إن «سقراط» كان يدعي الجهل عمدا لكي يصل إلى الحقيقة، وقد كان صارما عنيفا في الوسيلة التي تصل به إليها، يتضح ذلك من محاورات «أفلاطون»، فقد كان يعتصر محاوره في الجذل اعتصارا حتى يجعله يثور ويجبن، على أنه لا يلبث أن يهدأ حين يقوده «سقراط» بيده إلى الطريق الذي يكشف له الحقيقة.
وقد كان «سقراط» كذلك عنيفا في آرائه السياسية، فقد كان لا يؤمن بالديمقراطية، إذ كان يعتقد أن الذكاء هو الذي يجب أن يحكم، وله رأي في الديمقراطية عجيب، هو أن الجماهير أبواق نحاسية تظل تدوي حتى يأتي من يسكتها بيده، ولا ندري أكان «سقراط» يتنبأ بما ستصنعه الديمقراطية يوما من الأيام، هل كان يدري أنه على يديها سيتناول كأس السم ذات يوم؟
على أن ديمقراطية أثينا كانت تامة بقدر ما كانت شاذة خرقاء، فقد كان عدد سكان أثينا 300000 منهم 20000 عبيد والباقي أحرار، يؤخذ صوتهم جميعا فيما يهم الدولة من الشئون.
على أن الديمقراطية أسلمت زمامها فيما بعد إلى أوليجارشية - أي جماعة من الأثرياء - يحكمون أثينا، ولكن الحرب بين أثينا واسبارطة أدت إلى نفي هؤلاء، وعلى رأسهم «كريتياس» عم «أفلاطون»، ولكنهم صدر عنهم عفو فما لبثوا أن عادوا من المنفى وأعلنوا الثورة على الديمقراطية، غير أنهم هزموا وقتل «كريتياس» وقبض على «سقراط» بتهمة أنه أفسد أخلاق الجيل، ونشر الكفر والزندقة، بينما السبب الحقيقي المستتر وراء كل هذا، هو مبدؤه السياسي، وتندره بالديمقراطية، وخلاصته كل ما سبق، وأهميته من حيث موضوعنا أن «كريتياس» عم «أفلاطون»، و«سقراط» أستاذه.
كان لقاء «أفلاطون» بسقراط شيئا هاما جدا في حياته؛ فلقد ولد أفلاطون في الثراء والمجد والنعمة والسعة، وكان رياضيا أوتي بسطة في الجسم ووسامة في الوجه، وحتى اسمه
معناه «عريض الألواح» ومن الواضح أنه ليس من السهل أن ينشأ الفلاسفة من هذا الوسط، ولكن التلميذ ما لبث أن تأثر بأستاذه، حتى لقد قال: «أحمد الله على أني ولدت إغريقيا، وولدت حرا غير عبد، ورجلا لا امرأة، وأني ولدت في عصر سقراط.»
كان «أفلاطون» في الثامنة والعشرين حين مات أستاذه، ولعل موت أستاذه بالسم، بعد المحاكمة الشهيرة ملأه حقدا على الجماهير حتى أساء الظن بهم، وفكر في طريقة جديدة لتهذيبهم، وأخذت الفكرة تتطور حتى صارت مشغلة حياته. ومما يذكر أن أفلاطون صنع ما يستطاع لكي ينقذ «سقراط» فلم يستطع، وعرض نفسه للشبهات والتهم والأقاويل، فنصحه أصدقاؤه بالهرب، فأخذ يستعد للرحيل والتجوال فرحل إلى مصر سنة 399 قبل الميلاد، ففوجئ بما رآه وشاهده بمصر مما لم يكن يتوقعه، إذ قال له الكهنة المصريون: إن اليونان مدينة طفلة لا عراقة لها في التقاليد والثقافة، ولقد راعته مصر بسبقها في العلم وإتقان الزراعة، وبقي هذا في ذهنه حتى رسم صورة للمدينة الفاضلة، ولقد رحل عن مصر كأنما صدم في غروره، فقصد صقلية فألفى هناك أتباع «فيثاغورث» الذين كأنما وجدوا أمامه ليتموا صورة المدينة الفاضلة في ذهنه، فقد ألفى نفرا من الحكماء الزاهدين الفلاسفة، قد انقطعوا للتفكير والفلسفة والحكم، ثم لبث اثني عشر عاما بعد ذلك يضرب في الآفاق من بلد إلى بلد حتى لقد ذكر بعض المؤلفين أنه وصل إلى حدود الهند، ثم عاد إلى أثينا 387ق.م وعمره إذ ذاك أربعون سنة، وقد أنضجه السفر وهذبه التجوال وثقفه، فاختلط عنده العلم بالفلسفة بالحكمة بالشعر في امتزاج عجيب، ولقد اتخذ لنفسه أسلوبا في التعليم والكتابة اجتمع فيه الجمال بالصدق، والدقة بالبيان الناصع، والواقع أن الصعوبة في فهم أفلاطون ترجع أحيانا إلى ذلك الأسلوب الشعري الذي تخلله السخرية أحيانا، فإن الإنسان حينما يقرؤه يحار أهو يجد أو يمزح! وأحيانا يجد الإنسان نفسه سابحا في جو غامض لذيذ يحمله على جناحين مسحورين يلهيانه عن التساؤل عن معنى كل ذلك.
والعجيب أن «أفلاطون» يجمع في أسلوبه المتناقضات التي عابها على الآخرين؛ فهو لا يحب الشعراء، ومع ذلك له أسلوب الشاعر، وهو لا يحب الكهنة والوعاظ، ومع ذلك فهو يعظ، ويدعو إلى الدين في أكثر من موضع، وينعي على السفسطائيين بيانهم وثرثرتهم وهو لم يخل من الثرثرة والاسترسال في البيان المجلجل في أكثر من موضع واحد.
على أنه مهما يكن من ذلك فإن «أفلاطون الفلسفة والفلسفة أفلاطون» كما قال «أمرسون».
هذه هي النواحي التي تتناولها فلسفته، ولن نتصدى لها بأكثر من إلمامة خاطفة، فإني كما قلت سابقا: لست في هذا الخضم المتلاطم أكثر من سائح أو دليل. (1)
অজানা পৃষ্ঠা