كان يزور الفتاة في غرفتها بزقاق السيدة، يبدو غريبا عن المكان بحذائه النظيف اللامع والبدلة المكوية، يميل إلى الألوان الزرقاء الفاتحة أو الرمادية الهادئة، تزوره في دار النشر أحيانا، تراه جالسا وراء مكتبه الكبير بجسمه الناحل ووجهه الشاحب، كالحبيس داخل الجدران، غارق في الأوراق، حوله رفوف الكتب من الأرض حتى السقف، يرفع وجهه ويراها، ينهض مبتسما، قامته صلبة، ظهره مستقيم، يصافحها برقة تنم عن قوة الإرادة، نظرته مباشرة ليس فيها التواء، تجمعه بالعاملين معه صداقة حميمة كأنهم زملاء.
في الصالة الكبيرة كانت تعقد الندوات، عن الكتب والروايات، يشارك فيها الكثيرون، رجال ونساء، منهم رستم وكارمن، تراهما جالسين وسط الجمهور، رأسه إلى جوار رأسها، يدخلان معا ويخرجان معا ذراعه تحوط خصرها، جاء وحده ذات يوم، كانت الندوة عن رواية «بيت الأشباح» لإيزابيل أليندي، أدار الحوار ناقد معروف، قال إنها رواية من الأدب النسائي، لا تغوص في صلب المشاكل الإنسانية، وتضيع في التفاصيل النسوية الصغيرة.
كان سميح قد أعطاها الرواية من قبل، عاشت الفتاة مع الرواية عددا من الليالي والأيام، قرأتها جمالات ومريم الشاعرة، تجتمع الصديقات الثلاثة في السفينة على شاطئ النيل، يتحدثن عن الرواية، قالت مريم إنها رواية جميلة، لم تقرأ رواية مثلها منذ سنين طويلة، قالت جمالات إنها رواية هابطة، تتعارض مع ثوابت الدين والأخلاق، أما الفتاة فقد قرأت الرواية أكثر من مرة، توقفت عند بعض الأجزاء لتعيد القراءة، لتستعيد المعنى وراء الكلمة، تحت السطر، أو ما بين السطر والسطر، ثم قرأت عن حياة المؤلفة إيزابيل أليندي، من شيلي في أمريكا اللاتينية.
كان الناقد الكبير جالسا فوق المنصة، قصيرا سمينا أبيض البشرة، تلمع صلعته الحمراء تحت الضوء، ربطة عنقه فاقعة الألوان، يخرج طرف لسانه ويقول: رواية نسوية فيمنيست.
رفعت الفتاة إصبعها وأخذت الكلمة، عارضت الناقد الكبير، لم تكن المعارضة مألوفة إلا بين الكبار من النخبة، رمقها بنظرة جاحظة من وراء النظارة السميكة، لم تكن هيئتها تنم عن الانتماء إلى النخبة، فتاة مجهولة الاسم شاحبة الوجه ... شوح بيده كأنما يطرد عن وجهه ذبابة.
غمرها العرق والإحساس بالمهانة، كأنما تلقت صفعة على وجهها، أصبحت تجري كأنما تطاردها الأشباح، توقفت عند نهاية شارع الحرية، كان هناك مقهى صغير يبيع الساندويتشات، جلست تسترد أنفاسها، من خلال الزجاج كانت ترى الشارع، وأشعة الشمس الغاربة من وراء المباني، بيوت مصر الجديدة لها أعمدة حجرية تشبه البواكي القديمة، شرفتها كبيرة، نوافذها واسعة تتدلى فوقها الستائر، من خلفها يتحرك أفراد الأسرة السعيدة، آباء وأمهات وأطفال يضحكون، أولاد وبنات، أمامهم فوق المائدة صحون الطعام، يتصاعد البخار في الجو ومعه الضحكات.
تطرق الفتاة في الحزن، خيالها يئن بالألم، ليس لها أسرة، لم تكن لها طفولة، لم تأكل شيئا منذ الصباح، جاء الجرسون، على وجهه ابتسامة حانية كالأم، يسألها ماذا تطلب، اختنق صوتها بدموع حبيسة. - ساندويتش جبنة بيضة وزيتون أخضر، وكوباية شاي من فضلك.
وهي ترشف الشاي رأت من خلال الزجاج سيارة مرسيدس تتوقف عند الرصيف، هبط رستم من بابها الأمامي، تركه مفتوحا، اتجه إلى باب المقهى بخطوات واسعة سريعة، وقف أمامها متكئا بيده فوق المنضدة، صوته متحشرج مبحوح قليلا: كلامك أعجبني جدا، الرواية مدهشة ... والناقد ده معروف إنه مالوش في الأدب، خصوصا الأدب النسائي!
كان بين أسنانها زيتونة خضراء، سقطت من فمها قبل أن ترد، تدحرجت الزيتونة فوق المنضدة حتى لامست يده، التقطها بإصبعين وقذف بها في فمه وهو يضحك: باحب الزيتون الأخضر أوي. •••
أنا سايب العربية دايرة، هاتي الساندويتش والزيتون وتعالي معايا أعرفك بكارمن مراتي، وسميح جاي بعد ما يخلص الشغل. •••
অজানা পৃষ্ঠা