فتمكن من الاحتفاظ بجميع ولاياته الشرقية.
21
وازداد طمع النورمنديين في إيطالية وكثر عددهم، واتخذ غيمار أمير سلرنو لقب دوق أبولية وكلابرية وبدأ يقطع النورمنديين الأراضي يمينا وشمالا، وغزا النورمنديون أراضي أوترانتو ولم يتمكن الروم من صدهم عنها ولم يبق بيدهم منها سوى المدن الساحلية، واستدعى الفسيلفس القائد الحاكم في إيطالية أرجيروس ليعاونه في القضاء على ثورة طورنيكيوس، وبقي أرجيروس في القسطنطينية خمس سنوات (1046-1051)، ولا نعلم ماذا دار بينه وبين الفسيلفس من حديث أو تبادل في الرأي، ولكننا نعلم علم اليقين أن البطريرك المسكوني ميخائيل كيرولاريوس «الشماع» لم يكن راضيا عن سلوك القائد الحاكم في إيطالية، فمنعه مرارا عن التناول؛ لأنه سكت عن استعمال الفطير في خدمة القداس في الولايات الإيطالية.
وتدخل هنريكوس الثالث في شئون إيطالية فحل في السنة 1046 أزمة الباباوات الثلاثة، وأجلس إقليمس الثاني على الكرسي الرسولي، ومسح إقليمس الثاني هنريكوس الثالث إمبراطورا على إيطالية وسواها من أقاليم الغرب، وزار الإمبراطور جنوبي إيطالية في أوائل السنة 1047 فقوى النورمنديين بأن اعترف بحقهم الشرعي في الأماكن التي كانوا قد سطوا عليها، فنهج بذلك نهجا مضرا بمصالح الروم، وعلى الرغم من تبادل عبارات الصداقة والمودة بين الفسيلفس والإمبراطور في السنة 1049؛ فإن الفسيلفس لم يرض عن سياسة الإمبراطور في إيطالية.
22
الانشقاق العظيم (15 تموز 1054)
ولم تطل مدة البابا إقليمس الثاني؛ فإنه توفي في السنة 1047، وعاد بندكتوس فاغتصب الكرسي الرسولي وأقام عليه ثمانية أشهر، فتدخل هنريكوس الإمبراطور وأجلس داماسوس الثاني (1048) فمات مسموما بعد ثلاثة وعشرين يوما، وعاد بندكتوس فاستولى على الكرسي مرة خامسة، فأرسل الرومانيون وفدا إلى هنريكوس فتدخل فأرسل البابا لاوون التاسع (1048-1054).
وهال البابا الجديد انحطاط الكنيسة في الغرب وتأخر أحوالها، فهب لإصلاحها، وعقد المجامع المحلية، وقطع الأساقفة الذين استعانوا بالمال للوصول إلى مراكزهم، وألغى زواج الإكليروس، وأصغى إلى تذمرات الشعب بنفسه، وأنب النورمنديين؛ لقساوتهم وظلمهم، فأحبه الإيطاليون وتعلقوا به، واستجار سكان بنفنتوم بالبابا من النورمنديين وطلبوا حمايته ورجوه أن يتولى أمورهم، فرأى أن لا بد من اللجوء إلى القوة، فعاد إلى ألمانيا؛ ليأتي بالعساكر اللازمة، فأقره هنريكوس الثالث على بنفنتوم ، وعاد إلى إيطالية على رأس قوة عسكرية، فوصل إليها في أوائل السنة 1053.
وكان قد حالف أرجيروس الحاكم البيزنطي على شروط نجهلها، فلما وصل إلى ميدان القتال وجد أن أرجيروس كان قد قاتل منفردا وأنه غلب على أمره، فاضطر البابا لاوون أن يقاتل منفردا أيضا، فدارت الدائرة عليه عند سفح جبل غرغانو ووقع في الأسر في السابع عشر من حزيران سنة 1053، وبقي مأسورا في بنفنتوم نفسها حتى آذار السنة 1054، ثم عاد إلى رومة وتوفي فيها في التاسع عشر من نيسان من هذه السنة نفسها.
23
وأدى اهتمام لاوون التاسع بالكنيسة واندفاعه في سبيل إصلاحها إلى تثبيت السلطة فيها وتدعيمها، وكان يعاونه في هذا الإصلاح رهبان كلوني، وكثر عدد هؤلاء في إيطالية الجنوبية وتسربوا إلى المقاطعات البيزنطية وإلى الأبرشيات الخمس التي كانت تابعة لكرسي القسطنطينية.
وكان هنريكوس الثالث إمبراطور الغرب يعطف كثيرا على هؤلاء الرهبان ويؤيد حركتهم، وكان هو الذي انتقى البابا لاوون التاسع وأجلسه على كرسي رومة،
24
وكان كرسي رومة هو الذي نفذ فكرة الإمبراطورية الغربية - كما سبق أن أشرنا - فكان من الطبيعي جدا أن تنظر القسطنطينية بفسيلفسها وبطريركها بعين الريب والحذر إلى برنامج كلوني ولاوون التاسع، فلا تفصلهما عن سياسة هنريكوس الإمبراطور ومطامعه في إيطالية.
25
فكتب البطريرك المسكوني ميخائيل في أيلول سنة 1053 بالاشتراك مع لاوون متروبوليت أوخريدة إلى رئيس أساقفة تراني «أوترانتو» ينبهه على حفظ التعاليم الأرثوذكسية في الأبرشيات الخمس التابعة لسلطته فيتجنب استعمال الفطير وصوم السبت وأكل الدم والمخنوق، وأوضح له أوجه الخطأ في هذا، ورغب إليه أن يطلع أساقفة الغرب على موضوع هذه الرسالة وفحواها، فلما وصلت الرسالة إلى يوحنا رئيس أساقفة تراني كان عنده الكردينال هومبرت! فلما وقف الكردينال على رسالة البطريرك المسكوني ترجمها حالا إلى اللاتينية وحملها إلى البابا لاوون التاسع.
فأجاب لاوون التاسع عن هذه الرسالة برسالة طويلة؛ أوضح فيها رغبته في السلام والوفاق الروحاني، ولكنه ضمنها بعض العبارات القاسية، وأردفها بنسخة عن منحة قسطنطين
Donatio Constantini
مبينا حقه في السلطة على إيطالية وكنائسها وعلى الكنائس الشرقية، ولا يخفى أن منحة قسطنطين هذه وثيقة مزورة لا تمت إلى قسطنطين الكبير بصلة وإنما دبرت في رومة في منتصف القرن الثامن لتقوي مطالبة رومة بالسلطة المطلقة على جميع الكنائس، وتزوير هذه الوثيقة أمر مسلم به اليوم في الأوساط الشرقية والغربية.
26
فامتعض البطريرك والفسيلفس وازداد تثبتا من مطامع هنريكوس ولاوون في ممتلكات الروم في إيطالية ومطالبتهما بالسيادة الزمنية والروحية على هذا الجزء من الإمبراطورية الشرقية، وعلى الرغم من هذا كله فإن الفسيلفس والبطريرك رأيا أن المحافظة على السلام أفضل من خرقه؛ لأن النورمنديين آنئذ كانوا يهددون جنوبي إيطالية واليونان، فجاوب كل منهما جوابا رقيقا وطلب الفسيلفس إلى البابا أن يرسل وفدا إلى القسطنطينية للتفاوض في الوفاق، فأرسل البابا وفدا مؤلفا من الكردينال هومبرت ورئيس الأساقفة بطرس والكنكيلاريوس فريديركوس، وأرسل معهم رسالة إلى الفسيلفس ورسالة إلى البطريرك.
وفي الرسالة إلى الفسيلفس ذكر البابا الخراب العظيم الذي لحق بجنوبي إيطالية من جراء أعمال النورمنديين وعلق آماله على مساعدة الفسيلفس والإمبراطور، ثم طالب بأبرشيات بلغارية وإيليرية وإيطالية السفلى، وذكر بسلطة الكرسي الروماني، وفي رسالته إلى البطريرك اتهمه بأنه رقي الكرسي البطريركي دون أن يرقى كل الدرجات الكنائسية، وأنه يرغب في إخضاع كرسي أنطاكية والإسكندرية، ووبخه على كتابته ضد بعض ممارسات الكنيسة الرومانية.
ووصل الوفد الباباوي إلى القسطنطينية ومثل أمام الفسيلفس فسلم الكردينال رسالة البابا وأرفقها برسالة منه رد فيها على انتقادات البطريرك ميخائيل وادعى على الكنيسة الأرثوذكسية بأنها تعيد معمودية اللاتين ولا تعمد الأطفال قبل اليوم الثامن، وأنها تناول الشركة المقدسة بملعقة من ذهب، وأنها تدفن في الأرض ما يبقى منها أو تحرقه، وأنها لا تناول المؤمنين جسد الرب ودمه كلا على حدة.
ويستدل من المراجع اليونانية أن الكردينال هومبرت كان ينقصه شيء كثير من اللطف والوداعة والكياسة، وأنه دخل على البطريرك المسكوني دخولا فظا غريبا، فلم يحن رأسه له ولم يقدم القبلة السلامية، بل دفع إليه برسالة البابا دفعا، وأن البطريرك بعد أن اطلع على الرسالة ظن أن لأرجيروس يدا فيها، وأنها ربما لم تكن صحيحة، وتدل المراجع اليونانية أيضا على أن البطريرك لم يقطع الشركة مع أعضاء الوفد الباباوي حالا، بل بعد ما رأى من إصرارهم، فرفض مواجهتهم ومنعهم من إقامة الخدمة في أبرشيته وأفادهم أن المسألة يجب أن تعرض على الكنيسة الجامعة في مجمع مسكوني.
فطار رشد الكردينال فكتب بالاتفاق مع زميليه الآخرين حرما ضد البطريرك المسكوني وضد كل من يوافقه، وفي الخامس عشر من تموز سنة 1054 دخل رجال الوفد الباباوي إلى كنيسة الحكمة الإلهية، واتجهوا نحو الهيكل، فدخلوا إليه والقداس قائم ووضعوا الحرم على المذبح تحت الإنجيل وبحضور الإكليروس والبطريرك، ثم خرجوا وهم يقولون: الرب يحكم فيما بيننا وبينكم، ولم يحرك البطريرك ساكنا وغض النظر عن التشويش الذي أحدثه الوفد في الكنيسة، وسمح لأعضاء الوفد بالخروج، وبعد خروجهم مكثوا يومين في القسطنطينية، ثم سافروا.
ومما جاء في هذا الحرم ما يلي: «فليعلم أننا قد أدركنا هنا من أين لنا فرح كثير بالخير العظيم، ومن أين لنا حزن شديد بالشر الجسيم؛ لأن المدينة بالنسبة إلى أركان المملكة وأشرافها ورجالها؛ هي في غاية من الإيمان المسيحي ومستقيمة الرأي، ولكن بالنسبة إلى ميخائيل المسمى بطريركا على سبيل المجاز وبالنسبة إلى مشاركيه في جنونه يبذر في وسطها كل يوم مقدار كثير جدا من زؤان الهرطقات؛ لأنهم مثل السيمونيين يبيعون موهبة الله، ومثل الآريوسيين يعيدون تعميد المعمدين، ومثل الدوناتيين يتشبثون بأن كنيسة المسيح والذبيحة الحقيقية والمعمودية فيما عدا كنيسة اليونان قد فقدت في كل العالم، ومثل النيقولائيين يسمحون لخدام المذبح المقدس بالزيجات اللحمية، ومثل المقدونيين قطعوا من الدستور انبثاق الروح القدس من الابن.
ونقول: إن ميخائيل المسمى بطريركا الحديث في الإيمان المتقلد أسكيم الرهبنة عن خوف بشري، الذي اشتهر عند كثيرين بجرائم فظيعة، ومعه لاوون المدعو أسقف أخريس ونيقيفوروس ساكيلاريوس ميخائيل نفسه، فليكونوا أناثيما ماران آثا (محرومين الرب جاء).»
وأما البطريرك المسكوني فإنه بعد أن اطلع على ترجمة هذا الحرم اتصل بالفسيلفس قسطنطين التاسع، فأرسل هذا واستدعى الوفد إلى القسطنطينية بعد أن رحل عنها بيوم واحد، فعاد الوفد وأصر على ما جاء في الحرم وأبى أن يواجه البطريرك أو أن يمثل أمام مجمع الكرسي القسطنطيني، فكتب الفسيلفس إلى البطريرك المسكوني يقول: «أيها السيد الجزيل القداسة، إن دولتي قد بحثت في الأمر الذي حصل، فوجدت أصل الشر ناشئا من المترجم ومن أرجيروس، أما غرباء الجنس فبما أنهم غرباء ومرسلون من آخرين لا نستطيع أن نعمل معهم شيئا، وأما المسببون فقد ضربوا ثم أرسلناهم إلى قداستك لكي يؤدب بهم آخرون غيرهم؛ حتى لا يرتكبوا مثل هذا الهذيان، أما الورقة فمن بعد حرمها هي والذين أشاروا بها والذين أصدروها والذي كتبوها والذين لهم أقل علم بعملهم إياها؛ فلتحرق أمام الجميع؛ لأن دولتي أمرت أن يحبس الفستارشيس صهر أرجيورس وابنه الفيستياريوس في سجن لكي يقيما في تحت الشدة.» وعندئذ حرم البطريرك المسكوني الصك المذكور والذين كتبوه والذين يوافقون عليه دون أن يمس البابا أو أحدا غيرهم.
وكتب دومنينوس رئيس أساقفة البندقية إلى بطرس بطريرك أنطاكية (1052-1057) يطلب رأيه في ما جرى وأمضى «بطريك إكليئية» أو البندقية، فلما أخذ بطرس كتابه أجابه جوابا لطيفا ولفت نظره إلى الطريقة التي وقع بها إمضاءه فقال: «ما تعلمت ولا سمعت أن رئيس إكليئية يسمى بطريركا؛ لأن النعمة الإلهية دبرت أن يكون في كل العالم خمسة بطاركة، وهم الروماني والقسطنطيني والإسكندري والأنطاكي والأوروشليمي، ومن هؤلاء الخمسة البطريرك الأنطاكي وحده يسمى بطريركا على وجه الحقيقة؛ لأن الروماني والإسكندري يسميان باباوات، والقسطنطيني والأوروشليمي رؤساء أساقفة، أو كيف نستطيع أن نقيم بطريركا سادسا على وجه آخر ما دام الجسد ليست فيه حاسة سادسة.»
27
ثم يقول بطرس البطريرك في رسالته هذه: «إن بطريرك القسطنطينية يعرف - حق المعرفة - أنكم أرثوذكسيون، وتؤمنون مثلنا بالثالوث الأقدس وبسر التجسد، ولكنه متكدر من أنكم تخالفون في مسألة الفطير وحده فلا تقدمون الذبيحة مثل البطاركة الأربعة وكل الكنيسة.»
وكتب البطريرك الأنطاكي إلى بطريرك القسطنطينية موجبا السلام والمحبة «لأن الغربيين هم أيضا إخوتنا وإن كانوا يخطئون أحيانا كثيرة بسبب توحشهم وجهالتهم؛ إذ لا يمكن لأحد أن يطلب عند البربر الكمال الذي عندنا نحن الذين منذ نعومة الأظافر نربى في مطالعة الكتب المقدسة، فيكفيهم أن يحفظوا التعليم القديم في الثالوث القدوس وسر التجسد، أما الشر العظيم المستحق الأناثيما فهو زيادة «والابن» في دستور الإيمان.»
28
نهاية العهد
وتوفي قسطنطين التاسع مونوماخوس بعد هذا بقليل في الحادي عشر من كانون الثاني سنة 1055، فنودي بالعقب الوحيد الباقي من الأسرة المقدونية ثيودورة ابنة قسطنطين الثامن الصغرى، وكانت قد قضت معظم حياتها في الدير فنشأت تقية فظة بقدر ما كانت أختها زوية متيمة بالحب، ورأى البطريرك المسكوني أن تتزوج فتشرك معها في الحكم من كان أهلا لذلك لا سيما وأنها كانت قد ناهزت السبعين، ولكن الخصيان حولها رأوا غير ذلك؛ إبقاء للسلطة في يدهم، وغلب البطريرك على أمره وحكمت ثيودورة وحدها ومارست السلطة، فاستقبلت السفراء، وعنيت بالقوانين ووزعت العدل، وخصت الخصيان بمراتب الدولة العليا فأقصت مستشاري قسطنطين التاسع واكتفت بآراء هؤلاء ونصائحهم، فقاومها العسكريون وأعوانهم وتفاقم الشر.
وفي صيف السنة 1057 أشرفت الفسيلسة على الموت، فهرع الخصيان يستدركون دوام النعمة بتعيين من يركنون إليه قبل وفاة ثيودورة، فصرحت هذه - وهي على فراش الموت - بأنها اتخذت ميخائيل إستراتيوتيكوس
Stratioticus
خليفة لها، وتبنته قبل وفاتها، وماتت في الثلاثين من آب سنة 1057 فاضطر البطريرك أن يتوجه فسيلفسا.
ودام حكم ميخائيل السادس سنة وعشرة أيام، واشتد في أثنائه النزاع بين العسكريين والخصيان، فكان شغل الزعماء العسكريين الشاغل تحقير الفسيلفس ومعاندته، أما هو فقد كان يرد مطالبهم بانتظام، وتفجر الخصام يوم عيد الفصح في الثلاثين من آذار سنة 1058 عندما طالب الزعماء العسكريون بالحقوق المهضومة، فنفر الفسيلفس منهم واشتد في القول، وكانت مؤامرة وكان اصطدام عند نيقية في العشرين من آب سنة 1058، وتدخل البطريرك المسكوني فأرسل وفدا من المطارنة يشيرون على ميخائيل السادس بالتنازل، فسأل الفسيلفس المطارنة: ماذا تعطونني بدل المملكة، فقالوا: نعطيك ملكوت السموات، فرمى شعار الملك وترك البلاط والتجأ إلى الدير، وتوفي بعد ذلك بقليل.
29
ولم يحسن الخصيان السياسة الخارجية فدخلت الدولة في منازعات متعبة مزعجة، ومثال ذلك أن قسطنطين التاسع كان قد حافظ على أواصر الصداقة بينه وبين الخليفة الفاطمي المستنصر؛ ليتسنى له شيء من حرية العمل في جميع جبهات الدولة، فجاءت ثيودورة تستبدل هذه الصداقة بحلف يربط الدولتين، فأبى المستنصر، فمنعت ثيودورة تصدير الحبوب إلى مصر وسوريا، فمنع المستنصر دخول الحجاج إلى المدينة المقدسة وأمر باضطهاد النصارى،
30
وكان طغرل بك قد أصبح زعيم بغداد بلا منازع فتطلب أن يذكر اسمه في خطبة المسجد في القسطنطينية بدلا من اسم الخليفة الفاطمي.
31
فأدى هذا كله إلى التعاون مع هنريكوس الثالث وعقد تحالف بين الإمبراطوريتين.
32
الفصل السادس والعشرون
أسس الدولة ونظمها في القرنين العاشر والحادي عشر
المسيح هو الملك
وتنصرت الحكومة وفاخرت بنصرانيتها واعتزت بها، وأصبح السيد في نظر الحكومة والشعب هو الملك، وأصبح الإنجيل دستور الدولة، فكنت إذا قصدت القصر الملكي وذهبت إليه ماشيا متريثا تقرأ على جدران بعض البنايات العمومية العبارة: «المسيح الفسيلفس» أو «المسيح الإمبراطور»، وقد تسمع - وأنت في طريقك إلى القصر - جماعات يرتلون، فإذا ما اقتربوا منك وجدتهم جنودا حاملين الصليب عاليا هاتفين: «المسيح المنتصر.»
وإذا ما وصلت إلى مداخل القصر وجدت فوق العتبة أيقونة مقدسة تمثل المسيح مرتديا لباس الملوك متوجا، وإذا ما تابعت السير وصرت إلى داخل القصر ظننت أنك في كنيسة لا في قصر ملكي، فمن أيقونة للعذراء والدة الإله حامية العاصمة، إلى ذخيرة تضم عود الصليب، إلى أيقونة عجائبية تمثل السيد مصلوبا كان قد ظفر بها يوحنا جيمسكي في أثناء مروره في بيروت، إلى زاوية مكرمة تحفظ حذاء السيد الذي وجده يوحنا هذا في جبيل، إلى المنديل الذي كان لا يزال يحمل رسم وجه السيد وقد احتفظت به الرها أكثر من تسعة قرون. وقد تقف قليلا متأملا مصليا، فيدخل القاعة رئيس أساقفة تتبعه حاشيته، وقد جاء خصيصا لتكريم هذه الآثار وتجديد تكريس المكان.
وقد تكون أحد أعضاء الوفود العربية المفاوضة في تبادل الأسرى، فيتاح لك الدخول إلى قاعة العرش، فتجد العرش عرشين أحدهما عليه الإنجيل المقدس وهو عرش المسيح الملك، والثاني لنائبه على الأرض الفسيلفس، فإذا قابلت العرش الأول أو مررت من أمامه رسمت شارة الصليب وانحنيت.
وقد تكون أحد القضاة الزائرين فيدفعك اهتمامك بالقضاء إلى الوقوف في المحكمة العليا لاستماع المرافعة وصدور الأحكام فتذكر هناك أيضا بأن الملك للسيد المسيح، فالقوانين والأحكام تستهل «باسم سيدنا يسوع المسيح»، وقد تكون تاجرا فتضطرك الظروف إلى زيارة أحد المصارف لتقبض تحويلا ماليا معينا، فتنقد الدراهم والدنانير فتجد رسم السيد المسيح على أحد الوجهين.
1
الفسيلفس نائب المسيح
ولما كان الملك الحقيقي روحا غير منظور، أصبح الملك الملموس رمز الملك السيد ونائبه على الأرض: ثوبه ثوب الأيقونات، وتاجه وصولجانه مشرفان بالصليب المقدس، ولما كانت ثيابه هذه هبة ربانية حملها الملائكة إلى قسطنطين الكبير؛ أصبح المحل الوحيد اللائق بحفظها هو الكنيسة، وأمسى قصر الفسيلفس من حيث التخطيط وهندسة البناء وتزيين الزوايا والقبب والجدران أشبه بالكنيسة من أي بناء آخر، وأمست أبواب قاعة العرش تفتح وتغلق في أوقات معينة كأبواب الأيقونسطاس في الكنيسة، وقام العرش في حنية تشبه حنية الهيكل، وقضت هذه الصلة بين الفسيلفس وبين السيد الروح غير المنظور أن يظهر الفسيلفس ظهورا على عرشه في الاستقبالات الرسمية دون أي كلام أو تبادل أفكار، وتغرد الطيور الذهبية وتزأر الأسود المصطنعة ويسجد الحاضرون ثلاث سجدات، وما هي إلا لحظة حتى يرتفع الفسيلفس بعرشه نحو السماء فيختفي.
وإذا قضت الظروف بأن يستقبل الفسيلفس في باسيليكة المنيورة جلس على عرشه الذهبي صامتا مسبل الجفنين، فإذا ما رغب في شيء رفع جفنيه ونظر إلى رئيس الخصيان، فتصدر إشارة عن هذا فيتم تنفيذ الأمر الصادر دون كلام، وتنتهي المقابلة عندما يرسم الفسيلفس شارة الصليب فيخرج الزائرون متراجعين خاشعين، وقضت نيابة المسيح على الفسيلفس بأن يشترك مع البطريرك في ممارسة بعض الطقوس الدينية، فيخرج الاثنان إلى الشوارع بسحابة من البخور وموكب كبير، ويركب البطريرك حمارا أبيض ويمتطي الفسيلفس جوادا عربيا، فيزوران في كل يوم جمعة كنيسة السيدة حامية العاصمة، وفي يوم الخميس الكبير يتفقدان العجزة في المآوي فيغسل الفسيلفس أرجل هؤلاء ويقبلها مذكرا بعمل السيد قبل الصلب.
2
ومما جاء في كتاب الأعلاق النفيسة لابن رسته (903) أنه إذا خرج الفسيلفس إلى كنيسة الحكمة الإلهية مشى أمامه «اثنا عشر» بطريقا وحمل هو بيده حقا من ذهب فيه تراب، فإذا مشى خطوتين وقف ونظر إلى التراب وقبله وبكى، وما يزال يسير كذلك حتى ينتهي إلى باب الكنيسة، فيقدم رجل شيخ طشتا وإبريقا من ذهب، فيغسل الفسيلفس يده ويقول لوزيره: إني بريء من دماء الناس كلهم، ويخلع ثيابه التي عليه على وزيره ويأخذ دواة بيلاطس ويجعلها في رقبة الوزير ويقول له: دن بالحق كما دان بيلاطس.
3
وإذا دخل الفسيلفس الكنيسة ليصلي استوى على عرش خاص واعتبر ممسوحا من الله؛ لينوب عن المسيح في الأرض، واستحق التناول بيده من المائدة المقدسة، ولكنه لم يرأس الكنيسة - كما توهم البعض.
وكان على الفسيلفس أن يراعي هذا التقليد في حياته الخاصة أيضا، فكان كلما انتهى من الطعام كسر الخبز وشرب الخمر، وإذا ما جلس إلى المائدة، جلس حواليه اثنا عشر شخصا، وعند كثرة الضيوف كانت تقام اثنتا عشرة مائدة، وفي ليلة عيد الميلاد، كان عليه أن يدعو أفقر الفقراء لتناول الطعام معه، فالكل إخوان في المسيح، وكان يضيء غرفة نومه صليب أخضر وعدد من الكواكب، وكان يطل عليه من فسيفساء الجدران باسيليوس الأول المقدوني وعائلته، في أيديهم الأناجيل!
ولما كان الفسيلفس نائب المسيح على الأرض، كانت إرادته مطلقة وكان الشعب عباده، وكان هو مصدر جميع السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، فهو يعين الوزراء ويعزلهم، ويسن الشرائع ويلغيها، ويوافق على انتخاب البطريرك المسكوني ويعزله إذا شاء، وكانت سلطته - بطبيعة الحال - مسكونية، تشمل العالم بأسره فلا تقف عند حد من الحدود ولا يعترض عليها معترض. وأصبح البطريرك الجالس إلى يمينه الثاني بعده في الدولة بطريركا مسكونيا أيضا له حق التقدم على سائر البطاركة بعد بطريرك رومة.
وضاقت، لا بل تضاءلت صلاحيات مجلس الشيوخ مصدر السلطة في رومة القديمة، فأضحى في هذين القرنين متفرجا يشاهد الحوادث الجسام دون أن يشترك فيها، وأمسى الشعب بعيدا عن المشاورة، وبات الزرق والخضر في جملة المتفرجين، لا مجالس لهم ولا صلاحيات، واستبدلوا أهازيج القتال بتراتيل الصلاة، يأتمرون بإشارة الموسيقار بدلا من سيف القائد المغوار.
البطريرك المسكوني
وجارت الكنيسة الدولة في نظمها وأحكامها، فكانت كنيسة واحدة جامعة كما كانت الإمبراطورية واحدة جامعة، وكما جاز للإمبراطورية أن يكون لها إمبراطوران في آن واحد، كذلك جاز للكنيسة أن تخضع لأكثر من رأس واحد،
4
وتقبل المجمع المسكوني الثاني (381) هذه النظرية فأوجب في قانونه الثاني على الأساقفة ألا يتعدى أحدهم على الكنائس التي تقع خارج حدود أبرشيته، وأقر في قانونه الثالث أن يكون التقدم في الكرامة لأسقف القسطنطينية بعد أسقف رومة «لكونها رومة الجديدة»،
5
ثم أقر المجمع المسكوني الرابع في قانونه الثامن والعشرين هذا التقدم في الكرامة لبطريرك القسطنطينية بعد بطريرك رومة،
6
وجاء يوستنيانوس الكبير يشترع فتعرف إلى بطاركة خمسة في إمبراطوريته: بطاركة رومة والقسطنطينية والإسكندرية وأنطاكية وأوروشليم، واعتبرهم أساس النظام والسلطة في الكنيسة.
7
وكان هذا البطريرك في بادئ الأمر ينتخب انتخابا، وكان الشعب يشاطر الإكليروس حق الانتخاب، ثم قضى قانون يوستنيانوس الكبير بأن ينتخب الإكليروس ووجهاء العاصمة ثلاثة، فينتقي الأسقف المشرطن أفضل هؤلاء للسدة البطريركية،
8
ثم حرم المجمعان المسكونيان النيقاوي (787) والقسطنطيني (870) سيامة بطريرك ينفرد أمير بانتقائه، كما حرما تدخل الشعب في الانتخاب، وأصبح انتخاب البطريرك بعد هذا محصورا في مطارنة الكرسي، وجاء في كتاب التشريفات لقسطنطين السابع (912-959) أن المطارنة ينتخبون ثلاثة ينتقي الفسيلفس أحدهم، وبقي الحال على هذا المنوال حتى آخر أيام الإمبراطورية: المجمع ينتخب والفسيلفس يرقي.
9
وبعد هذا كان الفسيلفس يدعو أعضاء مجلس الشيوخ والمطارنة وعددا كبيرا من رجال الإكليروس إلى القصر؛ ليقول: «إن النعمة الإلهية وقدرتنا المستمدة منها تعلنان ترقية فلان إلى رتبة بطريرك القسطنطينية.» ويظهر البطريرك ليتقبل تهاني الشيوخ والمطارنة، ثم يصار إلى رسامته بطريركا في الأحد التالي في كنيسة الحكمة الإلهية، فيترأس حفلة الرسامة رئيس أساقفة هرقلية، ويقدم له الفسيلفس العكاز والمنذية الأرجوانية والصليب،
10
ويدعى بعد هذا صاحب القداسة ويخاطبه المطارنة بالعبارة: «أيها السيد الفائق القداسة.» ويوقع هكذا : «بنعمة الله رئيس أساقفة القسطنطينية رومة الجديدة وبطريرك المسكونة.»
11
وقد سبق وأشرنا أن لقب بطريرك المسكونة ظهر في شرائع يوستنيانوس، وأن رومة لم تعترض عليه قبل أيام البابا بلاجيوس الثاني وغريغوريوس الكبير، وأن المجمع السادس أقره على الرغم من اعتراض رومة واحتجاجها.
12
وكان البطريرك بموجب نص الأباناغوغ (884-886) صورة المسيح على الأرض وراعي نفوس المؤمنين وحامي العقيدة، وكان أيضا صاحب السلطة الروحية العليا؛ ولذا أحيط بهالة من الاحترام، لا تمس كرامته ولا يعتدى عليه. ولما كانت الدولة والكنيسة متحدتين متفقتين، كان للمقام البطريركي نفوذ كبير في شئون الدولة، فأصبح لزاما عليه إذن أن يعاون الفسيلفس في إدارة دفة الأمور، فكانت الأوامر العليا والبيانات تصدر، في بعض الظروف الهامة، باسم الاثنين معا.
ولا يغيب عن البال أنه كان على الفسيلفس أن يتسلم تاجه من يد البطريرك وفي الكنيسة وأن يعلن موقفه من بعض الشئون الهامة إلى البطريرك قبل التتويج، وكان لا يتم تتويج بدونه؛ لأن الفسيلفس الحقيقي كان في عرف الشعب المسيح نفسه - كما سبق أن أشرنا - وكان للبطريرك على الفسيلفس سلطة روحية؛ فهو عراب الأمراء أبناء الفسيلفس، وهو الذي يعلن شرعية ولادتهم، وهو الذي يعقد زواج الفسيلفس والأمراء.
13
الفسيلفس والكنيسة
وقال الروم بأن الدولة والكنيسة شخص واحد، يديره الفسيلفس والبطريرك، وأن الأول يتسلط على الجسم والثاني على الروح، وأنه لا دولة بدون كنيسة ولا كنيسة بدون دولة،
14
ولا يخفى أن الآباء الأولين رأوا في شخص قسطنطين الكبير الداعي الأكبر للنصرانية فمنحوه لقب المساوي للرسل
Isapostolos
وأن أحدا من خلفائه المسيحيين لم يتنازل عن هذه المنحة وأن أساقفة المجامع المسكونية نادوا مرارا بالفسيلفس حبرا أعظم
لأنهم رأوا فيه ابنا روحيا أعلى وأكبر من المؤمنين العاديين، ومن هنا - في الأرجح - نشأت هذه الامتيازات الروحية التي تمتع بها ملوك الروم في داخل الكنيسة، كمنح ولي العهد إكليل الإكليروس، والسماح للفسيلفس بالدفاع في أثناء مسحه فسيلفسا كأنه شماس، ودخوله إلى الهيكل من الباب الملوكي وتناوله الذبيحة بيده عن المائدة.
15
وأدى هذا التمسك الشديد بالنصرانية والتعصب لها إلى انقسامات وتحزبات آلت في بعض الأحيان إلى العنف والإخلال بالأمن، واضطر الفسيلفس أن يتخذ موقفا معينا من بعض العقائد الدينية، فكان يلجأ عادة إلى دعوة المجامع المحلية والمسكونية، فيرعاها بعنايته وينفذ مقرراتها، وكان في بعض الأحيان يفرض الحل فرضا، فإما أن يؤيد هذا الفريق أو ذاك أو أن يقترح حلا لا يرضي هذا أو ذاك كما فعل هرقل عندما اقترح القول بالمشيئة الواحدة.
16
وكان على الفسيلفس أيضا أن يتدخل في شئون الكنيسة؛ للمحافظة على نظامها، وتنفيذ قرارات مجامعها وأصحاب السلطة فيها، فقضى أحد قوانين يوستنيانوس الكبير (535) بأن يحافظ على شرف الكهنوت، فيقول كلمته في انتقاء الكهنة والأساقفة،
17
وقال بعض كبار رجال الناموس بوجوب ترؤس الفسيلفس للمجامع ووجوب إشرافه على تنفيذ مقرراتها وتدخله لضبط سلوك الكهنة وللتثبت من صحة أحكام الأساقفة.
18
وكان للفسيلفس أيضا أن يتدخل، فيقرر بعض الأعياد الكنائسية الرسمية؛ فيوستينوس الأول (518-527) هو الذي عمم الاحتفال بعيد الميلاد في الخامس والعشرين من كانون الأول، ويوستنيانوس الكبير هو الذي ثبت عيد دخول المسيح إلى الهيكل في الثاني من شباط،
19
وموريقيوس (582-602) هو الذي قرر الخامس عشر من آب عيدا لانتقال العذراء،
20
ويعود الفضل في الاحتفاء بعيد النبي إلياس في العشرين من تموز إلى باسيليوس الأول (867-886) فإنه كان شديد التعلق به والتوسل إليه،
21
وفي السنة 1166 تدخل الفسيلفس عمانوئيل كومنينوس، فجعل الأعياد الكنائسية أنواعا، منها ما تجب البطالة فيه طوال النهار، ومنها ما تنتهي البطالة فيه عند الانتهاء من خدمة القداس.
22
الإنجيل دستور الدولة
وقضت هذه الفلسفة الدينية السياسية بأن يعترف بقدسية الإنجيل الطاهر ووجوب تطبيق أحكامه، فأصبحت دولة الروم ديموقراطية في تساوي أبنائها، مطلقة مستبدة في تنفيذ مبادئ الإنجيل وأحكامه، فلم يبق فيها أي تفوق نظري لطبقة على سواها، وأصبح بإمكان أوضع الرجال أن يتسنم أعلى المراتب، أولم يكن لاوون الأول لحاما، ويوستينوس الأول راعيا للخنازير، وفوقاس قائد مائة، ولاوون الثالث شحاذا متسولا، وباسيليوس الأول فلاحا، ورومانوس ليكابينوس أفاقا؟ أولم ينعت قسطنطين الخامس بالزبلي، وميخائيل الثالث بالسكير، وميخائيل الخامس بالقلفاط؛ أي نقال البضائع؟ والفسيلسات ألم تكن إحداهن خزرية، وأخرى مغنية، وغيرها مروضة للدببة، أو عمومية؟ أولم يكن عدد كبير منهن بنات موظفين عاديين؟
وترفع الفسيلفس، عملا بتعاليم الإنجيل، عن الشموخ والتكبر، فدعا إلى مائدته البؤساء والمتشردين، وفتح بابه لجميع الرعايا من عباد الله يلجونه أنى شاءوا.
ومما يروى عن ثيوفيلوس الفسيلفس أنه خرج في يوم أحد من الآحاد في موكب رسمي ممتطيا جوادا، فاعترضت سبيله بائعة سمك وأمسكت بمقود الجواد وقالت: «هو لي وقد صادره أحد عمالك فأعده إلي.» فنزل ثيوفيلوس عن ظهر الجواد وقدمه لها، وتابع سيره مشيا على الأقدام! وشخص أمامه في الملعب مهرجان وهز كل منهما قاربا صغيرا بيده، وقال أحدهما للآخر: أبلعني هذا القارب، فقال الآخر: أبدا لا يمكنني ذلك، فقال الأول: وكيف؟ أولم يبلع مدبر القصر مركبا بكامله محملا بضائع؟ فأدرك الفسيلفس معنى التلميح واستدعى المدعى عليه وقابله بالمدعيين، وظهر له الحق، فأمر بحرق الجاني ببزته الرسمية في الهيبوذروم.
واشتدت عناية الفسيلفس والبطريرك وغيرهما بالمرضى والمصابين والعجز، فكثرت المآوي والمياتم ولا سيما المستشفيات، فأنشأ ألكسيوس كومنينوس (1081-1118) مؤسسة خيرية اشتملت على ميتم ومأوى للعميان، ومستشفيات متنقلة للجيش، وآوت في وقت من أوقاتها سبعة آلاف شخص، وأشهر هذه المؤسسات دير الإله القوي
الذي أنشأه يوحنا كومنينوس (1118-1143) في عاصمة ملكه، وفيه مستشفى للرجال، وآخر للنساء، وثالث للأمراض المعدية، وقد خص كل مريض بغرفة مؤثثة بسرير نظيف وفراش ووسادة ولحاف ومشط وإسفنجة ومغطس وسطل ومناشف أربع وقميص، وبمبلغ من المال يوم عيد الفصح يتمكن به المريض من شراء ما يلزمه من الصابون، وكان يمر المفتشون في كل صباح على المرضى يصغون لتذمراتهم ويسألونهم عن الطعام، وكان بين وسائل الراحة طريقة خاصة للتدفئة، وكان يؤم المستشفى لمعالجة المرضة طبيب أستاذ ورهط من طلبة الطب وعقاقيري، وكان يفاخر الأستاذ الطبيب بطريقته الخاصة في تنظيف أدوات الجراحة وتطهيرها.
23
وساوت نصرانية الدولة بين الرجل والمرأة، فكان للنساء شأن كبير في الحياة الاجتماعية ولا سيما بعد الزواج، وشاطرن أزواجهن السلطة في كثير من الأحيان، ولم يتناول الطعام ذيجانس أكريتاس قبل حضور والدته، وقاسى تورمارخوس بزية نقدا شديدا واعتبر مسيحيا مقصرا؛ لأنه حبس زوجته في خدر الحريم يوم الاستقبال، وتكنى الأولاد - في بعض الأحيان - بأمهاتهم، فعائلة دلسانة تحدرت من أب اسمه شارون، ولكن والدتهم حنة دلسانة فاقت زوجها شهرة واحتراما.
ومن هنا هذه الصعوبة التي يعانيها العلماء عندما يعنون بالأنساب البيزنطية، وقضى العرف بأن يتظاهر الوالد بمشاركة الأم بأوجاع الولادة، إن هو رغب في أن يسيطر على المولود فيما بعد!
24
وأهم من هذا وذاك في التدليل على تحرر المرأة عند الروم، حقوق الفسيلسة زوجة الفسيلفس؛ فإنها شاركت زوجها حق السيادة والسلطة ونيابة المسيح على الأرض، وسبقته إلى تقبل طاعة الشعب وولائه، فالسجود وتعفير الرءوس بالتراب وتقديم الأعلام كانت لها وحدها قبل أن تكون للفسيلفس، وكان الشعب لدى خروجها من الكنيسة يهتف لها وحدها: «أهلا بالأوغسطة المنتقاة من الله، أهلا بالأوغسطة المحمية من الله، أهلا بلابسة الأرجوان، أهلا بمحبوبة الكل.» وقضى العرف بأن تشترك في جميع المآدب وجميع الحفلات في القصر، وأن تطل على الشعب في الحفلات العمومية.
وكانت لها موازنة خاصة تتصرف بها كيف تشاء ودون استئذان الفسيلفس، ومما يروى من هذا القبيل أن ثيوفيلوس الفسيلفس رأى يوما من نافذة القصر مركبا تجاريا فخما يدخل الميناء، فهب لساعته إلى المرفأ ليتفرج على السفينة، ولدى وصوله إليه سأل عن صاحبها فقيل له هي الفسيلسة! وكانت هذه السفينة محملة بضائع ثمينة استقدمتها الفسيلسة للاتجار بها.
وأبهج وأغرب وأدل على مكانة الفسيلسة وحريتها واستقلالها أن ثيودورة زوجة يوستنيانوس الكبير كانت تميل إلى القول بالطبيعة الواحدة فأجلست على كرسي القسطنطينية أنثيميوس الشهير، ثم قضت الظروف السياسية بعزله ونفيه فاختفى، وبعد التفتيش الدقيق عنه ظن أنه توفي، وبعد اثنتي عشرة سنة توفيت ثيودورة، ودخل يوستنيانوس إلى خدرها فالتقى البطريرك المعزول في خدر زوجته حيا صحيحا،
25
وتوفي زينون الفسيلفس، فلم تبكه أرملته في خدرها بل انتقلت فورا إلى القصر، ثم إلى الهيبوذروم وقامت تخطب في الشعب، فقالت: إن مجلس الشيوخ والمجلس الملكي الأعلى سيجتمعان برئاستها للنظر في الولاية، وسيتعاونان مع الجيش لانتقاء خلف صالح، ثم عادت إلى الخطابة فقالت إنها ستعنى هي بذلك! فهتف الشعب موافقا مؤكدا أنها هي صاحبة السيادة والإمبراطورية.
26
والواقع هو أن هذه الديموقراطية البيزنطية لم تكن في أي وقت من الأوقات وليدة نضح سياسي أو فلسفي، ولكنها تأتت بطبيعة الحال عن تقبل الإنجيل واتخاذه دستورا للدولة، فالدافع نفسه الذي جعل من الفسيلفس نائبا للمسيح على الأرض أدى إلى السعي لجعل المجتمع الأرضي مماثلا بقدر المستطاع للمجتمع الرباني، ومن هنا أيضا هذه القسوة في العقوبات: في قطع يدي التاجر المزور، وزج الخباز الذي تقاضى أكثر مما سمح به القانون في الفرن نفسه الذي كان يخبز فيه عجينه، وحرق المدبر المرتشي حيا في الهيبوذروم، فالقانون إلهي في مصدره والخروج عليه خطيئة تستوجب نار جهنم!
الدولة ومن لا يدينون بالنصرانية
وهؤلاء واحد من اثنين: إما يهودي يصر على تهوده فيستحق الإذلال والتضييق، أو غير يهودي يجب اجتذابه وهديه، وكان اليهود قلة لا يتجاوز عددهم الخمسة عشر ألفا، ولم يكونوا من طبقة الأغنياء، ولكنهم كانوا مصرين على تهودهم مستمسكين به، فاعتبرهم الروم أحفاد أولئك الذين صلبوا السيد واضطهدوا الرسل والآباء والشهداء، فحجبوا عنهم الثقة وأنزلوا بهم ألوانا من الذل والهوان، فلم تسمع لهم دعوى أو شهادة على مسيحي، ولم يقبلوا في وظائف الدولة، وحرم عليهم الاتجار بالرقيق، وتملك الأراضي المقدسة، ودخول الحمامات العمومية، ووجبت عليهم ضريبة خاصة، دفعوها صاغرين، وحرم على أطبائهم ركوب الخيل وختن الأطفال النصارى، واستحقوا الموت إن فعلوا، ومن تنصر منهم ثم ارتد ارتكب جرما كبيرا.
27
وأما التجار والأسرى من المسلمين المقيمين في هذه الدولة المسيحية؛ فإنهم كانوا أحرارا طلقاء يتمتعون بقسط وافر من الحقوق المدنية والاجتماعية، وكان لهم في عاصمة الدولة مسجد يقيمون فيه الصلاة كأنهم في بلادهم، وكان شغل الروم الشاغل إقناع هؤلاء بتقبل الدين المسيحي؛ فالسلطات صارحت أمير أقريطش الأسير أنه إذا تنصر أصبح فور تنصره عضوا في مجلس الشيوخ، ولكنه لم يفعل، وقبل ابنه النصرانية فرقي المراتب العسكرية بسرعة، وقاد الروم إلى النصر أكثر من مرة.
الإدارة
وبقيت الإدارة المركزية رومانية لاتينية في جوهرها وألقابها حتى نهاية القرن السادس، فكان يحيط بالإمبراطور الشرقي عدد قليل من كبار الموظفين يحملون ألقاب الرومانيين القدماء ، ثم تمشرقت الدولة فكثرت الوظائف وكثر عدد الكبار في الدولة وقلت صلاحياتهم وصغرت أدوارهم وأمست ألقابهم يونانية.
وأصبح عظماء الدولة في القرنين العاشر والحادي عشر القيصر والشريف
Nobilissimus ، ومارشال القصر
Curopalates ، وجاء بعد هؤلاء أفراد الأسرة المالكة كل بلقبه، ثم ثمانية من كبار الخصيان يتزعمهم الحاجب الأعظم
، وأدار دفة الحكم خارج القصر أربعة وزراء حمل كل منهم لقب لوغوثيت
Logothetes ، وكان أعظم هؤلاء لوغوثيت الذروموس وبيده الأمور الداخلية والخارجية، وكان يدعى اللوغوثيت الأعظم، وجاء بعده لوغوثيت المالية، ولوغوثيت الجيش، فلوغوثيت الخاصة الملكية، وكان هنالك محاسب عام يدعى السكيلاريوس
Sakillarios
ووزير عدل يحمل اللقب اللاتيني القديم الكوايستور
Quaestor ، وخضع الجنود للذوميستيكوس الأعظم
Domesticus ، والبحارة للذرونغار الأعظم
Drungarius ، وكان يرئس حكومة العاصمة أبارخوس
Eparchus ، ويدير كل ثيمة من الثيمات الثلاثين استراتيجوس عسكري
Strategos .
28
الأحزاب السياسية
واختلفت الآراء في لاهوت السيد وناسوته وفي العذراء وتباينت، فانقسم رجال الدين والشعب أحزابا وتخاصموا؛ فمنهم من قال بخلق الابن في الثالوث، ومنهم من قال بمساواته للآب في الجوهر، ومنهم من قال بالطبيعة الواحدة، ومنهم من قال بالطبيعتين، ومنهم من قال بالمشيئة الواحدة، ومنهم من قال بالمشيئتين، ومنهم من كرم الأيقونات، ومنهم من حرمها، وما إلى ذلك من اختلافات لاهوتية نشأت عن هذه المحاولة الأساسية لجعل الدولة تتفق - قدر المستطاع - والوضع الذي يريده لها السيد المخلص ملكها وراعيها.
وهكذا، فإنك كنت ترى وتسمع الجدل في اللاهوت أنى وجدت، إن في الحانات والخمارات، أو في الملاهي والملاعب، أو في المشاغل والمصانع، أو في القصور والمجالس، أو في الأديرة والكنائس؛ فالبيزنطي لم يكن ذاك التقي الضجور، الذي لا يرى في هذه الدنيا إلا حياة فانية يتبرم بطولها وينتظر نهايتها للتخلص من متاعبها ومشكلاتها، وإنما كان تقيا متحمسا مندفعا في سبيل تطبيق الدين القويم قدر المستطاع ليرث ملكوت السماوات.
نزاع الطبقات
والغريب المستغرب ألا يكون هذا الاستمساك الشديد بالإنجيل قد أثر في نفوس الأفراد؛ فهذه الدولة المسيحية المتطرفة في مسيحيتها عانت نزاعا شديدا وغيظا متطايرا وحقدا ضغونا بين الفقراء والأغنياء، ولم يدر هذا النزاع - كما هي الحالة بيننا اليوم - على مثال أعلى يعترف بصحته الطرفان ويحاول كل منهما أن يقنع الآخر بأن الوصول إليه هو عن هذه الطريق لا تلك، وإنما كان نزاعا فجا حاول فيه القوي أن يبتلع الضعيف ابتلاعا.
ولم يقم هذا النزاع في المصانع وبين المداخن، وإنما دارت رحاه في الحقول الباسمة والمراعي الضاحكة في الريف لا في المدن، فالمزارع الصغير كان يقاسي الأمرين من الحروب الطاحنة والغزوات الخاربة والضرائب الفادحة والوسائل الزراعية الغاشمة، وكان جاره الكبير الطامع كبيرا في المال والجاه والنفوذ، ومما زاد في الطين بلة أن العرف السياسي في الدولة قضى بأن يتربع المزارع الكبير على كراسي الحكم، وأن يسعى كل موظف كبير إلى استملاك الأراضي.
وأدى هذا التكالب على المراعي والمزارع إلى الغش والخداع، فقد يعرض مزارع كبير على جار فقير استكراء أرضه لقاء مبلغ معين من المال يغريه به، فيقبل الفقير وتتم الصفقة ثم يمتنع المزارع الكبير عن الدفع فيلجأ الفقير إلى القضاء، فيمتطي الكبير جواده ويهدد ويعربد ويستخف بادعاء جاره ويؤكد أن الملك له وأن مثله لا يلجأ إلى فقير يستكري أرضه، وإذا اضطر ابتاع ضمير القاضي.
وقد تمحل المواسم فيدس هذا الطامع الكبير عملاءه بين جيرانه الفقراء؛ يزينون لهم بيع أملاكهم، فيبيعونها بأبخس الأثمان. وقد يشرف فقير ضعيف على الموت ولا وريث له، فيطل عليه أحد أخصاء جاره الكبير يسأل عنه ويقدم له المعونة والهدايا ثم ينصح له أن يتبنى جاره الغني العظيم، فتأخذ الفقير العاطفة وتعتريه موجة من الكبرياء فيرضى، وقد يلجأ الكبير القوي إلى الاحتيال، فيحيط هذا المريض المحتضر برجاله فيشهدون لدى وفاته بأنه أوصى بممتلكاته إلى جاره الكبير، وكان القانون البيزنطي يجيز الوصية أمام شهود ثلاثة.
وقد يستهوي الكبير الطامع جابي الضرائب فينقده شيئا من النقد ليتطلب من فريسة أخرى أكثر بكثير مما يجب، فيقضي على معنويات هذا المزارع الفقير، ويمهد الطريق لجاره الغني القوي؛ كي يستولي على أملاكه.
ولا نجد كبار الرهبان أقل جشعا من هؤلاء المزارعين الأقوياء؛ فإنهم رغبوا في الدنيا بقدر ما كان يجب عليهم أن يزهدوا فيها، وتعدوا على حقوق الجيران الفقراء فوسعوا حدود الأوقاف على حسابهم واستولوا في بعض الأحيان على المواشي وعلى الخيل والجمال، وعاشوا عيشة هناء ورخاء، ودعوا لرهبانياتهم فتزايد عدد الرهبان تزايدا مخيفا، فأفرغوا الحقول من اليد العاملة وقطعوا عن صندوق الخزينة العامة دخلا كبيرا.
وتضاءلت الطبقة المتوسطة في الأرياف، وازداد الأقوياء قوة والضعفاء ضعفا، وقلت الثقة بالحكومة، وأفظع ما هنالك أن نجاح الأقوياء في ابتلاع الضعفاء المدنيين شجع أولئك على مد الأيدي إلى مزارع العسكريين الذين كانوا قد أقطعوا الأراضي ليعيشوا منها ويتسلحوا بمدخولها.
وهبت الحكومة المركزية تعالج هذه المشكلات، فمنعت الكبار - بادئ ذي بدء - من الاستفادة من ديون هي موضع جدل وخصام بينهم وبين الصغار، ومنعت هؤلاء عن وضع شعائر الكبار على أبواب بيوتهم ما دامت هذه البيوت أو الحقول موضع خصام بينهم وبين كبير قوي، وأصدرت الحكومة في القرن التاسع - كما سبق وأشرنا في حينه - قوانين ثلاثة، منعت بموجبها انتقال الملكية من ضعيف إلى قوي بالتبني أو الهبة أو الوصية، كما حرمت بيع أملاك الضعفاء وتأجيرها. وألغت كذلك مفعول مرور الزمن في جميع هذه الحالات، فجمدت بذلك كل علاقة من هذا النوع بين الفريقين.
29
وعلى الرغم من هذا كله، فإن هؤلاء الكبار
Dunatoi
ما فتئوا يطاردون الصغار
حتى فسخوا الدولة تفسيخا وقضوا على معنوياتها ودفاعها.
الدولة ورجال الصناعة
وفي الوقت الذي كان فيه الفلاح الصغير يعاني هذه المتاعب والمصاعب، كان الصانع في المدن منهمكا في أشغاله ميسورا، فدولة الروم لم تعرف عهدا في تاريخها زهت فيه الصناعة والتجارة زهوهما في هذين القرنين، ولم تكن القسطنطينية في أي وقت من أوقاتها أكثر نتاجا وأوفر ربحا، وأصبحت بوفرة مالها وحذق صناعها أم المال والذهب والفن والعجائب للعالم أجمع، وقصدها أمهر الصناع وأطمع التجار من سواحل البلطيق حتى الأسود والأدرياتيكي، ومن أرمينية والقوقاس حتى إسبانية والبرتغال، وتمنى بذخها وثروتها أمراء الأقطاع في الغرب المسيحي وأسياد السياسة في الشرق الإسلامي.
ويستدل من وثيقة ترقى إلى عهد لاوون السادس سماها رجال الاختصاص «كتاب البرايفكتوس» (حاكم العاصمة) أنه علاوة على البقالين واللحامين والخبازين، والبنائين والنحاتين والرخامين، والنجارين والحدادين والخياطين والرسامين؛ كان هنالك طبقة من التجار والصناع يعنون بنسج الحرير وصبغه وتزيينه بالرسوم وبالفضة والذهب، وأن هؤلاء أدهشوا العالم بدقة صنعهم ومهارتهم، فجمعوا أموالا طائلة، وجعلوا من القسطنطينية، ومن ثيسالونيكية وثيبة وكورونثوس وبتراس، قبلة أنظار أهل البذخ والترف في الشرق وفي الغرب معا. ويستدل من هذه الوثيقة أيضا أن صناعة الروائح الطيبة لم تقل شأنا عن صناعة الحرير، وأن رجالها توصلوا إلى درجة من الرقي مكنتهم من بسط بضاعتهم في كنف القصر نفسه «وأن روائحهم الطيبة التي تصاعدت كالبخور إلى أيقونة المسيح فوق باب خلقة عطرت جو هذا المدخل الفخم.»
30
ولمست الحكومة أهمية هذه الصناعات؛ فضبطت أحوالها وأخفت أسرارها، وراقبتها مراقبة شديدة، فحددت مدى اختصاص كل حرفة، وعينت شروط الانتماء إليها، وحددت عدد الصناع فيها، ونوع النتاج وكميته، ومقدار الأجور، ودققت في قيودها وحساباتها وموازينها، ونهت عن الغش في الصنع وأنزلت بالمرتكب عقابا صارما، ثم حمت هذه الصناعات من مزاحمة الأجانب فحددت الاستيراد، أو منعته - كما جاء في كتاب البرايفكتوس عن صابون مرسيلية.
الفصل السابع والعشرون
الآداب والفنون في عهد الأسرة المقدونية
مميزات آداب هذا العصر
وكان قد انسلخ عن الدولة عدد من العناصر غير اليونانية ومعظم من خرج على تعاليم المجامع المسكونية، فطغت اليونانية بعنصرها ولغتها وفكرها وبدت الدولة متجانسة أكثر بكثير من ذي قبل، ونزع القوم إلى لغة الأجداد وعلومها وآدابها، فتميز هذا العصر بالعودة إلى المخلفات الهلينية الكلاسيكية، فكانت يقظة في عالم الفكر والفن أدت بنتائجها إلى عصر اليقظة والنهضة في إيطالية فسائر أنحاء أوروبة، وفاخر أدباء القسطنطينية بمجموعاتهم الأدبية واستنسخوا المراجع الكلاسيكية اليونانية الكبرى وتباحثوا فيها، كما يستدل من مصنف البطريرك فوطيوس العظيم ال
Myriobiblion
وقد سبقت الإشارة إليه فلتراجع في محلها، وعرف جميع المثقفين هوميروس وبنذار وأرستوفانس وأفلاطون وأرسطو وبلوتارخوس وليبانيوس وثيوقيذيذس وبوليبيوس وغيرهم. وأصبحت الآداب اليونانية الكلاسيكية، نحوها وبيانها ونصوصها، أساس التهذيب البيزنطي، وأعيدت جامعة القسطنطينية إلى سابق عهدها وزهت مدرسة الحقوق فيها، وقام عدد من كبار الأطباء يبحثون كسلفائهم من قبل.
