ولكنه لم يقف ولم يعتدل ولا حتى رفع ذراعا أو حرك ساقا. رقدة ولو أنها لم تأخذ وقتا إلا أنها أثارت استنكارا؛ فقد أحس الجميع أنها رقدة استسلام غريبة للثور القادم المنقض، أو بالأصح لما وراء هذا الثور القادم المنقض، وكأنما بفعل صاعقة وجدانية شاملة مكتسحة. في ذلك الجزيء من الوقت أحسست لفرط تآزري معه في معركته، لفرط تبن لموقفه، لقوة الخيط الذي يصل بيني وبينه والذي كاد يسحب مني الروح لتحل بجسده، أحسست وكأنما الشلل الذي انتابه قد شلني أنا الآخر وأصابني، شلل لا تفسير له ولا تبرير، شلل ساعة حدوثه لا تستطيع أبدا تبينه أو إدراكه، لا تحس به إلا هناك حينما تجلس مثلي على مكتب تستعيد ما حدث وأمامك الوقت متسعا للتأمل والتحليل والتبرير. لطالما سمعت عن تلك اللحظة وقالها الناس أمامي وسخرت من قولهم، تلك التي يقولون عنها إن «سهم الله» قد نفذ فيهم فأوقف التفكير وشل الجسد وأعمى الروح. تلك التي تحدث لنا حين نواجه بغتة خطرا لا قبل لنا به، أو قوة غاشمة عاتية لا يمكننا أبدا مقاومتها. إنها آخر مراحل وقوفنا أمام تلك القوة. إننا أساسا كبشر لا نعترف بوجود قوة غاشمة لشيء في الكون لا قبل له به. وحين نرى تلك القوة أو نلمحها وبيننا وبينها مسافة، مسافة مترية أو زمنية أو نسبية، مسافة «أمن» نسبي؛ فأول شيء نفكر فيه أن نقاوم تلك القوة ونعاديها ونحاربها، هكذا تلقائيا وغريزيا وبصفتنا كائنات حية، حتى لو اضطررنا للهرب منها ففي الهرب معاداة وكره، تماما مثل ما في المواجهة من معاداة وكره. ونظل في حرب معها، في إحساس شامل بمقاومتها والرغبة في تحطيمها وتشتيتها حتى تنجح تلك القوة في الاقتراب منا وتهديدنا، وتخرق بهذا خط أمننا النسبي. حين يحدث هذا ونروع نحن باندحار هذا الخط وبأن هذه القوة الغاشمة قد اقتربت منا ومن تهديدنا إلى درجة أصبحنا معها تحت رحمتها، وبأن لم يعد هناك مفر ولا مهرب، وحينئذ يبدو وكأنما قانون كقوانين الجاذبية يطبق؛ فكما يجذب الجسم الكبير الأجسام الأصغر منه يحدث أن تتحكم القوة الغاشمة الأكبر في قوتنا الإنسانية المحدودة وتفرض عليها نفسها فلا تعود أجسامنا تتلقى أوامرها من عقولنا ووعينا، ولكنها تخضع خضوعا أوتوماتيكيا مباشرا لهذه القوة الغاشمة الكبرى، وبدلا من أن تحدث المقاومة بفعل العقل والوعي وغريزة الدفاع عن النفس يحدث الشلل، الشلل الكامل الشامل بفعل هذه القوة الأكيد مباشرة وبأمرها، تلك اللحظة التي نسميها مرة أن سهم الله قد نفذ فيها، أو أن القضاء قد حم والأجل قد انتهى، أو التي لنا أن نسميها لحظة انهيار خط الأمن النسبي وتحكم القوة الغاشمة فينا.
