سَبِيل ذَلِك كَأَنَّهُ يرى فى بذل هَذِه الْحَيَاة أمنا على حَيَاة أُخْرَى تشعر بهَا نَفسه وَإِن لم يحددها عقله وَمِنْه معاناة التَّعَب فى كشف مَا عمى عَن علمه من حقائق الْكَوْن كَأَنَّهُ لَا يرى الْمَشَقَّة فِي ذَلِك شَيْئا بِالْقِيَاسِ إِلَى مَا يحصل من لَذَّة الاطمئنان على الْحق بِقدر مَاله من الِاسْتِطَاعَة
وعد من اللذيذ المستقبح مد الْيَد إِلَى مَا كَسبه الْغَيْر بسعيه واستشفاء ألم الحقد بِإِتْلَاف نفس المحقود عَلَيْهِ أَو مَاله لما فى ذَلِك من جلب المخافة الْعَامَّة حَتَّى على ذَات المتعدى ويمكنك من نَفسك استحضار مَا يتبع الْوَفَاء بالعهود والعقود والغدر فِيهَا
كل هَذَا عرفه الْعقل الْبُشْرَى وَفرق فِيهِ بَين الضار والنافع وسمى الأول فعل الشَّرّ والثانى عمل الْخَيْر وَهَذَا التَّفْرِيق هُوَ منبت التَّمْيِيز بَين الْفَضِيلَة والرذيلة وَقد حددهما النّظر الفكرى على تفَاوت فى الْإِجْمَال وَالتَّفْصِيل للتفاوت فى دَرَجَات عقول الناظرين وناط بهما سَعَادَة الْإِنْسَان وشقاءه فى هَذِه الْحَيَاة كَمَا ربط بهما نظام الْعمرَان الْبُشْرَى وفساده وَعزة الْأُمَم وذلتها وضعفها وقوتها وَإِن كَانَ المحددون لذَلِك والآخذون فِيهِ بحظ من الصَّوَاب هم الْعدَد الْقَلِيل من عقلاء الْبشر
كل هَذَا من الأوليات الْعَقْلِيَّة لم يخْتَلف فِيهِ ملى وَلَا فيلسوف فللأعمال الاختيارية حسن وقبح فى نَفسهَا أَو بِاعْتِبَار أَثَرهَا فى الْخَاصَّة أَو فى الْعَامَّة والحس أَو الْعقل قَادر على تَمْيِيز مَا حسن مِنْهَا وَمَا قبح بالمعانى السَّابِقَة بِدُونِ توقف على سمع وَالشَّاهِد على ذَلِك مَا نرَاهُ فى بعض أَصْنَاف الْحَيَوَان وَمَا نشهده فى أفاعيل الصّبيان قبل تعقل مَا معنى الشَّرْع وَمَا وصل إِلَيْنَا من تَارِيخ الْإِنْسَان وَمَا عرف عَنهُ فى جاهليته
وَمِمَّا يحسن ذكره هُنَا مَا شَاهده بعض الناظرين فى أَحْوَال النَّمْل قَالَ كَانَت جمَاعَة من النَّمْل تشتغل فى بَيت لَهَا فَجَاءَت نملة كَأَنَّهَا الْقَائِمَة بمراقبة الْعَمَل فرأت المشتغلات قد وضعت السّقف على أقل من الِارْتفَاع الْمُنَاسب فَأمرت بهدمه
1 / 38