ومن مميزات هذه النهضة الفكرية الأدبية أن رجالها آثروا الإحاطة في المقام الأول، فمالوا نحو التوسع والموسوعات، وهي خطوة لازمة لكل نهضة في بدء عهدها، ومن هنا مجموعات القرن العاشر في القانون، ومن هنا أيضا مجموعة الإكسربتة
Excerpta
التي أشار بتصنيفها قسطنطين السابع خدمة للتاريخ والمؤرخين، فجاءت في ثلاثة وخمسين كتابا، وأعيد النظر في كل ما سبق تأليفه في العصور الغابرة؛ لاستخلاص النافع منه في الحياة العملية، فظهرت رسالة السفراء، ورسالة الفضائل والرذائل، ورسالة التآمر، ورسالة الفتوحات، وصنفت رسالة في الزراعة
Geoponica ، وفي الطب
Iatrica ،
1
ومما تجب ملاحظته في هذا الباب أنه قام في هذا العهد، بالإضافة إلى هؤلاء المنقبين عن الماضي الناقلين عن غيرهم، عدد من العلماء الباحثين المجددين، وفي طليعة هؤلاء البطريرك فوطيوس، والأستاذ المربي ميخائيل بسلوس، فالأول أضاف إلى ما تحلى به من سعة اطلاع وتفوق في الإنشاء جرأة لا بل جسارة في التفكير الحر المستقل، يغبطه عليها كل من اطلع على رسائله، والثاني كان ألمع أهل زمانه وأشدهم رغبة في الاطلاع وأكثرهم تجددا.
2
ومما تجب إعادته هنا هو عطف لاوون السادس «الحكيم» على معلمه البطريرك فوطيوس وحمايته لعلمه وتفكيره واستعداده لتشجيع جميع العلماء، وقد قيل إن القصر في عهده تحول إلى معهد علمي،
3
وجاء قسطنطين السابع فألف وشجع غيره على التأليف.
المؤلفون والمؤلفات
وأهم مؤلفات قسطنطين السابع سيرة جده باسيليوس الأول وإرشاداته في إدارة الدولة وقد دونها خصيصا لابنه ووريثه، ورسالته في الثيمات، وكتابه في التشريفات، ووصفه لكيفية نقل المنديل المقدس من الرها إلى القسطنطينية.
وبين المؤلفين الذين كتبوا في ظل قسطنطين السابع: يوسف غناسيوس
Genesius
الذي دون أخبار لاوون الخامس ولاوون السادس (813-886)، وبين الموسوعات التي أعدت في كنف هذا الفسيلفس: أخبار القديسين لسمعان متافراستس
Metaphrastes ، وقاموس سويداس
Suidas ، وهو مؤلف نفيس كثير الفائدة يبين معاني المفردات وأسماء الأشخاص والأشياء.
4
وفي طليعة رجال العلم في القرن العاشر البطريرك نيقولاووس ميستيكوس؛ فقد خلف مائة وخمسين رسالة وجهها إلى أمير أقريطش العربي، وسمعان البلغاري، ورومانوس ليكابينوس، وعدد من الباباوات والأساقفة والرهبان. ومما جاء في رسالته إلى أمير أقريطش قوله: «الروم والعرب أعظم قوتين في العالم يعلوان ويتألقان كالشمس والقمر في السماء؛ ولذا يجب أن نعيش إخوة على الرغم من اختلافنا في الطبائع والعادات والدين.»
وعاصر باسيليوس الثاني لاوون الشماس، وشاهد حوادث الحرب البلغارية، فكتب عشرة كتب في حوادث السنوات (959-975)، وذكر أشياء عن الحرب العربية. وآثاره مفيدة جدا لتاريخ نيقيفوروس فوقاس ويوحنا جيمسكي؛ لأنه المرجع اليوناني المعاصر الوحيد، ومن أشهر مؤرخي القرن العاشر مؤلفان مجهولان، أحدهما أكمل تاريخ ثيوفانس والآخر ذيل تاريخ هامارتولوس،
5
وبين هؤلاء أيضا لاوون النحوي وسمعان الماييستر واللوغوثيت.
6
وقارب القرن العاشر النهاية، وتعددت الحروب ورافقها نصر مبين، فتغنى الناس بالحرب وتضاءلت عنايتهم بالعلم، ومن هنا قول حنة كومنينة في القرن الثاني عشر: إن معظم الناس أعرضوا عن العلم في الفترة بين عهد باسيليوس الثاني وعهد قسطنطين مونوماخوس، وإنه لم يبق من يعنى به سوى أفراد قلائل، سهروا الليالي في طلب المعرفة على ضوء القناديل.
7
وفي منتصف القرن الحادي عشر عاد بعض كبار العلماء وفي طليعتهم ميخائيل بسلوس إلى المطالبة بتشجيع العلم والعطف عليه، فكان لكلامهم وقع في نفس الفسيلفس قسطنطين مونوماخوس فوعد خيرا، فانقسموا فئتين، فئة تطالب بإنشاء مدرسة للفلسفة بزعامة بسلوس نفسه، وفئة تطالب بمدرسة للحقوق، واشتد الجدل في هذا الموضوع ووصل إلى الشارع، فحقق الفسيلفس طلبتهم في السنة 1045 بإنشاء مدرسة للحقوق ومدرسة للفلسفة.
8
واشتهر ميخائيل بسلوس برسائله وبمؤلفاته في اللاهوت والفلسفة ولا سيما فلسفة أفلاطون، وفي العلوم الطبيعية، وفقه اللغة، والتاريخ، ويعتبر تاريخه أفضل المراجع لتاريخ القرن الحادي عشر.
9
ويرى رجال الاختصاص أن القصائد الحماسية والأهازيج الشعبية تطورت تطورا سريعا في العصر المقدوني، فتألقت بانتصارات الأسرة المقدونية واعتزت بعزها، وهم يرون أيضا أن القتال المتواصل في الجبهات الشرقية الجنوبية فسح في المجال للمغامرات الحربية وللبسالة الفردية، فهز الشعراء ورجال الزجل هزا ودفع بهم إلى النظم والمفاخرة، وأشهر ما ينسب إلى هذه الفترة ملحمة باسيليوس ديجينس أكريتس ، وديجينس
digenes
لفظ يوناني معناه المولود من شعبين، فوالد باسيليوس كان عربيا مسلما وأمه رومية مسيحية، وأكريتس
akrites
لفظ يوناني أيضا معناه الذي ينتسب إلى حدود الدولة، وباسيليوس هذا قضى معظم حياته في مناطق الحدود محاربا العرب مغامرا منتصرا، وقد حفظت لنا ملحمته دوافع القتال والاستماتة (فهي في نظره الدفاع عن الأرثوذكسية وعن الروم)، كما خلدت صورا رائعة لقلاع أسياد البر وقصورهم في آسية الصغرى،
10
ولا يزال أبناء قبرص يتغنون بأمجاد باسيليوس حتى يومنا هذا، كما لا يزال أبناء طرابزون يشيرون إلى مثواه ويؤكدون أن زيارة قبره تحمي الصغار من الأرواح الشريرة، ولا يزال بعض رجال الاختصاص يتابعون البحث في تاريخ هذه الملحمة، وهم يميلون إلى الاعتقاد بأنها نشأت أولا حول مغامرات ديجينس في الحروب العربية في أواخر القرن الثامن، ثم تطورت فازدهرت بأمجاد الأسرة المقدونية، ويرون علاقة متينة بينها وبين قصة بطال غازي التركية وبعض نواحي ألف ليلة وليلة العربية،
11
ويلمس المؤرخ الروسي كرمزين صلة وثيقة بين هذه الملحمة وبعض أساطير الروس القديمة.
12
بقي علينا أن نشير إلى مؤلفين مفيدين خلفهما ميخائيل أتالياتس
Attaliates : أولهما يتضمن حوادث السنوات 1034 حتى 1079، وفيه وصف دقيق لما جرى في أواخر عهد المقدونيين، وهو مبني - إلى حد كبير - على الخبرة الشخصية، والثاني موجز في الحقوق وضعه أتالياتس للمحامين وغيرهم ممن يرغب في الاطلاع.
13
الفن وآثاره
ويرى رجال الفن أن العصر المقدوني هو العصر الذهبي الثاني في تاريخ الفن عند الروم، والعصر الذهبي الأول - في عرفهم - هو عصر يوستنيانوس الكبير، ويقولون: إنه بعد أن حرر محاربو الأيقونات الفن البيزنطي من قيود رجال الإكليروس والرهبان؛ تطور تطورا سريعا في انتقاء مواضيعه من خارج الكنائس والأديار، فعاد إلى الطبيعة وإلى مخلفات العصر الهليني وإلى فن الزخرف العربي، وجاء العصر المقدوني بتعلقه بالمخلفات الكلاسيكية والهلينية ؛ فازداد رجال الفن فيه إكبارا للماضي البعيد واستحياء منه،
14
ولم يكتفوا بهذا الوحي ولم ينقلوا نقلا، بل أضافوا إلى جمال المظهر الهليني ولطفه شيئا كثيرا من قوة العصر الكلاسيكي السابق وجده، وأسبغوا عليه شيئا من الهيبة والتركيز والتوازن والنقاء والصفاء، فأصبح بيزنطيا بكل معنى الكلمة.
15
وذهب الفنان المؤرخ النمساوي أسترجيكوفسكي مذهبا خاصا لا يقره عليه معظم زملائه؛ فهو يرى أن وصول الأسرة المقدونية الأرمنية الأصل إلى الحكم جر وراءه إقبالا على الفن الأرمني وتأثرا به، ويرى - بعبارة أخرى - أن العلاقة الظاهرة بين الفن البيزنطي والفن الأرمني، التي عزاها المؤرخون إلى أثر بيزنطة في أرمينية؛ هي - في الحقيقة - أثر أرمينية في بيزنطة.
16
وقام في القسطنطينية في عهد هذه الأسرة المقدونية من برز في تصوير الأيقونات وتزيين جدران الكنائس، فأخرج عددا كبيرا جدا من الأيقونات وصدرها إلى سائر أنحاء الإمبراطورية، وعني رجال الفن أيضا بتزيين المخطوطات بالصور الملونة المذهبة.
الباب التاسع
تأخر الدولة وانحطاطها
1057-1204
الفصل الثامن والعشرون
الفوضى والفتن الداخلية
1057-1081
وتوفيت ثيودورة وانقطعت سلاسة باسيليوس الأول مؤسس الأسرة المقدونية، وكان خلفها ميخائيل السادس قد أصبح هرما كبير السن، وكان لا يزال في صفوف الجيش وخارجها عدد من القادة الطامعين، فنشبت مشادة عنيفة بين كبار المدنيين في القصر وبين هؤلاء العسكريين، وقبل أن تنتهي السنة الأولى من حكم ميخائيل السادس دبر العسكريون مؤامرة لخلع ميخائيل، فوصل إلى عرش رومة الجديدة إسحاق كومنينوس زعيم العسكريين.
إسحاق كومنينوس (1057-1059)
وانتسب الكونينيون إلى قرية كومنة في ضواحي أدرنة، واشتهر والد إسحاق إيروتيكوس في دفاعه عن نيقية ضد هجمات برداس أسكليروس في السنة 978، وذلك في عهد باسيليوس الثاني، فاكتسب أرضين واسعة في آسية الصغرى مكنته من الدخول في عداد الأرستوقراطيين العسكريين،
1
وانتصر العسكريون بوصول إسحاق إلى العرش واستوائه عليه، ووزع الفسيلفس الجديد المكافآت على من عاونه في الوصول، وأمر بتمثيله ممتشقا حسامه على العملة التي سكت باسمه؛ دلالة على انتصار العسكريين،
2
ولكنه لم يتمكن من الاحتفاظ بالسلطة أكثر من سنتين.
وأصيب إسحاق في السنة الأولى من حكمه بالمرض ، وجوبه بخزينة خاوية، فلجأ إلى الاقتصاد ولم يستثن منه أحدا، فأغضب الشيوخ والشعب والجيش والرهبان، وكان في بداية عهده قد كافأ البطريرك المسكوني ميخائيل؛ لاشتراكه في إزاحة الفسيلفس السابق ميخائيل السادس أستراتيوتيكوس عن العرش، فمنحه الحق في أن ينتقي ويعين إيكونوموس كنيسة الحكمة الإلهية (أي مدبر أملاكها)، وأمين الأواني الكنائسية فيها «أسكيفوفيلاكس»، وكان البطريرك قد طلب ذلك من ثيودورة وميخائيل السادس فلم يفلح،
3
وظن البطريرك أنه سيتمكن من إرشاد الفسيلفس وتوجيهه، ولكن إسحاق تقبل هذا الإرشاد بشيء من الفتور في أول الأمر ثم رد ما جاء من نوعه بعدئذ، فنشأ شيء من البغض بين الاثنين ما لبث أن تحول إلى عداء، وسرعان ما أخذ البطريرك يهدد الفسيلفس ثم احتذى الحذاء الأرجواني، وادعى أن الاحتذاء بالأرجواني حق قديم من حقوق السدة البطريركية،
4
وكان الإقدام على الاحتذاء بالأرجواني في عرف الروم آنئذ أول دليل على الطمع في السلطة العليا،
5
وفي الثامن من تشرين الثاني حين كان البطريرك متوجها مع أخصائه ليخدم القداس في دير الملائكة، ألقى الفسيلفس القبض عليه ونفاه مع أولاد أخيه إلى جزيرة إيمبرس، وهاج الشعب وطلب إرجاع البطريرك، فاستحضره الفسيلفس وجمع مجمعا وطلب محاكمته؛ لأنه عطف على راهبين كانا يتعاطيان الشعوذة، ولأنه كان يقرأ أشعار الشعراء وقت الخدمة، ولأنه أيضا ثار على الفسيلفس السابق، ولم يحر البطريرك جوابا عن شيء من هذا، وقام في النهاية وسامح الفسيلفس والقضاة، ودعا للشعب ولأعدائه، وسقط ميتا وهو يقول: «السلام لجميعكم.» مشيرا بيده اليمنى إشارة البركة، فأمر الفسيلفس بدفنه بحفاوة فائقة في دير الملائكة، واشترك بنفسه في تشييع الجثمان،
6
ورقي الكرسي المسكوني بعده قسطنطين الثالث «ليخوذي»، ومرض الفسيلفس فاستقال فبدل الأرجوان بثوب الرهبنة وأقام في الدير الاستودي.
7
قسطنطين العاشر «دوكه» (1059-1067)
وتحدر هذا أيضا من أسرة عريقة في الشرف، ولكن شرفها لم يكن عسكريا ريفيا بقدر ما كان أرستقراطيا مدينيا، وهذا سبب التفاهم بينه وبين أقطاب رجال السياسة والإدارة في العاصمة، ومن هنا نفوذ ميخائيل بسلوس في عهده وتوليه تربية الأمير ميخائيل بن الفسيلفس ، ووصول قسطنطين الثالث إلى السدة البطريركية، وإكراه يوحنا الثامن على قبول العكاز البطريركي بعد وفاة قسطنطين الثالث (1064)،
8
ومن هنا أيضا عطف الفسيلفس على العلم، وإكرامه للعلماء، وإكراه ولي العهد ميخائيل على الدرس والمطالعة، واجتياز امتحان في الحقوق العمومية قبل إشراكه في الحكم،
9
ولهذا أيضا منح عضوية مجلس الشيوخ إلى عدد من كبار رجال الطبقة المتوسطة، مما أغضب طبقة الأراكنة
Archontes ،
10
واضطر قسطنطين العاشر إلى أن يعنى بالخزينة عناية سلفه إسحاق، فاقتصد في كل شيء، وأدى به اقتصاده إلى الإقدام على عمل جنوني؛ إذ سرح عددا غير يسير من الجنود، وأنقص مرتبات الباقين، بينما كان خطر الحرب يهدد الدولة في أكثر من جبهة واحدة.
11
وفي عهد قسطنطين العاشر، وعهد البطريرك المسكوني يوحنا الثامن، وعهد البابا ألكسندروس الثاني (1061-1073)، وفي السنة 1064؛ توجه عدد من أساقفة الغرب، يتقدمهم سيغفريد رئيس أساقفة ماينتز، وعدد كبير من الأشراف وغيرهم، إلى زيارة الأماكن المقدسة، ومروا بالقسطنطينية فأكرمهم الفسيلفس إكراما جزيلا وزاروا كنيسة الحكمة الإلهية، ولدى وصولهم إلى المدينة المقدسة خرج صفرونيوس البطريرك الأوروشليمي بنفسه لملاقاتهم ومعه الإكليروس والشعب بالمباخر والشموع، وأدخلهم باحتفاء عظيم كنيسة القبر المقدس!
12
وهو أمر ذو بال في موقف رجال الدين في الغرب والشرق معا من حرم البابا لاوون التاسع، وحرم البطريرك المسكوني ميخائيل الأول، اللذين صدرا قبل ذلك بعشر سنوات فقط! وحسن قسطنطين العاشر علاقاته مع الخليفة الفاطمي، فتحسنت بذلك حالة المسيحيين في المدينة المقدسة؛ إذ منح الخليفة الفاطمي بطريرك هذه المدينة حق السلطة المدنية على أبناء رعيته في القدس.
13
وفي شهر أيار من السنة 1067 اقترب أجل قسطنطين العاشر فأوصى بالملك لأولاده الثلاثة بوصاية أمهم إفذوكية على أن لا تتزوج،
14
وكانت إفذوكية من أفذاذ عصرها في العلم، وكانت تجيد النظم أيضا، ولكنها بعد وفاة زوجها لم تستطع القيام بأعباء الحكم وحدها؛ نظرا لتحرج الموقف الحربي الدولي، وأخذ سكان العاصمة يتهامسون عن مستقبل المملكة، ثم قالوا بضرورة إقامة ملك قدير، وخشيت إفذوكية سوء العاقبة فأخذت صك قسم اليمين من البطريرك، وتزوجت بعد سبعة أشهر من وفاة قسطنطين بالقائد رومانوس ديوجانس قائد الجيش في بلغارية.
15
رومانوس الرابع «ديوجانس» (1068-1071)
وكان رومانوس من كبار رجال الجيش وأصحاب الأملاك الواسعة في قبدوقية، وكان محبوبا محترما من الجند شجاعا قويا، ولكنه كان يحب السلطة، فاستأثر بها ، فأغضب إفذوكية بعد مرور شهرين فقط على زواجهما، فخرج من القصر وأقام في آسية عبر البوسفور بعد حملة عسكرية شنها على الأتراك السلاجقة.
16
وكانت أحوال الروم قد ساءت في البلقان وفي إيطالية، فالمجر عبروا الدانوب وحاصروا بلغراد ثلاثة أشهر في السنة 1064، وكان الغز أبناء عم السلاجقة قد نزحوا من شمالي قزوين إلى جنوبي روسية، فأجلوا البتشناغ عن مراعيهم ودفعوا بهم إلى مصب الدانوب، فعبر هؤلاء الدانوب في السنة 1065 وأوغلوا في البلقان حتى ثيسالونيكية وثيسالية، ولم تقو الجيوش على صدهم، فسمح قسطنطين العاشر ببقائهم في مقدونية على أن ينخرطوا في خدمة الدولة.
17
وأدى النزاع في إيطالية بين البابا نيقولاووس الثاني والبابا بندكتوس العاشر في السنة 1059 إلى تفاهم وتحالف بين نيقولاووس الثاني والنورمنديين، فأقر البابا نيقولاووس شرعية مطالبة هؤلاء بكابوة وكلابرية، وانطلق روبر غيسكار وأخوه روجه فأخضعا كلابرية، فأنفذ قسطنطين العاشر حملة إلى إيطالية الجنوبية، فعاد روبر من صقلية؛ حيث كان يعاون أخاه روجه في إخضاع هذه الجزيرة ليحافظ على ممتلكاته الجديدة في جنوبي إيطالية، وبدأت بذلك حرب بين الروم والنورمنديين انتهت بسقوط باري في السادس عشر من نيسان 1071 وخروج الروم من إيطالية الجنوبية بعد حكم دام ثلاثة قرون متتالية، ولم يجد قسطنطين العاشر نفعا تدخله في سياسة الكنيسة الرومانية وتأييده للبابا أونوريوس الثاني مناظر ألكسندروس الثاني.
18
وكان طغرل بك زعيم الأتراك السلاجقة قد توفي في السنة 1062، فخلفه السلطان ألب أرسلان واستولى على آني
Ani
الأرمنية في السنة 1064 فذبح ونفى، ثم قام إلى الرها فصده عنها دوق أنطاكية في السنة 1065،
19
وفي ربيع السنة 1067 هاجم ألب أرسلان الروم من الشرق والجنوب في آن واحد، فدخلت جيوشه البونط وقيليقية، ووصل إلى قيصرية قبدوقية فخربها.
20
واستوى رومانوس على العرش، فتولى مهمة صد الأتراك السلاجقة، وقاد إلى الميدان كل رجل استطاع أن يجنده في أوروبة وآسية، فطردهم من البونط أولا وأنزل بهم هزيمة كبيرة عند تفريقية، ثم قام إلى سورية الشمالية فأحرز نصرا مبينا في العشرين من تشرين الثاني سنة 1069 عند هيرابوليس «منبج»، وكان السلاجقة قد توغلوا في غلاطية فعاد رومانوس إليها وحررها، وفي السنة 1070 حاصر ألب أرسلان مدينة الرها دون جدوى.
وجاءت السنة 1071 فأعاد رومانوس تنظيم جيشه، وقام في منتصف آذار إلى الجبهة الشرقية الجنوبية، فوصل إلى منزيكرت «ملاذكرد» على الفرات الأعلى، فوجد نفسه وجها لوجه، ليس أمام جيش واحد من جيوش السلاجقة فحسب، بل أمام قوة السلطنة السلجوقية كلها، وأمام ألب أرسلان نفسه، وكان قد حل بجيش الروم شيء من الارتباك بسبب السير الطويل، وكان الفسيلفس قد أرسل فرقة كاملة إلى روسل دي بايول القائد النورمندي الذي كان قد اتجه نحو بحيرة وان.
وعلى الرغم من هذا كله بقي الفسيلفس متلهفا إلى القتال، شاعرا أن السلاجقة لم يتيحوا له من قبل ميدانا صالحا للقتال مثل هذا، متيقنا من أن جنوده المدرعين سيقضون قضاء مبرما على الفرسان السلاجقة مهما بلغ عددهم، وكان ألب أرسلان قد زاد خصمه وثوقا من نفسه بأن أرسل إليه تقارير كاذبة تفيد أن السلاجقة عازمون على الرحيل متجهين إلى بغداد.
وفي السادس والعشرين من آب سنة 1071 انبرى ألب أرسلان لقتال الروم، فأبلى فرسان الروم المدرعون بلاء حسنا وظلوا يوما كاملا يخترقون خطوط أعدائهم، ولكن هؤلاء كانوا دائما يسدون الثلمات بسرعة وبجموع جديدة كانت تفد باستمرار، وفي المساء كان القتال لا يزال مائعا، وفي أثناء الليل رأى رومانوس أن يسحب جنوده إلى المعسكر، فأساء بعضهم فهم الأوامر، فانقلب التراجع المنظم إلى فرار مستعجل، وأصبح القسم الذي قاده الفسيلفس محاطا بالعدو من جميع النواحي، وجرح رومانوس نفسه وسقط عن حصانه ووقع أسيرا.
21
وسيق رومانوس إلى خيمة عدوه واستقبل بحفاوة، ثم تفاوض الكبيران في الصلح فاتفقا على أن يدوم خمسين سنة، وعلى أن يدفع الروم في كل سنة ثلاثمائة وستين ألف قطعة ذهبية، وعلى أن يفدي رومانوس نفسه بمليون ونصف مليون من هذه القطع عينها، وتصدعت جبهة الروم واختل نظامهم الدفاعي في هذا القطاع، ثم اندلعت نيران حرب أهلية مكنت السلاجقة من الدخول إلى آسية الصغرى والاستقرار فيها.
22
ميخائيل السابع (1071-1078)
وما إن علمت إفذوكية بما حل برومانوس حتى استقدمت إلى العاصمة القيصر يوحنا دوكاس أخا قسطنطين العاشر، وأعلنت نزول رومانوس الرابع عن العرش، وترك ألب أرسلان الفسيلفس رومانوس دون أن يدفع له شيئا؛ معتمدا في ذلك على وعده فقط، واتجه رومانوس نحو العاصمة على رأس من تمكن من جمعهم من الرجال، فصده قسطنطين دوكاس ابن القيصر يوحنا، والتجأ رومانوس إلى قلعة تيروبويون
Tyropoion ، وكاد يخسر كل شيء ولكن دوق أنطاكية مده بالمساعدة فأنقذه وقام به إلى قيليقية؛ ليستعدا معا للمقاومة.
وفي بدء السنة 1072 أكره رومانوس على الدخول إلى أدنه والاعتصام بها، ثم سلم شرط إبقائه في قيد الحياة، ولكن القيصر يوحنا أمر بقص شعره وسمل عينيه، ثم نفاه إلى دير في جزيرة بروتي؛ حيث مات بعد قليل.
23
وكان ميخائيل السابع مهذبا مثقفا، يحب العلم ويكرم العلماء، ولكنه كان خوارا مترددا بعيدا عن الجيش لا يرغب في الحرب والقتال، وتمكن الخصي نيقيفوريتزس دوق أنطاكية من الوصول إلى القصر والسيطرة على ميخائيل، فأبعد بسلوس عن القصر، وأزال الحظوة عن القيصر يوحنا، ثم انصرف إلى جمع المال فاستحوذ على تجارة القمح واحتكرها، ثم رفع الأسعار فضايق العباد، فنال سيده ميخائيل لقب
ومعناه أبو الربعة، والسبب في هذا أن الناس أصبحوا؛ نتيجة لاحتكار الحنطة يبتاعون ربع المد بالقيمة نفسها التي كانوا يدفعونها من قبل لشراء مد كامل.
24
الأتراك السلاجقة
وتدل المصادر العربية والإسلامية على أن يوم منزيكرت أقر السلاجقة في أرمينية نهائيا، وأملهم في الاستيلاء على مناطق الرها وأنطاكية، وفيما سوى هذا اعترف ألب أرسلان بالوضع الراهن، وبالغ في احترام الفسيلفس الأسير وأطلق سراحه محملا بالهدايا،
25
وبدلا من أن يتبع النصر بالنصر في آسية الصغرى، قام ألب أرسلان إلى حدوده الشرقية وتوفي عندها (1072)، فتولى الحكم بعده ابنه جلال الدولة ملكشاه، ويستفاد من هذه المراجع الأولية وغيرها أن الروم أنفسهم تشاغلوا عن حماية حدودهم الشرقية والجنوبية، ولهوا بمطامع قادتهم وأمرائهم، وأن الجنود تركوا الحدود والثغور ليؤيدوا هذا أو ذاك في حروب داخلية، مما أتاح للسلاجقة أن يتدفقوا عصابات عصابات للنهب والسلب .
26
وطمع روسل دي بايول النورمندي في السنة 1073 بالاستقلال في مناطق قونية وأنقرة، فاستعان ميخائيل السابع بالسلاجقة، فدخل مائة ألف من هؤلاء بقيادة سليمان قطلمش فغشوا البلاد حتى ضفة البوسفور (1074)، ووقع روسل النورمندي في الأسر ثم افتدى نفسه وجمع حوله عصاباته من جديد وحارب الأتراك والروم في منطقة سيواس، فهرع إليه أليكسيوس كومنينوس باسم الفسيلفس لإخضاعه. وظهر في هذه اللحظة قائد تركي جديد تتخ «طوطاخ» بجموع سلجوقية جديدة، فاستعان به أليكسيوس وقضى على روسل وعلى حركته النورمندية، ولكن هذا النصر جاء على حساب الروم؛ لأن طوطاخ وجماعاته استقروا في قبدوقية.
27
نيقيفوروس الثالث «بوتانياتس» (1078-1081)
وبينما كان السلاجقة يزدادون قوة وتقدما في أراضي الروم، كاد كل قائد من قواد هؤلاء ينادي بنفسه فسيلفسا، وأهم هؤلاء القادة الطامعين: نيقيفوروس بريانيوس
Bryennius
في البلقان، ونيقيفوروس بوتانياتس
Botaniates
في آسية الصغرى، وقبل هذا في صفوفه عددا كبيرا من الأتراك السلاجقة، فاستولوا باسمه على قيزيقة ونيقية ونيقوميذية وخريسوبوليس، واستقروا فيها،
28
وكانوا لا يزالون جيوشا مرتزقة في خدمة الروم، وتدخل الشعب في العاصمة لوضع حد لهذه الفوضى، واهتم رجال الدين للأمر نفسه، فنادى أميليانوس بطريرك أنطاكية، الذي كان آنئذ في العاصمة، بنيقيفوروس بوتانياتس فسيلفسا، ونزل ميخائيل السابع عن العرش ولبس ثوب الرهبنة،
29
وكان نيقيفوروس الثالث عسكريا لامعا فطنا متبصرا في الأمور، ولكنه لم يتمكن من إعادة النظام إلى صفوف الجيش، وطمع نيقيفوروس ميليسانوس في الحكم وثار على نيقيفوروس الثالث، فحالف سليمان بن قطلمش على شروط أهمها أن يقدم سليمان الرجال للزحف على القسطنطينية «فيستولي» على نصف المدن والمقاطعات التي تستخلص من يد نيقيفوروس،
30
فرحب بهؤلاء من سبقهم من إخوانهم إلى ضفة مرمرة والبوسفور ممن تربع في المدن المشار إليها أعلاه باسم نيقيفوروس الثالث نفسه، فأرسل هذا قسطنطين أخا ميخائيل السابع بجيش لمحاربة السلاجقة وإخراجهم من المدن التي امتنعوا فيها، فعصا قسطنطين بدوره وطالب بالعرش.
البابا غريغوريوس السابع (1073-1085)
وعلى الرغم من الانشقاق الذي وقع في السنة 1054 بين فرعي الكنيسة الرئيسين، فإن العلاقات بين الفسيلفس والبابا لم تنقطع؛ ولذا فإن ميخائيل السابع كتب إلى غريغوريوس السابع يطلب المعونة ضد الأتراك السلاجقة واعدا بالسعي لإعادة العلاقات بين الكنيستين إلى ما كانت عليه قبل الانشقاق، فقبل البابا اقتراح الفسيلفس وأرسل إلى القسطنطينية رئيس أساقفة البندقية يمثله فيها (1073)، وقام هو في الغرب يدعو إلى حملة عسكرية يكون هدفها تحرير الكنائس الشرقية من تسلط المسلمين، ولكن دعوة البابا لم تلق آذانا صاغية، فعدل الحبر الروماني من مشروعه العظيم.
31
واتصل ميخائيل السابع في الوقت نفسه بروبر غيسكار النورمندي خاطبا إحدى بناته لأخيه قسطنطين، فرفض غيسكار هذا التحالف العائلي، ثم رزق ميخائيل ولدا ذكرا وريثا، فأعاد الكرة وخطب إحدى بنات غيسكار لولي العهد، فوافق غيسكار، وقامت الأميرة الصغيرة إلى القسطنطينية حيث دعيت هيلانة، ثم جاء انقلاب السنة 1078 فقضى على هذا التحالف، وأمر نيقيفوروس الثالث بإقامة الأميرة النورمندية في دير من الأديار، فغضب لميخائيل السابع كل من البابا وغيسكار، فحرم البابا غريغوريوس السابع نيقيفوروس الثالث، وأعلن غيسكار نفسه مدافعا عن حقوق الفسيلفس المخلوع.
32
أرمينية الصغرى
وكان الروم قد استولوا على أرمينية الكبرى وأكرهوا الأسرة الأزرونية على التخلي عن الحكم في السنة 1022، كما أكرهوا الأسرة البغراتية على الأمر نفسه في السنة 1045 والسنة 1064، وكانوا قد أخفقوا في الدفاع عن الأرمن ضد الأتراك السلاجقة، وجاءت موقعة منزيكرت في السنة 1071 فاحتفظ أحد قادة الروم براخاميوس فيلاريتوس
Brakhamios Philaretos
الأرمني الأصل بجنوده المرتزقة، وكان عدد هؤلاء لا يقل عن ثمانية آلاف، جلهم من الفرنجة، وامتنع فيلرتة هذا عن الاعتراف بميخائيل السابع واعتصم بجبال مرعش، وأراد في السنة 1073 أن يفرض سلطته على طورنيق بن موشيل
Thornik Mouchel
زعيم ساسون، ولكنه خسر المعركة، وفقد أحد كبار زعماء جنوده الإفرنج، فاستعان بالأتراك السلاجقة وقضى على طورنيق واقتسم أمواله مع أمير ميافارقين (1074)، وتقطعت أوصال دولة الروم في هذه الفترة فأصبح فيلرتة، بقوته العسكرية وبصفته المسلكية العسكرية العالية، الممثل الوحيد الفعال لسلطة الفسيلفس الشرعية في مناطق الحدود الجنوبية، وكثر قصاده، وعلت مكانته في أعين الموالين للروم في هذه المناطق، فانقاد الناس إليه وتعاونوا معه وشدوا أزره، فبلغت قواته العسكرية ثلاثين ألفا، وامتد سلطانه من خربوط شرقا حتى طرسوس غربا، وفي السنة 1077 أرسل أحد ضباطه باسيليوس بن أبي خاب إلى الرها ليحكمها ويدبر شئونها، فصده حاكمها عن ذلك ولكن أهلها ثاروا على هذا وذبحوه وسلموا المدينة لممثل فيلرتة، وجرى مثل هذا تماما في أنطاكية؛ ففي شتاء السنة 1078-1079 قام سكانها الروم على حاكمها الأرمني فاساك باهلافوني
Vassak Pahlavouni
فقتلوه وطلبوا إلى فيلرتة أن يتولى أمرهم ففعل،
33
أما شيزر، حصن الروم على العاصي بالقرب من حماة؛ فإنها سقطت في يد علي بن منقذ في التاسع عشر من كانون الأول سنة 1081، واعترف نيقيفوروس بالواقع فحكم فيلرتة باسم الفسيلفس جميع هذه المناطق وأسس بذلك أرمينية الصغرى.
34
ثورة أليكسيوس كومنينوس (1081)
ولم يوفق نيقيفوروس الثالث في مساعيه، وتطورت أحوال الدولة من سيئ إلى أسوأ، وتزوج الفسيلفس للمرة الثالثة واتخذ مريم زوجة ميخائيل السابع زوجة له، وكان ميخائيل لا يزال في قيد الحياة، فلم يرض الشعب. ثم ثار ثائره عندما علم أن نيقيفوروس سيجعل ابن عمه وريثا له بدلا من قسطنطين بن ميخائيل السابع، وخشيت أسرة كومنينوس ما كان يدبره لها وزراء نيقيفوروس من دسائس ومكائد، فانتهزت هذا الظرف وخرج أليكسيوس وأخوه من العاصمة في منتصف شباط من السنة 1081 إلى تشرلو؛ حيث كانت تتجمع قوى الجيش لمحاربة السلاجقة، ولدى وصولهما نادى الجند بأليكسيوس فسيلفسا، وفي أواخر آذار ظهر الفسيلفس الجديد بجنوده أمام أسوار العاصمة، فانحاز إليه القائد ميليسينوس، وخان المرتزقة الألمانيون نيقيفوروس، فدخل أليكسيوس كومنينوس العاصمة في أول نيسان سنة 1081 وتنازل عن نيقيفوروس ودخل الدير وعاش راهبا باقي عمره.
35
الفصل التاسع والعشرون
أليكسيوس الأول كومنينوس
1081-1118
شخصه
وجاء في كتاب الأليكسياذة لحنة ابنة أليكسيوس كومنينوس، أن والدها الفسيلفس تبوأ العرش في الثالثة والثلاثين من عمره، وأنه كان قصيرا، ممتلئ الجسم، قاسي الوجه، أسود اللحية، براق العينين، ثاقب النظر ، وتعترف حنة بأنه كان ينقص والدها شيء من الهيبة والوقار حين يخالط القوم ويمتزج معهم، ولكنه كان جليلا عظيما عندما يستوي على عرشه ويتولى السلطة ويحكم بين الناس.
1
ويستدل من هذه الأليكسياذة أيضا ومن غيرها من المراجع الأولية، أن أليكسيوس الأول كان مهذبا مثقفا، متضلعا من الفلسفة واللاهوت، سريع الخاطر، فصيح اللسان خطيبا، وأنه كان دمث الأخلاق سلسا حلو المعشر، عطوفا رءوفا، رحيما سموحا في كل شيء، ما عدا العقيدة الدينية؛ فإنه كان - فيما يظهر - شديد التمسك «بالعبادة الحسنة الأرثوذكسية»، مندفعا في سبيلها، محاربا الهرطقة والخروج على مقررات المجامع المسكونية.
وظل أليكسيوس يتعشق الحرب ويحن إليها، وبقي طوال عهده يعطف على الجنود ويرعاهم بعنايته، وظل هؤلاء - بدورهم - متعلقين به متفانين في سبيله، وكان الفسيلفس الجديد مفاوضا من الطبقة الأولى، يخاطب كلا باللغة التي يفهم. كما كان سياسيا محنكا يجيد فن التفرقة، ويحسن أساليب التقريب والجمع. وكان لبقا للغاية، لا كذوبا كما اتهمه بعض المتطفلين على التاريخ من كتاب الفرنجة الذين لا يدرون، ولا يدرون أنهم لا يدرون.
2
مطامع النورمنديين الإيطاليين
وكان ميخائيل السابع - كما سبق أن أشرنا - شديد الرغبة في التحالف مع البابا والنورمنديين الإيطاليين للصمود في وجه الأتراك السلاجقة، وكان قبيل نزوله عن العرش قد خطب ابنة روبر غيسكار النورمندي الإيطالي لابنه وولي عهده قسطنطين واستقدمها إلى القسطنطينية، وكان روبر غيسكار يطمع في توسيع دولته الإيطالية عبر الأدرياتيك، فلما أنزل ميخائيل عن العرش أعلن روبر غيسكار نفسه مدافعا عن حقوق هذا الفسيلفس، وكان ما كان من أمر نيقيفوروس الثالث ومن أمر الفوضى التي عمت جميع أنحاء دولة الروم، فعمد روبر في ربيع السنة 1081 إلى تحقيق مطامعه عبر الأدرياتيك، فأنفذ ابنه بوهيموند بطلائع الجيش إلى أفلونية
Avlona
وقام هو بنفسه على رأس الجيش إلى إبيروس.
3
وكان أليكسيوس الأول يخشى الأتراك السلاجقة في آسية الصغرى، وينظر بعين الحذر إلى مطامع البتشناغ عبر الدانوب، ولم تكن نفسه مطمئنة لموقف السكان في شاطئ الأدرياتيك الشرقي، أما خزينته فقد كانت خالية، وجيشه كان مضطربا ضعيفا لا يعتمد عليه، وكان يعلم أن إمبراطور الغرب هنريكوس الرابع كان لا يزال معوزا فأرسل وفدا يقدم إليه مبالغ من المال كبيرة ووعودا سياسية عظيمة، ويطلب في الوقت نفسه تدخلا في إيطالية ضد العدو المشترك روبر غيسكار،
4
ثم اتصل بالبنادقة وأبان لهم الخطر المحدق بهم وبتجارتهم من احتلال النورمنديين لشاطئ الأدرياتيك عند مداخله، ووعدهم بفتح جميع مرافئ الدولة لمراكبهم وتجارتهم ما عدا البحر الأسود، وأعفى جميع بضاعتهم الداخلة إلى هذه المرافئ والخارجة منها من جميع الضرائب، فدخل البنادقة معه في حلف عسكري شامل ضد النورمنديين.
5
وكان روبر قد احتل جزيرة كورفو وفرض الحصار على مدينة ديراتزو، وذلك في حزيران من السنة 1081، فعزم أليكسيوس على أن يقوم بنفسه إلى منطقة القتال لفك هذا الحصار، فأسند الحكم إلى والدته حنة دلسانة وعين لوغوثيتا قديرا يعاونها في ذلك،
6
وقام إلى جبهة القتال.
ورأى كبار القادة أن يحصر النورمنديون المحاصرون بين أسوار ديراتزو والبحر، وأن يضيق عليهم هذا الحصار فتضطرهم قلة المؤن إلى طلب الصلح، ورأى غيرهم - ممن كانوا دونهم سنا وخبرة - أن يصار إلى القتال حالا، فأصغى أليكسيوس إلى هؤلاء فأخفق إخفاقا ذريعا وسقطت ديراتزو في يد النورمنديين في الحادي والعشرين من شباط سنة 1082، وكان من الطبيعي أن يتجه روبر بجيشه نحو القسطنطينية، وما إن وصل إلى كستورية حتى تسلم رسالة من البابا غريغوريوس السابع ينبئه فيها بقدوم الإمبراطور هنريكوس الرابع إلى إيطالية ويرجو معونته. وعلم روبر أيضا أن بعض زعماء النورمنديين في إيطالية شقوا عصا الطاعة، فوكل أمر القيادة إلى ابنه بوهيموند وعاد إلى إيطالية.
ولم يتابع بوهيموند الزحف على القسطنطينية، بل اتجه جنوبا وحاصر ينينة، وجيش أليكسيوس جيشا جديدا وقام إلى الجبهة يعيد الكرة في أيار السنة 1082 ولكنه أخفق مرة ثانية، فاحتل بوهيموند منطقة البحيرات وسيطر على جميع مقدونية الغربية، ثم نزل إلى ثيسالية وحاصر لاريسة، فجاءه أليكسيوس في ربيع السنة 1083، وأتاه بالحيلة، فألبس ميليسنوس أحد رجاله ثياب الفسيلفس وأحاطه بالهيبة والوقار وجعله ينازل بوهيموند، وتخاذل ميليسنوس أمام بوهيموند، فلحق به القائد النورمندي، فابتعد عن قاعدته، فسطا عليها أليكسيوس وأتلف ما فيها، فاضطر بوهيموند إلى أن يتراجع نحو الشاطئ، وكانت مراكب البنادقة قد أوقعت بمراكب النورمنديين خسارة كبيرة في بحر الأدرياتيك، وتأخرت جماكية العساكر والضباط، فاستغل أليكسيوس هذا الموقف وأوغر صدور هؤلاء الضباط كما أغدق على بعضهم المال ليعودوا إلى إيطالية، فاضطر بوهيموند إلى أن يذهب إلى إيطالية بنفسه لتأمين أعطيات الجند وضباطهم، فاضطربت أحوال الجيش النورمندي، واستعاد أليكسيوس كستورية في خريف السنة 1083.
وعاد روبر إلى القتال في السنة 1084 وأنزل بالبنادقة خسائر كبيرة واحتل كورفو ثانية، ولكن وباء حل في صفوف الجيش فشل كل حركة عسكرية. وأعاد روبر الكرة في صيف السنة 1085 ولكنه توفي في الجبهة، وكان روبر قد خص ابنه الأصغر روبر الملك بعده فنشبت حرب أهلية أوقفت كل عمل عدائي ضد الروم.
7
ثورة مانوية بتشناغية (1084-1091)
وكان يوحنا جيمسكي قد سبا جماعات من المانويين من حدود الدولة الشرقية الجنوبية إلى منطقة فيليبي في البلقان، وحافظ هؤلاء على عقيدتهم الخاصة فلم ينسجموا مع الروم وأصبحوا مشكلة سياسية داخلية، وفي الحرب النورمندية اقترفوا خيانة ضد الدولة وانسحبوا من ساحة القتال في أحرج الأوقات، فاغتاظ أليكسيوس واستدعى زعماء المانويين إليه وأنزل به أشد ألوان العذاب، فغضب قومهم لهم وأعلنوها ثورة على الحكم (1084) واستعانوا بالبتشناغ، فعبر هؤلاء الدانوب مخربين محرقين، وما فتئوا كذلك حتى مداخل أدرنة وإلى مسافة قصيرة من شاطئ مرمرة، وقدر للروم أن يصمدوا في وجههم في السنة 1086 والسنة 1087 فارتدوا على أعقابهم إلى ما وراء الدانوب.
ورأى أليكسيوس أن يستغل هذين النصرين فأعد حملة كبيرة، وقطعت جيوشه البلقان إلى الدانوب، وقام أسطوله عبر البحر الأسود إلى مداخل هذا النهر، وكانت موقعة كبيرة أمام دريسترة في صيف السنة 1086، فانكسر الروم وخسروا رداء العذراء العجائبي، واضطر البتشناغ إلى أن يحاربوا من جاورهم من القبائل عبر الدانوب، فلم يعودوا إلى الحرب مع الروم قبل السنة 1089، وفيها وصلوا ثانية إلى مداخل أدرنة، فاضطر الفسيلفس إلى أن يشتري السلم شراء، ولكن البتشناغ عادوا إلى الحرب في السنة 1090 وهددوا العاصمة نفسها، واشتد القتال وطال أمده، فاستعان الروم بأعداء البتشناغ: قبيلة البولوف
، وكانت موقعة حاسمة في التاسع والعشرين من نيسان سنة 1091 عند نهر اللابورنيون
Leburnion
فانهزم البتشناغ وتراجعوا ليقعوا في قبضة البولوف، فكانت مجزرة كبيرة.
8
ازدياد نفوذ الأتراك السلاجقة
وفي أثناء هذا كله، بينما كان أليكسيوس يحارب النورمنديين في الغرب، والبتشناغ في الشمال؛ كان الأتراك السلاجقة يزدادون نفوذا وسلطانا في آسية الصغرى وفي شمالي سورية، فأصبح حق الفسيلفس في السيادة على سليمان بن قطلمش حقا نظريا لا فاعلية له، واتخذ هذا لقب سلطان، وشرع يوسع حدود منطقته ويعمل وكأنه دولة مستقلة، فاحتل أنطاكية في كانون الأول من السنة 1084 دون أن يبدي أليكسيوس أية حركة، ثم تطاول على فيلرتة وبسط سلطته على جميع إمارته،
9
وعبثا حاول فيلرتة أن يحتفظ بسلطته بتقبل الدين الإسلامي.
10
وما إن طالب أمير حلب سليمان بالمال الذي كان يدفعه فيلرتة له حتى قام إليه بجيشه وفرض سلطته عليه، فدب الذعر في نفوس سائر أمراء سورية، وجيش تتش أمير دمشق وقام إلى حلب فنازل سليمان بالقرب منها في شهر تموز من السنة 1085 وقضى عليه، وما إن توفي سليمان بن قطلمش حتى رفض معظم الأمراء الذين كانوا قد دخلوا في حكمه أن يقروا بالطاعة لابنه وولي عهده قلج أرسلان، فسادت الفوضى جميع أرجاء سلطنة سليمان (سلطنة الروم فيما بعد)، وأنفذ ملكشاه قوة إلى سورية، وأعاد توزيع الأقطاع والسلطة فيها.
وغضب جلال الدولة ملكشاه على وزيره الكبير نظام الملك ودس إليه من قتله، ثم توفي هو في التاسعة والثلاثين من عمره (1092)، فاضمحلت عظمة الدولة السلجوقية وتفككت أواصرها، وكان الخليفة المستظهر قد أقر ابن ملكشاه الرضيع في السلطنة فطلبها أخوه بركياروق فقام عليه عمه تتش، فبذر التشويش وعمت الفوضى سورية والعراق، وأحب أليكسيوس الفسيلفس أن يستغل الموقف لصالحه وصالح الروم، ولكن الغرب كان قد بدأ يتمخض بالحروب الصليبية.
الروم والصليبيون
ولم يكن أمر الجهاد في سبيل الدين أمرا مستحدثا جديدا؛ فمنذ أن تنصرت الدولة الرومانية أصبح رئيسها حامي الدين مجاهدا ومبشرا أيضا، ولم تنطبع حروب النصارى وحدهم بهذا الطابع الديني؛ فحروب الفرس ضد الروم كانت تحمل أيضا طابعا دينيا خاصا، وحروب العرب كانت في أساسها حروبا دينية لا قومية - كما سبق أن أشرنا - ولكن الجديد في الحروب الصليبية كان اشتراك جميع الطبقات فيها لغرض ديني معين، ولا يختلف اثنان - فيما نعلم - في أن بعض الصليبيين اندفع بدوافع مادية غير دينية، ولكن التيار الجارف ظل دينيا في الدرجة الأولى.
11
والحروب الصليبية كانت حروبا غربية قبل أن تكون حروبا شرقية، والمحرك الأكبر فيها كان البابا أوربانوس الثاني (1088-1099)، فإنه خشي - فيما يظهر - تجدد النشاط الإسلامي بظهور الأتراك السلاجقة وبانتصاراتهم المتواترة، وآلمه ضغطهم المتزايد على الكنائس الشرقية، فأحب أن يتحد جميع ملوك النصارى وأمراؤهم وشعوبهم في حملة واحدة لتحرير هذه الكنائس الشرقية ولحماية القبر المقدس وتأمين سبل الحجاج؛ فسعى منذ أن تبوأ السدة الرومانية لتقريب القلوب بين فرعي الكنيسة الأم، ورفع الحرم الذي كان قد وضعه سلفه غريغوريوس السابع على أليكسيوس فسيلفس الروم، وأرسل وفدا إلى القسطنطينية يعلن هذه السياسة الجديدة ويرجو السماح باستعمال الفطير في كنائس القسطنطينية اللاتينية وإعادة اسمه إلى الذبتيخة،
12
وتقبل أليكسيوس الفسيلفس والبطريرك المسكوني هذه البادرة الطيبة بحرارة، وأرسلا وفدا إلى رومة يرجو حبرها العظيم أن يشرف القسطنطينية ويرأس مجمعا مسكونيا يعيد المياه إلى مجاريها، وهب إكليريكي أمالفي اللاتيني ورئيس أساقفة أخريدة الأرثوذكسي يبينان خسة التخاصم حول «الطقوس» عندما تكون العقيدة «واحدة»،
13
وعلم مناوئ أوربانوس الثاني وخصمه إقليمس الثالث بهذا كله، فعرض على الفسيلفس أن يوقع هو صك الاتحاد بين الكنيستين، ولكن أليكسيوس آثر الأمانة لأوربانوس لأن الفضل في ذلك عائد إليه، فشاغل البابا المناوئ، فلم يتمكن أوربانوس من القيام إلى القسطنطينية،
14
وهكذا يكون الواقع التاريخي، أن أليكسيوس لم يتلمس حربا صليبية ولم يحث الغرب عليها «ليقلب لها ظهر المجن» - كما جاء في بعض المؤلفات الحديثة.
وفي أوائل تموز من السنة 1096 وصلت إلى البلقان جموع بطرس الناسك ناهبة مقتلة مخربة، وتقدمت هذه الجموع نحو القسطنطينية فرحب بها الفسيلفس وأكرمها، واستقبل بطرس الناسك وأوضح له وجوب الانضباط واحترام حقوق السكان، وكان أتباع بطرس قد أقاموا خارج أسوار المدينة، فعاثوا في الضواحي فسادا وخرقوا حرمة الكنائس، فرأى أليكسيوس أن يجابههم بجيرانه الأتراك السلاجقة عبر البوسفور لعلهم يفقهون، وما إن حطت رحالهم في آسية حتى هاجموا الأتراك، فبدد هؤلاء شملهم، فارعووا وكفوا عن القبيح ورضوا أن يعودوا إلى ضواحي القسطنطينية عزلا.
وفي صيف هذه السنة نفسها قذف البحر إلى شاطئ إبيروس أخا ملك فرنسة هوغ دي فارمندوي
Hugues de Vermandois ، فوقع في أيدي الروم ونقل إلى القسطنطينية، فأحاطه أليكسيوس بشيء كثير من الإكرام والاحترام، ورأى فيه خير وسيط بينه وبين زعماء الصليبيين القادمين، وزاد في إكرامه فتعلق الأمير الإفرنسي بالفسيلفس وبايعه على الطاعة والولاء.
ثم جاء في كانون الأول من هذه السنة نفسها غودفروي دي بويون
Godefroy de Bouillon
بجموعه، وكان أليكسيوس قد سمع بشجاعته وثرائه وكرمه فأكرمه، ولكن غودفروي رفض مبايعة الفسيلفس، فتوترت العلاقات بين الاثنين، وقلت المئونة لدى أتباع غودفروي خارج أسوار العاصمة، فلجئوا إلى العنف وأرادوا اقتحام أحد مداخل القسطنطينية، فصدهم الروم بالقوة وتغلبوا عليهم، فأخلدوا إلى السكينة، ودعا الفسيلفس الزعيم الصليبي إلى مأدبة أقيمت في القصر المقدس على شرفه، فبايع غودفروي الفسيلفس على الطاعة والولاء، ومضى في نيسان سنة 1097 بجموعه إلى آسية.
وفي ربيع السنة 1097 أطل بوهيموند النورمندي الإيطالي، فأعلن فور وصوله استعداده لمبايعة الفسيلفس على الطاعة والولاء ورغبته الأكيدة في التعاون مع الروم إلى أقصى الحدود، وكان بوهيموند قد حارب أليكسيوس في ألبانية وفي اليونان - كما سبق أن أشرنا - فاعتور علاقاته مع الروم في بادئ الأمر شيء من الحذر والبرودة، ولكن شخصيته الجذابة ومواهبه الكبيرة ونجاحه في التظاهر بالصدق والإخلاص؛ عاونت على إزالة هذا الحذر وذلك الفتور، فقد قالت ابنة الفسيلفس صاحبة الأليكسياذة: إن بوهيموند فاق جميع رجال عصره في جميع أنحاء الإمبراطورية جسما وروحا ومقدرة، وأعجبت - على الرغم من كرهها للعنصر اللاتيني - بلينه ومرونته ولباقته ومقدرته في التعبير وفصاحته، ولم تر أفضل منه سوى والدها العظيم.
وزال الشك وتفاهم الكبيران، واستقبل الفسيلفس ضيفه وأهدى إليه شيئا كثيرا من الذهب والدراهم والأقمشة النفيسة، ثم أرسل أكثر منها إلى محل إقامته، فاغتبط بوهيموند بما أوتي من نعمة وطلب إلى الفسيلفس أن يدخل في خدمته ويتولى قيادة جيوشه، فأجابه أليكسيوس أن كل آت قريب وأنه بانتظار ذلك سيقطعه أراضي فسيحة في منطقة أنطاكية، ولم يتردد بوهيموند في دخوله في طاعة الفسيلفس فأقسم يمين الولاء،
15
ثم جاء روبر دي فلاندر
Robert de Flandre
فدخل في طاعة الفسيلفس، أما ريموند دي سان جيل
Raymond de Saint-Gilles
فإنه وصل مكدرا مستاء غير مستعد لمبايعة أليكسيوس، فأقنعه بوهيموند النورمندي بوجوب الدخول في طاعة الفسيلفس، ففعل وأصبح من أخلص أصدقاء أليكسيوس وأشدهم وفاء له، وأعجب أليكسيوس بحكمة هذا القومس واتزانه وصدقه وإخلاصه واستقامته، أما تنكريد الصقلي
Tancrede
نسيب بوهيموند فإنه لم يرض أن يمر بالقسطنطينية أو أن يقسم يمين الولاء والطاعة لفسيلفس الروم، وأعلن أن هذا القسم لا يفرض عليه إلا نحو سيده بوهيموند.
16
وكان ينقص هؤلاء جميعا - فيما يظهر - الشيء الكثير من آداب السلوك وحسن المعاشرة، فكانوا يدخلون على الفسيلفس في الصباح الباكر ولا يفارقونه إلا في نهاية المساء، متطلبين متطاولين أو مسترشدين أو متحدثين مسامرين، وكانوا في كثير من الأحيان متهتكين سفهاء، خالعين برقع الحياء، ضعفاء الإرادة، لا يمتنعون عن شيء مما يرغبون فيه، متكلمين بما لا ينبغي متشدقين،
17
وكان أليكسيوس مثال الدماثة واللطف والصبر، فأحبوه وأعجبوا به، وتمكن - بصبره ودهائه ولطفه وكرمه - من التوصل إلى تفاهم تام معهم؛ ففي شهر أيار من السنة 1097 وقع الطرفان معاهدة قضت بأن يرفع الفسيلفس علم الصليب، وأن يضع تحت تصرف الزعماء فرقة محاربة، وأن يحمي طريقهم في أثناء مرورهم في أراضي الدولة البيزنطية، مقابل دخول هؤلاء في طاعته ومبايعته.
18
وقام الزعماء الصليبيون من القسطنطينية بما لديهم من رجال وعبروا البوسفور وانضموا إلى جموع غودفروي دي بويون، وحاصروا نيقية فسقطت في يدهم، فاستولوا على الغنائم وأعادوا المدينة إلى الفسيلفس، ثم اتجهوا جنوبا مذللين الصعاب في قلب دولة السلاجقة، متعاونين في ذلك مع فرقة بيزنطية بقيادة تتيكيوس
Tatikios
أحد كبار قادة الروم، وجهز أليكسيوس حملة برية بحرية بقيادة يوحنا دوقاس، فاستولى على إفسس وساردس وأزمير وأضالية، وقام الفسيلفس بنفسه على رأس قوة ثانية، فأخضع جميع بيثينية، وغلب قلج أرسلان وتقوضت أركان سلطته، واستعاد أليكسيوس قلب آسية الصغرى وشواطئها الغربية .
19
مشكلة أنطاكية
ونفذ كل من الطرفين المتعاقدين ما نصت عليه المعاهدة وساد الحب والوئام، وقام أليكسيوس من القسطنطينية على رأس جيش قوي؛ ليلتحق بالصليبيين، ولكن بودوان استأثر بالرها وجهاتها ولم يعدها إلى الفسيلفس، وطغى بوهيموند وتجبر وطمع بأنطاكية وملحقاتها، وكذب على تتيكيوس القائد الرومي فقال له: إن زعماء الصليبيين لا يضمرون إلا السوء له ولسيده وحرضه على الخروج ثم وصمه بالجبن، وقام كربوقا أمير الموصل لصد الصليبيين، فخشي أليكسيوس هجوما تركيا جديدا على فتوحاته في آسية الصغرى فعاد إلى عاصمته.
