لا شك أن الطرب والإعجاب أساسهما صورة أزلية مشتركة اسمها «الجمال»، وهنا نقف لنتساءل هل وظيفة هذه الصفة الثابتة المشتركة أن تخلع على نفسها الأشياء فحسب، بل هناك وظيفة هي أن يعرف الناس أن العالم ظلال وأشباح، وأن هناك حقيقة كبرى كاملة، وأن الناس يجب أن يؤمنوا بها ويتطلعوا إليها ويعملوا على الوصول إليها. نصل إلى نقطة هامة في طبيعة الفنان، فالفنان هو الذي يرى الجمال في صورته الأزلية الحقيقية، وعليه بعد ذلك أن يجلوه للناس أو بعبارة أخرى: يجسم الصورة، فالجمال إذن غرض الفنان من حيث إنه موضع رؤيته، وغرض العمل الفني لأنه يرمي إلى تجسيد الجمال، وغرض النظارة لأنهم يتطلعون عن سبيله إلى القيم العليا الخالدة، والفنان بالطبع يستعمل المادة الخام ليجسم بها الصورة، أما من جهة التمثيل فإن النظارة هم الأشباح والممثل هو الذي تتجلى الحقيقة الفنية على لسانه.
والآن هل يمكن تطبيق نظرية المثل على الأخلاق؟ إن أفلاطون يقول: إن الحقيقة التي لا نعثر عليها في الأشياء، نعثر عليها في عالمين: عالم المنطق والرياضة، ثم عالم الأخلاق، ففي العالم الأول هناك حقائق ثابتة يمكن الاطمئنان إليها، فمثلا الكل أكبر من الجزء، و أ
2 − ب
2 = (أ + ب) (أ − ب) هذه حقائق ثابتة لا جدال فيها، أما في عالم الأخلاق فإن هناك إيمانا لا يرقى إليه الشك في جميع النفوس بلا استثناء، أن الخير أحسن من الشر، وأن العدل أحسن من الظلم، إن هذه المثل الإنسانية إنما هي ظلال لمثل عليا.
هذه المثل الثابتة - هذه النماذج - يتوسطها الخبر كملك نوراني متوج، وبناء على ذلك يكون الخير عند «أفلاطون» موضوعيا؛ أي تابع لخير خارجي. ولكن السؤال المحير هو هذا: كيف تقول: إننا نعرف صورة الخير لأنها أزلية في نفوسنا، ومع ذلك تقول: إن الخير خارجي؟ وبعبارة أخرى: كيف تجثم الحقيقة الكبرى في أعماقنا ثم تبدو في ظلال ناقصة، وكيف لا تؤدي الرحمة الثابتة المتأصلة في نفوسنا إلا إلى عالم مشوه معطوب حافل بالقسوة والشرور؟
لم يجب أفلاطون على هذا السؤال، ولن يجيب أحد.
ننتقل الآن إلى سيكولوجية أفلاطون.
يقول «أفلاطون»: إن السلوك الإنساني ينبع من ثلاثة ينابيع: الرغبة والعاطفة والمعرفة، والرغبة والشهوة والدافع والغريزة شيء واحد، والعاطفة والطموح والشجاعة شيء واحد، والمعرفة والفكر والذكاء والتعقل شيء واحد، والرغبة مركزها بين الفخذين، وهي قدر يغلي من الطاقة البشرية، وأكثرها جنسي، أما الانفعال فمركزه القلب، وأما المعرفة فمركزها الدماغ، وهذه الينابيع مشتركة في الرجال جميعا ولكنها تختلف قوة، ولكي يتم أي عمل منظم يجب أن تتحد المنابع الثلاثة بانسجام، وما يقال عن الأشخاص يقال عن الدول، فالدولة الكاملة هي التي تتسق بها القوى الثلاثة على شرط أن يكون العقل قائدها.
وإن الاختلال يحدث حين تختلط الأمور ويوضع الشيء في غير مكانه، فيحل الاقتصادي مكان الجندي، والجندي محل الفيلسوف، والإنسان يتسم بالعدل حين تنسجم في نفسه القوى الثلاثة على أن تخضع للعقل، والعدل الفردي هو ذلك الانسجام الناشئ من جمال الروح، والعدل الاجتماعي هو الأثر الظاهر من انسجام قوى الدولة وحلول كل قوة مكانها الطبيعي.
وهنا نعجب لأن «أفلاطون» تكلم عن «غول الشهوة» الذي تكلم عنه «فرويد» غير أنه يضيف أن هذا الغول يطغى بالإفراط في المأكل والمشرب والملذات، وقد يؤدي ذلك إلى جريمة جنسية كعشق الوالدين مثلا «مركب أوديب!» ويقول «أفلاطون»: إن هذا الغول فينا جميعا غير أن بعضنا يعطيه القياد، وبعضنا يحول قوته الطاغية إلى قوة منظمة خيرة. ويعتقد أفلاطون أن الموسيقى تنيم هذا الطاغية، وقد ضرب مثلا بقسيس كان يعالج المصابات بالهستريا بواسطة الموسيقى.
অজানা পৃষ্ঠা