রুসো: একটি খুব ছোট ভূমিকা
روسو: مقدمة قصيرة جدا
জনগুলি
ولكن ثمة اعتراض وحيد على الأقل على «الخطاب» الأول قدر له أن يظل معلقا دون إجابة في الكتابات الأولى لروسو. فقد اشتكى أحد النقاد - ربما كان الأب رينال الذي تعاون لاحقا مع ديدرو وآخرين في جمع مؤلف ضخم بعنوان «تاريخ الهندين» - من أن روسو قد أخفق في تقديم أي استنتاجات عملية مترتبة على أطروحته، وتجاهل اقتراح علاج للحالة التي وصفها. في «الرد الأخير» على بورد، أقر روسو بصحة هذا الانتقاد، وعلق بأنه رأى الشر وحسب، وحاول أن يضع أصابعه على أسبابه. زعم روسو في هذه المرحلة من حياته أن البحث عن علاج مهمة يجب أن يتركها للآخرين (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). فهو لم يقبل التحدي في مقالته «خطاب عن اللامساواة»، ولا في غيرها من كتاباته التي ظهرت في أوائل خمسينيات القرن الثامن عشر وأواسطها، لكنه لم يدر له ظهره كليا أيضا. ففي أعمال بعينها خلال تلك الفترة أو بعدها بفترة وجيزة والتي لم يقدر لها النشر، سمح روسو لخياله بأن يشطح في أحلام اليقظة السياسية التي قد تبدو وكأنها توعز إلى ضرورة التغيير الجذري، كما في الفصل الثاني من الكتاب الأول لمؤلفه «مخطوطة جنيف»، وهي نسخة مبكرة لمؤلفه «العقد الاجتماعي» الذي كان يشمل رده على بعض ملاحظات ديدرو في «الموسوعة» حيث كان يدعو إلى إقامة «جمعيات جديدة لتصحيح ... عيوب المجتمع بشكل عام» (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ العقد الاجتماعي وكتابات سياسية متأخرة أخرى). وبالتالي، ففي «رسالة إلى السيد دالمبير عن المسرح»، وفي النسخة الأخيرة من «العقد الاجتماعي»، في محاولة لإحياء مثل المجتمع المدني التي فقدتها البشرية، اقترح مجموعة من المبادئ التي من شأنها أن تؤدي إلى سمو مشاعرنا الأخلاقية لا إلى انحطاطها، لكنه اكتشف فجأة أن السلطات في بلده جنيف ومستضيفته فرنسا منزعجة بشدة مما كتب لدرجة أنها رأت في وجوده على أرض بلادها تهديدا للنظام العام.
الفصل الثالث
الطبيعة البشرية والمجتمع المدني
يعتبر «خطاب عن اللامساواة» أهم كتابات روسو المبكرة وأبرزها على الإطلاق، وبالإضافة إلى «العقد الاجتماعي» و«إميل»، كان لهذا العمل أوسع أثر بين أعماله كلها. ولكن أثره على قرائه لم يكن فوريا أو قويا جدا كرد الفعل العام تجاه عمله «خطاب حول الفنون والعلوم» أو «رسالة عن الموسيقى الفرنسية»؛ حيث إنه - على النقيض من «الخطاب» الأول - لم ينل جائزة أكاديمية ديجون التي دخلها روسو به طمعا في الحصول على جائزة جديدة، وافتقر إلى إسهام روسو في جدال كان مثيرا للاهتمام مثل «الخلاف بين الممثلين الهزليين» الذي أثار مشاعر قوية بين أنصار السياسة والموسيقى الفرنسية والإيطالية على حد سواء. حاول هذا العمل، الأقل اهتماما في أسلوبه بالزخارف البلاغية من أعماله السابقة، تقديم تحليل أعمق للحضارة وسماتها المميزة بواسطة حجة أقوى، للمرة الأولى بأسلوب سياسي واجتماعي يمثل حقا إشراق فلسفة روسو التاريخية في أكثر أشكالها نضجا. وبينما حاز هذا العمل بعض الثناء وأيضا قدرا أكبر من العداء من النقاد الفرنسيين، فإن أثره الأعظم أمكن لمسه ربما أولا في اسكتلندا، حيث صاغ آدم سميث «نظرية المشاعر الأخلاقية» خاصته جزئيا كرد على مؤلف روسو، وبنى اللورد مونبودو حجته الخاصة ببشرية القردة العليا في عمله «أصل اللغة وتطورها» في ضوء الافتراضات المتعلقة بهذا الموضوع التي حواها عمل روسو. وفي ألمانيا، استلهم كانط في «فكرة لتاريخ عالمي» وهيردر في «أفكار حول فلسفة تاريخ البشرية» أيضا من مبادئ ذلك الخطاب التطورية؛ فاستلهم كانط تحديدا تمييزه بين تهذيب الثقافة وغرس الأخلاق، بينما استلهم هيردر بصفة أكثر خصوصية رؤيته للتشكل الاجتماعي للغة. وفي عصرنا الحالي، اعتبر كلود ليفي-ستروس هذا العمل الإسهام التنويري الافتتاحي لعلم الأنثروبولوجيا. ورغم أن هذا العمل يستعرض عصورا أقدم مما تناولته أعمال روسو الأخرى، فقد اعتبر أكثر أعماله راديكالية وتقدمية بين أعماله الرئيسية، وبالتأكيد بين الأعمال التي نشرت في حياته.