20
وما إن تربع بوهيموند في أنطاكية حتى بدأ يطمع في توسيع إمارته، فحاول في حزيران السنة 1099 أن يخرج الروم من اللاذقية، وفي السنة 1100 هجم على أبامية وحلب، ثم مرعش، وكانت هذه قد أعيدت إلى الروم بموجب شروط المعاهدة، وعلى الرغم من وقوع بوهيموند في يد الأتراك أسيرا في تموز السنة 1100، فإن نسيبه تنكريد الذي تولى الحكم في أنطاكية في غيابه استولى على طرسوس وأدنة، ثم حاصر اللاذقية ثمانية عشر شهرا واستولى عليها في السنة 1102 وأخرج الروم منها،
21
وأفسد هذا الطمع السياسي مرة أخرى العلاقة بين الكنيسة الأرثوذكسية والكنيسة اللاتينية؛ فإنه على الرغم مما كان قد حدث في السنة 1054 بين البطريرك المسكوني وبابا رومة، ظل البطريرك الأنطاكي يذكر بابا رومة في الذبتيخة،
22
ولكن طمع بوهيموند دفعه إلى طرد البطريرك الأنطاكي يوحنا السابع من أنطاكية؛ لأنه كان يونانيا وإلى إسناد هذا الكرسي الرسولي إلى القس برناردوس فلانسية اللاتيني، ولا صحة في القول بأن يوحنا السابع استقال استقالة فشغر كرسيه فنصب برناردوس؛ لأن يوحنا لم يستقل قبل وصوله إلى القسطنطينية، ولأن استقالته هذه ارتبطت منذ لحظتها الأولى بانتخاب خلف أرثوذكسي له يوحنا الثامن (؟) وذلك بالطريقة القانونية المرعية الإجراء آنئذ.
23
وعاد بوهيموند من الأسر في صيف السنة 1102، واستقر في أنطاكية، فطلب إليه أليكسيوس الفسيلفس أن ينفذ شروط المعاهدة المعهودة ويعترف بسلطته على أنطاكية، فرفض بوهيموند، فلجأ أليكسيوس إلى العنف والحرب، واحتل الروم طرسوس وأدنة ومميسترة، وحاصروا اللاذقية وأنزلوا قواتهم في نقاط متعددة على الشاطئ السوري، وهب السلاجقة للأخذ بالثأر وأوقعوا بالصليبيين هزيمة شنعاء عند الرقة، ثم حاصروا الرها، وخشي بوهيموند سوء العاقبة فانسل من بين قوات الروم البحرية ووصل إلى كورفو وكتب منها رسالته الشهيرة إلى أليكسيوس الفسيلفس: «وسأصل إلى القارة الأوروبية وسأجمع اللومبارديين واللاتينيين والألمان ومواطني الإفرنج فأعود إليك مالئا مدنك بجثث القتلى وبالدم، ولن أتوقف إلا بعد أن أكون قد غرزت رمحي في أرض بيزنطة.»
24
ووصل بوهيموند إلى إيطالية في أوائل السنة 1105 واتصل بحبر رومة، فرحب به وعين ممثلا يطوف معه؛ ليستنهض الهمم، ثم زار فرنسة، فاستقبله مليكها فيليب الأول بالإكرام والاحترام وأصهر إليه، وكان بوهيموند حيثما حل يطعن بفسيلفس الروم ويلقي على عاتقه مسئولية إخفاق الصليبيين في سورية الشمالية، فأوغر الصدور ضد الروم في عواصم أوروبة وأمهات مدنها، ونشأ كره لأليكسيوس دام قرونا طوالا، وما فتئت أوروبة تلوم هذا البطل الشرقي حتى قام علماؤها يبحثون ويدققون في النصف الثاني من القرن الماضي، وفي خريف السنة 1107 أنزل بوهيموند أربعة وثلاثين ألفا في أفلونة.
ثم قام إلى ديراتزو وبدأ بحصارها، وما إن فعل حتى هب أليكسيوس لقتاله برا وبحرا، فقطع أسطول الروم كل علاقة بين بوهيموند وأوروبة الغربية، وحصر الفسيلفس بنفسه بوهيموند في البر، فقلت المؤن لدى بوهيموند واضطربت جموعه، فاضطر إلى أن يفاوض في الصلح، فأملى عليه الفسيلفس شروطا أهمها أن يعتبر بوهيموند نفسه أحد رجال الإقطاع في خدمة الفسيلفس، وأن يقسم يمين الولاء والطاعة للفسيلفس ولولي عهده من بعده، وأن يمتنع عن حمل السلاح في وجهه، وأن يحارب في صفوف الفسيلفس كلما قضت الحاجة بذلك، وألا يطمع في توسع سلطته على حساب دولة الروم، وأن يعيد إلى الروم جميع الأراضي التي كان قد اقتطعها من جسم الدولة، وأن يعيد إليها اللاذقية وغيرها من شاطئ سورية ، وأن يحكم أنطاكية باسم الفسيلفس، وأن يكون بطريركها أرثوذكسيا من رجال كنيسة الحكمة الإلهية، ثم أنعم أليكسيوس على بوهيموند بالهدايا وبلقب سفاستوس.
25
وعاد بوهيموند إلى إيطالية وتوفي فيها بعد قليل فلم يبصر أنطاكية ثانية، ورفض تنكريد أن ينفذ شروط هذه المعاهدة، وعاد إلى التوسع على حساب الروم فاحتل أبامية في السن 1106، فاللاذقية ومميسترة وجزءا من قيليقية في السنة 1108، فجبلة في السنة 1109، وجرت مفاوضات حول هذه الأمور في طرابلس وفي مدينة القدس فلم تسفر عن شيء، وتوفي تنكريد في السنة 1112 وبقيت مشكلة أنطاكية تنتظر الحل طوال القرن الثاني عشر.
26
ملكشاه الثاني والحرب التركية
وتوفي قلج أرسلان في السنة 1106 فخلفه ابنه ملكشاه الثاني وتوحدت صفوف السلاجقة وعادوا إلى الإغارة، وهاجموا فيلادلفية في السنة 1111، وحاصروا نيقية في السنة 1112، وتوغلوا في أراضي الروم في السنة 1115، فتصدى لهم أليكسيوس بنفسه في السنة 1116 محاولا اقتحام قونية، فأحرز نصرا كبيرا عند فيلوميليون وأملى على ملكشاه الثاني معاهدة وطدت أقدام الروم في آسية الصغرى لأول مرة بعد منزيكرت، فاستحوذ أليكسيوس على دوقية طرابزون وقسم من ثيمة أرمينية، وعلى كل ما وقع غربي خط امتد من سينوب حتى فيلوميليون، وعلى شواطئ الأناضول الجنوبية.
27
أليكسيوس والغرب
وخلا الجو لأليكسيوس في إيطالية الجنوبية؛ إذ أصبحت هذه المناطق وليس فيها سيد كبير يدبر شئونها، واشتد النزاع بين هنريكوس الخامس والبابا باسكال الثاني (1099-1118) وطلب حبر رومة معونة الفسيلفس، فأرسل أليكسيوس وفدا مفاوضا إلى رومة في صيف السنة 1112، وكانت محادثات ووعود حول اتحاد الكنيستين وتوحيد التاج الإمبراطوري بين الشرق والغرب، ولكنها لم تثمر؛ فالإكليروس الشرقي أظهر استعدادا تاما للعودة إلى ما كانت عليه الحال قبل الانشقاق؛ أي إلى التمشي بموجب قرارات المجامع المسكونية، ولكن حبر رومة لم يرض بالتقدم بالكرامة فقط بل طالب بالسلطة.
28
السياسة الداخلية
وكانت الفوضى قد عمت جميع دوائر الدولة، فعمل أليكسيوس الأول على إعادة النظام وتوطيد الأمن وتوزيع العدل، ورأى أن شيئا من هذا لن يكون إلا إذا استعاد هو السلطة كل السلطة إلى يديه، ولم يرض بمجرد تسيير دفة الحكم، بل رغب في السيطرة؛ كي يصبح سيد الموقف فيعيد الهيبة والوقار اللازمين للحكم.
وبدأ بالجيش، ولمس نقصا مخيفا في عدد الخيالة ونوعهم، فأدخل تعديلا على نظام الإقطاع العسكري وأنشأ البرونية، فأقطع الرجال عددا من القرى وسمح لهم بجباية الضرائب فيها شرط أن يقدموا للجيش عددا معينا من الفرسان بخيولهم وأسلحتهم، وكان النظام القديم يقضي بإقطاع الجنود أرضا معينة يستغلونها للقيام بالخدمة العسكرية في زمن الحرب، وأضاف إلى هؤلاء الخيالة الجدد عددا من الفرسان المرتزقة، وجاء هؤلاء من شعوب أوروبة ولا سيما السكسون،
29
فاستعاض بذلك عن النقص الذي حل بفرق الخيالة من جراء تقلص الدولة في آسية الصغرى، ثم التفت الفسيلفس إلى الأسطول فرأى أن معونة البندقية لم تكن كافية وأنه لا يجوز الاعتماد عليها وحدها، فعاد إلى إنشاء أسطول رومي جديد، ثم رأى أن يعهد بقيادة قواته البرية والبحرية إلى أنسبائه الأقرباء؛ ليضمن بذلك ولاء القادة للعرش.
وكانت طبقة الأشراف قد خسرت شطرا كبيرا من نفوذها واحترامها في القرن الحادي عشر، وكان عدد أعضائها قد قل، فأنشأ أليكسيوس طبقة جديدة بألقاب أفخم وأعظم، كانت مخصصة من قبل لأفراد الأسرة المالكة، فمنح هذه الألقاب لعدد كبير من أنسبائه وأقربائه، فأحاط نفسه بطبقة جديدة من الأشراف موالية له، وقل اكتراث الفسيلفس بمن بقي من أعضاء مجلس الشيوخ وأنشأ مجلسا خاصا من الأشراف ذوي النسب العالي ومن كبار الموظفين المدنيين والعسكريين، وامتعض بعض الشيوخ وبعض القادة وبعض أفراد الطبقة الأرستوقراطية القديمة، وكثر التآمر فصادر الفسيلفس أموال المتآمرين المنقولة وغير المنقولة وزاد هؤلاء ضعفا على ضعف.
وكان دخل الخزينة قد نقص نقصا فاضحا لأسباب أهمها: كثرة الحروب الداخلية والخارجية، وتقلص مساحة الدولة، وقلة النتاج في الأرياف، فأمر أليكسيوس بمسح جديد وضم إلى أملاك الدولة جميع الأراضي التي احتلها الكبار دون حق شرعي،
30
ثم لجأ إلى تزييف النقد فسك نقودا لا تحمل القيمة نفسها من معدنها التي كانت تحملها قطع العملة السابقة، وفرض الضرائب على أساس العملة الجديدة ولكنه جباها بقيمة العملة الصحيحة، فأحدث عمله هذا اضطرابا في الأسواق وهياجا في النفوس مما حمله على إعادة النظر في الضرائب بين السنة 1106 والسنة 1109 وطرق جبايتها، وعدل أليكسيوس في فرض الضرائب وجبايتها فقل الإعفاء وتساوى القوم،
31
وكثر دخل الخزينة فأورث الفسيلفس ابنه جيشا منظما مدربا ومالا وافرا.
32
أليكسيوس والدين والكنيسة
وكان أليكسيوس شديد الورع والتقوى، وكان يحب علم اللاهوت ويناقش فيه ويؤلف في بعض مسائله، وكانت ابنته حنة صاحبة الأليكسياذة تعجب بسعة اطلاعه في هذا العلم وبتقواه فجعلته «ثالث عشر الرسل»،
33
ومما يروى عنه في هذا الشأن أن جنوده في إبان الثورة التي أوصلته إلى العرش نهبوا العاصمة وسلبوا وسبوا، فهب أليكسيوس بعد أن استوى على عرشه يحمل نفسه وأفراد أسرته صوما وتقشفا وغير ذلك؛ ليكفر عما جرى.
وفي السنة الأولى من ملكه استقال البطريرك المسكوني قزما الأوروشليمي؛ لأنه كان قد قضى حياته كلها في الزهد بعيدا عن العالم ومشاكله، فلم يرق له البقاء في سياسة الكرسي؛ ففي الثامن من شهر أيار 1081 أكمل خدمة القداس ثم قال لخادمه «هات المزامير واتبعني.» وترك الكنيسة وذهب إلى ديره ولم يعد، فتولى السدة المسكونية بعده أفستراتيوس، وكان قليل الثقافة ضعيف الإرادة فسقط في بدعة يوحنا الإيطالي، وقال بتقمص الأرواح، فأنزله المجمع القسطنطيني عن الكرسي الرئاسة وأقام بعده البطريرك نيقولاووس الثالث الملقب بالغراماتيكوس، وكان عالما كبيرا وراهبا بارا وديعا تقيا، فساس السدة القسطنطينية سبعة وعشرين عاما، وتوفي شيخا طاعنا في السن في السنة 1111.
وكان يوحنا الإيطالي الأستاذ الأول و«قنصل الفلاسفة» في جامعة القسطنطينية، وكان أفلاطونيا في فلسفته يكبر رجال الفكر الكلاسيكي فيقدمهم على بعض آباء الكنيسة، وكان يقول - فيما يظهر - بأزلية المادة وأزلية الأفكار، وبتناسخ الأرواح وتقمصها، وفي السنة 1082 شكاه البعض إلى الفسيلفس، فأمر بالتحقيق معه، ثم بمثوله أمام المجمع المقدس، فاعترف يوحنا بركوبه متن الشطط في بعض النقاط، ولكنه أصر على غيرها، وامتنع عن التراجع عما اعتقده حقا، فحرمه المجمع، ولكنه لم يضايق تلامذته وأتباعه فبقيت هذه الأفكار الأفلاطونية شائعة في الأوساط العلمية العالية في القسطنطينية، وظل اللقب «محب أفلاطون» لقبا مشرفا في عاصمة الروم،
34
وقام بعد ذلك الراهب المصري نيلوس تلميذ يوحنا الإيطالي يعلم في القسطنطينية أن جسد المخلص تأله حالما اتحد باللاهوت فحرمه المجمع القسطنطيني في السنة 1094 وحرم أتباعه.
35
وكان قد رغب بعض أسلاف أليكسيوس من أباطرة القرن الحادي عشر في إصلاح الرهبنات، فأقطعوا بعض العلمانيين الأكفاء أديرة معينة وأوقافها ووكلوا إليهم أمر إدارتها وذلك لكي ينقطع الرهبان والراهبات فيها للتعبد وعمل الخير، وعرف هذا النوع من الإقطاع بالخريستيخة، فعممه أليكسيوس؛ ليرضي به بعض كبار الرجال من أهل السياسة وليزيد دخل الخزينة، ولكن هذا التعميم أدى إلى امتعاض شديد في بعض الأوساط الدينية، فقد جاء في ذكريات يوحنا الأنطاكي أن هؤلاء الملتزمين العلمانيين أكلوا الأخضر واليابس ومنعوا عمل الخير وقتروا على الرهبان فيما يأكلون ويشربون وتصرفوا بالأوقاف كأنها أملاكهم الخاصة، وجاءوا بذويهم وأصدقائهم إلى الأديرة، وأكلوا وشربوا وغنوا ما لا يليق، وأفسدوا حياة الرهبان وسلوكهم.
36
وسمع أليكسيوس هذا وأكثر منه ولكنه أبقى على نظام الخريستيخة؛ لأنه أوقف توسع أوقاف الأديار، وزاد في دخل الخزينة، وحاول أن يصلح الرهبان، وعلم باندفاع أحدهم - الراهب خريستوذيلوس - في هذا السبيل، فقربه إليه وشمله بعطفه، وشجعه على إنشاء دير نموذجي في جزيرة باتموس، وفي السنة 1088 وهب هذا الدير الجديد جميع ما في الجزيرة وأعفى جميع أوقافه من الضرائب ورفع عنه سلطة البطريرك،
37
وأظهر الفسيلفس اهتماما مماثلا في شئون الكهنة خدام الرعية، فأمر بوجوب تقيدهم بقواعد السلوك، وبانتقاء الصالحين من العامة؛ للقيام بهذه الخدمة الشريفة، وبوجوب تثقيفهم وتنوير عقولهم.
اقتراب الأجل
وكبرت حنة الفسيلسة الوالدة (حنة دلسانة) وتنحت عن السياسة (1109) فجاء دور كنتها إيرينة الفسيلسة، وكان أليكسيوس قد بدأ يشكو من داء المفاصل، فعنيت به إيرينة عناية فائقة فاعترف بجميلها، وراقبت سير السياسة في القصر مراقبة مجدية ونقلت أخبارها بأمانة إلى الفسيلفس، فشكر لها هذه الأمانة أيضا، ولكنه شعر في الوقت نفسه بميلها نحو ابنتهما حنة وصهرهما نيقيفوروس بريانوس وتأييدها لهما في سعيهما للوصول إلى العرش بعده، فأمر بوجوب بقائها معه، فكانت تنتقل معه حيثما توجه في خارج العاصمة، وفي السنة 1118 أحس باقتراب الأجل فاستدعى ابنه يوحنا إليه وألبسه خاتم الملك وأمر بتتويجه فسيلفسا، فكان له ذلك، ثم توفي بعد قليل في السادس عشر من آب سنة 1118.
38
الفصل الثلاثون
خلفاء أليكسيوس كومنينوس
1118-1185
يوحنا الثاني (1118-1143)
وكان يوحنا في الثلاثين من عمره عندما تبوأ عرش والده، وجاء في الأليكسياذة لشقيقته حنة أنه كان قصيرا، صغيرا، أسمر اللون، عريض الجبهة، أسود العينين، ضامر الوجه، ومن هنا لقبه «المغربي»، وأجمع شعبه على حبه واحترامه؛ للطفه ودماثة أخلاقه ورحابة صدره وكرمه وتأدبه واستقامته، فأطلقوا عليه لقبا آخر وعرفوه به هو يوحنا الصالح
Caloyan ، وكان كسائر أفراد أسرته جنديا كاملا حازما عادلا جريئا شجاعا، يشارك جنوده المشقة، ويسهر على راحتهم، وكان يشعر بمسئولية الحكم، ويحافظ على وقاره، ويسعى سعيا حثيثا للدفاع عن كرامة الدولة.
1
وليس لدينا لتاريخ الروم في عهد هذا الرجل الصالح من المراجع الأولية ما يمكننا من التوسع في أخباره وفهمه فهما كافيا؛ فحنة صاحبة الأليكسياذة وقفت - فيما يظهر في روايتها - عند وفاة والدها، وقناموس
Cinnamus
ونيقيتاس مؤرخا القرن الثاني عشر عنيا بأخبار عمانوئيل الأول ابن يوحنا، وما جاء في كتابيهما عن يوحنا إنما ورد مقدمة لأخبار عمانوئيل، ويجوز القول إن يوحنا الثاني سعى لإعمار الدولة، فاستقدم بعض العناصر الجديدة وأنشأ لهذه الغاية بعض القرى والدساكر، ويستدل من الخريسوبولة التي أصدرها لإنشاء دير البانتوقراتور
أنه سعى أيضا لتخفيف البؤس والشقاء والعوز، ولكن همه الأول كان - فيما يظهر - إعلاء شأن الدولة وتدعيم كرامتها.
2
أخباره في أوروبة
وفي السنة الثالثة من حكمه عبر البتشناغ الدانوب، وانتشروا في البلقان مخربين ناهبين، ولكنهم لم يتمكنوا من الوقوف في وجه جيش منظم مدرب، فخسروا معركة بيردة وانقطعت أخبارهم، وتدخل يوحنا في أمور الصرب تدخلا فعليا فأقام على هؤلاء أمراء موالين له مخلصين للروم كل الإخلاص.
وعلى الرغم من أن زوجته الفسيلسة كانت أميرة مجرية، فإن طمع بعض الزعماء المجريين في الوصول إلى ساحل الأدرياتيك عن طريق البلقان والتقارب بين هؤلاء وبعض الزعماء الصربيين ؛ أوجب اللجوء إلى القوة؛ لإبقاء المجريين ما وراء الدانوب، وتفوق الجيش البيزنطي المدرب على العشائر المجرية، وأنزل بهم خسائر جمة، ولكن هذا كله لم يحل المشكلة المجرية حلا دائما.
3
وكبر على يوحنا الثاني أن يدفع للبنادقة المال السنوي الذي كان قد أقره والده في أثناء محنته، فأعلن البنادقة الحرب وأنفذوا أسطولهم إلى مداخل الأدرياتيك وإلى بحر إيجه، فاحتلوا كورفو ورودوس وخيوس في السنة 1124، وساموس ولسبوس وأنذروس ومودونة في المورة سنة 1125، وقيفالونية في السنة 1126، فاضطر يوحنا إلى أن يعترف بمعاهدة السنة 1082 وأن ينفذ شروطها.
ورأى يوحنا أن يوثق علاقاته مع بعض المدن الإيطالية الأخرى؛ ليحد من نفوذ البنادقة، فأقر لتجار بيزة امتيازاتهم في السنة 1136، ودخل في تعاون مماثل مع تجار جنوى في السنة 1142، ومن هنا ما جاء في تاريخ نيقيتاس من أن مراكب إيطالية سارت مبسوطة القلوع نحو أم المدن.
4
حروبه في آسية
وكان يحيط بملكه في آسية إمارات تركية سلجوقية ثلاث؛ مسعود في قونية وما جاورها، وملك غازي في سيواس وجهاتها، وطغرل أرسلان بن قلج أرسلان في ملاطية وتوابعها، وكان السلطان مسعود يهدد وادي المياندر وسهل دوريلة لإيجاد المراعي اللازمة لجموعه الرحل، أما ملك غازي فإنه كان يطمع في مرافئ البحر الأسود، وكان طغرل لا ينفك عن الإغارة على سواحل أدنة وسائر قيليقية، فهب يوحنا في السنة 1119 إلى قلب آسية الصغرى، إلى حدود سلطنة مسعود، فاحتل لاذقية الأناضول وأنشأ فيها حصنا منيعا يسيطر به على وادي المياندر،
5
وفي السنة 1120 استولى على سوزوبوليس
Sozopolis
فتيسر له تأمين المواصلات مع أضالية في الجنوب،
6
وفي كانون الأول من السنة 1124 هجم كل من السلطان مسعود وملك غازي على إمارة طغرل في ملاطية فأكرهاه على الالتجاء إلى يوحنا،
7
ثم دب الشقاق في سلطنة قونية فثار عرب على أخيه مسعود فالتجأ هذا إلى القسطنطينية، ثم تعاون مسعود وغازي على عرب، فأكرهاه على اللجوء إلى القسطنطينية،
8
فعظم أمر ملك غازي واتسع سلطانه واشتدت مطامعه في ساحل البحر الأسود وفي وادي الفرات، فحاربه الفسيلفس أكثر من مرة بين السنة 1132 والسنة 1135 واستولى على قسطموني وعلى جميع شاطئ البحر الأسود، وبعد وفاة ملك غازي في السنة 1134 صادق الفسيلفس السلطان مسعود واتجهت أنظاره نحو قيليقية،
9
وفي السنة 1137 حشد يوحنا قوة كبيرة في أضالية، وبعد أن وصل إليها بحرا قام على رأسها إلى قيليقية فأبعد عنها أميرها لاوون الأرمني وأولاده واحتل مدنها وسهولها، وفي السنة التالية ألقي القبض على لاوون وأولاده وأرسلوا مخفورين إلى القسطنطينية.
10
وكانت مشكلة أنطاكية لا تزال قائمة تنتظر حلا لائقا، وكان قد توفي بوهيموند الأول في إيطالية - كما سبق أن أشرنا - وكان قد قتل في الميدان كل من تنكريد الصقلي (1112) وبوهيموند الثاني (1130) وتولى الوصاية على قسطندية ابنة بوهيموند الثاني روجه السلارنوي
Roger de Salerne ، فارتأى يوحنا الثاني أن يزوج ابنه عمانوئيل من قسطندية، ووافقت والدة الأميرة الوريثة، ولكن فولك دانجو ملك القدس أزوج الأميرة من ريمون قومس بواتييه، فغضب يوحنا الثاني لكرامته، وكان عماد الدين زنكي حاكم الموصل أحد أتابكة السلاجقة يتأهب للإغارة على دول الإفرنج، فما كاد يستولي على
Montferrand
في بعرين في تلال النصيرية المطلة في حماه، ويحصر فيها ملك القدس وقومس طرابلس؛ حتى ظهر يوحنا أمام أسوار أنطاكية (آب 1137)، فحاصرها فسقطت في يده فرفع علمه على قلعتها وأكره أميرها ريمون على يمين الولاء والطاعة،
11
وفي السنة 1138 زحف على حلب بجموعه وجموع الإفرنج الموالين له فلم يتمكن من دخولها، وحاصر شيزر على العاصي ثلاثة أسابيع (26 نيسان-21 أيار) فلم يقو عليها،
12
فعاد إلى أنطاكية ليجابه ثورة دبرها له أمير الرها جوسلان
Jocelin ، فقام إلى القسطنطينية ممتعضا.
13
ولم يتمكن يوحنا من العودة إلى ميدان القتال في سورية؛ لأن محمد بن ملك غازي أغار على حدود الدولة الشرقية، فصده يوحنا في السنة 1139 ثم تأثره داخل حدوده محاولا الاستيلاء على حصن قيصرية الجديدة الذي أنشأه محمد فلم يفلح واضطر إلى أن يعود إلى عاصمته في أواخر السنة 1140.
وتوفي محمد وتنازع الحكم بعده أبناؤه وغيرهم، فأعد يوحنا حملة جديدة قام بها إلى أنطاكية ليؤسس إمارة لابنه عمانوئيل تشمل قبرص وأضالية وما جاورها حتى أنطاكية،
14
وفي شتاء السنة 1142 تقبل خضوع جوسلان
Jocelin
قومس تل باشر وتقدم نحو أنطاكية واضطر إلى أن يحاصرها، وكتب إلى فولك ملك القدس أنه ينوي زيارة الأماكن المقدسة بجمعه، فأجاب فولك أنه يتعذر عليه إيجاد المؤن اللازمة لجيش صديقه الكريم، فكتب يوحنا ثانية مبينا أنه لا يمكنه القيام إلى القدس دون حرس لائق برتبته ومكانته، ثم عدل عن هذه الزيارة،
15
وقام من أنطاكية إلى قيليقية لتمضية الشتاء، وفي أثناء إقامته فيها أصابه سهم مسموم في أثناء الصيد، فشعر باقتراب الأجل، فنظر في ولاية العرش، وكان ابناه الأكبران قد توفيا ولم يبق من أولاده الذكور الأربعة سوى إسحاق وعمانوئيل، فولى الأصغر عمانوئيل وقام إلى القسطنطينية وتوفي فيها في الثامن من نيسان سنة 1143.
16
عمانوئيل الأول (1142-1180)
وخشي عمانوئيل مطامع عمه إسحاق الذي كان قد تآمر مرارا على أخيه يوحنا، واضطر إلى أن يلجأ إلى الأتراك، وكان لا يزال آنئذ منفيا في هرقلية، وخشي أيضا أخاه إسحاق الذي كان أكبر منه سنا وأحق في الملك، ولكن ولاء الشعب لوالده يوحنا ومقدرة وزيره الأول يوحنا أخوخ
17
ضمنا له الوصول إلى العرش سالما ساكنا، وكان قد بقي في أضالية حتى منتصف السنة 1143 فقام إلى القسطنطينية وتقبل التاج من يد البطريرك المسكوني في كنيسة الحكمة الإلهية كالعادة.
وكان عمانوئيل طويل القامة قويا جميل الطلعة طلق المحيا أسمر اللون فاتن العينين، وكان معجبا بقوته وفروسيته يستغل كل ظرف لإظهار ما أوتي منها، فذاع صيته في الآفاق وبلغت شهرته الداني والقاصي، ومما يروى من هذا القبيل أنه تقلد أثقل الأسلحة وأن أمراء الصليبيين سمعوا بذلك فلم يصدقوه، وأتيح لأمير أنطاكية أن يمثل أمام الفسيلفس الجبار، وشاهد هذا السلاح الصقيل فأراد أن يتثبت من نوعه ووزنه، فطلب إلى الفسيلفس أن يسمح له بحمل رمحه وترسه، وما إن فعل حتى أعجب بما أوتي الفسيلفس من قوة وعظمة، فأعاد السلاح مؤكدا أن صاحبه كان في الواقع جبارا، واعتذر عن تطفله.
18
وكان الفسيلفس الجديد جنديا رائعا مدهشا يجيد ركوب الخيل ويشاطر جنوده التعب وشظف العيش، ويهرع لمعونتهم غير مبال بالتعب أو الخطر، ومما جاء من هذا القبيل أنه رمى بنفسه مرة في نهر الدانوب لينقذ مركبا أشرف على الخطر وفيه عدد من الجنود، وقد جاء أيضا أنه كان يهرع إلى حصانه أحيانا فيمتطيه ويسرع به لمطاردة العدو قبل أن يستكمل سلاحه، بيد أن توقد عاطفته الذي ألهب فيه هذا النوع من الشجاعة غضى من قيمته كقائد عسكري، فقد كانت الصعوبات في ميدان القتال توهن عزائمه وتثبط همته فتؤدي به إلى التضعضع والتراجع.
وأعجب عمانوئيل بالفرسان الصليبيين وبصلابتهم وبأسهم، فجاراهم في عاداتهم وتقاليدهم الحربية، ووكل إلى بعضهم إدارة شئون الدولة، وأدخل غيرهم في الجيش وقلدهم مناصب هامة، وأكبروا هم فيه مواهبه الحربية ومقدرته الجسدية وثقته بهم، وتدرب هو على أساليبهم الحربية، وراقته مبارياتهم في الفروسية، فأقامها كما كانوا يقيمونها، وباراهم فيها في أنطاكية، فقلب الكثيرين منهم عن سروج خيولهم.
19
وخالف عمانوئيل أباه يوحنا في بذخه ومرحه، وأصبح البلاط في عصره كثير الحفلات زاهيا رائعا، تؤمه الظريفات الجميلات من جميع أنحاء الدولة، وتكثر فيه المغازلات والمغامرات، وكان الفسيلفس يحب الجمال والأناقة والرشاقة فعني بهن بغير حساب، وضاقت نفسه بزوجته برتة الألمانية التي لم تتزين ولم تتدلل ولم تتغنج، فمال نحو ثيودورة إحدى قريباته، ثم تزوج من مريم الأنطاكية الإفرنجية التي فاقت أفروديتة «بعينيها الساحرتين وشعرها الذهبي وابتسامتها العذبة وجسمها الفتان»،
20
وألم بالفسيلفس مرض، واشتدت وطأته عليه وفقد الأطباء كل أمل في شفائه، فطلب إليه وزراؤه تعيين خلفه وأشار عليه البطريرك المسكوني بالندامة والصلاة، ولكن عمانوئيل أكد لهؤلاء جميعا أن المنجمين كشفوا له بخته وقالوا إنه سيعيش أربع عشرة سنة وأنه سيعود إلى نشاطه وسابق حبه ومغامراته!
21
وتميز عمانوئيل بين زملائه في الشرق والغرب معا بعلمه وأدبه وسعة اطلاعه، فإنه كان يقرأ كثيرا ويكتب جيدا، ويجد لذة خاصة في الفلسفة، فيجادل فيها بنجاح، وكان مولعا بالطب، يجالس رجاله ويباحثهم فيه ويمارسه، فهو الذي عالج كونراد الثالث في أثناء الحرب الصليبية الثانية، وهو الذي قدم الإسعاف الأولي لبودوان ملك القدس عندما وقع عن ظهر حصانه في أثناء الصيد فكسر ذراعه، وكان موقفه من الدين وعلومه موقف كل فسيلفس أرثوذكسي قبله وبعده؛ فإنه أظهر رغبة في بحث المشاكل العقائدية، وقام بجميع الفروض الطقسية، وأنشأ الكنائس والأديرة، واهتم بنوع خاص بكنيسة دير البانتوقراطور الجميلة وأحب أن يدفن فيها هو وسائر أفراد أسرته.
22
واتسعت آفاق عمانوئيل السياسية وطمع في إيطالية وصقلية وفي إمارات الشرق اللاتينية، فكثر عدد دعاته وجواسيسه، وتدخل في أمور وأمور فأصبحت القسطنطينية مركزا هاما جدا للسياسة الدولية في القرن الثاني عشر، وأثارت مطامعه هذه مخاوف شديدة في بلاط فريديريكس بارباروسة وابنه هنريكوس السادس، كما أيقظت روح العداء بين الروم والصليبيين، ولم يرض الروم عن عطفه على الغربيين وإدخالهم في ملاك الإدارة وتقليدهم المناصب الهامة، فقاموا - عند وفاته - بثورة واسعة النطاق أدت إلى تواري زوجته مريم اللاتينية وابنه وإلى ذبح الإيطاليين في العاصمة.
مشكلة أنطاكية
وانتهز ريمون دي بواتييه أمير أنطاكية فرصة وفاة يوحنا الثاني، فاحتل بعض الأماكن داخل حدود الروم في سورية الشمالية وأغار على قيليقية، فاضطر الفسيلفس عمانوئيل أن ينفذ حملة عسكرية إلى أنطاكية نفسها، واضطر ريمون - بدوره - أن يقوم بنفسه إلى القسطنطينية ليطلب العفو عما صدر عنه كما اضطر أن يزور قبر يوحنا الثاني ويركع أمامه؛ تكفيرا وتعظيما (1145).
23
سلطنة قونية
وضعفت إمارة ملك غازي في شرقي آسية الصغرى، وطمع سلطان قونية مسعود فيها، فالتجأ أميرها إلى الفسيلفس طالبا المعونة، فقام عمانوئيل في السنة 1146 إلى قونية مخربا مدمرا، فأكره سلطانها على شروط معينة مرضية، وعاد إلى القسطنطينية يتدبر أمر الحملة الصليبية الثانية التي كانت قد بدأت تتحرك متجهة نحو الشرق.
24
الحملة الصليبية الثانية (1147-1149)
وهال الغرب سقوط الرها في يد عماد الدين زنكي في السنة 1144 وهب القديس برناردوس يطوف أوروبة الغربية مستنهضا مستثيرا الهمم، فلبى النداء ملوك أوروبة هذه المرة لا أمراؤها كما في الحملة الأولى، وتزعم القيادة كونراد الثالث إمبراطور ألمانية (1138-1152)، وكتب البابا أوجانيوس الثالث إلى عمانوئيل يدعوه إلى الاشتراك في الجهاد، وأرسل لويس السابع ملك فرنسة وفدا خاصا لهذه الغاية نفسها، فأجاب عمانوئيل مرحبا واعدا بتقديم المؤن والمراكب والمعونة العسكرية إذا سمحت الظروف بذلك، وكثر القيل والقال في عاصمة الروم حول عدد المجاهدين، وأجمعت الآراء على أن الحملة الصليبية الثانية ستشتمل على مائة وأربعين ألف فارس وعدد لا يحصى من المشاة وأن مجموع القوى قد يقارب المليون، واضطرب عمانوئيل في قرارة نفسه وحسب ألف حساب، ولم يخش طمع الألمان؛ لأن والده كان قد وطد العلاقات معهم ووقع تحالفا أصبح ركن سياسة القسطنطينية في علاقاتها الدولية، ولأنه هو كان قد تزوج في السنة 1146 من أميرة ألمانية تمت إلى الإمبراطور بصلة النسب، ولكنه خشي جموع الفرنسيس؛ لأن لويس السابع كان يعطف كثيرا على النورمنديين الإيطاليين أعداء الروم، ولأن أمراء أنطاكية والقدس كانوا فرنسويين.
ووصل الألمان أولا وكانوا قد نهبوا ذات اليمين وذات الشمال في أثناء مرورهم في أراضي الروم، فطلب عمانوئيل إلى كونراد أن يعبر جنوده الدردنيل لا البوسفور في طريقهم إلى آسية، ولكن كونراد رفض وتابع سيره نحو القسطنطينية، وحطت رحال جنوده خارج أسوارها وسلبوا ونهبوا وأحرقوا، ولم يرض كونراد عن التقاليد المتبعة في التشرفيات في القصر المقدس، فساءت العلاقات بين الكبيرين، ولكن عمانوئيل تمكن من إقناع ضيفه الكبير بوجوب الانتقال إلى آسية ومتابعة السير نحو الأراضي المقدسة،
25
وبعد هذا بقليل في خريف السنة 1147 أطل لويس السابع بجموعه فحل ضيفا مكرما على الفسيلفس، واشترك الضيف والمضيف في عيد القديس دنيس في التاسع من تشرين الأول، وساد الحب والتفاهم الأحاديث والعلاقات كلها، ثم طلب عمانوئيل إلى لويس السابع وأمرائه وأشرافه أن يقسموا يمين الطاعة والولاء كما فعل أمراء الحملة الأولى، لم يرض الملك الإفرنسي بذلك وشاركه في الرفض جميع حاشيته من كبار الرجال، وارتأى أحد الأساقفة الإفرنسيين أن يصار إلى احتلال القسطنطينية، ولكن لويس أبى مذكرا الأسقف وغيره بالنذر الصليبي.
26
واصطدم كونراد بالأتراك السلاجقة عند دوريلة ولم يتمكن من محابهتهم، فجعل عمانوئيل انكساره نصرا، وما إن سمع الإفرنسيون بهذا «النصر» حتى هموا بالرحيل؛ ليتسنى لهم الاشتراك بالنصر، وعبروا البوسفور واتجهوا جنوبا حتى أضالية فأنهكهم التعب وقل انتظامهم، فقام لويس على رأس قسم من جموعه إلى الأراضي المقدسة على متن مراكب رومية واتجه الباقون برا بدون انتظام، وكان عماد الدين زنكي قد خر صريعا بضربة خنجر في السنة 1146 فتمكن الأمير جوسلان الصليبي من الاستيلاء على الرها، ولكنه لم يتمكن من صد غارات نور الدين على أراضيه.
فلما وصل ملوك الفرنجة إلى سورية الشمالية رأى ملك القدس بودوان الثالث أن يتجه الملوك المجاهدون نحو دمشق، فوصلوا إليها في تموز السنة 1148 وأحاطوا بها وخربوا غوطتها، ولكنهم لم يتمكنوا من الاستيلاء على المدينة، وأخفقت الحملة الصليبية الثانية وعزا أمراؤها هذا الإخفاق إلى عمانوئيل وحكومته، وعادوا إلى الغرب يعدون العدة لحملة ثالثة توجه ضد الروم أنفسهم.
27
الحرب النورمندية (1147-1158)
وكان روجه الثاني قد خلف روبر غيسكار في صقلية وجنوبي إيطالية، وكان يحلم منذ تتويجه في بالرمو في السنة 1130 بتوسع كبير عبر الأدرياتيك، وما إن ابتلي عمانوئيل بمشاكل الحملة الصليبية الثانية في صيف السنة 1147 حتى أعلن روجه الحرب عليه واحتل كروفو، ثم قام منها إلى المورة وما فتئ حتى احتل كورونثوس، وكثرت غنائمه ونقل فضة وذهبا كثيرا، ولكن أفضل ما وقعت يده عليه صناعة الحرير التي كانت لا تزال سرا من الأسرار خارج لبنان والمورة، فنقل إلى صقلية عددا كبيرا من سكان مناطق التوت ودود الحرير إلى صقلية، فأنهى بذلك احتكارا كبيرا كانت القسطنطينية قد تمتعت به زمنا طويلا.
ولم يتمكن عمانوئيل من صد روجه فور نزوله في كورفو والمورة؛ لانشغاله بمشاكل الحملة الصليبية الثانية، وأول ما فعل أنه اتصل بالبنادقة، وعقد معهم تحالفا جديدا ضد روجه، وذلك في الخريف السنة 1147، ثم أعقبه بتحالف آخر في آذار السنة التالية، وقضى هذا التحالف بأن يشترك البنادقة في صد روجه عن مطامعه مقابل امتيازات تجارية جديدة يمنحهم إياها الفسيلفس، وأهم هذه الامتيازات فتح مرافئ قبرص ورودس لتجارتهم وتوسيع منطقة إقامتهم في عاصمة الدولة،
28
وفي أواخر السنة 1148 ضرب الروم والبنادقة الحصار على كورفو واستولوا عليها في صيف السنة 1149، وأنزل أسطول الروم بأسطول النورمنديين هزيمة كبيرة عند رأس مالي، فنزعت نفس عمانوئيل إلى صقلية وإيطالية الجنوبية لا بل إلى جميع إيطالية، وتمكن الفسيلفس من احتلال أنكونة في السنة 1151، فهب روجه يفتش عن حلفاء يعاونونه في الدفاع عن ملكه، فلقي استعدادا كبيرا لذلك لدى حبر رومة أوجانيوس الثالث، وترحيبا حارا في عاصمة الفرنسيس، وأثار الصرب على الروم، وتراءى لبعض رجال السياسة أن الحرب الرومية النورمندية ستصبح حربا أوروبية عامة؛ لأن الإمبراطور الغربي كونراد الثالث كان لا يزال يؤيد الروم تأييدا شديدا.
وتوفي كونراد الثالث في السنة 1152، وتولى العرش بعده فريديريكوس الأول بارباروسه (1152-1190)، وكان يطمع في الاستيلاء على إيطالية فلم يندفع في تأييد الروم اندفاع سلفه كونراد الثالث، بل تقرب من البابا أوجانيوس الثالثا فتفاهما، ولم ترض البندقية عن احتلال أنكونة ورأت في مطامع عمانوئيل في إيطالية خطرا على مصالحها في الأدرياتيك ووقعت صلحا منفردا مع النورمنديين في السنة 1154، وتوفي روجه في هذه السنة نفسها وخلفه على العرش وليم الأول، وخشي وليم مناوأة كبار النورمنديين له فأرسل يفاوض عمانوئيل في الصلح، فلم يقبل الفسيلفس ولم يعترف بالملك الجديد، ثم وقع حلفا مع جنوى في خريف السنة 1155 وأنزل جيشا في إيطالية الجنوبية واستولى على باري وتراني وحاصر برنديزي، ثم غلب على أمره فيها ووقع قائد جيوشه في الأسر.
وتغلب النورمنديون عليه في موقعة بحرية في بحر إيجه بالقرب من شبه جزيرة إفوبية، وخشي البابا أدريانوس الرابع مطامع فريديريكوس الأول في إيطالية، فتدخل في النزاع الناشب بين الروم والنورمنديين وألمح بوجوب إنهاء الحرب في إيطالية، وكان الفسيلفس يرغب في استمالة البابا ويخشى في الوقت ذاته تطور الموقف في البلقان وفي سورية الشمالية، فقبل بالصلح ووقع مع وليم الأول معاهدة لهذه الغاية في السنة 1158.
ولا نعلم تفاصيل هذه المعاهدة، وجل ما نعلمه عنها أنها شملت تحالفا بين الروم والنورمنديين لمدة ثلاثين عاما، ولعل هذا التحالف كان موجها ضد فريديريكوس ومطامعه في إيطالية.
الفسيلفس سيد سورية وفلسطين ولبنان
وفشل الصليبيون في حملتهم الثانية، وقتل ريمون أمير أنطاكية في الحرب ضد المسلمين في السنة 1149 فشمل الفسيلفس أرملته قسطنسة بعطفه وحمايته، وعلى الرغم من عدم انصياعها له في أمر زواجها وإقدامها على التزوج من رينو دي شاتيون؛ فإنه ظل يعتبر نفسه سيد أنطاكية وتوابعها، وفي السنة 1150 اندثرت قومسية الرها، فشمل الفسيلفس أميرتها بعطفه وعرض عليها ابتياع حقوقها فيها،
29
وفي السنة 1152 ثار طوروس بن لاوون الأرمني على عمانوئيل، واعتصم بتلال قيليقية، واستولى على طرسوس وغيرها، فاستعان عمانوئيل برينو أمير أنطاكية ووعده بمكافأة مالية جزيلة، فجرد رينو حملة على طوروس وكاد يضايقه، ولكنه شعر أن مكافأة الروم قد تكون غير كافية فانضم إلى طوروس وتعاون معه في إغارة كبيرة على قبرص (1156)،
30
فاستشاط الفسيلفس غيظا، وجاءت معاهدة السنة 1158 تنهي الحرب في إيطالية فنهض عمانوئيل بنفسه إلى قيليقية فأخضع طوروس ثم أنفذ رجاله إلى أنطاكية، فخشي رينو عاقبة خيانته والتجأ إلى سيده بودوان الثالث ملك القدس طالبا توسطه في الأمر، ولكن بودوان كان قد ساءه تصرف رينو وكان قد صاهر الفسيلفس فلم يجب سؤله، فحار رينو في أمره، ولما لم يجد من يعينه أم مصيصة مقر عمانوئيل في قيليقية أعزل، عاري القدمين، حاسر الرأس، ممسكا بسيفه من طرف نصلته، وارتمى عند موطئ قدمي الفسيلفس، وما فتئ كذلك حتى أمره عمانوئيل بالنهوض، فنهض واعترف بسيادة الفسيلفس، ثم رضي بتسليم قلعة أنطاكية وبعودة البطريرك الأرثوذكسي إلى مقره فيها،
31
ووفد على الفسيلفس في أنطاكية ملك القدس بودوان الثالث فاعترف بسيادة عمانوئيل أيضا ووعد بتقديم المساعدة العسكرية التي يتطلبها سيده منه،
32
وقام الفسيلفس إلى أنطاكية فدخلها ممتطيا حصانه يواكبه رينو وغيره من أمراء الصليبيين مشيا على الأقدام، ثم دخلها بعده ملك القدس ممتطيا جواده ولكن دون أية شارة من شارات الملك والسيادة، وفي أثناء إقامته في أنطاكية فاوض عمانوئيل نور الدين أمير حلب في أمر الأسرى الإفرنج فأخلى سبيل ستة آلاف منهم، وتعهد نور الدين بتأمين سير الحجاج داخل منطقته،
33
وعاد عمانوئيل في السنة 1159 مكللا بالظفر والمجد.
وظلت علاقات الروم مع الصليبيين حسنة طيبة حتى نهاية عهد عمانوئيل، وظل هو محافظا على احترامه لأمراء الفرنجة مكبرا فيهم مثلهم العليا في الفروسية طوال أيامه.
وبعد وفاة زوجته الأولى برتة الألمانية اتجه نحو قصور هؤلاء الأمراء يفتش عن فسيلسة جديدة، وكاد يجدها في طرابلس في شخص شقيقة أميرها الصليبي، ثم آثر الاقتران بمريم ابنة قسطنسة وريثة أنطاكية فتزوج منها في السنة 1161،
34
وفي السنة 1164 وقع بوهيموند الثالث في يد المسلمين أسيرا فتدخل عمانوئيل وأطلق سراحه، فقام هذا الأمير الصليبي إلى القسطنطينية يشكر للفسيلفس صنيعه وتزوج من أميرة رومية، وفي السنة 1162 توفي بردوان الثالث ملك القدس فتسنم العرش بعده أخوه أموري، فتزوج هذا أيضا من أميرة رومية واعترف بسيادة عمانوئيل، وأنفق الفسيلفس على كنائس الأماكن المقدسة وآثارها واعترف الملك أموري بذلك وأقام النقوش؛ تخليدا لاهتمام سيده، ولا تزال هنالك كتابة باليونانية تحفظ ذكر عمانوئيل في كنيسة بيت لحم حتى يومنا هذا، وقد جاء في مطلعها ما يدل على سيادة الفسيلفس، فإن هذا النقش التاريخي يبدأ بالعبارة: «في عهد عمانوئيل، ولما كان أموري ملك أورشيلم.»
35
وتعاون الاثنان في حملة على دمياط في السنتين 1167 و1169 ولكن دون جدوى، ثم تحالفا لهذه الغاية،
36
ولكن وجه صلاح الدين كان بدأ يتألق في سماء مصر؛ إذ أصبح وزير الخليفة الفاطمي في السنة 1169، ثم خلفه على العرش في السنة 1171، ولما توفي نور الدين في السنة 1174 جمع صلاح الدين في شخصه إمارة الموصل ومصر، وعلى الرغم من وصول أسطول رومي إلى مياه عكة في السنة 1177 فإن موقعة عسقلان كانت آخر نصر أحرزه الصليبيون على صلاح الدين.
37
المشكلة الإيطالية
وعظم سلطان هذا الفسيلفس في الشرق، وكاد أن يكون صاحب القول الفصل في جميع أرجائه، ولكن مطامعه في أوروبة أضاعت عليه النفوذ والعز والمجد، وأتاحت لصلاح الدين فرصة عسكرية ثمينة، ظهرت نتائجها بعد وفاة عمانوئيل بمدة وجيزة.
وطمع عمانوئيل في إيطالية ونزعت نفسه إلى مجد الأباطرة المؤسسين واعتبر كارلوس الكبير وخلفاءه في الغرب مغتصبين،
38
فنشب نزاع بين عمانوئيل وبين فريديريكوس دام عشرين عاما (1158-1178)، ففي السنة 1155 فاتح عمانوئيل البابا أدريانوس الرابع بأمر اتحاد الكنيستين فوطد بذلك علاقته مع رومة، وأصبح الفسيلفس والبابا حليفين متحابين ضد فريديريكوس الإمبراطور.
وتوفي أدريانوس الرابع في السنة 1159، فرقي السدة الباباوية ألكسندروس الثالث، فخشي فريديريكوس متابعة التعاون بين رومة والقسطنطينية، فأقام رأسا للكنيسة مناوئا: فيكتوريوس الرابع ، فانقسمت كنائس أوروبة الغربية شطرين بين هذين الرأسين، ووقفت كنيسة فرنسة وإنكلترة والمجر والبندقية إلى جانب ألكسندروس الثالث.
وراسل هذا الحبر عمانوئيل ووافقه - فيما يظهر - في نظرية الاغتصاب، فأكرم الفسيلفس الوفد الباباوي ووعده خيرا، وفي السنة 1163 أرسل عمانوئيل وفدا مفاوضا إلى عاصمة الفرنسيس ولكن لويس السابع آثر التريث، ولم تظهر البندقية اهتماما مشجعا ولكن عمانوئيل لم ييأس؛ فإنه عندما نزل فريديريكوس إلى إيطالية في السنة 1166 واضطر ألكسندورس الثالث إلى أن يخرج من رومة (1167) فاوض عمانوئيل هذا البابا في أمر التاج الغربي وأظهر استعدادا كبيرا لإزالة الحواجز التي تفصل بين فرعي الكنيسة الأم في حقل العقيدة شرط أن يضع هذا البابا التاج الغربي على رأس الفسيلفس، ورضي البابا بذلك ولكن الإكليروس الشرقي عارض معارضة شديدة فتردد البابا ثم امتنع.
39
عمانوئيل والكنيسة
وفي السنة 1151 استعفى البطريرك المسكوني نيقولاووس الرابع، فخلفه البطريرك ثيوذيتوس، ثم استعفى هذا أيضا في السنة 1153 فانتخب بعده نيوفيطوس الأول، وتوفي هذا في السنة 1154، فرقي السدة المسكونية البطريرك قسطنطين الرابع الملقب بليخوذاس، وتوفي قسطنطين الرابع في السنة 1156 فخلفه البطريرك لوقا، وتوفي هذا في السنة 1169 فخلفه «مقدام الفلاسفة» البطريرك ميخائيل الثالث، ثم جاء بعده البطريرك خاريطون في السنة 1177، فالبطريرك ثيوذوسيوس الثاني سنة 1178.
وكان لعمانوئيل مواقف تشهد له باندفاعه في سبيل العقيدة الأرثوذكسية؛ فإنه ضايق البوليسيين كل المضايقة وأمر بمحاكمة زعيمهم نيفون الراهب (1147)، ثم اهتم لشذوذ ديمتريوس لامبه (1166) وعاقب الأساقفة الثلاثة الذين كانوا لا يزالون يقولون قول يوحنا الإيطالي (1146-1157) وحاول محاولة جدية للتوفيق بين كنيستي الأرمن والسريان من الجهة الواحدة والكنيسة الأرثوذكسية من الجهة الأخرى، ورأى قسوة جارحة في النص الذي كان يفرض على المسلمين لقبولهم في الكنيسة فأمر بتعديله ضنا بحسن العلاقة بين المسلمين والنصارى.
40
سلطنة قونية
وكان يوحنا الثاني قد استفاد من انقسام الأتراك السلاجقة ومن مناظراتهم ومشاحناتهم، وكان هذا الانقسام قد دفع مسعودا سلطان قونية إلى الالتجاء إلى القسطنطينية، وبعد السنة 1142 استفاد مسعود نفسه من الانقسامات التي نشبت في إمارة سيواس، فاضطر عمانوئيل إلى أن يقوم بنفسه إلى قونية في حملة حربية سنة 1146، وفر مسعود من وجهه واتجه شرقا يستنفر عشائر التركمان، فخشي عمانوئيل إطالة الحرب، وعلم بتجمع الصليبيين في حملة ثانية فعاد إلى القسطنطينية قبل أن يستولي على قونية، وأراد عمانوئيل أن يدفع الصليبيين إلى إخضاع قونية وصاحبها، ولكن المشادة التي نشأت بينه بين كونراد الثاني جعلته يستعين بقونية على الصليبيين (كانون الثاني 1148).
واستتب الأمر بعد مسعود لابنه قلج أرسلان الثاني (1155-1192)، وهو أول سلجوقي أناضولي اتخذ لنفسه لقب سلطان في المسكوكات. والمراجع العربية المعاصرة تحتفظ بهذا اللقب لأمراء السلاجقة الكبار في فارس ولا تذكر لأمراء الأناضول سوى لقب ملك، وإذا أخذنا بشهادة المؤرخين النصارى كان قلج أرسلان الأول أول سلطان سلجوقي في الأناضول.
41
وعاون عمانوئيل أمراء سيواس على قلج أرسلان الثاني، وحرك ضده نور الدين أمير حلب (1159-1160) فاضطر سلطان قونية في السنة 1161 إلى أن يرتمي في حضن عمانوئيل، واعدا بتقديم المعونة العسكرية كلما طلبها الفسيلفس، وبمحاربة أعدائه، وبإعادة المدن اليونانية التي كانت قد وقعت في يد المسلمين، وأم قلج أرسلان القسطنطينية في السنة 1162، فاستقبل فيها بحفاوة فأكد ولاءه وإخلاصه للفسيلفس، وجعل رجال البلاط يعتقدون أن قونية أصبحت في عهده محمية من محميات الروم.
42
وعاد قلج أرسلان إلى قونية يوطد دعائم ملكه، وينتظر انحلال الحلف الذي كان عمانوئيل قد أحاطه به. وبين السنة 1170 والسنة 1777 تمكن قلج أرسلان بشتى الوسائل من القضاء على إمارة سيواس وضم معظهما إلى سلطنته، واضطر صاحبها ذو النون إلى أن يلجأ بدوره إلى القسطنطينية. وأحس عمانوئيل بقصر نظره وتقصيره في حقل سياسة الأناضول؛ إذ إنه أتاح لصاحب قونية أن يوحد الأتراك السلاجقة بعد أن تفرقوا وتخاصموا، وبدأت عصابات الترك تهاجم تخوم الروم، ولا سيما وادي الميندر فتنزل بأهل الريف خسارات متتالية، وطالب عمانوئيل سلطان قونية بذلك فأجاب متأسفا مؤكدا أن لا علم له بما جرى!
فعمد عمانوئيل إلى القوة، وفي ربيع السنة 1176 أنفذ أحد كبار القادة بثلاثين ألفا إلى شرقي الأناضول إلى قيصرية الجديدة؛ لإعادة ذي النون إلى ملكه، وقام هو بمعظم الجيش إلى قونية ليحطمها تحطيما، وجاءها من الغرب متبعا أعالي نهر الميندر، واستصغر مقدرة خصمه ولم يتخذ الاحتياطات العسكرية اللازمة من حيث الاستكشاف وغيره، فدخل ممرا جبليا ضيقا بعد حصن ميريو كيفالون
Myriokephalon ، وما إن تم دخول الجيش بأكمله في هذا المضيق حتى انقض الأتراك من أعالي التلال على مؤخرته فأبادوها، ولم تتمكن طلائع الجيش من إعانة المؤخرة لازدحام الطريق الضيق بالمركبات الحربية وببغال النقل، ولم يكن عمانوئيل ممن يصبر عند الشدة فضاقت حيلته وضاق خلقه أيضا وصاح الفرار الفرار، وطلب النجاة بنفسه فقدر له ذلك فاخترق صفوف الأعداء وخرج مثقب الترس، مكسر الخوذة، لا يطن في أذنه سوى صوت سنابك خيل الأتراك،
43
وصباح اليوم التالي فوجئ عمانوئيل بالمفاوضة بصلح دائم بين الدولتين وبشروط مشرفة، فاشترط قلج أرسلان الثاني لقاء تراجع منظم وعودة سالمة إلى الحدود أن يرضى الفسيلفس بدك حصني دوريلة وسوبليون.
44
ومما جاء في تاريخ نيقيتاس أن عمانوئيل لم يضحك بعد ذاك أبدا، وأنه عاش أربع سنوات، وأنه إذ رأى قواه تنحط لبس ثوب الرهبنة الخشن إلى أن وافته منيته سنة 1180، وقبل وفاته خطب لابنه أليكسيوس وهو في الثانية عشرة من عمره آغني ابنة لويس السابع ملك فرنسة وهي ابنة ثماني سنين، وأحضرها لتتربى في قصره وسماها حنة، ولم يكن له من امرأته الأولى سوى بنت واحدة اسمها مريم أزوجها سنة 1178.