والحدث كما وقع أمامنا تم ببساطة وكأنه دورة أخرى من دورات «الميوليتا». سقطة، وارتفعت على أثرها وقفة وشهقة جماعية مرعبة، شهقة كالصرخة، كالطلقة، وكأنها العون السريع تقدمه يد الضعفاء الكثيرين غير المنظورة التي تمتد لتمنع عن الضعيف الواحد الذي انهار خط أمنه الأذى الغاشم الذي لا قبل له به. ثلاثون ألف يد غير منظورة امتدت لتساعده، ولكن كيف تستطيع أيد غير منظورة حتى لو كانت تعد بالملايين وملايين الملايين أن تمنع القدر الغاشم أن يقوم بعمله؛ فعلى أثر الشهقة تماما؛ إذ الحدث لم يأخذ سوى الوقت الذي استغرقته الشهقة، كان الثور قد وصل إليه، وبغل أسود مجنون، وباندفاعه الأهوج الأعظم، نفذت قرونه من خلال صدر الشاب المزركش إلى رمال الأرض. وكانت الطعنة الأولى التي تبيناها؛ إذ على أثرها تداخلت الأحداث والأشياء والأزمان، تأوه أناس وكأنما هم الذين أصيبوا بالطعنة، وأشاحت سيدات بوجوههن وشاركن الرجال، وسقطت قلوب ودقت أرجل وأغمي على كبار. والخوف الأكبر، الخوف الذي كان يرهبه الجميع منذ أول لحظة، ذلك العقاب القابع في مكان خفي من «الأرينا»، ثمة إحساس جامح شامل أنه أخيرا وقع، أخيرا انقض وبمخالبه العزرائيلية يضرب ويطعن ويقتل أعز مخلوق. ألف ألف انفعال يجمعها كلها شعور عارم جارف واحد أنه ضاع وانتهى، كأنما القوة الغاشمة قد اخترقت خطوط أمنهم هم الآخرين أجمعين، ولم يعودوا يملكون سوى شلل الحسرة وانفعالات الجامدين. وكيف كان باستطاعة أي منهم - باستطاعتي أنا - أن يشيح بوجهه أو يهرب من مواجهة المصير؟ ومن أين كانت تواتيني الشجاعة أن أغمض عيني عما يحدث؟ إنها المأساة، مأساتي في صاحبي، صاحب اللحظة الذي بدا لي فجأة وكأنه صاحب العمر. من أول دقيقة والهاتف اللعين في خاطري يؤكد لي أنه في هذه المرة لن يفلت، وأناضله بجنون في انتظار معجزة المعجزات، ولكني بدلا منها أرى الطعنات، أرى رأس الثور يرتفع كمقبض الخنجر، ثم يهوي ليغيب نصلا القرنين فيما كنت أعتقد أنه الأرض أحيانا، وفي ملابسه أحيانا أخرى، ليثبت لي بعد هذا بكثير أنها كلها كانت في جسده، في صدره وبطنه وجذر عنقه وتحت إبطه.
وماذا أقول؟ أأقول إن كل هذا لم يستغرق زمنا ما وكأنه عاصفة هول هبت فجأة ودارت دورة سريعة ثم اختفت، دورة أسرع من أن يلحقها الميتادورات السبعة بعباءاتهم والقدر بمعجزة من معجزاته، بل أسرع حتى من أن أتبين، مع أني كنت قد تحولت بكلي إلى عينين جاحظتين، على وجه التقريب كنه ما حدث؟ كان في رأسي من أول ومضة للأزمة طبل حزين كبير مجلل بالسواد مضى يدق في سرعة تشجب قدسية الحزن. إنه الثور هذه المرة، القوة الغاشمة الجاهلة الحمقاء هي التي تفتك، والضحية هي الكائن الإنسان الراقي الشاعر المرهف الراقد تحت رحمة الوحش الذي لا يرحم. كم بدا لي البطل ضعيفا في تلك اللحظة، طفلا، ضنى عزيزا! كم غلت في عروقي دماء أعمق وأقوى القرابات، قرابة الإنسان البشري للإنسان البشري تلك التي تدفعنا بلا وعي أو إرادة لنجدة المأزوم إذا استغاث وحتى إذا لم يستغث! لم يكن ما كنت أحسه من هلع ليختلف كثيرا لو أن المطعون كان ابني أو أخي أو أبي؛ فقد كنت في أقصى درجات الهلع وأقصى درجات الغضب وبآخر ما أستطيعه من حزن كنت أضيق، وبأقوى ما أستطيعه من هلع كنت أحقد على عدو الميتادور وعدوي وعدو كل من في الساحة وعدو البشر، القوة القاهرة العمياء الغاشمة - أية قوة عمياء غاشمة - وليس عليها هي بالذات، ولكن عليها حين نراها أقوى بكثير منا وأقدر، حين نراها في انتصار عارم ملموس ونحن في هزيمة ساحقة باردة واقعة.
