لنحترم الأمل ونحيه، ولو كان في الخرافات والقصص أو في الأغاني والأناشيد العامية؛ لأنه عماد القوة والمنشط الوحيد للعالم، وعليه مدار النظام والترقي. ولكن مما يؤسف له أن إنسان اليوم أكثر الخلائق خوفا من المستقبل، وأقلها أملا؛ فهو يخشى سقوط الرجوم واصطدام الأرض بأحد الكواكب أو المذنبات،
1
ويرقب - في كل لحظة - نهاية العالم ودنو الساعة الأخيرة، ويزيد هذا الخوف تكهن بعض علماء الفلك بأمثال هذه الأمور والهذيان بالنبوات المخيفة؛ لتتناقل الصحف أسماءهم، ولكي يطيرها البرق إلى أنحاء المعمورة، فيصدع بها الآذان ويملأ القلوب خوفا والأفواه شقشقة وأفكا.
فالحكيم من يثق بقدرة الخالق على تدبير ما خلق، وبأن من أوجد النظام الإلهي العجيب ليس بعاجز عن ضبطه وإحكامه، وبأن من خلق هذا العالم البديع لا يتركه للفناء والزوال بغير إرادته ومشيئته، فلا تكون النهاية على ذلك الشكل الخرافي الذي تختلقه وتتوهمه العقول السخيفة. والعقول البشرية مهما ارتقت قاصرة عن إدراك كنه الكون وأسراره العجيبة، وما وقف عليه الإنسان من المعلومات تافه في جانب الحقائق المجهولة والمبهمات الغامضة الخفية. فيجب على المخلوق أن يعترف بالقصور، وأن يكل نظام الكون لخالقه، ويشتغل بأموره الدنيوية، وأحواله الاجتماعية، ويقوي الأمل ما استطاع، ويسد المنافذ في وجه اليأس؛ لأنه من العوامل القاضية على الشجاعة وحب العمل.
ولماذا يتطرق اليأس ما دامت الشمس لم تنقطع عن الإشراق والأرض عن الإنبات؟ لماذا نيأس والحياة لم تزل كما هي؟ فالعصفور يغرد وهو مهتم بصنع وكره وجلب الطعام لأفراخه، والأم لم تزل تبسم لطفلها، والوالد يسعى في طلب الرزق ليعول امرأته وأولاده. لم نيأس ما دامت النجوم ترصع السماء، والقمر يطل بوجهه الفضي على جيوش الظلام فتتبدد وتمحى؟ لماذا نيأس من رحمة الله ونضعف نشاطنا بأمثال هذه الأوهام والأباطيل؟ الأمل الأمل؛ فهو سبيل الفوز والنجاح، وحذار من اليأس؛ فهو مدعاة الفشل والحبوط. •••
الطيبة من لوازم الرجولة، ولست من القائلين: إن الكمال غريزي في الإنسان؛ المعتقدين أن منشأ الفساد العشرة أو البيئة الفاسدتان. ولكنني ممن تسوءهم العادات السيئة، وجلها موروث. ولو قابل الإنسان أصحاب هذه السيئات بما يستحقه المسيء المؤذي لما بقي في العالم نزر من خلق الله. ولا أظن في الوجود من ينكر البغضاء والفساد والتعدي على الغير والاسترقاق، وأشباه هذه الرذائل التي تأباها النفوس ولا تتحملها إلا مكرهة مغلوبة على أمرها. وليس من يشك في أنها من أكبر الوسائل التي توتر القلوب وتملؤها بالأحقاد والضغائن، وتسوق الإنسان سوقا في طريق الانتقام من الظالم بأية وسيلة ومن أي طريق. فلولا الطيبة واستسلام الإنسان لقدرة الخالق وعدله الإلهي لفسدت الأرض وشربت الدماء.
الطيبة ينبوع ماء حي يروي النفوس ويطفئ فيها نار الخصومة، وهي من منح الله التي تحفظ النظام، وتلطف شرور العالم وفجور الإنسان. وهي أبدية لا تزول، وجدت من ابتداء الخليقة وستبقى إلى ما شاء الله، على وفرة ما يناقضها، ويشوه جلالها، ويعمل على محوها من القلب، فإن لها فيه خصوما عدة؛ منها: القسوة، والخبث، وحب السلطة، والأنانية، والكفران بالنعمة . وأقل هذه الرذائل ينزل بالإنسان إلى أحط منازل الحياة وأسفل دركات الشقاء، ويطوح به إلى بؤرة الرذيلة ويسوقه إلى التعدي على مال الغير وحياته، ولكن المألوف انتصار الطيبة على كل هذه النقائص وفوزها عليها جمعاء. وما أكثر الحوادث التي تغلبت فيها الطيبة على كل ضروب القسوة والتوحش، وأخضعتها فدانت لها وصغرت.
الطيبة تصلح ذات البين وتعزي المنكوب وتلطف آلام الشقي وتكمل صاحبها وتجمله، ومن خاصياتها التواضع والصبر على الضيم. الطيبة بلسم الجراح تمسح الدموع، وتقوي الفقير على احتمال الفاقة، وتضمد القلوب المكلومة، وتساعد على السماح والغفران. وهي الصفة الرئيسية التي يحتاجها النوع البشري ويفتقر إليها في كل أدوار الحياة. •••
فمن رام أن يكون على شيء من الاعتدال - بالمعنى الصحيح - فعليه بالتوكل والأمل والطيبة. وإنني لا أريد تخوير عزائم المتطرفين ولا تخدير نشاطهم، كما أنني لا أبغي ردع المولعين بكشف سر المجهول، ولا زجر الباحثين عما وراء الغيب، والمتعمقين في المباحث الفلسفية أو العلمية. وإنما أروم الركون إلى الحقائق بدلا من التشبث بما لا يفيد، والكد وراء ما لا يدرك ولا ينال. فإن من أسرار الحياة والمسائل الاجتماعية ما يتساوى في معرفته والوقوف على غوامضه العالم المفكر والجاهل الغبي؛ لأنها فوق قدرة الاثنين، وليست في متناول العقل والإدراك، فمن أراد الله به خيرا وعى هذه الحقيقة بلا جدل، وكف عن الضلال، وارعوى عن الغي، واعتدل في حياته وفكره.
ورب معترض يزعم أن التوكل من النظريات الدينية التي تثبط الهمم، وتهمد العزائم، وتمنع المخلوق من السعي والدأب على العمل، فيحسن الرد عليه بأن الدين نفسه فرض على الإنسان العمل والسعي في طلب الرزق، فقد جاء في الإنجيل: «بعرق جبينك تأكل خبزك.» وجاء في القرآن:
অজানা পৃষ্ঠা