وصاية مريم الأنطاكية (أيلول 1180/نيسان 1182)
وبعد وفاة عمانوئيل نفذت زوجته مريم الأنطاكية الفرنسية وصيته فتردت بثوب الرهبنة وتولت الوصاية على ابنها القاصر، وطلبت إلى أليكسيوس ابن أخي زوجها أن يساعدها في الحكم؛ نظرا لما كان قد عرف عنه من عطف على الإفرنج وتأييد لسياسة التعاون معهم، وطمعت مريم أخت الفسيلفس الصغير وزوجها رينه دي مونتي فرات
Renier de Montferrat
في الحكم، ولم يرض جمهور من الأشراف ومن رجال القصر عن إدارة أليكسيوس المساعد، واتهموا الفسيلسة الجميلة بأشياء وأشياء، فتآمروا جميعا على نزع السلطة من يد الفسيلسة الوالدة، واندلعت ثورة داخلية في الثاني من أيار سنة 1181، ولجأت الفسيلسة إلى كنيسة الحكمة الإلهية، وتدخل البطريرك المسكوني ثيودوسيوس وصالح الحزبين المتنازعين ووبخ مريم الفسيلسة وأليكسيوس مساعدها على سلوكهما، فاتهمه أليكسيوس بالخيانة والاشتراك مع الثائرين ونفاه، ولكنه اضطر إلى أن يرجعه؛ نظرا لتعلق الشعب به.
45
أندرونيكوس الأول (1182-1185)
وكان لعمانوئيل الأول ابن عم اسمه أندرونيكوس، وكان هذا الأمير طويل القامة جميل الطلعة قويا، وقد اشتهر بأنه فارس مجرب مغوار، وكان أيضا ذكيا معلما فصيحا، يجيد المناظرة، ويحسن الدفاع عن جميع وجهات النظر في المشاكل القائمة، فعرف «بالحرباء»، وقد عرف بكثرة المغامرات، وبالإسراف في العشق والفسق. وكان قد طمع في الملك وتآمر على سلامة ابن عمه الفسيلفس، فاضطر إلى أن يفر من وجهه وأن يلتجئ إلى حماية أحد أمراء الروس، ثم عاد إلى القسطنطينية فأودع السجن في القصر، ثم فر فجاء أنطاكية والقدس فكانت له مغامرات مع ثيودورة أرملة بودوان الثالث، ولم يجرؤ أحد في الشرق على إيوائه وحمايته، فعاد إلى القسطنطينية تائبا متراميا على قدمي الفسيلفس، فنفاه إلى آينايون في البحر الأسود، وظل يحلم بالحكم على الرغم من تقدمه في السن.
46
وإذ رأى أندرونيكوس الأمور على ما كانت عليه في القسطنطينية بعد وفاة عمانوئيل؛ أعلن عصيانه فالتف حوله الجيش من المحاربين القدماء، وقام بهم إلى العاصمة، فطلب طرد مريم الفسيلسة وعشيقها وبقاء الملك في يد ابنها أليكسيوس، فساعده الشعب على ذلك وقبضوا على أليكسيوس المساعد وأرسلوه إلى أندرونيكوس فسمل عينيه، وأيد الإفرنج الساكنون في العاصمة مريم الفسيلسة فأعلنها أندرونيكوس حربا قومية دينية باسم الروم والأرثوذكسية وأنفذ قوة برية بحرية فقتل معظم الإفرنج في العاصمة ونهب بيوتهم ومتاجرهم وأحرقها، ودخل العاصمة وسجن الفسيلسة مريم وصلى على ضريح عمانوئيل.
ثم أمر بتتويج أليكسيوس الصغير وشاركه في الملك، وادعى على مريم بأشياء وأشياء، وسعى بالحكم عليها بالموت، وأجبر ابنها الصبي أن يوقع على الحكم بشنق والدته، ثم سعى في أوساط القصر بألا يكون فسيلفسان في وقت واحد، وشنق أليكسيوس الصغير وتزوج من خطيبته حنة ابنة لويس السابع، وقتل كثيرين من أنصار مريم وابنها وسمل عيون كثيرين منهم، ثم كلف البطريرك المسكوني بإقامة إكليل غير مسموح به، فأجابه البطريرك: «كنت أسمع عنك وأما الآن فقد رأيتك بعيني»، واستعفى.
47
وازداد أندرونيكوس طغيانا وتجبرا، ففر من وجهه عدد كبير من كبار رجال العاصمة والتجئوا إلى الأمراء الصليبيين في أنطاكية وغيرها ولا سيما القدس، وقام بعضهم إلى صقلية وإيطالية والبعض الآخر إلى قونية، وكان أندرونيكوس قد نفى أليكسيوس كومنينوس آخر إلى بلاد روسية، فهرب منها واحتمى بملك صقلية وليم الثاني وطلب مساعدته ضد أندرونيكوس، فأجاب وليم الثاني التماسه وجرد حملة في السنة 1185 واستولى على بعض الجزر وعلى قلعة ديراشيون.
ثم قام إلى ثيسالونيكية فدخلها بعد حصار قصير فقتل ونهب وأحرق، ودخل رجاله الكنائس في وقت الخدمة بسيوفهم يشوشون ويطئون حيث لا يجوز، ويكسرون ويسلبون، وفي أواسط أيلول زحفوا إلى القسطنطينية، وكان أندرونيكوس في جزائر الأمراء يتنعم ويتلذذ، فقام إسحاق أنجليوس وضم الشعب إليه واستولى على القصر المقدس، ورجع أندرونيكوس إلى العاصمة فدفع إسحاق به إلى الجمهور ليميته كما يشاء، وهب إسحاق يسعى في قتال النورمنديين.
48
العاصمة في القرن الثاني عشر
وبقيت القسطنطينية بمجموعها كما كانت في القرنين العاشر والحادي عشر مدينة كبيرة شرقية تجمع بين العظمة والفقر؛ فهنالك شوارع رئيسة تحيط بها الأبنية الفخمة والقصور العظيمة والكنائس الجميلة، وهنالك أيضا أحياء فقيرة مظلمة قذرة، وكانت لا تزال أم المدن المتمدنة وأغناها وأرقاها ذوقا وفنا وعلما، وهو أمر تجمع على صحته جميع المراجع المعاصرة؛ فقد جاء في أخبار رحلة بنيامين تودله المعاصر أن دخل الخزينة اليومي من مخازن العاصمة وأسواقها وكماركها لم يقل عن العشرين ألف فلس ذهبا،
49
وأن مظاهر البذخ في الشوارع كانت مدهشة تأخذ بلب الزائر؛ فالخيول المطهمة وثياب فرسانها الحريرية المزركشة المذهبة؛ كانت تبهر الزائر فيخالهم أبناء ملوك.
ومما جاء في هذه الرحلة أيضا أن القسطنطينية كانت تجتذب رجال الأعمال من كل حدب وصوب، فأضحت تفوق جميع المدن تقدما وازدهارا ما عدا بغداد، والواقع أن ازدهار التجارة في البندقية وبيزو وجنوى وظروف الحروب الصليبية ومطامع عمانوئيل في إيطالية والغرب؛ استدرجت عددا كبيرا من رجال الإفرنجة إلى القسطنطينية، فأقاموا فيها وأنشئوا المتاجر والأرصفة عند القرن الذهبي، كما أقاموا المنازل والكنائس، فجعلوا من أحيائهم الخاصة - بفضل امتيازاتهم - مستعمرات لاتينية بكل معنى الكلمة.
50
وابتنى مؤسس الأسرة الكومنينية أليكسيوس الأول قصرا جديدا في محلة القرن الذهبي هيمن على هذا القرن وعلى المدينة وضواحيها، وأنفق عليه بسخاء فجاء فخما عظيما رائعا. ومما قاله أحد الزائرين المعاصرين: «ولست أدري ما الذي جعله ثمينا جميلا! أشدة الإتقان في فن بنائه، أم قيمة المواد الداخلة في تشييده!»
51
وكان سلفاء أليكسيوس من قبل قد أقاموا في قصر على شاطئ بحر مرمرة، فرأى هو أن ينتقل إلى الهضبة المطلة على القرن الذهبي، وأنشأت حنة دلسانة كنيسة المخلص بالقرب من هذا القصر، وحذت حذوها حماة أليكسيوس مريم دوقاس فأنشأت بجوار القصر الجديد أيضا كنيسة ثانية باسم المخلص، وقامت في هذا الحي أيضا كنيسة للعذراء «الكلية القداسة» وكنيسة البانتوكراتور الجميلة، وأنشأ يوحنا الثاني كنيسة لضم رفات أسرته بين هذه الكنائس، وعلى الرغم من صغر حجم هذه الكنائس فإنها جاءت جميعها رائعة بتناسب مقاييسها وجمال رخامها وإتقان فسيفسائها.
52
ولا يزال بعض هذه الكنائس قائما حتى يومنا هذا، وقد حول إلى جوامع في أثناء الفتح العثماني.
وأدى اهتمام أليكسيوس الأول بالرهبانية وبالأعمال الخيرية إلى إنشاء ديرين في هذا الحي الجديد، أحدهما للرجال والآخر للنساء، وكرست الفسيلسة دير الراهبات للعذراء «الممتلئة نعمة»، ولا تزال البراءة التي صدرت لتشييد هذا الدير محفوظة حتى يومنا هذا،
53
وهي تنبئ بالغاية التي من أجلها أنشئ هذا الدير، فتنص على أنه دير نموذجي يهدف إلى إصلاح الرهبانيات، مثل الدير الذي أنشأه الفسيلفس في جزيرة باتموس وقد سبقت الإشارة إليه، وتحض الفسيلسة إيرينة الراهبات على عمل الخير وترشدهن إلى كل ما من شأنه أن يطهر حياتهن وترجوهن ألا يدعن «الحية» توسوس في أذن راهبة فتجعل منها حواء ثانية.
ومن آثار الفن في القرن الثاني عشر: المخطوطات المزوقة كمزامير بربريني ومواعظ الراهب يعقوب وأسفار القصر الثمانية الأولى، وقد حوت هذه ما لا يقل عن ثلاثمائة واثنتين وخمسين منمنمة، ولعل بعض هذه الرسوم من صنع يد إسحاق أخي الفسيلفس يوحنا الثاني، ومن أثمن ما تحفظه المخطوطات المزوقة التي تعود إلى هذا القرن منمنمات غير دينية، فمخطوطتا غريغوريوس النزيانزي في القدس وفي جبل آثوس تحمل منمنمات لمشاهد هلينية وكلاسيكية.
وفي هذه دليل آخر على أن عصر النهضة الغربية الذي تميز بالعودة إلى العصور الكلاسيكية بدأ في القسطنطينية، ثم انتقل منها إلى إيطالية.
54
العلم والأدب
وقامت في هذا القرن نفسه في جوار كنيسة الرسل مدرسة كبيرة لتدريس العلوم الابتدائية والمتوسطة والعالية، فغنى الصغار في أروقتها وحوالي حديقتها كما مشى الأحداث متأبطين دفاترهم مسمعين دروسهم في النحو واللغة عن ظهر قلب، وانعزل البعض الآخر من الطلبة الكبار ليحلوا بعض المسائل العويصة، وقام الأساتذة في الداخل يحاضرون في خواص الأعداد وفي الهندسة والطب، كما قام كبار الموسيقيين يشرحون فنهم لمن حولهم من الطلبة، وكان بعضهم يتباهى فيؤكد أن علماء العاصمة آنئذ فاقوا ديموستانيس في الفصاحة، وأرسطو وأفلاطون في الفلسفة، وإقليدس في الهندسة، وفيثاغوروس في الفيزياء،
55
وخصت البطريركية المسكونية العلوم الدينية العالية برعايتها، فقبلت الطلاب الإكليريكيين في مدرستها ولقنتهم اللاهوت وسواه، وكانت جامعة القسطنطينية لا تزال زاهرة بفرعيها الأدبي والفلسفي، وتولى إدارة التعليم الفلسفي فيها «قنصل الفلاسفة» يوحنا الإيطالي، فذاع صيته وكثر طلابه ومريدوه وفاخر التلامذة والأصدقاء بأنهم من «محبي أفلاطون».
وممن اشتهر بعده في الفلسفة في هذه الجامعة نفسها أفستاثيوس الثيسالونيكي الذي أظهر مقدرة كبيرة في تدريس هوميروس وبيندار، ومما قيل فيه آنئذ: إن محاضراته جمعت بين علم أرسطو ووحي الشعراء، والواقع الذي يعترف به رجال الاختصاص من علماء هذا العصر أن قسطنطينية القرن الثاني عشر أيدت الثقافة الكلاسيكية وجعلت منها أساس التهذيب والتثقيف لأبنائها.
56
وظل التاريخ واللاهوت يحتلان المكانة الأولى في النتاج الأدبي ، فقامت حنة ابنة أليكسيوس الأول تؤرخ حياة والدها، فصنفت ملحمتها الشهيرة الأليكسياذة، وقد سبقت الإشارة إليها، وكتب زوجها نيقيفوروس بريانوس في وصول الأسرة الكومنينية إلى العرش فأرخ السنوات 1070 إلى 1079، وكتب أليكسيوس الأول نفسه في اللاهوت ضد الهراطقة فصنف تأملاته
Muses
ووجهها إلى ابنه وولي عهده يوحنا،
57
ولا نعلم ما إذا كان يوحنا ممن تذوق الأدب، ولكننا نعلم جيدا أن أخاه إسحاق كتب في تطور ملحمة هوميروس في العصور الوسطى، وكتب عمانوئيل الفسيلفس في التنجيم فدافع عن هذا «العلم» ضد تهجمات الإكليروس، وأرسل مصنف بطليموس المجسطي إلى ملك صقلية النورمندي فنقل حوالي السنة 1160 إلى اللاتينية.
58
ومن أشهر مؤرخي هذا القرن يوحنا كناموس
Cinnamus ؛ فإنه دون أخبار الفسيلفسين يوحنا وعمانوئيل فأكمل أليكسياذة حنة، واتبع هذا المؤرخ هيرودوتوس وبروكوبيوس في طريقة التأريخ ودافع دفاعا شديدا عن حقوق الإمبراطورية الشرقية والكنيسة الأرثوذكسية ضد مطامع الإمبراطورية الغربية ومطالب الكنيسة الباباوية، وأشهر من كناموس بكثير نيقيتاس الخونياتي
Nicetas Choniates ، ولد في خونة من أعمال الأناضول في منتصف القرن الثاني عشر، وتلقى علومه في القسطنطينية ثم استوظف في أواخر عهد عمانوئيل، ولمع في عهد الأسرة الأنجيلوسية، ولدى استيلاء الصليبيين على القسطنطينية التجأ إلى الفسيلفس ثيودوروس النيقاوي، وأشهر مؤلفاته تاريخه الكبير الذي جاء في عشرين مجلدا، وفيه تاريخ الروم منذ أن تبوأ العرش يوحنا كومنينوس حتى سقوط العاصمة في يد الصليبيين (1118-1204)، ويرى ثيودور أوسبنسكي العلامة الروسي أن نيقيتاس فاق جميع زملائه - في الشرق والغرب معا - أمانة وتدقيقا.
59
واشتد الإقبال على مطالعة التاريخ في هذه الآونة، فنشط للتأليف فيه عدد آخر من الرجال أمثال: كدرينوس
Cedrenus
وزوناراس
Zonaras
ومناسيس
Manases
وغليقاس
Glykas ، الذين أخرجوا موجزات للتاريخ العالمي على الطريقة الخريقونية القديمة، ويستدل من أسلوبهم في الكتابة ومن بعض ألفاظهم أنهم لم يكونوا أقل اطلاعا من سواهم من علماء ذلك العصر على نتاج العهد الكلاسيكي القديم، فساهموا بعملهم هذا في بدء النهضة العلمية الحديثة في أوروبة جمعاء.
وقضت ظروف الكنيسة، من حيث المشادة التي كانت ناشبة آنئذ بين رومة والقسطنطينية ومن حيث ظهور بعض البدع، بأن تهب للدفاع عن الأرثوذكسية الحقة، فقام أفتيموس زيغابينوس
Zigabenos
بانوبليته الشهيرة (الدرع الكاملة العدة) لدحض هرطقات ذلك العصر ونقضها بالحجة،
60
وممن اشتهر في هذا الجدل الديني في القرن الثاني عشر نيقولاووس ميثونيوس
Methonius
ونيقيتاس الخونياتي المؤرخ الذي ورد ذكره آنفا.
وقضت ظروف التشريفات في القصر وفي المقر البطريركي المسكوني بأن يجتهد عدد من الأدباء في فن الخطابة والفصاحة، فعاد هؤلاء أيضا إلى مخلفات العصر الكلاسيكي؛ لاستيحائها والإفادة منها، وبين هؤلاء أفسيتاسيوس الثيسالونيكي وميخائيل الخونياتي أخو نيقيتاس المؤرخ ورئيس أساقفة آثينة وميخائيل الإيطالي ونيقيفوروس باسيلاكس
Basilakes
وباسيليوس رئيس أساقفة أوخريدة، وفي مكتبة الإسكوريال مجموعة من هذا النوع من التصنيف، تعود إلى القرن الذي نحن بصدده.
61
ويرى العلامة الإفرنسي شارل ديل المتخصص في تاريخ الروم وفنونهم؛ أن أدباء الروم في القرن الثاني عشر وعلماءهم إذا ما قورنوا بزملائهم في الغرب في هذا القرن نفسه ظهروا أساتذة معلمين لا مناظرين، ومن ألطف ما جاء في تأييد هذا القول تلك المناظرة العلنية التي جرت في عهد يوحنا الثاني في القسطنطينية في السنة 1135 بين أنسيلموس أسقف إبلبرج اللاتيني ونيقيتاس رئيس أساقفة نيقوميذية؛ فإن أنسيلموس بعد أن جادل نيقيتاس جدالا طويلا في انبثاق الروح القدس وفي استعمال الفطير، استند في تأييد آرائه على أن الكنيسة اللاتينية كانت دائما مستقيمة الرأي، وطعن في الكنيسة الأرثوذكسية واتهمها بأن كل الهرطقات قامت فيها، فأجابه نيقيتاس بأنه لا ينكر ذلك وإنما يعزو هذه الظاهرة لانكباب رجال كنائس الشرق على العلوم والفلسفة، ثم قال: وافهم يا صاح أنه وإن تكن جميع الهرطقات خرجت من اليونان فإن هدمها أيضا تم على أيدي طائفة من أبناء اليونان. وخلص إلى القول بأنه لم يكن ممكنا أن تولد هرطقات في رومة؛ لأن العلم وتوقد الذهن وقوة العقل في رجالها؛ كانت أمورا نادرة.
ثم قال: إننا لا ننكر على كنيسة رومة تقدمها على إخوانها الكنائس البطريركية الأربع الأخرى، ونوافق على أن ترأس المجامع المسكونية، ولكنها خرجت عن حدود سلطانها وقسمت بين مملكة الشرق والغرب وبين الكنائس، ونحن وإن لم يكن بيننا وبين الكنيسة الرومانية انقسام في الإيمان البتة، فكيف يمكننا أن نقبل قوانين مسنونة دون معرفتنا!
62
الباب العاشر
تفكك وانهيار
1185-1261
الفصل الحادي والثلاثون
أسرة أنجيلوس
1185-1204
إسحاق الثاني
وتحدرت هذه الأسرة المالكة الجديدة من قسطنطين أنجيلوس الفيلادلفي معاصر أليكسيوس كومنينوس الأول وصهره زوج ابنته، ولم يكن إسحاق ابن بجدتها، وكان أكولا بطينا يهوى اللحم والخمر والخبز، فكنت تجد على مائدته «تلالا من الخبز وغابات من الطيور وبحرا من الأسماك ومحيطا من الخمر»،
1
وكان يلبس في كل يوم بدلة جديدة، وكان يستحم مرة في كل يومين فيتطيب ويخرج خروج العروس المنغمس في ملذات عرسه، وكان يحب الخمر والنساء ويحيط نفسه بالمجان والمهرجين والمغنيات.
وكان الخطر النورمندي لا يزال يحدق بالدولة ويهدد كيانها ففاوض إسحاق القيادة النورمندية في السلم فرفضت، فأنفذ قوة جديدة بقيادة أليكسيوس براناس أحد كبار رجال الجيش، فانتصر على النورمنديين في تشرين الثاني من السنة 1185 عند ديمترتزة
Dimitritza ، فتراجع هؤلاء وأخلوا ثيسالونيكية وديراتزو وكورفو ووقعوا الصلح.
2
ولم يهب رجال البر من أصحاب الأملاك الكبيرة إسحاق، ولم يخافوه، وتجاوز إسحاق الحدود المشروعة في الإنفاق، فزاد الضرائب، وازداد طمع الجباة فأثقلوا كاهل الأهلين وابتزوا المال ابتزازا، فاندلعت ثورة داخلية في السنة 1186 بزعامة أليكسيوس براناس بطل ديمترتزة، ومشى هذا القائد إلى العاصمة، فاضطرب إسحاق ودعا عددا كبيرا من الرهبان والقسيسين إلى القصر؛ ليبتهلوا إلى الله أن يبعد شر الانقسام الداخلي، وقام كونراد مونتفران عديل الفسيلفس على رأس ثلاثمائة فارس إفرنجي وعدد من المشاة فهزم براناس وقطع رأسه ورماه عند قدمي الفسيلفس، ثم انقض وأتباعه على أنصار براناس في العاصمة فنهب وأحرق، وزاد بذلك كره الروم لللاتين.
3
وفي السنة 1188 عاد البلغار والفلاخ إلى السلاح وانتشروا في تراقية، ولم يوفق إسحاق إلى صدهم وإخضاعهم فهادنهم ثم صالحهم على أن يكونوا أحرارا ما بين البلقان والدانوب،
4
وفعل مثل هذا في السنة 1193 عندما أنعم على أسطفان نيمنية
Nemanya
بلقب سبستوقراتور وأزوجه من أميرة رومية، وقام ثيودوروس منقافاس في الأناضول يحاول الاستقلال في فيلادلفية وليدية ولكنه غلب على أمره واضطر إلى أن يلتجئ إلى سلطان قونية.
5
وسقطت القدس في يد صلاح الدين في الثاني من تشرين الأول سنة 1187 فاهتزت أوروبة بأسرها، وهب الإمبراطور فريدريكوس يدعو لحملة صليبية ثالثة، فقبل الصليب في السابع والعشرين من آذار سنة 1188 وكتب إلى إسحاق الفسيلفس ينبئه بذلك وبأنه سيتخذ طريق البر مارا بأراضيه، ووقع الاثنان معاهدة في نورمبرج في أيلول السنة 1188 تعهد بها الفسيلفس بالسماح للصليبيين بالمرور في أراضيه مقابل امتناعهم عن إيقاع الأذى برعاياه،
6
ولكنه بعد ذلك ببضعة أسابيع وقع تحالفا مع صلاح الدين،
7
ولم يكن فريدريكوس أقل حذرا وتلونا؛ فإنه فاوض البلغار والصرب والنورمنديين في الوقت الذي كان يفاوض فيه أخاه الفسيلفس، فنشأ عن هذا كله جو من الالتباس والمواربة وقلة الثقة، وقضت تقاليد القصر المقدس بألا يكون في العالم كله سوى إمبراطور واحد وبأن يستقبل فريدريكوس كملك لا كإمبراطور، فاشتد القلق وأصبح تقدم الصليبيين الألمان في أراضي الروم زحف عدو بغيض، ودخل فريدريكوس أدرنة في خريف السنة 1189 فكتب إلى ابنه هنريكوس أن يعد أسطولا وأن يستعين بالبنادقة وغيرهم ليهاجم القسطنطينية بحرا في الوقت الذي يزحف هو فيه من البر.
8
وتبين هذا كله للفسيلفس إسحاق الثاني في السنة 1190 فمون الألمان وقدم لهم المراكب اللازمة؛ لينتقلوا بها إلى بر الأناضول، ففعلوا، ولكن الروم ازدادوا بغضا لللاتين وطووا ذلك في صدورهم.
وكانت الحاجة إلى المعونة الحربية قد قضت بتوسيع الامتيازات الممنوحة للبنادقة (1187) فرأى إسحاق أن يزيد في امتيازات بيزة وجنوى؛ ليقلل الضرر الناجم عن امتيازات البنادقة، فغضب تجار العاصمة ووجهاؤها لكرامتهم ومصالحهم، وكانت الحكومة المركزية تزداد ضعفا.
أليكسيوس الثالث (1195-1203)
وفي السنة 1195 خرج إسحاق الثاني بنفسه لمحاربة الفلاخ والبلغار، فلما وصل إلى كيبسالة «آبسيلار» خرج للصيد، فدخل أخوه أليكسيوس خيمته وأعلن نفسه فسيلفسا، وقبض على إسحاق وسمل عينيه وسجنه هو وابنه أليكسيوس، ورفض أليكسيوس كنية عائلته وتسمى أليكسيوس الثالث كومنينوس، وأبطل مشروع الحرب ضد البلغار والفلاخ، ووزع مال الخزينة على الجنود، وإذ نفد المال وزع أراضي الدولة وعاد إلى العاصمة، وكانت إفروسين دوقاس زوجته شديدة الاعتزاز بنسبها ، كثيرة العناية بالسياسة، واسعة الاتصالات، ذكية نشيطة مغرية مضللة، فنجحت في جمع الكلمة على تأييد زوجها، وأعدت له استقبالا حافلا،
9
وعاد الفسيلفس الجديد إلى العاصمة ومال إلى العيشة الهنيئة ولم يبال بواجباته الإدارية والسياسية، ويقول نيقيتاس المؤرخ المعاصر: «إن أليكسيوس الثالث كان يوقع كل شيء يقدم له ولا يكترث ما إذا كان هذا الشيء مجموعة من الكلمات الفارغة، أو طلبا للإبحار في البر، أو الفلاحة في البحر، أو نقل جبل إلى البحر، أو رفع جبل آثوس من مكانه إلى قمة جبل أوليمبوس.»
10
وساءت أحوال البلقان السياسية، فخر زعيم البلغار يوحنا آسن صريعا، فأيد الفسيلفس نيفوكو الجاني فالتجأ القتيل كالويان
Kalojean
إلى البابا أنوشنتش الثالث (1199) مقدما خضوع الكنيسة البلغارية لقاء تتويجه ملكا على بلغارية، فقبل البابا وأرسل كردينالا إلى ترنوفو وتوج كالويان ملكا وجعل رئيس أساقفة ترنوفو رئيسا على الكنيسة البلغارية، فظهرت الإمبراطورية البلغارية الثانية إلى حيز الوجود، واضطر أليكسيوس أن يعترف بها في السنة 1201،
11
وحدث مثل هذا في بلاد الصرب؛ فإن أسطفان نيمنية استقال في السنة 1196 ولبس ثوب الرهبنة، فنشأ نزاع شديد بين ابنيه أسطفان وفوك، فالتجأ اسطفان إلى البابا وأعاد زوجته الأميرة البيزنطية إلى القسطنطينية ونال لقب الملك من يد البابا ولكنه لم يخرج في النهاية عن الكنيسة الأرثوذكسية.
12
هنريكوس السادس والروم
وتوفي فريدريكوس بارباروسة في العاشر من حزيران سنة 1190 غريقا في نهر كوك صو في قيليقية، فخلفه ابنه هنريكوس السادس في إمبراطورية الغرب، وكان هذا قد اقترن بقسطنسة وريثة وليم الثاني في صقلية وجنوبي إيطالية، فكتب في السنة 1194 إلى إسحاق الثاني فسيلفس الروم يطالب بالأراضي التي افتتحها النورمنديون في البلقان من ديراتزو حتى ثيسالونيكية، ولدى وصول أليكسيوس الثالث إلى العرش عاد هنريكوس فأرسل وفدا إلى القسطنطينية يبين الإساءة التي لحقت بالإمبراطور فريدريكوس في أثناء مروره في أراضي الروم ويطلب التعويض. وكان فيليب أخو هنريكوس السادس قد تزوج من إيرينة ابنة إسحاق الثاني.
وعلى الرغم من النزاع الذي نشب بين هنريكوس وفيليب لدى وفاة والدهما الإمبراطور؛ فإن فسيلفس الروم ظل يخشى تدخل فيليب في صالح أليكسيوس بن إسحاق وأخي إيرينة زوجته.
وخشي حبر رومة هذا التوسع في سلطة الإمبراطور الغربي في إيطالية وصقلية، ولم ترق له مطامع هنريكوس السادس عبر الأدرياتيك، ورأى - من ناحية أخرى - أن التعاون مع فسيلفس الروم يفيده من ناحيتين أخريين؛ إذ إنه يعاون على إعادة توحيد الكنيسة جمعاء، وعلى محاربة المسلمين في الأراضي المقدسة؛ لاسترجاع السلطة على القدس وغيرها من الأماكن التي كانت قد وقعت في يد صلاح الدين، وفي السنة 1198 رقي السدة الرومانية أنوشنتش الثالث، وكان عالما ذكيا حازما قويا مؤمنا تقيا، فرأى ما رآه سلفه كلستينوس واتصل بأليكسيوس الثالث وطلب إليه أن يسعى لتوحيد الكنيسة وأن يشترك في حملة صليبية رابعة تحرر القدس وغيرها من حكم المسلمين.
الحملة الصليبية الرابعة
وبعث أنوشنتش الثالث برسله إلى الممالك الأوروبية؛ يروج فكرته، ويحض الملوك والأمراء والشعب على التطوع في حملة جديدة، ولكن أحدا من كبار الملوك لم يلب النداء؛ ففيليب الثاني ملك فرنسة كان لا يزال تحت الحرم الباباوي لهجره زوجته الثانية وتزوجه من ثالثة، وكان يوحنا الثاني ملك إنكلترة لا يزال في خصام شديد مع أشراف بلاده وأعيانها، وكان هنريكوس السادس قد توفي في خريف السنة 1197 في صقلية، فنشبت مشادة عنيفة لتسنم العرش الإمبراطوري بين أخيه فيليب وأوتون الرابع ابن هنريكوس الأسد. بيد أن هذا كله لم يمنع الفرسان الغربيين من تقبل الدعوة، فاشترك في هذه الحملة الرابعة نخبة من أفضل فرسان فرنسة وإنكلترة وألمانية والبلدان الواطئة وصقلية.
وألمع من حمل الصليب بهذه المناسبة شيخ البندقية هنريكوس دندولو
Dandolo
الأعمى، وكان قد عرف القسطنطينية حق المعرفة وفقد بصره فيها عندما حول بعض الروم نور الشمس إلى عينيه بمرآة مقعرة، فغضب وحقد وأضمر السوء، وكان سياسيا محنكا ومفاوضا حاذقا، فلبى نداء البابا ليقضي على دولة الروم وينشئ على أنقاضها إمبراطورية بندقية غربية.
13
وحين فكر القائمون بهذه الحملة في كيفية الزحف على الأراضي المقدسة، أرسلوا وفدا إلى البندقية يفاوض في نقل الجنود إلى مصر أولا؛ لأن مصر كانت مركز السلطة المستولية على فلسطين، فتم الاتفاق على أن تنقل البندقية 4500 فارس و20000 جندي وعلى أن تطعمهم شرط أن يدفع الصليبيون لها مبلغا معينا من المال، وأن تقسم الغنائم في المستقبل مناصفة بينها وبينهم.
14
وتجمعت الحملة في البندقية في شهري تموز وآب من السنة 1202، وعجز الصليبيون عن دفع المبلغ المتفق عليه، ولم يتمكنوا إلا من دفع نصفه، فانتهز دندولو هذه الفرصة واقترح أن يدوخ الصليبيون مدينة زاره
Zara
عبر الأدرياتيك لحساب البندقية؛ لأنها كانت تنافس هذه منافسة شديدة، فقام الصليبيون إلى زارة وحاصروها، وعبثا حاول أهلها إظهار شعائر النصرانية على الأسوار؛ لردع الصليبيين عن محاربة أبناء دينهم، وعبثا أيضا حاول البابا ردع البنادقة عن هذه الإساءة لمبادئ الحروب الصليبية، واستولى الصليبيون على زارة وقدموها للبندقية لقمة سائغة.
15
وقد مر بنا - في تضاعيف الفصول السابقة - كيف تزايد البغض وتفاقم بين الشرق والغرب، ولا سيما في أثناء القرن الثاني عشر؛ فقد رأينا ملوك النورمنديين الصقليين يجتازون الأدرياتيك لاحتلال شواطئه الشرقية منذ أيام روبر غيسكار حتى أيام روجه الثاني وخلفه ووريثه في صقلية الإمبراطور هنريكوس السادس، ورأينا أيضا أباطرة الشرق يخشون الصليبيين في أثناء مرورهم في أراضيهم فينشأ عن هذا الخوف شيء من التوتر، فيزداد أحيانا ويؤدي إلى التفكير الجدي في احتلال القسطنطينية.
وقد رأينا - في الوقت نفسه - هذا البغض يتفاقم، فينفجر في شوارع عاصمة الروم فيلحق بالجاليات اللاتينية فيها شيئا كثيرا من الضرر والخسارة، ويجر البندقية إلى الحرب للمحافظة على مصالحها التجارية في الشرق.
وفي أثناء السنة 1202 أفلت أليكسيوس أنجيلوس بن إسحاق الثاني من السجن الذي كان قد أودع فيه سنة 1195، وجاء صقلية، فرومة؛ يستعطف البابا على قضيته، ثم اتجه شمالا شطر ألمانية؛ يستعين بشقيقته إيرينة زوجة فيليب سوابيه في هذا الأمر نفسه، فرجت إيرينة زوجها وألحت عليه، وكان فيليب آنئذ منهمكا في نزاع مستميت ضد آتون - كما سبق أن أشرنا - فأوفد وفدا إلى زارة يرجو البنادقة والصليبيين مساعدة إسحاق الفسيلفس وابنه أليكسيوس؛ للوصول إلى العرش، فتفتحت أمام دندولو آفاق جديدة، وهب يقنع الصليبيين بالقبول، وقام أليكسيوس بنفسه إلى زارة، وفاوض دندولو والصليبيين في ذلك مباشرة، ووعد بدفع مبلغ كبير من المال مقابل هذه المعونة، كما أظهر استعداده لإدخال كنيسة الروم في طاعة البابا واشتراكه فعليا في الحرب المقدسة.
16
وقد اختلف رجال ، الاختصاص في أسباب تحول الصليبيين عن مصر وفلسطين إلى القسطنطينية، فقام في السنة 1861 ماسلاتري الإفرنسي يتهم البندقية وشيخها بالوصول إلى تفاهم سري سابق مع سلطان مصر لتحويل هذه الحملة عن أراضيه،
17
وأيد قوله كارل هوبف الألماني، فحدد تاريخ هذه المعاهدة السرية وجعله في الثالث عشر من أيار سنة 1202،
18
وفي السنة 1875 قام الكونت دي ريان الإفرنسي يلقي المسئولية في هذا التحول في مجرى الحملة الرابعة على عاتق فيليب سوابيه، فيجعل التحول عن مصر مظهرا آخر من مظاهر النزاع بين الإمبراطور الغربي والبابا؛ لأن أنوشنتش الثالث كان يميل إلى مناظر فيليب آتون البرنزويكي،
19
وفي هذا كله تسرع للوصول إلى استنتاجات جديدة تلفت النظر، وخروج في الوقت نفسه عن أبسط قواعد المصطلح. والواقع أنه لا يجوز أن يقال في هذا الموضوع أكثر مما جاء في الفقرة السابقة.
وفي آخر حزيران من السنة 1203 ظهر أسطول الصليبيين أمام أسوار القسطنطينية، ونزلوا بالقرب من غلطة، فقطعوا السلاسل الحديدية التي حمت مدخل القرن الذهبي، فدخلت مراكب البنادقة وأحرقت مراكب الروم، ثم اقتحم الفرسان الصليبيون أسوار العاصمة واستولوا على المدينة في تموز من السنة نفسها، وفر أليكسيوس الثالث بخزينة الدولة وجواهرها، وأطلق سراح إسحاق الثاني وأعلن ابنه أليكسيوس شريكا له في الحكم، واتخذ هذا لقب أليكسيوس الرابع.
وطالب الصليبيون ودندولو بتنفيذ نص المعاهدة؛ أي بدفع المال المتفق عليه، وبإعداد قوة تقوم معهم إلى الأراضي المقدسة، فاستمهلهم أليكسيوس الرابع ورجاهم أن يقيموا خارج أسوار العاصمة، وامتعض الروم من اللاتين الفاتحين، واتهموا الفسيلفسين إسحاق وابنه أليكسيوس بالخيانة، وهب صهر أليكسيوس الثالث أليكسيوس دوقاس إلى السلاح، وكانت ثورة في أوائل السنة 1204 أدت إلى وفاة إسحاق وخنق ابنه أليكسيوس الرابع، ونودي بأليكسيوس دوقاس فسيلفسا، فعرف باسم: أليكسيوس الخامس.
وفي آذار السنة 1204 وقع الصليبيون والبنادقة اتفاقا فيما بينهم لاقتسام الإمبراطورية الشرقية بعد احتلال العاصمة، وقضت شروط هذا الاتفاق بأن تقام في العاصمة حكومة لاتينية، وأن تقسم الغنائم فيما بين الطرفين، وأن تتولى لجنة مؤلفة من ستة بنادقة وستة إفرنسيين أمر انتخاب إمبراطور يحكم «لمجد الله ومجد الكنيسة الرومانية المقدسة ومجد الإمبراطورية». واتفق الطرفان أيضا على أن يحكم هذا الإمبراطور ربع العاصمة وربع الدولة التابعة لها، وعلى أن يوضع تحت تصرفه قصران من قصور العاصمة.
ونص الاتفاق أيضا على تقسيم ما بقي من العاصمة وأراضي الدولة مناصفة بين البندقية وبين سائر الصليبيين، وفرض على جميع الصليبيين الباقين في أراضي الدولة الجديدة أن يقسموا يمين الطاعة والولاء للإمبراطور، ولم يشمل هذا البند دندولو وبندقيته.
20
ثم حاصر الصليبيون القسطنطينية بضعة أيام ففر أليكسيوس الخامس، فتدفقوا إليها في الثالث عشر من نيسان سنة 1204 ناهبين، واشترك في أعمال النهب الفظيع الجنود الصليبيون وفرسانهم والرهبان اللاتينيون ورؤساؤهم،
21
وشمل هذا النهب كنيسة الحكمة الإلهية وغيرها من كنائس العاصمة وأديارها، كما قضى على عدد كبير من أثمن المخطوطات.
22
ولم يرشح دندولو نفسه لعرش القسطنطينية، ولم يرض مركيز مونتفرات
Boniface de Montferrat
أن يتسنمه؛ لأنه كان أميرا إقطاعيا إيطاليا قويا، لا تبعد أملاكه عن ممتلكات البندقية، فالتأمت لجنة الانتخاب وأقامت بلدوين قومس فلاندر إمبراطورا على القسطنطينية، ثم قسمت الممتلكات فتولى الإمبراطور على خمسة أثمان العاصمة وعلى الأراضي التي تاخمت المضيقين وبحر مرمرة وعلى بعض جزر الأرخبيل الكبرى، واستولى مركيز مونتفرات على ثيسالونيكية وما جاورها من أرض مقدونية وعلى ثيسالية.
ونال دندولو حصة الأسد، فاستولى باسم البندقية على ديراتزو وغيرها من النقاط الهامة في ساحل الأدرياتيك الشرقي، كما احتل كورفو وغيرها من جزر مداخل هذا البحر، وبعض أماكن في شبه جزيرة المورة وجزيرة أقريطش، وبعض المرافئ على شاطئ تراقية وغاليبولي وثلاثة أثمان القسطنطينية، واتخذ دندولو لنفسه بهذه المناسة لقب ذسبوتس
despotes
ولقب «سيد الربع ونصف جميع إمبراطورية رومانية»،
23
وظل خلفاؤه في البندقية يستعملون هذا اللقب حتى منتصف القرن الرابع عشر، وتسلم إكليروس البندقية كنيسة الحكمة الإلهية وأقاموا بموافقة البابا توما موروسيني بطريركا على الكنيسة الكاثوليكية في الإمبراطورية الجديدة، فاستخف به الروم «لجهله وحقارته».
24
واتخذ مركيز مونتفرات لنفسه لقب ملك وقام إلى آثينة، فاحتلها، وجعل منها ومن ثيبة دوقية، وحول كنيستها الكاتدرائية في قلب البارثينون إلى كنيسة لاتينية ، وانتظمت الإمبراطورية اللاتينية على أساس إقطاعي فقسمت إلى عدد من الإقطاعات، وأقسم أمراء هذه الإقطاعات يمين الولاء والطاعة للإمبراطور.
25
وكتب الإمبراطور بلدوين إلى البابا أنوشنتش الثالث يعلمه بفتح القسطنطينية وبارتقائه عرشها بنعمة الله، ويؤكد خضوعه للسدة الباباوية
Miles Suus ، فأجابه أنوشنتش «متهللا بالرب لتمجيد اسمه بالأعجوبة التي تمت فشرفت العرش الرسولي وشعب المسيح.» وطلب إلى جميع الإكليروس وجميع الملوك والشعوب أن يؤيدوا بلدوين؛ ليتمكن بعد فتح القسطنطينية من الاستيلاء على الأراضي المقدسة،
26
ثم علم هذا الحبر الكبير بما اقترفه الصليبيون من آثام في القسطنطينية، فحزن وقلق واضطرب، وكتب إلى مركيزة مونتفرات يقول: «لقد حدتم عن طهارة نذركم عندما زحفتم على المسيحيين بدلا من المسلمين فاستوليتم على القسطنطينية بدلا من القدس، وآثرتم كنوز الدنيا على كنوز الآخرة، وما هو أهم من هذا وذاك أن بعضكم لم يوقر الدين ولم يحترم العمر أو الجنس.»
27
وهكذا فإنه لم يكتب لهذه الإمبراطورية الجديدة عمر طويل، فإنها كانت منذ نشأتها إقطاعية ضعيفة في السياسة والحرب، وكانت مقسمة الولاء في الدين ينقصها الشيء الكثير من توحيد الكلمة، فرعايا الإمبراطور الجديد ظلوا أرثوذكسيين بعيدين عن دين الدولة الجديدة، ورجال الدين فيها ظلوا طوال عهدها يتبعون بطريركا أرثوذكسيا جالسا في نيقية - كما سنرى.
الفصل الثاني والثلاثون
إمبراطورية نيقية
1204-1261
على أنقاض دولة الروم
وقام على أنقاض دولة الروم في النصف الأول من القرن الثالث عشر عدد من الدويلات والإمارات الإفرنجية اللاتينية، أهمها: إمبراطورية القسطنطينية، ومملكة ثيسالونيكية، وإمارة آخية في المورة، ودوقية آثينة وثيبة، وشملت إمبراطورية البندقية أهم الجزر في مداخل بحر الأدرياتيك وبحر إيجه، وجزيرة أقريطش، وعددا وافيا من النقاط الاستراتيجية في سواحل شبه جزيرة البلقان، وقامت دولة رومية يونانية في كل من نيقية وطرابزون وإبيروس، وكان هناك إمبراطورية بلغارية ثانية، وسلطنة سلجوقية في قونية.
وتاريخ هذا النصف من القرن الثالث عشر هو تاريخ نزاع بين الروم واللاتين، وفيما بين الروم أنفسهم، وبين الروم والأتراك، وبين الإفرنج والبلغار، ولم يقدر للإفرنج في الشرق في هذه الآونة أن يتبعوا سياسة إيجابية عمرانية ، فيوطدوا بذلك ملكا راسخا مستقرا، وأدى بقاؤهم فيه إلى تخريبه وتخريب أنفسهم في آن واحد.
إمبراطورية نيقية
ومن نيقية خرج في النهاية من جمع الشمل، وقام بعمل إيجابي، فتغلب على الإفرنج وأعاد الملك للروم، والإشارة هنا لميخائيل باليولوغوس، ولذا فإن سير الأمور في دولة نيقية وتطور أحداثها وظروفها أكثر فائدة للباحث من أخبار غيرها من دويلات ذلك العصر.
ولا نعلم شيئا دقيقا عن أصل أسرة اللاساكرة
Lascaris
ولا عن مسقط رأس مؤسسها ثيودوروس الأول (1204-1222)، وجل ما نعلم عن ثيودوروس قبل تسنمه عرش نيقية أنه كان صهر أليكسيوس أنجيلوس الثالث زوج ابنته حنة، ونعلم أيضا أن ثيودوروس هذا حارب الصليبيين في عهد أليكسيوس الثالث بأمانة وإخلاص، وأن إكليروس العاصمة رأوه لائقا لتولي الملك بعد أليكسيوس دوقاس.
1
وفر ثيودوروس الأول عند سقوط القسطنطينية في يد الإفرنج إلى آسية الصغرى، والتجأ إليها عدد من وجهاء الروم من الأوساط العسكرية والمدنية، وجاءها بعض كبار رجال الدين، أما البطريرك المسكوني يوحنا كماتيروس فإنه آثر الإقامة في عاصمة البلغار، وأم الأناضول عدد من الوجهاء والأعيان وغيرهم من سائر أقطار دولة الروم، وأحب أحد أعيان جزيرة أفبية - بالقرب من الساحل اليوناني الشرقي - أن يلتجئ إلى نيقية، فكتب ميخائيل الخونياتي رئيس أساقفة آثينة كتاب توصية بهذا الرجل إلى ثيودوروس الأول، ومن أغرب ما جاء في هذا الكتاب قول متروبوليت آثينة: إنه إذا حظي هذا الرجل بحماية ثيودوروس، نظر جميع الروم إلى ثيودوروس نظرهم إلى مخلص «رومانية» العام.
2
وكانت مهمة ثيودوروس شاقة، فإن سلطان إيقونية كان يهدده من الشرق والجنوب، وكان إمبراطور القسطنطينية يهدده من الغرب، وكانت الفوضى في الداخل أكثر خطرا، وقام اللاتين في السنة 1204 نفسها يحاولون إخضاع آسية الصغرى، ونجحوا في أعمالهم التمهيدية نجاحا كبيرا، وظنوا أن الشعب في آسية الصغرى يؤيدهم كل التأييد،
3
ولكنهم توقفوا فجأة وتراجعوا عندما علموا أن البلغار أسروا إمبراطورهم بلدوين في الحرب.
تعاون الروم والبلغار
ولم يحسن اللاتين السياسة في البلقان، وحقروا البلغار وإمبراطورهم، وجعلوا هذا يشعر أنه دون إمبرطورهم مكانة ومرتبة، وهددوه بالدمار والخراب، وأثاروا عليهم غضب الروم في تراقية ومقدونية، فسخروا من عقائدهم وطقوسهم وشعائرهم، فنشأ تعاطف شديد بين الروم والبلغار، ويجوز الافتراض أن البطريرك المسكوني يوحنا كماتيروس الذي كان قد التجأ إلى عاصمة البلغار لعب دورا هاما في التحالف الذي تم في السنة 1205 بين هذين الشعبين،
4
فتشجع كالويان إمبراطور البلغار وقوى قلبه ورأى في هذا التفاهم سبيلا لإنشاء دولة رومية بلغارية تقضي على سيطرة اللاتين في البلقان وتتوج رأسه بإكليل القسطنطينية.
5
ولجأ البلغار والروم في أوروبة إلى العنف، وسحب بلدوين جنوده من ميدان القتال في آسية الصغرى، وفي الخامس عشر من نيسان سنة 1205 التقى الجيشان بالقرب من أدرنة، فدارت الدائرة على اللاتين وسقط في ميدان القتال نخبة فرسان الفرنجة وأسر بلدوين ثم ذبح ذبحا، وتوفي دندولو متأثرا بما علمه من ذبح وخسارة، ودفن في كنيسة الحكمة الإلهية، وما فتئ مغمورا بترابها حتى أمر السلطان محمد الثاني العثماني بإخراجه وبالتمثيل ببقاياه.
6
ولم يدم هذا التضامن بين الروم والبلغار طويلا، فما كاد روم البلقان يبصرون قبسا من نور مشعا في سماء نيقية حتى فتر تحالفهم مع البلغار واتجهت أنظارهم إلى ثيودوروس الأول عبر المضايق، وكان ثيودوروس قد اغتنم فرصة الحرب في البلقان وانشغال اللاتين عنه، فوطد أركان عرشه في نيقية، واستقال البطريرك المسكوني يوحنا العاشر فأقام ثيودوروس ميخائيل الرابع أوتوريانوس بطريركا مسكونيا في نيقية (1208) ثم تسلم التاج الإمبراطوري من يده، وأصبحت نيقية مركز المقاومة في الدين والدنيا، وتقوت - فيما يظهر - هذه الإمبراطورية الجديدة بسرعة شديدة؛ لأننا نجدها تفاوض البندقية في السنة 1220 فتعقد معها معاهدة تعترف فيها البندقية بألقاب ثيودوروس التقليدية الفخمة.
7
وتبوأ العرش اللاتيني في القسطنطينية هنريكوس أخو بلدوين، وكان نشيطا قديرا، فعاد إلى الحرب في آسية، ولكن الخطر البلغاري من ورائه حمله على أن يعود إلى السلم في علاقاته مع ثيودوروس، ولا سيما أن الأتراك السلاجقة كانوا يهددون ويزبدون، ولا يفرقون في النهاية بين دولة مسيحية غربية ودولة مسيحية شرقية.
وكان أليكسيوس الثالث أنجيلوس قد التجأ إلى إيقونية، فلما استتب الأمر لثيودوروس في نيقية وأعلن نفسه إمبراطورا وريثا لعرش رومة الجديدة، طالب أليكسيوس بهذا العرش نفسه، فكتب سلطان إيقونية غياث الدين كيخسرو الأول إلى ثيودوروس يطلب إليه أن يتنازل عن العرش، فنشبت الحرب بين الروم والأتراك ودارت رحاها - بنوع خاص - عند أنطاكية كارية على نهر الميندر، فأظهر فرسان ثيودوروس الغربيون المرتزقة شجاعة فائقة وكبدوا الأتراك خسارة فادحة، وظفر ثيودوروس في معركة تالية بسلطان إيقونية نفسه فصرعه في ساحة القتال، وأسر أليكسيوس الثالث وعاد به إلى نيقية وأكرهه على قبول النذر، ففعل، ودخل أحد الأديار، ولم تحدث هذه المعركة الحاسمة بمعنوياتها أي تغيير - فيما يظهر - في حدود الدولتين،
8
ولكنها أحيت ماضيا عسكريا مجيدا، وثبتت الدولة الجديدة وملأت قلوب الروم بالغبطة والنشاط، وجعلتهم يرون في نيقية مركزا جديدا لتجمعهم وتوحيد صفوفهم.
9
وكتب رئيس أساقفة آثينة ميخائيل الخونياتي رسالة إلى ثيودوروس هنأه فيها بنصره، ورجا أن يكون هذا النصر «مقدمة للاستيلاء على عرش قسطنطين الكبير في المحل نفسه الذي انتقاه له السيد - له المجد»،
10
وتقوى قلب ثيودوروس وأعلن الحرب على هنريكوس إمبراطور القسطنطينية، وكان قد أعاد تنظيم جيشه، وأصبح لديه أسطول قوي، وخشي هنريكوس سوء العاقبة، واعتبر ثيودوروس أخطر أعدائه فحرر من برغاموس نداءه الشهير إلى جميع أصدقائه مستنجدا مستعينا في منتصف كانون الثاني من السن 1212،
11
ولكن مخاوف هنريكوس لم تكن في محلها؛ فإنه انتصر على ثيودوروس وتوغل في أراضيه،
12
ووقع الاثنان صلحا حدد الحدود بين الدولتين، ولم يزد في ممتلكات هنريكوس شيئا يذكر،
13
وفي السنة 1216 توفي هنريكوس إمبراطور القسطنطينية فزال - بوفاته - خطر اللاتين وتمكن ثيودوروس الأول من متابعة عمله الداخلي ليسلم إلى وريثه أداة فعالة لمتابعة الكفاح.
يوحنا الثالث باطاجي
14 (1222-1254)
وتوفي ثيودوروس الأول في السنة 1222 فتولى العرش بعده صهره يوحنا الثالث زوج ابنته إيرينة، وتميز يوحنا الثالث بنشاطه وبثاقب نظره وبسرعة تنفيذه، وكان من حسن حظه أن مناظريه في سياسة الشرق الرومي إمبراطور القسطنطينية وذيسبوتس إبيروس وإمبراطور البلغار؛ لم يتفاهموا فيما بينهم، فلجأ يوحنا الثالث إلى التحالف مع البعض منهم على البعض الآخر ، وحفظ بذلك مركزا ممتازا بينهم.
وكان قد استقر في مقاطعة إبيروس ميخائيل بن يوحنا دوقاس أنجيلوس غير الشرعي، فاتخذ لنفسه اسم ميخائيل الأول أنجيلوس دوقاس كومنينوس (1205-1214)، وشملت مقاطعته - بادئ ذي بدء - كل ما وقع بين ديراتزو وخليج كورونثوس، وكانت مدينة أرتة
Arta
عاصمة هذه المقاطعة، وأبقى ميخائيل الأول على الإدارة البيزنطية فيها، وأدت ظروف هذه الفترة العسكرية إلى العناية بالجيش للصمود في وجه الطامعين: ملوك ثيسالونيكة في الشرق وعمال البندقية في الغرب، وكانت إبيروس - ولا تزال - جبلية وعرة صعبة المنال، فقدر لها أن تحيا مستقلة كل الاستقلال.
وقتل ميخائيل في ساحة الوغى فتولى الحكم بعده أخوه ثيودوروس، وكان ثيودوروس هذا قد بقي في نيقية في بلاط إمبراطورها، فكتب ميخائيل الأول إلى ثيودوروس الأول أن يسمح لأخيه بالالتحاق به في سبيل الدفاع عن الروم، فسمح إمبراطور نيقية بذلك شرط أن يقسم ثيودوروس أخو ميخائيل يمين الولاء والطاعة له، ففعل، ولكنه ما كاد يستوي على عرش إبيروس حتى حنث في يمينه.
وتوفي هنريكوس إمبراطور القسطنطينية في السنة 1216 فانتخب الأشراف بطرس الكورتناي
خلفا له، وكان هذا قد تزوج من يولندة أخت بلدوين وهنريكوس، وكان بطرس وقت انتخابه في فرنسة، فقام وزوجته إلى القسطنطينية عن طريق رومة، وتسلم تاجه من يد البابا أونوريوس الثالث خلف أنوشنتش الثالث، وأرسل بطرس زوجته يولندة إلى القسطنطينية بحرا، وقام هو وجنوده فعبر الأدرياتيك ونزل بالقرب من ديراتزو، فكمن له ثيودوروس وانقض عليه فأسره مع أكثر جنوده، وتوفي بطرس في السجن في إبيروس، فحكمت يولندة إمبراطورية القسطنطينية سنتين متتاليتين (1217-1219).
وكان بونيفاتيوس ملك ثيسالونيكية قد سقط في ميدان القتال في السنة 1207 في الحرب ضد البلغار، فاضطربت أحوال مملكته الداخلية، ولكن الإمبراطور هنريكوس تمكن في أثناء حياته من الدفاع عن هذه المملكة ضد أعدائها الروم والبلغار، فلما توفي هنركيوس وبطرس بعده خلا الجو لثيودوروس ذيسبوتس إبيروس، فأعلن هذا الحرب على مملكة ثيسالونيكية واستولى عليها في السنة 1222، واتسع ملكه من الأدرياتيك حتى إيجه فاتخذ لنفسه لقب فسيلفس، ولم يبر بيمينه ليوحنا باطاجي إمبراطور نيقية، وطلب إلى متروبوليت ثيسالونيكية أن يتوجه، فامتنع هذا؛ مبينا أن التتويج من حقوق البطريرك المسكوني، ولما كان هذا البطريرك جالسا في نيقية عاصمة يوحنا باطاجي الإمبراطور، التجأ ثيودوروس إلى متروبوليت أوخريدة المستقل في سلطته آنئذ، فتوجه هذا المتروبوليت (1223)، وتردى ثيودوروس بالأرجوان واحتذى الحذاء الأرجواني، وقام في الشرق بعد هذا إمبراطوريات ثلاث، وخشيت رومة سوء العاقبة، فكتب البابا أونوريوس الثالث إلى الملكة بلانش أم لويس التاسع ملك فرنسة؛ يستحثها لإسداء المعونة إلى إمبراطور القسطنطينية.
وتسابق الفسيلفسان نحو عرش القسطنطينية، فتمكن يوحنا الثالث باطاجي - بقوة أسطوله - من احتلال بعض جزر إيجه، ثم لبى نداء الروم في أدرنة ونزل في أوروبة واحتل هذه المدينة دون مقاومة،
15
وهب ثيودوروس للقتال، فاستولى على معظم تراقية، واقترب في السنة 1225 من أدرنة فتراجع يوحنا عنها، ثم تابع ثيودوروس زحفه حتى وصل إلى أسوار القسطنطينية، وكاد يعيد حكم الروم إلى مقره الرئيسي لولا تدخل يوحنا آسن الثاني إمبراطور البلغار (1218-1241).
وتوفي روبر كورتناي إمبراطور القسطنطينية في السنة 1228، وكان أخوه وخلفه بلدوين الثاني لا يزال في الحادية عشرة من عمره، فنشأت مشكلة الوصاية على هذا الإمبراطور القاصر، ورغب يوحنا آسن الثاني في هذه الوصاية، واقترح زواج بلدوين من ابنته، ووعد بتحرير الأراضي التي كان قد احتلها الروم، ولكن الإكليروس اللاتيني وبعض فرسان الفرنجة أصروا على انتخاب يوحنا بريانوس صاحب الحق في عرش القدس الذي كان آنئذ في أوروبة، فتحالف ثيودوروس ويوحنا آسن، ثم نكث ثيودوروس وعده، فنشب القتال وانتصر يوحنا آسن في السنة 1230 في كولوكوتينتزة
Kolokotinitza
بين أدرنة وفيليبي، ووقع ثيودوروس في الأسر ثم سملت عيناه،
16
فتلاشت الإمبراطورية الغربية ولم يبق في ميدان التسابق للاستحواذ على عرش القسطنيطينية سوى يوحنا آسن البلغاري ويوحنا باطاجي النيقاوي.