وأبعدوا الثور عنه، إلى أين؟ لم ير أحد. كانت العيون كلها هناك منصبة فوق رقدته التي لم تطل، فما لبث أن أقبل زميلان له ودون أن يرفعاه وقف ومعه وقفت أرواحنا وأنفاسنا ودقات القلوب. أيكون ما رأيناه خداع بصر؟ ها هو ذا أمامنا وبعد كل تلك الطعنات يقف دون مساعدة من أحد. لا بد أنها لم تصبه، لا بد أنها جاءت عشواء وحادت عن الهدف، ولكنها آمال أيضا لم تطل؛ فقد حدث شيء؛ إذ وكأنما كان قد استنفد كل ما لديه من حلاوة الروح، انثنى فجأة برقبته وهو واقف على صدره، ووضع يده على ثديه الأيمن، وقبل أن يتهاوى كان زميلاه قد رفعاه فيما بينهما وبسرعة مضيا يعبران به الساحة تحت خيمة سكون مذهل مرعب.
وحين اقترب الموكب منا لمحت بقعة الدم في نفس المكان الذي وضع فيه يده على صدره، وجف ريقي وأحسست أن قلبي قد انتقل إلى رأسي ومضى ينبض في حيزها المحدود بقوة تسحق العقل.
وأدخلوه من باب يفتح على الساحة ومكتوب عليها «المستشفى »، ولم يمنعني ما كنت فيه من أن أدرك أني لم ألحظ وجود هذا الباب ووجود المستشفى نفسه قبلا.
ورغم ما كنت فيه أيضا وجدتني ألتفت فجأة إلى يساري حيث الفتاة الكوبية، وأكثر ما أدهشني أني وجدتها لا تزال في مكانها. كنت أتوقع أن أجدها قد قفزت الحاجز وسبقته إلى باب المستشفى، ولكنها كانت هناك لا تزال منكفئة على حديد «الدرابزين» مخفية وجهها ممسكة الحديد بقوة أذهبت الدماء من يديها حتى بدتا شاحبتين كأيدي الموتى.
ولم يدم السكون طويلا؛ فما لبثت الهمسات الملحة أن بدأت تسري وتتساءل عن مصيره وعن مدى ونوع جروحه بلا إجابات تشفي غليلا؛ إذ باب المستشفى كان قد أغلق عليه وحده ومعه الممرض والطبيب، ولم يسمح لأحد بالدخول أو حتى مجرد الاستفسار.
ومرت بضع لحظات لا زلت لا أدري ماذا كان يدور بخاطري فيها، كل ما أستطيع أن أؤكده أني كنت تائها مذهولا، ذلك النوع العميق المستمر من الذهول، مفجوعا، وكأني المفجوع الوحيد، أو كان فجيعتي أكبر من فجيعة الآلاف الثلاثين مجتمعة.
لماذا؟ لم أكن أعرف أو أدري! كان إشفاقي على نفسي من ثقل ما أحمله من هم يدفعني لمحاولة التخفيف عنها بقولي إنه لم يصب إلا بجروح ومن المحتمل جدا أن يشفى، ثم حتى لو كان قد مات فماذا يحملك على هذه الجنازة الحالكة السواد التي أقمتها داخلك والتي تهدد بقبض روحك؟
অজানা পৃষ্ঠা