وبقي الثور وحيدا وسط الدائرة الرملية، واقفا وقفة تحفز، ينظر في ريبة إلى السكون المفاجئ الذي شمل الدنيا فجأة من حوله.
ولا بد أن الخطوة التالية كانت إخراجه من الساحة، والمشكلة العويصة التي وجدتها تحتل كل تفكيري هي كيف ومن الذي يجرؤ وأية قوة يمكنها أن تجبر هذا الكائن الجهنمي الطليق أن تجعله بطريقة أو بأخرى يعود إلى دخول الباب الذي خرج منه؟
وكنت على يقين أن التراث الطويل للعبة قد أوجد حلولا لمثل هذه المواقف، ولكن أي حل؟ ذاك ما رحت أفكر فيه، وكأن الموضوع لغز علي أن أخمن له حلا سريعا قبل أن أرى الحل الصحيح أمامي بعد قليل.
وقد فكرت في طرق شتى، ولكني أبدا لم أتصور أن يكون الحل الذي ابتكرته التجربة الطويلة والخبرة سهلا وبسيطا وعبقريا إلى هذه الدرجة.
الطريقة أنهم أدخلوا في الساحة ثلاث أو أربع بقرات من نفس الفصائل، وقد علقوا في رقابها علبا من الصفيح داخلها قطع معدنية تحدث ضجة كلما اهتزت، وقد كنت أحسب إناث هذا النوع لها نفس شراسة الذكر وطبيعته العدوانية، ولكن البقرات دخلت في هدوء وكأنها بقرات مستأنسة. وقد كنت أتصور أيضا أن الثور سينقض عليها لحظة أن يراها مثلما يفعل بالحصان أو بالخشب أو بأي مما تقع عليه عيناه، ولكنه ما كاد يسمع أصوات الخشخشة حتى رفع رأسه مترقبا والأبقار تسرع إلى وسط الحلقة حيث يقف، ليس إسراعا أهوج متفجرا أحمق، ولكنه إسراع الإناث المتأني، إسراع الحياة الحريصة على استمرارها، المعقولة.
وفي ثانية كان الثور قد اختفى بينها وأصبح فردا من قطيعها، يتحرك معه إذا تحرك وبنفس سرعته، ويقف إذا وقف وتنطبق عليه كل قوانينه، وقد زال عنه توتره وتحفزه ورعبه، وأيضا زالت تماما كل رغبة لديه في المهاجمة أو الانقضاض، وأصبح وكأنه الابن الضال الخائف المتوجس وقد عاد لأحضان أمهاته وخالاته وعماته، وزالت عنه صفات الشريد المجرم لتحل محلها وداعة أبناء الأسر.
وكان التغير سريعا وحادا وملحوظا إلى درجة لا بد تصيب المتتبع له بذهول. لكأنما عصا ساحر أشارت فاختفى الثور المرعب في ومضة وحل محله ثور آخر مختلف في كل شيء عنه. أتراها الأمومة؟ أم هي سحر الجماعة والقطيع؟ أم هو الإحساس بالونس؟ أم هذا كله مجتمعا؟ إلى درجة لم أصدق فيها ما أراه حين دخلت إلى الحلقة بعد هذا فرقة من ثلاثة أو أربعة فتيان غير مسلحين إلا بسياط تفرقع في الهواء، وبفرقعتين تحرك القطيع مسرعا ناحية باب الخروج تحركا لا تستطيع أبدا أن تميز فيه الثور المتوحش من البقرات المستأنسات. وهكذا وفي مثل لمح البصر انحلت المشكلة التي خيل إلي أنها ستستغرق أزمنا لحلها.
وأحسست بحاجتي أن يشاركني أحد فيما أفكر فيه وأتصوره، وليأسي من جاري الإسباني وبيننا الخندق اللغوي العميق، التفت إلى جارتي الفاتنة المحتضنة زهورها والسابحة في وديان، ويبدو أني فعلت هذا في وقت مناسب جدا وكأنها هي الأخرى كانت تهفو إلى من تشاركه، حتى خيل إلي أني ألمح ألفاظ الحوار المتزاحمة تكاد تنزلق من تلقاء نفسها وتغادر طرف لسانها. وكادت الإنجليزية التي أتقنها تخونني وأنا أحاول أن أجسد لها الخواطر التي راودتني وأنا أراهم يستعملون سلاح الأمومة للقضاء على وحشية الثور ورغبته في البطش.
ودون أن تعتدل وجدتها تقول في اعتداد كسول وبلهجة من تعودت أن تقول رأيها ليصبح للآخرين منزلا وقانونا: لا أمومة هناك ولا شيء من هذا. المسألة تدريب. لقد دربوا الثور على أن دخول الأبقار وما يصاحبها من ضجة معناه الأمان ومعناه أن عليه أن يترك تحفزه وبطشه. نوع من الانعكاس المشروط، ألا تعرفه؟ ألا تعرف الانعكاس المشروط الذي اكتشفه بافلوف؟
أعرفه؟! لقد كان باستطاعتي أن أقضي اليوم بطوله أناقشها فيه. ولكن ما فائدة أن تناقش إنسانة لا تناقش لتقتنع أو حتى لتظل على الحياد، وإنما هي تناقش فقط لتقنعك. إذا فرض وتنازلت هي وقبلت مبدأ أن يستمر النقاش، هكذا بدت حتى وهي هادئة تائهة سرحانة.
অজানা পৃষ্ঠা