وغضب يوحنا آسن؛ لإخفاقه في الاستيلاء على الوصاية في القسطنطينية، فدخل في تحالف بينه وبين يوحنا باطاجي وعمانوئيل أنجيلوس خلف ثيودوروس في ثيسالونيكية، فأدى هذا التحالف وهذا العمل المشترك إلى التقارب بين روم الغرب وروم الشرق، بين ثيسالونيكية ونيقية، وفتح الباب على مصراعيه ليوحنا باطاجي أن يزيد نفوذه في ثيسالونيكية وتوابعها، وحاصر الروم والبلغار القسطنطينية في السنة 1235 من البر والبحر معا ولكنهم اضطروا إلى أن يتراجعوا، وقام بلدوين الثاني إمبراطور القسطنطينية في رحلة إلى الغرب يستنهض الهمم لمساعدته ضد صفوف «المنشقين» عن الكنيسة، وكان السبب الأكبر في تراجع الروم خوف يوحنا آسن من زميله يوحنا باطاجي من شخصيته ومواهبه وقوته، وما إن لمس هذه الحقيقة حتى اتصل برومة، معلنا استعداده للعودة إلى حضن الكنيسة، طالبا إرسال ممثل بابوي إلى عاصمته، ومد هذا التفكك بين الحليفين في عمر الإمبراطورية اللاتينية فترة أخرى من الزمن.
يوحنا الثالث وفريدريك الثاني
ورقي عرش الإمبراطورية الغربية في السنة 1220 فريدريك الثاني أعظم أباطرة الغرب في العصور الوسطى، وكان قد نشأ وترعرع في صقلية، فشب أوسع أفقا وأرحب صدرا من غيره، ولا سيما في المسائل الدينية، فكان يجيد الإيطالية واليونانية والعربية، وعطف على العلم والعلماء، فقصده عدد من علماء العرب واليهود، وأنشأ جامعة نابولي، وعطف كثيرا على مدرسة الطب في سالرنو، وكان يتميز بعقل مولد جريء، فرأى أن يمارس صلاحياته وسلطته إلى أقصى الحدود، فاصطدم برئاسة الكنيسة التي كانت تعتبر نفسها فوق جميع الملوك والأمراء.
17
ورأى فريدريك الثاني في الإمبراطورية اللاتينية مظهرا من مظاهر سلطة البابا، وأداة لتوسيع نفوذه في الشرق والغرب معا، فقاومها مقاومة شديدة، وعطف على مناوئيها، فأمد ثيودوروس إبيروس وثيسالونيكية بنفوذه وشيء من ماله، فوقع بعمله هذا تحت حرم البابا، وكان يوحنا الثالث باطاجي يرى في حبر رومة غريغوريوس التاسع (1227-1241) عدوا لدولة الروم؛ لأنه لم يعترف ببطريكية نيقية، فأصبح بذلك حجر عثرة في سبيل الوصول إلى القسطنطينية، فتفاهم العاهلان يوحنا وفريدريكوس، وتحالفا في أواخر العقد الرابع من القرن الثالث عشر،
18
وحارب الروم في صفوف فريدريكوس في إيطالية، وتوفيت الفسيلسة فتزوج يوحنا من ابنة فريدريكوس قسطنسة،
19
ولكن هذا التحالف لم يدم طويلا؛ لأن مانفريد
Manfred
الذي تولى عرش صقلية بعد فريدريكوس تألب على نيقية وعاداها.
يوحنا الثالث وكيخسرو الثاني
وتمخض الدهر في أواسط آسية، فأتى بتموشين خان الذي عرف بجنكيز خان ؛ أي الخان العظيم (1154-1227)، وقام أحد أحفاده باتو بجموع كبيرة من التتر، فدخل جنوبي روسية واستولى على كيف في السنة 1240، ثم قطع جبال الكربات فوصل إلى بوهيمية مخربا مدمرا، وفرض الإتاوة على الصقالبة الجنوبيين وعلى البلغار فدفعوها صاغرين، وجاءت جموع من هؤلاء آسية الصغرى مهددين سلطنة إيقونية ودولة الروم في طرابزون، فوحد الأتراك والروم صفوفهم لصد التتر، ولكنهم لم يفلحوا؛ ففي السادس والعشرين من حزيران سنة 1243 تغلب التتر على الأتراك والروم في أرزنجان،
20
ودخل كيخسرو الثاني وعمانوئيل طرابزون في طاعة الخان الكبير، وأصبحت حدود التتر متاخمة لحدود فسيلفس نيقية في آسية، وجمعت المصيبة بين يوحنا وخصمه التقليدي سلطان إيقونية، ولكنها أنزلت بهذا خسائر فادحة هدت أركان حكمه فلم يعد بعد ذلك خصما يعبأ به.
21
يوحنا الثالث، عدو اللاتين الأوحد
وتوفي يوحنا آسن الثاني في السنة 1241 فانتهى بوفاته مجد مملكة البلغار الثانية، ولم يتمكن خلفاؤه من الاحتفاظ بفتوحاته، وانتهز يوحنا الثالث هذه الفرصة الثمينة فعبر إلى أوروبة بجنوده، وأعاد إلى الروم كل ما كان يوحنا آسن قد ضمه إلى ملكه من مقدونية وتراقية، وفي السنة 1246 استولى على ثيسالونيكية، وعلى ما بقي من مدن تراقية في حكم اللاتين، واعترفت إبيروس بسيادته، فلم يبق - والحالة هذه - أي منافس يشاطره الطموح إلى الاستيلاء على عرش القسطنطينية، وعند وفاته في السنة 1254 امتدت سلطته في أوروبة من شاطئ البحر الأسود حتى شاطئ الأدرياتيك، ولم يبق خارجا عن حكمه سوى القسطنيطنية وأواسط بلاد اليونان وشبه جزيرة المورة.
وأحب الروم يوحنا الثالث، وقدروه حق قدره، واعتبروه أبا مجددا بارا تقيا، وقام بعد وفاته من أطلق عليه لقب قديس، ولكن الكنيسة الأرثوذكسية لم تعترف بذلك، ولا يزال أهل مغنيسية حتى يومنا هذا يحتفلون بذكراه في كنيستهم المحلية في الرابع من تشرين الثاني من كل عام.
22
ثيودوروس الثاني (1254-1258)
ولدى وفاة يوحنا الثالث حمل الجنود ابنه ثيودوروس حسب التقاليد الموروثة على ترس خاص ونادوا به فسيلفسا، وكان البطريرك المسكوني عمانوئيل الثاني قد توفي منذ زمن قريب، فعرض ثيودوروس البطريركية على أستاذه نيقيفوروس البلميدي فرفض، فانتقى ثيودوروس الراهب أرسانيوس أفطوريانوس، فوافق المجمع، فشرطن بطريركا مسكونيا. وفي الخامس والعشرين من كانون الأول سنة 1254 توج البطريرك الجديد ثيودوروس فسيلفسا.
وكان يوحنا الثالث قد عني عناية فائقة بإعداد ثيودوروس للملك، إما من حيث حمل السلاح وممارسة القتال، أو من حيث العلم والأدب والفلسفة؛ فإنه وكل أمر تهذيبه العلمي إلى أكبر أساتذة زمانه: إلى نيقيفوروس البلميدي
Blemmydes
وإلى جورج أكروبوليتس
Acropolites ، ومن هنا كانت عقيدة ثيودوروس أن العلم والفضيلة لا ينفصلان، وورث ثيودوروس عن والده داء النقطة فنشأ سقيما ضعيفا، وكثرت نوباته بهذا الداء فأثرت في جهازه العصبي، فلم يكن يقوى دائما على ضبط أعصابه، فأصبح سريع التهيج، متسرعا في أحكامه، ولكنه ظل يحسن القيادة والإدارة، فقاد جيوشه إلى النصر أكثر من مرة، ووكل الإدارة إلى رجال أكفياء ونفذ أحكامهم بدون تردد.
وأدى هذا الحزم في تنفيذ القانون إلى شيء كثير من الامتعاض في الأوساط العالية، ولا سيما بين أصحاب الأملاك الكبيرة، فسهل بذلك وصول آل باليولوغوس إلى الحكم - كما سنرى.
23
وما إن علم ميخائيل الثاني ملك البلغار وصهر ثيودوروس زوج أخته بوفاة عمه يوحنا الثالث باطاجي، حتى انقض على مقدونية وتراقية؛ يستعيد ما ضمه يوحنا الثالث إلى ملكه منهما، فعبر ثيودوروس الثاني إلى أوروبة في شتاء السنة 1255 وطرد البلغار من جميع الأماكن التي كانوا قد احتلوها، وفي ربيع السنة 1256 عاد إلى أوروبة قاصدا عاصمة البلغار، فصمد البلغار في وجهه، وقبل الطرفان بصلح يعيد الحدود إلى ما كانت عليه عند بداية الحرب.
24
وكان ميخائيل الثاني ديسبوتس إبيروس قد خطب مريم ابنة ثيودوروس لابنه نيقيفوروس، فلما صمد ثيودوروس في وجه البلغار - كما ذكرنا آنفا - سعى الديسبوتس لعقد الزواج وأرسل ابنه وخطيبته إلى قصر ثيودوروس، فاستقبلهما بحفاوة. وقام هذا إلى ثيسالونيكية ليشترك في حفلة الزواج، ولكنه طلب إلى زميله ميخائيل والد صهره أن يتخلى بهذه المناسبة عن ألبانية وصربية وديراتزو «مفاتيح الشرق» وأن يسلمها له، فحاول ميخائيل أن يتملص واستعان بالصرب والألبان ولكن دون جدوى، فاضطر إلى أن يقبل (1257).
وكان ثيودوروس قد سلم دفة الأمور في نيقية إلى ميخائيل باليولوغوس، فخشي هذا تقلبات ثيودوروس ففر من نيقية والتجأ إلى كيخسرو الثاني في إيقونية، وأطل المغول يهددون الأتراك السلاجقة، فأبلى ميخائيل بلاء حسنا في صفوف كيخسرو وانتصر على المغول بالقرب من تسكارة على حدود أرمينية، ثم غلب المغول كيخسرو فراح هذا يطلب معونة ثيودوروس في مغنيسية (1258)، وبعد ذلك بقليل اضطر كيخسرو إلى أن يدخل في طاعة المغول مؤديا إتاوة سنوية.
ثم جاء دور ثيودوروس فاستقبل في مغنيسية وفدا مغوليا، وقدر له النجاح؛ لأن المغول كانوا قد بدءوا يتطلعون إلى سورية، فوقع الوفد المفاوض معاهدة سلم مع ثيودوروس ونجت بذلك دولة نيقية من مطامع المغول وتخريبهم،
25
ورأى ميخائيل باليولوغوس أن لا مفر من التفاهم مع الفسيلفس، فعاد إلى نيقية طالبا الصفح عما مضى واعدا بالأمانة والإخلاص، فطلب إليه الفسيلفس أن يقسم يمين الطاعة والولاء له ولابنه يوحنا من بعده، ففعل ميخائيل وعاد إلى سابق عزه وسطوته.
واستغل ميخائيل الثاني ديسبوتس إبيروس انشغال ثيودوروس في الشرق، فاستعان بالألبان والصرب واستعاد «مفاتيح الشرق» وجميع مقدونية ما عدا ثيسالونيكية، وأنفذ ثيودوروس ميخائيل باليولوغوس بقوة صغيرة إلى مقدونية فلم يقو هذا القائد على ميخائيل الثاني، فأمر ثيودوروس بإلقاء القبض عليه وأودعه السجن في نيقية مدعيا أن سحره أعاد إليه مرضه.
وفي آب السنة 1258 شعر ثيودوروس باقتراب الأجل، فعاش عيشة الرهبنة ووزع الصدقات بسخاء على الفقراء والمساكين وطلب إلى أستاذه نيقيفوروس البلميدي أن يحله من خطاياه فأبى، فالتجأ ثيودوروس إلى متروبوليت ميتيلينة، ثم توفي في السادسة والثلاثين من عمره، فنقل إلى دير سوسندرة في مغنيسية؛ ليدفن مع والده يوحنا الثالث.
يوحنا الرابع (1258-1261)
وتوفي ثيودوروس عن أربع بنات قاصرات، وعن ولد واحد، هو يوحنا، وكان حينئذ ابن عشر سنوات، وكان قد أقام ثيودوروس على ابنه القاصر وصيا كلا من البطريرك أرسانيوس والوزير الصديق الحميم القديم جاورجيوس موزالن
Muzalon .
26
وأحس موزالن بعدم رضا الأرستقراطيين عنه وعن وصايته، فطلب إلى مجلس الشيوخ أن ينتخب وصيا غيره، ولكن بعض الشيوخ ألح عليه بوجوب متابعة العمل، وفي طليعة هؤلاء ميخائيل باليولوغوس الذي كان يدبر مكيدة لاغتياله، وفي اليوم التاسع لوفاة ثيودوروس ذهب الوصيان وأفراد الأسرة المالكة وكبار رجال الدولة والأعيان إلى مغنيسية لإقامة الصلاة عن نفس ثيودوروس، وبينما هم يصلون دخل عدد من فرسان الإفرنج المرتزقة من رجال ميخائيل باليولوغوس إلى الكنيسة واغتالوا الوصي موزالن وأشقاءه،
27
ثم اجتمع الأعيان والشيوخ وانتخبوا ميخائيل باليولوغوس وصيا بلقب دوق عظيم
Megaduc ، ثم انتخبوه ديسبوتسا، وبعد أن قوي على حزب الفسيلفس الصغير طلب أن يصير فسيلفسا شرط أن يقسم اليمين، على أن يحفظ حياة يوحنا وأن يسلمه الدولة متى بلغ سن الرشد، وأقسم اليمين في مطلع السنة 1259 في مغنيسية، ثم قام إلى نيقية ليتسلم تاجه من يد البطريرك، فطلب أن يتوج قبل يوحنا فأبى البطريرك، فألح الشعب والإكليروس على البطريرك، فقبل أن يتوج ميخائيل وأن يؤجل تتويج يوحنا إلى ما بعد رشده، فتوجه البطريرك فسيلفسا واستعفى وأقام في دير، فأقيم بعده نيقيفوروس الثاني وتوفي في أوائل السنة 1261.
28
فتح القسطنطينية (1261)
وكان بلدوين الثاني إمبراطور اللاتين قد طلب إعادة ثيسالونيكية ومقدونية وتراقية إليه، فطلب ميخائيل نصف إيراد كمارك العاصمة ومضرب النقود، وهدد بالحرب، فسكت بلدوين ووقع معاهدة مع ميخائيل في أواخر السنة 1258،
29
فحول ميخائيل اهتمامه شطر سميه ميخائيل الثاني ديسبوتس إبيروس، وكان هذا قد ضم مقدونية حتى الفردار، وأنشأ تحالفا ضد نيقية بينه وبين ملك صقلية وأمير المورة، فأنفذ ميخائيل أخاه يوحنا بقوة إلى الغرب فاحتل أرتة عاصمة الديسبوتس وأسر أمير المورة، ثم وقع معاهدة مع الديسبوتس في أواخر السنة 1259.
30
وتفاهم ميخائيل والمغول في آسية ولم يعبأ بمصير حليفه سلطان إيقونية،
31
ثم حالف عمانوئيل كومنينوس إمبراطور طرابزون،
32
وكانت البندقية قد جارت على جنوى منذ السنة 1204 فطردت الجنويين من القسطنطينية ومن سائر أسواق الروم ، فلجأت جنوى إلى القرصنة، وأثارتها حربا على البندقية لا هوادة فيها، وشهدت عكة في حزيران السنة 1258 قتالا شديدا بين الطرفين في شوارعها، وخسرت جنوى موقعة بحرية في نضالها هذا، فلجأت إلى صور،
33
وتدخل البابا ألكسندروس الرابع؛ ليضع حدا لهذا النزاع، وأرسل ممثلا خاصا إلى عكة (1259)؛ لينقل حكمه في الأمر، ولكن البنادقة فيها لم يقبلوا شيئا من هذا، فاتصلت جنوى بميخائيل باليولوغوس، وعرضت تعاونها في سبيل عودة الروم إلى الحكم في القسطنطينية، ولم يكن لدى ميخائيل أسطول كاف، يغير به على القسطنطينية بحرا، فقبل عرض جنوى، ووقع في نمفية
Nymphaeum
في الثالث عشر من آذار سنة 1261 معاهدة هجومية دفاعية ضد البندقية والإمبراطور بلدوين الثاني، وقضت شروط هذه المعاهدة بأن تضع جنوى أسطولها تحت تصرف الفسيلفس وأن يمنحها هو جميع الامتيازات التي كانت البندقية تتمتع بها في القسطنطينية وغيرها من أجزاء دولة الروم.
34
وبعد هذا بوقت قصير أرسل الفسيلفس القائد أليكسيوس استراتيغوبولس
Strategopoulos
على رأس ثمانمائة جندي؛ ليقوم بمناورة على الحدود البلغارية، فلما وصل إلى غاليبولي انضم إليه متطوعون كثيرون من الروم وأقنعوه بوجوب القيام إلى ضواحي القسطنطينية مؤكدين له أن حاميتها خرجت لتحارب بعيدا عنها. فخشي القائد سوء العاقبة.
ولكن أحد أبناء العاصمة خرج في مساء ذلك اليوم من بيته بسرداب إلى خارج السور، فأمسكه الروم وفهموا منه حالة العاصمة، فأدخلوا من السرداب خمسين جنديا، فتمكن هؤلاء من الاستيلاء على باب من أبواب المدينة، فدخل الجند جميعهم في الخامس والعشرين من تموز دون مقاومة ونادوا بميخائيل ويوحنا فسيلفسين، فانضم الروم في العاصمة إلى الجيش، وأما السكان الإفرنج فمنهم من قتل، ومنهم من هرب. ونجا بلدوين الإمبراطور على قارب تاركا ما لديه غنيمة للفاتحين، فلما سمع جيش الإفرنج بما جرى عاد أفراده إلى العاصمة ليخلصوا عيالهم، فقابلهم الروم بالقتال والإحراق والتخريب، فيئس الإفرنج وأخذوا من استطاعوا من عيالهم وسافروا.
فلما بلغ ميخائيل فتح القسطنطينية لم يصدق، ثم تثبت من الأمر فابتهج، وقام إلى العاصمة وفي صحبته ابنه وزوجته ووزراؤه ومجلس دولته، فوصلوا في الرابع عشر من آب وباتوا خارج الأسوار، ثم أمر الفسيلفس أن يفتح الباب الذهبي الذي سده الإفرنج، وفي الغد صعد متروبوليت كيزيكوس إلى أحد الأبراج حاملا أيقونة العذراء، وصلى على مسمع من الجماهير ثلاثة عشر أفشينا، وكان الفسيلفس عند تلاوة كل أفشين يكشف رأسه ويركع على الأرض فيحذو حذوه سائر الحاضرين، وعند نهاية كل أفشين كانوا ينهضون ويصرخون معا «كيريه إيلايصون» يا رب ارحم! وبعد إتمام الصلاة مشى ميخائيل وراء الأيقونة إلى دير الأستودي حيث وضعت أيقونة العذراء، ثم امتطى جوادا وذهب إلى كنيسة الحكمة الإلهية، فصلى وشكر، ثم ذهب إلى القصر وكافأ القائد الظافر مكافأة لائقة وأمر بذكره مع الملوك سنة كاملة، وأرجع البطريرك أرسانيوس من عزلته، فتوجه مرة ثانية في كنيسة الحكمة الإلهية، ومنع ذكر يوحنا الرابع، وسمل عينيه.
35
أنوشنتش الثالث والكنيسة الأرثوذكسية
ولم يرض هذا الحبر الكبير - بادئ ذي بدء - عن احتلال القسطنطينية وإنشاء إمبراطورية لاتينية في الشرق؛ لأنه رأى في ذلك ابتعادا عن الهدف الأسمى الذي نشأت من أجل تحقيقه الحروب الصليبية، ثم عاد فرأى في التطور الذي طرأ على الأوضاع السياسية في الشرق نتيجة لقيام هذه الإمبراطورية اللاتينية؛ ظرفا ملائما لتقوية الكثلكة وتدعيم السلطة فيها، فعني أولا بتنظيم الكنائس الكاثوليكية التي نشأت في المناطق الصليبية، ثم نظر في علاقتها مع السلطات السياسية المحلية مع الشعب الأرثوذكسي والسلطات الأرثوذكسية الروحية، ثم اتسع أفقه، فحاول توحيد الكنيستين الشقيقتين الأرثوذكسية اليونانية والكاثوليكية اللاتينية.
وكان قد بقي في المقاطعات الصليبية عدد غفير من الأرثوذكسيين شعبا وإكليروسا، فسمح أنوشنتش في الأبرشيات التي تغلب فيها العنصر الأرثوذكسي على غيره أن يسام فيها أساقفة أرثوذكسيون، وأن تقام الشعائر الأرثوذكسية بما فيها استعمال الخمير في الذبيحة، ولكنه بث رسله في هذه المناطق، يدعون لتوحيد الكنيسة؛ أي للاعتراف بسلطة البابا.
وفي السنة 1204 أم القسطنطينية قاصد رسولي، يدعو الإكليروس الأرثوذكسي للتفاهم وتوحيد الكلمة، وجرت مفاوضات في هذا المعنى في كنيسة الحكمة الإلهية ولكن دون جدوى،
36
ثم تابع الطرفان البحث في السنة 1205-1206، واشترك في التفاوض كل من نيقولاووس ميزاريتس (رئيس أساقفة إفسس فيما بعد) ونيقولاووس أوترانتو الذي كان يجيد اللاتينية واليونانية، فيترجم للطرفين، ثم توفي البطريرك المسكوني يوحنا العاشر (1206)، وكان قد لجأ إلى بلغارية عند احتلال القسطنطينية، فطلب الإكليروس الأرثوذكسي في الإمبراطورية اللاتينية إلى الإمبراطور هنريكوس أن يؤذن لهم بانتخاب بطريرك جديد، فوافق الإمبراطور ولكنه اشترط أن يخضع البطريرك الجديد لسلطة البابا، فأخفقت المفاوضات التي كانت لا تزال قائمة في القسطنطينية للتوفيق بين الكنيستين،
37
وقضت ظروف ثيودوروس الأول لاسكاريس أن يكون لديه بطريرك في نيقية، وانتخب ميخائيل الرابع - كما سبق أن أشرنا - فاتجهت أنظار الأرثوذكس في المناطق الصليبية إلى نيقية، إلى فسيلفسها وبطريركها للتحرر من ضغط الإمبراطور اللاتيني وضغط رئيس كنيسته.
وجرت مفاوضات جديدة؛ لتوحيد الصفوف في السنة 1214 في القسطنطينية، فمثل الكنيسة اللاتينية القاصد بيلاجيوس
وناب عن البطريرك المسكوني نيقولاووس ميزاريتس «متروبوليت إفسس وإكسرخوس جميع آسية»، ولكن صلف بيلاجيوس وضغطه على الإكليروس الأرثوذكسي في العاصمة وتشبثه بوجوب الاعتراف «بسلطة» البابا؛ حالت دون الوصول إلى أي تفاهم بين الكنيستين.
38
وجل ما توصل إليه البابا أنوشنتش الثالث هو اعتراف المجمع اللاتراني الذي التأم في السنة 1215 بسلطة البابا على بطاركة اللاتين في الشرق، في القسطنطينية وأنطاكية والقدس، ولكن الكنيسة الأرثوذكسية لم تر في هذا المجمع مجمعا مسكونيا، وبالتالي فإنها لم تذعن لمقرراته، ولم يتمكن أنوشنتش من فصل الدين عن السياسة؛ فإنه لم يعترف بلقب الفسيلفس الذي اتخذه لنفسه ثيودوروس الأول لاسكاريس، ولم يخاطبه بأي لقب أعلى من لقب «شريف»،
39
ورأى في رسالته إليه أن اللاتينيين باحتلالهم القسطنطينية كانوا أداة الحق في الاقتصاص من اليونان؛ لأن هؤلاء لم يعترفوا بسلطة رومة.
40
وفي السنة 1232 انطلق خمسة رهبان فرنسيسكانيين من الأسر في إيقونية فجاءوا نيقية وفاتحوا البطريرك المسكوني جرمانوس الثاني في اتحاد الكنيستين، فسر البطريرك بهم وأطلع الفسيلفس يوحنا الثالث باطاجي على ما اقترحوه وكتب إلى البابا غريغوريوس التاسع للنظر في أمر الاتحاد، فجاء نيقية في السنة 1234 وفد باباوي لهذه الغاية، وانعقد مجمع لدرس مشروع الاتحاد في نيقية أولا ثم في نمفية، واشتد الجدل بين الفريقين فطلب نيقيفوروس البلميدي أن يتم الاتحاد على قبول عبارة الآباء القديمة: أن الروح القدس ينبثق من الآب بالابن، ولكن الغربيين لم يرضوا، فرأى الفسيلفس أن يبقى الغربيون على عادتهم في تقديم الفطير ويحذفوا من دستور الإيمان الانبثاق من الابن، فرفض نواب البابا ذلك، وانفض المجمع دون الوصول إلى أية نتيجة،
41
وكتب عندئذ جرمانوس البطريرك مؤلفه الشهير في انبثاق الروح القدس.
وتوفي فريدريكوس الثاني إمبراطور الغرب وصديق يوحنا الثالث باطاجي (1250) وتولى شئون صقلية بعده مانفرد، وتألب هذا على الروم في نيقية، ففاوض فسيلفس الروم البابا أنوشنتش الرابع في أمر اتحاد الكنيستين واشترط إعادة القسطنطينية وبطريركيتها إلى الروم، وخروج إمبراطور اللاتين والإكليروس اللاتيني من عاصمة الشرق، وقبل بالاعتراف بسلطة البابا في مقابل هذا كله، فقبل أنوشنتش الرابع، وكتب البطريرك إلى البابا يعلن تفويض الوفد الأرثوذكسي مفاوضة رومة في أمر هذا الاتحاد.
42
وتوفي البابا والفسيلفس في السنة 1254، فظل اتفاقهما مشروع اتفاق غير موقع، ونهج ثيودوروس الثاني نهج والده يوحنا الثالث، فرأى في اتحاد الكنيستين أداة حسنة للاستيلاء على القسطنطينية، فأوفد إلى البابا ألكسندروس الرابع في السنة 1256 شريفين من أشراف المملكة، يطلبان العودة إلى التفاوض على الأسس نفسها التي كان قد اقترحها يوحنا الثالث، فلبى البابا النداء وأرسل إلى نيقية وفدا مفاوضا برئاسة قسطنطين أسقف أورفيتو
Orvieto
وخوله حق الدعوة إلى مجمع وحق الترؤس عليه وسن مقرراته، وتحسنت ظروف ثيودوروس السياسية والعسكرية، فلما وصل الوفد المفاوض إلى مقدونية منعه الفسيلفس من التقدم فيها وأمره بالخروج من الأراضي الخاضعة لسلطته.
43
وجاءت السنة 1258 فتوفي ثيودوروس الثاني، وتولى الوصاية ميخائيل باليولوغوس، وطمع في الحكم فأعلن نفسه فسيلفسا في السنة 1259، وخشي حلفا ينظم ضده في الغرب - كما سبق أن أشرنا - فأرسل يفاوض البابا ألكسندروس الرابع ويطلب معونته، ولكن هذا البابا كان قنوعا متقاعسا فلم يحرك ساكنا ولم يستغل ظرف ميخائيل، ثم استولى ميخائيل على القسطنطينية دون معونة البابا.
44
علماء نيقية وأدباؤها
وعلى الرغم من الفظائع التي ارتكبها الصليبيون في القسطنطينية من سلب ونهب وتدمير وتخريب، وعلى الرغم أيضا من صغر الدولة التي قامت في نيقية ومن ضآلة مواردها؛ فإنها أنجبت عددا من العلماء والأدباء خلدوا ذكرها على ممر الدهور، ويعود الفضل في هذا إلى الأسرة الحاكمة، فإن جميع اللاساكرة، ما عدا الصبي يوحنا الرابع ، أحبوا العلم وعطفوا على العلماء، فثيودوروس الأول المؤسس دعا هؤلاء من جميع المناطق إلى بلاطه فأنفق عليهم بسخاء وشجعهم على متابعة أعمالهم، وبين هؤلاء نيقيتاس المؤرخ، فإنه فر من القسطنطينية عند سقوطها بيد الصليبيين، فوجد في جوار ثيودوروس وقتا ودخلا كافيين لإعادة النظر في تاريخه وإكماله ولتصنيف رسالته الشهيرة في الأرثوذكسية.
وعلى الرغم من متاعب يوحنا الثالث باطاجي السياسية الداخلية والخارجية والعسكرية؛ فإنه أنشأ دورا للمطالعة في مدن دولته وحض الشبان على الالتحاق بالمدارس للتعلم، ولم يكتف ثيودوروس الثاني وابنه وخلفه بإنشاء دور المطالعة، بل ابتاع على نفقته الكتب لها وشجع أمناءها على إعارتها للمطالعة خارج هذه الدور.
45
نيقيفوروس البلميدي (1197-1272)
وأشهر علماء نيقية في هذه الفترة من تاريخها نيقيفوروس البلميدي، ولد في القسطنطينية في أواخر القرن الثاني عشر وفر منها مع والديه لدى سقوطها في يد اللاتين الصليبيين والتجأ معهما إلى أراضي ثيودوروس لاسكاريس الأول، وقضى حداثته يتنقل بين مدن آسية الصغرى في طلب العلم، فتعلم الشعر والبيان والمنطق والفلسفة والعلوم الطبيعية والطب والحساب والهندسة والفيزياء والفلك.
ثم استقر في دير وانكب على درس الأسفار المقدسة، ورقي السدة البطريركية في عهد يوحنا الثالث باطاجي البطريرك جرمانوس الثاني، وكان يحب نيقيفوروس ويعطف عليه، فاستدعاه إلى الدار البطريركية وأطلعه تدريجيا على مشاكل الكنيسة، وآثر نيقيفوروس العزلة والحياة الرهبانية، فترك الدار البطريركية وانعزل في دير بالقرب من ميليطس.
ثم خرج من هذا الدير ليشترك في المفاوضات التي جرت في عهد يوحنا الثالث وجرمانوس الثاني مع رومة في أمر اتحاد الكنيستين، وعاد إلى العزلة يدرس ويؤلف ليخرج منها بأمر من الفسيلفس للتفتيش عن المخطوطات في تراقية ومقدونية وآثوس وابتياعها لحساب الفسيلفس، ثم طلب إليه يوحنا أن يعنى بتربية ابنه ثيودوروس الثاني، ففعل وأنشأ ديرا خاصا، وكاد يصبح بطريركا مسكونيا، وتوفي في ديره في السنة 1272.
46
وأهم مصنفات هذا العالم سيرته، وفيها معلومات هامة مفيدة عن السياسة والاجتماع والعلم في النصف الأول من القرن الثالث عشر، ويجيء بعدها في الأهمية كتابه سنة الفسيلفس الذي صنفه خصيصا لتلميذه ثيودوروس الثاني، وفيه رأي العالم في واجبات الحاكم وسلوكه، وكتب مختصرين في الفيزياء والمنطق فأصبحا مرجعين هامين لطلاب هذين العلمين في الشرق والغرب - ولا سيما إيطالية.
47
أكروبوليتة وثيودوروس
وأشهر تلاميذ نيقيفوروس جاورجيوس أكروبوليتة
Acropolita
وثيودوروس الثاني الفسيلفس، ولد الأول في القسطنطينية وأم نيقية في صباه في عهد يوحنا الثالث باطاجي، ودرس على نيقيفوروس مع ثيودوروس الثاني، والتحق بخدمة الدولة فوصل إلى أعلى مراتبها، ثم دخل القسطنطينية في ركاب ميخائيل باليولوغوس وتولى في عهده بعض المفاوضات الدولية الهامة، فهو الذي مثل ميخائيل في مجمع ليون سنة 1274 كما سيجيء معنا، وأهم مخلفاته تاريخه الشهير الذي ضمنه حوادث الشرق ما بين السنة 1203 والسنة 1261، وروايته فيه جلية واضحة لها قيمتها العلمية؛ لأن واضعها اشترك في بعض ما روى، أو شاهد البعض الآخر وعاصر الباقي.
48
أما ثيودوروس الفسيلفس فإنه درس على نيقيفوروس ثم على أكروبوليتة فأحب المعرفة والفضيلة بفضلهما، وشجع العلم والعلماء، وأنشأ المدارس ودور الكتب، وأظهر عناية بالطلبة، فدعاهم إلى قصره وحدثهم في ما تعلموه وشجعهم، وتعشق الفلسفة - ولا سيما فلسفة أرسطو - وكتب في الفسلفة والدين والعلوم الطبيعية والرياضية.
49
أدباء إبيروس وعلماؤها
وأخبار الأدب اليوناني في إبيروس وملحقاتها في النصف الأول من القرن الثالث عشر مهمة؛ لأنها تعاون الباحث في تتبع أخبار النهضة في إيطالية والغرب فتظهر أثر اليقظة اليونانية، وأشهر أدباء إبيروس وتوابعها يوحنا أبوقوقوس متروبوليت ليبانتو، وجاورجيوس باردانس متروبوليت كروفو، وديمتريوس خوماتينوس رئيس أساقفة أوخريدة.
ولا نعلم الشيء الكثير من أخبار هؤلاء، ولكننا نعلم أن الأول
Apocaucus
تعلم في القسطنطينية وتعشق الأدب اليوناني القديم فأكثر من مطالعة هوميروس وأريستوفانس وثوقيذيذس، وأرسطو، وأنه كتب كثيرا في الناموس، ونظم كثيرا من الشعر الحكمي.
50
أما رئيس أساقفة ليبانتو
Georgeos Bardanes
فإنه ولد في آثينة، وتتلمذ على رئيس أساقفتها ميخائيل الخونياتي ، ثم أم نيقية وقضى في بلاطها مدة، ثم عاد إلى الغرب فسيم أسقفا على كورفو، وخلف رسائل متنوعة بأسلوب يوناني كلاسيكي نقي، بعضها ديني جدلي، وبعضها حكمي أدبي، وعني رئيس أساقفة أوخريدة
Dimitrios Chomatenos
بقرارات المجامع وبالناموس والقانون.
51
الباب الحادي عشر
اليقظة الأخيرة وإخفاقها
1261-1389
الفصل الثالث والثلاثون
دولة صغيرة إرثها كبير وظرفها خطير
1261-1328
سياسة ميخائيل الثامن الداخلية
وعني ميخائيل بإقالة عثرة العاصمة وإعادتها إلى سالف مجدها، فترتب عليه ترميم الأحياء التي كانت قد التهمتها النار، وتشييد المؤسسات الخيرية من جديد، واستهواء السكان للعودة إلى المدينة وضواحيها، وتوزيع ممتلكات البنادقة، وإيواء تجار جنوى، وتعهد الأسوار بالإصلاح، وإنشاء أسطول حربي جديد.
واشتدت رغبته في توطيد سلطته وحقه في الملك، فسمل عيني الولد يوحنا الرابع، وشوه كاتم أسراره عمانوئيل هولوبولس؛ لأنه شهد بأم عينه الجريمة التي ارتكبت بحق الفسيلفس الولد، وهال البطريرك أرسانيوس الأمر فوضع ميخائيل تحت الحرم الكنائسي، فأنزل عن عرشه البطريركي ونفي، وتسنم هذا العرش جرمانوس رئيس أساقفة أدرنة، فدخلت الكنيسة في أزمة شديدة دامت زمنا طويلا.
1
ومال ميخائيل الثامن إلى الأشراف، وربط بالتزاوج بين كثير من أفرادهم وأفراد أسرته، وخص أنسباءه بالوظائف الكبرى فجعل أخاه يوحنا القائد الأعلى للجيش، فامتعضت الأوساط الشعبية، ومالت عنه وأيدت البطريرك أرسانيوس وانضمت إلى حزبه، وفي السنة 1272 أشرك ميخائيل ابنه البكر أندرونيكوس في الحكم فتوجه فسيلفسا في السادسة عشرة من عمره وأزوجه من مريم ابنة أسطفان الخامس ملك المجر.
2
وقضت ظروف ميخائيل العسكرية والسياسية الدولية بالإنفاق، وقطعت المعاهدة مع جنوى موارد ثمينة، ففرغت خزينة ميخائيل من المال وتعسر عليه إسعاد الدولة وتعذر،
3
وظهر النقص في أمانة أبناء جنوى فتألبوا على ميخائيل في السنة 1264 وتآمروا مع مانفرد عدو ميخائيل على تسليم القسطنطينية إلى الإفرنج، فتقرب الفسيلفس من البنادقة،
4
فخشي الجنويون سوء العاقبة وقبلوا أن يتخلوا عن حيهم في داخل العاصمة، وأن يقيموا خارجها عبر القرن الذهبي، فقامت غلطة مدينة أجنبية عند مدخل العاصمة! (1265).
سياسته الخارجية
وتلخص سياسة ميخائيل الثامن الخارجية في أنه سالم المغول في آسية ليتسنى له فرض سلطته على جميع ممتلكات الروم السابقة في شبه جزيرة البلقان، وفي أنه بذل جهده للحيلولة دون قيام حملة صليبية جديدة لاحتلال القسطنطينية، فاضطر اضطرارا إلى أن يتودد لحبر رومة، فيعيد اتحاد الكنيستين ليضمن معارضته لكل مشروع صليبي يؤدي إلى السيطرة على القسطنطينية.
ففي السنة 1262 أطلق من الأسر وليم فيلهردوان الذي كان قد وقع في يد الروم سنة 1259 بعد موقعة بالاغونية؛ لقاء يمين الطاعة والولاء للفسيلفس، ولقاء تحويل ثلاث قلاع من قلاعه في أقصى المورة إلى الروم، وكان قد وصل البابا أوربانوس الرابع إلى السدة الباباوية في السنة 1261 وبعد سقوط القسطنطينية في يد الروم، وكان هذا البابا يرغب رغبة شديدة في إعادة اللاتين إلى سابق حكمهم في القسطنطينية فحل وليم فيلهردوان من يمينه، فحاول ميخائيل التقرب من مانفرد ملك صقلية فلم يفلح، فتقرب من البابا الجديد وأغراه باتحاد الكنيستين، فعدل أوربانوس الرابع عن فكرة الحملة على القسطنطينية، وبدأت المفاوضات في اتحاد الكنيستين، ولكن أوربانوس توفي في الثاني من تشرين الأول سنة 1264، وخلف أوربانوس الرابع إقليمس الخامس، فعضد هذا البابا كارلوس آنجو في مطامعه في صقلية، وكانت حرب بين كارلوس ومانفرد انتهت في السنة 1266 بسقوط مانفرد في ميدان القتال، فعاد ميخائيل الثامن يفاوض هذا البابا الجديد في أمر اتحاد الكنيستين؛ خوفا من مطامع كارلوس، وغدا هذا البابا أشد اندفاعا من سلفيه في إعادة الإمبراطورية اللاتينية في الشرق، فصارح ميخائيل مهددا بأنه لا يضمن له شيئا قبل أن يخضع الفسيلفس وكنيسته وإكليروسه لسلطته دون قيد أو شرط (1267).
5
وتابع كارلوس آنجو ملك صقلية استعداداته للعمل السياسي الحربي في الشرق، فاستمال زعماء عساكر مانفرد في إبيروس، وحالف أمير المورة اللاتيني، ووقع معاهدة مع بلدوين الثاني إمبراطور القسطنطينية السابق، حدد فيها توزيع الغنائم (1267)، وتوفي إقليمس الرابع في 29 من تشرين الثاني سنة 1268، وانقسم الكرادلة على بعضهم، فغدت السدة الباباوية شاغرة سنتين وتسعة أشهر، فخشي ميخائيل سوء العاقبة، فلجأ إلى لويس التاسع ملك فرنسة راجيا وضع حد لمطامع أخيه كارلوس آنجو في ممتلكات الروم، مؤكدا استعداده للاعتراف بسلطة البابا وقرب اتحاد الكنيستين،
6
فأحال لويس هذا الاقتراح إلى مجمع الكرادلة وأوقف أخاه عن القسطنطينية ووجهه نحو تونس.
7
محاولة توحيد الكنيستين (1274)
وتوفي لويس التاسع في السنة 1270 فعاد كارلوس آنجو من تونس إلى صقلية وعادت مطامعه في الشرق ، فأزوج أحد أبنائه من ابنة أمير المورة فيلهردوان وأمد هذا الأمير بالعساكر فحنث بيمينه وحارب الروم، وقدر له النصر في إحدى المواقع (1271)،
8
ثم اتفق الكرادلة وانتخبوا غريغوريوس العاشر رئيسا على الكنيسة الغربية، وكان غريغوريوس شديد الحرص على نجاح الصليبيين في الأراضي المقدسة، وكان يرى أن هذا النجاح لم يتم دون تفاهم تام بين الكنيستين اللاتينية واليونانية، فلم يرض عن مطامع كارلوس آنجو في الشرق،
9
ولكن هذا لم ينثن عن غيه فمد أصابعه إلى البانية وثيسالية وبلغارية وحرض وألب، فقابله ميخائيل الثامن بتحالف مع ألفونس العاشر ملك كستيلية «قشتالة» وعدو كارلوس، ومع إسطفانوس ملك المجر، ومعه الجنويين للمرة الثانية.
10
وجاءت معونة البابا غريغوريوس العاشر أكثر جدوى وأنفع من كل هذا، فقبل أن يغادر عكة ليتسلم رئاسة الكنيسة؛ كتب إلى ميخائيل الثامن يؤكد رغبته في اتحاد الكنيستين، وبعد وصوله إلى رومة أرسل أربعة رهبان فرنسيسكانيين؛ ليؤكدوا حماية البابا في حال الاتحاد،
11
فدخل الفسيلفس والبابا في طور من الصداقة والإخلاص المتبادل، وكان غريغوريوس أرحب صدرا من سلفه إقليمس الرابع فلم يطلب إلى الإكليروس سوى الاعتراف بسلطته القانونية والفعلية والعودة إلى درج اسمه في الذبتيخة، وهب ميخائيل يبث الدعاية في الأوساط الإكليريكية اليونانية للاعتراف بسلطة البابا مبينا علاقة هذا الاعتراف الأكيدة بخلاص القسطنطينية وسلامتها، ولكن هذه الدعاية قوبلت بمقاومة شديدة ومكابرة لا تقبل النقص،
12
ولا سيما من البطريرك والأساقفة وبعض أعضاء الأسرة المالكة، وجل ما توصل إليه ميخائيل أنه استمال أحد علماء اللاهوت يوحنا فقس وعددا قليلا من الأساقفة.
ودعا غريغوريوس العاشر إلى مجمع مسكوني في ليون في السنة 1274 فحضره وفد رومي شرقي مؤلف من البطريرك المستقيل جرمانوس، واللوغوثيتوس جاورجيوس أكروبوليتة، ورئيس أساقفة نيقية، وحمل أعضاء هذا الوفد كتابا من الفسيلفس إلى البابا يعترف فيه بمطالب غريغوريوس العاشر، وبعد تلاوة هذه الرسالة ورسالة غيرها من نوعها موقعة من بعض رجال الإكليروس الأرثوذكسي أعلن رسميا اتحاد الكنيستين في السادس من تموز سنة 1274،
13
ووقع كارلوس آنجو وميخائيل مهادنة في الحادي عشر من كانون سنة 1275،
14
وأقام ميخائيل حفلة دينية؛ ابتهاجا بهذا الاتحاد، ولكنه خشي الغوغاء والضوضاء في شوارع العاصمة، فأقام حفلته هذه في كنيسة في القصر لا في كنيسة الحكمة الإلهية.
واستقال البطريرك المسكوني يوسف احتجاجا على ما جرى، وتولى الرئاسة بعده يوحنا فقس نفسه، وقرعت أفلوجية أخاها ميخائيل الثامن على ما جرى، وضج بعض الأمراء، فأمر ميخائيل بحبسهم، فانعقد مجمع أرثوذكسي في ثيسالية لتوبيخ الفسيلفس وتكديره ولقطع فقس،
15
ويرى كل من المؤرخ الإفرنسي الأستاذ لويس برهييه والأب جوغي أنه لم يشترك في أعمال مجمع ليون سوى إكليريكيين أرثوذكسيين فقط، وأن اتحاد الكنائس لا يتم بالقوة.
16
وواصل غريغوريوس العاشر اتصالاته بالفسيلفس، وفاوضه في حملة صليبية جديدة؛ تطرد الأتراك من آسية الصغرى، وتثبت أقدام الصليبيين في الأراضي المقدسة،
17
وأعلن غريغوريوس أنه سيتولى بنفسه قيادة هذه الحملة ولكنه توفي في مطلع السنة 1276، فخلفه في رئاسة الكنيسة الغربية باباوات ثلاثة في خلال سنتين، كانوا كلهم من رجال كارلوس آنجو، فأفسدوا على ميخائيل سعيه، وجاء نيقولاووس الثالث في أواخر السنة 1277 يطالب بخضوع الكنيسة اليونانية خضوعا تاما، واستعفى فقس من مهام البطريركية، ووفد على ميخائيل وفد باباوي يتثبت من واقع الحال، فاضطرب ميخائيل وأكد إخلاصه وقال إنه في حال إخفاقه تجاه مناوئيه في القسطنطينية ينفصم ما تم من اتحاد الكنيستين.
فأثر كلامه هذا في نفس البابا نيقولاووس الثالث وهب - لساعته - يتوسط بين كارلوس آنجو وابن بلدوين الثاني وبين ميخائيل الثامن، وسعى وميخائيل في الوقت نفسه لتثبيت حق بطرس الثالث زوج ابنة مانفرد في الملك في صقلية، ووافق البابا على هذا الحل ولكنه توفي في صيف السنة 1280، وقضت مصلحة كارلوس بأن يوصل إلى السدة الباباوية رجلا يثق في إخلاصه ومحافظته على مصالحه، فأيد الكردينال الإفرنسي سمعان ده بري
Simon de Brie
وتدخل تدخلا فعليا في الانتخاب، فنجح مرشحه وتبوأ السدة باسم مرتينوس الرابع (21 شباط 1281)، فذهبت آمال ميخائيل أدراج الرياح، «وكان قد عمل ما لا يعمل لتثبيت الاتحاد فغشى الدولة بالجواسيس وسمل أعين بعض كبار رجال الإكليروس الأرثوذكسي، وحمل رعاياه بمختلف الأساليب ليوصلهم إلى طاعة رومة، لكن مرتينوس الرابع افترى على الفسيلفس فاتهمه بالغش والخداع ثم وضعه تحت الحرم»،
18
وقام مرتينوس بعدئذ يدبر حلفا جديدا لإخضاع الروم وإقامة الإمبراطورية اللاتينية، فوفق بين كارلوس وفيليب ترنتوم والبندقية، وتم الاتفاق على أن تقوم الحملة في نيسان السنة 1283 للاستيلاء على القسطنطينية والأراضي المقدسة، ولكن مؤامرة ميخائيل وحليفه ملك أراغونة قضت على آمال البابا وعلى ملك كارلوس بمأساة صقلية في الحادي والعشرين من آذار سنة 1282، وأنزل بطرس الثالث جنوده في صقلية، وأعلن نفسه ملكا عليها في صيف هذه السنة نفسها.
19
ميخائيل الثامن والبلقان
وقضت المحافظة على سلامة الدولة ضد مطامع كارلوس وأعوانه أن يتخذ ميخائيل موقفا دفاعيا في البلقان، فاحتل في السنة 1262 الحصون الثلاثة في المورة وجعلها نقاط انطلاق استراتيجي في خطة دفاعية، ثم احتل جزيرة أفبية ما عدا عاصمتها للغاية نفسها، ووجه غاراته المتقطعة شطر إبيروس والبلغار.
ميخائيل في الشرق
وتطورت أحوال الشرق في أثناء هذا كله تطورا خطيرا، فأسس المماليك في مصر في السنة 1250 دولة عسكرية فتية، واستولى على فارس منكو الخان المغولي الأكبر، واستحوذ على بغداد في السنة 1258 هولاغو المغولي وأزال خلافتها واستولى على معظم سلطنة الروم، ولم يقو ميخائيل على مقاومته ومعاضدة أتراك إيقونية؛ لانشغاله بأمور داخلية وخارجية هامة، ولم يكن هولاغو مسلما ولم يرض عن الإسلام وأحب المسيحيين وعطف عليهم، ولكن ركن الدين بيبرس البندقداري الملك الظاهر (1260-1277) اعتبر نفسه زعيم الإسلام والمسلمين.
وأصل بيبرس وغيره من هؤلاء المماليك من قبائل القبجاق
Kiptchak
المغولية الضاربة آنئذ في جنوبي روسية، فقضت مصلحة بيبرس وغيره من كبار المماليك أن يظلوا على صلة بأنسبائهم في جنوبي روسية. ولما كان هولاغو قد فصلهم عن أبناء جنسهم باحتلال العراق وقسم كبير من آسية الصغرى، فاتح بيبرس ميخائيل الثامن في إبقاء المضيقين مفتوحين له وللقباجقة؛ لتتم الصلة بين مصر وجنوبي روسية عن طريق البحر، وكان خان القباجقة في روسية قد سبق له أن تدخل في شئون البلقان، فوافق ميخائيل على اقتراح بيبرس وأزوج خان القباجقة من إحدى بناته غير الشرعيات.
وفي السنوات العشر 1262-1272 تبادل ميخائيل وبيبرس الوفود السياسية، فوافق الفسيلفس في السنة 1262 على مرور المماليك المنتقلين من روسية إلى مصر في المضايق مقابل إقامة بطريرك أرثوذكسي في الإسكندرية، وفي السنة 1263 انتهز ميخائيل فرصة مرور المماليك بالقسطنطينية فطلب إلى السلطان المصري أن يقنع خان القباجقة بالتزام الحياد تجاه الوضع في البلقان، وفي السنة 1268 استولى بيبرس على أنطاكية فضعفت شوكة الصليبيين ولم يبق في أيديهم سوى طرابلس وصيدا وعكة، فحالف ميخائيل القباجقة في روسية والمماليك في مصر ضد كارلوس آنجو.
20
وقضت مطامع كارلوس في القسطنطينية، وتأييد بعض الباباوات له بعدم التفات ميخائيل إلى مصير آسية الصغرى، فأهمل الدفاع عن حدوده فيها، وألغى امتيازات فرق الأكارتة
Akritai
الذين كان قد وكل إليهم السهر على الحدود، فتوغلت جماعات من الأتراك والمغول في أراضي الروم وأقضوا مضجع المزارعين وسكان القرى، فالتجأ سكان الأرياف إلى المدن المحصنة، وأمست أراضي الروم مقفرة، وتعذر - بعد هذا - الاتصال بإمارة طرابزون برا، وحاول ميخائيل في السنة 1265 أن يصد هؤلاء، فأنفذ يوحنا باليولوغوس على رأس حملة لإقصائهم بالقوة، وعلى الرغم من انتصار يوحنا عليهم فإنه اضطر إلى أن يشتري سكونهم.
وفي السنة 1281 قام أندرونيكوس بن ميخائيل بقوة عسكرية إلى وادي الميندر وكارية ليبعد عنها جماعات الأتراك والمغول، ففعل ورمم مدينة ترالس
Tralles
وأطلق عليها اسمه، ولكنه لم يحكم تحصينها ولم يمونها بالمياه، فعاد الأتراك فاستولوا عليها، وعلى الرغم من أن أندرونيكوس كان لا يزال في نمفية فإنه لم يحرك ساكنا لإنقاذها، وقدر لهذه المدينة، التي دعاها الأتراك آيدين، والتي أصبحت مقر أمير تركي مستقل؛ أن تلعب دورا هاما في مقدرات الروم في أواخر أيام حكمهم، وكان العمل الإيجابي المفيد الوحيد الذي قام به ميخائيل في آسية الصغرى تفاهمه ويوحنا الثاني كومنينوس فسيلفس طرابزون.
ففي آخر سنة من حكم ميخائيل الثامن أم يوحنا كومنينوس القسطنطينية، وتزوج من أميرة باليولوغية ودخل في تعاون أكيد مع الأسرة المالكة في القسطنطينية، ولكن هذا التحالف بين هاتين الدولتين جاء متأخرا؛ لأن معظم آسية الصغرى كان قد أفلت من يد الروم؛ فالعنصر التركي كان قد طرد الروم من الأرياف وحل محلهم، وكان قد استقر في المدن متحضرا بأدب فارسي تركي وفن ساساني بيزنطي، وما بقي من الروم في آسية كان قد انحصر في نقاط معينة على شاطئ الأرخبيل وفي بيثينية وطرابزون، أما قيليقية فإنها كانت قد أصبحت مستعمرة أرمنية.
وكانت هذه الفترة فترة إمارات تركية مستقلة كإمارة القرمان التي استولت على إيقونية في السنة 1278، وفي هذه الفترة أيضا وصلت قبيلة كاي كان كلي التركية الخراسانية بقيادة أميرها أرطغرل إلى ممتلكات سلطان إيقونية، فارة من وجه المغول، فضربت خيامها عند حدود الروم بين بروسة وكوتاهية في سكوت وما يليها.
21
أندرونيكوس الثاني (1282-1328)
ولا تجوز المبالغة في غباء أندرونيكوس الثاني وقلة حذقه في تدبير الأمور؛ فالدولة التي تسنم عرشها هذا الفسيلفس كانت قد أصبحت صغيرة في مساحتها، قليلة في عدد سكانها، ضعيفة في مواردها، وكانت - على صغرها وضعفها - وريثة ماض كبير جدا، وكان فسيلفسها الأول ميخائيل الثامن قد اختط لنفسه مشروعا يتفق وظروف سلفائه لا خلفائه، وأفضل ما تحلى به أندرونيكوس أنه كان يشعر بالمسئولية الملقاة على عاتقه، وأنه كان رجلا مثقفا، يحب العلم والفضيلة، ويعطف على العلماء الأفاضل.
22
وأول ما عني به الفسيلفس الجديد المشكلة الدينية؛ فإن عمته أفلوجية التي أحبها كانت قد نفيت في عهد والده لتمسكها الشديد بالأرثوذكسية واعتراضها على الاعتراف بسلطة رومة، فلما تبوأ أندرونيكوس العرش قامت أفلوجية تحرضه على فسخ الاتفاق الذي عقد مع رومة في عهد أخيها ميخائيل، وحذا حذوها مستشار الفسيلفس الجديد ثيودوروس موزالن فإنه كان قد ذاق آلام «الفلق» في عهد ميخائيل لاعتراضه على الاتحاد، وكان خطر كارلوس آنجو قد زال فرجع أندرونيكوس عن قول والده بالاتحاد ولبى بذلك رغبات معظم الإكليروس والشعب،
23
وأمر بدفن والده خارج العاصمة دون أن يصلى عن نفسه في أحد الأديار وأبعد البطريرك فقس وأعاد البطريرك يوسف إلى كرسي الرئاسة، وعلى الرغم من أن البطريرك أرسانيوس كان قد توفي في السنة 1273 فإن أتباعه ظلوا متكتلين منفصلين عن جسم الكنيسة، فحاول البطريرك غريغوريوس الذي خلف يوسف لدى وفاته في السنة 1283 أن يسترضيهم ولكن دون جدوى.
ثم سمح الفسيلفس بنقل جثمان أرسانيوس إلى العاصمة بموكب فخم، ولكن أتباعه أصروا على موقفهم، وازدادوا تعنتا وصلفا، فأدى هذا التفكك في الكنيسة إلى الإنقاص من هيبة السلطة المدنية وإضعافها، ولم تحدث هذه العودة إلى الانفصال تأثيرا ما في الأوساط الإكليريكية العالية في رومة؛ لأن الباباوات كانوا منهمكين في نزاع شديد مع السلطات المدنية، ولأن الصليبيين كانوا على وشك الخروج نهائيا من الأراضي المقدسة.
وكان بلدوين الثاني إمبراطور القسطنطينية اللاتيني قد توفي في السنة 1273، فانتقل حقه في الملك إلى ابنته كاترينا، وكانت هذه مقيمة في نابولي، فسعى أندرونيكوس لتزويجها من ابنه ميخائيل، وطالت المفاوضات في ذلك واستمرت حتى السنة 1296 ثم أخفقت، فتزوج شارل فالوي منها في السنة 1301.
24
سياسة أندرونيكوس الداخلية
وكان أندرونيكوس في الرابعة والعشرين من عمره عندما تبوأ العرش، وكان قد تزوج من حنة المجرية ورزق منها ميخائيل وقسطنطين، ثم تزوج من بولندة الإيطالية حفيدة أمراء ثيسالونيكية اللاتين، فخلفت له ذكورا ثلاثة وابنة، وكرهت بولندة ابني ضرتها فسعت سعيا حثيثا لإقطاع أبنائها مقاطعات كبيرة، وما فتئت تلح على زوجها حتى أتعبته، فضجر منها وتخلى عنها، فلجأت إلى ثيسالونيكية وناصبته العداء والدس،
25
ولم يرض أندرونيكوس عن أخيه قسطنطين لعجرفته وبذخه، فلما اتهم قسطنطين بالخيانة والتآمر في السنة 1291 أمر أندرونيكوس بمصادرة أملاكه.
وكان يوحنا لاسكاريس الأعمى لا يزال حيا يرزق مقيما في حصن في بيثينية، فاضطره أندرونيكوس سنة 1290 إلى أن يعترف بشرعية سلطانه، ثم أشرك ابنه ميخائيل في الحكم وتوجه في كنيسة الحكمة الإلهية، وذلك في الحادي والعشرين من أيار سنة 1295، وجعل بعد ذلك ابنه يوحنا من زوجته الثانية ديسبوتسا.
