لَكِن قضى عَلَيْهِ حكم نَوعه بِأَن لَا يكون لِحَاجَتِهِ حد وَلَا تخْتَص معيشته بجو من الأجواء وَلَا بِوَضْع من الأوضاع وَأَن يُوهب من القوى المدركة مَا يَكْفِيهِ اسْتِعْمَاله فى سد عوزه وتوفير لذاته فى أَي إقليم وعَلى أَي حَال وَأَن يخْتَلف ظُهُور هَذِه المدارك فى أطوارها وآثارها باخْتلَاف أصنافه وشعوبه وأشخاصه اخْتِلَافا لَا تنتهى درجاته وَلَوْلَا هَذَا لما اخْتلف عَن بَقِيَّة الْحَيَوَانَات إِلَّا باستقامة الْقَامَة وَعرض الْأَظْفَار
وهب الله الْإِنْسَان أَو سلط عَلَيْهِ ثَلَاث قوى لم يساوه فِيهَا حَيَوَان الذاكرة والمخيلة والمفكرة فالمذكرة تثير من صور الماضى مَا ستره الِاشْتِغَال بالحاضر فتستحضر من صور المرغوبات والمكروهات مَا تنبه إِلَيْهِ الْأَشْبَاه أَو الأضداد الْحَاضِرَة فقد يذكر الشىء بشبهه وَقد يذكرهُ بضده كَمَا هُوَ بديهى والخيال يجسم من الْمَذْكُور وَمَا يُحِيط بِهِ من الْأَحْوَال حَتَّى يصير كَأَنَّهُ شَاهد ثمَّ ينشىء لَهُ مِثَال لَذَّة أَو ألم فِي الْمُسْتَقْبل يحاكى مَا ذهب بِهِ الماضى ويهمز للنَّفس فى طلبه أَو الْهَرَب مِنْهُ فتلجأ إِلَى الْفِكر فى تَدْبِير الْوَسِيلَة إِلَيْهِ
على هَذِه القوى الثَّلَاث مستوى سَعَادَة الْإِنْسَان وَمِنْهَا ينبوع بلائه
فَمن النَّاس معتدل الذّكر هادىء الخيال صَحِيح الْفِكر ينظر مثلا فى حَال مُسْرِف أنْفق مَاله فى غير نَافِع وَضَاقَتْ يَده عَمَّا يُقيم معيشته فيذكر ألما لحَاجَة مَضَت ثمَّ يتخيل المَال ومنافعه وَمَا تتمتع بِهِ النَّفس من اللَّذَّة بِهِ سَوَاء فى سد حاجاته أَو فى دفع الْأَلَم الذى يحدثه مشْهد الْفَاقَة فى غَيره بِإِعْطَاء الْمُضْطَر مَا يذهب بضرورته ثمَّ يتخيل ذَلِك المَال آتِيَا من وجوهه الَّتِى لَا يتَعَلَّق بهَا حق من حُقُوق غَيره وَعند ذَلِك يُوَجه فكره لطلب الْوَسِيلَة إِلَيْهِ من تِلْكَ الْوُجُوه بِالْعَمَلِ القويم فى اسْتِخْدَام مَا وهبه الله من القوى فى نَفسه وَمَا سَخَّرَهُ لَهُ من قوى الْكَوْن الْمُحِيط بِهِ
وَمن النَّاس منحرف عَن سنَن الِاعْتِدَال يرى مَالا مثلا فى يَد غَيره فيتذكر لَذَّة ماضيه أَصَابَهَا بِمثل هَذَا المَال ويعظم لَهُ الخيال لَذَّة مثلهَا فى الْمُسْتَقْبل
1 / 40