يرجع جزء من السبب وراء اكتساب هذا العمل تلك المكانة إلى الأسلوب النقدي لتقييمه للمبادئ السياسية السابقة، بما في ذلك المفهومين القديم والحديث للقانون الطبيعي والنظريات المعاصرة للعقد الاجتماعي. وبينما كان هناك تركيز كبير من جانب روسو في هذا العمل على فلسفة اللغة عند كوندياك والتاريخ الطبيعي عند بوفون، وتعرض بالنقد الشديد لبعض أفكارهما، فإن الأفكار السياسية والاجتماعية لكل من هوبز وبوفندورف ولوك، في المقام الأول ، هي التي نالت أكبر قدر من التمحيص والهجوم من جانبه. فقد كان روسو على قناعة بأن هؤلاء المفكرين قدموا رؤية لمصادر الفساد الأخلاقي البشري بشكل كان صحيحا إلى حد كبير بصفة عامة، لكنهم أساءوا فهم الدلالة الحقيقية لأفكارهم. فمن ناحية، فسروا كيف أن الناس في الماضي تعرضوا للتضليل حتى قبلوا المؤسسات التي أفسدتهم أخلاقيا، ولكنهم من ناحية أخرى اعتقدوا أن واجب كل إنسان أن يدعم مثل هذه المؤسسات؛ نظرا لتقديمها حلولا لمشكلة أخرى، وهي مشكلة مختلفة بالكامل من وجهة نظر روسو. ودحضه لأفكار كل من هوبز وبوفندورف ولوك سار تقريبا على نفس الخطوط الأساسية.
في تصدير «خطاب عن اللامساواة»، زعم روسو أنه لا بد أن هناك نوعين من اللامساواة أو التفاوت بين البشر؛ أحدهما طبيعي، ومن ثم فهو خارج عن إرادتنا، والآخر أخلاقي أو سياسي لأنه يعول على الاختيار البشري (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). لاحظ روسو أنه ما من رابط جوهري بين هذين النوعين من اللامساواة؛ وذلك لأن مزاعم الهيمنة التي يطرحها القلة التي تحكم الأغلبية لا يمكن أن تكون ذات تأثير ما لم يتم الإقرار بصحتها، وهذا الإقرار لا يكون هبة من الطبيعة للحكام وإنما يمنحه الناس لهم. ولذا، فإن الشكلين الأخلاقي والسياسي للامساواة اللذين يسودان شتى أرجاء العالم لا يجوز تبريرهما مطلقا بالإشارة إلى أي من الخصال الطبيعية التي تميز الأفراد بعضهم عن بعض. ولو كان العكس صحيحا، لخلقت ممارسة القوة نفسها إلزاما بالامتثال، ولنال البشر حينئذ بشكل ما احترام جيرانهم للسبب نفسه الذي يثير خوفهم منهم. في «العقد الاجتماعي» فسر روسو بإسهاب أكثر أن القوة ليست أساس الحق، وهذا هو موقفه في «خطاب عن اللامساواة» أيضا. فقد اعتقد هو وغيره من منظري العقد الاجتماعي أن القواعد التي تميز بين الأشخاص في المجتمع لا تسود إلا من خلال موافقتهم وحسب؛ ولذا فلا بد أن حالات اللامساواة، بحسب زعم روسو في الجزء الأول من نصه، التي خلقتها الطبيعة «تحولت» إلى حالات اللامساواة التي فرضها البشر (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى).
شكل 3-1: صفحة العنوان والصورة الموجودة في الصفحة المقابلة لها (لوحة «عاد لأنداده») لمقالة «خطاب عن اللامساواة» (أمستردام، 1755).