وعلى الرغم من قوة أندرونيكوس الجسدية وشدة إيمانه في الدين؛ فإنه كان مترددا ضعيفا لا يقوى على إرادة اللوغوثيت الأكبر ثيودوروس موزالن، ولا على رغبات معلم ذمته أندرونيكوس رئيس أساقفة ساردس، فنفذ سياستهما الدينية بقسوة وتطرف، وزاد الانقسام الديني الداخلي تعقدا وحماسا، وكان من جراء هذا الضعف والتردد أن الفسيلفس لم يتمكن من تنفيذ رغباته وخططه في الإصلاح ولا سيما في حقل المالية، ولم يوفق في تغذية الخزينة، فالقروض التي لجأ إليها، والضرائب الفادحة التي فرضها على الحبوب، وإنقاص مرتبات الموظفين، وتزييف النقد؛ أثارت الاستياء، وأدت إلى نشوب الثورات، وأسوأ ما عمد إليه في سبيل الاقتصاد كان إلغاء الأسطول والاستعاضة عنه ببوارج القرصان ومراكب الطليان!
26
جنوى والبندقية (1293-1299)
وآثر الفسيلفس الجنويين على البنادقة، ونهج سياسة التفرقة بينهم - كما فعل والده - فاندلعت حرب بين الدولتين التجاريتين دامت ست سنوات، ويرى رجال الاختصاص أن السبب الرئيسي لهذه الحرب كان استيلاء الجنويين على كفة
Caffa
المستعمرة البيزنطية الخطيرة على الشاطئ الشرقي لشبه جزيرة القرم واستئثارهم بسوق القسطنطينية،
27
وحالفت البندقية خان التتر نوغاي، وفي تموز السنة 1296 ظهرت بوارجها ومراكبها أمام القسطنطينية، وأنزلت الرجال إلى البر وأحرقت بيرا وغلطة وحاولت اقتحام القرن الذهبي، وانقض الجنويون في القسطنطينية على البنادقة فذبحوهم ذبحا، ثم التقى الخصمان في موقعة بحرية فاصلة في السابع من أيلول سنة 1298 بين شاطئ دلماسية وجزيرة كرزلة
Curzola
كان النصر فيها حليف الجنويين، ووقع الطرفان صلحا في ميلانو في أيار السنة 1299، وما إن تم هذا الصلح حتى قامت البندقية تطالب أندرونيكوس بالتعويض عما جرى لأبنائها في السنة 1296 في القسطنطينية، فرفض الفسيلفس، فجاء أسطول بندقي يحاصر القسطنطينية، ويطلق سهامه إلى داخل القصر المقدس، وفي السنة 1302-1303 اضطر الفسيلفس إلى أن يوقع صلحا مع البنادقة، وأن يرضي الجنويين بتوسيع حيهم في القسطنطينية، وبالسماح لهم باحتلال جزيرة خيوس للدفاع عنها ضد مطامع الأتراك، وباستمرار مفعول الامتياز الذي كان قد خص به الجنويين لاستثمار مناجم حجر الشب بالقرب من فوقية في آسية الصغرى.
28
مطامع الصرب
وكان قد استوى على عرش الصرب أعظم ملوكهم في العصور الوسطى أوروش الثاني ميلوتين، وكان أوروش قد وسع ممتلكاته في مقدونية وفي وادي الفردار فاحتل قولة (1282-1283) وهدد ثيسالونيكية، فأنفذ أندرونيكوس قوة لصده ولكنه لم يوفق في ذلك فاضطر إلى أن يفاوض جاره الصربي، وأن يتودد إليه عن طريق المصاهرة، فأزوجه من ابنته الطفلة على الرغم من مقاومة البطريرك، ويرى بعض رجال الاختصاص أن أوروش كان يطمع في ضم بلاده إلى دول الروم وأن حماته إيرينة زوجة أندرونيكوس الصاخبة شجعته على ذلك،
29
والواقع أن أوروش الثاني اشتهر بعدد المؤسسات الخيرية التي أنشأها في القسطنطينية وثيسالونيكية والقدس.
30
الخطر التركي
وجاء في أحد المراجع الأولية أن أندرونيكوس أظهر اهتماما بشئون آسية الصغرى منذ بدء عهده، فعبر البوسفور في فصل الشتاء وصد الأتراك وطردهم من بيثينية وميزية وفريجية وأعاد إنشاء المدن وحصن الحدود،
31
ويلوح لنا أنه بعد أن أتم عمله في بيثينية استقر مدة من الزمن في نمفية في السنة 1290 وتودد إلى ملك أرمينية هاثوم الثاني، فأزوج ولي عهده ميخائيل التاسع من شقيقة هذا الملك.
32
والواقع أن ظروف آسية الصغرى آنئذ تطلبت أكثر بكثير مما بذل من العناية، فقبيلة كاي كان كلي التركية الخراسانية التي مر ذكرها كانت قد تقبلت الإسلام، وكان قد تولى زعامتها الأمير عثمان، وكانت مراعيها قد بدأت تتوسع على حساب الروم، وفي السنة 1301 تمكنت هذه القبيلة بخيولها المصفحة من اختراق صفوف الروم أمام نيقوميذية،
33
ولم تكن هذه القبيلة سوى إمارة صغيرة بين عدة إمارات تركية كبيرة طامعة جميعها في الغزو والفتوحات، وأشهر هذه الإمارات آنئذ إمارات صروخان وقرميان وقرمان وآيدين، وكانت هذه الإمارات قريبة من الشاطئ الغربي فبدأت تضغط على ساحل الأرخبيل وعلى مدن الروم في الداخل.
34
ورأى أندرونيكوس أن يستعين بالعنصر الآلاني القوقاسي لوقف هؤلاء الأتراك جميعا عند حد معقول، فجيش فرقة من هؤلاء وأمر عليها ابنه ميخائيل التاسع وأنفذها في السنة 1302 إلى الجبهة في آسية، وكان ميخائيل قليل الخبرة فحصر نفسه في مغنيسية فتمرد الآلان مطالبين بالتسريح، ففر ميخائيل بجموعه وسكان مغنيسية، فانقض عليهم الأتراك وأعملوا السيف في رقابهم، فالتجأ ميخائيل إلى قيزيقة وأقام فيها،
35
وضاق صدر أندرونيكوس وخشي سوء العاقبة فاستعان بغازان خان المغول في فارس، وأزوجه من إحدى بناته غير الشرعيات، ولكن غازان توفي في الحادي والثلاثين من أيار سنة 1302، فضاقت حيلة أندرونيكوس ويئس فاضطر أن يلجأ إلى المرتزقة.
فرقة المغاور الإسبانية (1303-1311)
وكانت الحرب بين فريدريكوس الثالث الأرغوني وكارلوس آنجو الثاني قد وضعت أوزارها، فأصبح الجيش الذي كان قد جمع في قتلونية وأرغونة ونفار حرا لا عمل له، وكانت إحدى فرق هذا الجيش، فرقة المغاور الإسبانية، قد اتخذت روجه دي فلور
Roger de Flor
قائدا لها بعد تسريحها، وكان روجه قد بدأ حياته راهبا جنديا داويا من الداوية
Templier
فاختلس وطرد، فعلم بحاجة أندرونيكوس الملحة فاتصل به فاتفقا على شروط أهمها: أن يتقاضى المغاور ضعف ما كان يتقاضاه المرتزقة العاديون، وأن تدفع الجماكية مسبقا عن أربعة أشهر، وأن يطلق على القائد لقب «الدوق الأكبر»،
36
وفي أيلول السنة 1303 أطلت مراكب المغاور، وكان عددهم ستة آلاف فنزلوا بخيولهم ونسائهم وأولادهم إلى القسطنطينية، وما إن استقروا فيها حتى طالبهم الجنويون بدين سابق فأطبقوا على أصحاب الدين وأذاقوهم الموت.
وفي مطلع السنة 1304 نزل المغاور في قيزيقة لفك الحصار الذي ضربه الأتراك حولها، فذبحوا المحاصرين جماعات جماعات وأسروا الباقين وأقاموا في قيزيقة بانتظار الربيع لمتابعة الحرب، وفي شهر نيسان قاموا إلى الجبهة فاكتسحوا الموقف اكتساحا بسرعتهم الخاطفة ووصولهم إلى صفوف أعدائهم وانقضاضهم عليهم بالسلاح الأبيض قبل أن يتمكن هؤلاء من ردهم برماحهم وسهامهم، وما فتئوا كذلك حتى وصلوا إلى جبال طوروس في أقصى الجنوب، وفي آب السنة 1305 أوقعوا بالأتراك عند هذه الجبال خسارة فادحة أدت إلى فرار الأتراك والتجائهم إلى أعالي الجبال.
37
وكانت العلاقات قد توترت بين أندرونيكوس وثيودوروس سواتوسلاف ملك البلغار فاستقدم المغاور إلى غاليبولي ليستعين بهم، ولكن جنوده المحاربين على حدود البلغار رفضوا التعاون مع المغاور وهددوا الفسيلفس بالتمرد، فأمر بإبقاء المغاور في غاليبولي، ثم علم أن فريدريكوس الثالث ملك صقلية سمع بظفر المغاور وبغنائمهم فحدثته نفسه بالقيام إلى الشرق في سبيل الكسب والمجد وأنه يفاوض المغاور في ذلك، فرقى روجه زعيم هؤلاء إلى رتبة قيصر، وأقطعه جميع ممتلكاته في آسية، فسر روجه سرورا عظيما، وأحب أن يقدم احترامه لميخائيل ولي العهد على حدود بلغارية، فاستقبله هذا بحفاوة فائقة ودبر له مكيدة أهلكه بها، ثم أرسل قوة من الآلان إلى غاليبولي ففاجأت المغاور وذبحت عددا كبيرا منهم وغنمت خيولهم (1307)، فاستشاط المغاور غيظا وهبوا للدفاع عن أنفسهم وللأخذ بالثأر وانطلقوا في البلقان يخربون ويسلبون ويحرقون طوال سنوات ثلاث، فمهدوا بذلك السبيل لفتح تركي.
38
تشويش وبلبلة (1308-1321)
ولم يهنأ أندرونيكوس بزوال خطر المغاور، فما كاد هؤلاء يغادرون آسية حتى عاد الأتراك إلى سابق طمعهم وغزوهم، ففي السنة 1308 توغلوا في شبه جزيرة نيقوميذية وقضوا على مناوشات المغول أصدقاء الروم، ثم استولى الأمير سيسان حليف عثمان على إفسس، فنهب مقام القديس يوحنا فيها،
39
وكانت جزيرة رودوس قد أصبحت مركزا للقرصنة، فلما اشتد الخلاف بين الإسبتاليين
Hospitaliers
والملك هنريكوس الثاني في جزيرة قبرص، رغب الإسبتاليون في اتخاذ رودوس مقرا لهم، ففاوضوا أندرونيكوس في تسلمها من يده إقطاعا لهم، ولكن الفسيلفس أبى فسقطت في أيديهم في الخامس عشر من آب من السنة 1310،
40
فخسر الفسيلفس بذلك معاونة بحرية قيمة في نضاله ضد الأتراك.
وكان قد استعان المغاور - في إبان سخطهم على الروم - بجماعات من الأتراك، فلما انتهى أمر المغاور بقيت هذه الجماعات التركية في تراقية تنهب وتخرب وتدمر، ففاوض الفسيلفس زعيمهم خليلا في ذلك، وكاد يتوصل إلى شيء من التفاهم معه، ولكن أحد كبار الضباط طمع في بعض غنائم الأتراك فنشبت موقعة حامية خسر فيها ميخائيل التاسع كل متاعه، فبقي الأتراك في تراقية ثلاث سنوات أخرى (1311-1314)، وبقيت تراقية أرضا بورا طوال هذه الفترة، واضطر أندرونيكوس إلى أن يدرب جيشا جديدا وأن يستعين بالصرب قبل أن يتمكن من حصر هؤلاء الأتراك في شبه جزيرة غاليبولي والقضاء عليهم،
41
ولم يرض بابا رومة عن نفوذ أوروش ملك الصرب في البلقان؛ لتمسكه بالأرثوذكسية، فحض ملك المجر شارل روبر ونسيبه فيليب عاهل ترنتوم على محاربته، فخسر أوروش بلغراد وقسما من بلاد البوسنة، واضطر خلفه إسطفانوس إلى أن يطلب المعونة من الغرب؛ لعدم تمكن أندرونيكوس من تقديمها.
وكانت كنيسة القسطنطينية لا تزال منقسمة على نفسها، وكان أتباع أرسانيوس لا يزالون مصرين على عدم تدخل السلطات المدنية في شئون الكنيسة، فتغيرت رئاسة الكنيسة خمس مرات بين السنة 1312 والسنة 1323 وشغر العرش البطريركي مرتين في هذه الفترة.
ومما زاد في الطين بلة الاختلاف الذي نشأ بين أفراد الأسرة المالكة؛ فإن الفسيلفس أندرونيكوس الثاني كان قد تعلق بحفيده أندرونيكوس ابن ابنه ميخائيل التاسع الذي ولد حوالي السنة 1296، فشب هذا الحفيد مدلوعا مضطربا فاسدا، فأنفق بغير حساب واستدان من الجنويين مبالغ طائلة، ثم تعلق بخليلة وغار عليها من شركة شاب آخر، وكمن له ليتخلص منه فأخطأه وقتل أخاه الديسبوتس عمانوئيل، فاغتاظ والده ميخائيل التاسع وتوفي حزينا كسير الخاطر في ثيسالونيكية (1220)، فشق هذا على الجد أندرونيكوس الثاني وأحب أن يمنع حفيده من الوصول إلى العرش بعده، فأعلن ميله نحو ولد غير شرعي من ابنه قسطنطين، فتآمر أندرونكيوس الحفيد على جده وعاونه في ذلك كل من الوزير الأول يوحنا كنتاكوزينوس
Cantacuzenus
وأوروش ميلوتين ملك الصرب، وأراد الفسيلفس أن يحكم على حفيده بالسجن المؤبد، ثم عفا عنه، فطلب الحفيد العفو عن أعوانه، فأبى الجد، ففر أندرونيكوس الحفيد إلى أدرنة وانضم إليه أعوانه، فدخلت الدولة في حرب أهلية دامت سبع سنوات (1321-1328) وأسفرت عن نجاح الحفيد ووصوله إلى العرش باسم أندرونيكوس الثالث، وبقي الجد متمتعا بجميع مظاهر الملك حتى وفاته في السنة 1332.
42
الفصل الرابع والثلاثون
أندرونيكوس الثالث ويوحنا السادس
1328-1355
أندرونيكوس الثالث (1328-1341)
وما إن تبوأ أندرونيكوس العرش حتى شمر عن ساعد الجد فابتعد عن الطيش والتلذذ، وعني عناية فائقة بإقالة العثرة وإنهاض الدولة، فقرب يوحنا كنتاكوزينوس من نفسه واعتمد عليه وعمل بإرشاده، وكان يوحنا من أفذاذ رجال عصره قديرا في الحرب والسياسة، فقضى على الفتن والتآمر وأمن العباد وخفف الضرائب قدر المستطاع، وعني بالعدل والقضاء فحصر السلطة القضائية العليا في قضاة أربعة، وزاد رواتبهم ليكتفوا ويستغنوا، ثم فرض عليهم يمينا مغلظة يقسمونها على ألا يفرقوا بين غني وفقير، وأشرك البطريرك في اختيارهم وتعيينهم ليضمن بذلك تعاون الكنيسة في توزيع العدل وإحقاق الحق،
1
ووافق أندرونيكوس على هذا كله وعني بتنفيذه وتطبيقه، ولكنه اضطر بعد ثمانية أعوام إلى أن يعزل جميع هؤلاء؛ لسوء تصرفهم، ورغب الفسيلفس ووزيره الأول في التحرر من سيطرة الجنويين والبنادقة، فأدخلا إلى العاصمة جاليات تجارية فرنسية غير إيطالية وشرعا في إنشاء أسطول وطني ليستغنيا به عن خدمات الجنويين.
2
حروبه في البلقان
وكان أندرونيكوس الثالث جنديا مجربا يشاطر جنوده التعب والشقاء فيقودهم إلى الحرب بنفسه، وقضى شطرا وافرا من سني حكمه في ميادين القتال في البلقان، فحالف في السنة 1330 البلغار للصمود في وجه الصرب الطامعين وقام إلى الجبهة محاربا، ولكن ميخائيل الثالث حليفه البلغاري نازل أسطفان ديشنسكي الصربي قبل وصول الروم إليه فانكسر في الثامن والعشرين من حزيران في ميدان قسطندل
Kostandil
ولاقى حتفه فيه.
وطمع أندرونيكوس في بعض حصون بلغارية الجنوبية، فاغتنم فرصة وفاة ميخائيل وضمها إلى ملكه، وتوفي ديشنسكي وتولى الحكم بعده ابنه أسطفان دوشان (1331-1355) قيصر الصرب العظيم، فصادق ملك بلغارية الجديد يوحنا ألكسندروس وتعاون معه، فأعلنا الحرب على أندرونيكوس، فاستعاد يوحنا في السنة 1332 ما استولى عليه أندرونيكوس، وتقدم أسطفان دوشان في مقدونية فاحتل أوخريدة وكستورية وغيرهما، واضطر في السنة 1334 إلى أن يصالح أندرونيكوس؛ ليدافع عن حدوده الشمالية ضد هجمات المجر.
وفي السنة 1333 توفي ديسبوتس ثيسالية أسطفان ميليسيني، فاستولى حاكم ثيسالونيكية على نصف ثيسالية باسم أندرونيكوس الثالث، وبعد ذلك بسنتين اضطر يوحنا أورسيني ديسبوتس إبيروس إلى أن يتخلى عن القسم الجنوبي من ثيسالية للفسيلفس، ثم استعان الفسيلفس بفرقة تركية وأخضع القبائل الألبانية الجبلية وأعادها إلى الطاعة، واتجه بعد ذلك شطر إبيروس فضمها سلما، ثم ثارت في وجهه في السنة 1339 زوجة المطالب بعرش الإمبراطورية اللاتينية بدسيسة من كاترينة دي فالوي، فقام الفسيلفس إليها في السنة 1340 وأخضعها.
3
حروبه في آسية والأرخبيل
وتابع عثمان غزواته، وسقطت بروسة في يده عند وفاته، وذلك في السادس من نيسان سنة 1326 فجعلها أورخان - وريث عثمان - عاصمة إمارته، وفي السنة 1329 حاصر أورخان نيقية، فحاول الفسيلفس فك الحصار فقاتل أورخان في السنة 1330 في بليكانون
ولكنه لم يفلح.
واستولى أورخان على نيقية في الثاني من آذار سنة 1331، وكان أورخان قد نزل في تراقية في السنة 1330 وزحف على طوزلة، ولكن أندرونيكوس ألحق به خسارة دامية، وعاد أورخان في السنة التالية 1331، فعبر الدردنيل واستولى على رودوستو
Rodosto
ثم ارتد عنها خاسرا، فاتجه أورخان شطر نيقوميذية فعبر أندرونيكوس البوسفور وصده عنها.
وفي السنة 1332 قام عامر السلجوقي بخمس وسبعين سفينة حربية فنهب جزيرة سموثراقية، ثم نزل في تراقية، فأعاده أندرونيكوس إلى سفنه وفاوض البندقية في أمر التعاون ضد هذا العدو المشترك،
4
وعاد أورخان في السنة 1337، فأنزل قوات غير قليلة في ضواحي القسطنطينية، فألحق به أندرونيكوس خسارة فادحة وأعاده إلى آسية، فهاجم أورخان نيقوميذية واستولى عليها، ولم يبق في يد الروم في آسية سوى بعض مدن متفرقة كفيلادلفية وهرقلية.
وسجل أندرونيكوس الثالث انتصارين هامين في بحر الأرخبيل، فاحتل في السنة 1329 جزيرة خيوس ورفع سلطة أسرة زكريا الجنوية عنها بعد أن أعلنت استقلالها، فزاد دخل الخزينة بعمله هذا مائة وعشرين ألف بزنت في السنة،
5
وفي السنة 1336 طمع التاجر الجنوي دومينيكوس كاتان في الاستقلال بفوقة الجديدة فاستعان بفرسان رودوس الإسبتاليين واستولى على جزيرة متيلينة، فحالف أندرونيكوس أمير صروخان التركي وحاصر لسبوس وفوقة الجديدة في آن واحد واستولى عليهما.
موقفه من الكنيسة
وأقلق تقدم الأتراك وتوسع سلطانهم أندرونيكوس الثالث، وحار في أمره، فعمد إلى مفاوضة رومة وإلى طلب المعونة من الغرب، ومر بالقسطنطينية في السنة 1334 راهبان دومينيكيان عائدين من أراضي المغول بعد أن حاولا التبشير فيها، فكلفهما أندرونيكوس الاتصال بالبابا يوحنا الثاني والعشرين (1316-1334) لإطلاعه على تحرج الموقف في الشرق وحثه على المساعدة، فوافق البابا على طلب الفسيلفس، وأعاد هذين الدومينكيين إلى القسطنطينية حاملين شروطه في تقديم المساعدة، ولدى وصولهما لقيا مقاومة شديدة من الإكليروس الأرثوذكسي فلم يتمكنا من البحث في كيفية تعاون الكنيستين، وفي السنة 1335 أرسل أندرونيكوس ينبئ البابا بنديكتوس الثاني عشر (1334-1342) باستعداده للاشتراك في حملة صليبية جديدة بقيادة ملك فرنسة تكون مهمتها القضاء على مطامع الأتراك في الشرق المسيحي.
ولكن الاختلاف الذي نشأ في هذه الآونة بين فيليب السادس ملك فرنسة وإدوار الثالث ملك إنكلترة، والمشادة التي نشبت بين البنادقة والجنويين، حالا دون أي تعاون دولي أوروبي في حملة صليبية مشتركة، وفي السنة 1339 عاد أندرونيكوس فأوفد إلى بنديكتوس الثاني عشر الأب برلام رئيس دير المخلص في القسطنطينية وأسطفان دندولو البندقي؛ ليرجواه عقد مجمع مسكوني ينظر في اتحاد الكنيستين، وفي تنظيم حملة صليبية تحرر نصارى آسية الصغرى من ربقة الأتراك، فأجاب البابا بأن مجمع ليون حل المشاكل بين الكنيستين ووعد خيرا ووقف عند هذا الحد.
6
الغيورون والمعتدلون
7
وكان قد قام في الكنيسة الأرثوذكسية منذ عهد ثيودوروس الأستوديتي في القرن التاسع من قاوم تدخل الفسيلفس والحكومة في شئون الكنيسة، بل من قال بوجوب تقيد الفسيلفس بالأنظمة الإكليريكية، وكانت غيرة هؤلاء على الكنيسة قد اشتدت إلى درجة أدت بهم إلى اللجوء إلى العنف في سبيل الدفاع عن حرية الكنيسة واستقلالها، ولم يتطلب هؤلاء الغيورون من الإكليروس علما وافرا أو ذكاء مفرطا، ولكنهم أوجبوا عليهم سيرة طاهرة وتقشفا صارما، فنالوا إعجاب الرهبان وتأييدهم - في غالب الأحيان - وكان من الطبيعي جدا أن يقول غيرهم من أبناء الكنيسة بالتعاون بين الدولة والكنيسة، وهؤلاء هم المعتدلون، وأصر هؤلاء على وجوب تضلع الإكليروس العالي من العلوم الدينية والزمنية ليحسنوا الدفاع عن الكنيسة جمعاء ويحفظوا حرمتها، واشتد الخلاف حول هذه المبادئ واتسع حتى شمل جميع المؤمنين، فكنت ترى البيت الواحد مقسوما على نفسه، بحيث يختلف فيه الأب مع ابنه والابنة مع أمها والكنة مع حماتها.
8
ووقف الغيورون إلى جانب البطريرك أرسانيوس في نزاعه مع ميخائيل الثامن، فعرفوا بالأرسانيوسيين، وانضم إليهم من شد أزر الشاب الأعمى يوحنا الرابع، وكثر الجدل واشتد الحماس وعلت الحرارة، فلجأت الحكومة إلى الجلد والسجن والنفي، وغير ذلك، وقضت ظروف ميخائيل السياسية بمفاوضة البابا في أمر اتحاد الكنيستين، فضج الغيورون وأعلنوا مقاومتهم وسخطهم، ثم جاء أندرونيكوس الثاني فألغى الاتحاد، ولكن الغيورين ظلوا معاندين، ووسعوا نطاق عملهم فتدخلوا في السياسة.
واشتد نفوذ الغيورين والرهبان في النصف الأول من القرن الرابع عشر، فسيطروا على الإكليروس العلماني، وهيمنوا على البطريركية المسكونية ولا يزالون.
9
الصامتون
وما كاد النزاع بين الغيورين والمعتدلين ينتهي حتى حل محله نزاع آخر حول الزهد الصامت
Hesychia ، وتفصيل ذلك أنه كان قد شاع في بعض الأديار انعزال عن عالم المادة بأسره وعن كل ما يمت إليه بصلة، وانعكاف على التأمل فاتصال بالخالق عن طريق الصلاة، فكان كل من هؤلاء «الصامتين» ينعزل انعزالا تاما فلا يفكر إلا بالله وبالموت، لا يردد إلا صلاة داخلية واحدة هي: «يا يسوع ارحمني، يا ابن الله خلصني.» وأشهر من قال بالصمت التام والتأمل الكامل غوريغوريوس بالاماس
رئيس أساقفة ثيسالونيكية، وكان قد اشتهر بتقشفه عندما قبل النذر في آثوس، ثم اشتهر بما كتبه في الصمت والتأمل، وكاد ينسحب من ثيسالونيكية ليبدأ ما قال به عندما فوجئ بالشغب الذي أحدثه برلام الراهب
Barlaam
في جبل آثوس.
10
وبرلام هذا راهب يوناني إيطالي، أم ثيسالونيكية وأقام فيها، فاستمع لأقوال بالاماس رئيس أساقفتها، فجادله فيها وملأ المدينة ضجيجا (1333-1339)، ثم قام إلى أفينيون؛ ليفاوض بنديكتوس الثاني عشر باسم أندرونيكوس الثالث في حملة صليبية ضد الأتراك، ولدى عودته منها اطلع على رسالة النور الإلهي التي كان قد أعدها بالاماس في أثناء غيابه، فكتب في دحضها،
11
وقام إلى القسطنطينية يشكو بالاماس إلى البطريرك المسكوني يوحنا كاليكاس
Calecas
وأثار فيها ضجة اضطر بسببها البطريرك إلى استدعاء بالاماس للمثول أمام المجمع، فالتأم المجمع برئاسة الفسيلفس أندرونيكوس الثالث في العاشر من حزيران سنة 1341، وما إن افتتحت الجلسة حتى أعلن الفسيلفس أن البت في العقيدة منوط بالأساقفة وحدهم، وأنه ليس على برلام إلا أن يعتذر للرهبان عما صدر عنه،
12
فعاد برلام إلى الغرب ولكنه أذكى نار الشقاق فاستمرت طويلا.
13
الحرب الأهلية (1341-1347)
وتوفي أندرونيكوس الثالث في الخامسة والأربعين من عمره في الخامس عشر من حزيران سنة 1341، وخلف صبيا في التاسعة من عمره وفسيلسة وصية غربية لاتينية، وأوصى بأن يشاركها الوصاية صديقه ووزيره الأول يوحنا كنتاكوزينوس، وهب الوزير الوصي يعالج الأمور ليعيد للدولة نشاطها وحيويتها، فرغب في إعادة تنظيم الجيش وفي توفير المال ليخلص من طلبات الجنويين والبنادقة ويكمل الإصلاح الذي بدئ به في عهد أندرونيكوس الثالث،
14
ووافقت حنة الوصية وشرع كنتاكوزينوس في الإصلاح المنشود، ولكنه لم يحسب حساب اثنين كان قد أحسن إليهما فجعل أحدهما، وهو يوحنا كاليكاس، بطريركا مسكونيا على الرغم من مقاومة الأساقفة، ورفع الآخر، وهو أليكسيوس أبوكوكوس
Alexios Apocaucos ، إلى أعلى الرتب، فإنهما تمنيا منذ اللحظة الأولى زوال نعمته ودسا عليه عند حنة الوصية، وافتريا عليه أنه يعمل لتقويض حكم الأسرة المالكة،
15
فأحس الوزير الوصي بذلك، فقدم استقالته، فرفضت، ثم قام بمهمة إدارية خارج العاصمة، فعاد أليكسيوس وصديقه البطريرك إلى سابق فسادهما فألحا على الفسيلسة الوصية بوجوب تجريد كنتاكوزينوس من جميع صلاحياته دون محاكمة،
16
فعلم الوزير الوصي بذلك فنفد صبره وأعلن نفسه فسيلفسا في السادس والعشرين من تشرين الأول سنة 1341 شريكا في الحكم مع الفسيلفس الصغير يوحنا الخامس.
17
وشد أزر يوحنا كنتاكوزينوس أصحاب الأملاك الكبيرة وسائر الأرستقراطيين والرهبان، فاستهوى خصمه أليكسيوس الطبقات المتوسطة والفلاحين، ودخل الروم في حرب أهلية طاحنة دامت ست سنوات متتالية تذرع الفريقان فيها بجميع الوسائل للوصول إلى الظفر غير مبالين بما تجره على الدولة من عواقب وخيمة، واستعانا بالأجانب الغرباء: بالصرب والبلغار والسلاجقة والعثمانيين، وذهب كنتاكوزينوس إلى أبعد من هذا، فأزوج سلطان العثمانيين من ابنته وتمكن - بمعونته - من الانتصار على خصمه،
18
ثم ذبح أليكسيوس في القسطنطينية ففتحت العاصمة أبوابها ودخل كنتاكوزينوس إليها فسيلفسا مساويا ليوحنا الخامس، وكان بطريرك القدس قد توجه فسيلفسا في أدرنة، فلما استوى على عرش القسطنطينية أعاد تتويجه فيها، وأزوج كنتاكوزينوس يوحنا الخامس من ابنته هيلانة.
يوحنا السادس (1347-1355)
وربح يوحنا السادس الحرب الأهلية وأصبح سيد القسطنطينية، ولكنه لم يسد على الدولة بأسرها، فظل هنالك من اعتبره مغتصبا، فجاهر بالولاء ليوحنا الخامس، فاضطر كنتاكوزينوس إلى أن يوقع معاهدة مع الفسيلسة الوصية حدد بموجبها المدة التي يبقى فيها هو مقدما على الفسيلفس الصغير،
19
واضطر أيضا إلى أن يعلن عفوا عاما شمل جميع الرعايا، وأن يطلب من الجميع يمين الولاء للفسيلفسين معا، وذهب إلى أبعد من هذا فأظهر شهادات رسمية تثبت انتسابه للأسرة الباليولوغوسية.
ثم جوبه هذا الرجل المقدام بأصعب من هذا: بإعادة الأمن والطمأنينة والراحة. وكانت الحرب الأهلية قد استنفدت أموال الخزينة ولم يبق فيها ما يقوم بنفقات حفلة التتويج، فحض الفسيلفس الجديد الأعيان على الإنفاق من أموالهم الخاصة لدعم مالية الدولة، فلم يفقهوا شيئا مما كان يحلم به للنهوض بالدولة، وقاوموه في ذلك مقاومة شديدة، ورغب يوحنا السادس رغبة أكيدة إلى المعسكرين الأهليين أن يضعا سلاحهما جانبا ويعودا إلى حياة هادئة عادية فلم يفلح، واتهمه أنصاره بالأمس بالمحاباة في معاملة أخصامهم، وقام بكره متى يحاول إنشاء إقطاع كبير في تراقية، ولم يقف عند حده إلا بعد أن اعترضته في ذلك الفسيلسة الوصية.
20
ولم يستتب الأمن في الولايات، فالعصابات ظلت تجوب البلاد ناهبة مخربة، واضطر الفسيلفسان لدى عودتهما من مناورة عند شاطئ البحر الأسود إلى أن يقاتلا عصابة تركية اعترضت سبيلهما.
21
واستغل فنيوزو
Vignoso
الجنوي فرصة هذه الحروب الأهلية فاحتل جزيرة خيوس واستولى على فوقة القديمة والجديدة، فأضاع بذلك الجهود التي كان أندرونيكوس الثالث قد بذلها في سبيل الاستيلاء على دخل هذه المرافق،
22
وظل الغيورون محتفظين بالسلطة في ثيسالونيكية غير معترفين بحق الفسيلفس الجديد، ورفضوا أن يسمحوا لغوريغوريوس بالاماس بأن يتولى شئون الأبرشية الروحية فيها، واضطر يوحنا السادس إلى أن يستعين بقرصان من الأتراك؛ ليستولي على ثيسالونيكية ويمنع الغيورين من تسليمها إلى يد أسطفان دوشان ملك الصرب.
23
يوحنا السادس والصرب
وكان أسطفان دوشان ملك الصرب قد استغل فرصة الحروب الأهلية، فاحتل مقدونية الشرقية، واستولى على قولة وسيريس، ووصل إلى بحر إيجه، واتجهت أنظاره شطر القسطنطينية وحلم بالاستيلاء عليها وبتأسيس دولة صربية كبيرة تشمل جميع البلدان البلقانية، وفي الثالث عشر من نيسان سنة 1346 جمع أساقفة الصرب لانتخاب بطريرك عليهم ففعلوا، ثم توجوا أسطفان «فسيلفسا» على الصرب والروم.
24
وعلم يوحنا السادس - حق العلم - أنه ليس بإمكانه أن يصد الصرب عن تحقيق آمالهم وحده دون مساعدة خارجية، فلجأ إلى أورخان سلطان العثمانيين الأتراك، ثم أوفد إلى أسطفان دوشان وفدين للتفاوض معه حول مصير ثيسالية (آذار-نيسان 1348) فلم يصغ إليه، فاستقدم يوحنا عشرة آلاف تركي عثماني وأنفذهم إلى ثيسالية، فأخرجوا أسطفان منها ولكنهم نهبوها.
وبعد أن استولى يوحنا على ثيسالونيكية في خريف السنة 1349 قام بهجوم واسع النطاق على ممتلكات دوشان، وكان هذا منهمكا آنئذ في حرب ضد المجر لاستعادة بلغراد، فاستمال يوحنا عددا من أمراء الإقطاع الصرب واستعاد قسما كبيرا من مقدونية واحتل عاصمة الصرب، فعاد أسطفان مسرعا من حدوده الشمالية إلى مقدونية للمفاوضة.
وفي مطلع السنة 1350 اتفق يوحنا السادس ويوحنا الخامس من جهة وأسطفان دوشان من الجهة الثانية على أن تعاد أكرنانية وثيسالية ومقدونية الجنوبية الشرقية إلى الروم، ووقعوا معاهدة بهذا المعنى،
25
ولم يعن هذا أن أسطفان تحول عن مطامعه في البلقان وفي القسطنطينية، ولكنه اضطر اضطرارا إلى أن يؤجل تحقيق هذه المطامع ريثما يتمكن من محاسبة أمرائه الذين انحازوا إلى جانب الروم ومن إيجاد القوة البحرية اللازمة للاستيلاء على القسطنطينية، ومن هنا - في الأرجح - كان تحالفه مع البنادقة.
26
متاعب داخلية أيضا
وكان الوباء الأسود قد وصل إلى القسطنطينية وانتشر فيها في السنة 1348، ويستدل من وصفه الذي ورد في المراجع الأولى أنه كان نوعا من الطاعون الدملي الفتاك، فاجتاح القسطنطينية وغيرها من مدن السواحل والجزر من بلاد القباجقة في ساحل بحر آزوف، واشتد فتك هذا الداء وكثرت ضحاياه فزاد الروم فقرا على فقر، وانتقل من بحر الأرخبيل إلى إيطالية، ففرنسة وإنكلترة.
27
وظلت المشادة قائمة حول موقف رئيس أساقفة ثيسالونيكية بالاماس من النور الإلهي، وكان البطريرك يوحنا كاليكاس قد دعا إلى مجمع جديد للنظر في قضية بالاماس فحكم عليه وقضى بحبسه، فلما استوى يوحنا السادس على عرش القسطنطينية أنزل البطريرك عن عرشه لتآمره مع أبوكوكوس وأحل محله أسيدوروس مرشح الصامتين، فدعا البطريرك الجديد إلى مجمع ثالث في السابع والعشرين من أيار سنة 1351 وخرج بالاماس ظافرا وانتصر الصامتون.
28
مشكلة جنوى
واشتد طمع الجنويين في أسواق العاصمة، ولا سيما في الاتجار مع سواحل البحر الأسود، وأحبوا أن يستأثروا بتجارة البحر الأسود وأن يمنعوا البنادقة والروم من الاشتغال بها، وأحب كنتاكوزينوس أن يزيد النشاط التجاري في أسواق العاصمة بتخفيض الرسوم الجمركية وبإنشاء السفن الرومية الوطنية، فلم يرض الجنويون عن هذه السياسة الجديدة ، وكانوا منذ أيام ميخائيل الثامن قد استقروا خارج العاصمة في غلطة فجعلوا منها حصنا منيعا عند أبواب القسطنطينية.
وفي منتصف آب السنة 1348 انتهزوا فرصة تغيب يوحنا كنتاكوزينوس عن العاصمة، فأرسلوا إنذارا إلى حكومة العاصمة، فلم ترض هذه عنه، فأغرقوا السفن الرومية وأحرقوا بعض الضواحي وضربوا حصارا بحريا بريا حول العاصمة،
29
ودام الحصار بضعة أشهر، وحاول يوحنا بناء السفن لصد هذا الخطر الجنوي، ولكن توتر العلاقات بين الجنويين والبنادقة اضطر أولئك إلى تقبل جميع شروط يوحنا.
30
الحرب بين جنوى والبندقية
ولجأت جنوى إلى العنف في سبيل منع البنادقة من الاتجار في مياه البحر الأسود، فسدت البوسفور في وجههم في أضيق مضايقه، وحاول يوحنا السادس أن يحافظ على الحياد التام، ولكن الجنويين قصفوا أسوار العاصمة بالمجانيق فاضطر الفسيلفس أن يحالف البنادقة (آب 1351)، فانقض الجنويون على مراكبه وأغرقوها ولم يتمكن البنادقة من اقتحام مراكز الجنويين في البوسفور، فاضطر الفسيلفس أن يصالح الجنويين (6 أيار 1352) على شروط أهمها: توسيع رقعة غلطة وامتناع مراكب الروم عن الإبحار في مياه البحر الأسود.
31
حرب أهلية أيضا
ولم يبال يوحنا الخامس بالخطر المحدق، ولم يكترث لما قد يحل بالروم من جراء المنازعات الداخلية، فأعلن نفسه من ثيسالونيكية في السنة 1351 الفسيلفس الوحيد لدولة الروم، وفاوض أسطفان دوشان في ذلك فأقره عليه، وزحف على أدرنة في أيلول السنة 1351 في الوقت الذي كان فيه الحصار قائما حول القسطنطينية، ففاوض يوحنا السادس الجنويين وصالحهم في ربيع السنة 1352.
ثم قام إلى أدرنة فطرد يوحنا الخامس منها، فاستعان يوحنا الخامس بالصرب والبلغار والبنادقة، ولجأ يوحنا السادس إلى الأتراك العثمانيين، ونزع من كنائس القسطنطينية ذهبها وفضتها ليدفع بها جماكيات العساكر الأتراك الذين أمده بهم صديقه السلطان أورخان، ووعد يوحنا صديقه العثماني بحصن في تراقية لقاء هذه المساعدة، ثم تمكن - بمؤازرة الأتراك - من فرض سلطته على تراقية ومقدونية، وفر خصمه يوحنا الخامس إلى جزيرة تنيدوس، ثم قام بهجوم بحري على القسطنطينية فلم يفلح، فلجأ إلى ثيسالونيكية واعتصم بها، فاتهمه يوحنا السادس بالخيانة وأعلن ابنه متى وريثا له بعد وفاته، ولما امتنع البطريرك كاليستوس عن تتويج متى فر من القسطنطينية، فأقام يوحنا السادس فيلوثاوس بطريركا مسكونيا.
32
واتسع أفق يوحنا السادس وكاد يؤسس أسرة مالكة جديدة، ولكن حليفه العثماني ترك الوفاء بعهده، وفي الثاني من آذار سنة 1354 في اليوم الأول من الصوم الكبير زلزلت الأرض في شبه جزيرة غاليبولي فتهدمت أسوار غاليبولي وغيرها من المدن المجاورة فدخلها الجنود الأتراك واستقروا فيها، فعظم هذا الأمر على يوحنا السادس وأفزعه وعده محاولة لإنشاء رقبة جسر للأتراك في أوروبة، ففاوض صديقه أورخان في ذلك وعرض عليه دفع مبلغ من المال لقاء خروج الأتراك من هذه المدن المحصنة، ولكن أورخان أجابه بأنه لا يمكنه أن يتخلى عن عطية من الله بها عليه ورفض مقابلة الفسيلفس،
33
وفي حزيران السنة نفسها عبر الأتراك الدردنيل إلى أوروبة، ونهبوا تراقية، وأضاعوا على السكان حصادهم، وبعد ذلك بقليل اعترض قرصان من الأتراك سبيل بالاماس في طريقه بحرا إلى القسطنطينية، فأسروه ونفوه،
34
ففترت همة يوحنا، وجعله الناس مسئولا عما حل بالدولة من مصائب، فحاول في حزيران من السنة 1355 التفاوض مع يوحنا الخامس، فصده هذا ولم يقبل، وفي خريف هذه السنة نفسها قام يوحنا الخامس إلى القسطنطينية بحرا فنزل في أحد مرافئ بحر مرمرة، فثار الشعب مطالبا بعودته إلى الحكم واقتحم مستودعات الأسلحة، فعاد يوحنا السادس عن الحكم الفردي وقبل بالحكم الثنائي، ثم ثار الشعب ثانية فخلع يوحنا السادس شارات السلطة ولبس ثوب الرهبنة واتخذ لنفسه اسم يواصف، وبقي مدة في أحد أديار آثوس، ثم التحق بابنه متى، فأقام في مسترة (1380) وتوفي فيها في الخامس عشر من حزيران سنة 1383.
35
الفصل الخامس والثلاثون
الأتراك العثمانيون في أوروبة
1355-1389
شبه جزيرة البلقان بعد الاضطراب
وتسلط يوحنا الخامس على دولة متهدمة خربة، تجتاحها العصابات وتمزقها الفتن ، فيتسلط على أجزائها الأجانب، ولم يكن يوحنا الخامس سيد هذه الدولة بل زعيم حزب من أحزابها، فصبر على المصيبة ورضي بنصيبه، واعترف للأجانب بما فرضوه عليه، ففي السابع عشر من تموز سنة 1355 تخلى عن جزيرة لسبوس لفرنسيس غتيلوزيو الذي عاونه على الوصول إلى العرش.
وكان بعض قرصان فوقة قد أسروا خليلا بن أورخان فحمله زميله العثماني مسئولية هذا العمل، فحاول يوحنا أن يفك خليلا من الأسر فلم يفلح، فاضطر إلى أن يتخلى لأورخان عن مدن تراقية مقابل الفدية (1357-1358).
وكان متى بن يوحنا السادس لا يزال يحمل لقب فسيلفس ويتمتع بإقطاع واسع في أدرنة وضواحيها، فاضطر يوحنا الخامس إلى أن يحاربه، فتدخل يوحنا السادس وأقنع ابنه بوجوب التخلي عن هذه الرتبة السامية، وعاد الاثنان إلى المورة وحاولا التحرر من سلطة القسطنطينية، فأدى ذلك إلى حرب أسفرت عن نجاح الأسرة المالكة، وظلت المورة بعد ذلك بيد أحد من أفراد الأسرة المالكة حتى النهاية.
1
وما كاد يوحنا الخامس يعود إلى عرش آبائه حتى فر البطريرك فيلوثاوس من القسطنطينية وعاد إليها البطريرك كليستوس، وعاد إليها أيضا نيقيفوروس غريغوراس من منفاه، وطالب هذا بنقاش علني بينه وبين بالاماس، فتم ذلك بحضور ممثل البابا أنوشنتش السادس ورئيس أساقفة أزمير، وعاد الحزبان الدينيان إلى سابق نزاعهما.
2
وشعر البنادقة بهذا الخور وهذه الحشرجة، فكتب أحدهم مارينو فاليارو
Faliero
إلى الدوق أن يستولي على القسطنطينية قبل وقوعها في يد الأتراك، وذلك في الرابع عشر من نيسان سنة 1355،
3
وتوفي هذه السنة نفسها في العشرين من كانون الأول ملك الصرب أسطفان دوشان الذي كان يعد العدة لتحقيق آماله في دمج الروم والصرب في دولة واحدة فدخلت دولته في طور انحلال سريع،
4
وكانت بلغارية تشكو من انقسامات دينية ومشاحنات بين أفراد الأسرة المالكة، فدخلت بعد وفاة يوحنا ألكسندروس (1365) في حرب أهلية،
5
وكان لويس ملك المجر (1342-1382) - وحده - قادرا على القيام بعمل حربي كبير، ولكنه آثر التلهي بتجزئة الصرب واقتطاع بعض الأراضي البلغارية والحيلولة دون قيام دولة في الفلاخ والبغدان على الدفاع عن الصقالبة ضد الأتراك الطامعين.
6
الهجوم التركي
وتميز الأتراك العثمانيون آنئذ بقيادة قوية نشيطة، وبخدمة عسكرية إجبارية، وبتسامح ديني غير عادي في ذلك العصر، وكان الإسلام كالنصرانية يقدم على العنصر والجنس واللغة، فجعل من الأتراك وممن أحب الدخول في الإسلام في ظل الدولة الجديدة أمة عثمانية تساوى فيها التركي وغير التركي، وتميز جيش هذه الدولة بتماسكه وولائه فاختلف كل الاختلاف عن الجنود المرتزقة الذين كانوا يحاربون في صفوف الروم وغيرهم من الدول المعاصرة.
7
وكان أورخان قد أنشأ رقبة جسر له في شبه جزيرة غاليبولي فبدأ منذ السنة 1355 بإغارات متتالية في تراقية تهدف إلى الاستيلاء على أدرنة، فاحتل أولا عددا من النقاط الاستراتيجية في نواحيها، ثم سجل نصرا باهرا في بورغاس فاحتل المدينة في آذار السنة 1361،
8
وتوفي بعد ذلك بقليل، وأكمل ابنه مراد الأول فتح تراقية في الأشهر القليلة التالية، ففصل القسطنطينية عن ممتلكاتها الغربية.
وعني مراد عناية فائقة بجيشه، فأنشأ حرسا من المشاة أسماه الجنود الجديدة «يكيجرى» الإنكشارية، وقد نسب إنشاء هؤلاء خطأ إلى أورخان وأخيه علاء الدين،
9
وهم غلمان من النصارى انتزعوا انتزاعا من بيوت آبائهم فنشئوا في السراي السلطاني نشأة عسكرية حربية، ومنعوا من الزواج فخصوا السلطان بكامل ولائهم، ونظموا تنظيما شبه ديني على غرار جمعيات الفرسان الصليبية فانضووا تحت لواء الطريقة البكتاشية، وكان الأتراك العثمانيون قد اشتهروا منذ خروجهم من خراسان بأنهم فرسان بارعون، ولكن حرب الحصون والمراكز المنيعة تطلبت مشاة مدربين، ومن هنا كان هذا اللجوء إلى النصارى وهذه التربية الخاصة.
10
ولم يبق لدى يوحنا الخامس جيش من الرجال المدربين، فأسلم أمره إلى الله وانقاد لمراد الأول فاعترف بسلطة الأتراك على تراقية وحالف سلطان العثمانيين ضد خصومه الأتراك في بر الأناضول (1362-1363)،
11
وحاول في السنة 1364 أن يستمد المعونة من الصرب، فأرسل وفدا إلى سريس يفاوض أرملة أسطفان دوشان ولكن دون جدوى،
12
فأجاب مراد بتوقيع معاهدة تجارية مع جمهورية راغوسة على شاطئ الأدرياتيك، وبجعل أدرنة مركز حكمه ومقره الدائم (1366).
الفسيلفس وبابا رومة
وكان الفسيلفس يوحنا الخامس قد أصدر - في أواخر السنة 1355 - خريسوبولة أقسم فيها الطاعة لرومة واقترح إنشاء قصادة رسولية دائمة في القسطنطينية تشرف على التعيينات الإكليريكية، كما وعد بإرسال ابنه رهينة إلى أفينيون مقابل تنظيم حملة صليبية يتولى هو قيادتها بنفسه، ولكن أنوشنتش السادس كان حذرا قليل الثقة وكان يعلم في الوقت نفسه أنه ليس بإمكان الفسيلفس الضعيف أن يفرض إرادته على الإكليروس الأرثوذكسي، فلم ينجم عن هذه المفاوضة سوى حملة بحرية صغيرة بزعامة بطرس توما أدت إلى احتلال لمساكوس احتلالا مؤقتا،
13
فلما أكره الفسيلفس على الرضوخ والاعتراف بالواقع في تراقية (1362) وجه نداء جديدا إلى رومة في أيام أوربانوس الخامس (1362-1370) وقام بنفسه إلى بودا يفاوض لويس آنجو، فدعا البابا إلى حملة صليبية عامة لتحرير «رومانية» من نير الأتراك، وذلك في الخامس والعشرين من كانون الثاني سنة 1365، واشترط مثول يوحنا بين يديه؛ ليعلن بنفسه عودته إلى الطاعة، فقام يوحنا الخامس من القسطنطينية في نيسان السنة 1369 ونزل في كستلماري في السادس من آب من السنة نفسها، وقام أوربانوس الخامس من أفينيون قاصدا رومة، فوصلها في الثالث عشر من تشرين الأول، وفي الحادي والعشرين من هذا الشهر تقبل طاعة يوحنا في كنيسة القديس بطرس، وشملت هذه الطاعة، التي قال بها يوحنا وحده فيما يظهر، القول بما قالته رومة في جميع نقاط الخلاف بينها وبين الكنيسة الأرثوذكسية، وذهب يوحنا إلى أبعد من هذا فأعلن نفسه لاتيني المذهب،
14
فحض أوربانوس الخامس جميع المؤمنين على حمل السلاح لبذل المعونة إلى «قسطنطين الجديد» وفوض الفسيلفس تجييش المحاربين في إيطالية، ولكن لويس الكبير ملك المجر ظل غير مبال بمصير الروم وظل البابا غير مبال بهذا الموقف السلبي، أما البنادقة فإنهم أظهروا اندفاعا كبيرا في سبيل المحافظة على القسطنطينية والحيلولة دون سقوطها في يد الأتراك، فقام يوحنا الخامس إلى البندقية في أوائل السنة 1370، واتفق الطرفان على شروط أهمها تخلي الفسيلفس عن جزيرة تنيدوس عند مدخل الدردنيل إلى البنادقة لقاء تقديم المراكب اللازمة لنقل المحاربين وتقديم سلفة مالية معينة وإعادة جواهر التاج البيزنطي التي كانت قد حفظت رهينة في البندقية ، ويرى بعض رجال الاختصاص أن لا صحة لما جاء في بعض المراجع المتأخرة من أن البنادقة ألقوا القبض على يوحنا لوفاء دينه.
15
البطريرك فيلوثاوس يقاوم
وفي أثناء هذا كله كان البطريرك المسكوني يسعى سعيا حثيثا في جميع الأوساط الأرثوذكسية في البلقان وفي روسية إلى تنظيم حملة أرثوذكسية توقف الأتراك عند حد معين وتشل مفعول الاتحاد الذي أعلنه يوحنا الخامس، ولكن شيئا من هذا لم يتم، وجل ما توصل إليه البطريرك المسكوني أنه ثبت الأوساط الصربية والبلغارية والفلاخية على التمسك بقرارات المجامع المسكونية وعدم الاعتراف بسلطة رومة.
الأتراك عند ضفة الدانوب
وظل خلفاء يوحنا ألكسندروس ملك البلغار في خصام مستميت، فاحتل مراد الأول قلعة سوزوبوليس التي كانت تسيطر على مرفأ بورغاس واضطر ششمان أن يدخل في طاعته (1369) وأن يبعث أخته مارة زوجة له، ثم تعاون مراد وششمان فطرد المجر من بلغارية الشمالة ووصل الأتراك لأول مرة إلى ضفة الدانوب وذلك في السنة 1370،
16
وأفزع هذا التقدم بعض رجال الإقطاع من الصرب المجاورين، فهب اثنان من هؤلاء إلى السلاح: يوحنا وفوكاشين أوغلياشة، وقاما بالرجال إلى حدود الأتراك في أوروبة ففوجئا عندما حاولا قطع نهر المريتزا في السادس والعشرين من أيلول سنة 1371 وغلبا على أمرهما، وخشي ششمان البلغاري سوء العاقبة فتعاون مع الصرب على صد الأتراك عن الزحف باتجاه صوفية، فانكسر انكسارا ذريعا في سماكوف سنة 1373 وفر ملتجئا إلى أعالي جبال الرودوب، ودوخ مراد بلغارية وأضافها إلى ممتلكاته، ثم زحف على مقدونية فاحتل جميع المدن التي كانت قد دخلت في حوزة الصرب في عهد أسطفان دوشان، وقام بعد ذلك إلى بلاد الصرب وما فتئ يواصل زحفه حتى أطل على الأدرياتيك، ودخل أمراء الصرب في طاعته محتفظين بألقابهم ورتبهم، مقدمين الجنود عند الحاجة.
17
إخفاق البابا ودخول الفسيلفس في طاعة السلطان
وتوفي أوربانوس الخامس وتولى السدة الرومانية غريغوريوس الحادي عشر (1370-1378)، وسمع هذا البابا بمأساة مريتزا فحض المجر والبندقية على التدخل (أيار 1372) ودعا جميع الدويلات المسيحية في الشرق إلى مؤتمر في ثيبة من بلاد اليونان، وحدد موعدا له تشرين الأول من السنة 1373، ولكنه أخفق في هذا كله ولم ينعقد المؤتمر، وأوفد يوحنا الخامس يوحنا لاسكاريس كالوفيروس إلى أفينيون وباريس وإلى عاصمة المجر يستغيث فلم يلق إلا وعودا غامضة، ثم أرسل البابا غريغوريوس سفراءه إلى القسطنطينية في خريف السنة 1374 ليؤكد لفسيلفس الروم أن الدفاع يتيسر بسهولة إن هو نجح في ضم الكنيسة الأرثوذكسية إلى الكنيسة اللاتينية، ولكن يوحنا كان قد يئس، ففاوض مرادا ودخل في طاعته قبل تموز هذه السنة نفسها، وحاول البابا في السنتين التاليتين 1375-1376 أن يستنهض الهمم في أوروبة لتخليص القسطنطينية ولكن دون فائدة، فالانقسامات والمناظرات الدولية وعدم المبالاة كانت أفضل ما قدمته أوروبة للأتراك العثمانيين.
18
ثورة أندرونيكوس
وفي السنة 1374 حرم يوحنا الخامس بكره أندرونيكوس من الملك وقدم عليه أخاه عمانوئيل وذلك لأسباب نجهلها، فقد تكون ذات علاقة بسياسة السلطان العثماني وموقفه من ابنه ساوهجي الذي كان يطمع في الملك فيتودد إلى أندرونيكوس بن يوحنا، وقد تكون بسبب طمع أندرونيكوس وشوقه للاستئثار بالسلطة، وقد تكون عطفا خاصا من يوحنا على ابنه عمانوئيل، والواقع الذي لا جدال فيه أن أندرونيكوس لم يخضع لمشيئة أبيه، بل تآمر وساوهجي على والده، فثار ثائر مراد وأمر بقلع عيني ابنه كما أوصى بسمل عيني أندرونيكوس، ونفذ كل من السلطان والفسيلفس أمر السمل وفقد ساوهجي بصره ولكن أندرونكيوس لم يفقد سوى عين واحدة، ونفي أندرونيكوس وعائلته إلى جزيرة لمنوس.
ثم اشتد النزاع بين البندقية وجنوى، فألحت الأولى بوجوب السماح لها باحتلال تنيدوس؛ عملا بنص المعاهدة بينها وبين يوحنا، وقد سبقت الإشارة إليها، فعاونت جنوى أندرونيكوس على الخروج من سجنه من لمنوس، فخرج في صيف السنة 1376، وقام إلى القسطنطينية، فخلع أباه عن العرش وسجنه وأرضى الأتراك بالعودة إلى غاليبولي، وتولى الحكم ثلاث سنوات متتالية 1376-1379، ثم أفلت يوحنا الخامس من السجن بمعونة البنادقة، وقام إلى القسطنطينية، فدخلها في أول تموز سنة 1379، فخرج أندرونيكوس منها إلى غلطة، ثم ترامى على قدمي والده فعفا عنه ولكنه توفي في السنة 1385.
19
الأتراك أسياد الموقف
وهكذا فإن الأتراك أصبحوا أسياد الموقف في البلقان وأمسى الروم في حالة بؤس ويأس، وكتب أحد هؤلاء حوالي السنة 1378 يقول: «والكل خارج الأسوار عبيد للأتراك والجميع في داخل المدينة يئنون من البؤس والاضطراب.»
20
وبردت همة المسيحيين في الغرب وخمد نشاطهم فأقبلوا على التفاوض مع الأتراك ولم يعبئوا بتهديد البابا ووعيده.
21
وأراد مراد الأول أن يوسع سلطته في البلقان، وكانت ثيسالونيكية لا تزال في يد الروم يدير شئونها عمانوئيل بن يوحنا وكذلك حصن سريس، فعبث مراد بشروط التحالف بينه وبين يوحنا، وأرسل خير الدين أحد رجاله إلى سريس، فاستولى عليها في أيلول السنة 1383، ولكن عمانوئيل رفض أن يسلم ثيسالونيكية، فحاصرها الأتراك أربع سنوات 1383-1387 فسقطت في أيديهم،
22
فسخط يوحنا على ابنه عمانوئيل ونفاه إلى لمنوس. ثم تدخل مراد متابعا سياسة التفريق بين أفراد أسرة باليولوغوس، فرضي يوحنا عن عمانوئيل، وأعاده إلى رتبته وسابق عهده،
23
وكان خير الدين يتابع فتوحاته في غربي البلقان فانتصر في السنة 1385 على الألبان في سورة ودخلت أشقودرة في حوزة الأتراك، واعتنق الإسلام عدد كبير من الألبان، واتجه الأتراك نحو الدانوب، فاستولوا على عقدتي الطرق الهامتين: صوفيا في السنة 1386 ونيش في السنة 1387.
