12
وبذلك يكون سبينوزا سابقا على كانط وهيجل في هذا اللون من التفكير السياسي من أجل تحديد الصلة بين الفكر والواقع، أو بين الدين والدولة، أو بين مهمة المفكر ومهمة السياسي. في حين أن مالبرانش اقتصر على التبشير بالمسيحية حتى حدود الصين، وأن بسكال رضي بملكوت السموات، ورفض ملكوت الأرض كما فعل أوغسطين من قبل، وأن ليبنتز قدم مشروعا لغزو مصر باعتباره نقطة الالتقاء بين الشرق والغرب، أي أنها الرابطة الجوهرية
Vainculum Substantiale
التي يبحث عنها ليبنتز في حساب التفاضل والتكامل وفي حساب الاحتمالات.
لقد قيل دفاعا عن ديكارت إن موقفه من رجال الدين ومهادنته لهم إنما هو موقف ذكي، اتخذه ديكارت حتى يحتوي رجال الدين من الداخل، ولا يصطدم مع السلطة بالتناطح والمواجهة. يكفيه أنه وضع قنبلة زمنية انفجرت بعده في سبينوزا وفولتير، وتناثرت شظاياها في العصر الحديث بطوله وعرضه. وسواء أكان هذا الدفاع عن حق أم عن حب، فإن الثورة الحقيقية في الفكر الديني والواقع السياسي قد قام بها سبينوزا. رسالة سبينوزا إذن ثورة على الأوضاع الثقافية والسياسية في عصره بل وفي كل عصر، وتطبيق للنور الطبيعي في مجال الدين والسياسة حتى لا يخلط الناس بين البدع الإنسانية والتعاليم الإلهية، أو بين التصديق الساذج والإيمان الصادق، أو بين الجدل البيزنطي في الكنائس وبين الإحساس الطبيعي بالعدل والخير، أو بين الفتن والمصادمات بين الطوائف باسم الدفاع عن الدين وبين السلام الداخلي في الإنسان وفي الدولة. أراد سبينوزا البحث عن الوضوح والتميز في الواقع الديني والسياسي، وألا يقبل شيئا على أنه حق في أمور الدين أو الدنيا ما لم يكن كذلك، فإن كان ديكارت قد وجد في المنهج الاستنباطي بغيته وطريقه إلى التصديق بالرسالات السماوية، وإذا كانت مهمة ديكارت والعصر الحديث معه هي تبرير الدين، فقد كانت مهمة سبينوزا تأصيل الدين وإخضاع الكتاب المقدس للنقد التاريخي.
ولا وجه للمقارنة بين مقدمة التأملات التي يهدي فيها ديكارت كتابه إلى علماء أصول الدين وبين آخر فقرة في مقدمة رسالة سبينوزا التي يخضع فيها رسالته للسلطات العليا في هولندا. فديكارت يؤكد أن ليس في تأملاته ما يعارض الدين، بل إنه يحتوي على تأييد لأهم قضاياه: وجود الله، وخلق العالم، وخلود النفس؛ أي أنه لم يأت بجديد بالنسبة لمفكري العصر الوسيط إلا من حيث الطابع الشخصي الأوغسطيني، هذا الطابع الموجود أيضا لدى سبينوزا. أما فقرة سبينوزا فإنها تدل على استعداده لمقارعة الحجة بالحجة، وهو يعلم أن نتائج بحثه في الوحي الإلهي وفي نظام الحكم ستؤدي حتما إلى انقلاب القوم عليه. فديكارت يصالح رجال الدين، ويهادن النظم الملكية، وسبينوزا يبغي المصلحة العامة ضد رجال الدين، وضد نظم الحكم القائمة، ويعلم أن الأمانة الفكرية، والبحث العلمي، والموقف الشريف، أجدى على الدولة وعلى سلامتها وأمنها من النفاق الفكري، والتشويه العلمي، والتملق للسلطة، والسعي لها.
وإذا كان ديكارت هو المسئول عن كل تبرير للعقائد في صياغة جديدة وعن وضع التعالي بدل الله، فإن سبينوزا هو المسئول عن كل دراسة علمية أي نقدية ونفسية لها، وعن وضع الله في النفس البشرية مؤمنا بالحلول الميتافيزيقي. وإذا كان ديكارت هو المسئول عن «ثنائية العصر الحديث» من قسمة الوجود إلى إله خالق وعالم مخلوق، وقسمة الإنسان إلى نفس خالدة وبدن فان، فإن سبينوزا هو المسئول عن إعادة الوحدة في الوجود، بالتوحيد بين الطبيعة الطابعة والطبيعة المطبوعة، وفي التوحيد بين النفس والبدن، وجعل النفس فكرة البدن. فإذا كان ديكارت صاحب إصلاح جزئي بالنسبة للفكر الديني في العصر الوسيط، فإن سبينوزا هو صاحب الثورة الجذرية في الفكر الديني في العصر الحديث. وإذا كان البعض منا في أوائل هذا القرن يروج لديكارت صاحب أنصاف الحلول، فالأجدى بنا في النصف الثاني من هذا القرن البحث عن الحلول الجذرية كما فعل سبينوزا منذ أكثر من ثلاثة قرون.
13
ثالثا: موضوع الرسالة
يحدد سبينوزا موضوع الرسالة في العنوان التوضيحي الذي يضعه بعد العنوان الأول «وفيها تتم البرهنة على أن حرية التفلسف لا تمثل خطرا على التقوى أو على السلام في الدولة، بل إن القضاء عليها يؤدي إلى ضياع السلام والتقوى ذاتها.» للرسالة إذن هدفان؛ الأول: إثبات أن حرية الفكر لا تمثل خطرا على الإيمان، أو بتعبير آخر، أن العقل هو أساس الإيمان. والثاني: إثبات أن حرية الفكر لا تمثل خطرا على سلامة الدولة، أي أن العقل أيضا هو أساس كل نظام سياسي تتبعه الدولة.
অজানা পৃষ্ঠা