تصور روسو الفكرة المحورية ل «الخطاب» الثاني خاصته على أنها سرد للكيفية التي ربما شهد بها الجنس البشري تحولا من هذا النوع. فما دام أن أسلافنا في حالتهم الطبيعية لم يكن ليتاح لهم سوى تواصل عارض ونادر فحسب بعضهم مع بعض، فقد زعم أن عناصر التمييز المبكرة بين الأفراد لم تكن لتتمتع بأي حيثية. لكن حالات اللامساواة التي خلقها البشر أنفسهم شكلت السمات السائدة لكل مجتمع (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). في حالتهم الأصلية، كان من الممكن ألا يتمتع أسلافنا «بأي صلات أخلاقية أو واجبات محددة بعضهم تجاه بعض» (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى)، وبما أن الإنسان البدائي لم يكن بحاجة لصحبة المخلوقات الأخرى من أقرانه، ولم يكن لديه رغبة في إلحاق الضرر بهم، لم يتحول ضعفه إلى جبن أو قوته إلى خطر محدق بجيرانه إلا مع ميلاد المؤسسات الاجتماعية وحسب. إن حالات اللامساواة التي نشأت بين الناس في المجتمع، في المقابل؛ حيث تسود العلاقات الثابتة والمحددة، تربط بين الأفراد بعضهم بعضا بشكل دائم عبر قنوات التبعية والسلطة.
ولأنهم، هوبز وبوفندورف ولوك، أخطئوا تماما في تصوراتهم للحالة الطبيعية للبشر، فقد أخطئوا، في المقابل، عندما افترضوا أن كل الأفراد يجب أن يكونوا متساوين في قدراتهم، وتخيل كل من هؤلاء المفكرين أنه كتبعة لهذه المساواة، فإن كل شخص كان سيخشى جيرانه وسيعجز عن العيش في أمان بينهم. إن البشر ذوي القدرات المتكافئة، بحسب زعم هوبز، يمكن أن يسعوا لتحقيق الغايات نفسها على مسئوليتهم الشخصية وحسب؛ لأنه من دون قوة مشتركة تجعلهم يخافون ويحترم بعضهم بعضا، كانوا سيعيشون في حالة حرب دائمة (المواطن، الفصل العاشر، ليفايثن، الفصل الثالث عشر). ولإقرار السلام، كان يجب على البشر تأسيس فكرة الكيان السامي المختلق أو «الإله الفاني»، بحسب افتراضه، الذي يمارس سلطة مطلقة لحماية كل شخص من غيره، بحيث يمكن التغلب على الآثار المدمرة للمساواة عبر إخضاع الأغلبية كلها «لليفايثن». ولذا، بما أن حالات اللامساواة الناتجة عن الحالة الطبيعية لدى روسو كانت غير ذات أهمية بالمرة للبشرية، فبحسب هوبز حقيقة أنه لا بد أن تكون هناك مساواة في عالم ليس له سيد كانت لها أهمية عظيمة، وكانت من بين الأسباب التي جعلت تحقيق السلام في ذلك العالم مستحيلا بطبيعة الحال.
بالنسبة إلى بوفندورف، بالمثل، لا بد أن البشر كانوا متساوين بشكل مثير للقلاقل في حالتهم الأصلية. وعلى الرغم من أنه اتفق مع هوبز على أن الأنانية هي الدافع الأساسي الذي كان يقودنا، لا الإيثار أو الرفقة، فقد حاج بأننا في الحالة الطبيعية وقعنا تحت رحمة عناصر الطبيعة والحيوانات المفترسة؛ مما دفعنا للتكتل معا بسبب ضعفنا وترددنا، لا بشكل إيجابي بل بشكل سلبي، كي نبقى على قيد الحياة (قانون الطبيعة والأمم، الباب الثاني، الفصل الثالث). كان هذا مذهب بوفندورف الخاص ب «النزعة الاجتماعية الطبيعية»؛ وهي الخصلة التي أفضت، بحسب زعمه، بأسلافنا إلى تشكيل مجتمعات تزداد تعقيدا وتطورا باستمرار نظرا للإمكانات اللامحدودة والرغبات النهمة التي يتفرد بها جنسنا. وبالتالي، كان نمو المجتمع السياسي تدريجيا أكثر مما تخيل هوبز، ولكن بالنسبة إلى بوفندورف، فقد وجد بالمثل للتغلب على حالة عدم الاستقرار الخطرة التي تسببت فيها حالة المساواة الطبيعية الخاصة بنا عبر قبولنا بقاعدة الحاكم المطلق. قدم المجتمع المدني أو الحضارة، المتخيلة على هذا النحو، علاجا للشقاء البربري لحالتنا الهمجية. لاحقا، سيسمي كانط نظرية نشأة المجتمع هذه بمبدأ «النزعة الاجتماعية للاجتماع».
অজানা পৃষ্ঠা