قوصوة (1389)
وكان عازار قد خلف ابن دوشان على عرش الصرب، فشق عليه خضوع سلفه للأتراك، فحالف توركتو ملك البشناق وخرج على الأتراك، فأنفذ مراد لالا شاهين بقوة لإخضاع عازار وتوركتو فالتقيا به عند بلوشنك
فأوقعا به هزيمة شنعاء، وذبحا معظم جنوده (1388)، فثارت البلقان بأسرها على الأتراك، وانضم إلى عازار وحليفه ششمان ملك البلغار وغيره من أمراء النصارى.
24
فأنفذ مراد قوة بقيادة علي باشا إلى قتال ششمان وحده في بلغارية، ثم قام ومعه ولداه بايزيد ويعقوب وأمراء آسية إلى عازار وحليفه وجموعهما، فاقتتل الطرفان في مرج الشحارير «قوصوة» حيث ينبع الإيبار والوردار ودرينة، وتنازع الفريقان راية النصر فكانت الحرب سجالا، ثم أخذ ميلوش أوبيليش أحد أشراف الصرب على عاتقه أمر اغتيال مراد، فطعنه خنجرا في خيمته، وكاد النصر يكون لعازار وحلفائه ولكن فوك برانكوفيتش أحد أنسباء عازار انسحب من ميدان القتال باثني عشر ألفا فأمن النصر للأتراك، فانتصروا في الخامس عشر من حزيران سنة 1389 وقضوا على استقلال الصرب.
25
الباب الثاني عشر
النهاية
1389-1453
الفصل السادس والثلاثون
الروم وبايزيد ومحمد
1389-1425
السلطان بايزيد
ونودي ببايزيد سلطانا في قوصوة، فبدأ عهده بقتل أخيه يعقوب فاختط لخلفائه طريقا مخضبا بالدم ساروا عليه قرونا متتالية، وتسلم بايزيد دولة لا تزال في دور النشوء فأرادها وريثة لبيزنطة، فاتجهت أنظاره إلى آسية الصغرى بعد شبه جزيرة البلقان، فزحف على إمارة آيدين وأكره أميرها على الطاعة، ثم فرض عليه إقامة جبرية في بروسة، وقام في السنة 1391 فحاصر أزمير وكانت قد أصبحت بيد الإسبتاليين منذ السنة 1345 فلم يقو عليها؛ لأنه لم يكن لديه أسطول بحري.
ثم أخضع إمارة صروخان ومنتش ودخل أضالية فوصل بها إلى البحر المتوسط، وأنشأ في هذه السنة نفسها أسطولا بحريا فخرب جزيرة خيوس، وغزا سواحل أتيكة في بلاد اليونان، ثم جمع حوله أمراء البلقان، وقام إلى إيقونية عاصمة علاء الدين، فحاصرها في أواخر السنة 1391 ففر أميرها من وجهه والتجأ إلى جبال طوروس، وكانت قد ساءت أحوال جبهته في شمالي البلقان، فعاد عن إيقونية وعبر بجموعه وجيوشه إلى أوروبة.
وعاد علاء الدين إلى إيقونية محاربا، فرجع بايزيد إلى آسية، وما إن وصل إلى كوتاهية حتى فاوضه علاء الدين في الصلح، فلم يقبل وانقض عليه فهزمه وقتله واستولى على إمارة القرمان (1392)، وفي السنة 1395 حارب برهان الدين أمير قبدوقية، فأجبره على الطاعة، وخشي أمير قسطموني سوء العاقبة، ففر والتجأ إلى المغول، ووصل بايزيد إلى البحر الأسود واحتل مرفأي سمسون وسينوب.
وكان بايزيد يتابع في الوقت نفسه أعمال الفتح في البلقان التي بدأ بها والده مراد، فاقتص من عازار بعد قوصوة، ولكنه أعجب بشجاعة الصرب وبأسهم، فعامل ابن عازار معاملة حسنة، وأدخل عناصر صربية في جيشه، وبعد أن جال جولته الأولى في آسية الصغرى غزا البشناق والفلاخ، وانتصر على مرقية
Mircea
هوسبودار الفلاخ، وأبعده إلى بروسة، وأكرهه على الدخول في طاعته بشروط بقيت أساس علاقات العثمانيين بأمراء الفلاخ مدة طويلة: اعتراف بسلطة السلطان ، ودفع مال سنوي معين، وتقديم معونة عسكرية عند الحاجة، وامتناع السلطان عن الدعوة للدين الإسلامي شمالي الدانوب، وعن إقامة أية جالية إسلامية وأي جامع للصلاة،
1
وأصبحت المجر بعد هذا كله مركز المقاومة الرئيسي لتقدم الأتراك في أوروبة، وكان لويس ملكها قد توفي في السنة 1386 فخلفه في الحكم صهره سيجموند ابن الإمبراطور كارلوس الرابع، وكان هذا أيضا يحلم بالسيطرة على البلقان،
2
فبادر إلى الحرب فأرسل إنذارا إلى بايزيد يوجب عليه الجلاء عن بلغارية فلم يجب بايزيد، فأغار سيجموند على بلغارية واحتل نيقوبوليس بعد حصار طويل، ثم اضطر إلى أن يتراجع بخسارة كبيرة لدى وصول بايزيد إلى الجبهة (1392).
ولمس بايزيد تأييدا لخصمه في الأوساط البلغارية، فاحتل تيرنوفو وسبى جماعات من البلغار فأسكنهم بر الأناضول، وألغى الوضع السياسي الخاص الذي كان قد أعطاه والده للبلغار فاحتل البلاد احتلالا وامتنع عن التعرف باللفظ «بلغار» في مراسيمه بعد ذلك.
3
وكان منذ أن تبوأ عرشه قد تدخل في سياسة القسطنطينية للتفريق بين أفراد الأسرة المالكة، فعطف على يوحنا بن أندرونيكوس الرابع، وشجعه على الدخول إلى القسطنطينية وعلى التربع في دست الحكم (14 نيسان-7 أيلول 1390) مكرها يوحنا الخامس على الالتجاء إلى أحد الحصون، ولما جاء عمانوئيل الثاني بن يوحنا الخامس وطرد هذا المغتصب؛ تقبله بايزيد، وأقطعه أرض سليمبرية، وكان قد أكره يوحنا الخامس على دفع إتاوة معينة وعلى إلحاق ابنه عمانوئيل به على رأس مائة فارس.
وكانت مدينة فيلادلفية «آلاشهر» في آسية الصغرى لا تزال خاضعة للفسيلفس، فأحب بايزيد أن يضمها إلى ملكه، فامتنعت فحاصرها وأمر الفسيلفس وابنه عمانوئيل أن يشتركا في أعمال الحصار! أي أن يظاهرا السلطان على أتباعهما المخلصين، فأقدما ممتعضين كل الامتعاض، وحاول يوحنا الخامس أن يرمم الحصون في عاصمته فأمره بايزيد بوجوب هدم ما أنشأ مهددا بسمل عيني عمانوئيل، فخضع الفسيلفس لمشيئة السلطان متحسرا وتوفي بعد ذلك بقليل في السادس عشر من شباط سنة 1391، وعلم عمانوئيل بوفاة والده وهو لا يزال في بروسة مكرها على الإقامة فيها، ففر منها ودخل القسطنطينية، فغضب بايزيد وحاصر القسطنطينية سبعة أشهر متتالية، ثم فرض على عمانوئيل زيادة في الإتاوة وإنشاء جامع في القسطنطينية وإقامة حرس تركي في غلطة.
4
ثم كان ما كان من أمر الفتح في البلقان والأناضول - كما سبق أن أشرنا - فأصبح بايزيد وريث رومة الجديدة وصاحب الحق في نسرها الملكي، ولم يبق من تركتها خارج نطاق سلطته سوى العاصمة وبلاد اليونان، وكانت المورة قد دخلت في دور نزاع شديد بين ثيودوروس باليولوغوس ديسبوتس المورة أو بالأحرى: ذلك الجزء منها الذي كان خاضعا للقسطنطينية وبين بعض أمراء اللاتين المجاورين، فشكا هؤلاء طمع ثيودوروس إلى بايزيد وطلبا تدخله.
فدعا بايزيد جميع أمراء الإقطاع التابعين لملكه إلى سريس في ربيع السنة 1394، فلبى الدعوة كل من عمانوئيل الثاني الفسيلفس وثيودوروس باليولوغوس سيد ميسترة والفسيلفس المخلوع يوحنا السابع وأمراء الصرب وسيد مونمغازية اللاتيني، وبعد أن استمع إلى شكوى ماموناس ونظر في ما قاله أفراد أسرة باليولوغوس حكم على جميع هؤلاء بالإعدام ثم أبدل حكم الإعدام بسمل أعين مستشاريهم وأمر ثيودوروس أن يكف عن مونمغازية وأن يتخلى له عن أرغوس وأن يتقبل في حصونه حاميات تركية، فقبل ثيودوروس ثم فر من سريس خلسة وسبق الأتراك إلى حصونه وامتنع فيها واستعان بالبنادقة، فاحتل بايزيد ثيسالية ونوقيذية واستعاد لماموناس بعض ما فقده وأرجأ الاقتصاص من ثيودوروس إلى وقت آخر.
5
نيقوبوليس (1396)
وخشي البنادقة - لأول وهلة - التحالف التركي البيزنطي، ثم عادوا إلى أنفسهم فرأوا في استيلاء الأتراك على المضايق وعلى القسطنطينية خطرا أكبر وأعظم، فراحوا يستنهضون الهمم لحملة صليبية جديدة؛ تخلص نصارى البلقان والقسطنطينية من الأتراك، فبدءوا بالوصول إلى تفاهم تام بينهم وبين الجنويين، ثم اتصلوا بعمانوئيل الثاني في تموز السنة 1394 وفاتحوه بكلام في هذا المعنى، فأبان الفسيلفس المخاطر التي تحيق بحملة برية وارتأى أن يصار إلى تقويته بحرا،
6
واتصل سيجسموند في هذا الوقت بكارلوس السادس في بوردو وبدوق لانكستر وبالبنادقة، فلقي استعدادا كبيرا لدى هؤلاء جميعا،
7
وتبنى هذا الواجب فيليب دي ميزيير
de Mezieres
فبث دعوة قوية في أوساط الأشراف في فرنسة وغيرها، فتطوع عدد من كبار فرسان ذلك العصر بينهم وريث دوقية برغونية والمارشال بوسيكو
Boucicaut
وغيرهما، وتم الاتفاق على أن يتولى سيجسموند تطهير الفلاخ وبلغارية من الأتراك وأن تقوم البندقية بخرق الحصار البحري الذي كان قد ضربه بايزيد حول مداخل القسطنطينية، ثم ترددت البندقية موازنة بين مفاوضة بايزيد وبين محاربته، فتأخر انطلاق الحملة سنة كاملة.
وفي ربيع السنة 1396 وافقت البندقية موافقة كاملة، فتقاطر إلى بودا جيش قوي من فرسان الغرب، وفي صيف هذه السنة تحرك أسطول البندقية إلى مياه الدردنيل والبوسفور، وتمكن في الثامن والعشرين من تشرين الأول من خرق الحصار حول مداخل القسطنطينية وبيرا وبات ينتظر وصول الجيش البري الزاحف عبر الدانوب. وكان سيجسموند قد حاول انتظار بايزيد في ميدان ملائم للقتال متخذا موقف الدفاع، ولكن الفرسان الغربيين أبوا أن ينتظروا في موقف دفاعي، وانطلقوا عبر الدانوب فاحتلوا تورنو وبدءوا بحصار نيقوبوليس.
وجاءهم بايزيد بمشاته المدربين فلم يقو فرسان الغرب على اختراق صفوف هؤلاء، فولوا مدبرين في الخامس والعشرين من أيلول، ونجا سيجسموند بنفسه على قارب صغير عبر به الدانوب، وقتل أو أسر عدد كبير من خيرة الفرسان الغربيين، وأسعد الحظ مرقية هوسبودار الفلاخ؛ إذ بقي جيشه سالما، فتمكن من رد الأتراك على أعقابهم بعد أن قطعوا الدانوب.
8
واتجه بايزيد بعد نيقوبوليس إلى بلاد اليونان فحارب ثيودوروس ديسبوتس المورة في ليونتاريون
Leontarion
في الحادي والعشرين من حزيران سنة 1397، وتغلب عليه فدخل في طاعته، واستولى السلطان على كورنثوس وأرغوس ونهب المورة وخرج منها بثلاثين ألف رقيق.
9
وطلب السلطان إلى الفسيلفس أن يسلم العاصمة، فأبى عمانوئيل الثاني، فقام بايزيد يعد العدة لاقتحام القسطنطينية، فأنشأ على بعد ثمانية كيلومترات منها كوزل حصار «القلعة الجميلة»، ثم أصغى إلى نصائح حاشيته فارتد عن حصار العاصمة؛ نظرا لضعفه في البحر وخوفا من اتحاد الغرب عليه، وكان عمانوئيل قد اتصل منذ السنة 1397 بدوق موسكو باسيليوس الأول طالبا المعونة، وشاركه في هذا البطريرك المسكوني، فأرسل الدوق معونة مالية،
10
واستغاث عمانوئيل بملكي فرنسة وإنكلترة، فأتته من الاثنين معونة مالية، وأضاف ملك فرنسة كارلوس السادس بعثة عسكرية مؤلفة من ألف ومائتي جندي بقيادة المارشال بوسيكو، ووصلت هذه الحملة الصغيرة في أواخر السنة 1398 إلى مياه الدردنيل، فاعترضتها قوة بحرية تركية، فتغلب الفرنساويون عليها، ووصلوا إلى القسطنطينية في وقت كاد بايزيد فيه أن يستولي على غلطة ، فتراجع بايزيد عن غلطة، وحارب بوسيكو بعد ذلك في مواقع متعددة، ولكن انتصاراته لم تضمن سلامة العاصمة؛ نظرا لضآلة عدد المحاربين.
11
عمانوئيل الثاني في الغرب (1399-1402)
ولمس بوسيكو فداحة الخطر المحدق بالعاصمة، فألح على عمانوئيل بوجوب القيام بنفسه إلى الغرب في طلب المعونة وبوجوب إسناد الحكم في أثناء غيابه إلى يوحنا السابع، فيضمن بذلك ولاء هذا الأمير للدولة ضد الأتراك، وتعهد البنادقة والجنويون بالقيام بالواجب في أثناء غيابه، فقام عمانوئيل في العاشر من كانون الأول سنة 1399 إلى الغرب يرافقه المارشال بوسيكو، فوصلا إلى البندقية في نيسان السنة 1400 وقاما منها إلى فلورنزة وفرارة وجنوى وميلانو ولقيا استقبالا حارا في جميع هذه المدن، ولكن اشتداد المزاحمة بين البندقية وجنوى حال دون الحصول على المعونة المنشودة.
وفي السابع والعشرين من أيار السنة1400 أصدر البابا بونيفاسويس التاسع نداء حارا إلى جميع المؤمنين يحضهم فيه على تأييد عمانوئيل في نضاله ضد الأتراك، واعدا بالغفرانات لمن يحمل الصليب في هذا السبيل كما لو كان يناضل في الأراضي المقدسة نفسها، وتابع عمانوئيل سيره فوصل باريس في الثالث من حزيران سنة 1400، فاحتفى به كارلوس السادس، وأصغى إليه إصغاء شديدا، ولكنه بعد أن أشار إلى النضال القائم بينه وبين هنريكوس الرابع ملك الإنكليز اكتفى بتقديم ألف ومئتي جندي وضعهم تحت قيادة بوسيكو، وتعهد بنفقاتهم لسنة كاملة.
وعبر عمانوئيل بحر المانش وزار هنريكوس الرابع في لندن فقوبل بالترحاب الشديد ولم يحظ بأية معونة عسكرية، وعاد عمانوئيل إلى باريس وأقام فيها حتى خريف السنة 1402 ولكن دون جدوى.
12
وهب بايزيد في أثناء هذا يطالب بخضوع يوحنا السابع وبتسليم العاصمة، ولكن يوحنا أبى، فاستشاط بايزيد غيظا وأقسم «بالله وبرسوله» أنه لن يبقي رجلا واحدا حيا في القسطنطينية، ولكن يوحنا أصر على الرفض، فشدد بايزيد أعمال الحصار ، ثم فوجئ بتيمور.
تيمور لنك وبايزيد (1402)
وكان الأمراء الأتراك الذين استولى بايزيد على إماراتهم في آسية الصغرى قد لجئوا إلى حمى تيمور، وكان بايزيد قد تعرض لصاحب أرزنجان الأرمني، فغضب تيمور لكرامته؛ لأنه اعتبر صاحب أرزنجان تابعا له، فقام إلى آسية الصغرى في السنة 1400 واحتل سيواس وأعمل السيف في رقاب حاميتها التركية العثمانية وقتل أرطغرل أكبر أبناء بايزيد، ثم ولى وجهه شطر الجنوب فاكتسح كل من جرؤ على الصمود في وجهه واستولى على عينتاب وبغداد وحلب ودمشق وما بينها جميعا.
وفي مطلع السنة 1402 أرسل إلى بايزيد يأمره بإعادة كل المدن والأراضي التي استولى عليها إلى الروم، وكتب إلى الجنويين في غلطة أن يعاونوه ليقضي على بايزيد ودولته، فأبى بايزيد وأجاب جوابا قاسيا، فقام تيمور من سيواس إلى أنقره، فوجد في شماليها الشرقي جيوش بايزيد وعددها مائة وعشرون ألفا بينها عشرة آلاف محارب مسيحي بقيادة أسطفان لازاروفيتش.
وفي صباح الثامن والعشرين من تموز بدأت المعركة، فهجم فرسان الصرب على جند المغول وشدوا عليهم، ولكن بايزيد أمر بتراجعهم خشية التطويق، وتقدم المغول حتى بلغوا الصفوف العثمانية، فألقى السلاجقة المحاربون في صفوف بايزيد سلاحهم ولاذوا بالفرار رافضين القتال ضد أمرائهم السابقين، وثبت بايزيد وحرسه الإنكشاري حتى المساء، ثم لاذ بالفرار تحت جناح الليل ولكنه أسر هو وابنه موسى وعدد من القادة، وفزع ابناه الآخران محمد وعيسى إلى القرمان، وحاول بايزيد الهرب فشدد تيمور عليه الحصار وحمله معه في قفص من حديد! ثم توفي بايزيد في الأسر في الثامن من آذار سنة 1403 فسمح تيمور بدفنه في بروسة.
وأعاد تيمور الأمراء السلاجقة إلى إماراتهم وأبقى تراقية وما يليها في يد سليمان بن بايزيد، فحكمها باسم تيمور، وبعد أن نهب تيمور جميع آسية الصغرى قام إلى الشرق البعيد ليحارب الصين، وتوفي في التاسع عشر من شباط سنة 1405 في أطرار، فزالت دولته بزواله.
13
أثر انهزام الأتراك
وتنازع أبناء بايزيد الملك، وكان محمد أشدهم بأسا وأكثرهم نشاطا، وكان قد فر من أنقرة واعتصم في جبال أماسية وطوقات وكتب منها إلى أخيه عيسى مقترحا تقسيم آسية الصغرى بينهما (1403)، وكان عيسى قد احتل مدينة بروسة فرفض ما اقترحه محمد، فتقاتل الأخوان فهزم محمد أخاه، فلاذ عيسى بالفرار إلى القسطنطينية، فأمده أخوه سليمان بالجند فقام إلى محاربة محمد مرة ثانية فمني بالخيبة ولقي حتفه في القرمان، فعبر سليمان الدردنيل (1404) وأخرج محمدا من بروسة، فهاجم موسى ممتلكات سليمان في أوروبة، فهزم سليمان أخاه موسى عند القرن الذهبي، ولكن بطانته خانته فقتله بعض الفلاحين في السنة 1410، وأبى موسى أن يعترف لمحمد بالسيادة.
وفي مطلع السنة 1403 عاد عمانوئيل الثاني إلى القسطنطينية، فعلم بما حل ببايزيد فعادت أنفاسه إليه، ولكنه لم يتمكن من استغلال الموقف استغلالا يعيد نشاطه إليه نظرا لما كان قد حل بدولته من ضعف وهوان، وأراد سليمان بن بايزيد أن يعزز مركزه بالتحالف فعقد معاهدة مع كل من الجنويين والبنادقة في السنة 1403، وفي السنة 1405 أعاد إلى عمانوئيل ساحل البحر الأسود وساحل بحر مرمرة وثيسالونيكية والمورة، وأرسل أخاه وأخته رهينين إلى القسطنطينية لقاء تعاون عمانوئيل معه ورضائه عنه.
14
وحارب موسى أخاه سليمان عند القرن الذهبي فخسر الموقعة ففر إلى الفلاخ، ثم عاد إلى قتال سليمان وعمانوئيل، فانفرط عقد سليمان ففر إلى القسطنطينية فقتل قبل وصوله إليها (1410)، وحاول موسى أن يستعيد ما قدمه سلميان إلى عمانوئيل، فحاصر ثيسالونيكية واستولى عليها، ثم زحف على القسطنطينية نفسها، فاستعان عمانوئيل بمحمد، فعبر هذا إلى أوروبة وتعاون مع أسطفان لازاروفيتش ديسبوتس الصرب، فتغلبا على موسى بالقرب من جامورلو في العاشر من تموز سنة 1413، ولعله قتل خنقا في معسكر أخيه محمد، وعاد محمد إلى آسية الصغرى تواكبه قوة رومية، فأعلن نفسه سلطانا على العثمانيين (1413) وجدد تحالفه مع «والده» عمانوئيل واعترف بسلطته على ساحلي الأسود ومرمرة وعلى ثيسالونيكية وثيسالية،
15
أما البشناق والصرب والبلغار فإنهم استعادوا حريتهم، وحفظ محمد الأول عهده هذا وحافظ عليه طوال سني حكمه.
عمانوئيل الثاني والمورة
وانتهز عمانوئيل هذه الفرصة، فرصة الوئام بينه وبين محمد، فقام إلى ثيسالونيكية وأقام فيها مدة من الزمن، ثم برحها في ربيع السنة 1415 فزار ابنه ثيودوروس الثاني ديسبوتس المورة، وتفقد شئون الرعية في المورة ووطد سلطته فيها، وأنشأ عند برزخ كورنثوس خطا دفاعيا هاما امتد ستة أميال كاملة، ومن هنا اسمه اليوناني
Hexamilion
وحصنه بالأبراج وأنشأ ما قارب المائة والخمسين برجا،
16
وأصغى عمانوئيل في أثناء إقامته في المورة لبرنامج فيلسوفها غيميستوس بليثون
Gemistus Plethon ، وكان هذا الفيلسوف المتأخر شديد الإعجاب بجمهورية أفلاطون، فاقترح إلغاء الملكية العقارية الخاصة وتبسيط الضرائب وإنشاء جيش وطني يحل محل الجنود المرتزقة، وكتب في هذا كله رسالتين وجههما إلى الفسيلفس عمانوئيل الثاني،
17
وأبقى عمانوئيل بكره يوحنا الثامن في المورة ليعاون أخاه في تنظيم إدارتها وتوطيد السلطة فيها، وعاد هو إلى القسطنطينية في آذار السنة 1416.
عمانوئيل الثاني ومراد الثاني
وبوفاة محمد الأول انتهت فترة الاستراحة وعاد ابن محمد وخلفه مراد الثاني (1421-1451) إلى حلم أجداده؛ أي إلى محاولة الاستيلاء على القسطنطينية والقضاء على ما تبقى من دولة الروم، وأظهر مراد الثاني شيئا من حسن النية لدى وصوله إلى العرش، فاقترح على عمانوئيل تجديد المعاهدة التي وقعها والده من قبله، وقد سبقت الإشارة إليها، ولكن عمانوئيل طلب إلى السلطان الجديد أن يبقي ابنه رهينة في القسطنطينية، فأبى.
وفي التاسع عشر من كانون الثاني سنة 1421 أعلن يوحنا الثامن فسيلفسا وشريكا لوالده في الحكم، فأطلق سراح مصطفى بن بايزيد المطالب بالعرش العثماني، كما حرر جنيدآ الوزير السابق الثائر، فاضطر مراد الثاني إلى أن يحارب مصطفى فتلاقيا في ميدان لوباذيون
Lopadion
فخسر مصطفى المعركة وفر هاربا، فألقي القبض عليه وأعدم في أدرنة في مطلع العام 1422، وحاول عمانوئيل التقرب من مراد ولكن دون جدوى، وقام مراد الثاني بخمسين ألف جندي إلى القسطنطينية وضرب عليها الحصار، واستعان بعدد من المدافع القديمة الطراز، ثم اضطر إلى أن يرفع هذا الحصار لمجابهة ثورة هامة أذكاها عمانوئيل في بروسة ونيقية والقرمان، وكان زعيم هذه الثورة مصطفى أخا مراد، وقدر لمراد أن يخمد نار هذه الفتنة بسرعة فعاد إلى أوروبة يزعج خصمه الفسيلفس في المورة، فإنه أنفذ إليها قوة في السنة 1423 فدكت حصون عمانوئيل عند برزخ كورنثوس واستولت على ميسترة وغيرها من القلاع، وقام مراد الثاني بنفسه إلى ألبانية والبشناق وفرض إتاوة على هوسبودار الفلاخ.
يوحنا الثامن في الغرب (1423)
وفي هذه السنة نفسها قام يوحنا الثامن إلى أوروبة يستنهض الهمم، فزار البندقية وميلانو والمجر، وأحب البابا مرتينوس الخامس أن ينتهز هذه الفرصة لتوحيد الكنيستين، فارتأى أن يصار إلى انعقاد مجمع في إيطالية، وأرسل الكردينال سانتانجلو
Sant’Angelo
إلى القسطنطينية لهذه الغاية، ولكن عمانوئيل الثاني أجاب بأنه لا يمكن تحقيق الاتحاد المنشود دون مجمع مسكوني يعقد خصيصا لهذه الغاية، ومما جاء في بعض المراجع الأولية أن عمانوئيل أوصى قبيل وفاته «ألا ينظر إلى الاتحاد إلا كوسيلة لصد الأتراك، وأن يصار إلى المطالبة بعقد مجمع مسكوني، وأن يماطل في ذلك بقصد كسب الوقت، وأنه لا يمكن التوفيق بين عجرفة اللاتين وعناد الروم.»
18
وفاة عمانوئيل الثاني (1425)
وصالح عمانوئيل مرادا الثاني على أن يدفع إتاوة سنوية قدرها ثلاثمائة ألف آسبر وأن يدخل في طاعة السلطان، ومقابل هذا يسمح له بالاحتفاظ بالمورة وبمزمبرية وذركوس ويعيد جميع مدن مقدونية والبونتوس إلى العثمانيين، ووقعت معاهدة بهذا المعنى في الثاني والعشرين من شباط سنة 1424.
وكان عمانوئيل قد تنحى عن العمل منذ أن توج ابنه يوحنا الثاني، ثم لبس أسكيم الرهبنة وانعزل في دير «الكلي القدرة»
باسم الراهب متى، ثم توفي في الحادي والعشرين من تموز سنة 1425، وكان في السابعة والسبعين من عمره.
الفصل السابع والثلاثون
علوم الروم وثقافتهم في دورهم الأخير
1261-1453
وعلى الرغم مما حل بالروم من ضعف ووهن في القرنين الرابع عشر والخامس عشر، ظلت عاصمتهم مركزا للثقافة العالية ومحجا رائعا للفن، وبقيت مدارسها زاهية زاهرة يؤمها الطلاب من البلقان والجزر وبر الأناضول وإيطالية أيضا، وتتميز هذه الفترة من تاريخ الفكر والثقافة عند الروم بردة إلى الأدب اليوناني القديم وبتعلق عجيب به، فإننا نرى الأسماء الكلاسيكية القديمة: أسماء بريكليس وثيموستكوليس وإيبامينونذاس، وغيرهم من أبطال اليونان الأقدمين تفاجئنا بعودتها إلى أفواه الروم، ونرى بليثون يقترح إصلاحا قوميا يونانيا، كما نرى بيساريون يذكر قسطنطين الحادي عشر ببطولة الأسبارطيين القدماء وبإمكانية الاتكال على أحفادهم لتحرير البلقان وآسية الصغرى، ونرى الوجهاء في العاصمة يرجون الفسيلفس أن يلقب نفسه ب «ملك اليونان»؛ ليشعر هؤلاء بالواجب الوطني فيعيدوا أمجاد الأجداد.
1
دور الملوك والأمراء
واندفع أفراد الأسرتين المالكتين في هذه الحقبة في سبيل العلم والأدب، ولم يكتفوا بالعطف والتشجيع، بل اشتركوا اشتراكا فعليا في الإنتاج، فصنف عمانوئيل الثاني في انبثاق الروح وفي الدفاع عن المسيحية ضد الإسلام وفي واجبات الحاكم العادل، ودون يوحنا السادس ذكرياته الشهيرة عما جرى بين السنة 1320 والسنة 1356 فأتحف العالم بأفضل ما صنف في التاريخ في عهد الروم، وكتب في الدفاع عن النصرانية ضد اليهود وضد المسلمين،
2
وقام متى قانتاقوزينوس يكتب في الرغبة في العلم وفي قوى النفس الثلاث.
3
التأريخ
وعني جاورجيوس باخيميريس
(1242-1310) بتأريخ الفترة بين السنة 1261 والسنة 1308 فصنف ثلاثة عشر كتابا حفظ بها الشيء الكثير من محتويات المفاوضات الرسيمة ونقل إلينا حرارة المشادة حول اتحاد الكنيستين الشرقية والغربية، كما دون أخبار الهجوم التركي ومغامرات الحملة القطلونية الأسبانية، وهو والحالة هذه مرجعنا الأكبر لتاريخ الروم في عهد ميخائيل الثامن وأندرونيكوس الثاني.
4
ولمع في النصف الأول من القرن الرابع عشر نيقيفوروس غريغوراس
Grégoras ، فإنه بعد أن أتقن اللغة اليونانية الكلاسيكية، وبرع في اللاهوت والفلسفة والتاريخ والفلك؛ انخرط في عداد المجاهدين ضد تعاليم برلام الراهب، ثم مال إلى اتحاد الكنيستين فلقي عذابا أليما، ومن أجل آثاره فائدة مصنفه في تاريخ الروم، ويقع في سبعة وثلاثين كتابا، وفيه إجمال واختصار قبل السنة 1204 وتفصيل وتوسع في ما جرى بين السنة 1204 والسنة 1359، وله أيضا مراسلات ومكاتبات تلقي ضوءا قويا في بعض الأحيان على تاريخ عصره.
5
ودون جاورجيوس فرانجيس
تاريخين: الأصغر والأكبر، فشمل الأصغر حوادث السنوات 1413-1473، أما الأكبر فإنه ضم أخبار الفترة ما بين السنة 1258 والسنة 1478، ورافق فرنجيس عمانوئيل الثاني بضع سنوات، ثم رحل إلى المورة في خدمة الأمير توما والأمير قسطنطين الذي أصبح فيما بعد قسطنطين الحادي عشر، وشاهد حصار القسطنطينية بأم عينه، وذبح الأتراك أولاده الذكور وسبوا ابنته فقضت حياتها في الحرم السلطاني، وأسر فرنجيس ثم افتدي فأقام في ميسترة حتى سقوطها في يد الأتراك، ثم رحل عنها إلى جزيرة كورفو وتقبل النذر باسم غريغوريوس ودون تاريخه فيها.
6
وقضى دوكاس
Doukas
معظم حياته في خدمة حاكم جزيرة لسبوس الجنوي، فدون أخبار السنوات 1341-1462 باللغة اليونانية المحكية آنئذ وأظهر اعتدالا في القول وعدلا في الرواية جعلاه مرجعا هاما لكل من أحب الاطلاع على الحقيقة، ونقل تاريخ دوكاس إلى الإيطالية وحفظ بها، فإن بعض ما نجده مختصرا في الأصل اليوناني نقرأه مفصلا في الترجمة الإيطالية.
7
ولنا في صاحب «القلم الرنان»
Chalcocandyles
مثال ناطق لإنصاف العدو، ولد لايونيكوس خالقونذيلس
Laonikos Chalcondyles
في آثينة وعني بتاريخ ألد أعداء شعبه وهم الأتراك العثمانيون، فدون تاريخهم منذ السنة 1298 حتى السنة 1463 وذلك في كتب عشرة وفي جزيرة أقريطش، وحذا حذو ثوقيذيذس فجعل أبطال روايته ينطقون بما أراده هو لهم، وقلد هيرودوتس فوصف عادات الشعوب المجاورة وتقاليدهم.
8
وخرج في هذه الحقبة عدد من المؤرخين على التقاليد المتبعة في التأريخ عند الروم، فصنفوا في مواضيع خاصة، فكتب أليكسيس مكرمبوليتيس
Macrembolites
في حرب السنة 1348 بين الروم والجنويين، وصنف يوحنا كنانوس
Cananos
في حصار القسطنطينية سنة 1422، وألف يوحنا أنغنوستيس
Anagnostes
في استيلاء الأتراك على ثيسالونيكية سنة 1430، ولمع سيليفستروس سيروبولوس
Syropoulos
بعدالته في تدوين أخبار مجمع فلورنزة.
9
اللاهوت
وقضت ظروف الروم في هذا الدور الأخير من تاريخهم بأن يلجئوا إلى الغرب في طلب المعونة ضد الطامعين في ملكهم من رجال الغرب وضد الأتراك العثمانيين، ورأوا أن لا مفر من استرضاء رومة واستعطافها؛ لكثرة تدخل أحبارها في السياسة وانغماسهم فيها، فكانت محاولات ومحاولات لتوحيد الكنيستين الشقيقتين الكاثوليكية الغربية والأرثوذكسية الشرقية، وأثار هذا الموضوع عناية رجال الدين في الشرق فصنفوا فيه واختلفوا فيما بينهم.
وكان أكثر رجال الدين استعدادا لغض النظر عن قرارات المجامع المسكونية السبعة الأولى لإرضاء أحبار رومة في هذا الدور واستدرار مساعدتهم في السياسة والحرب: يوحنا فقس أو بكوس
Veccos ، وكان هذا الإكليريكي من أقدر أهل زمانه علما وثقافة وحجة وفصاحة، وبدأ أرثوذكسيا متمسكا بقرارات المجامع الأولى محاربا النزول عند مطالب الغرب، فاضطهده الفسيلفس ميخائيل الثامن وحبسه، ثم قال باتحاد الكنيستين، فرقي السدة البطريركية المسكونية في عهد ميخائيل الثامن «يوحنا الحادي عشر» وظل يدير شئونها حتى أيام أندرونيكوس الثاني، فأنزل به هذا عقابا صارما؛ لأنه قال بالاتحاد، وأشهر ما صنف فقس كتابه «الاتحاد والسلم بين الكنيستين: كنيسة رومة القديمة وكنيسة رومة الجديدة».
10
وحذا حذو فقس ديمتريوس قيذونس
Cydones
الذي عمر طويلا (1310-1410) فتعلم اللاتينية في رومة، وقال باتحاد الكنيستين بشروط رومة، وصنف كثيرا، وأشهر ما فعل في حقل اللاهوت أنه نقل إلى اليونانية مصنف توما الأكويني
Summa Theologiae ، وأجل ما دون لنا مراسلاته مع عمانوئيل الثاني ويوحنا كنتاكوزينوس وغيرهما.
11
وبين هؤلاء الذين قالوا باتحاد الكنيستين الأنسني الشهير بيساريون
Bessarion ، ولد في طرابزون حوالي السنة 1395 وأم القسطنطينية لمتابعة دروسه، ثم أنهاها في ميسترة في المورة على يد بليثون الفيلسوف، ورافق يوحنا الثامن إلى مجمع فلورنزة وخرج عن أرثوذكسيته وأصبح كردينالا. وأشهر ما كتب في اتحاد الكنيستين رده على مرقس رئيس أساقفة إفسس ودفاعه عن فقس ضد هجمات بلاماس،
12
وسنعود إليه في الكلام عن اليقظة في إيطالية.
وأشد الأرثوذكسيين تمسكا بقرارات المجامع المسكونية وأقواهم شكيمة مرقس إفجنيكوس
Eugenicos
رئيس أساقفة إفسس، فإنه حضر مجمع فلورنزة وأبى أن يوقع مقرراته، ثم عاد إلى القسطنطينية ينادي بالمحافظة على العقيدة وعلى تنظيم الكنيسة كما أقرتهما المجامع المسكونية السبعة، وأشهر ما صنف كتابه في تفنيد العقيدة اللاتينية، وأجل ما خلفه لنا مراسلاته.
13
وأوسعهم اطلاعا وأقواهم حجة وأعلمهم؛ البطريركان المسكونيان غريغوريوس القبرصي وجناديوس الفيلسوف، تولى الأول السدة البطريركية المسكونية في عهد أندرونيكوس الثاني في السنة 1289 فجادل فقس، وصنف في «الإيمان» وفي «الانبثاق»، وكان خطيبا مفوها وكاتبا كبيرا، فألف في اللغة والأدب، وخلف رسائل كثيرة هي من أكثر مراجع المؤرخ فائدة،
14
وأما الثاني جناديوس سكولاريوس
Scholarios
أول بطريرك مسكوني في عهد الأتراك العثمانيين؛ فإنه اشتهر في حقلي اللاهوت والفلسفة، واشترك في أعمال مجمع فلورنزة، وأظهر ميلا نحو الاتحاد، ولكنه أصبح فيما بعد من أشهر خصومه، فكتب عددا كبيرا من الرسائل في موضوع الاتحاد والانشقاق، وجادل بليثون الفيلسوف حول أرسطو وأفلاطون فأيد الأول تأييدا كبيرا. وخير ما خلف لنا كتابه «المراثي» وقد ضمنه معلومات مفيدة جدا لتاريخ الكنيسة الأرثوذكسية في أول عهد الأتراك العثمانيين في القسطنطينية.
15
وقضى اهتمام الرهبان ورجال الفكر الديني في هذا الدور الأخير بالزهد والتصوف وبالتأمل «والصمت» إلى التأليف، فكتب غريغوريوس بلاماس، المدافع الأكبر عن حركة الصمت، سبعين عظة لا تزال غير منشورة، كما خلف رسائل عديدة مفيدة، وصنف البطريرك فيلوثاوس مؤلفا هاما فند فيه آراء نيقيفوروس غريغوراس، كما صنف نيقولاووس قباسيلاس متروبوليت ثيسالونيكية رسالة هامة في الطقس البيزنطي.
16
الفلسفة والبيان وفقه اللغة
ولم ينقطع الروم عن أرسطو طوال عهودهم، واستمر اهتمامهم بأفلاطون منذ القرن الحادي عشر حتى آخر أيامهم، فكل من ميخائيل بسلوس في القرن الحادي عشر، ويوحنا إيطالوس في القرن الثاني عشر، ونيقيفوروس البلميدي؛ كرس نفسه للفلسفة وعكف عليها، وأحب بسلوس أفلاطون، ودعا له، ولكن الآخرين عشقا أرسطو وأيدا قوله.
وأبصر النور في ميسترة «المورة» في منتصف القرن الرابع عشر جاورجيوس غميستوس
Gemistus
ودرس في القسطنطينية، ثم عاد إلى ميسترة ليقضي حياة طويلة ناهزت المائة، وعني بالفكر الكلاسيكي وتعشقه فاستبدل كنيته بما قابلها في اللغة اليونانية القديمة فدعا نفسه بليثون
، ومعنى اللفظين واحد: «الملآن»، وامتلأ بليثون أنسنة وتعشق أفلاطون عن طريق الأفلاطونية الجديدة فقدمه إلى الروم واللاتين معا، وروج لفكرة إنشاء أكاديمية أفلاطونية في فلورنزة، ووافقه على ذلك كوزيمو مديتشي وغيره من عشاق الأنسنة في إيطالية.
ومال بليثون أيضا إلى إحياء الآلهة اليونانية القديمة بإنشاء دين أفلاطوني جديد، وصنف في المفاضلة بين أفلاطون وأرسطو، كما كتب في النواميس، وتوفي في ميسترة في السنة 1450، وفي السنة 1465 استولى على أسبارطة قائد إيطالي من أسرة ملاتيستة فنقل رفات بليثون إلى ريميني في إيطالية وواراه التراب في كنيسة القديس فرنسيس.
17
وعني رجال الفصاحة والبلاغة والخطابة بالفلسفة كالعادة، وأشهرهم في هذا الدور نيقيفوروس خومنوس
Chumnos
تلميذ غريغوريوس القبرصي، فإنه خلف عددا من الرسائل في اللاهوت والفلسفة والبيان وما لا يقل عن مائة واثنتين وسبعين رسالة، وقد يختلف البعض في تقدير أهمية نتاجه الفكري، ولكن حبه للقديم القديم وعودته إليه واندفاعه في سبيله بشرت بالأنسنة في إيطالية وبيقظة الغرب.
18
ويشكو علماء اللغة اليونانية الكلاسيكية اليوم زملاءهم في هذا الدور الذي نحن بصدده، في أن هؤلاء اتخذوا لأنفسهم الحق في تعديل بعض النصوص القديمة، فخرجوا في ذلك من أمانة سلفائهم في أزمنة الروم، وعلى الرغم من أن الأمانة هي الأصل في مثل هذه المواقف، فإننا نرى في خروجهم محاولة للتحرر ومظهرا من مظاهر الابتكار.
وأشهر علماء اللغة في هذا الدور مكسيموس بلانوذس
معاصر ميخائيل الثامن وأندرونيكوس الثاني وسفير هذا وممثله في البندقية، وأهم ما خلفه رسائل في غراماطيق اللغة اليونانية، ومختارات تاريخية وجغرافية مأخوذة من كتب الأقدمين.
وأجاد بلانوذس اللغة اللاتينية فنقل إلى اليونانية بعض مخلفات الغرب اللاتيني أمثال أوغوسطينوس وتوما الأكويني وكاتون الأكبر وقيصر وشيشرون، ويستدل من عدد النسخ الباقية من هذه الترجمات أن طلاب اليونانية في الغرب جعلوها أساسا لتعلم اليونانية.
19
وقام بعد بلانوذس تلميذه وصديقه عمانوئيل موسكوبولوس
Moschopulos
يؤدي رسالة أستاذه في تدريس اللغة اليونانية وجعلها في متناول الغربيين المقبيلن عليها، فكان معجمه اليوناني اللاتيني ومؤلفه في غراماطيق اللغة اليونانية لمدة طويلة، الكتابين الأساسين لتعلم اليونانية في إيطالية وغيرها من بلدان الغرب.
20
ثيودوروس ميتوخيتس
ولمع في النصف الأول من القرن الرابع عشر عالم آخر، اشتهر بسعة اطلاعه وبتعلقه بالأنسنة الكلاسيكية، هو ثيودوروس ميتوخيتس
Metochites
وزير أندرونيكوس الثاني ومدبر أموره، جمع هذا الرجل الفذ بين السياسة والعلم، «فكان يقضي نهاره في إدارة أمور الدولة ولا هم له سوى تدبيرها والنجاح فيها، ثم يسهر ليله منقبا باحثا كأنه لم يكن ذلك السياسي المسئول»،
21
وكان شديد الإعجاب بأرسطو وأفلاطون وبلوتارخوس، كثير الانتباه إلى آرائهم في السياسة، ولكنه لم يفاضل بين الديموقراطية والأرستقراطية بل نهج نهجا خاصا في الفلسفة السياسية، فقال بملكية دستورية مقيدة، وذلك في عصر كان فيه الفسيلفس والكنيسة والشعب يقولون بالحق الإلهي في الملك.
22
ثم جاءت الثورة فأنزلت أندرونيكوس الثاني عن العرش، فخسر ثيودوروس نفوذه وماله وبيته وزج به في السجن، فألم به مرض عضال فسمح له أن يقضي أيامه في دير خورة الذي كان قد أنفق عليه بسخاء وزينه بمكتبة فاخرة، ولا يزال هذا الدير، الذي أصبح فيما بعد جامع القاهرية، يحفظ بالفسيفساء رسم ثيودوروس مرتديا لباس الشرف حاملا نموذجا مصغرا للكنيسة في يده، وتوفي ثيودوروس في السنة 1332.
23
وأشهر مؤلفات ثيودوروس «كشكوله»،
24
وقد ضمنه خلاصة اطلاعاته على سبعين مؤلفا من مؤلفات القدماء، وأشهر هؤلاء مصنفات سينيسيوس، وهي أشبه بموسوعة عامة منها بأي شيء آخر، وفيها آراؤه في كثير من المواضيع الفلسفية والتاريخية، ونظم ثيودوروس في مواضيع متعددة، وأشهر شعره ملحمته في تاريخ حياته، وقد جاءت في 1335 بيتا،
25
ووصفه الشعري لدير خورة، وخلف ثيودوروس بعض الرسائل أيضا.
26
ديمتريوس تريكلينيوس
ولا يجوز إغفال هذا البطل
Triklinius
الذي عني في هذا الدور الأخير بعدد من الكلاسيكيين، أمثال: بيندار وأسكيلوس وسوفوكليس وأفريبيديس وأريستوفانس، ففاق جميع معاصريه وسلفائه بدقة نظره وشدة فهمه وأمانته.
27
القانون
وعني بالقانون في القرن الرابع عشر قاضي ثيسالونيكية قسطنيطين هرمنوبولوس
Hermenopulus ، فصنف «السداسي»
Hexabiblos
في قوانين الحقوق والجزاء، واستمد مادته من البروخيرويون والإكلوغة والإبنغوغ وغيرها من مصنفات القوانين القديمة، وبعد سقوط القسطنطينية أصبح هذا «السداسي» مرجع جميع من عني بدرس القانون الرومي الروماني في الغرب.
28
العلوم والطب
وتابع الروم اهتمامهم القديم في مخلفات اليونان في الرياضيات والفلك، في مصنفات إقليدس وبطليموس، واستعانوا في هذا الدور الأخير ببعض مصنفات العرب والفرس، وظل رأيهم في الطب هو المعول عليه في الغرب مدة طويلة بعد سقوط عاصمتهم في يد الأتراك، فطلبة الطب في باريس مثلا واظبوا على تعلم هذا العلم بمصنف بيزنطي حتى القرن السابع عشر.
29
الفن
وتدل الآثار الفنية الباقية على اهتمام شديد بالفن في هذا الدور، وعلى تطور ورقي. ويختلف رجال الفن في تعليل هذه الظاهرة، فيرى بعضهم أنها أثر من آثار النهضة الفنية في إيطاليا، فيرد عليهم غيرهم بالقول: إن فن النهضة الإيطالية نفسه متأثر بالفن البيزنطي الأخير، ويرى شيخ رجال الاختصاص في الفن البيزنطي شارل ديل، أن هذا التطور الأخير في فن الروم هو مظهر آخر من مظاهر النهضة بينهم التي بدأت في القرن الحادي عشر، وسبقت كل شيء من نوعها في الغرب،
30
وليس على الطالب المتيقظ الذي يرغب في تفهم هذا الموضوع إلا أن يعود إلى مصنف شارل ديل في الفن البيزنطي ليستعين بآراء هذا الأستاذ على ضوء الرسوم والصور التي ألحقها بكتابه هذا.
الروم وعصر اليقظة في إيطالية
ولا يجوز القول مع بعض علماء القرن التاسع عشر بأن رجال اليقظة في إيطالية مدينون بنهضتهم هذه للروم الذين لجئوا إلى إيطالية بعد سقوط القسطنطينية في يد الأتراك؛ وذلك لسببين رئيسين: أولهما أن اليقظة كانت قد شملت إيطالية بأسرها قبل سقوط القسطنطينية، وأن بطراركة وبوكاتشيو من أعيان القرن الرابع عشر لا الخامس عشر، والثاني أن اليقظة في إيطالية كانت في حد ذاتها نتيجة تطور بالغ في حياة الإيطاليين قبل أن تكون مجرد اطلاع على مخلفات العصور الكلاسيكية عن طريق الروم أو غيرهم.
وجل ما يجوز قوله في هذا الموضوع هو أن الروم عاونوا رجال اليقظة في إيطالية في تعلم اللغة اليونانية في بدء نهضتهم، وأن أثر الروم الحقيقي في نهضة إيطالية جاء في أواخر القرن الرابع عشر وطوال القرن الخامس عشر بعد أن بدأ التيقظ في إيطالية واشتدت رغبة أهلها في الرجوع إلى الفكر الكلاسيكي.
والواقع الذي لا مفر منه هو أن الدور الذي لعبه برلام في إيطالية في النصف الأول من القرن الرابع عشر كان مجرد تعليم اللغة اليونانية لمن رغب في ذلك، وأن دور ليونتيوس بيلاتوس تلميذ برلام الذي توفي في العقد السابع من القرن الرابع عشر، كان قد نشر اللغة اليونانية بين عشاق الأنسنة الكلاسيكية في إيطالية.
ثم كان ما كان من أمر رجوع الروم إلى تاريخهم القديم واعتزازهم به، فلمع في القسطنطينية وفي ميسترة رجال ثلاثة أتقنوا علوم اليونان الأقدمين وتغنوا بأنسنتهم، فاشتهروا بذلك في إيطالية نفسها، عنيت بهم: عمانوئيل خريسولوراس وغميستوس بليثون وبيساريون النيقاوي.
وذاع صيت خريسولوراس بما أوتي من مقدرة في التعليم وفصاحة في الخطابة وعلوم اللسان، وتعمق في الفلسفة، فجاءه غارينو
Guarino
الأنسني الإيطالي يدرس عليه في القسطنطينية اللغة اليونانية والمؤلفين اليونان، ثم قام خريسولوراس إلى إيطالية في مهمة سياسية وكلها إليه الفسيلفس، فرحب به الأنسنيون الإيطاليون أيما ترحيب وتباهوا بذلك، فأقام خريسولوراس عدة سنوات يعلم في جامعة فلورنزة، وأصغى إليه فيها عدد من عشاق الأنسنة في إيطالية، ثم عاد خريسولوراس إلى القسطنطينية ليقوم مرة ثانية منها إلى أوروبة الغربية في مهمة جديدة، فزار إيطالية وفرنسة وإنكلترة وإسبانية، وطلب إليه البابا أن يزور ألمانية؛ ليمهد السبيل لعقد مجمع جديد، فتوفي في كونستانسة في السنة 1415.
وجاء دور بليثون الفيلسوف فعرفه الإيطاليون وأكرموه وتأثروا به، فعظموا أفلاطون معه، وأنشئوا الأكاديمية الأفلاطونية في فلورنزة.
وأشد الروم أثرا في تطوير اليقظة في إيطالية وفي تعزيزها وتقويتها: بيساريون النيقاوي، وكان أول عهده باليقظة الإيطالية اتصاله بالأنسني الإيطالي فيللفو
Filelfo
الذي أم القسطنطينية للدرس والتبحر عندما كان بيساريون يدرس فيها، وترهب وأصبح رئيس أساقفة نيقية ورافق الفسيلفس إلى مجمع فراري ومال إلى توحيد الكنيستين، ثم عاد إلى القسطنطينية فلمس لمس اليد معارضة الأكثرية الساحقة للاتحاد الذي نشد، فعاد إلى إيطالية ليصبح أحد كرادلة رومة، وما كاد يقيم فيها ويستقر في بيت خاص له حتى أصبح مقره مركز الأنسنة، ومما قاله أحد أصدقائه الأنسني فالا
Valla
في شخصه: «أن بيساريون هو أقدر اليونانيين بين اللاتين وأقدر اللاتين بين اليونانيين.»
31
وأنفق الكردينال اليوناني بسخاء على اقتناء المخطوطات واستنساخها، فجمع مكتبة عظيمة من مؤلفات الآباء الشرقيين والغربيين ومن كل ما كان له علاقة بالأنسنة، وقبيل وفاته وهب هذه المجموعة الكبيرة إلى البندقية، فكانت نواة المكتبة المرقسية.
ثم سقطت القسطنطينية، فرحل عنها عدد كبير من أبنائها إلى إيطالية والغرب حاملين ما توافر لديهم من آثار السلف حافظين بعملهم هذا تراثا كبيرا، وكان بين هذه المخطوطات التي حفظت عددا من أفضل النسخ عن مؤلفات العصر الكلاسيكي.
32
الفصل الثامن والثلاثون
يوحنا الثامن وقسطنطين الحادي عشر
1425-1453
يوحنا الثامن (1425-1448)
وكانت الدولة قد تضاءلت فلم تعد تشمل سوى القسطنطينية وضواحيها حتى سيلمبرية، ثم بعض الأراضي الضيقة في ساحل البحر، فجبل آثوس فثيسالونيكية فميسترة وميزمبرية وأنخيالوس، وكانت الموارد قد نضبت وقل الخير، وكاد ينقطع، ولم يتمكن يوحنا الثامن وخلفه من سك النقود الذهبية فاكتفيا بالفضي منها.
1
واستغل مراد الثاني ضعف الروم فاستولى على مودونة
Modon
في السنة 1425 وخرج منها بألف أسير، وفي السنة 1430 زحف على ثيسالونيكية وضرب الحصار عليها، وكان أندرونيكوس باليولوغوس قد باعها من البنادقة منذ السنة 1423 لقاء خمسين ألف زكينة
Zechin ، وكانت البندقية قد تحاشت الاحتكاك بمراد الثاني، ولكنها لم تتمكن - فيما يظهر - من إقامة حامية قوية في المدينة، فاستولى عليها السلطان بنفسه (29 أيار سنة 1430) وأباح نهبها وذبح من قاومه من أهلها وكانوا كثيرا، وحول جميع كنائسها إلى جوامع ما عدا كنيسة القديس ديمتريوس.
2
وفي هذه الآونة نفسها تمكن قسطنطين باليولوغوس من احتلال بتراس ومن تصفية أمراء آخية الإفرنج، فعاد العنصر اليوناني إلى السيطرة في بلاد اليونان بعد عراك طويل بينه وبين العنصر اللاتيني بدأ في أيام ميخائيل الثامن.
3
مجمع فراري (1438-1439)
وعظم على يوحنا الثامن سقوط ثيسالونيكية في يد الأتراك، وأفزعه تقدم مراد وانتصاره، فهرع يرمم حصون العاصمة، ولا تزال بعض النقوش اليونانية الباقية تنطق باهتمام يوحنا بالأسوار والحصون، وهاله تخاصم الجنويين والبنادقة في هذا الظرف الحرج.
4
ومما زاده اضطرابا وقلقا أنه لم يكن له ولد ذكر يخلفه وأن أفراد أسرته المالكة لم يتفقوا على أحد منهم، وقضى العرف والقانون بأن يتولى الحكم بعده أخوه الأصغر الديسبوتس ثيودوروس، ولكن الفسيلفس رأى في أخيه قسطنطين شخصية أقوى وأليق وأجدر، والمؤسف المؤلم الذي حز في صدر يوحنا أن المرشحين الاثنين خطبا ود مراد الثاني واستعدا لحرب أهلية مرة (1435-1436).
5
وقام في الغرب آنئذ من طالب بإصلاح الكنيسة رأسها وأعضائها، وبوضع حد لخروج يوحنا هوس وأتباعه، فالتأم مجمع مسكوني غربي في مدينة بازل (1431-1448) للنظر في هذين الأمرين الهامين، وعلم الآباء المجتمعون بفوز الأتراك في البلقان وبتعاظم شوكتهم، ففاوضوا يوحنا الثامن في كيفية التعاون بين النصارى للصمود المثمر في وجه الأتراك، وتبادل الطرفان الوفود وقام إلى بازل وفد أرثوذكسي، وأشهر أعضاء هذا الوفد الأب أزيدوروس الذي أصبح فيما بعد رئيس أساقفة موسكو.
ووصل هذا الوفد إلى بازل وبات ينتظر البحث في التفاهم والاتحاد بين فرعي الكنيسة الأم الرئيسين، ولكن أساقفة الغرب تشاحنوا كثيرا في تعيين المكان الذي يلتئم فيه مجمع مسكوني جديد، ثم اتفقوا على إرجاء البحث في قضية التعاون بين الكنيستين إلى أن يكونوا قد حلوا مشكلة يوحنا هوس وأتباعه، فغضب الأرثوذكسيون لكرامتهم وظنوا أن إخوانهم الغربيين الكاثوليكيين إنما ساووا بين الأرثوذكسيين «الحقيقيين» وبين الهراطقة، وعلمت الأوساط الإكليريكية والشعبية في الشرق بما جرى، فهبت عاصفة هوجاء من الاستياء في عاصمة الأرثوذكسية.
6
ولم يرض البابا عن البحث في إصلاح رأس الكنيسة ولم يحضر اجتماعات بازل، ولكنه اهتم لسير الحوادث السياسية في البلقان اهتماما كبيرا، ففاتح يوحنا الثامن كلاما مستقلا في الموضوع نفسه الذي فاوض بشأنه الأساقفة المجتمعون في بازل، وكان يوحنا على ما كان عليه من قلق واضطراب، فقبل باقتراح أوجانيوس الرابع (1431-1447) واقترح عقد مجمع مسكوني في القسطنطينية، ولكن البابا رأى أن يعقد هذا المجمع في بلد إيطالي وسط بين الشرق والغرب، ووعد بدفع نفقات الأعضاء الأرثوذكسيين، ودعا إلى مجمع مسكوني في فراري وقبل يوحنا الثامن وترأس الوفد بشخصه وضم إليه أخاه والبطريرك يوسف ومرقس متروبوليت إفسس وبيساريون العالم الأديب والإكليريكي الكبير سيلفستروس الذي أصبح فيما بعد مؤرخ هذا المجمع
Sylvestrus Syropoulos
وعددا غير قليل من الإكليروس والشعب، وأوفد أمير موسكو أزيدوروس رئيس أساقفة موسكو وعددا من الإكليروس والشعب.
7
وعارض الفسيلفس في سياسته هذه عدد غير قليل من وجهاء الروم من رجال الدين والدنيا، فأكدوا ليوحنا «أن عمله هذا يؤدي حتما إلى ضياع الأرثوذكسية النقية وإلى عودة اللاتين إلى الحكم في الشرق بسابق فظاظتهم وجشعهم»،
8
وأفضل مثال على هذه المعارضة الشديدة ما كتبه يوسف برينوس
Bryennius
في أوائل القرن الذي نحن بصدده، فإنه قال: «ولا ينخدع أحد منكم بالرجاء الفارغ بأن جيوش الحلفاء الإيطاليين سيجيئون إلينا إن عاجلا أو آجلا، وإن هم تظاهروا بالدفاع عنا فإنهم سيحملون السلاح للقضاء على مدينتنا وجنسنا واسمنا.»
9
وعارض البابا في دعوة المجمع المسكوني إلى الانعقاد في فراري عدد من الأساقفة أعضاء المجمع المنعقد في بازل، وأبوا أن يطيعوا أمره، وظلوا في بازل مجتمعين، ورفعوا سلطته!
وقد جمع يوحنا، قبل أن يبرح القسطنطينية، مجلسا من الوجهاء وبسط أمامه وجهة نظره مجددا، فتجددت المعارضة في شخص جاورجيوس سكولاريوس
Scholarios
وغيره، وأبدى البطريرك يوسف رأيه فإذا به يعارض أيضا، واضطر يوحنا إلى أن يستأذن سيده مرادا الثاني فلم يوافق هذا على خطة الفسيلفس، وبعد أن قام الوفد من القسطنطينية أحب مراد أن يقتحم أسوارها، ولكنه أصغى إلى مشورة وزيره خليل فعدل.
10
ووصل الوفد الأرثوذكسي إلى البندقية في الثامن من شباط سنة 1438، وفي أوائل آذار التالي وصل إلى فراري وبدأت أعمال المجمع، وبحث - بادئ ذي بدء - في برنامج العمل فألح يوحنا على أن يبدأ في السياسة والحرب، ولكن الأساقفة الغربيين رأوا غير ذلك، وكانوا أكثرية غالبة فبوشر في بحث نقاط الخلاف بين الكنيستين، وطال الجدال، وقالت الأكثرية بوجوب حصر البحث في نقاط أربع: انبثاق الروح القدس، واستعمال الفطير، ونوع آلام المطهر، ورئاسة البابا، وأكد متروبوليت إفسس أن القول بالانبثاق من الابن أمر أحدثته رومة، وجادله في هذا يمين البابا الكردينال يوليانوس قيصريني.
ثم انتشر الطاعون في فراري وأصاب بعض أعضاء المجمع فانتقل الجميع إلى فلورنزة في العاشر من كانون الثاني سنة 1439، واحتدم الجدل مرة ثانية حول هذه النقاط، وامتنع البطريرك وغيره عن موافقة الأساقفة الغربيين، وأيد هؤلاء كل التأييد أزيدور رئيس أساقفة موسكو وشد أزره بيساريون العالم، وسئم الفسيلفس هذه المشادة وهذا الجدل ومل وكاد يغادر فلورنزة.
وتوفي البطريرك قبل الوصول إلى نتيجة حاسمة، وظل مرقس رئيس أساقفة إفسس متمسكا بوجهة النظر الأرثوذكسية حتى النهاية، وثابر الفسيلفس في تأيد الأساقفة الغربيين، فاتخذت قرارات معينة وأعلن اتحاد الكنيستين في السادس من تموز سنة 1439.
11
ولا تزال فلورنزة حتى يومنا هذا تفاخر بما جرى فيها فتعرض في إحدى دور كتبها
Biblioteca Laurenziana
نسخة معاصرة عن قرار الاتحاد باللغات اللاتينية واليونانية والصقلبية، ولا تزال كنيسة
Santa Maria Novella
تحتفظ بأثر تذكاري لوفاة البطريرك المسكوني يوسف المشار إليه، ولا يزال الناظر إلى مدخل كنيسة القديس بطرس في رومة يشاهد نقوشا صغيرة تخلد ذكر إبحار يوحنا الثامن من القسطنطينية ووصوله إلى فراري وجلوسه في فلورنزة وعودته من البندقية، أما تمثال يوحنا الثامن الذي لا يزال يعرض في متحف البروبوغندة في رومة فإنه - في الأرجح - مزور من صنع أحد النحاتين الإيطاليين في القرن الماضي.
12
وعاد يوحنا الثامن إلى الشرق، وعاد الوفد بأكمله، فالتف حول مرقس متروبوليت إفسس عدد كبير من المعارضين، ورجع عدد كبير ممن وقع صك الاتحاد عن تواقيعهم، وأوقف أمير موسكو رئيس الأساقفة أزيدور ولقبه بالذئب بدلا من الراعي، واجتمع بطاركة الإسكندرية وأنطاكية وأوروشيلم في مجمع محلي في أوروشليم سنة 1443، وشجبوا قرارات فلورنزة ووصموها بالدنس،
13
ويرى بعض العلماء أن أقطاب الكنيسة الأرثوذكسية اجتمعوا في السنة 1450 في كنيسة الحكمة الإلهية في مجمع مسكوني أرثوذكسي، فشجبوا الاتحاد ومن قال به، وأول من نشر أعمال هذا المجمع لاوون أتاليوس الإيطالي، وذلك في القرن السابع عشر، ومنذ ذلك الحين وعلماء الكنيسة معسكران، فمنهم من يقول بصحة هذه الأعمال، ومنهم من ينكر انعقاد هذا المجمع، وأشهر من يؤيد الصحة العالم الألماني درايزكه والعالم الإفرنسي براهيه،
14
وفي طليعة الآخرين العالم بابايوانو اليوناني ولبديف الروسي،
15
ويرى العلامة المعاصر فازيلييف الروسي أنه ليس هنالك دليل كاف يؤيد رجوع قسطنطين الحادي عشر عن الاتحاد، ولكن ليس هنالك أي اختلاف في أنه لدى سقوط القسطنطينية في يد الأتراك (1453) رقي السدة المسكونية البطريرك جناديوس، وأن هذا البطريرك الذي كان قد اشترك في أعمال فلورنزة بصفته جاورجيوس سكولاريوس، كان قد عاد عن اتحاد الكنيستين.
16
موقف مراد الثاني
وبر البابا أوجانيوس الرابع بوعوده في فلورنزة فحض جميع ملوك النصارى على إنقاذ الروم من الخطر التركي، فلبى هذا النداء ألفونزو الخامس ملك أرغونة، ولاديسلاس ملك المجر، ويوحنا هونيادي أمير ترانسلفانية، وعدد كبير من الفرسان الألمان والإفرنسيين والمجريين والبولونيين، وفي تموز السنة 1443 غادر هؤلاء الصليبيون بودا وعبروا الدانوب فرحب بهم الصرب والبلغار واحتلوا صوفيا، وكان مراد الثاني منهمكا في إخضاع إبراهيم بك أمير القرمان، فهرع إلى البلقان وحارب الصليبيين في كونوفيتزة
Kounovitsa
في الرابع والعشرين من كانون الأول سنة 1443 فكسره هونيادي فيها وأكرهه على المهادنة لمدة عشر سنوات على أن يتنازل عن الصرب ويعطي الفلاخ للمجر،
17
وكان جاورجيوس كستريوته
Castriota «إسكندر بك» قد رفع راية الثورة ضد العثمانيين في ألبانية وحرر كل ما وقع بين فوروسة وأرتة، ونهض قسطنطين باليولوغوس ديسبوتس المورة فرمم خط الدفاع عن برزخ كورنثوس وفرض سلطته على جميع المورة.
موقعة ورنة (1444)
ثم رأى مراد الثاني أن يستريح من عناء الملك فنزل عن العرش لابنه محمد الثاني، وكان حديث السن لا يتجاوز الرابعة عشرة، وأقام مراد في مغنيسية في آسية الصغرى يطلب الراحة، فلما رأى الكردينال قيصريني ويوحنا الثامن ذلك، حضا لاديسلاس ملك المجر على أن يغتنم هذه الفرصة لمتابعة النصر.
واعتبر الكردينال العهود التي تعطى لغير المؤمنين غير ملزمة أصحابها، فادعى لاديسلاس أن العثمانيين لم ينفذوا شروط الصلح؛ إذ إنهم لم يتخلوا عن جميع الحصون في بلاد الصرب، فنقض عهده معهم وأمر يوحنا هونيادي بالزحف على الأراضي العثمانية، فتقدم هذا في بلغارية واستولى على كثير من حصونها ووصل إلى شاطئ البحر الأسود، وعلم مراد بذلك فرجع إلى الملك وسار بجيش إلى بلغارية، والتقى لاديسلاس وهونيادي خارج ورنة
Varna
في التاسع من تشرين الثاني سنة 1444، وأمر بأن تحمل بين الأعلام صورة المعاهدة المنقوضة، فأنزل بالصليبيين هزيمة شنعاء «بفضل حمق الملك لاديسلاس الذي لم يكن تجاوز العشرين من عمره، والذي يأكل نفسه الحسد لانتصارات هونيادي، فبرح المكان المعين له وصرع في هجوم شنه على الإنكشارية.»
18
مراد وقسطنطين باليولوغوس
ولم يفت هذا في ساعد قسطنطين ديسبوتس المورة، فإنه حالف ديسبوتس الصرب وقطع برزخ كورنثوس واستولى على بلاد اليونان الوسطى، فقام إليه مراد الثاني في السنة 1446 وكسره في ثيبة، ثم دك حصون البرزخ واكتسح المورة وسبى من أبنائها ستين ألف رقيق، فدخل قسطنطين في طاعة السلطان في ربيع السنة 1447.
19
موقعة قوصوة (1448)
وفي خريف السنة 1448 عاد مراد الثاني إلى القتال في ألبانية ليخضع إسكندر بك، فهب البابا نيقولاووس الخامس يحض المؤمنين على القتال، ولا سيما المجريين والبولونيين، وتزعم هذه الحركة يوحنا هونيادي الوصي على ابن لاديسلاس القاصر، ونجح هونيادي في تنظيم جيش مؤلف من أربعة وعشرين ألف مقاتل، وأحسن تنظيمه وتدريبه وتقدم به عبر بلاد الصرب إلى ميدان قوصوة حيث التقى مراد الثاني وجيوشه، واستمر القتال يومين كاملين كانت الحرب فيهما سجالا، وفي اليوم الثالث خان هونيادي الجنود الفلاخيون وعددهم ثمانية آلاف، فانتصر مراد الثاني، وحاول هونيادي أن يشق طريقه عبر الدانوب، فوقع في أيدي الصرب الذين كانوا قد امتنعوا عن التعاون معه منذ إعلان الحرب، فاضطر إلى أن يعقد صلحا لم يكن في مصلحته، ولجأ إسكندر بك إلى أعالي التلال وتابع الحرب ضد الأتراك وحده حتى السنة 1468.
وفاة يوحنا الثامن
وتوفي الفسيلفس يوحنا الثامن بعد قوصوة بأسبوعين في السنة 1448، وكان قد تزوج ثلاثا: حنة ابنة باسيليوس الأول دوق موسكو، ولكنها توفيت بداء الطاعون بعد ثلاث سنوات، ثم تزوج من صوفية مونتفرات الإيطالية، ولكنها كانت قبيحة سمجة، فتركته وحده وعادت إلى بلادها وتوفيت فيها. فاقترن يوحنا عندئذ بمريم كومنينوس من أفراد الأسرة المالكة في طرابزون، ولكنه على الرغم من هذا كله لم يرزق ولدا يخلفه في الحكم، ولدى وفاته تدخل مراد الثاني في أمر الخلافة فتوج قسطنطين باليولوغوس ديسبوتس المورة فسيلفسا في مبسترة في السادس من كانون الثاني سنة 1449.
قسطنطين الحادي عشر (1449-1453)
ودخل قسطنطين الحادي عشر القسطنطينية في الثاني عشر من آذار سنة 1449 فاستقبله الشعب بابتهاج عظيم، وكانت علاقاته مع الأتراك طيبة للغاية، فعاهد مرادا الثاني على الولاء في الخامس والعشرين من الشهر نفسه، ولم يعن بالأسوار والحصون، ولم يتصل برومة ليثبت لها أن اتحاد الكنيستين كان لا يزال قائما في نظره، وجدد الهدنة بين الروم والبنادقة، ولم يقلقه في أول عهده سوى طمع أخويه توما وديمتريوس في الحكم في المورة.
ففي السنة 1451 استولى توما على جزء من مقاطعة أركادية التابعة لحكم ديمتريوس، فاستعان هذا بطره خان حاكم ثيسالية التركي، فأعاد هذا إلى ديمتريوس ما كان قد سلبه أخوه توما، ثم توفي مراد الثاني في الثاني من شباط سنة 1451، فاكفهر جو العلاقات الرومية التركية وعظم الخطب.
محمد الثاني والقسطنطينية (1451-1452)
واستهل محمد حكمه بأن أمر بقتل أخيه الطفل أحمد، وحاول إبراهيم أمير القرمان أن يشق عصا الطاعة، فقام محمد إليه مقاتلا فأخضعه، وبينما كان منهمكا في هذا العمل كان وزيره خليل باشا يفاوض قسطنطين الحادي عشر في مصير الأمير أورخان حفيد سليمان العثماني، الذي كان لا يزال في القسطنطينية، فطالب قسطنطين بمضاعفة المبلغ الذي كان يدفع إلى الفسيلفس لقاء احتفاظه بأورخان.
وعاد محمد الثاني إلى أدرنة، فعلم بمطالب قسطنطين الحادي عشر، فوقع في العاشر من أيلول من هذه السنة نفسها (1451) معاهدة مع البندقية التي كانت تستعد لحرب ضد جنوى، وفي العشرين من تشرين الثاني تم التفاهم بينه وبين يوحنا هونيادي، فتعهد السلطان الجديد بأن يمتنع عن تحريض هوسبودار الفلاخ على المجر وعن إنشاء الحصون عند الدانوب مقابل سلم وأمان بين الطرفين،
20
وصادق في الوقت نفسه جنوى وراغوسة وفرسان رودوس،
21
وفي تشرين الأول من السنة 1452 أنفذ السلطان حاكم ثيسالية بقوة عكسرية إلى المورة ليستولي عليها ويمنع أميريها توما وديمتريوس من مساعدة قسطنطين الحادي عشر عند الحاجة،
22
وقام في الوقت نفسه تقريبا بمحاربة إسكندر بك في ألبانية؛ لأن ألفونزو ملك نابولي كان قد أنزل بعض القوات على شاطئ ألبانية.
23
وفي آذار السنة 1452 كان محمد قد بدأ بإنشاء قلعة بالقرب من القسطنطينية أطلق عليها اسم روم ايلي حصار؛ ليهدد بها الإبحار من مرفأ القسطنطينية وإليه، فقامت هذه القلعة في الساحل الأوروبي مقابل كوزل حصار التي كان بايزيد قد أنشأها على الشاطئ الآسيوي، فأرسل قسطنطين وفدا يحتج على ذلك، فأمر محمد بهم فقطعت رءوسهم، وبذلك بدأت الحرب.
24
قسطنطين الحادي عشر يستعد (1452)
وفي ربيع السنة 1452 وصيفها رمم قسطنطين الأسوار والحصون وذخر المؤن لوقت الحصار، وراسل يوحنا هونيادي مقدما سيلمبرية، وألفونزو الخامس واهبا جزيرة لمنوس، ولوح بامتيازات هامة لكل من البندقية وجنوى، وكتب إلى البابا نيقولاووس الخامس، ولكنه لم يتلق من الغرب شيئا سوى شخص إيزودور الذي كان قد أصبح كردينالا بعد خروجه من موسكو؛ فإنه جاء من رومة موجبا إعلان اتحاد الكنيستين في كنيسة الحكمة الإلهية وذكر البابا في الذبتيخة، فضغط الفسيلفس على بعض رجال الإكليروس العالي وأقام في الثاني عشر من كانون الأول من السنة 1452 قداسا حافلا في كنيسة الحكمة الإلهية بموجب الطقس اللاتيني، وما إن فعل حتى ضجت المدينة بالاحتجاج والسخط وانتقد عالم المورة وفيلسوفها قول اللاتين بانبثاق الروح القدس من الآب والابن وأوجع الفسيلفس لوما؛ لأنه لجأ إلى الضغط في هذه القضية، وتزعم جناديوس العالم هذه المعارضة، وأعلن الدوق الكبير نوتاراس
Notaras
أنه يؤثر عمائم شيوخ الأتراك على تيجان أساقفة اللاتين.
25
وبدأ الحصار وظل قسطنطين يسعى لاستدرار المعونة من الغرب، ولكنه لم يلق سوى سبعمائة محارب بقيادة يوحنا الغوستنياني الجنوي، وألح سفير البندقية وممثل البابا على الأميرال غبريال تريفيزانو
Trevisano
الذي كان قد واكب الكردينال إيزيدور، أن يبقى في مياه القسطنطينية، ولكن ربابنة البوارج آثروا الخروج على البقاء، وحذا حذوهم أهل الحل والربط من رجال الجالية الجنوية في بيرا، فقالوا بأن بقاءهم على الحياد يكون في صالح الروم؛ إذ يتمكنون عندئذ من إدخال المعونة إلى العاصمة.
ويستدل من أفضل المراجع الأولية على أن عدد المحاربين في عاصمة الروم آنئذ لم يتجاوز ال 4973 رجلا وأن عدد الأجانب المقاتلين معهم تراوح بين الألفين والثلاثة آلاف، وأن سلاح هؤلاء جميعا كان أبيض، وأنه لم يكن لديهم سوى بعض المدافع المتوسطة الحجم، وأن القوة البحرية كانت مؤلفة من سبع بوارج، وأن الذخيرة لم تكن كافية، وأن الفسيلفس اضطر إلى أن يسك النقود من فضة الكنائس.
26
حصار القسطنطينية (7 نيسان-29 أيار)
وفي الثاني من نيسان سنة 1453 مد الروم السلسلة العظيمة فأقفلوا بها مدخل القرن الذهبي، وفي الخامس منه وصل محمد الفاتح بجيوشه إلى الأسوار بستين ألف مقاتل وبعدد كبير من الدراويش والتجار والفلاحين العزل الذي استهواهم النهب والسلب، وفي السابع من الشهر نفسه أرسل السلطان إلى الفسيلفس إنذارا رسميا بوجوب تسليم المدينة، فرفض، فبدأ الحصار.
وكان قد وفد على قسطنطين الحادي عشر مغامر مجري اسمه أوربانوس عرض عليه إعداد مدفعية قوية تسهل الدفاع عن العاصمة ضد الأتراك، فقبل الفسيلفس ولكنه لم يتمكن من دفع التعويضات التي طلبها هذا المجري، فخرج أوربانوس من القسطنطينية ووفد على سلطان الأتراك (1452) واستأذنه في صنع مدفع جبار يقذف قنابل ضخمة مؤكدا أن هذه المقذوفات تدك أسوار القسطنطينية دكا، فتحمس السلطان الفتي وأمر بوضع كميات غير محدودة من البرونز تحت تصرف أوربانوس، فصنع هذا منها مدفعا جبارا طول ماسورته سبعة أمتار وقطر فوهته متر، وعملا بنصيحة أوربانوس أمر محمد الفاتح بأن يوضع المدفع على مركبة ذات ست عجلات صنعت من خشب السنديان القوي، أما القذائف فقد جعلها أوربانوس من الحجر وزن الواحدة منها حوالي سبع مائة كيلو، ونقل هذا المدفع إلى أدرنة وجرب في ضواحيها فإذا به يقذف هذه القنابل إلى مسافة كيلومتر واحد أو أكثر قليلا، فسر السلطان بالنتيجة وأمر بنقل المدفع إلى جوار القسطنطينية، فجر هذا المدفع مائة ثور وقطع المسافة بين أدرنة والقسطنطينية في خمسة وستين يوما.
وكان لدى الروم مدافع ولكنها كانت صغيرة الحجم لا تقوى على رد المثل بالمثل، ومن هنا قول كريتوبولوس المؤرخ المعاصر: «إن القول الفصل في الحصار كان للمدفعية.» وخشي السلطان معونة بحرية من الغرب فأنشأ منذ السنة 1452 أسطولا حربيا مؤلفا من مائتين وخمسين بارجة ما عدا مراكب النقل، فأبحر هذا الأسطول عند بدء الحصار من بحر مرمرة ورسا في مياه البوسفور.
وفي الثامن عشر من نيسان أمر السلطان بهجوم عام ولكنه نكص على أعقابه، وحاول اقتحام مداخل القرن الذهبي فلم يفلح، وفي العشرين من نيسان أطل من بحر مرمرة أسطول غربي مؤلف من أربع بوارج وثلاث ناقلات كبيرة، فأمر السلطان قائد أسطوله بلطه أوغلو بصدهم عن الوصول إلى القسطنطينية وبتدميرهم، ونشب القتال بين الطرفين بمرأى من السلطان، وانتصر الأسطول الجنوي القادم على الأسطول التركي المدافع، فاستشاط محمد غيظا وأراد أن يقطع رأس بلطه أوغلو بيده، ووصل الأسطول الجنوي إلى القرن الذهبي وإذا به ينقل الحبوب من صقلية إلى العاصمة.
وكان السلطان قد بدأ بمهاجمة الأسوار الغربية، وكانت تمتد من القرن الذهبي إلى بحر مرمرة، ثم رأى - على ضخامة مدافعه - أنه لا يستطيع التغلب على الأسوار لمناعتها وعظم سمكها، فعول على مهاجمة المدينة من أضعف جهاتها وهي الجهة المشرفة على القرن الذهبي، وكان يحمي الأسوار المشرفة على القرن الذهبي سلسلة عظيمة عند مدخل هذا القرن ووراءها مراكب حربية، فرأى السلطان أن ينقل قسما من سفنه برا وينزلها في مياه القرن الذهبي وراء البوارج الرومية التي تحمي مدخل هذا القرن، فمهد طريقا برية بين البوسفور والقرن الذهبي بلغ طولها حوالي ثلاثة كيلومترات، ووضع عليها عوراض ضخمة من الخشب تتدحرج عليها أسطوانات طويلة خشبية، وسير فوق هذه ستين أو سبعين سفينة من أسطوله، فجرت عليها هذه السفن حتى بلغت القرن الذهبي، فنزلت فيه بلا عناء، وكان السلطان في أثناء نقل هذه السفن يضلل حامية القسطنطينية بالقصف بالمدافع من الجهات الأخرى، وفي صباح الثالث والعشرين من نيسان فوجئت بوارج الروم عند مدخل القرن الذهبي بالنار من أمامها وورائها في آن واحد، ولم يبق أمام الروم سوى حيلة واحدة هي حرق السفن التركية التي أدخلت بهذا الشكل إلى مياه القرن الذهبي، فأعدوا العدة لذلك وقرروا الهجوم في ليل الثامن والعشرين من الشهر نفسه، ولكن الجنويين في غلطة أعلموا الأتراك بذلك في حينه فاتخذ هؤلاء الإجراءات اللازمة وحالوا دون نجاح الروم.
ودام قصف المدينة بالمدافع أسابيع أربعة، فرأى البطريرك والوجهاء والقائد الإيطالي غوسطنياني أن يغادر الفسيلفس العاصمة ليجيش الروم في المورة وغيرها ويتلقى المعونة المنتظرة من الغرب، ولكن قسطنطين الحادي عشر آثر الموت مع شعبه في الدفاع عن النفس.
وقام السلطان في السابع من أيار وفي الثاني عشر منه بهجومين عنيفين، ولكنه أخفق في المرتين، وفي الحادي والعشرين من أيار حاول قطع السلسلة العظيمة عند مدخل القرن الذهبي فلم يفلح، وفي الثالث والعشرين من هذا الشهر نفسه أوفد محمد الثاني أمير سينوب يفاوض الفسيلفس بتسليم المدينة مقابل خروجه منها وخروج من رغب في ذلك من السكان آمنين حاملين كنوزهم وأمتعتهم ومقابل تولية قسطنطين على المورة، وأنه في حال الرفض تؤخذ العاصمة عنوة وتستباح ثم يذبح رجالها ذبحا وتباع نساؤها في أسواق الرقيق، فلم ير قسطنطين في هذا كله سوى فخ منصوب، فرفض، فعقد محمد في السابع والعشرين مجلسا حربيا لدرس الموقف، فاقترح خليل باشا رفع الحصار؛ نظرا لما كان قد شاع من وصول قوة غربية إلى مياه خيوس، ولكن محمدا عارض كل المعارضة وأمر بوجوب الاستعداد لهجوم عام في التاسع والعشرين، وعلم الروم بذلك وقاوموا ببسالة فائقة وردوا الأتراك على أعقابهم مرتين متتاليتين، وكان قد تهدم السور الخارجي بالقرب من باب أدرنة، فتسلل الإنكشاريون من هذه الثغرة إلى السور الداخلي، وعلموا من أعوانهم في داخل القسطنطينية أن الباب الخفي الصغير
Kerkoporta
الذي كان يطل على الخندق في هذا القطاع نفسه كان مهملا، فاقتحموه ونفذوا منه إلى داخل المدينة، فدب الذعر في العاصمة، وكان القائد غوسطنياني قد جرح فنقل إلى جزيرة خيوس وتوفي لدى وصوله إليها، وتابع قسطنطين الجهاد وما فتئ يحارب حتى خر صريعا في ميدان الشرف، وأباح السلطان المدينة ثلاثة أيام بلياليها ثم دخلها وذهب توا إلى كنيسة الحكمة الإلهية فصلى على مذبحها وأعلنها مسجدا، ثم استقر في القصر المقدس، وذبح الأتراك أربعين ألفا وساقوا إلى أسواق الرقيق خمسين أو ستين ألفا.
27 (انتهى)
ملحق
الأباطرة (324-610).
قسطنطين الكبير
324-337
Constantine the Great
قسطنطين
337-440
Constantine
قسطنس
337-350
Constans
قسطنديوس
337-361
Constantius
يوليانوس الجاحد
361-363
Julian the Apostate
يوفيانوس
363-364
Jovian
والنس
364-378
Valens
ثيودوسيوس الكبير
379-395
Theodosius the Great
أركاديوس
395-408
Arcadius
ثيودوسيوس الثاني
408-450
Theodosius II
مرقيانوس
450-457
Marcian
لاوون الأول
457-474
Leo I
لاوون الثاني
474-؟
Leo II
زينون
474-491
Zeno
أنسطاسيوس الأول
491-518
Anastasius I
يوستينوس الأول
518-527
Justin I
يوستنيانوس الأول
527-565
Justinian II
يوستينوس الثاني
565-578
Justin II
طيباريوس الثاني
578-582
Tiberius II
موريقيوس
582-602
Maurice
فوقاس
602-610
الفسالسة (610-1453).
هرقل
610-641
Heraclius
قسطنطين الثاني
641-؟
Constantine II
هرقليون
641-؟
Heracleon (Heracleonas)
قسطنطين الثالث أو قسطنس الثاني
641-668
Constantine III (Constans II)
قسطنطين الرابع
668-685
Constantin IV
يوستنيانوس الثاني الأشرم
685-695
Justinian II Rhinotmetus
لاونديوس
695-698
Leontius
طيباريوس الثالث
698-705
Tiberius III
يوستنيانوس الثاني للمرة الثانية
705-711
Justinian II
فيليبيكوس البرداني
711-713
أنسطاسيوس الثاني
713-715
Anastasius II
ثيودوسيوس الثالث
715-717
Theodius III
لاوون الثالث
717-741
Leo III
قسطنطين الخامس الزبلي
741-775
Constantine V Copronymus
لاوون الرابع الخزري
775-780
Leo IV Chazar
قسطنطين السادس
780-797
Constantine VI
إيرينة
797-802
Irene
نيقيفوروس الأول
802-811
Nicephorus I
أستوراقيوس
811-؟
Stauracius
ميخائيل الأول
811-813
Michael I Rangabé
لاوون الخامس الأرمني
813-820
Leo V
ميخائيل الثاني الألثغ
820-829
Michael II Stammerer
ثيوفيلوس
829-842
Theophilus
ميخائيل الثالث
842-867
Michael III
باسيليوس الأول
867-886
Basil I
لاوون السادس الحكيم
886-912
Leo VI Philosopher
الإسكندر
912-913
Alexander
قسطنطين السابع
913-959
Constantine VII
رومانوس الأول
919-944
Romanus I Lecapenus
إسطفانوس وقسطنطين
944-945
Stephen and Constantine
رومانوس الثاني
959-963
Romanus II
نيقيفوروس الثاني
963-969
Nicephorus II Phocas
يوحنا الأول جيمسكي
969-976
John I Tzimisces
باسيليوس الثاني
976-1025
Basil II Bulgaroctonus
قسطنطين الثامن
1025-1028
Constantine VIII
رومانوس الثالث
1028-1034
Romanus III Argyrus
ميخائيل الرابع
1034-1041
Michael IV
ميخائيل الخامس
1041-1043
Michael V Calaphates
ثيودورة وزوية
1042-؟
Theodora and Zoè
قسطنطين التاسع
1042-1055
Constantine IX Monomachus
ثيودورة
1055-1056
Theodora
ميخائيل السادس
1056-1057
Michael VI Stratioticus
إسحاق الأول
1057-1059
Isaac I Comnenus
قسطنطين العاشر
1059-1067
Constantine X Ducas
رومانوس الرابع
1067-1071
Romanus IV Diogenes
ميخائيل السابع
1071-1078
Michael VII Ducas
نيقيفوروس الثالث
1078-1081
Nicephorus III Botaniates
أليكسيوس الأول
1081-1118
Alexius I Comnenus
وحنا الثاني
1118-1143
John II
عمانوئيل الأول
1143-1180
Manuel I
أليكسيوس الثاني
1180-1183
Alexius II
أندرونيكوس الأول
1182-1185
Andronicus I
إسحاق الثاني
1185-1195
Isaac II Angelus
أليكسيوس الثالث
1195-1203
Alexius III
إسحاق وأليكسيوس الرابع
1203-1204
Isaac and Alexius IV
أليكسيوس الخامس
1204-؟
Alexius V Mourtzouphlos
ثيودوروس الأول
1204-1222
Theodore I Lascaris
يوحنا الثالث
1222-1254
John III Vatatzes
ثيودوروس الثاني
1254-1258
Theodore II Lascaris
يوحنا الرابع
1258-1261
John IV
ميخائيل الثامن
1261-1282
Michael VIII Paleologus
أندرونيكوس الثاني
1282-1328
Andronicus II
ميخائيل التاسع
1295-1320
Michael IX
أندرونيكوس الثالث
1328-1341
Andronicus III
يوحنا الخامس
1341-1391
John V
يوحنا السادس
1341-1354
John VI Cantacuzene
أندرونيكوس الرابع
1376-1379
Andronicus IV
يوحنا السابع
1390-؟
John VII
عمانوئيل الثاني
1391-1425
Manuel II
يوحنا الثامن
1425-1448
John VIII
قسطنطين الحادي عشر
1449-1453
Constantine XI
أباطرة «رومانية» اللاتينية (1204-1261).
بردويل الأول
1204-1206
Baudouin I
هنريكوس الهيناوي
1207-1216
Henri de Hainaut
بطرس الكرتناوي
1217-1218
يولندة الهيناوية
1218-1220
Yolande de Hainaut
روبرتوس الكرتناوي
1221-1228
Robert de Courtenay
بردويل الثاني
1228-1261
Baudouin II
يوحنا البرياني
1231-1237
Jean de Brienne
ملوك أوروشليم اللاتينيون (1099-1205).
غودفري
1099-1100
Godefroy de Bouillon
بردويل الأول
1100-1118
Baudouin I
بردويل الثاني
1118-1131
Baudouin II
فولك أنجو
1131-1143
Foulque d’Angou
بردويل الثالث
1143-1161
Boudouin III
أموري الأول
1161-1174
Amaury I
بردويل الرابع
1174-1185
Baudouin IV
بردويل الخامس
1185-؟
Baudouin V
هنريكوس
1192-1195
Henri de Champagne
أموري الثاني
1197-1210
Amury II de Lusignan
يوحنا البرياني
1210-1225
Jean de Brienne
فريديريكوس الثاني
1225-1250
Frédéric II Emp.
كونراد
1250-1254
Conrad
كونرادين
1254-1257
Conradin
هوغ الثاني
1257-1269
Hugues II
هوغ الثالث
1269-1277
Hugues III
كارلوس أنجو
1277-1284
Charles d’Anjou
يوحنا الأول
1284-1285
Jean I
هنريكوس الثاني
1285-؟
Henri II
بطاركة رومة الجديدة (324-1453).
ألكسنذروس الأول
314-337
Alexander I
بولس الأول
337-339
يوسيبيوس
339-341
Eusebius
بولس الأول «ثانية»
341-342
مقدونيوس الأول
342-346
Macedonius
بولس الأول «ثالثة»
346-351
مقدونيوس الأول «ثانية»
351-360
Macedonius
أفذوكسيوس
360-370
Eudoxius
ذيموفيلوس
370-380
Demophilus
إفاغريوس
370-؟
Evagrius
غريغوريوس الأول النازيانزي
379-381
Gregorius
مكسيموس الأول
380-؟
Maximus
نيقيطاريوس
381-397
Nectarius
يوحنا الذهبي الفم
398-404
Jean Chrysostomus
أرساكيوس
404-405
Arsacius
أتيكوس
406-425
Atticus
سيسينيوس الأول
426-427
Sisinnius
نسطوريوس
428-431
Nestorius
مكسيميانوس
431-434
Maximianus
بروقلوس
434-446
فلافيانوس
446-449
Flavianus
أنطوليوس
449-458
Anatolius
جناديوس
458-471
Gennadius
أكاكيوس
471-489
Acacius
فراويته
489-490
Fravitas
أفيميوس
490-496
Euphemius
مقدونيوس الثاني
496-511
Macedonius II
تيموثاوس
511-518
Timotheus
يوحنا الثاني
518-520
Jean II
أبيفانيوس
520-535
Epiphanius
أنثيموس الأول
535-536
Anthimius I
ميناس
536-552
Menas
أفتيخيوس
552-565
Eutychius
يوحنا الثالث
565-577
Jean III
أفتيخيوس ثانية
577-582
Eutychius
يوحنا الرابع الصائم
582-595
Jean IV
كيرياكوس
595-606
Cyriacus
توما الأول
607-610
Thomas I
سرجيوس الأول
610-638
Sergius I
بروس
638-641
بولس الثاني
641-654
بروس ثانية
655-؟
بطرس
655-666
توما الثاني
667-669
Thomas II
يوحنا الخامس
669-675
Jean V
قسطنطين الأول
675-677
Constantin I
ثيودوروس الأول
677-679
Theodorus I
جاورجيوس الأول
679-686
Georges I
ثيودوروس الأول ثانية
686-687
Theodorus I
بولس الثالث
688-694
كلينيكوس
694-705
Callinicus
كيروس
705-712
Cyrus
يوحنا السادس
712-715
Jean VI
جرمانوس الأول
715-729
Germanus I
أنسطاسيوس
729-752
Anastasius
قسطنطين الثاني
753-765
Constantin II
نيقيطاس الأول
765-780
Nicetas I
بولس الرابع
780-784
طراسيوس
784-806
Tarasius
نيقيفوروس الأول
806-815
Nicephorus I
ثيودوتوس
815-821
Theodotus
أنطونيوس الأول
821-832
Antonius I
يوحنا السابع
832-843
Jean VII
مثوديوس الأول
843-847
Methodius
إغناطيوس
847-858
Ignatius
فوطيوس
858-867
إغناطيوس ثانية
867-877
Ignatius
فوطيوس ثانية
877-886
إسطفانوس الأول
886-893
Etienne I
أنطونيوس الثاني
893-901
Antonius II
نقولا الأول
901-907
Nicolas I
أفثيميوس
908-912
Euthymius
نقولا الأول ثانية
912-925
Nicolas I
إسطفانوس الثاني
925-928
Etienne II
تريفون
928-931
Tryphon
ثيوفيلاكتوس
933-956
Theophylactus
بوليفكتوس
956-970
باسيليوس الأول
970-974
Basilius I
أنطونيوس الثالث
974-979
Antonius III
نقولا الثاني
979-991
Nicolas II
سيسينيوس الثاني
991-998
Sisinnius II
سرجيوس الثاني
1001-1019
Sergius II
أفستاثيوس
1019-1025
Eustathius
أليكسيوس الأستودي
1025-1043
Alexis Studite
ميخائيل كيرولاريوس
1043-1058
Michael Cerulare
قسطنطين الثالث ليخوذس
1059-1063
Constantin III Lichoudès
يوحنا الثامن زفلين
1063-1075
Jean VIII Xiphilin
قوزما الأول
1075-1081
Cosmas I
أفستراثيوس
1081-1084
Eustrathius
نقولا الثالث النحوي
1084-1111
Nicolas III Grammatikos
يوحنا التاسع
1111-1134
Jean IX Hiéromnémon
لاوون
1134-1143
Leon Stypiotes
ميخائيل الثاني
1143-1146
Michael II Curcuas
قوزما الثاني
1146-1147
Cosmas II Atticus
نقولا الرابع موزالون
1147-1151
Nicolas IV Mauzalon
ثيودوتس الثاني
1151-1153
Theodotus II
نيوفيطوس الأول
1153-؟
Neophytus I
قسطنطين الرابع
1154-1156
Constantin IV Chliarénos
لوقا
1156-1169
Luc Chrysoberges
ميخائيل الثالث
1170-1177
Michael III Anchialos
خريطون
1177-1178
Chariton
ثيودوسيوس الأول
1178-1183
Theodosius I
باسيليوس الثاني
1183-1186
Basilius II Kamatéros
نيقيطاس الثاني
1186-1189
Nicetas II Mountanès
لاونقيوس
1189-1190
Léonce
دوسيثاوس
1190-1191
Dosithée
جاورجيوس زفلين
1191-1198
Georges Xiphilin
يوحنا العاشر
1199-1206
Jean X Kamatéros
ميخائيل الرابع أوطوريانوس
1207-1213
Michael IV Autorianos
ثيودوروس الثاني
1213-1215
Théodore II
مكسيموس الثاني
1215-؟
Maximus II
عمانوئيل الأول
1215-1222
Manuel I
جرمانوس الثاني
1222-1240
Germanus II
مثوديوس الثاني
1240-؟
Methodius II
عمانوئيل الثاني
1244-1255
Manuel II
أرسانيوس أوطوريانوس
1255-1259
Arsenius Autorianus
نيقيفوروس الثاني
1260-1261
Nicephorus II
أرسانيوس أوطوريانوس ثانية
1261-1267
Arsenius Autor.
جرمانوس الثالث
1267-؟
Germanus III
يوسف الأول
1267-1275
Joseph I
يوحنا الحادي عشر فقس
1275-1282
Jean XI Veccos
يوسف الأول ثانية
1282-1283
Joseph I
غريغوريوس الثاني
1283-1289
Gregorius II
أثناسيوس الأول
1289-1293
Athanasius I
يوحنا الثاني عشر قوزما
1294-1304
Jean XII Cosmas
أثناسيوس الأول ثانية
1304-1310
Athanasius I
تيفون الأول
1311-1315
Niphon I
يوحنا الثالث عشر غليكس
1316-1320
Jean XIII Glykys
جراسيموس الأول
1320-1321
Gerasimus I
أشعيا
1323-1334
Isaïe
يوحنا الرابع عشر
1334-1347
Jean XIV Calécas
أسيدوروس الأول
1347-1349
Isidorus I
كليستوس الأول
1350-1354
Callistus I
فيلوثيوس
1354-1355
كليستوس الأول ثانية
1355-1363
Callistus I
فيلوثيوس ثانية
1364-1376
مكاريوس
1376-1379
Macarius
نيلوس
1379-1388
Nilus
أنطونيوس الرابع
1389-1390
Antonius IV
مكاريوس ثانية
1390-1391
Macarius
أنطونيوس الرابع ثانية
1391-1397
Antonius IV
كليستوس الثاني
1397-؟
Callistus II
متى الأول
1397-1410
Matthieu I
أفثيميوس الثاني
1410-1416
Euthymius II
يوسف الثاني
1416-1439
Joseph II
متروفانس الثاني
1440-1443
Metrophanes II
غريغوريوس الثالث مماس
1443-1453
Gregorius III Mammas
جناديوس الثاني سكولاريوس
1453-1457
Gennadios II Scholarios
باباوات رومة القديمة (324-1453).
سيلفستروس الأول
314-335
Sylvestre I
مرقس
336-؟
Marc
يوليوس الأول
337-352
Jules I
ليباريوس
352-366
Libère
دماسوس الأول
366-384
Damase I
سيريقيوس
384-399
Sirice
أنسطاسيوس الأول
399-401
Anastase I
أنوشنتيوش الأول
401-417
Inncent I
زوسيموس
417-418
Zosime
بوليفاسيوس الأول
418-422
Boniface I
شالستينوس
422-432
Celestin I
سكستوس الثالث
432-440
Sixte III
لاوون الأول الكبير
440-461
Leon I
هيلاريوس
461-468
Hilaire
سيمبليسيوس
468-483
Simplice
فاليكس الثالث
483-492
Felix III
جلاسيوس الأول
492-496
Gelase I
أنسطاسيوس الثاني
496-498
Anastase II
سيماكوس
498-514
Symmaque
هورميسداس
514-523
Hormisdas
يوحنا الأول
523-526
Jean I
فاليكس الثالث
526-530
Félix III
بونيفاسيوس الثاني
530-532
Boniface II
يوحنا الثاني
532-535
Jean II
أغابيتوس الأول
535-536
Agapet I
سيلفاريوس
536-537
Sylvère
فيجيليوس
537-555
Vigile
بلاجيوس الأول
556-561
يوحنا الثالث
561-574
Jean III
بنيديكتوس الأول
575-579
Benoit I
بلاجيوس الثاني
579-590
غريغوريوس الأول الكبير
590-604
Grégoire I
سابنيانوس
604-606
Sabinien
بونيفاسيوس الثالث
607-؟
Boniface III
بونيفاسيوس الرابع
608-615
Boniface IV
عطا الله
615-618
Deusdedit
بونيفاسيوس الخامس
619-625
Boniface V
أونوريوس الأول
625-638
Honorius I
سفارينوس
640-؟
Séverin
يوحنا الرابع
640-642
Jean IV
ثيودوروس الأول
642-649
Théodore
مرتينوس الأول
649-653
Martin I
أوجانيوس الأول
654-657
Eugène I
فيتاليانوس
657-672
Vitalien
أداوداتوس
672-676
Adéodat
دومنوس
676-678
Domnus
أغاثون
678-681
Agathon
لاوون الثاني
682-683
Léon II
بنيديكتوس الثاني
684-685
Benoit II
يوحنا الخامس
685-686
Jean V
كونون
686-687
Conon
سرجيوس
687-701
Sergius
يوحنا السادس
701-705
Jean VI
يوحنا السابع
705-707
Jean VII
سيسينيوس
708-؟
Sisinnius I
قسطنطين الأول
708-715
Constantin I
غريغوريوس الثاني
715-731
Grégoire II
غريغوريوس الثالث
731-741
Grégoire III
زخريا
741-752
Zacharie
إسطفانوس الثاني
752-757
Etienne II
بولس الأول
757-767
قسطنطين الثاني
767-768
Constantin II
فيلبوس
768-؟
إسطفانوس الثالث
768-772
Etienne III
أدريانوس الأول
772-795
Hadrien I
لاوون الثالث
795-816
Léon III
إسطفانوس الرابع
816-817
Etienne IV
بسكال الأول
817-824
أوجانوس الثاني
824-827
Eugène II
فالنتينوس
827-؟
Valentin
غريغوريوس الرابع
827-844
Grégoire IV
سرجيوس الثاني
844-847
Sergius II
لاوون الرابع
847-855
Léon IV
بنيديكتوس الثالث
855-858
Benoit III
نقولا الأول
858-867
Nicolas I
أدريانوس الثاني
867-872
Hadrien II
يوحنا الثامن
872-882
Jean VIII
مارينوس الأول
883-884
Marin I
أدريانوس الثالث
884-885
Hadrien III
إسطفانوس الخامس
885-891
Etienne V
فرموزوس
891-896
Formose
بونيفاسيوس السادس
896-؟
Boniface VI
إسطفانوس السادس
896-897
Etienne VI
رومانوس
897-؟
Romain
ثيودوروس الثاني
897-؟
Théodore II
يوحنا التاسع
898-900
Jean IX
بونيفاسيوس الرابع
900-903
Benoit IV
لاوون الخامس
903-؟
Léon V
خريستوفوس
903-904
Christophe
سرجيوس الثالث
904-911
Sergius III
أنسطاسيوس الثالث
911-913
Anastase III
لندون
913-914
Landon
يوحنا العاشر
914-928
Jean X
لاوون السادس
928-؟
Léon VI
إسطفانوس السابع
929-931
Etienne VII
يوحنا الحادي عشر
931-935
Jean XI
لاوون السابع
936-939
Léon VII
إسطفانوس الثامن
939-942
Etienne VIII
مارينوس الثاني
942-946
Marin II
أغابيتوس الثاني
946-955
Agapit
يوحنا الثاني عشر
955-964
Jean XII
لاوون الثامن
963-965
Léon VIII
بنيديكتوس الخامس
964-؟
Benoit V
يوحنا الثالث عشر
965-972
Jean XIII
بنيديكتوس السادس
973-974
Benoit VI
بونيفاسيوس السابع
974 و984-985
Boniface VII
بنيديكتوس السابع
974-983
Benoit VII
يوحنا الرابع عشر
983-984
Jean XIV
يوحنا الخامس عشر
985-996
Jean XV
غريغوريوس الخامس
996-999
Grégoire V
يوحنا السادس عشر
997-998
Jean XVI
سلفيستروس الثاني
999-1003
Sylvestre II
يوحنا السابع عشر
1003-؟
Jean XVII
يوحنا الثامن عشر
1003-1009
Jean XVIII
سرجيوس الرابع
1009-1012
Sergius IV
بنيديكتوس الثامن
1012-1024
Benoit VIII
يوحنا التاسع عشر
1024-1033
Jean XIX
بنيديكتوس التاسع
1033-1045
Benoit IX
سلفيستروس الثالث
1044-؟
Sylvestre III
غريغوريوس السادس
1045-1046
Grégoire VI
إكليمنضوس الثاني
1046-1047
Clément II
داماسوس الثاني
1047-1048
Damase II
لاوون التاسع
1048-1054
Léon IX
فيكتور الثاني
1054-1057
Victor II
إسطفانوس التاسع
1057-1058
Etienne IX
بنيديكتوس العاشر
1058-1059
Benoit X
نقولا الثاني
1059-1061
Nicolas II
ألكسندروس الثاني
1061-1073
Alexandre II
أونوريوس الثاني
1061-1064
Honorius II
غريغوريوس السابع
1073-1085
Grégoire VII
اكليمنضوس الثالث
1080-1100
Clément III
فيكتور الثالث
1086-1087
Victor III
أوربانوس الثاني
1088-1099
Urbain II
بسكال الثاني
1099-1118
جلاجيوس الثاني
1118-1119
Gelase II
كاليكستوس الثاني
1119-1124
Calixte
أونوريوس الثاني
1124-1130
Honorius II
أنوشنتيوش الثاني
1130-1143
Innocent II
أنقليتوس الثاني
1130-1138
Anaclet II
فيكتور الرابع
1138-؟
Victor IV
ساليستينوس الثاني
1143-1144
Celestin II
لوكيوس الثاني
1144-1145
Lucius II
أوجانيوس الثالث
1145-1153
Eygène III
أنسطاسيوس الرابع
1153-1154
Anastase IV
أدريانوس الرابع
1154-1159
Hadrien IV
ألكسندروس الثالث
1159-1181
Alexandre III
فيكتور الرابع
1159-1164
Victor IV
بسكال الثالث
1164-1168
كاليكستوس الثالث
1168-1179
Calixte III
أنوشنتيوش الثالث
1179-1180
Innocent III
لوكيوس الثالث
1181-1185
Lucius III
أوربانوس الثالث
1185-1187
Urbain III
غريغوريوس الثامن
1187-؟
Grégoire VIII
أكليمنضوس الثالث
1187-1191
Clément III
ساليستينوس الثالث
1191-1198
Célestin III
أنوشنتيوش الثالث
1198-1216
Innocent III
أنوريوس الثالث
1216-1227
Honorius III
غريغوريوس التاسع
1227-1241
Grégoire IX
ساليستينوس الرابع
1241-؟
Célestin IV
أنوشنتيوش الرابع
1242-1254
Innocent IV
ألكسندروس الرابع
1254-1261
Alexandre IV
أوربانوس الرابع
1261-1264
Urbain IV
أكليمنضوس الرابع
1265-1268
Clément IV
غريغوريوس العاشر
1271-1276
Grégoire X
أنوشنتيوش الخامس
1276-؟
Innocent V
أدريانوس الخامس
1276-؟
Hadrien V
يوحنا الحادي والعشرون
1276-1277
Jean XXI
نقولا الثالث
1277-1280
Nicolas III
مرتينوس الرابع
1281-1285
Martin IV
أونوريوس الرابع
1285-1287
Honorius IV
نقولا الرابع
1288-1292
Nicolas IV
ساليستينوس الخامس
1294-؟
Célestin V
بونيفاسيوس الثامن
1294-1303
Boniface VIII
بنيديكتوس الحادي عشر
1303-1304
Benoit XI
أكليمنضوس الخامس
1305-1314
Clément V
يوحنا الثاني والعشرون
1316-1334
Jean XXII
بنيديكتوس الثاني عشر
1334-1342
Benoit XII
أكليمنضوس السادس
1342-1352
Clément VI
أنوشنتيوش السادس
1352-1362
Innocent VI
أوربانوس الخامس
1362-1370
Urbain V
غريغوريوس الحادي عشر
1370-1378
Grégoire XI
أوربانوس السادس
1378-1389
Urbain VI
بونيفاسيوس التاسع
1389-1404
Boniface IX
أنوشنتيوش السابع
1404-1406
Innocent VII
غريغوريوس الثاني عشر
1406-1409
Grégoire XII
ألكسندروس الخامس
1409-1410
Alexandre V
يوحنا الثالث والعشرون
1410-1415
Jean XXIII
مرتينوس الخامس
1417-1431
Martin V
أوجانيوس الرابع
1431-1447
Eugène IV
نقولا الخامس
1447-1455
Nicolas V
الأكاسرة الساسانيون (226-651).
أردشير الأول
226-241
Ardashir I
شابور الأول
241-272
Sapor I
هورمزد الأول
282-273
Hormizd I
بهرام الأول
273-276
Vahram I
بهرام الثاني
276-293
Vahram II
بهرام الثالث
293
Vahram III
نرسه
293-302
Narseh
هورمزد الثاني
302-309
Hormizd II
شابور الثاني ذو الأكتاف
310-379
Sapor II
أردشير الثاني
379-383
Ardashir II
شابور الثالث
383-388
Sapor III
بهرام الرابع
388-399
Vahram IV
يزدجرد الأول
399-421
Yazdgard I
بهرام الخامس غور
421-438
Vahram V Gor
يزدجرد الثاني
438-457
Yazdgard II
هورمزد الثالث
457-459
Hormizd III
فيروز
459-484
بلاش
484-488
Valash
قباذ
488-531
Kavadh
كسرى الأول أنو شروان
531-579
Chosroés I
هورمزد الرابع
579-590
Hormizd IV
كسرى الثاني
590-628
Chosroés II
أردشير الثالث وهورمزد الخامس
628-632
Ardashir III et Hormizd V
يزدجرد الثالث
632-651
Yazdgard III
الخلفاء الراشدون (632-660).
أبو بكر
632-634
عمر
634-644
عثمان
644-655
علي
655-660
الأمويون (660-705).
معاوية الأول
661-680
يزيد الأول
680-683
معاوية الثاني
683-؟
مروان
683-685
عبد الملك
685-705
الوليد الأول
705-715
سليمان
715-717
عمر بن عبد العزيز
717-720
يزيد الثاني
720-724
هشام
724-743
الوليد الثاني
743-744
يزيد الثالث
744-؟
إبراهيم
744-؟
مروان الثاني
744-750
العباسيون (750-1258).
السفاح
750-754
المنصور
754-775
المهدي
775-785
الهادي
785-786
الرشيد
786-809
الأمين
809-813
المأمون
813-833
المعتصم
833-842
الواثق
842-847
المتوكل
847-861
المنتصر
861-862
المستعين
862-866
المعتز
866-869
المهتدي
869-870
المعتمد
870-892
المعتضد
892-902
المكتفي
902-908
المقتدر
908-932
القاهر
932-934
الراضي
934-940
المتقي
940-944
المستكفي
944-946
المطيع
946-974
الطائع
974-991
القادر
991-1031
القائم
1031-1075
المقتدي
1075-1094
المستظهر
1094-1118
المسترشد
1118-1135
الراشد
1135-1136
المقتفي
1136-1160
المستنجد
1160-1170
المستضيء
1170-1180
الناصر
1180-1225
الظاهر
1225-1226
المستنصر
1226-1242
المستعصم
1242-1285
الطولونيون.
أحمد بن طولون
868-884
خمارويه بن طولون
884-895
أبو العساكر جيش
895-896
أبو موسى هارون
896-904
أبو المناقب شيبان
904-905
الإخشيديون.
محمد الإخشيد بن طغج
935-945
أبو القاسم بن إخشيد
945-960
أبو الحسن علي بن إخشيد
960-966
أبو المسك كافور
966-968
أبو الفوارس أحمد بن علي
968-969
الفاطميون.
المهدي «عبيد الله»
909-934
القائم
934-945
المنصور
945-952
المعز
952-975
العزيز
975-996
الحاكم
996-1020
الظاهر
1020-1035
المستنصر
1035-1094
المستعلي
1094-1101
الآمر
1101-1130
الحافظ
1130-1149
الظافر
1149-1154
الفائز
1154-1160
العاضد
1160-1171
الحمدانيون.
سيف الدولة
944-967
سعد الدولة
967-991
سعيد الدولة
991-1001
أبو الحسن علي، أبو المعالي شريف
1001-1003
الأيوبيون «في القاهرة ودمشق، والنجمة تشير إلى الجمع بين القطرين.» (1) القاهرة
صلاح الدين ⋆
1167-1193
العزيز
1193-1198
المنصور
1198-1199
العادل الأول ⋆
1199-1218
الكامل ⋆
1218-1238
العادل الثاني ⋆
1238-1240
الصالح أيوب ⋆
1240-1249
المعظم طوران شاه ⋆
1249-1250
الأشرف موسى
1250-1252 (2) في دمشق
الأفضل
1186-1196
العادل الأول ⋆
1196-1218
المعظم عيسى
1218-1227
الناصر
1227-؟
الأشرف موسى
1228-1237
الصالح إسماعيل
1237-؟
الكامل ⋆
1237-1238
العادل الثاني ⋆
1238-1240
الصالح أيوب ⋆
1240-؟
الصالح إسماعيل
1240-؟
الصالح أيوب ⋆
1245-1249
المعظم طوران شاه ⋆
1249-؟
الناصر يوسف
1250-1260
المماليك البحرية (1250-1381).
شجرة الدر أرملة الصالح أيوب ؟-1250
المعز أيبك
1250-1257
المنصور علي
1257-1259
المظفر سيف الدين قطز
1259-1260
الظاهر بيبرس
1260-1277
السعيد بركه خان
1277-1279
العادل سلامش
1279-؟
المنصور قلاوون
1279-1290
الأشرف خليل
1290-1293
الناصر محمد
1293-1294
العادل كتبغا
1294-1296
المنصور لاجين
1296-1298
الناصر محمد «ثانية»
1298-1308
المظفر بيبرس
1308-1309
الناصر محمد «ثالثة»
1309-1340
المنصور أبو بكر
1340-1341
الأشرف كجك
1341-1342
الناصر أحمد
1342-؟
الصالح إسماعيل
1342-1345
الكامل شعبان
1345-1346
المظفر حاجي
1346-1347
الناصر حسن
1347-1351
الصالح صلاح الدين
1351-1356
الناصر حسن «ثانية»
1356-1361
المنصور محمد
1361-1363
الأشرف شعبان
1363-1376
المنصور علاء الدين علي
1376-1381
الصالح حاجي
1381-؟
المماليك البرجية (1382-1516).
الظاهر برقوق
1382-1392
الناصر فرج
1392-1405
المنصور عبد العزيز
1405-1406
الناصر فرج «ثانية»
1406-1412
العادل المستعين
1412-؟
المؤيد شيخ المحمودي
1412-1421
المظفر أحمد
1421-؟
الظاهر ططر
1421-؟
الصالح محمد
1421-1422
الأشرف برسباي
1422-1438
العزيز يوسف
1438-؟
الظاهر جقمق
1438-1453
المنصور عثمان
1453-؟
الأشرف إينال
1453-1460
العثمانيون (1299-1453).
عثمان الأول
1299-1326
أورخان
1326-1359
مراد الأول
1359-1389
بايزيد الأول
1389-1401
محمد الأول
1403-1421
موسى
1403-1410
سليمان
1410-1413
مراد الثاني
1421-1451
محمد الثاني
1451-1481
অজানা পৃষ্ঠা